في مرحلة التأسيس الدعوي في الستينات والسبعينات في حلب الشهباء كان الشيخ يأمر بالالتفات إلى العمل والبناء والجدّ، وينهى عن إضاعة الوقت والقيل والقال والانشغال بالصغائر، وافتعال المعارك الجانبية التي تستقطب الجهد وتضيع الوقت بدون طائل. وكان يرى أن الأمة بحاجة إلى البناء، وأن الشخصية المسلمة وقد حطمت من عهود الانهزام الطويلة بأمس الحاجة إلى استعادة الثقة بنفسها، وأن على قادة الجماعة أن يضعوا الخطط والبرامج لبناء الشخصية الإسلامية العامة الواثقة بنفسها.
كان يشدد النكير على الغلو والغالين ولا سيما من الذين يتنطعون بالحديث عن تقمص مكانة (جماعة المسلمين) قال لسائل ادعى أمامه يوماً أن (جماعة الإخوان المسلمين) تمثل جماعة المسلمين راداً قوله (إن جماعة المسلمين أنا وأنت وهذا الحداد وذاك النجار والخباز.. كل هؤلاء الناس هم جماعة المسلمين)
وعلى الصعيد التنظيمي ومع رغبة الشيخ الملحة في الانصراف بكلّيته إلى الجانبين العلمي والدعوي، اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل منهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، ثم سريعاً ما تخلى عنه، عندما وجد من يتولاه، ثم ألجئ مرة أخرى إلى تولي هذا المنصب سنة 1986 عندما عصفت بالإخوان ريح الخلاف الداخلي.
جوانب من شخصية الشيخ
من كان اغترافه من بحر أكمل الخلق كيف تعدد خصال كماله؟!!. فقد كان الشيخ أبو زاهد رحمه الله تعالى دمث الأخلاق لطيف المعشر حلو العبارة أنيق المظهر، يتأنق في لبسه وهيئته ومجلسه ويأخذ من حوله بذلك إلى تواضع العلماء وأدب جم. ويمثل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بشخصيته القوية المتميزة، شخصية العالم المسلم العامل المجاهد، فهو واسع العلم، رحب الإطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، يضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركاً كل الأبعاد التي تحيط بهم، وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حلو الحديث، رشيق العبارة. قريب إلى قلوب جلسائه، يأسرهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبعد غوره، مع حضور بديهة، وحسن جواب، فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه الجموع، وتتعلق به النفوس وأن يكون موضع الحب والتقدير، والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك بعيد عن الغلو والانفعال يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته.
لا يستقبل أحداً من جلسائه بما يكره، وإن استُقبل بذلك أغضى وأعرض، لا يسمع نميمة، ويصرف وجهه إذا لم يعجبه الحديث، أو يشير بيده إلى محدثه أن تعداه.
كان في فتواه العامة رحمه الله تعالى آخذاً بالعزائم يشدد في أمر الدين والورع، فإذا ما شعر أن المستفتي بحاجة إلى رخصة دعاه إلى لقاء منفرد يرخص له ما ييسر عليه أمره.
كان الوقت أغلى عنده من المال على قلب الشحيح، يقول وهو يشير إلى ما وضع في جدول أعماله من كتب وأبحاث (أنا رأس مالي قليل) يقصد السنوات الباقية من عمره فقد كان يعدها رأس ماله الحقيقي.
وكان غضبه لله وفي دين الله، دون أن يكون لنفسه، وعندما افتتح بعض الصحفيين ملف المعارضة السورية، ووصف بعض الناس الشيخ بما يقبح، ونالوا منه ومن جماعة الإخوان المسلمين ما نالوا، كان له فضل الإشراف على وضع الرد على ما جاء في الملف، فما أشار إلى الدفاع عن نفسه بكلمة وإنما ترك الأمر لله تعالى. وكان شديد الحمية لدين الله بالحق.
كان كثير الصمت، ندر الكلام، غزير الدمعة حاضرها، ولا سيما عندما اشتدت محنة إخوانه وكانت تأتيه الأخبار عما يحدث للمعتقلين في سجون الظالمين.. حتى أخذ من حوله الإشفاق عليه، فأمسكوا عن الحديث أمامه. كان يردد والدمعة في عينيه (لو كان لي الأمر لفديت إخواني بنفسي..) (أنا أفدي إخواني بنفسي..) وعندما ألح عليه بعض الإخوان ليقوم بالمبادرة التي قام بها.. لم يكن باعثه على ذلك إلا رغبة منه بفكاك أسر الأسير، وجبر كسر العاني من الإخوان. لا ما تعلق به أقوام من هنا وهناك..
ولقد لقيناه بعد محاولته تلك، وشعوره أن المقصد قد أحكم الإغلاق عليه، فكان يأمر إخوانه بالصبر والمصابرة، وينظر إلى من يزعم أنه يريد أن يقتدي به في نزوله نظرات تحمل معناها.
وكان في تعاطيه السياسي قاصداً يكره الغلو والتطرف، في بناء سياسة الإخوان الإعلامية مال إلى الكف عن الخوض فيما لا يحمد ولا يليق بالداعية من الألفاظ والأوصاف ونبذ الآخرين بما لا يجمل ومقابلة الذين يصفون الإخوان بالأوصاف الردية بمثلها.
رحم الله الشيخ عبد الفتاح، وأحسن مثوبته، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء وتقبل منه صالح عمله إنه سميع مجيب.
وكتبه زهير سالم
27 رمضان 1424 هـ
=================
عبد الله عزام
هو عبد الله يوسف عزام، ولد سنة 1941 في قرية سيلة الحارثية، من أعمال جنين بفلسطين، تربى في أسرة ريفية متدينة، في كنف والده الوقور يوسف عزام. وتلقى علومه الابتدائية والإعدادية في مدرسة القرية، وبدأ دراسته الثانوية في مدرسة جنين الثانوية ولم يمكث فيها طويلاً حيث قبل للدراسة في المدرسة الزراعية الثانوية (خضورية) في مدينة طولكرم. وحصل على شهادتها بدرجة امتياز عام 1959.
تنقل عبد الله عزام وهو طفل بين مرابع القرية، وكان يرى أمام ناظريه سهول مرج ابن عامر الذي اغتصبه اليهود عبر المؤامرات الدولية، فأخذ يهيئ نفسه ويعدها إعداداً إيمانياً، فكان منذ صغره محافظاً على الصلوات، دائباً على تلاوة القرآن، كما كان ملازماً لمسجد القرية.(4/135)
عاش عبد الله عزام منذ يفاعته في سيلة الحارثية مع الأستاذ شفيق أسعد، الذي كان يتولى رعاية مجموعة من أبناء القرية، يربيهم على أخلاق وأفكار ومبادئ دعوة الإخوان المسلمين، فكان الشيخ عبد الله عزام في أوائل الدعاة في القرية.
كما تعرف الشيخ عبد الله في مدينة جنين على الداعية المربي الشيخ فريز جرار، الذي كان هو والأستاذ شفيق اسعد من أنشط الدعاة في تلك الفترة تربية للشباب، وأكثرهم عقداً للندوات والمحاضرات في مركز الجماعة في مدينة جنين، وأخذ عبد الله عزام يكثر من زيارة مركز الجماعة ويحضر الندوات واللقاءات التي كان يشرف عليها الشيخ فريز جرار، حتى أصبح من أكثر الشباب نشاطاً ومشاركة في هذه اللقاءات، وأخذ يكثر من الجلوس إلى الشيخ فريز ويصحبه في أكثر الجولات. بعد حصوله على شهادة (خضوري) الزراعية تم تعيينه معلماً في قرية أدر بمنطقة الكرك جنوب الأردن، وبقي فيها سنة واحدة، حيث نقل إلى مدرسة برقين الإعدادية بالقرب من مدينة جنين.
سكن عبد الله مع أخوين له في الدعوة غرفة في دار الجماعة، فكانت له فرصة طيبة لممارسة ألوان متعددة من النشاط الفكري والتربوي والرياضي... كما كان كثير المطالعة لكتب الدعوة وخاصة كتب الإمام حسن البناّ وعبد القادر عودة وسيد قطب ومحمد قطب.
تابع عبد الله عزام دراسته الجامعية في كلية الشريعة بجامعة دمشق، ونال منها شهادة الليسانس في الشريعة بتقدير جيد جداً سنة 1966، وفي دمشق التقى مع بعض علماء الشام فتتلمذ عليهم وصاحبهم.
كان للشيخ عبد الله خمسة أولاد ذكور وهم: محمد نجله الأكبر الذي ذهب إلى ربه شهيداً مع والده وعمره 20عاماً، وكذلك ولده إبراهيم الذي استشهد وعمره 15عاماً، وحذيفة وحمزة ومصعب. ومن الإناث: فاطمة ووفاء وسمية.
بعد عام 1967، وسقوط الضفة الغربية وقطاع غزة في أيدي اليهود، دخل اليهود سيلة الحارثية، وحاول عبد الله عزام مع مجموعة من الشباب من أهل القرية الوقوف في وجه الدبابات الإسرائيلية، فنصحهم أهل القرية بالتريث لأنه ليس بمقدورهم ذلك.
فخرج عبد الله عزام مشياً على الأقدام مع غيره من أهل القرية إلى الأردن، ولكن خروج عبد الله عزام من بلده ما زاده إلا عزماً وتصميماً على الجهاد في سبيل الله، فبدأت فكرة التدريب على السلاح للوقوف في وجه اليهود تلح عليه. وكان الشيخ عبد الله عزام من أوائل التشكيلات الإسلامية التي انضوت مع حركة فتح للتدريب على الجهاد. قرن الشيخ عبد الله عزام جهاده وتدريبه بانتسابه إلى جامعة الأزهر في مصر لدراسة الماجستير في أصول الفقه.
حصل الشيخ على الماجستير في عام 1969. وقد اشترك الشيخ في تلك الفترة بعدة عمليات جهادية كان أشهرها معركة الحزام الأخضر عام 1969 ومعركة 5 حزيران سنة 1970. وقد تكبد اليهود في هذه المعارك أعداداً كبيرة من القتلىـ إلا أن شباب الحركة الإسلامية لم يحاولوا أن ينسبوا هذه العمليات إليهم لأنهم يجاهدون في سبيل الله لا من أجل اكتساب شعبية أو الحصول على الثناء.
وفي عام 1971 ذهب الشيخ عبد الله إلى مصر لتحصيل درجة الدكتوراه وحصل عليها في عام 1973.
في مصر وجد الشيخ لنفسه مهمة جهادية أخرى هي مد يد المساعدة لأسر المعتقلين من الإخوان على الرغم من مضايقة المخابرات المصرية له.
لما عاد الشيخ عبد الله عزام إلى الأردن عمل مسؤولاً لقسم الإعلام بوزارة الأوقاف، فكان له الفضل في تنشيط المساجد والوعاظ حيث طعم القسم بطاقات شابة قادرة على الدعوة، وأصدر نشرات لنشر الوعي الإسلامي. ثم عمل مدرساً وأستاذاً بكلية الشريعة في الجامعة الأردنية مدة سبعة أعوام من عام 1973 ـ 1980، عمل فيها في مجال الدعوة والتدريس، وكان متميزاً بطريقته وأسلوبه في الدعوة إلى الله، ولذلك كان كثير من الشباب خارج الجامعة يحرصون على حضور محاضراته، وكان له الفضل في فصل البنات عن البنين في المحاضرات.
كان الشيخ في هذه الأثناء على اتصال دائم مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن طريق اتحاد الطلبة المسلمين حيث كانوا يوافونه بأخبار الجهاد أولاً بأول. وكان يعد الشباب الذين لديهم التصاريح ويستطيعون الذهاب إلى فلسطين، ويرسلهم بعد الإعداد وينصحهم بأن يبقوا في فلسطين وينضموا إلى المجاهدين هناك، وكان كثيراً ما يجمع التبرعات أثناء جولاته في المدن العربية باسم الجهاد في فلسطين ويدعو الله دائماً أن يجعل له سبيلاً وطريقاً للجهاد في فلسطين من أجل تحرير مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان الشيخ عبد الله عزام شخصية فريدة من نوعها، وقد استطاع أن ينشر أفكاره في صفوف الطلبة والطالبات في مختلف كليات الجامعة. وفي عام 1981 سافر إلى السعودية للعمل في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، ثم طلب العمل في الجامعة الإسلامية بإسلام أباد في باكستان قريباً من الجهاد الأفغاني، فانتدب لهذا العمل، وعندما اقترب من المجاهدين الأفغان وجد ضالته المنشودة وقال: (هؤلاء الذين كنت أبحث عنهم منذ زمن بعيد).
بدأ الشيخ عبد الله عزام عمله الجهادي في أفغانستان عام 1982 باستقبال القادمين للجهاد من الشباب العرب، ثم قام في عام 1984 بتأسيس مكتب خدمات للمجاهدين وتفرغ له. ليكون مؤسسة إغاثية جهادية متخصصة بالعمل داخل أفغانستان وقد ساهم هذا المكتب في:
ـ نقل قضية الجهاد الإسلامي في أفغانستان إلى قضية إسلامية عالمية، والعمل على إيقاظ الهمم واستنفار المسلمين في أرجاء العالم للوقوف بجانب هذا الجهاد المبارك.(4/136)
ـ التعريف بقضية الجهاد عن طريق مجلة الجهاد، ونشرة لهيب المعركة والكتب والمنشورات التي كان يصدرها الشيخ عبد الله عزام في باكستان، بالإضافة إلى خطبه في المساجد والمحاضرات المتخصصة التي كان يلقيها للتحريض على الجهاد، وتصوير بطولات المجاهدين إلى العالم أجمع حيث كان النافذة التي يطل الأفغان من خلالها إلى العالم.
ـ في ميدان التربية والتعليم: إقامة الدورات التدريبية لقادة الجهاد، فتح المدارس داخل الخنادق، وإقامة المراكز التربوية في أرض المعركة، فتح دور القرآن الكريم تحت قصف المدافع، وطباعة الكتب، فقد طبع أربعمائة ألف نسخة من القرآن الكريم في سنة 1988 وأدخل معظمها إلى المدارس في أفغانستان.
ـ تزويد القوافل وترحيلها وتجهيز الجبهات.
ـ الاعتناء بضحايا الحرب وجرحاها: بإنشاء خمس مستشفيات في داخل أفغانستان (جاجي، تخار، غزني، فارياب، بنجشير، بالإضافة إلى تأسيس مستشفى مكة المكرمة والمختبر المركزي وعيادة الطب الطبيعي).
ـ إيقاف سيل الهجرة المتدفق: بكفالة العلماء والقادة الذين يحرضون على الجهاد بين الحمم المتساقطة.
ـ العناية بأبناء الشهداء وذلك بفتح قسم كفالة الأيتام والأرامل في داخل أفغانستان، وبناء دور للأيتام.
ـ رفع معنويات الأخوة المجاهدين الأفغان (سنشد عضدك بأخيك).
ـ انصهار الطاقات الجهادية في بوتقة إسلامية: عربيها وأفغانيها.
ـ تشكيل لجنة العلماء لإصدار الفتاوى واستنهاض الهمم ودحض الآراء الفاسدة.
ولقد كان الشيخ عبد الله عزام من أوائل السباقين للجبهة يقدم الشباب ويقدم نفسه أمامهم قدوة لهم في الإقدام والتضحية.
من أقواله المأثورة في الدعوة والجهاد:
ـ إن الأبطال الحقيقيين هم الذين يخطون بدمائهم تاريخ أممهم ويبنون بأجسادهم أمجاد عزتها الشامخة.
ـ لقد رأيت أن أخطر داء يودي بحياة الأمم هو داء الترف الذي يقتل النخوة ويقضي على الرجولة، ويخمد الغيرة ويكبت المروءة.
ـ لقد عودتنا التجارب أن نرى التكالب العالمي على كل قضية إسلامية تقترب من النصر، أو على كل داعية أصبح شامة في جبين الدهر.
ـ الجهاد بالنفس ضرورة حياتية للمسلم ليتحرر من الخوف والوهم والرعب الذي يغتصب به الطواغيت حقوق الأمم.
ـ إن البشر لا يملكون إزاء القدر رداً، ولا يبني الأمم إلا الجماجم والأجساد.
ـ الشهداء هم الذين يخطون تاريخ الأمم، لأن تاريخ الأمم لا يخط إلا بالعرق والدم.
ـ الشهداء هم الذين يحفظون شجرة هذا الدين من أن تضمحل أو تذوي، لأن شجرة هذا الدين لا تروى إلا بالدماء.
ـ المسلم أعز ما يكون حينما يكون مجاهداً في سبيل الله.
ـ لا فرق بيت رصاصة شيوعي في باكستان ورصاصة شيوعي في أفغانستان، ورصاصة عميل لليهود أو الأمريكان... الكل قتل في سبيل الله مادامت النية خالصة له... ولقد اخترنا الموت طريقاً للحياة.
استشهد الشيخ عبد الله عزام في مدينة بيشاور في باكستان، حيث يقطن وعائلته ـ رحمه الله ـ بتاريخ 24/11/1989 في أثناء توجهه لتأدية صلاة الجمعة عندما تعرضت سيارته لانفجار مروع دبرته يد أعداء الإسلام الغادرة، مما أدى إلى استشهاده مع ولديه (محمد وإبراهيم) الذين تناثرت أشلاؤهم على مساحة واسعة حول السيارة التي انشطرت إلى قسمين من قوة الانفجار.
الشهيد عبد الله عزام خاض تجربة رائدة في العمل الإسلامي الجهادي... ومن خلال هذه التجربة اكتسب عمقاً بعيداً في الجهاد، وقدم تراثاً ضخماً ليكون زاداً للأجيال.
ويتمثل هذا التراث في:
مؤلفاته من الكتب:
ـ كتاب (العقيدة وأثرها في بناء الجيل).
ـ كتاب (الإسلام ومستقبل البشرية).
ـ كتاب (السرطان الأحمر).
ـ كتاب (آيات الرحمن في أفغانستان).
ـ المنارة المفقودة.
ـ الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان.
ـ إلحق بالقافلة.
ـ في الجهاد آداب وأحكام.
ـ عبر وبصائر للجهاد في العصر الحاضر.
ـ جهاد شعب مسلم.
ـ بشائر البصر.
ـ حماس (الجذور التاريخية والميثاق).
ـ كلمات من خط النار الأول الجزء الأول.
ـ جريمة قتل النفس المؤمنة.
ـ في خضم المعركة، في ثلاثة أجزاء.
مجموعة محاضرات مسجلة على أشرطة كاسيت تزيد على (300) شريط.
مجموعة محاضرات مسجلة بالفيديو كاسيت تزيد على (50) محاضرة.
مجموعة مقابلات صحفية نشرت في عدد من الصحف والمجلات.
عشرات المحاضرات التي ألقاها في عدد من البلدان العربية والأجنبية في أثناء جولاته من أجل الجهاد.
مئات المقالات التي كتبها في الصحف والمجلات وخاصة مجلة الجهاد ونشرة لهيب المعركة التي كان يصدرها في بيشاور.
مجموعة من الكتب لم تطبع بعد.
المرجع:
ـ كتاب (الشهيد عبد الله عزام رجل دعوة ومدرسة جهاد) حسني أدهم جرار، دار الضياء، الأردن، 1990.
=================
محمد طاهر الأتاسي
الشيخ العلامة الجليل القاضي المفتي الشاعر النابغة محمد طاهر أفندي بن الشيخ المفتي محمد خالد أفندي بن المفتي العلامة أبي الفتح محمد الثاني الأتاسي
1276 للهجرة (1860م)-1359 للهجرة (1940م)
ولادته، نشأته، وطلبه للعلم:(4/137)
ولد الشيخ محمد طاهر الأتاسي سنة 1276 للهجرة (1860م) في حمص، في بيت علم ودين وشرف، فهو من أسرة تولت مناصب الفتوى والقضاء في حمص وغيرها منذ القرن السادس عشر الميلادي (القرن العاشر الهجري)، وكانت قد انتقلت هذه الأسرة قبل حوالي خمسة قرون من اليمن إلى تركية ثم إلى حمص وكانت تعرف أولا بآل العطاسي ثم تحول اللقب إلى الأطاسي ثم أخيرا إلى الأتاسي، واستقرت بحمص وخرجت علماء كثيرين وردت تراجمهم في متون أشهر كتب التاريخ، نعرف منها سبعة عشر مفتيا تولوا الفتوى في حمص وطرابلس، وهي أسرة شريفة النسب تنتمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما تدل الوثائق القديمة التي بحوزتها. وكانت الفتوى في حمص تدور على آل الأتاسي يتوارثونها جيلا بعد جيل، فأخذ عن علماء أسرته، والده وأعمامه وأبناء عم أبيه، فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة، وبلغ من العلم درجات، ثم سافر إلى الأستانة ودرس في مدرسة القضاء الشرعي فيها (مكتب النواب) ونال الدرجة الأولى عام 1883م، وعاد إلى بلاده ونزل دمشق، فأخذ عن السيد محمود الحمزاوي الحسيني، مفتي الشام، وعن شيخ الشام العفيف، المحدث الأكبر الشريف، بدر الدين الحسني، الغني عن التعريف، وتلقى الأتاسي العلم عن علامتي الشام الشيخ سليم بن ياسين العطار والشيخ بكري بن حامد العطار، رحمهما الرحيم الغفار، وآخذ الأتاسي أيضاً عن عالم حمص ودمشق الشاعر محمد أبي الجود بن مصطفى خانقاه، ودرس عليه من الأدب أرقاه، ومن العلم أصفاه وأنقاه، وقد توفى الخانقاه عام 1291 للهجرة=1874م، وكان مقرباً عند شاعر الشام في أوانه أمين الجندي العباسي.
توليه للقضاء ولفتوى الديار الحمصية وتخرج العلماء على يديه:
وصار بعد رشفه للعلم عن أفضل الأفاضل مرجع العالِمين، ينشده من كانوا بأبهة تفوُّقِه حالمين، وعرفت الدولة العثمانية مقدار فطنته، فنصبته قاضياً في مدن عديدة، فتولى المنصب في حوران عام 1306 للهجرة (1890م)، ثم في نابلس، فالكرك، ثم دنزلي وأدنة من الأناضول، ثم في القدس الشريف، إلى أن نال منصب القضاء في البصرة. ومنصب القضاء الشرعي في مدينة القدس يعتبر من أعلى رتب القضاء في السلطنة العثمانية إذ يأتي في الدرجة الخامسة بعد قضاء العسكر الروملي والأناضولي وقضاء الحرمين الشريفين، بينما يعتبر قاضي دمشق ثامناً من حيث الرتبة، ولا يتولى قضاء القدس إلا أكثر علماء الدولة تبحراً في العلوم الشرعية، ويعتبر من فئة "المولى الكبير". ثم رسم للعلامة الأتاسي بالفتوى في بلده الأول حمص، وجاءه منشور المشيخة الإسلامية عام 1333 للهجرة (1914م)، فعاد إليها، وشرع بإفادة قاطينيها، وظل منارة للعلم مقصودة، ونبعاً للأداب منشودة. وظل رحمه الله مفتي المدينة إلى أن وافته المنية، فكانت مدة إفتائه قرابة ربع قرن.
وأقبل طلاب العلم عليه بهمة قوية، يدرسون العلوم الشرعية والأداب العربية، ويأخذون عنه الفقه واللغة والحديث، فخرجوا من حلقاته علماء أفذاذاً، وأضحوا بدورهم لعشاق العلم مقصداً وملاذاً، فمن الذين استجازوه وسمعوا من فوائده الشيخ محمد العربي العزوزي الإدريسي الحسني، أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية، كما سيأتي، ومنهم الشيخ الدكتور الأزهري مصطفى السباعي الحسني (المتوفي عام 1964)، والذي أصبح المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في بلاد الشام بعد تأسيسه لها، وأحد نواب حمص ودمشق في المجالس النيابية، له حزبه وأتباعه في المجلس النيابي، ومعلماً تخرج الكثير من مدرسته الفكرية، وكان المؤسس لكلية الشريعة الإسلامية عام 1955، وأول عميد لها. وقد ذكر السباعي شيخه الأتاسي وأثنى عليه في مقابلاته ومقالاته.
ومن الذين درسوا على الأتاسي العلامة زاهد بن عبدالساتر الأتاسي، مدير المدرسة الإسلامية الوقفية، والذي لازم الأتاسي فأجازه الأخير بسنده عن أجداده، ومنهم الشيخ وصفي المسدي، إمام وخطيب ومدرس جامع القاسمي، والذي أدرك المترجم في آخر حياته فقرأ عليه كتاب جمع الجوامع، وكتاب الحكم العطائية، وكتاب التوضيح والتلويح في أصول الفقه، ولازم المسدي شيخه الأتاسي كذلك وأضحى مبيضاً لفتاويه، ومنهم محمد علي العطر، والشيخ محمود بن بدري السباعي، ومنهم الشيخ حسن شمس الدين الذي قرأ على الأتاسي كتاب جمع الجوامع في الفقه الشافعي، ومنهم الشيخ طيب الأتاسي رحمه الله، مفتي حمص فيما بعد، ومنهم الكاتب المؤلف خير الدين بن عبدالكريم بن طه شمسي باشا الحنبلي الحمصي، والذي درس على يد الأتاسي تفسير الكشاف للزمخشري، وغيرهم أناس لا يحصرون.
ويجدر بالذكر أن الأتاسي كان له درس في جامع سيدنا الصحابي الجليل خالد بن الوليد بعد صلاة الجمعة، درس ورثه عن آبائه وأجداده، رحمهم الله.
خوضه للسياسة وعمله لرفعة بلاده ورئاسته لمؤتمر علماء الشام الأول:(4/138)
وعندما أراد الفرنسيون أن يجزؤوا البلاد، ويفرقوا شمل العباد، انبرى لهم ابن المترجم باجتهاد، واقترح إقامة استفتاء عام، فما وجد المستعمرون بداً من إقامة اتحاد، فصدر قرار بإقامة حكومة وحدة بين دويلة دمشق وحلب وجبل العلويين في 29 حزيران من عام 1922، وانتخب خمسة مندوبين عن كل دويلة ليشغلوا خمسة عشر مقعداً، فكان الأتاسي ممثل مدينة حمص في دويلة دمشق، وكان معه فارس الخوري ومحمد علي العابد وعطا الأيوبي ممثلين لمدينة دمشق، وراشد البرازي مندوباً عن حماة. وفي 10 كانون الأول 1922م قامت دولة الإتحاد وبدأ المجلس اجتماعاته وكان بمثابة المجلس النيابي المؤقت. ولما شكلت لجان المجلس الأربع (المالية، الحقوقية، الملكية وفيها التجارة، والنافعة وفيها الزراعة) للنظر في الشؤون المطروحة على المجلس عين طاهر أفندي الأتاسي في اللجنة الحقوقية بالإضافة إلى حسن أفندي الأورفلي واسماعيل أفندي الهواش. واستمر الوضع كذلك حتى أزال الفرنسيون الاتحاد في غرة كانون الثاني عام 1923م. فكان العلامة الأتاسي بذلك ثاني مفتي الأتاسية خوضاً للسياسة العامة وتولياً للنيابة، وذلك بعد والده الذي كان نائباً في مجلس المبعوثان، وكان الشيخ طاهر رابع النواب من آل الأتاسي كافة، إذ سبقه إلى ذلك أخوه هاشم الأتاسي عضو ورئيس أول مجلس نيابي سوري (المؤتمر السوري)، وابن عمه وصفي الأتاسي، عضو المجلس ذاته.(4/139)
وفي 11 رجب عام 1357 من الهجرة (6 إيلول 1938م) اجتمع في دمشق الشام حشد من كبار علماء الشام والعراق بلغ عددهم مائة وخمسة، أموا الفيحاء من القدس ونابلس والنجف وبيروت وصيدا وطرطوس واللاذقية وحمص وحماة وحلب وأنطاكية وإدلب والباب ومنبج ووادي العجم والقنيطرة ودير عطية والنبك وعقدوا المؤتمر الأول للعلماء، وتباحثوا أوضاع العالم الإسلامي أياماً ثلاثة بلياليها ختمت بإصدار المؤتمر بياناً كان مفاد مقرراته: توضيح واجب العلماء في تبرئة الإسلام مما يصمه به المستعمرون، وكشف النقاب عن دواعي التفرقة التي يبثها المستعمر في البلاد باسم حماية الأقليات، والمطالبة بنشر العلم الشريف وإنشاء المدارس الشرعية وتأسيس معهد عال شرعي ضمن الجامعة السورية لتخريج القضاة الشرعيين والمفتين سداداً للحاجة الملحة لهم، وملء الشواغر العلمية بمستحقيها، وإحياء التراث التشريعي الإسلامي الجليل، والاهتمام باللغة العربية في المدارس، وإرسال بعثات أساتذة اللغة العربية إلى مصر للتخصص بدلاً من إرسالهم إلى أوروبا وتوضيح ما في ذلك من خطأ، وجعل اللغة العربية لغة دواوين الحكومة الرسمية والتأكد من سلامة المعاملات من الأخطاء اللغوية، وزيادة الدروس الدينية في المدارس وجعل المواد الدينية خاضعة لقوانين النجاح والرسوب، وتعيين مدرسين شرعيين من أجل تدريس الديانة الإسلامية، والمحافظة على الشعائر الدينية في المدارس، والدفاع عن الأوقاف الإسلامية الذرية استناداً على فتاوى العلماء بوجوب الإبقاء على الأوقاف، وإعطاء النظر في أمورها إلى علماء الدين، والاحتجاج على غصب الخط الحجازي لما فيه من عدوان على المؤسسات الوقفية المقدسة، وإصلاح المحاكم الشرعية وإناطة القضاء بالعلماء الشرعيين لا المدنيين، والمحافظة على الأداب والأخلاق العامة السليمة وإنزال العقاب بالمخلين بها، ومراقبة الأشرطة السنيمائية، والتضامن مع فلسطين المعذبة والاحتجاج الشديد على ما يجري فيها من الاعتداء على كرامة رجال الدينين الإسلامي والمسيحي، والاحتجاج على تعطيل المجلس الإسلامي الأعلى، وعلى الاستيلاء على الأوقاف الذرية، وتأييد قرار كبار علماء الأزهر الشريف برفض مشروع التقسيم، وتأييد فتوى علماء العراق من أهل السنة والشيعة باعتبار جهاد فلسطين جهاداً مشروعاً، وجمع الإعانات لمنكوبي أهلها، وإرسال تحية إكبار إلى شعب فلسطين الباسل وإلى زعمائه، والاحتجاج على ما كان يجري في لواء الاسكندرون من تشتيت للمسلمين واتنهاك لحرمات العلماء، وتأليف جمعيات للعلماء في المدن خلال ثلاثة أشهر من انفضاض المؤتمر واعتبار تلك الجمعيات لجاناً فرعية تنفيذية لللجنة التنفيذة المركزية للمؤتمر والمؤلفة من جمعية علماء دمشق، وتكرير عقد المؤتمر كلما ألحت الضرورة، وتكليف جمعيات علماء المدن بالإصلاح بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الآداب الإسلامية وحمايتها في المدن والقرى، ووضع نظام للعلماء يعرف بموجبه العلماء ويبين واجباتهم وتعيين شعار خاص بهم يظهرهم على غيرهم من غير العلماء، وتأليف لجنة علمية عليا لتطبيق النظام وترتيب المسؤوليات المحتمة على العلماء، والعمل على توثيق الصلات بين علماء الأقطار وسائر الجمعيات الإسلامية، وتأييد اقتراح العلامة عبدالكريم الزنجاني من علماء إخواننا الشيعة في العراق بوجوب جمع كلمة المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية بالدعوة إلى عقد مؤتمر عالمي لعلماء المسلمين لتحقيق هذه الفكرة السامية، وغيره من المقررات المفيدة. ووجه المؤتمر كلمة إلى رجال السياسة يطلب منهم التحلي بالوطنية والجهاد في سبيل حرية الوطن، والعمل على صيانة حقوق كافة الأديان كما أمر الشرع الإسلامي الحنيف، وعدم الرضوخ للمستعمر ودعاياته، والعمل على كشف المؤامرات التي تحاك على الإسلام باسم الأقليات، ووجه المؤتمر كلمة إلى علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى عقد مؤتمر عالمي عام يكون صخرة في بناء حصن الإسلام وإلى عقد المؤتمرات المحلية أسوة بمؤتمر علماء الشام للنضال ضد العدوان على الإسلام والمسلمين وتحقيق المبادئ الإسلامية التي إنما هي في خدمة الانسانية. هذا هو اختصار مقررات ذلك المؤتمر السامية الشريفة، وكم نحن اليوم نفتقر إلى مثل هذه المبادئ العالية. رحم الله العلماء وأكثر منهم في أمتنا وأفادنا بهم ودرأ الله بهم أخطار الزيغ والضلال عنا.
وكان من أعضاء مؤتمر العلماء الذين نزلوا دمشق ليمثلوا مدينة ابن الوليد البهية واحد وعشرون من أكبر علماء حمص هم الشيخ طاهر الأتاسي، والشيخ توفيق الأتاسي، والشيخ عاطف الأتاسي، والشيخ طيب الأتاسي، والشيخ عبدالقادر الخجا، والشيخ طاهر الرئيس، والشيخ مؤيد شمسي باشا، والشيخ مصطفى حسني السباعي، والشيخ عبدالعزيز عيون السود، والشيخ حسن شمس الدين، والشيخ عبدالفتاح المسدي، والشيخ رضا الجمالي، والشيخ أبو السعود عبدالسلام، والشيخ بدوي السباعي، والشيخ حسن الرفاعي، والشيخ صلاح الدين السباعي، والشيخ عبدالجليل مراد، والشيخ عبدالله الزهري، والشيخ محمد علي عيون السود، والشيخ محمد نديم الرفاعي، والشيخ محمد نور العثمان.(4/140)
ومن كبار علماء العصر الذين كانوا أعضاء في ذلك المؤتمر نذكر الشيخ ابراهيم الغلاييني، والشيخ راغب الطباخ، والشيخ سعيد الحمزاوي، والشيخ صالح الفرفور، والشيخ عبدالقادر المبارك، والشيخ محمد بهجة البيطار، والشيخ محمد الحامد، والشيخ عبدالرحيم الخطيب، والشيخ معروف الدواليبي، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ هاشم الخطيب، والشيخ أبو الخير الميداني، والشيخ أحمد الدقر، والشيخ أمين الكيلاني، والشيخ محمد محاسن الأزهري، الشيخ صلاح الدين الأزهري، والشيخ عارف الدوجي، والشيخ عبدالرؤوف الاسطواني، والشيخ عبدالقادر السرميني، والشيخ جميل الشطي، والشيخ حسن الشطي، والشيخ حسن الميداني، والشيخ سعيد النعساني، والشيخ سليم الطيبي، والشيخ محمد الداعوق، والشيخ محمد سليم الحلواني، والشيخ محمد أحمد دهمان، والشيخ سعيد الجابي، والشيخ عبدالرحمن سلام، والشيخ عبدالكريم الزنجاني، والشيخ علي الدقر، والشيخ عيد الحلبي، والشيخ كامل القصاب، والشيخ محمد الكامل القصار، والشيخ محمود الشقفة، والشيخ محمود العطار، والشيخ مختار العلايلي، والشيخ مكي الكتاني، والشيخ ناصر الكتاني، والشيخ ياسين القطب، وغيرهم من أكابر العلماء المشاهير الغنيين عن التعريف، رحمهم الله رحمة واسعة وجمعهم في أعالي جنانه. ولما انعقد مؤتمر العلماء اجتمعت كلمة العلماء على انتخاب العلامة طاهر الأتاسي رحمه الله رئيساً للمؤتمر.
شعره وأدبه:
وبالإضافة إلى علمه الغزير وانشغاله بالفتوى والسياسة، كان العلامة أديباً شاعراً كأبيه، بل وملماً بأنواع الموسيقى.
وفي عام 1924م لما بويع ملك الحجاز وشريف مكة، الحسين بن علي بن عون الهاشمي، بالخلافة الكبرى أبرق الأتاسي، وقد كان مفتي حمص آنها، إليه خطاباً مبايعاً إياه على لسان أهل حمص. وقد كان الأتاسيون يرون في بيعة الهواشم استمراراً للخلافة التي قضى عليها كمال أتاتورك (اليهودي الأصل) بعزل آخر الخلفاء العثمانيين عام 1924م، وقد مقته آل لأتاسي وذموا حزبه الذي أقام العلمانية منهجاً. ولما شغر منصب الخلافة اتجهت أنظارهم إلى الهاشميين الذين كانوا رمزاً للإسلام بكونهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولاستيطانهم مكة المكرمة عاصمة الإسلام، ولعراقة أسرتهم في حكمها لمكة عبر القرون الطويلة.
وبعد، فقد اشتهرت بلاغة العلامة الأتاسي وملكاته الأدبية اشتهاراً، وتداول الناس قصائده وتسامروا بها في المجالس، وفي يد الكثير من الناس اليوم في حمص ودمشق وغيرها من البلاد عدد من أشعاره، حتى قال في ترجمته السيد الجندي في كتابه "أعلام الأدب والفن":
"علمه وشعره: كان رحمه الله متبحراً في العلوم الشرعية والأدبية وقد فاق المرحوم والده بروعة شعره فانقادت لبلاغته وبيانه قوافي النظم ومن شعره قصيدة كان نظمها بعيد مولد النبي الشريف وهي 125 بيتاً ومطلعها:
يميناً بالمُحصّب لن يمينا سقى كف الحياة حياً وحيّا
لعهدي عهديَ الأقوى يمينا ثرىً كم فيه عَفَّرْتُ الجبينا
وقال في ترجمة العلامة الأتاسي الأستاذ عبدالإله النبهان:
"كان الشيخ حريصاً على قراءة الأدب والشعر حتى في مرحلة الإفتاء وعندما كان منهمكاً في سهره المتواصل لإتمام "شرح المجلّة" وإخراجها، وكانت تحت يده مكتبة ضخمة غنية، وقد حدّثني السيد سعيد محمد السباعي أن الشيخ محمد نديم الوفائي زار المفتي فوجده يقرأ مسرحية "مجنون ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي، فظهر عليه الاستغراب والدهشة: المفتي شارح المجلة يقرأ مسرحية شعرية! فقال له المفتي: "ندّوا أقلامكم بالأدب".
مصنفاته وآثاره الشرعية والأدبية:
واشتغل العلامة الأتاسي بالتأليف، فكان من مصنفاته:
1) إكمال "شرح مجلة الأحكام العدلية" في الفقه الحنفي، والتي بدأها والده خالد الأتاسي، وأكمل المترجم مجلداتها الأخيرة فجاءت في سبعة أجزاء، وقد طبع هذا المؤلف الضخم مرات في حال حياته وبعد وفاته ووزع الكتاب وانتشر وصار كتاباً يدرس لطلاب العلم.
2) "الرد على الأحمدية القاديانية"، طُبع مرة ولم تجدد طباعته.
3) "سواطع الحق المبين في الرد على من أنكر أن سيدنا محمد خاتم النبيين"، طُبع في حمص عام 1350 للهجرة (1931م).
4) مجموعة فتاوى كانت عند الشيخ وصفي المسدي أحد تلامذته.
5) ديوان شعر كبير غير مطبوع.
بالإضافة إلى مصنفات شرعية أخرى لم تطبع، ولا أدري إن كانت لا تزال موجودة. هذا وقد كان الشيخ طاهر الأتاسي خطاطاً، خط بقلمه الشريف القرآن الكريم كاملاً ومن ذلك نسخة كتبها بخط الإجازة كانت موجودة في مسجد خالد بن الوليد ثم نقلت إلى متحف دائرة الأوقاف بحمص حيث هي الآن معروضة.
قصة عن فضائل الأتاسي:
أروي هنا خبراً عن شمائل العلامة الأتاسي فقد أُخبر عن سوء سلوك بعض العوام في حمص فقد كان في عن شارع من شوارع حمص كانت فيه حفرة كبيرة، وكان بعض الجهلة يجلسون على قارعة ذالك الطريق، فإذا ما مر رجل من النصارى أمامهم نادوه قائلين: "طورق!"، أي انزل الحفرة فامش بها، سخرية واستهزاءً، حتى ضاقت الأمور على النصارى، فلما بلغ هذا الخبر مسامع مفتي المدينة طاهر أفندي غضب غضباً شديدا، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين في شيء بل هو مناف لتعاليم الدين الإسلامي ومنفر عن الدعوة إلى الدين الحنيف، فأصدر الأتاسي لتوه فتوى معززة بالأدلة تمنع الناس عن مثل هذا الأعمال المنكرة ، فكان أن اضطر هؤلاء الجهلة إلى الكف عن عملهم، الأمر الذي رفع الحرج عن مسيحيي المدينة،
الأتاسي في مؤلفات الآخرين وعلى ألسنتهم:(4/141)
وقد جاءت ترجمة العلامة وذكره في مؤلفات تاريخية عديدة، فقد قال فيه صاحب تاريخ حمص بعد أن ترجم له: "والمفتي طاهر الأتاسي عالم كبير وفقيه مشرع وبحاثة مدقق وشاعر محلق، وكانت مستعصيات المسائل الفقهية تأتيه من كل أنحاء البلاد السورية والعربية فيفتي فيها بإحكام ودقة".
وذكره العلامة الشريف محمد العربي العزوزي الإدريسي الحسني، أمين الفتوى في الجمهورية اللبنانية في ثبته "إتحاف ذوي العناية" فقال: "ثم في سنة 1353 للهجرة (1934م) زرت مدينة حمص واجتمعت بجل علمائها وفضلائها، فمنهم المفتي الحالي العلامة النوازلي السيد محمد طاهر الأتاسي، بيتهم بيت علم وفضل وجاه ولعائلته الكريمة السيطرة ونفوذ الكلمة، زرته في بيته وأطلعني على شرح المجلة لوالده المفتي السابق وتكملته له، وكان إذ ذاك مباشراً لطبعهما، أجازني بما له من الإجازة العامة المطلقة عن والده وعن غيره من فضلاء عصره".
وترجم له العالم والصوفي الشاعر والمؤرخ الشيخ عبدالهادي الوفائي في كتابه "التاريخ الحمصي" فكان مما قال: "الشيخ طاهر الأتاسي العالم الفاضل، أتقن جميع العلوم وفاق على الشعراء بالشعر، فكم له من قصائد رائقة وألفاظ دقيقة وقدودٍ شتّى، ولو كان عنده علم الموسيقا لفاق على الشيخ أمين الجندي، وكان بالشعر يفوق على والده خالد أفندي المفتي".
وأشاد به العلامة الداعية الدكتور مصطفى حسني السباعي وترجم له فقال في تأبينه في مجلة الفتح (ننقلها من كتاب "مصطفى السباعي: الداعية المجدد" للدكتور زرزور): "وهو المفتي الوحيد في بلاد الشام الذي يزن الأمور بميزان المصلحة العامة، ويطبقها على المقاصد الشرعية السامية، فإذا تحقق في مسألة من المسائل المعروضة عليه مصلحة عامة تعود على العلم أو الدين أو الأمة، التمس لها الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، أو أقوال مشاهير العلماء، ضارباً صفحاً عما هنالك من نصوص فقهية قد يحول الأخذ بظاهرها دون تحقيق تلك المصلحة المرجوة"، ثم قال: "وقلّ أن تجد في المفتين المعاصرين من له هذه الروح وهذه القوة، وهذا التمكن البالغ في فهم دقائق الفقه الإسلامي ومقاصده".
وذكره عدنان الملوحي، الصحفي، عندما ذكر آل الأتاسي في ترجمته للرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي، فقال: "وكان عدد من هذه الأسرة من العلماء والأعلام، ومنهم كان يعين مفتي حمص على مدى عقود طويلة، وأذكر منهم، وأنا يومئذ صغير، الشيخ طاهر الأتاسي، وكان أبي الشيخ الإمام يزوره في مجلسه وديوانه في منزله في حارة "بيت الأتاسي" بالقرب من طريق الشام، وكنت أرافق أبي في بعض زياراته المعتادة للمفتي الشيخ طاهر، وكنت ألاحظ إهتمام سماحته بأبي وتقديمه على غيره من علماء ومشايخ المدينة وأئمتها".
وقال فيه الشيخ وصفي المسدي، والذي لازمه صغيراً في آخر حياة الأتاسي ودرس عليه: "كان الشيخ طاهر أفندي في الحقيقة خاتمة العلماء، كان عالماً في جميع فروع العلم، بل وله باع طويل في التصوف والمنطق، وكنت قد فتحت معه درساً في أصول الفقه الحنفي فقرأ كتاب التوضيح والتلويح، فكنا لا نفهم الدرس لصعوبته فكان رحمه الله يفسره لنا"، وقال: "وفي الشعر كان شاعراً مجيداً، كلفه ذات مرة الإخوان المسلمون بقصيدة شعرية بمناسبة الهجرة أو المولد، فكتب لهم قصيدة، وصعد إلى المنبر يومها الشيخ مؤيد شمسي باشا (مفتي الحنابلة بحمص) فألقاها، وهي قصيدة لها قيمتها، وكان الشيخ مؤيد يلقيها في المجالس"، وقال: "كان الشيخ طاهر رجل علم بحق، والكتب كانت حوله دوماً، وكثيراً ما وجد سارحاً في كتبه لياليا كاملة رحمه الله"، وقال: "وتوليت تبييض الفتاوى له فكانت كل فتوى درساً، وكان عالماً بضبط الأنغام والموسيقى، إذ أن ذات مرة طلب منه التلاميذ والمشايخ في حمص أن يعقد لهم مجلساً يستمعون فيه إلى قراءة الشيخ محمد رفعت، فعين طاهر أفندي لهم يوماً وأحضر له ولده فيضي المذياع، وجلسوا يستمعون إلى قراءة الشيخ والشيخ طاهر يشير بين الحين والآخر إلى القراءة وضبطها فيقول لهم: هذا رصد، وهذا حجاز، فإذا به أيضاً عالم بضبط الأنغام".
وجاء ذكر "طاهر الأتاسي الحمصي: فقيه عالم بالموسيقى" في كتاب "موسوعة العالم الإسلامي ورجالها" تحت عنوان " الفقهاء وأهل الدين والقانون" في قسم "عصر النهضة العربية" في تجميعٍ لأشهر علماء الأمة الإسلامية في ذلك الزمان. ومن الشخصيات التاريخية العظيمة من علماء الشام الشريف التي كانت في تلك القائمة نجد أمين الجندي، والأمير عبدالقادر الجزائري، ومحيي الدين اليافي، ومحمود الحمزاوي، وعبدالرحمن الكواكبي، وجمال الدين القاسمي، ومحسن الأمين، وكامل الغزي، ومحمد عابدين، وبدر الدين الحسني، ومحمد البيروتي، وغيرهم من أعظم علماء الشام في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.(4/142)
ومن الذين جاؤوا على ذكر فضله أو ترجموا له: نقيب أشراف دمشق محمد أديب الحصني في كتاب "منتخبات التواريخ لدمشق" الذي عرف به فقال: "العالم الجليل طاهر أفندي قاضي البصرة السابق ومفتي حمص اليوم"، والبستاني في "دائرة المعارف"، وترجم له كذلك مؤرخ حمص منير عيسى أسعد في "تاريخ حمص" كما أتى، والجندي في "أعلام الأدب والفن"، وعبدالهادي الوفائي في "التاريخ الحمصي" كما سلف، والزركلي في "الأعلام"، وكحالة في "معجم المؤلفين"، وعياش في "معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين"، ومجاهد في "الأعلام الشرقية في المائة الرابعة الهجرية"، وقدامة في "معالم وأعلام"، والبواب في "موسوعة أعلام سورية في القرن العشرين"، والدكتور عبدالإله النبهان في مقالة بعنوان "لمحات من أدب أواخر العهد العثماني" في مجلة تراث العرب، وغيرهم كثير.
وفي حمص سمي أحد الشوارع باسم طاهر الأتاسي اعترافاً بجميله على تلك المدينة، وعرف به تحت لوحة الاسم التي أقيمت في ذلك الشارع بلوحة أخرى كما هو متبع اليوم في سوريا، فجاء في اللوحة: "طاهر الأتاسي: مفتي حمص وفقيهها، مولده ووفاته بها، تولى الافتاء في حمص، وكان عارفاً بالأدب وله إلمام واسع بالموسيقى".
ومن الجدير بالذكر أن العلامة الأتاسي ينتمي إلى آل السباعي الأدارسة الحسنيين عن طريق أمه السباعية، وقد تزوج العلامة الأتاسي بابنة عمه السيدة نفيسة بنت أحمد أفندي بن العلامة المفتي محمد سعيد أفندي الأتاسي وأنجبت له ابنيه السيد فيضي الأتاسي الآتية ترجمته واسحاق الذي توفاه الله صغيراً.
انتقل المرحوم العلامة إلى رحمة الله في يوم الجمعة الحادي عشر من ربيع الأول من شهور عام 1359 الهجري المقابل لشهر نيسان عام 1940م، ودفن في مدافن العائلة في حمص، وقد كان بحق من أكبر علماء حمص ومن أعظم فضلائها على مر التاريخ.
المصادر:
1) الأتاسي، محمد خالد ومحمد طاهر-شرح المجلة-مطبعة حمص، حمص-1930-1937م.
2) الزركلي، خير الدين-الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين-دار العلم للملايين، بيروت-الطبعة الرابعة،1979م.
3) أسعد، منيرالخوري عيسى- تاريخ حمص-مطرانية حمص الأرثوذكسية-الطبعة الأولى، 1984م.
4) الجندي، أدهم-أعلام الأدب والفن-مطبعة مجلة صوت سورية، دمشق-1954.
5) مجاهد، زكي محمد-الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة للهجرة-دار الغرب الإسلامي، بيروت-الطبعة الثانية، 1994م.
6) قدامة، أحمد-معالم وأعلام، القسم الأول: القطر السوري-مطبعة ألف باء-الأديب، دمشق-1965.
7) كحالة، عمر رضا-معجم المؤلفين-مؤسسة الرسالة، بيروت-الطبعة الأولى، 1414 للهجرة=1993.
8) الحكيم، يوسف-سوريا والإنتداب الفرنسي-دار النهار للنشر، بيروت-1983م.
9) اللجنة التنفيذية المركزية لمؤتمر العلماء الأول-بيان مؤتمر العلماء الأول المنعقد بدمشق بتاريخ 11-13 رجب 1357 و6-8 إيلول 1938-مطبعة الترقي بدمشق، 1357 (1938م).
10) الخوري، كوليت-أوراق فارس الخوري، الكتاب الثاني: العهد الفيصلي وبداية الإنتداب (1918-1924م)-دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق-الطبعة الأولى، 1997م.
11) العينتابي وعثمان، محمد فؤاد ونجوى-حلب في مئة عام-منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي-1414 للهجرة (1993م).
12) جرّار-حسن أدهم-الدكتور مصطفى السباعي: قائد جيل ورائد أمة-دار البشير للنشر والتوزيع-الطبعة الأولى، 1415 للهجرة (1994م).
13) آل رشيد، محمد بن عبدالله-محدث الشام: العلامة السيد بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، المولود سنة 1267والمتوفي سنة 1354 بأقلام تلامذته وعارفيه-مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ودار الحنان، دمشق-الطبعة الأولى، 1419 (1998م).
14) عياش، عبدالقادر-معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين-دار الفكر، دمشق-الطبعة الأولى 1405 للهجرة (1985م).
15) العربي العزوزي الإدريسي الحسني، السيد محمد-إتحاف ذوي العناية-مطبعة الإنصاف، بيروت-1370 للهجرة = 1950م.
16) زرزور، الدكتور عدنان محمد-مصطفى السباعي الداعية المجدد-دار القلم، دمشق-الطبعة الأولى، 1421 (2000).
17) مصطفى، شاكر-موسوعة دول العالم الإسلامي ورجالها-دار العلم للملايين، بيروت-الطبعة الأولى، 1995م.
=================
رفيق العظم
هو رفيق بن محمود بن خليل العظم، ولد عام 1867 في مدينة دمشق، في أسرة عريقة رفيعة المكانة واسعة الجاه مترفة. والده الأديب الشاعر محمود العظم لم يصرفه إلى الدراسة في المدارس الحكومية العثمانية، وإنما دفعه إلى شيوخ العصر يتردد إليهم ويأخذ عنهم، فتعلق بكتب الأدب ودواوين الشعر وهو مازال صغيراً، ثم انصرف إلى كتب النحو والصرف والمعاني والبيان، لازم العلماء والأدباء وبعض المتصوفة، وأقبل على الأساتذة سليم البخاري وطاهر الجزائري وتوفيق الأيوبي، ونزع كما ينزعون إلى البحث في الاجتماع والتاريخ والأدب، وتعلق بالإصلاح وكتب فيه لما وجد من أحوال العصر الإدارية والسياسية.
اجتمع رفيق العظم إلى أحرار العثمانيين وتعلم اللغة التركية، وتقرب من الجمعيات السياسية السرية ووقف على العنف والاستبداد والاستعمار، فأخذ ينتقد ويقبح في جرأة وصراحة لفتت الأنظار إليه.(4/143)
زار رفيق العظم مصر سنة 1892ومنها انتقل إلى الأستانة ثم عاد إلى دمشق، ليغادرها عام 1894 إلى مصر هرباً من مضايقة السلطات لأحرار البلاد، وفي القاهرة تعرف العظم على أعلام البلاد، واتصل بحلقة الإمام محمد عبده، وفي هذه الحلقة كبار الكتاب والمفكرين أمثال قاسم أمين وفتحي زغلول وحسن عاصم. فأفاد من مجالسهم وكذلك اتصل بالشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وعرف مصطفى كامل ومحمد فريد من زعماء الإصلاح في مصر، فاختمرت في نفسه فكرة الإصلاح السياسي والاجتماعي.
كما انصرف العظم إلى الكتابة والتصنيف، وأخذ ينشر المقالات والدراسات في التاريخ والأدب والاجتماع والإصلاح في كبريات الجرائد: الأهرام، والمقطم، واللواء وفي أشهر المجلات: المقتطف الهلال، والمنار، والموسوعات فوثقت صلاته بعلماء وكتاب وسياسي مصر.
كما انصرف العظم إلى تأسيس الجمعيات السياسية، فأنشأ مع صحبه (جمعية الشورى العثمانية) الحرة، وفيها كبار الشخصيات من عرب وأتراك وجركس وأرمن، وكانت لها صحيفتها يحرر القسم العربي فيها. وكانت هذه الجمعية قبل ذلك تطبع المنشورات وتذيع البيانات في الوطن العربي وفي غيره. وتنبهت الجمعية (الاتحاد والترقي) إلى خطر هذه الجمعية وأثرها، فسعت إلى التقرب منها والاعتماد عليها في مقاومة الظلم والطغيان ولكن الشعار كان يختلف في كل منهما، والأهداف تباعد بينهما... فجماعة الاتحاد والترقي كانوا يعتمدون على العنصرية التركية في رفع الجنس الطوراني، أما جماعة الشورى فكانوا يريدون الحرية للشعوب.
لذا سعى رفيق العظم مع صديقه الشيخ رشيد رضا في تكوين جمعية عربية سرية، هدفها التأليف بين أمراء الجزيرة العربية، والسعي في جمع شمل العرب لحفظ حقوق العرب في الدولة العثمانية، والعمل لمستقبل يعيد إليهم أمجادهم وتاريخهم. وقد ساق إلى تأليف هذه الجمعية ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية بعد انكسارها في حرب البلقان، وبدا خطر وقوعها في براثن الغربيين، فنهض العظم مع زملائه من الساسة في تأسيس حزب اللامركزية، لئلا يصيب الأقطار العربية خطر الانهيار الذي يقع على العاصمة، وليصبح كل قطر في منجى من السقوط فريسة للأوربيين.
وظل رفيق العظم يعمل في الأحزاب وفي السياسة لخير قومه وأمته وبلاده حتى ساءت صحته، فلما قامت الثورة العربية وتسلمت الحكومة الفيصلية مقاليد البلاد، عاد العظم إلى دمشق زائراً فاستقبلته البلاد خير استقبال، وعرضت عليه أن يتقلد بعض الرئاسات الكبرى، فاعتذر لسوء صحته، ولزهده في المناصب، وعاد إلى القاهرة ولازم داره.
وقد أُعجب المجمع العلمي العربي في دمشق بكتابات العظم وروعة أسلوبه وجميل خدماته للعربية، فانتخبه عضواً مراسلاً إكباراً لأياديه، ولكنه لم يتح له أن يشارك في أعماله، وإنما أوصى بمكتبته كلها هدية إلى المجمع العلمي العربي، وهي في نحو ألف مجلد، كلها من أنفس الكتب. توفي في القاهرة سنة 1925.
من آثاره:
ـ كتاب (الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية).
ـ كتاب (البيان في أسباب التمدن والعمران).
ـ رسالة (البيان في كيفية انتشار الأديان).
ـ (الجامعة الإسلامية في أوروبا).
ـ (السوانح الفكرية في المباحث العلمية).
ـ (أشهر مشاهير الإسلام) كتب منه أربعة أجزاء طبعت مراراً، ولكنه لم يتمه، واستفاضت به الشهرة في أقاصي البلاد ودانيها.
ـ (تنبيه الافهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية في الإسلام).
ـ مجموعة آثار رفيق العظم، عني بجمعها شقيقه عثمان العظم.
من آثاره الخطية ديوان شعر محفوظ في دار الكتب الظاهرية. وشرع بوضع كتب لم يتمها منها: تاريخ السياسة الإسلامية، ورسالة في الخلاف بين الترك والعرب كتب منها 67 صفحة. وله الكثير من المقالات في النواحي الاجتماعية والسياسية نشرت في كبريات المجلات والجرائد.
المراجع:
ـ د. سامي الدهان (قدماء ومعاصرون، دار المعارف، مصر، 1961، ص(166ـ 172).
ـ يوسف أسعد داغر (مصادر الدراسة الأدبية، بيروت، مكتبة لبنان، الطبعة الأولى 2000، ص(471، 472).
ـ عبد الوهاب الكيالي (موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1981، ص(826،827).
ـ جميل عويدات (أعلام نهضة العرب في القرن العشرين، الطبعة الأولى 1994 ص(100).
================
عبد العزيز الرنتيسي.. الطبيب الثائر
17/04/2004
هنادي دويكات *
الرنتيسي إلى الرفيق الأعلى ...
شخصية منطقية ورزينة، ولكنها قادرة علي إثارة حنق الإسرائيليين. يملك القدرة على إثارة وتعبئة الشارع الفلسطيني، إلا أن الكثيرين يعتبرون مواقفه تميل إلى الدموية؛ فهو ينادي بضرب كل إسرائيلي في أي مكان وزمان. له سجل حافل بالنضال والجهاد والدعوة، لا يخلو من الاعتقالات والتعذيب والإبعاد. إنه خَلَف الشيخ ياسين في قيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. وتعكس حياته ملامح العلاقة بين الاحتلال وشرائح المجتمع المختلفة، وتبين سياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الشعب الفلسطيني.
البداية
نشأ عبد العزيز الرنتيسي ابن يبنا القرية المهجرة (بين عسقلان ويافا) والمولود في 23-10-1947 قبيل التهجير في أسرة ملتزمة ومحافظة في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين. لم يمنعه صغر سنه من العمل لمساعدة عائلته المكونة من 11 فردا؛ حيث اشتغل وهو في عمر ست سنوات فلم يلهو مع أقرانه ولم يعش شقاوات الطفولة، كان هناك أكبر من ذلك يشغل تفكيره، وعالمه الصغير.(4/144)
أنهى الرنتيسي دراسته الثانوية عام 1965، وتوجه إلى مدينة الإسكندرية المصرية ليلتحق بجامعتها ويدرس الطب؛ حيث أنهى دراسته الجامعية بتفوق وتخرج عام 1972 وعاد إلى قطاع غزة. لم تقف أحلامه عند هذا الحد على الرغم من صعوبة الظروف التي عاشها وأفراد أسرته الأحد عشر.
لمع نجم الرنتيسي في العديد من المجالات سواء على الصعيد العلمي أو العملي أو الدعوي وكذلك الجهادي؛ فقد حصل على درجة الماجستير في طب الأطفال من مدينة الإسكندرية، بعد أن خاض إضرابا مع زملائه في المستشفى محتجا على منعهم من النهل من معين العلم، والسفر إلى أرض الكنانة، وعمل بعد أن عاد في مستشفى ناصر في خان يونس، وذلك عام 1976.
شغل الدكتور الرنتيسي العديد من المواقع في العمل العام؛ منها: عضوية هيئة إدارية في المجمع الإسلامي، والجمعية الطبية العربية بقطاع غزة، والهلال الأحمر الفلسطيني. وعمل في الجامعة الإسلامية بمدينة غزة منذ افتتاحها عام 1978 محاضرا يدرس علم الوراثة والطفيليات.
الاعتقال الأول ...
نجاة الرنتيسي من محاولة الاغتيال الأولى ...
كان أحد قياديي حركة الإخوان المسلمين السبعة في "قطاع غزة" عندما حدثت حادثة المقطورة، تلك الحادثة التي صدمت فيها مقطورة صهيونية سيارة لعمال فلسطينيين، فقتلت وأصابت جميع من في السيارة، واعتبرت هذه الحادثة بأنها عمل متعمد بهدف القتل مما أثار الشارع الفلسطيني؛ خاصة أن الحادثة جاءت بعد سلسلة من الاستفزازات الإسرائيلية التي استهدفت كرامة الشباب الفلسطيني؛ خاصة طلاب الجامعات الذين كانوا دائما في حالة من الاستنفار والمواجهة شبه اليومية مع قوات الاحتلال. وقد خرجت على إثر حادثة السير المتعمدة هذه مسيرة عفوية غاضبة في (جباليا) أدت إلى سقوط شهيد وعدد من الجرحى، فاجتمع قادة الإخوان المسلمين في قطاع غزة وعلى رأسهم الرنتيسي على إثر ذلك، وتدارسوا الأمر، واتخذوا قرارا مهما يقضي بإشعال انتفاضة في قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني. وتم اتخاذ ذلك القرار التاريخي في ليلة التاسع من ديسمبر 1987، وتقرر الإعلان عن "حركة المقاومة الإسلامية " كعنوان للعمل الانتفاضي الذي يمثل الحركة الإسلامية في فلسطين، وصدر البيان الأول موقعا بـ "ح.م.س". هذا البيان التاريخي الذي أعلن بداية الانتفاضة والذي كتب لها أن تغير وجه التاريخ، وبدأت الانتفاضة وانطلقت من المساجد، واستجاب الناس، وبدأ الشعب الفلسطيني مرحلة من أفضل مراحل جهاده.
وفجأة بعد منتصف ليلة الجمعة الخامس عشر من يناير 1988 -أي بعد 37 يوما من اندلاع الانتفاضة- إذا بقوات كبيرة جدا من جنود الاحتلال تحاصر منزل الرنتيسي، وتسور بعض الجنود جدران فناء البيت، بينما قام عدد آخر منهم بتحطيم الباب الخارجي بعنف شديد محدثين أصواتا فزع بسببها أطفاله الصغار الذين كانوا ينامون كحَمَل وديع.
انتهى الاقتحام باعتقال الدكتور ليكون هذا بداية مسيرة الاعتقالات، وبداية مسيرة الجهاد والإبعاد.
رهين المعتقلات
انتسب الرنتيسي إلى جماعة الإخوان المسلمين ليصبح أحد قادتها في قطاع غزة، ويكون أحد مؤسسي حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة عام 1987.
وكان أول من اعتقل من قادة الحركة بعد أن أشعلت حركته الانتفاضةَ الفلسطينية الأولى في التاسع من ديسمبر 1987؛ ففي 15/1/1988 جرى اعتقاله لمدة 21 يومًا بعد عراك بالأيدي بينه وبين جنود الاحتلال، الذين أرادوا اقتحام غرفة نومه فاشتبك معهم لصدهم عن الغرفة، فاعتقلوه دون أن يتمكنوا من دخول الغرفة.
وبعد شهر من الإفراج عنه تم اعتقاله بتاريخ 4/3/1988؛ حيث ظل محتجزًا في سجون الاحتلال لمدة عامين ونصف العام، ووجهت له تهمة المشاركة في تأسيس وقيادة (حماس)، وصياغة المنشور الأول للانتفاضة، بينما لم يعترف في التحقيق بشيء من ذلك، فحوكم على قانون "تامير"، ليطلق سراحه في 4/9/1990. ثم عاود الاحتلال اعتقاله بعد 100 يوم فقط بتاريخ 14/12/1990؛ حيث اعتقل إداريًّا لمدة عام كامل.
ولم يكن فقط رهين المعتقلات الإسرائيلية بل والفلسطينية أيضا؛ فقد اعتقل أربع مرات في سجون السلطة الفلسطينية، كان آخرها لمدة 21 شهرًا بسبب مطالبته السلطة الفلسطينية بالكشف عن قتلة الشهيد محيي الدين الشريف في مارس "آذار" 1998.
مرار الغربة ...
مقاتلو حماس يحيطون بالرنتيسي ...
وفي 17-12-1992 أُبْعد مع 400 من نشطاء وكوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى جنوب لبنان؛ حيث برز كناطق رسمي باسم المبعدين الذين رابطوا في مخيم العودة في منطقة مرج الزهور؛ لإرغام سلطات الاحتلال على إعادتهم، وتعبيرا عن رفضهم لقرار الإبعاد.
واعتقلته سلطات الاحتلال فور عودته من مرج الزهور، وأصدرت محكمة إسرائيلية عسكرية عليه حكمًا بالسجن؛ حيث ظل محتجزًا حتى أواسط عام 1997.
وتمكن الرنتيسي من خلق جبهة معارضة قوية لانخراط الحركة في أي مؤسسة من مؤسسات السلطة، أو دخول الحركة في انتخابات تحت سقف اتفاق أوسلو الذي قامت بموجبه السلطة الفلسطينية. وقد أدت مواقفه هذه إلى تعرضه لعدة عمليات اعتقال، وأفرج عنه العام قبل الماضي 2002، بشرط عدم الإدلاء بأي تصريحات تعبئ الشارع الفلسطيني، إلا أن مواقف د. الرنتيسي -خصوصا بعد عرض خريطة الطريق- أثارت حنق إسرائيل؛ فقد أعلن الرنتيسي معارضته للخريطة ولأي حل سلمي أو مفاوضات مع العدو الإسرائيلي.
استشهاد الرنتيسي(4/145)
وبعد أن اغتالت يد الغدر الإسرائيلية الشيخ القعيد القائد أحمد ياسين بايعت الحركة الدكتور الرنتيسي خليفة له في الداخل، ليسير على الدرب حاملا شعل الجهاد؛ ليضيء درب السائرين نحو الأقصى، إلى أن تمكنت منه يد العدوان، فاستشهد مع 3 من مرافقيه في غارة جوية إسرائيلية استهدفت سيارته في شارع الجلاء بمنطقة الغفري شمال مدينة غزة مساء السبت 17-4-2004.
==================
الشيخ الحصري.. ولسان الصدق في الآخرين
كان من دعوات خليل الله إبراهيم أن يجعل له ربه لسان صدق في الآخرين، فينطق الله ألسنة الناس بالثناء عليه.. وقد حقق الله له ذلك فكان له الذكر الجميل.. ولا شك أن هذه أمنية كل مسلم أن يبقي الله ذكره بالخير ويجعل عقبه حسن ثناء الناس وإطلاق ألسنتهم بالدعاء له وهذا من عاجل البشرى وعلامات الفلاح.
وحديثنا اليوم عن رجل نشر الله حسن سيرته في العالمين، وجعل اسمه مرتبطا بأفضل الذكر وأحسنه (كلام رب العالمين) فلا يذكر القرآن وأهله إلا ويسبق على الألسنة ذكره ويسارع الناس بمدحه وما أشرف هذا أن تكون دعوتك إلى الله وحركتك في الحياة مرتبطة بكلام الله.
الشيخ محمود خليل الحصري واحد من أشهر قارئي القرآن وأحد أقطاب التلاوة والترتيل، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم الإسلام كله، شهد له الكثيرون بأنه أفضل من جود القرآن ورتله، فلم يكن مجرد قارئ أو صاحب صوت يهز الوجدان بل كان رجلا يعيش القرآن فيعيشه معه من يسمعه.
ولادته
ولد الشيخ محمود خليل الحصرى فى غرة ذى الحجة سنة 1335، وهو يوافق 17 من سبتمبر عام 1917، بقرية شبرا النملة، مركز طنطا بمحافظة الغربية بمصر.
حفظ القرآن الكريم وسنه ثمان سنوات، ودرس بالأزهر، ثم تفرغ لدراسة علوم القرآن، وحصل على شهادة في القراءات العشر.
تقدم الشيخ لامتحان الإذاعة ليقرأ في إذاعة القرآن الكريم المصرية سنة (1364 = 1944) فكان ترتيبه الأول بين المتقدمين، وانطلق صوته عبر الأثير إلى المسلمين في كل مكان.
وفى عام 1957 عين مفتشا للمقارئ المصرية، وفى عام 1959 رقى وكيلا لها، وبعد عام عين مراجعا ومصححا للمصاحف بالأزهر الشريف بلجنة القرآن والحديث بمجمع البحوث الإسلامية.
شيخ عموم المقارئ
وفى عام 1960 صدر قرار جمهوري باختيار الشيخ محمود خليل الحصرى شيخا لعموم المقارئ المصرية، وفى نفس الوقت اختارته وزارة الأوقاف مستشارا فنيا لشئون القرآن الكريم.
وفي حدود عام 1961 كان الشيخ الحصري أول من سجل المصحف المرتل كاملا للإذاعة وظل يصدح به وحيدا لمدة عشر سنوات، ثم سجل القرآن برواية ورش عن نافع ثم قالون عن نافع ثم الدوري عن أبي عمرو ومازال الناس إلى يومنا هذا ينتفعون بذلك التراث العظيم والخير العميم.
رحلات قرآنية
قضى الشيخ محمود خليل الحصري جانبا طويلا من حياته متنقلا بين بلدان العالم الإسلامي يسمعهم كلام الله تعالى ويشنف آذان المسلمين بسماع آيات الذكر الحكيم، ومن الممكن أن نقول إنه لا تكاد توجد دولة إسلامية إلا وقد زارها، وكانت له فيها مواقف رائعة، وترك بها ذكرى حسنة.
وكذلك زار الشيخ العديد من البلدان غير الإسلامية يسمع جالياتهم كتاب ربهم.
والشيخ الحصرى رحمه الله تعالى أول من رتل القرآن الكريم في الكونجرس الأمريكي، وأذن لصلاة الظهر في مقر الأمم المتحدة، وقرأ القرآن بقاعة الملوك والرؤساء الكبرى بلندن أثناء زيارته لانجلترا. وأيضا زار أندونيسيا والفلبين والصين والهند وسنغافورة وغيرها من بلدان العالم.
ومن عجيب ما حدث أنه أسلم على يديه عشرات من الناس في أنحاء العالم وكان لسماعهم القرآن منه الأثر الأكبر والسبب الأول في إسلامهم: ففي فرنسا أعلن الإسلام على يديه عشرة فرنسيين وذلك في زيارته لبلادهم سنة 1965، وفي أمريكا قام بتلقين الشهادة لثمانية عشر شخصا (رجالا ونساء) ليعلنوا إسلامهم على يديه رحمه الله.
وكان للشيخ في شهر رمضان المعظم من كل عام رحلات للدول الإفريقية والعربية والأسيوية لقراءة القرآن.
وإلى جانب القراءة كان الشيخ يحاضر في كثير من الجامعات المصرية والعربية والإسلامية في علوم القرآن، فقد كان عالما ذا رسالة نبيلة بل هي أعظم رسالة في دنيا العلوم والمعارف لتعلقها بأفضل كلام وهو كلام الله عز وجل.
وكان الشيخ أيضا مراجعا لكتاب الله سواء في الإذاعة مختبرا للقراء الجدد أو مراجعا لكتابة المصحف ضمن لجنة مراجعة المصاحف، كذلك ظل شيخا لقراء العالم الإسلامي طيلة عشرين عاما إضافة إلى كونه عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.
مؤلفات الشيخ
وقد ترك الشيخ كنزا ذاخرا من العلم تمثل في أكثر من عشر مؤلفات في علوم القرآن الكريم منها :
أحكام قراءة القرآن الكريم.
القراءات العشر من الشاطبية و الدرة .
معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء.
الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير .
أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر .
مع القرآن الكريم.
قراءة ورش عن نافع المدني .
قراءة الدوري عن أبى عمرو البصري .
نور القلوب في قراءة الإمام يعقوب .
السبيل الميسر في قراءة الإمام أبى جعفر .
حسن المسرة في الجمع بين الشاطبية والدرة.
النهج الجديد في علم التجويد .
رحلاتي في الإسلام .
و له مقالات عديدة في مجلة لواء الإسلام وغيرها.
تكريم
وكان لابد لهذا العلم الجم والعمل الدائب أن تُرى ثمرته في الدنيا قبل الآخرة، فنال الشيخ الحصري العديد من الأوسمة تقديرا لمكانته، أبرزها جائزة الدولة التقديرية من الطبقة الأولى عام 1967.
الحصري والدا(4/146)
رغم أن الشيخ كان كثير الأسفار وأنه كان نادراً ما يجلس مع أبنائه لكثرة انشغاله بالقرآن ورسالة تلاوته وقراءته وإعداد الكتب الخاصة؛ إلا إنه ـ رغم كل ذلك ـ كان يهتم بإعداد الأبناء وتربيتهم وتنشئتهم تنشئة دينية أو بالأخص قرآنية؛ فقد كان يولي تحفيظ أبنائه القرآن عناية خاصة كما يحكي ذلك عنه أحد أبنائه فيقول:
لقد كان أبي أباً حنوناً جداً، وكان يهتم اهتماماً شديداً بحفظ القرآن، وقد استطعنا جميعاً حفظ القرآن كاملاً والحمد لله، وقد كان يعطي كل من حفظ سطراً قرش صاغ بجانب مصروفه اليومي، وإذا أراد زيادة يسأل ماذا تحفظ من القرآن؟ فإن حفظ وتأكد هو من ذلك أعطاه.
وقد كانت له فلسفة في ذلك فهو يؤكد دائماً على حفظ القرآن الكريم حتى نحظى برضا الله علينا ثم رضا الوالدين فنكافأ بزيادة في المصروف وكانت النتيجة أن التزم كل أبنائه بالحفظ .
وأذكر أنه في عام 1960م كان يعطينا عن كل سطر نحفظه خمسة عشر قرشاً وعشرة جنيهات عن كل جزء من القرآن نحفظه، وكان يتابع ذلك كثيراً إلى أن حفظ كل أبنائه ذكوراً وإناثاً القرآن الكريم كاملاً والحمد لله.
خاتمة السعداء
كان الشيخ قد بنى مجمعا دينيا يضم معهدا أزهريا ومسجدا بقريته (شبرا النملة) وبنى مسجدا بالقاهرة.. وأوصى قبل وفاته بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم.
وكانت بداية المرض في عام 1980 م عندما عاد من رحلة من السعودية مريضا (كما يحكي أحد أبنائه) وقد زاد عناء السفر وإجهاده من مرض القلب الذي كان يعاني منه، إلا أن المرض اشتد عليه بعد ثلاثة أيام من عودته ونصح الأطباء بضرورة نقله إلى معهد القلب.. وقد تحسنت صحته بحمد الله فعاد إلى البيت مرة أخرى حتى ظننا أنه شفي تماما وظن هو كذلك.. إلا أنه في يوم الاثنين الموافق 24 نوفمبر عام 1980 م وبعد أن أدى صلاة العشاء مباشرة فاضت روحه إلى باريها، وأسلم النفس إلى خالقها بعد أن ملأ الدنيا قرءانا، ليلقى ـ إن شاء الله ـ بشرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن مقامك عند آخر آية تقرؤها فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.. أمين.
=================
محمود شاكر المقاتل التراثي الشجاع
كما يكون الخير فى حياة العظماء يكون الخير فى موتهم أيضا ؛ ذلك لأن حياتهم عطاء كبير . ولأن موتهم تنبيه إلى من بعدهم ليحملوا الرسالة ويواصلوا المسيرة.
وكما أن العظماء فى التاريخ قليل ، فإن من يحذو حذوهم قليل أيضاً ، وتلك حكمة الله فى البشر ، فالله سبحانه وتعالى يصلح أمة بصلاح فرد .. وهكذا كان الأنبياء الذين بلغوا رسالات الله إلى البشر ، لأن البشر عجزوا عن القضاء على آفات البشر بأدوية البشر .فكان لا بد أن تتدخل السماء لحسم هذا الداء وحتى لا يتأبى بشر على من خلق البشر .
إن من هؤلاء العظماء القليلين الأستاذ الشيخ محمود شاكر إمام المحققين للتراث الإسلامى فى العصر الحديث .
لقد نبه هذا الرجل بحياته أمته إلي النظر فى تاريخ أعلامه والأخذ من هذا التاريخ سيرة وعلما ، ونبه أمته بموته إلى أن عليها مسؤولية المواصلة على الطريق، والسير على الدرب والأمل فى الله سبحانه قائم أن من مأثوراتنا الإسلامية ان الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يحدد لهذه الأمة أمور دينها ، ويبعث النهضة التى غفلت عن جذورها فى علم الآباء والأجداد ليظل منهج السماء واضحا من كل لبس وهاديا لكل الحاد.
من هو محمود شاكر
الشيخ العلم الأستاذ محمود محمد شاكر رائد من رواد تحقيق التراث العربى الإسلامى .. أمضى حياته فى رحلة علمية طويلة وعطاء فياض لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب والرد على أذناب التنوير المزعوم .. رحل عنا ـ بعد عطاء فياض ـ مودعا سجن الدنيا وانتقل الى جوار ربه، تاركاً نموذجاً طيباً، وقدوة حسنة، وفكراً إسلامياً مستنيراً .
ولد الشيخ محمود محمد شاكر فى الإسكندرية، وكان أبوه جندياً من جنود الدعوة والإرشاد فانتقل الى القاهرة وظل يعمل لفتره كبيرة وكيلا للجامع الأزهر .
التحق الشيخ محمود شاكر بالجامعة المصرية وبدأ جهاده الفكرى مبكراً وهو لا يزال فى السنوات الأولى بكليةا لآداب حتى أعلن اعتراضه ورفضه لأفكار أستاذه طه حسين، التى تحاول النيل من التراث العربى الإسلامى ، فوجه للدكتور طه حسين انتقادات عديدة، وخاصة حين أعلن أن الشعر العربى موضوع ومنحول كله .
وبدأ شيخنا يكتب سلسلة من المقالات النارية فى مجلة الرسالة تحت عنوان : نمط صعب وذلك فى مواجهة صريحة معلنة مع الذين يريدون هدم الكيان الحضارى العربى والإسلامى والتشكيك فى أصول اللغة العربية .
محمود شاكر بقلم محمود شاكر
وبرغم هذا العطاء المبكر يقول الشيخ محمود شاكر عن الفترة الأولى من حياته: قضيت عشر سنوات من حياتى فى حيرة زائغة، وضلالة مضيئة ، وشكوك ممزقة، حتى خفت على نفسى الهلاك ، وأن أخسر دنياى وآخرتى ، محققا إثما يقذف بى فى عذاب الله بما جنيت ، فكان كل همى يومئذ أن ألتمس بصيصا أحتذى به إلى مخرج ينجينى من قبر هذه الظلمات المطبقة علي من كل جانب . فمنذ السابعة عشر من عمرى الى أن بلغت السابعة والعشرين كنت منغمسا فى غمار حياة أدبية بدأت أحس إحساسا مبهما متصاعدا بأنها حياة فاسدة من كل جانب .(4/147)
ويواصل شيخنا الحديث عن نفسه قائلا : لم أجد لنفسى خلاصاً إلا أن أرفض متخوفا حذرا شيئا فشيئا أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التى كانت يومئذ تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود ، وبقوض كل قائم فى نفسى ، وفى طريقى ، ويومئذ طويت كل نفسى على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيداً متفردا رحلة طويلة جدا ، وبعيدة جدا ، وشاقة ومثيرة جدا ..
بدأت بإعادة قراءة الشعر العربى كله ، أو ما وقع تحت يدى منه على الأصح ، واكتسبت بعض القدرات بلغة الشعر ويفن الشعر ، ثم تدرجت وقرأت ما يقع تحت يدى من كتب أسلافنا من تفسير لكتاب الله ، إلى علوم القرآن الكريم مع اختلافها الى دواوين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروحها ، إلى ما تفرع عليه من كتب علماء الحديث وكتب الجرح والتعديل إلى كتب أصول الفقه وأصول الدين ،وشئت بعد ذلك من أبواب العلم .
وسافر شيخنا الى السعودية فتره من الزمن وأنشأ هناك مدرسة جدة الابتدائية على المبادئ والقيم الإسلامية التى لا تتبدل ولا تتغير .
ومع بداية الستينيات بدأ معركة فكرية أخرى مع الكاتب العلمانى لويس عوض الذى أعلن أن الصفحات الرائعة من التراث العربى يرجع الفضل فيها لليونانيين ، واللاتينيين ثم راح يشكك فى الشعر العربى ، وجذوره الثقافية كأنه يريد أن يسير على نفس الدرب الذى سار عليه طه حسين والتغريبيون.
معركته مع طه حسين
إن الذين حركتهم وفاة هذا الرجل لبيان رسالته إلى العامة قليل من الكتاب ولكن عملهم كان جليل الشأن لأنهم من النخبة ، والنخبة دائما عددهم قليل، لكن أثرهم كبير وخطير، فهم مثل الحبة التى ينبت بها سبع سنابل فى كل سنبلة مائه حبة..
ولقد كان هذاالرجل حبة مباركة ملأ صوته الدنيا وهو لا يزال شابا لم يبلغ العشرين وكان إذ ذاك فى سن الاستعداد العلمى حيث كان طالبا فى السنة الثانية من كلية الآداب .. فتى فى أول شبابه الجسمى ، ولكن عقله كان قد اكتمل بالمعرفة والنضوج إلى الحد الذى نازل فيه أستاذه الدكتور طه حسين ومهما تكن النيه التى توافرت لدى هذا الأستاذ وهو مصدر كتابه الشعر الجاهلى فإن موضوع الكتاب كان خطيرا للغاية .
لقد كان يدعى أن الشعر الجاهلى لا أساس له وهو غير حقيقى لأنه منتحل فى عصر الإسلام .وهو بهذا ينفى عن الأمة العربية كتاب حياتها ، فالشعر ديوان العرب . وبالتالى فهو ينفى النموذج الذى تحداه القرآن الكريم وبهذا يسقط عن القرآن إعجازه ، بالإضافة الى التداعيات الأخري لهذا الكلام . والكتاب يموج بمفتريات متعددة على قصص الأنبياء ، وتاريخ الأمم السابقة على الإسلام .
ولقد لقى هذا الكتاب تأييداً واسعا باسم الحرية التى يجب أن تتوافر للأدباء والكتاب والفنانين، ولكنه وجد معارضة أوسع؛ لأن الحرية يجب أن تكون للبناء وليس للهدم، وأن تكون حركتها داخل إطار يوجهها إلى الخير وليس إلى الشر.
ولقد وقف الأزهر الشريف عند هذا الكتاب وقفة تريد الإصلاح وترفض الإفساد. وهيئة مثل الأزهر الشريف حين تقف هذه الوقفة إنما تستعين بأعلامها وعلمائها الكبار الذين لهم فى العلم قدم ثابته ورسوخ عتيد .
لكن أن يقف شاب فى السنة الثانية من كلية الآداب ضد أستاذه فى قضية كهذه فإن هذا يشد الانتباه جدا، لقد فند مزاعم أستاذه الذى حاد عن الطريق تفنيدا قويا واضحا، ورد عليه ما قال، وكان الدكتور طه حسين وقتها ملء السمع والبصر. عاد من باريس بعد أن حاز أرقى الشهادات وجاء ليردد ما سمعه وتلقاه فى الخارج عن تراثنا العربى والإسلامى ودخل إليه بحيلة ماكرة، جازت على الكثيرين وضاعت حقائق كثيرة فى رخامة صوته وحسن إلقاء ما يقول فى أسماع الناس. وأهل الحقيقة الذين لا تنطلى عليهم هذه الحيل قليلون، ولكن كان منهم هذا الشاب الفتى فى كلية الأداب، ولأنه كان من أهل الحقيقة فقد وجد أن وجوده فى الجامعة لن يؤدى إلى الغرض الذى يهدف إليه..
فإذا كان هذا هو حال أستاذه الذى جاء إلى الجامعة ليتلقى عنه فالبقاء فيها عبث وأى عبث، وهجر الجامعة ليتعلم من كتب التراث التى تملأ جدران بيوت قومه وهى كثيرة وكانت حصيلته وفيرة .
ومع لويس عوض أيضاً
إذا كانت هذه هى معركتة الأولى نازل فيها رجلا قوى الشكيمة واسع الحيلة، فإنه مع جهود الآخرين اضطره إلى التراجع عما قال، وغير فى كتابه الشعر الجاهلى ما كان موضع المؤاخذة لكنه أبقى فيه سموماً أخرى أزرت بالكتاب من أن يقتنيه الناس وجعلت المطابع تعزف عن طبعه ونشره.
لكن آثار التغريب لا تزال قائمة بين من يسمون أنفسهم بالمثقفين وما هم بالمثقفين فترى بين الحين والحين كلاما يكتب عن حرية الكاتب ونرى الحديث عن كتاب الشعر مدسوسا في هذا الكلام وسياسة التغريب لا تكف عن المحاولات الجاهلى حتى إننا رأينا منذ عامين تقريبا مجلة تصدرها الدولة وتنفق عليها من أموالها ، ولكن يرأس تحريرها أحد هؤلاء الذى يسمون أنفسم بالمثقفين الداعين إلى حرية الكلمة الخارجة على النظام ..رأينا هذه المجلة تنشر النص الأول لكتاب الشعر الجاهلى الذى رجع عنه مؤلفها وأدخل فيه تعديلات .
سياسة التغريب هذه هى التى دعت المحقق العظيم محمود شاكر إلى الدخول فى معركة أخرى ضد الدكتور لويس عوض حينما زعم أن فكر أبى العلا المعرى وفلسفته ليست أصيلة عنده ، وإنما هى مأخوذة عن فكر أجنبى . ومعنى هذا أن العبقرية العربية ليست عبقرية خلاقة وإنما هى عبقرية تابعة وناقلة ، وكثيرة هى الادعاءات ضد العربية والإسلام التى جاءت فى كتابات الدكتور لويس عوض .(4/148)
وكنا نحب له أن يكون صادقا مع الواقع ومع التاريخ لكنها مدرسة تغريب أمتنا وإبعادها عن ثروتها الحقيقية ، وهذا عداء للإسلام أولا وقبل كل شيء يحتاج إلى الذين يدفعونه .
ولقد كان محمود شاكر جديرا بهذا الدفع فتصدى لمقولات لويس عوض وأجهضها تماما، وهو ما اعترف به الدكتور لويس عوض نفسه عندما جمع مقالاته التى كتبها عن المعرى فى كتاب، وقال إنه لولا شدة الأستاذ محمود شاكر فى مناقشته لأفاد من علمه وتحقيقة كثيراً.
ومن هنا فإن الدكتور لويس عوض يعيب وسيلة محمود شاكر ولا يعيب علمه ولا تحقيقه. وهذا اعتراف حمدناه فى حينه للدكتور لويس عوض ونحمده له بعد سنوات من وفاته لكننا نحمد أكثر وأكثر صنيع الأستاذ المحقق العظيم محمود شاكر فى مقالاته التى كتبها في مناقشة الدكتور لويس عوض وجمعها فى كتابه أباطيل وأسمار الذي كشف فيه قضيه التغريب والأخذ عن المستشرقين وهو كتاب تعليمى للمثقفين بالمعنى العام الذين يريدون أن يعرفوا موقف الفكر العربى الإسلامى من قضية التغريب وخطورة الأخذ من المستشرقين .
جرأة فى الحق
وفى السابعة والخمسين من عمره اعتقل شيخنا ظلماً وعدواناً ، واحتمل ظلمة وغياهب المعتقلات ورفض أن يعتذر عن تمسكه بدينه وعن ذنب هو منه براء .
وبعد خروجه من السجن انتخب مراسلاً لمجمع اللغة العربية فى دمشق ، وكرمته الدولة بجائزتها التقديرية ، ثم انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية .
وفى العام نفسه استحق بجدارة جائزة الملك فيصل العالمية .
وفى منتصف الثمانينيات واصل جولاته الفكرية الناجحة، وانتقد بشدة أفكار نجيب محفوظ وزكى نجيب محمود ووصفهما بأنهما ـ مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ـ مقلدان للغرب وليسا مبتكرين، بل يقدمان نفس الرؤى التى كان أولئكم ينادون بها؛ ولهذا فهم يسيرون فى طريق الخطأ .
وقال عنهم: "إنهم ام يقدموا شيئاً مفيداً لمجتمعهم ولا لقضايا مجتمعهم ، ولو كانوا يسيرون فى طريق صحيح لكان لهم شأن آخر .. صحيح أنهم مجتهدون ولهم جهود دائمة دائبة ، ولكنها ضئيلة ، وباهتة فعندما أنظر الى الوجود الحقيقى لطه حسين أو توفيق الحكيم أو إحسان عبد القدوس ، ونجيب محفوظ أراه وجودا ليس مفيدا لقضايا مجتمعهم أو مشاكله".
ولعل جرأة شيخنا فى الحق وفى الصدع به كانت سببا فى تجاهل الأجهزة الإعلامية له ولمنهجة الفكرى إلى أن رحل عن دنيا الزيف إلى رحمة الله التى وسعت كل شيء؟.
تحقيق التراث
وقضية محمود شاكر لم تكن فقط التصدى للدكتور طه حسين ولا للدكتور لويس عوض ولا من على شاكلتهما، إنما كانت العودة بتحقيق التراث إلى أصوله ومنابعه الأولى التى قام عليها العلماء المسلمون ، منذ الصدر الأول للإسلام ، هذا التحقيق الذى ظل ممتدا حتى عصرنا الحاضر قام عليه شيوخ أعلام من أبرزهم الشيخ محمود شاكر ، ولقد كانت فطنته أنه اتبع الأولين وأحيا طرائقهم .
وإن قضية جمع القرآن فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه هى أولى الدرجات فى علم تحقيق التراث الإسلامى . ومع أنها أولى الدرجات فإنها كانت وافية تماما للتأكد من صحة النص وصحة نسبه إلى الذي نزل عليه القرآن .
وجمع الحديث وتحقيقه جاء من كونه المصدر الثانى للتشريع وأنه شارح للقرأن ومفصل لمجمله إلى غير ذلك مما يعرفه الناس عن مكانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن
إن المدرسة الإسلامية جاءت فى تحقيق الحديث بعلم غير مسبوق فى تحقيق تراث الأمم. ولم يلحق به لاحق حتى الآن ولا المستشرقون الذين يزعمون أنهم أصحاب فضل فى تحقيق التراث الإسلامى .
إن علماء الحديث بذلوا جهودا جبارة فى مراجعة ما جمعوا من حديث للتأكد من صحة نسبها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسموا الأحاديث الصحيحة إلى درجات كثيرة فى صحتها ، فمنها المتواتر ، ومنها الآحاد ، ومنها الصحيح لنفسه ، ومنها الصحيح لغيره ، ومنها الحسن ، وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه فى هذا العلم العظيم الذى يجب أن يسود حياتنا الثقافية وأن نجد لقواعده أثرا فى تحقيقاتنا للتراث الإسلامى ، وهو الأمر الذى احتذاه محمود شاكر فى تحقيقه للتراث وفى مناقشات للمتغربين والمارقين من المعرفة الاستشراقية .
ومن هنا تأتى أهمية الرجل ولفت الأنظار إليه فى حياته وما كان من أثر وفاته فى تنبيه العقول إلى تراث الأمة وتحقيق علمائها له بأنفسهم بعد أن يتعلموا هذا الفن الجليل ويستكملوا أسبابه من علم بلغة القرآن وفى القرآن والحديث والتاريخ الإسلامى وما تركه لنا الأجداد من مخطوطات بعضها بين أيدينا وبعضها سرقه الاستعمار الاستشراقى من خزانات كتبنا . وإن محمود شاكر له آثار جليلة فى تحقيق التراث من تفسير وحديث وشعر ونثر .
ونظرا لمجهودات الشيخ شاكر الكبيرة انتخب عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية فى دمشق ، وعضوا عاملا بمجمع اللغة العربية وعضوا بمجمع الخالدين .
كماحصل عى جائزة الدولة المصريةالتقديرية فى الآداب .
حصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام عن كتابه المتنبى الذى يقع فى مجلدين من القطع الكبير ، وقد أنجز هذا الكتاب، ثم أعاد تحقيقه وتنقيحه وتزويده بوثائق جديدة .. وبذلك يعد المصرى الرابع الذى يحصل على هذه الجائزة
إن آثار محمود شاكر تجعل من شخصيته علما قائما بذاته .. فيا حبذا لو حفظنا هذا العلم وعملنا به وجعلنا من ذلك الرجل أسوة حتى لا يتخاذل حق أمام ضوضاء باطل .
===============
مسلمة بن عبد الملك.. الفاتح الكبير(4/149)
نحن اليوم مع قصة فاتح من أعظم فاتحي الدولة الإسلامية .. قد يكون اسمه غير معروف عند الكثير من المسلمين لكن أهل المعرفة بتاريخ فتوحات الإسلام يعرفونه حق المعرفة .. قد يكون الناس هضموا حقه لكن حقه عند الله محفوظ ولا يضره جهل الناس طالما أن الله تعالى يعرفه.
إنه القائد المسلم العظيم مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي.. أبوه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وأمه من أمهات الأولاد - ويريدون بكلمة أمهات الأولاد: الجواري والإماء اللواتي ولدن لمواليهنَّ ذكرانًا – وولادة مسلمة كانت حوالي سنة ست وستين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم 685م. نشأ وترعرع في ظروف مهمة حتى تستكمل متطلبات شخصيته الفكرية والإدارية والسياسية والعسكرية.
فمسلمة من بيت السلطة، بني أمية، وأهله أمراء وقادة وخلفاء، نشأ في دمشق عاصمة الخلافة الأموية، فتعلم القرآن الكريم، ورواية الحديث النبوي الشريف، وأتقن علوم اللغة العربية وفنون الأدب، وتدرب على ركوب الخيل والفروسية والسباحة والرمي بالنبال، والضرب بالسيف، والطعن بالسنان، وتلقى علومه وتدرب في حياة وكنف والده أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان.
ووالده يعد بحق أبرز خلفاء بني أمية في بلاد الشام، فكان حصيفًا عالمًا داهية ذا مقدرة وذكاء، لذا أرسى عبد الملك أسس شخصية ابنه مسلمة وبدت ملامحها واضحة جلية في وقت مبكر من عمره، وكان مسلمة نسخة طبق الأصل من والده حتى توفي والده – رحمه الله تعالى – سنة ست وثمانين من الهجرة النبوية الشريفة 705م.
غزوات مبكرة
في سنة ست وثمانين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم، وفي سبع وثمانين غزا الروم فأثخن فيهم بناحية "المصيصة" حيث إنها مدينة على شاطئ نهر جيجان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم، وفتح حصونًا كثيرة منها حصن "بولق والأخرم وبولس وقمقيم".
وفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة غزا وأخوه بلاد الروم، فهزم الله الروم حتى دخلوا "طوانة". وفتح مسلمة أيضًا حرثومة. وفي تسع وثمانين غزا مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، فافتتح حصن "عمورية" ولقي من الروم جمعًا فهزمهم وافتتح "هرقلة وقمونية".
وغزا مسلمة الترك حتى بلغ مدينة باب الأبواب وهي ميناء كبير على بحر الخزر ومدينة كبيرة محصنة، من ناحية أذربيجان.
وفي سنة اثنتين وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم ففتح حصونًا ثلاثة وأجلى أهل "سوسنة" إلى بلاد الروم. وفي سنة أربع وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض الروم فافتتح سندرة، وهي حصن من حصون الروم التي أقامها البيزنطيون للدفاع عن عاصمتهم "القسطنطينية". والقسطنيطينية مدينة معروفة عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية، بناها قسطنطين سنة 330م، وهي مسورة بسور حصين، ارتفاعه ما بين أربعة عشر قدمًا وعشرين، ومحيطها أكثر من اثني عشر ميلاً من الجنوب، ومن هذا الغزو عاد مسلمة إلى الديار المقدسة فحج بالناس في هذه السنة.
وفي سنة سبع وتسعين من الهجرة غزا مسلمة أرض "الوضاحية" وفيها غزا "برجمة" وحصن "ابن عوف" وافتتح حصني "الحديد وسرورا".
في سنة ثمان وتسعين هجرية ولى سليمان أخاه مسلمة قائدًا عامًا للقوات الغازية القسطنطينية، فسار على رأس جيشه المؤلف في البحر، وكانت مدينة "دابق" هي القاعدة المتقدمة لحشد جيش مسلمة، وسلك طريق "مرعش" فافتتح مدينة "الصقالية". وسار مسلمة إلى القسطنطينية حتى نزل "عمورية"، وأحسن مسلمة في قيادته فبقى محاصرًا للقسطنطينية ثلاثين شهرًا، وقد قيل إنه ضاقت بهم الحال وقلت المؤن حتى أكل عسكره الميتة والعظم، فما وهن ولا توانى ولا ضعف عن النهوض بواجبه، فلقد كان حصار القسطنطينية ملحمة رائعة للمسلمين بقيادة مسلمة بن عبد الملك بن مروان.
صفات قيادة وسيادة
ركز أبوه عبد الملك بن مروان عليه، بخاصة في وصية أبنائه وبنيه وهو على فراش الموت، فقال: "أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية، وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم "حاميكم" الذي عنه ترمون.." فهذا ثناء عاطر وتقدير بالغ بمسلمة بما يدل على مبلغ ثقته به واعتماده عليه. وحقًّا كان مسلمة من قادة الجهاد الإسلامي بالنسبة لبني أمية لا يخالفون له رأيًا ولا يعصون له رأيًا وأمرًا، ويلجأون إليه في أيام المحن والحروب.
كان ذا رأي ودهاء وصفة يزيد بن المهلب بن أبي صفرة قائلاً: "... إني لقيت بني مروان فما لقيت منهم أمكر ولا أبعد غدرًا من مسلمة".. وكان إداريًا حازمًا، ورجل دولة من الطراز الأول وقائدًا متميزًا.
كان مسلمة كريمًا غاية الكرم ومن أمثلة كرمه قوله يومًا لنصيب الشاعر: "سلني" قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأن كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان. فأعطاه ألف دينار.
وأهدى إلى الحسن البصري رضي الله عنه خميصة – كساءً أسود أو أحمر له أعلام ، وكان الحسن يصلي فيها.
وكان إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخاف أن يضجر قال لابنه: إيذن لجلسائي، فيأذن لهم فيفتنّ ويفتنّون في محاسن الناس، فيطرب لها ويهتاج، ويصيبه ما يصيب صاحب الشراب، فيقول لابنه: إيذن لأصحاب الحوائج، فلا يبقى أحد إلا قضيت حاجته.
وكان سمحًا يفتح بابه وقلبه لكل غاد ورائح، فيقضي حاجة المحتاج ويأخذ بيد المضطر ويغيث الملهوف ويجير من استجار به.
عبادة وديانة(4/150)
كان مسلمة رضي الله عنه يقوم من الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح. وكان رحمه الله يثق بورع عمر بن عبد العزيز وعمر يثق بورع مسلمة. فدخل مسلمة على عمر في مرضه الذي مات فيه فأوصاه عمر بن عبد العزيز أن يحضر موته، وأن يلي غسله وتكفينه، وأن يمشي معه إلى قبره، وأن يكون ممن يلي إدخاله في لحده، ومن المعلوم أن المرء لا يوصي أحدًا بأن يحضر موته ويلي غسله وتكفينه إلا إذا كان يثق بورعه وتدينه.
وكان مسلمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعرف واجب الحاكم تجاه المحكومين ولا يرضى للحاكم أن يغمط حقوق المحكومين، وكان يؤدي فريضة الحج ويقصد بيت الله في مكة المكرمة محرمًا، ويشد الرحال إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة النبوية كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، وقد تولى إمارة الحج سنة أربع وتسعين من الهجرة في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك.
مسلمة والخلافة
لم يكن لمسلمة رحمه الله أمل في تولي الخلافة مع أنه كان أحق بالملك من سائر إخوته، وكان ذا عقل راجح ورأي سديد يحولان بينه وبين مغامرة تشق صفوف المسلمين، وكان من أكثر الناس حرصًا على رص الصفوف والوحدة، كما أنه كان يعتبر الخلافة وسيلة من أجل خدمة الأمة لا غاية من أجل أطماع شخصية وأمجاد أنانية، وهو بحق خدم الأمة أجل الخدمات، وبذلك حقق الوسيلة واستغنى عن الغاية.
مضى مسلمة من سنة ست وثمانين من الهجرة حتى تقاعد سنة أربع عشرة ومائة هجرية قائدًا دون توقف إلا سنة إحدى عشرة ومائة هجرية. وتوقفه كان لأسباب مرضية، فأمضى كل حياته قائدًا، خلقه الله تعالى ليكون غازيًا لا ليكون واليًا، فوجوده بين جنوده يرفع معنوياتهم ويزعزع من معنويات عدوه من جهة أخرى، فلقد كان القائد الأول في الدولة الأموية بعد محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم، وكان لا يتعالى على أحد غرورًا بانتصاراته أو مكانته الرفيعة بين الحكام والمحكومين على حد سواء.
مات مسلمة رحمه الله تعالى عن عمر يناهز الرابعة والخمسين، توفي في سنة إحدى وعشرين ومائة هجرية، 738م، وكانت وفاته بالشام ودفن بموضع يقال له "الحانوت" لقد مات فتى العرب ورجل بني أمية وعلى أمثاله يبكي الناس ويحزنون لمزاياه الرفيعة خلقًا وسلوكًا وورعًا.. إضافة إلى علمه وأدبه وكرمه وجوده ومروءته.
رجل قضى أربعة أخماس عمره بعد بلوغه مبلغ الرجال في ساحات الجهاد، ولم يسقط السيف من يده في السنوات الباقية من عمره إلا مضطرًا ومكرهًا.. وهو أعظم من حاصر القسطنطينية من القادة العرب المسلمين. رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ــــــــــــــ
مجلة صوت الأزهر
============
الفقيه الأميرال 1/2
نحن اليوم في تونس الخضراء قبل ألف ومائتي سنة بالضبط. نحن في يوم من أيام سنة 162 للهجرة، في يوم مشهود، يوم سفر طالب من طلبة العلم إلى المشرق للدرس والتحصيل.
ونحن نرى الطلاب إذا أرادوا التحصيل يذهبون في أيامنا إلى الغرب؛ لأن الغرب أرقى. أما يومئذ فكانوا يأتون من الغرب إلى الشرق؛ لأن الشرق كان أرقى رقيًا وأعظم حضارة.
هذا الشاب الذي اجتمع أهل تونس لوداعه، عمره ثلاثون سنة، غريب عن تونس، أصله من نيسابور، وولد في ديار بكر، وذهب أبوه إلى المغرب في الحملة التي جردها المنصور للقضاء على ثورة البرابرة، فنشأ في تونس وأخذ العلم عن علمائها، حتى إذا استوفى ما عندهم، عزم على الرحلة.
وهكذا رحل هذا الشاب: أسد بن الفرات، فارق تونس سنة 172هـ وتنقل في البلدان، وجاب صحاري، وركب بحارًا، حتى وصل المدينة، وكان للعلم مركزان، جامعتان كبيرتان: جامعة محافظة – إن صح التعبير – تعنى بالنقل وبدراسة النصوص، مقرها المدينة وأستاذها الأكبر مالك، وجامعة مجددة تميل إلى النظر العقلي، والبحث الحقوقي، ومقرها العراق، وأستاذها الأكبر أبو حنيفة.
فقصد جامعة المدينة ولزم الإمام مالكًا رحمه الله.
وكانت لمالك هيبة في الصدور، فلا يجرؤ أحد عليه، وكانت طريقة تلاميذه معه الاستماع، والإقلال من المناقشات، فلا يفرضون الفروض، ولا يقدرون الوقائع التي لم تقع، ويضعون لها الأحكام، كما يصنع علماء العراق، بل يسألون عمَّا وقع من الأحداث، ولا يلحون في السؤال، ولم تعجب هذه الطريقة الشاب التونسي، فجعل يفرِّع من كل مسألة مسألة، ويلح في طرح الأسئلة عليه، ورأى منه تلاميذ مالك هذه الجرأة، فكانوا يحملونه أسئلتهم أيضًا ليلقيها على الإمام مالك.
صحب ابن الفرات مالكًا سنتين، ثم أزمع الانتقال إلى الجامعة الأخرى، جامعة العراق، فدخل على الإمام مودعًا شاكرًا وسأله أن يوصيه. فقال له: "أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة للناس".. ثلاث كلمات جمعت الفضائل كلها.
عراق محمد بن الحسن
ورحل إلى العراق وكان الإمام أبو حنيفة قد مضى إلى رحمة الله، وولى أستاذية مدرسته تلاميذه يقدمهم أبو يوسف ومحمد. وكان الإمام أبو يوسف قد شغل القضاء. وأما الإمام محمد فقد تصدر للتدريس وللبحث، وانتهت إليه رياسة العلماء، فلزمه هذا الشاب المغربي، فكان يحضر دروسه العامة، ثم أحب أن يكون له درس خاص، يغرف فيه ما استطاع من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده، فطلب ذلك من شيخه..
وبمنتهى التواضع وكرم العلماء وتفرسهم في النجباء ورغم انشغال الشيخ وازدحام الوقت إلا إنه أخذ الشاب المغربي إلى بيته، وأعطاه غرفة بجنب غرفته، وكان يسهر معه الليل، يضع أمام التلميذ قدح ماء، فإذا نعس نضح وجهه ليصحو.(4/151)
ما طلب منه أجرًا، ولا سأله مالاً، بل كان هو الذي يطعمه ويسقيه؛ ذلك لأن العلم كان في رأي أسلافنا الأولين عبادة، وكان قربة إلى الله، فالطالب يطلب العلم لله، لا للشهادة ولا للدنيا، والأستاذ يعلم العلم لله، لا للمرتب ولا للمنصب.
ولبث أسد بن الفرات أمدًا مع الإمام محمد. وكان أسد أول من نعرفه ـ مع الشافعي ـ جمع بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، وبين مدرسة المدينة النقلية، ومدرسة العراق العقلية.
ثم أزمع الرحلة إلى مصر.. وكان يتصدر التدريس في مصر عالمان من تلاميذ الإمام مالك، أشهب وابن القاسم، ولم يكن قد ظهر نجم الشافعي ثم، وكان كلاهما مجتهدًا يخالف إمامه في بعض المسائل، ولكن أشهب فيه حدَّة وفي ابن القاسم أناة ولين.
لزم أشهب حتى سمعه يومًا يرد في مسألة على أبي حنيفة ومالك، بلفظة خشنة، فغضب أسد وكان كما عهدناه صريحًا جريئًا. فصرخ به على ملأ من الناس وقال له قولاً فظيعًا. وفارقه إلى ابن القاسم فلزمه مدة. وجمع ما أخذه من ابن القاسم من مسائل، وأفاض عليها من ذهنه الذي اختمرت فيه علوم تونس والمدينة والعراق، وجعلها في رسالة (مدوَّنة) سماها الأسدية.
دعوى طريفة
وأراد الطلاب نسخها فأبى، وقال: عملتها لنفسي. فرفعوا عليه دعوى، دعوى طريفة جدًا، حار فيها القاضي، ثم حكم بأن الكتاب يجمع مسائل ابن القاسم، وابن القاسم حي يستطيع المدّعون أن يأخذوا منه مثل ما أخذ أسد. وحكم برد الدعوى.
رد الدعوى قضاء؛ لأنه لم يجد نصًا ملزمًا، ولكنه توسط شخصيًا. فرجا أسدًا أن يعطيهم الكتاب، ففعل وتناقلوه عنه. وقدر الله لهذا الكتاب أن يكون أساس الفقه المالكي كله.
ورجع إلى القيروان عاصمة المغرب بعد غيبة امتدت نحوًا من عشرين سنة صرم نهاراتها، وأحيا لياليها، بالعلم والدرس، ولم يضع فيها لحظة في راحة ولا لعب. ولم يصحب فيها إلا الأئمة والعلماء. ما صحب ذا لهو، ولا ذات جمال.
وكان عمره قد قارب الخمسين، فجلس للتدريس والإقراء يوفي دينه. يعطي التلاميذ مثل ما أعطاه الأساتذة: لله لا لأجر أو منصب، وصارت مدونته الكتاب الرسمي لكل مدرسة مالكية، وأخذها عنه سحنون، ومضى سحنون في رحلة إلى المشرق فقرأها على ابن القاسم نفسه. وكان رأي ابن القاسم قد تبدل في بعض المسائل، فكتب إلى أسد ليعدل المدونة فأبى، فأخذ الناس (مدونة) سحنون، وصارت مرجع المذهب المالكي، وبنيت عليها الشروح والحواشي كلها، واشتهرت باسم مدونة سحنون، وإن كان أصلها لأسد.
أمضى أسد بن الفرات عشرين سنة في العلم ثم جاءه المنصب، فقلد القضاء مع أبي محرز.
هذا خبر أسد طالب العلم وأسد الفقيه، وأسد القاضي، فما هو ياترى خبر أسد القائد الأميرال؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باختصار من كتاب "رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي.
==============
الفقيه الأميرال 2/2
ذكرنا لكم خبر أسد بن الفرات طالب العلم وأسد الفقيه، وأسد القاضي، في مقالنا السابق (الفقيه الأميرال 1/2).. فما هو ياترى خبر أسد القائد الأميرال؟!.
حكم المسلمون أطراف البحر المتوسط من نصف الساحل الشرقي إلى نصف الساحل الغربي. وكان الساحل الجنوبي كله لهم، والشمالي تحت حمايتهم، وفي ظلال رايتهم، تربطهم عهود بإيطاليا وصقلية، فجاء زعيم صقلية لاجئًا إلى أمير المغرب الأمير زيادة الله، وخبره أن حكومة صقلية نقضت العهد، وحبست أسرى المسلمين، وأساءت إلى الجالية الإسلامية.
وتردد الحاكم في قبول الخبر، وأحب أن يقف على حكم الشرع فيه.. ودعا القاضيين (أبا محرز وأسد بن الفرات) يستفتيهما، أما أبو محرز فلم ير هذا الإخبار كافيًا، وأما أسد فقال: إن المعاهدة إنما أبرمت على أيدي الرسل، وإخبار الرسل كافٍ لنقضها.
فلما أفتاه أسد شرع يجهز الأسطول.
وطلب القاضي أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين، فأبى الأمير خوفًا عليه وضنًّا به، فألح وألح، وقال: "وجدتم من يسير لكم المراكب من النوتية، وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة".
فلما رأى منه الجِدّ، ولاه إمارة الحملة. وكان يريد أن يكون جنديًا متطوعًا، لا يريد الإمارة. فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أبعد القضاء والنظر في الحلال والحرام، تعزلني وتوليني الإمارة؟، ذلك لأن القضاء كان في عرفهم فوق الإمارة،. فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة، فأنت قاض وأمير. وكان أول من جُمع له المنصبان.
جهز الأسطول وكان مؤلفًا من ثمان وتسعين قطعة حربية، فيه جيش من عشرة آلاف راجل وتسعمائة فارس. وخرج الناس للوداع في ميناء سوسة، وكان يومًا لم ير المغرب مثله، وتكلم الحاكم والخطباء، وقام القاضي الأمير ليتكلم. أحرزوا ماذا قال؟
لا، لم يَزْهُ ولم يتكبر، ولم يملأ الجو تهديدًا للعدو، وإبراقًا وإرعادًا فخرًا عارمًا، ولكن جعل من هذا الموقف مدرسة، وعاد مدرسًا. فقال: "والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط. وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم، تبلغوا به الدنيا والآخرة".
إمام في الفقه والحرب
كأنكم تتساءلون، وماذا يصنع هذا الشيخ بقيادة الأسطول؟ ومن أين له العلم بالحرب والبحر وما درس في مدينة بحرية، ولا مارس أمور الحرب والقتال؟
لقد نجح يا سادة ونجاحًا منقطع النظير، وهاكم قصة تدلكم على شدة مراسه وقوة بأسه، وأنه كاسمه أسدُ غابٍ.(4/152)
لما طالت أيام المعركة، وقلت الأقوات، تململ بعض الجند، وتحركت عناصر الشغب والفساد، وأحكموا أمرهم، وعزموا على العصيان، وحفوا بالقاضي الأمير أسد بن الفرات، وأقبل زعيمهم أسد بن قادم، يعلن رغبة الجند في العودة إلى ديارهم. وهي رغبة ظاهرها الطاعة، وباطنها الثورة، فقابلها أسد بالحكمة أولاً وراح يبين لهم قرب النصر، وعظم الأجر، فما ازدادوا إلا عتوًّا. وتقابل الأسدان، وتجرأ الثائر فقال: على أقل من هذا قتل الخليفة عثمان بن عفان!
ومعنى هذا إعلان الثورة فماذا يصنع الفقيه القاضي؟
أيستخذي ويخضع؟ ويضيع المعركة، ويخسر النصر المرتقب، من أجل ثورة عاصفة، يقوم بها جند مشاغبون؟ أم يشتد ويحزم؟ وماذا يصنع إذا هو اختار الشدة والحزم؟
لقد صنع أيها السادة ما لا يصنع مثله أبطال الروايات الخيالية: تناول السوط من يد أحد الحرس، وانتصب أمام الثائر وضربه على وجهه أولاً وثانيًا. ولبسته قوة سماوية خارقة هي قوة الإيمان، صرخ بالجند: إلى الأمام. وتقدمهم، وكان الظفر، وكان الفتح، وكان ابتداء الدولة الإسلامية في صقلية التي امتدت قرونًا، ولكن الثمن كان غاليًا.
لقد استشهد القائد البطل الفقيه القاضي أسد ابن الفرات! هوى وهو يحمل راية النصر، ولم يعرف له قبر.
هوى طاهر الأثواب لم تبق روضة .. ... غادة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفًا فإنني .. ... .. رأيت الكريم الحر ليس له قبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي
==================
أحمد ديدات.. دعوة حتى آخر رمق
في يوم الإثنين الثامن من أغسطس 2005 ودعت الأمة الإسلامية علما بارزا من أعلامها وجبلا شامخا من جبال دعوتها ألا وهو الشيخ المناضل والداعية المجاهد الشيخ أحمد ديدات.. ذلك الجبل الأشم والطود العظيم والعلامة الفارقة في تاريخ الدعوة إلى الله رب العالمين. تلك الدعوة التي تمثلت لتصوغ رجلا من نوع يختلف عن كثيرمن الرجال كما أنها دعوة تختلف في أسلوبها عن كثير من أساليب الدعوة وطرقها المعروفة.
لقد اختار الرجل طريقا وعرًا لا يسلكها إلا الأفذاذ من الرجال ، فاختار مقارعة أهل الكتاب في عقر دارهم وإفحامهم من خلال كتبهم وإظهار عوارها وبيان اختلافها وأن مثلها لا يصلح أن يكون كلمة الرب التي أنزلها على رسله وأن دين الحق هو دين الإسلام الخاتم .. كل ذلك من خلال المناظرة بالحكمة والموعظة الحسنة مما كان له كبير الأثر في عودة الآلاف منهم إلى الدين الحق دين الإسلام.
لقد عاش ديدات حياته يناضل في هذا الجانب، ومات وهو لا يزال يؤدي رسالته من على فراش المرض، ثم ودعنا بعد حياة حافلة تحتاج أن يدرسها كل مسلم ليأخذ منها عبرا وعظات.. وهانحن نقتطف منها ملخصا لا يغني عن التمام:
مولده ونشأته
ولد الشيخ الفقيد أحمد حسين ديدات في مدينة سيرات بالهند عام 1918, وقد هاجر والده إلى دولة جنوب أفريقيا بعد وقت قصير من ولادته، وعندما بلغ الصغير تسع سنوات ماتت والدته فلحق بأبيه إلى جنوب أفريقيا حيث عاش هناك بقية عمره.
في جنوب إفريقيا برع أحمد في دراسته وفاق أقرانه رغم اختلاف اللغة وبدت عليه علامات التفوق والنبوغ.. لكن الفقر حال دونه والعلم والقراءة الذين شغف بهما، وخرج ديدات الصغير من المرحلة المتوسطة ليبحث عن مصدر رزق يتقوت منه .
مواجهات مبكرة
عمل ديدات في عدة أعمال، وعندما بلغ الثامنة عشرة في حدود عام 1936، عمل في دكان يمتلكه أحد المسلمين، يقع في منطقة نائية في ساحل جنوب إقليم ناتال بجانب إرسالية مسيحية، وكان طلبة الإرسالية يأتون إلى الدكان الذي يعمل به ديدات ومعه مسلمون آخرون، ويكيلون الإهانات لهم عبر الإساءة للدين الإسلامي والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم.. وعن هذا يقول الشيخ ديدات: "لم أكن أعلم شيئًا عما يقولون، كل ما كنت أعلمه أنني مسلم.. اسمي أحمد.. أصلي كما رأيت أبي يصلي.. وأصوم كما كان يفعل، ولا آكل لحم الخنزير ولاأشرب الخمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
إظهار الحق
يقول الشيخ ديدات: "كانت الشهادة بالنسبة لي مثل الجملة السحرية التي أعلم أنني إن نطقت بها نجوت، ولم أكن أدرك غير ذلك، ولكن نهمي الطبيعي وحبي للقراءة وضعا يدي على بداية الطريق، فلم أكن أكتفي بالجرائد التي كنت أقرؤها بالكامل، وأظل أفتش في الأكوام بحثًا عن المزيد مثل المجلات أو الدوريات، وذات مرة وأثناء هذا البحث عثرت على كتاب كان عنوانه بحروف اللاتينية izharulhaq (إظهار الحق)، وقلبته لأجد العنوان بالإنجليزية "Truth Revealed"، جلست على الأرض لأقرأ فوجدته كتب خصيصًا للرد على اتهامات وافتراءات المنصِّرين في الهند، وكان الاحتلال هناك قد وجد في المسلمين خطورة، فكان من بين الحلول محاولات تنصيرهم لتستقر في أذهانهم عقيدة "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر"، فلا يواجه بمقاومة أكبر من المسلمين، وبذلك تعرض المسلمون هناك لحملات منظمة للتنصير، وكان الكتاب يشرح تكنيك وأساليب وخبرات توضح طريقة البداية، وطرح السؤال، وأساليب الإجابة لدى نقاش هؤلاء المنصرين، بما جعل المسلمين في الهند ينجحون في قلب الطاولة ضدهم، وبالأخص عن طريق فكرة عقد المناظرات.
عودة إلى طلاب الإرسالية(4/153)
لقد حملت تهكمات طلبة الإرسالية النصرانية ديدات على البحث؛ فاشترى أول نسخة من الإنجيل وبدأ يقرأ ويعي، ثم قام بشراء نسخ من الأناجيل المتنوعة، وانهمك في قراءتها ثم المقارنة بين ما جاء فيها فاكتشف تناقضات غريبة وأخذ يسأل نفسه: أي من الأناجيل هذه أصح؟ وواصل وضع يده على التناقضات وتسجيلها لطرحها أمام أولئك الذين يناقشونه بحدة كل يوم في الحانوت.
وفي اللقاء الثاني بطلاب الإرسالية كان على استعداد لمناقشتهم، بل ودعوتهم للمناظرات، وحينما لم يصمدوا أمام حججه قام بشكل شخصي بدعوة أساتذتهم من الرهبان في المناطق المختلفة، وشيئًا فشيئًا تحول الاهتمام والهواية إلى مهمة وطريق واضح للدعوة بدأه الشيخ واستمر فيه، فكان له من الجولات والنجاحات الكثير، واستمر في ذلك طيلة ثلاثة عقود قدّم خلالها المئات من المحاضرات والمناظرات مع القساوسة، كما وضع عددًا من الكتب يزيد على عشرين كتابا من بينها الاختيار The Choice وهو مجلد متعدد الأجزاء، هل الإنجيل كلمة الله؟، القرآن معجزة المعجزات، المسيح في الإسلام، العرب وإسرائيل صراع أم وفاق؟، مسألة صلب المسيح…
ديدات تاون؟!!
لقد قيض الله لأحمد ديدات رجلين كان لهما أكبر الأثر في حياته ودعوته ووصوله إلى العالمية في الدعوة:
أولهما : غلام حسن فنكا" شاب من جنوب أفريقيا حاصل على الليسانس في القانون ويعمل في تجارة الأحذية، جمعت بينه وبين ديدات: رقة المشاعر والاهتمام بقضايا الإسلام.
التقى "غلام" مع ديدات في رحلة البحث والدراسة والقراءة المتعمقة في مقارنات الأديان، وساعد ديدات كثيراً في التحصيل العلمي وصقل الذات. وجابا معا مدنا وقرى صغيرة داخل جنوب أفريقيا، وفي عام 1956 قرر "غلام" التفرغ تماماً للدعوة، وأسس الرجلان "مكتب الدعوة" في شقة متواضعة بمدينة ديربان، ومنه انطلقا إلى الكنائس والمدارس المسيحية داخل جنوب أفريقيا حيث قام أحمد ديدات بمناظراته المبهرة والمفحمة.
وأما الرجل الثاني: فهو "صالح محمد" وهو من كبار رجال الأعمال المسلمين، كان يعيش في مدينة كيب تاون ، التي كانت تتميز بكثافة إسلامية، وسيطرة وهيمنة نصرانية، كما أنها تتميز بمكانتها الاقتصادية والسياسية في ذات الوقت؛ ومن ثم قام "صالح محمد" بدعوة "ديدات" لزيارة المدينة، حيث رتب له أكثر من مناظرة مع القساوسة هناك، ولكثرة عددهم ورغبتهم في المناظرة أصبحت إقامة ديدات في كيب تاون شبه دائمة، وتمكن ديدات من خلال مناظراته أن يحظى بمكانة كبيرة بين سكانها جميعاً الذين تدفقوا على مناظراته حتى أصبح يطلق على "كيب تاون".. ديدات تاون!!
لقد جاب ديدات البلاد بطولها وعرضها ومعه رفيقا دربه وأحدثت مناظراته اضطرابًا في الوسط الكنسي ومن ثم المجتمع كله، وهز مفاهيم ومعتقدات كانت راسخة ومقدسة واستطاع تغييرها، وأحدث ثغرة داخل الكنيسة بعد أن تحول المئات بإرادتهم إلى الإسلام إثر حضور مناظراته أو بعد زيارته في مكتبه الذي تحول إلى منتدى للزائرين والوافدين من كل مكان.
الانتقال للعالمية
ومن جنوب أفريقيا خرج ديدات إلى العالم في أول مناظرة عالمية عام 1977 بقاعة ألبرت هول في لندن.. وناظر ديدات كبار رجال الدين النصراني أمثال: كلارك – جيمي سواجارت – أنيس شروش، وغيرهم. وأحدثت مناظراته دويا في الغرب لاتزال أصداؤه تتردد فيه حتى يومنا هذا. فحديثه عن تناقضات الأناجيل الأربعة دفع الكنيسة ومراكز الدراسات التابعة لها والعديد من الجامعات في الغرب لتخصيص قسم خاص من مكتباتها لمناظرات ديدات وكتبه وإخضاعها للبحث والدراسة سعيا لإبطال مفعولها، وسعيا لمنعها وعدم انتشارها.
جهوده ومؤلفاته
ظل الشيخ ديدات يدعو للإسلام وينافح عنه ويدافع ويناظر ويؤلف وكانت له جهود كبيرة في الدعوة منها :
تأسيس معهد السلام لتخريج الدعاة، والمركز الدولي للدعوة الإسلامية بمدينة [ديربان] بجنوب أفريقيا.
تأليف ما يزيد عن عشرين كتابًا، كان من أشهرها كتاب "الاختيار The Choice" وهو كتاب متعدد الأجزاء، و"هل الإنجيل كلمة الله؟"، و"القرآن معجزة المعجزات"، و"المسيح في الإسلام"، و"العرب وإسرائيل صراع أم وفاق"، و"مسألة صلب المسيح". وكتب آخرى طبع الملايين منها لتوزع بالمجان بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم.. وكان يقول:" "لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية".
وقد مُنح الشيخ ديدات جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986 نظرا لمجهوداته الضخمة وأعطي درجة 'أستاذ'.
دعوة حتى آخر رمق
وفي عام 1996 أصيب ديدات بالشلل التام ومن حينها ظل طريح الفراش، ولكنه لم يتوقف لحظة عن الدعوة فكان يعبر عما يريد عن طريق عينين لا تتوقفان عن الحركة والإشارة والتعبير، وعبرهما يتحاور الشيخ ويتواصل مع زائريه ومرافقيه بل ومحاوريه بواسطة لغة خاصة تشبه النظام الحاسوبي, فكان يحرك جفونه سريعا وفقا لجدول أبجدي يختار منه الحروف، ويكون بها الكلمات، ومن ثَم يكون الجمل ويترجم مراد الشيخ ولده يوسف الذي كان يرافقه في مرضه. والعجيب أنه كان يصل إلى الشيخ في مرضه هذا كل يوم قرابة الخمسمائة رسالة فلم يتوقف عن الدعوة حتى وافته المنية مجاهدا داعيا وصابرا محتسبا.
نسأل الله تعالى أن يسكنه فسيح جناته، ويجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
==============
د. محمد رأفت السعيد.. الفارس الكبير(4/154)
إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في دعوة الخلق، سبيلهم سبيلهم، ودعوتهم دعوتهم، فهم خير الخلق بعدهم وحملة لواء الهداية والنور .. كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من صريع للهوى أيقظوه، وغارق في بحر المعاصي والشهوات أنقذوه.. وهم أصفياء الرحمن وأولياؤه . من عاداهم آذنه الله بالحرب..
ومن هؤلاء العلماء والدعاة الأستاذ الدكتور محمد رأفت سعيد رحمه الله ـ نحسبه ـ فقد عاش حياته عالما جليلا، وفارسا في ميدان العلم والدعوة كبيرا إلى أن توفاه الله.
المولد والنشأة
ولد فضيلة الشيخ في 25 شوال 1367هـ - 30 أغسطس 1948م في قرية أميوط مركز قطور بمحافظة الغربية، بجمهورية مصر العربية، وتميز بنزعة دينية قوية، ونبوغ مبكر، جعلت الدعوة إلى الله شاغله الشاغل طيلة حياته، فقد كان وهو طفل لم يتجاوز العاشرة يطوف قبل الفجر بكل بيوت قريته، ليوقظهم للصلاة مناديًا "الصلاة خير من النوم" غير عابئ بخلو القرية من الكهرباء لإضاءة الطريق، ولا بكثرة وجود الكلاب والذئاب في طريقه، ثم بدت عليه علامات النبوغ في الخطابة فبدأ يخطب وهو مازال ابن اثنتي عشرة سنة وعرفه الناس بَعْدُ خطيبًا مفوهًا يتلهفون على الاستماع إلى خطبه الرائعة.
التحق بكلية آداب عين شمس قسم اللغة العربية وتخرج فيها وكان الأول على الدفعة، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه في كلية دار العلوم، وسافر إلى المملكة العربية السعودية، حيث عمل بجامعة الإمام محمد بن سعود إلى أن وصل إلى أستاذ مشارك، وكان لفضيلته كرسي بالحرم يلقي من عليه دروسه لمدة سبع سنوات، وتتلمذ عليه كثير من شيوخ الحرم كالشيخ السديس وغيره، كما عمل بدولة قطر لسنوات.
ولما عاد إلى أرض الوطن عين أستاذًا للدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة المنوفية، وشغل منصب رئيس قسم اللغة العربية، ثم وكيل الكلية لشؤون البيئة، وأخيرًا وكيل الكلية لشؤون الطلاب والدراسات العليا، كما كان فضيلته عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومشاركًا في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية.
إيجابية وقدوة حسنة
كان الشيخ رحمه الله إيجابيًا فعالاً صامدًا رمزًا للتدين الصحيح الذي انعكس على معاملته للجميع، فكان قدوة حسنة أينما حل، ففي إدارته لمناصبه العلمية جمع مرؤوسيه على الحب والتسامح حتى إن أحدهم ليذكر أنه خشي أن تؤدي طيبة الشيخ وحياؤه ونبل أخلاقه إلى تكاسل الموظفين وتراخيهم، فإذا به يجمعهم وينهي ما بينهم من مشاكل، ويحفزهم أن يخلصوا العمل لله تعالى، فإذا بهم يؤكدون أنهم لم يعملوا في حياتهم كما عملوا في فترة رئاسته لهم – رحمه الله – ويؤكدون أنه كان خير الأب والأخ، والصديق عند الشدة.
ويرجع لفضيلته الفضل في إنشاء شعبة للدراسات الإسلامية في الدراسات العليا لقسم اللغة العربية، وكان يرى حتمية وجود دراسات إسلامية في كل الكليات، لأنه بدونها لا ينشأ الشباب، كما يرجو الوطن وتتطلع الأمة، فهي التي تشكل كيانه، وتحفظ هويته، كما كان يحزنه وجود تعقيدات تحول بين عامة الطلبة والبحث في الدراسات الإسلامية.
أما مع طلبة العلم، فقد كان نعم الأب العطوف، ونعم الناصح الأمين، كان يمتاز بالخلق القويم، وكان طودًا علميًا شامخًا، وكان دومًا ينظر لصالح الإسلام أولاً وأخيرًا.
وعلى الجانب الشخصي فأستاذنا عاش زوجا ما يربو على خمسة وعشرين عامًا، كان فيها متصفًا بسمت الهدوء واللين المعروف عنه، حتى أن السيدة الفاضلة زوجته تؤكد أنه بحق كان حسنة الحياة الدنيا، فلم يحدث مطلقًا أن صدر عنه من قول أو فعل يسبب لها حزنًا أو حرجًا، فقد كان من خير الناس لأهله، كما كان لأبنائه السبعة خير ما يمكن أن يكون عليه الأب المربي الرؤوم ولا تسمع من أقاربه إلا التأكيد على أنهم لم يصادفهم في تاريخ حياتهم شخص بمكارم أخلاقه ونبله وعطائه، كما كان غاية الكرم والحفاوة مع من يعرف ومن لا يعرف، كما يشهد له جيرانه بأنه كان خير الجيران، بل حتى غير المسلمين منهم يؤكدون أنه لم يكن له نظير، وأنهم كانوا يحرصون على الاستماع إلى خطبه من مسجده بطنطا ليتعلموا ويستفيدوا من القيم العظيمة التي يدعو إليها بعيدًا عن التجريح والطعن في الآخرين.
مؤلفاته
وإذا كان ابن آدم ينقطع عمله بوفاته فإن أستاذنا العلامة الجليل سيتواصل عمله الصالح بإذن الله تعالى بما خلفه من أبناء بررة، وتلاميذ لا يكفون عن الدعاء له، ونشر علمه، وبما قدمه من صدقات جارية، وعلم ينتفع به، تمثل في الثروة الهائلة من الأحاديث الإذاعية والتليفزيونية والمؤلفات الكثيرة القيمة التي نذكر منها على سبيل المثال:
1- الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم. منهجية في التعليم.
2- كيف ننهض بالمجتمعات المسلمة المعاصرة ؟
3- الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي.
4- مرتكزات التضامن والوحدة.
5- المفاهيم الإسلامية بين النظرية والتطبيق.
6- المدخل لدراسة النظم الإسلامية.
7- مشكلة التخطيط الثقافي في المجتمعات المسلمة.
8- الالتزام الثقافي في الأدب برؤية إسلامية.
9- الداعي إلى الله: صفاته وأسلوبه.
10- هكذا علم الربانيون.
11- المتهم وحقوقه في الشريعة الإسلامية.
وله مؤلفات أخرى سواها.
وفاته
وبعد هذه الحياة العامرة بالتقوى والحافلة بالعطاء المخلص والجد والعمل ابتلي الشيخ ببعض الأمراض فقابلها بنفس راضية، وابتسامة صافية، وصبر على قضاء الله من غير تبرم ولا تسخط، حتى وافته منيته ولقي ربه في يوم الخميس الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ، أول يوليو 2004م، – رحم الله فقيدنا العزيز، وأعظم أجره، وأثقل ميزانه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته.(4/155)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صوت الأزهر (شعبان 1425هـ)
===============
محمد أنور شاه الكشميري .. المحدِّثُ الكبير
علمنا الذي نتحدث عنه اليوم هو الفقيه المجتهد محمد أنور بن معظم شاه، ولد بكشمير سنة 1292هـ وقد تربى على والديه تربية مثالية، ولذلك كان معروفًا بالتقوى وغض البصر واحترام الأساتذة، كان يقول الشيخ مولانا القاري محمد طيب رحمه الله : كنا نتعلم السنن النبوية من سيرة الشيخ أنور وكأن الأخلاق النبوية تجسدت في صورته.
ودرس على والده الشيخ غلام رسول الهزاروي كتبًا في الفقه وأصوله ولما بلغ السابعة عشرة من عمره سافر إلى ديوبند، والتحق بدار العلوم هناك وتخرج فيها سنة 1313هـ، وقد حصل على إجازة درس الحديث من شيخ السنة مولانا رشيد أحمد الكنكوهي وشيخ الهند مولانا محمود الحسن رحمه الله، ويصل سنده إلى الإمام الترمذي والشيخ ابن عابدين الحنفي .
قوة حافظته وطريقته في المطالعة :
كان الشيخ رحمه الله شديد الاستحضار قوي الحافظة، شغوفًا بالمطالعة، وقد انتهى من مطالعة (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) للحافظ العيني في شهر رمضان المبارك وأراد بذلك أن يستعد لدراسة صحيح البخاري في العام الدراسي المقبل الذي كان يبدأ في شهر شوال، وقد استوعب (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ ابن حجر مطالعة أثناء قراءته صحيح البخاري على شيخه مولانا محمود الحسن رحمه الله .
وكانت طريقته في المطالعة أنه إذا وقع في يده أي كتاب علمي مطبوعًا كان أو مخطوطًا أن يأخذه ويطالعه من غير أن يترك شيئا منه، وهو أول عالم بين علماء الهند طالع مسند الإمام أحمد بن حنبل المطبوع بمصر، فكان يطالع منه كل يوم مائتي صفحة مع نقد أحاديثه وضبط أحكامه.
مكانته العلمية :
كان الشيخ رحمه الله إمامًا في علوم القرآن والحديث، وحافظًا واعيًا لمذاهب الأئمة مع إدراك الاختلاف بينهم، وقادرًا على اختيار ما يراه صوابًا، ولم يقتصر في مطالعته على كتب علماء مدرسة بعينها - مع أنه كان حنفيًا - وإنما قرأ لعلماء مدارس مختلفة لهم انتقادات شديدة فيما بينهم، مثل الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر رحمهم الله، وقد أحاط بكتب أهل الكتاب من أسفار العهد الجديد والقديم، وطالع بالعبرية وجمع مئة بشارة من التوراة تتعلق برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
رحلاته العلمية :
سافر الشيخ رحمه الله بعد تخرجه إلى عدة مدارس، ودرس هناك عدة أعوام، وقد التقى في فرصة زيارة الحرمين الشريفين بعدد من رجال العلم، منهم الشيخ حسين الجسر الطرابلسي عالم الخلافة العثمانية صاحب الرسالة الحميدية والحصون الحميدية.
وبدأ بالتدريس في دار العلوم في ديوبند بعد عدة أعوام من رجوعه من الحرمين الشريفين، وظل مدرسًا بها حتى عام 1345 هـ، ثم رحل إلى ( داهبيل) في مقاطعة (كجرات)، وأسس بها معهدًا كبيرًا يسمى (بالجامعة الإسلامية) وإدارة تأليف تسمى (بالمجلس العلمي) .
آراء معاصريه من العلماء فيه :
وقد أثنى عليه العلماء المعاصرون، ولثناء المعاصر على المعاصر قيمة كبيرة . فقد قال الشيخ سليمان الندوي رحمه الله : هو البحر المحيط الذي ظاهره هادئ ساكن وباطنه مملوء من اللآلئ الفاخرة الثمينة.
وقال المحدث علي الحنبلي المصري رحمه الله : ما رأيت عالمًا مثل الشيخ أنور الذي يستطيع أن يجمع نظريات الإمام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وابن حزم والشوكاني رحمهم الله، ويحاكم بينهم ويؤدي حق البحث والتحقيق مع رعاية جلالة قدرهم.
جهوده في الرد على القاديانية :
قد ظهرت في العالم فتن كثيرة، وقد عمل العلماء ضدها بجهد كبير، ومن الفتن الكبرى التي وقعت في هذه البلاد (الهند) بوحي من أعداء الإسلام وتأييد منهم (نشأة الفتنة القاديانية) وقد تصدى العلماء لهذه الفتنة الملعونة، وواجهوها وجدوا في القضاء عليها في جميع البلاد. وكانت جهود الشيخ أنور رحمه الله في مواجهتهم أكثر من جهود العلماء المعاصرين لأنه لم يكن يدخر جهدًا ولا يهدأ له بال ولا يرتاح له فكر في ليل أو نهار، وكان يفكر دائماً في إيجاد الطرق الكفيلة للقضاء على هذه الطائفة فأيقظ العلماء من النوم العميق في أنحاء العالم، وحثهم على القيام بواجبهم في القضاء عليها بالتبليغ والتصنيف، وقد تيسر لأصحابه وتلامذته تأليف كتب ورسائل ضد هذه الطائفة الكاذبة باللغات المختلفة .
وقد ألف الشيخ أنور بنفسه، مؤلفات صغيرة وكبيرة حولها منها:
إكفار الملحدين .
التصريح بما تواتر في نزول المسيح .
تحية الإسلام في حياة عيسى عليه السلام .
عقيدة الإسلام في حياة عيسى .
خاتم النبيين .
وهذه كلها باللغة العربية إلا كتاب خاتم النبيين فإنه باللغة الفارسية .
آثاره :
لقد ترك الشيخ آثارًا في صورة التلامذة والكتب المؤلفة، فأما عدد تلاميذه المشهورين فيزيد على ألفين وأكتفي بذكر بعض منهم :
حضرة الأستاذ الشيخ مناظر أحسن الجيلاني رحمه الله : كان عالمًا كبيرًا ومحدثًا جليلاً ومصنفًا عظيمًا وله مصنفات كثيرة . والمحدث الكبير مولانا حفظ الرحمن السوهاروي رحمه الله . والشيخ القارىء محمد طيب رحمه الله :
ومن تصانيفه ما يلي :
أصول الدعوة الدينية، نظام الأخلاق في الإسلام، شأن الرسالة، القرآن، والحديث.
والمحدث الجليل مولانا محمد إدريس الكاندهلوي رحمه الله.
كانوا مصنفين في علوم القرآن والسنة .
أما كتبه المؤلفة غير التي ذكرتها فهي كما يلي :(4/156)
(فيض الباري شرح صحيح البخاري) في أربعة مجلدات، (عرف الشذى على جامع الترمذي)، (مشكلات القرآن)، (نيل الفرقدين في مسألة رفع اليدين)، (فصل الخطاب في مسألة أم الكتاب)، (ضرب الخاتم على حدوث العالم)، (خزائن الأسرار)، وكلها كتب باللغة العربية.
وفاته
وظل الشيخ عاكفاً على الدرس والإفادة، منقطعاً إلى مطالعة الكتب، لا يعرف اللذة في غيرها، حتى حدثت فتنة في المدرسة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف ألجأته إلى الاعتزال عن رئاسة التدريس وشياخة الحديث فيها، وغادر ديوبند بطلب من بعض تلاميذه وأصحابه فتوجه إلى ذابهيل قرية جامعة من أعمال سورت في جماعة من أصحابه وتلاميذه، وأسس له بعض التجار مدرسة فيها سموها الجامعة الإسلامية فعكف فيها على الدرس والإفادة، وانتفعت به هذه البلاد، وأمه طلبة علم الحديث والعلماء من الآفاق، وبقي يدرس ويفيد حتى برح به داء البواسير وأنهكته الأمراض، فسافر إلى ديوبند ووافاه الأجل لليلة خلت من صفر سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف، وصلى عليه جمع كبير من الطلبة والعلماء والمحبين له، ودفن قريباً من بيته عند مصلى العيد. فرحمه الله رحمة واسعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمه: تاج الدين الأزهري
==============
أحمد بن حجر .. قاضي قطر وعالمها
يعد فضيلة الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي ـ رحمه الله -، أحد رموز الدعوة الإسلامية والقضاء الشرعي في قطر طوال أكثر من نصف قرن، فقد مارس ـ رحمه الله ـ التدريس والخطابة والقضاء في رأس الخيمة ما يقرب من ربع قرن ثم تولى القضاء في قطر خمسة وثلاثين عاما.
نسبه و مولده
هو أحمد بن حجر بن محمد بن حجر بن أحمد بن حجر بن طامي بن حجر بن سند بن سعدون آل بوطامي البنعلي. ويرجع نسبه ـ رحمه الله - إلى قبيلة بني سليم، وكان بنو سليم يسكنون في حرة بني سليم قرب المدينة المنورة ثم انتقلوا إلى يبرين جنوب الإحساء ثم دارين ثم تفرقوا في أقطار شتى في الخليج وإفريقيا وفارس والهند، أما آل بوطامي فانتقلوا إلى الزبارة شمال قطر، ومنها هاجروا إلى البحرين وساحل عمان وجزيرة قيس، ولم تعرف سنة ولادة الشيخ بالتحديد وهي حوالي عام 1335 هـ،( 1915م ).
وتزوج مرة واحدة فقط وكان زواجه في رأس الخيمة سنة 1938م من ابنة سالم بن هلال المناعي، وقد أثمر ذلك الزواج ولدين هما الدكتور حجر ويوسف وبنت واحدة .
طلبه العلم
درس القرآن الكريم طفلا، كما سافر إلى الإحساء عام 1931م وهو لم يتعد السابعة عشرة من العمر، مكث الشيخ في الإحساء أربع سنوات منصرفا لطلب العلم منقطعا عما سواه، فحفظ الكثير من المتون في مختلف العلوم والفنون على أيدي علماء الإحساء.
شيوخه
لقد درس الشيخ على أيدي شيوخ أفاضل منهم :
ـ الشيخ أحمد نور بن عبد الله، والشيخ عبد الله محمد حنفي، حيث قرأ عليهما الفقه والفرائض والنحو والتجويد والعقائد.
ـ الشيخ أحمد بن علي العرفج (الفقه الشافعي).
ـ عبد العزيز بن صالح العلجي (نحو وصرف وبلاغة ومنطق وعروض وقوافي وشرح مسلم).
ـ محمد بن أبي بكر الملا (نحو وبلاغة وسبل السلام ومصطلح الحديث).
ـ عبدالعزيز بن عمر بن العكاس (عقيدة الصابوني ومشكاة الأحاديث وبهجة المحافل في السيرة النبوية).
ـ قرأ على شيخ من السودان من بلدة سنار (مصطلح الحديث).
ابن حجر والشعر
ألّف الشعر في المسائل العلمية وخاصة العقيدة، بالإضافة إلى الاجتماعية منها، ولم يكن الشيخ يرغب في أن يسمى شاعرا ولم يحتفظ بأشعاره إلا القليل من القصائد مثل :
ـ اللآلئ السنية .
ـ العقائد السلفية وقد شرح القصيدة الأخيرة في كتابة "العقائد السلفية".
توليه القضاء
بدأ ممارسة القضاء في رأس الخيمة سنة 1937 أيام حكم الشيخ سلطان بن سالم القاسمي، وفي عام 1951 عينه الشيخ صقر بن محمد القاسمي قاضيا رسميا للبلاد واستمر في القضاء حتى سنة 1956 وفي تلك السنة تلقى الشيخ دعوة من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية آنذاك ليكون مدرسا في معهد إمام الدعوة بالرياض فوافق الشيخ . وفي عام 1958 عرض عليه ان يتولى القضاء في قطر فهاجر إلى قطر واستقر بها.
كان الشيخ احمد بن حجر على علاقة وثيقة بعدد كبير من القضاة الأفاضل فكانت تربطه بهم علاقات أخوية متينة وكثيرا ما تدور بينهم مراسلات ومناقشات حول العديد من المسائل الفقهية ومن هؤلاء :
في رأس الخيمة: الشيخ محمد بن سعيد بن غباش، والشيخ احمد بن سيف بن بهيو، والشيخ مشعان بن منصور والشيخ عبدالله بن علي بن سلمان.
وفي دبي: الشيخ محمد الشنقيطي.
وفي الشارقة: الشيخ سيف بن محمد المدفع.
وفي عجمان: الشيخ عبدالله بن محمد الشيبة والشيخ عبدالكريم البكري.
وفي قطر: الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع والشيخ عبدالله بن زيد المحمود.
وفي الإحساء : الشيخ عبد العزيز بن بشر والشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش.
وفي الدمام : الشيخ محمد العمود والشيخ محمد العودة.
وفي الرياض: الشيخ عبدالعزيز بن باز والذي كان زميله في الدراسة.
وفي البحرين: الشيخ جاسم بن مهزع والشيخ عبداللطيف بن سعد.
وفي الكويت: الشيخ عبدالعزيز بن حمادة والشيخ يوسف القناعي.
التدريس(4/157)
مارس الشيخ التدريس الى جانب ممارسته للقضاء فقد كان يدرس الطلبة في مجلسه في مدينة المعيريض وكذلك في مدينة رأس الخيمة بمدرسة الهداية، والتي كان الشيخ احد مؤسسيها. وفي سنة 1954م ذهب مع الشيخ حميد بن محمد القاسمي مبعوثين من قبل الشيخ صقر بن محمد حاكم رأس الخيمة إلى حكومتي البحرين والكويت لطلب المساعدة في فتح مدارس حديثة في رأس الخيمة وتزويدها بالمدرسين، وقد استجابت الكويت للطلب فأرسلت مدرسين وكتبا. كما درّس طلبة العلم في مجلسه في قطر.
من مؤلفات الشيخ
امتاز الشيخ ابن حجر - رحمه الله - بإنتاجه الوافر وقلمه السيَّال، فقد خلَّف وراءه العديد من المؤلفات التي نفع الله بها المسلمين، وكانت محاور كتبه تدور حول علوم الشريعة الإسلامية، كالتوحيد، والفقه، وقضايا المجتمع الإسلامي، ونحو ذلك. وقد بلغت عدد مؤلفاته ثمانية وعشرين مؤلَّفًا، بعضها طبع أكثر من مرة، منها:
(1) جوهرة الفرائض (منظومة).
(2) الدرر السنية في عقد أهل السنة المرضية (منظومة).
(3) اللآلئ السنية في التوحيد والنهضة والأخلاق المرضية (منظومة).
(4) نيل الأماني شرح مباسم الغواني في نظم عزية الزنجاني في علم الصرف.
(5) تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران.
(6) الخمر وسائر المسكرات تحريمها وأضرارها.
(7) الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه.
(8) الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر.
(9) الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب.
(10) تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات.
(11) تحذير المسلمين من البدع والابتداع في الدّين.
(12) سبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة.
(13) الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر المفترى عليه.
(14) شرع العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية.
(15) إعانة القريب المجيب في اختصار الترغيب والترهيب وشرحه تحفة الحبيب.
وله مؤلفات أخرى غيرها ضربنا عنها صفحا خوف الإطالة.
وفاته رحمه الله
توفي رحمه الله في صبيحة يوم الثلاثاء الخامس من جمادى الأولى سنة 1423 هـ الموافق ل 14/6/2002 م عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عاما، بعد معاناة طويلة من المرض.
رحم الله الشيخ رحمة واسعة و أسكنه فسيح جنّاته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتيّب " علماء فقدناهم " وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية - قطر
================
الشيخ محمد حامد الفقي مؤسس" أنصار السنة
مولده ونشأته:
ولد الشيخ محمد حامد الفقي بقرية "نكلا العنب" في سنة 1310هـ الموافق 1892م بمركز شبراخيت مديرية البحيرة. نشأ في كنف والدين كريمين وحفظ القرن وسنّه وقتذاك اثني عشر عامًا، وكان والده قد قسم أولاده الكبار على المذاهب الأربعة المشهورة ليدرس كل واحد منهم مذهبًا، فجعل الابن الأكبر مالكيًا، وجعل الثاني حنفيًا، وجعل الثالث شافعيًا، وجعل الرابع وهو الشيخ محمد حامد الفقي حنبليًا، ودرس كل من الأبناء الثلاثة ما قد حُدد من قبل الوالد ما عدا الابن الرابع فلم يوفق لدراسة ما حدده أبوه فقُبل بالأزهر حنفيًا.
بدأ محمد حامد الفقي دراسته بالأزهر في عام 1322هـ ـ 1904م وكان الطلبة الصغار وقتذاك يبدؤون دراستهم في الأزهر بعلمين هما: علم الفقه، وعلم النحو.
بدأ الشيخ محمد حامد الفقي دراسته في النحو بكتاب الكفراوي وفي الفقه بكتاب مراقي الفلاح وفي سنته الثانية درس كتابي الشيخ خالد في النحو وكتاب منلا مسكين في الفقه ثم بدأ في العلوم الإضافية بالسنة الثالثة، فدرس علم المنطق وفي الرابعة درس علم التوحيد ثم درس في الخامسة مع النحو والفقه علم الصرف وفي السادسة درس علوم البلاغة وفي هذه السنة وهي سنة 1910م بدأ دراسة الحديث والتفسير وكانت سنه وقتذاك ثمانية عشر عاما فتفتح بصره وبصيرته بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسك بسنته لفظًا وروحًا.
بدايات دعوة الشيخ لنشر السنة:
لما أمعن الشيخ في دراسة الحديث على الوجه الصحيح ومطالعة كتب السلف الصالح والأئمة الكبار أمثال ابن تيمية وابن القيم وابن حجر والإمام أحمد بن حنبل والشاطبي وغيرهم، دعا إلى التمسك بسنة الرسول الصحيحة والبعد عن البدع ومحدثات الأمور وأن ما حدث لأمة الإسلام بسبب بعدها عن السنة الصحيحة وانتشار البدع والخرافات والمخالفات.
فالتف حوله نفر من إخوانه وزملائه وأحبابه واتخذوه شيخًا له وكان سنه عندها ثمانية عشر عامًا سنة 1910م بعد أن أمضى ست سنوات من دراسته بالأزهر، وهذا دلالة على نبوغ الشيخ المبكر.
وظل يدعو بحماسة من عام 1910م حتى إنه قبل أن يتخرج في الأزهر الشريف عام 1917م دعا زملاءه أن يشاركوه ويساعدوه في نشر الدعوة للسنة الصحيحة والتحذير من البدع.
ولكنهم أجابوه: بأن الأمر صعب وأن الناس سوف يرفضون ذلك فأجابهم: أنها دعوة السنة والحق والله ناصرها لا محالة.
ثم انقطع منذ تخرجه عام 1917 م إلى خدمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وحدثت ثورة 1919م وكان له موقف فيها بأن خروج الاحتلال لا يكون بالمظاهرات التي تخرج فيها النساء متبرجات والرجال ولا تحرر فيها عقيدة الولاء والبراء لله ولرسوله. ولكن بالرجوع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وترك ونبذ البدع وأنكر شعار الثورة (الدين لله والوطن للجميع).
إنشاء جماعة أنصار السنة المحمدية
أنشأ الشيخ جماعة أنصار السنة المحمدية في عام 1345هـ/ 1926م تقريبًا واتخذ لها دارًا بعابدين، ثم أنشأ مجلة الهدي النبوي وصدر العدد الأول في 1937هـ، لتكون لسان حال الجماعة والمعبرة عن عقيدتها والناطقة بمبادئها.(4/158)
وقد تولى رياسة تحريرها فكان من كتاب المجلة على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ أحمد محمد شاكر، والأستاذ محب الدين الخطيب، والشيخ محيي الدين عبد الحميد، والشيخ عبد الظاهر أبو السمح، (إمام الحرم المكي فيما بعد)، والشيخ أبو الوفاء محمد درويش، والشيخ صادق عرنوس، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والشيخ خليل هراس، كما كان من كتابها الشيخ محمود شلتوت.
صلابته في الدعوة:
يقول عنه الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "لقد ظل إمام التوحيد والدنا الشيخ محمد حامد الفقي ـ رحمه الله ـ أكثر من أربعين عامًا مجاهدًا في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب واعتاد النصر على الأحداث، بإرادة تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ به، إذ كان الخوف من الله آخذًا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يُداهن في القول ولا يداجي ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدًا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقًا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا".
عاش رحمه الله للدعوة وحدها قبل أن يعيش لشيء آخر، عاش للجماعة قبل أن يعيش لبيته، كان في دعوته يمثل التطابق التام بين الداعي ودعوته، كان صبورًا جلدًا على الأحداث، نكب في اثنين من أبنائه الثلاثة فما رأى الناس منه إلا ما يرون من مؤمن قوي أسلم لله قلبه كله.
ويقول الشيخ أبو الوفاء درويش: "كان يفسر آيات الكتاب العزيز فيتغلغل في أعماقها ويستخرج منها درر المعاني، ويشبعها بحثًا وفهمًا واستنباطًا، ويوضح ما فيها من الأسرار العميقة والإشارات الدقيقة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة، ولا يترك كلمة لقائل بعده، بعد أن يحيط القارئ أو السامع علما بالفقه اللغوي للكلمات وأصولها وتاريخ استعمالها فيكون الفهم أتم والعلم أكمل وأشمل".
كانت اخر آية فسرها في مجلة الهدي النبوي قوله تبارك وتعالى: {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11]، في حوالي 22 صفحة.
إنتاجه العلمي:
كان الشيخ محبًا لابن تيمية وابن القيم، وقد جمعت تلك المحبة لهذين الإمامين الجليلين بينه وبين الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، وكذلك جمعت بينه وبينه الشيخ شلتوت الذي جاهر بمثل ما جاهر به الشيخ حامد. ومن جهوده قيامه بتحقيق العديد من الكتب القيمة نذكر منها ما يأتي:ـ
1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم.
2 ـ مجموعة رسائل.
3 ـ القواعد النورانية الفقهية.
4 ـ المسائل الماردينية.
5 ـ المنتقى من أخبار المصطفي.
6 ـ موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول حققه بالاشتراك مع محمد محيي الدين عبد الحميد.
7 ـ نفائس تشمل أربع رسائل منها الرسالة التدمرية.
8 ـ والحموية الكبرى.
وهذه الكتب جميعها لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن كتب الإمام ابن القيم التي قام بتحقيقها نذكر:
9 ـ إغاثة اللهفان.
10 ـ المنار المنيف.
11 ـ مدارج السالكين.
12 ـ رسالة في أحكام الغناء.
13 ـ التفسير القيم.
14 ـ رسالة في أمراض القلوب.
15 ـ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.
كما حقق كتباً أخرى لمؤلفين آخرين من هذه الكتب:
16 ـ فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن آل شيخ.
17 ـ بلوغ المرام لابن حجر العسقلاني.
18 ـ جامع الأصول من أحاديث الرسول لابن الأثير.
19 ـ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية لعلي بن محمد بن عباس الدمشقي.
20 ـ الأموال لابن سلام الهروي.
21 ـ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل لعلاء الدين بن الحسن المرداوي.
22 ـ رد الإمام عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد.
23 ـ شرح الكوكب المنير.
24 ـ اختصار ابن النجار.
25 ـ الشريعة للآجري.
26 ـ العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية لمحمد ابن أحمد بن عبد الهادي.
27 ـ القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية لابن اللحام.
28 ـ مختصر سنن أبي داود للمنذري حققه بالاشتراك مع أحمد شاكر.
29 ـ معارج الألباب في مناهج الحق والصواب لحسن بن مهدي.
30 ـ تيسير الوصول إلى جامع الأصول لابن الديبع الشيباني.
وفاته:
توفي رحمه الله فجر الجمعة 7 رجب 1378هـ الموافق 16 يناير 1959م على إثر عملية جراحية أجراها بمستشفي العجوزة، وبعد أن نجحت العملية أصيب بنزيف حاد وعندما اقترب أجله طلب ماء للوضوء ثم صلى ركعتي الفجر بسورة الرعد كلها، وبعد ذلك طلب من إخوانه أن ينقل إلى دار الجماعة حيث توفي بها، وقد نعاه رؤساء وعلماء من الدول الإسلامية والعربية، وحضر جنازته واشترك في تشيعها الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والشيخ أحمد حسين، وجميع مشايخ كليات الأزهر وأساتذتها وعلمائها، وقضاة المحاكم. فرحمه الله رحمة واسعة.
================
شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي
ترجمة شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي
1286-1373هـ = 1869 - 1954(4/159)
ولد الشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الخلافة العثمانية في "توقاد" سنة 1286هـ/1869م، وتعلَّم في قيصرية على الشيخ خوجة أمين أفندي، ثم انتقل إلى استانبول لاستكمال تحصيله العلمي. وفي استانبول شدَّ الشيخ مصطفى صبري انتباه مشايخه بحدة ذكائه، وقوة حافظته، وعمق تحصيله، وعيَّن مدرسًا في جامع السلطان محمد الفاتح - أكبر جامعة إسلامية في استانبول آنذاك - وهو في الثانية والعشرين من عمره، وهو منصب مرموق يحتاج إلى جدّ واجتهاد وتحصيل، ثم أصبح أمينًا لمكتبة السلطان عبد الحميد الثاني، وقد لفت انتباه السلطان عبد الحميد إليه بسعة اطلاعه وبتميزه وهو في سن الشباب بين رجال العلم الدينيين في استانبول عاصمة الخلافة.
وقد بدأ مصطفى صبري نشاطه السياسي بعد إعلان الدستور الثاني سنة 1908م، إذ انتخب وقتذاك نائبًا عن بلدته "توقاد" في مجلس المبعوثان العثماني، وكان في هذه الفترة رئيسًا لتحرير مجلة "بيان الحق"، وهي مجلة إسلامية كانت تُصدرها الجمعية العلمية، كما عُين عضوًا في دار الحكمة الإسلامية، وبرز اسم مصطفى صبري آنئذ لمقدرته الخطابية، ودفاعه المجيد عن الإسلام، ولم يلبث أن تبين له سوء نية الاتحاديين، فانضم إلى حزب الائتلاف الذي تألف من الترك والعرب والأروام الذين يعارضون النزعة الطورانية التي اتسم بها الاتحاديون، وكان نائبًا لرئيس هذا الحزب المعارض.
ولما استفحل أمر الاتحاديين، وقوي نفوذهم، فرَّ من اضطهادهم سنة 1913م إلى مصر، حيث أقام مدة، ثم انتقل إلى بلاد أوروبة فأقام ببوخارست في رومانية إلى أن ألقت القبض عليه الجيوش التركية عندما دخلت بوخارست أثناء الحرب العالمية الأولى، وظل معتقلاً إلى أن انتهت الحرب بهزيمة تركية، وفرار زعماء الاتحاديين، فعاد الشيخ إلى نشاطه السياسي في استانبول، وعيِّن شيخًا للإسلام، وعضوًا في مجلس الشيوخ العثماني، وناب عن الصدر الأعظم الداماد فريد باشا أثناء غيابه في أوروبة للمفاوضة، وظلَّ في منصبه إلى سنة 1920م فتركه عندما اختلف مع بعض الوزراء ذوي الميول الغربية.
وعندما استولى الكماليون على العاصمة فرَّ إلى مصر سنة 1923م، ثم انتقل إلى ضيافة الملك حسين في الحجاز، ثم عاد إلى مصر حيث احتدم النقاش بينه وبين المتعصبين لمصطفى كمال، فسافر إلى لبنان، وطبع هناك كتابه "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة". ثم سافر إلى رومانية، ثم إلى اليونان؛ حيث أصدر مع ولده إبراهيم جريدة "يارين" - أي الغد - وظل يصدرها نحو خمس سنوات، حتى أخرجته الحكومة اليونانية بناء على طلب الكماليين، فعاد إلى مصر حيث اتخذها وطنًا ثانيًا.
وفي مصر عاش منافحًا عن الإسلام لا يخاف في الله لومة لائم، على الرغم من كبر سنه وفقره المدقع، مع التجمل في الظاهر والتجلد للشدائد، ولما نشرت الصحف العالمية خبر صيام غاندي أنشأ هذه الأبيات:
صام شيخ الهند الحديثة غندي.. ... ..صومة المستميت والمتحدي
وأراني على شفا الموت أُدعى.. ... ..شيخ الإسلام بله هند وسندِ
غير أن الصومين بينهما فرق.. ... ..عجيب أبديه من غير ردِّ
صام مع وُجده، وصمتُ لعدْمٍ.. ... ..دام مذ ضفت مصر كالضَّيف عندي
وغدا صومُه حديثَ جميع الناس.. ... ..أما صومي فأدريه وحدي
في سبيل الإسلام ما أنا لاق.. ... ..ولئن متُ فليعش هو بعدي
فليعش رغم مسلمي العصر دينٌ.. ... ..ضيَّعوه ولم يَفُوْهُ بعِهدِ
كان مثلي يموت جوعًا ولا يعرف.. ... ..لو كان شيخهم شيخ هندِ
آراء مصطفى صبري
وآراء مصطفى صبري موزعة في مجموعة من الكتب التي أصدرها حيث بدأ بنشر مجموعة من الكتب الصغيرة ثم جمع فلسفته وخلاصة آرائه في كتاب ضخم كبير ختم به حياته المباركة.
1- كان أول ما أصدره مصطفى صبري بالعربية (قيدته بالعربية إذ سبقه بالتركية):
(1) كتاب "يني مجددلر"(مجدوا الدين) وقد طبع في الأستانة، وصادرته الحكومة الكمالية ومنه نسخة في دار الكتب المصرية أهداها إليها الشيخ محمد زاهد الكوثري. وموضوعه الدفاع عن كثير من الأحكام الشرعية التي لا يزال يطعن فيها كفار المسلمين في حادث الأزمنة، وينتقدون بعقولهم الضئيلة تقاليد الإسلام القويمة. هذا وقد أعيد طبعه في استانبول في مطبعة السبيل بالأحرف اللاتينية، وحبذا لو ترجم إلى العربية ليستفيد منه المسلمون عمومًا.
(2) "قيمة الاجتهادات العلمية للمجتهدين المحدثين في الإسلام"، ومنه نسخة في دار الكتب المصرية مهداة من قبل الشيخ زاهد الكوثري وكيل الدرس سابقًا في المشيخة الإسلامية.
(3) وكتاب "النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة" الذي ظهر في المطبعة العباسية ببيروت سنة 1342هـ-1924.
2- ثم ألف كتاب "مسألة ترجمة القرآن" في مئة وثلاثين صفحة سنة1351هـ-1931م، وقد ناقش فيه حجج كل من الشيخ محمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي في جواز ترجمة القرآن والتعبد بها في الصلاة، وبيَّن فساد ذلك من الناحية الشرعية بأدلة كثير قوية، منبهًا على ما يترتب على المسألة من أخطار.
3- ثم ألف مصطفى صبري بعد ذلك كتاب "موقف البشر تحت سلطان القدر" سنة 1352-1932، وهو يرد فيه على ما زعمه بعض الزاعمين من أن تأخر المسلمين وتواكلهم يرجع إلى إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، وهو يلخّص مذهبه في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل:93]. فالإنسان يفعل ما يشاء ولكنه لا يشاء إلا ما شاء الله، ويقع الكتاب في 280 صفحة.(4/160)
4- ثم أصدر كتاب "قولي في المرأة" في سنة 1354-1934، وهو رد على اقتراح اللجنة التي تقدمت إلى مجلس النواب المصري، طالبة تعديل قانون الأحوال الشخصية، والأخذ بمبدأ تحرير المرأة، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، ومن الواضح أن هذه المشروعات تقوم على الاقتداء بالغرب، وإحلال ذلك محل الاقتداء بالشريعة الإسلامية، اقتناعًا بأنه أكثر ملائمة للحياة، مما كان يسمى ولا يزال: مسايرة الحضارة، والتمشي مع روح العصر.
5- ثم أصدر كتاب "القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون" في سنة 1361هـ-1942م، وقد ردَّ فيه على الماديين، الذين يشككون في وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى الذين ينكرون الغيب والنبوة والمعجزات، ومن سرت فيهم عدوى التغريب من علماء المسلمين، فذهبوا إلى تأويل المعجزات بما يساير روح العصر، الذي أصبح إيمان أكثر الناس فيه بالعلم المادي فوق إيمانهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتناول فيه بالنقد كثيرًا من مقالات العصريين، وكثيرًا من الكتب الذي ذهب أصحابها في الدفاع عن الإسلام مذهب الأوروبيين مجاراة لروح العلم فيما يظنون. وقد كان مصطفى صبري يرى أن من أخطر ما ابتلي به المدافعون عن الإسلام من الكتَّاب الذين تثقفوا بالثقافات الحديثة أن المستشرقين قد نجحوا في استدارجهم إلى اعتبار النبي صلى الله عليه وسلم عبقريًّا أو زعيمًا لا أكثر، وكذلك لاعتبار دين الإسلام مذهبًا فكريًّا أو سياسيًّا أو فلسفيًّا كغيره من الآراء والفلسفات ونفي صفة الديانة عنه، وإنكار النبوة والوحي ضمنًا. والكتاب يقع في 215 صفحة.
6- وآخر ما ظهر للمؤلف هو كتابه الكبير "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، الذي طبعه سنة 1369هـ-1950م، وهو يقع في أربعة مجلدات كبيرة يقع كل واحد منها في نحو خمس مئة صفحة، وهذا الكتاب هو خلاصة آراء المؤلف الفقهية والفلسفية والاجتماعية والسياسية.
وقد كان مصطفى صبري مدفوعًا في كل ما كتبه بما استيقنته نفسه من أن الغرب يجدُّ في محو الإسلام، وأن نجاح مكيدته في تركية نذير بانتشارها في بقية أقطار العالم الإسلامي، فهو يجاهد بكل ما وسعه من قوة لمنع المسلمين من الانحدار إلى المصير نفسه الذي صار إليه الترك على يد الكماليين، بعد أن لمس نكبتهم بيده، وجربها بنفسه، ومارسها في كفاحه السياسي الطويل، الذي تنقل فيه بين المهاجر، حتى استقر به النوى في مصر، فاتخذها مركزًا لنشاطه بعد أن خلَفت تركية في مكانها في العالم الإسلامي.
منهجه في الرد على الشبه
أما منهجه في الرد على شبهات الملحدين ودعاوى الماديين والمنحرفين عن الدين فيستند إلى أمرين:
الأول: أنه قد رأى في وضوح وتثبت، أن أهم ما يتعرض له الفكر الإسلامي الحديث من أخطار هو الغزو الثقافي الذي يهدد الشخصية الإسلامية بالاضمحلال، نتيجة لما وقر في نفوس المسلمين من إحلال للثقافة الغربية وإسراف في الاعتماد عليها والنقل عنها، وقد دعاه ذلك أن يتعقب الفكر الإسلامي الحديث بالنقد، واستمد مادته مما تُخرج المطابع من كتب ومن صحف، وبذلك صار لكتبه إلى جانب قيمتها الفكرية الإسلامية قيمة تاريخية، إذ أصبحت سجلاً صادقًا للحياة الفكرية المعاصرة، وزاد في قيمتها من هذه الناحية أن المؤلف قد جرى في كل ما كتبه على نقل النصوص التي ينقدها كاملة قبل أن يتولى الرد عليها.
وأما الثاني: فهو أنه يعتمد في مناقشاته ومناظراته على أحكام العقل كما يقره علم المنطق، وهو وإن كان علمًا يونانيًّا فقد أصَّله العرب وزادوا فيه، وفي رأيه أن المنطق أصدق أحكامًا من العلوم التجريبية وأوثق؛ لأنه حتمي، يفيد اللزوم والوجوب، وثابت لا يتغير، أما العلوم التجريبية فهي لا تفيد أكثر من الوجود الراهن الماثل، لذلك فهي كثيرة التحول والتغير لا تكاد تستقر.
وفي الختام أحب أن أنوه أن للشيخ مصطفى صبري رحمه الله تعالى مئات المقالات بالتركية والعربية نشرها على صفحات الجرائد ولم تجمع بعد.
وقد توفي الشيخ رحمه الله بمصر سنة 1373-1954م، ودفن فيها.
ــــــــــــ
حسن السماحي سويدان
===============
محمد محمد حسين.. رائدٌ سَمَا عَنِ الأَطْمَاع
لم أجد أدقَّ ولا أصدق ولا أقرب إلى الحقيقة في الحديث عن إمام الأدب الأصيل في العصر الحديث، العَلَم الذي نتحدث عنه هنا مما خطَّه بقلمه - رحمه الله رحمة واسعة - فتعال معي أخي القارئ في حديث موجز عن ميلاده ودراسته وأعماله الوظيفية.
ترجمته بقلمه:(4/161)
يقول: "ولدت في سوهاج، من مدن الصعيد في مصر سنة 1912م، وتلقيت تعليمي الابتدائي والثانوي فيها، باستثناء السنة الأولى الثانوية التي التحقت فيها بمدرسة أسيوط الثانوية؛ لأنها كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في صعيد مصر وقتذاك، وحصلت على الليسانس سنة 1937م من قسم اللغة العربية في (الجامعة المصرية)، وكذلك كان اسمها؛ لأنها كانت الجامعة الوحيدة في مصر وفي البلاد العربية وقتذاك. وعُيِّنت معيدًا في الكلية في السنة نفسها، وكُلِّفت بتدريس اثني عشر درسًا أسبوعيًّا في السنة الأولى. وكانت هذه هي السابقة الأولى التي يُعيَّن فيها معيد في سنة تخرجه ويكلف بالتدريس. ثم حصلت على (الماجستير والدكتوراه)، وانتدبت للتدريس في كلية الآداب بالإسكندرية سنة 1940م، وكانت وقتذاك فرعًا من الجامعة المصرية في القاهرة، ثم نقلت إليها بعد استقلالها سنة 1942م، وتدرجت في وظائف التدريس بها إلى أن شغلت كرسي الأستاذية سنة 1954م، وأُعرت أثناء عملي إلى الجامعة الليبية وجامعة بيروت العربية، ثم تعاقدت مع جامعة بيروت العربية بعد بلوغي سن التقاعد سنة 1972م، وظللت بها إلى أن تعاقدت مع جامعة محمد بن سعود الإسلامية سنة 1976م، حيث أعمل الآن في 2 رجب 1401هـ - 6/5/1981م.
هذا هو "محمد محمد حسين"، المفكر الأديب الناقد في تعريفه لنفسه، ولكن ماذا يقول عنه التاريخ والمؤرخون؟
لقد عاش أديبنا في زمن مبكر من النهضة الأدبية الحديثة - كما تُدعى - وكان في الساحة الأدبية والفكرية اتجاهان اثنان: اتجاه محافظ أصيل، واتجاه آخر متأثر بالغرب معجب بالغربيين وبكل ما عندهم، داعٍ إلى أن تكون أمم الشرق - وبخاصة البلاد العربية - مثل أوروبا في كل شيء.
وهذا الاتجاه الأخير كان من أعلامه بعض قادة الأدب وأعلامه في مصر زمن دراسة محمد محمد حسين، وأبرز أولئك (طه حسين) الذي كان أستاذًا لأديبنا.
وفي ظل تلك الظروف انخرط محمد حسين في هذا الاتجاه عَلِمَ أو لم يَعْلَم ويكتب متأثرًا به، وظهر ذلك جليًّا في رسالته (للدكتوراه) التي كانت بعنوان: (الهجاء والهجَّاؤون).
ولكن الله تعالى بمنه وكرمه فتح بصيرة الرجل وأنار فكره وقلبه فتبيَّن له زيف ذلك الاتجاه وانحرافه واعوجاجه، فتركه ونحا منحى آخر، وسلك طريقًا معاكسًا له، سلك مسلك الطبيب الناصح والمجاهد المخلص الذي يدعو للفضيلة بفعله قبل قوله، ويوضح معالم الخير النقي الصحيح، ويفضح خطط الباطل ودعاة الشر، ويرد على مكائدهم وأباطيلهم.
يقول رحمه الله في سياق حديثه في مقدمة كتابه: (حصوننا مهددة من داخلها): "كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين، وأنبِّه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدِعْتُ بها أنا نفسي حينًا من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم. وإن مَدَّ الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء. وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة، ثم نشرته تحت اسم (الهجاء والهجَّاؤون).
وقد كان مُصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساسًا بالكارثة التي يتردَّى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشِرَاكهم".
هذه إشارة سريعة إلى منهج الرجل واتجاهه؛ عرفنا منها صدق قوله واستقامة منهجه، وقوة عزيمته، وقد استطاع - بتوفيق الله - أن يصلح أخطاء كتابه بقدر ما وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ 1969م.
من شهادات معاصريه:
يقول الدكتور الشيخ محمد بن سعد بن حسين - وهو رفيقه في كلية اللغة العربية بالرياض لمدة سبعة أعوام تقريبًا -: "والناظر إلى كتبه بلا استثناء يجد أنها جميعًا من الموضوعات التي تَهَيَّبَ ميدانها كثيرون أو أنها موضوعات ذات حساسية في الميادين الفكرية؛ فهل تستطيع تحسس علة هذا الاتجاه والأسباب الدافعة إليه. نستطيع تلخيص ذلك في رواية ثلاثة أبيات من الشعر أحدها قول بعضهم:
وما المرء إلاَّ حيث يجعل نفسه.. ... ..فكن طالبًا في الناس أعلى المراتب
والآخر قول أبي الطَّيِّب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. ... ..وتأتي على قدر الكرام المكارم
تعظم في عين الصغير صغارها.. ... ..وتصغر في عين العظيم العظائم
فكأنه تمثل النصيحة في البيت الأول فتحقق في أعماله معنى البيتين الآخرين، لقد كان: مؤمنًا صادقًا، وتقيًّا نقيًّا، ومتعففًا مترفعًا. إذا تعارض حقه المالي مع الاحتفاظ بالكرامة قدم الاحتفاظ بالكرامة على المال. ولم أعرف أن الرجل انتصف لنفسه من المسيئين إليه، وما جدَّ في طلب أو جاه، وتلك قواصم ظهور العلماء، يشتد حين تكون الخصومة فكرية، فإذا وصلت الأمور إلى إطار الشخصيات انطوى كأنما حُدِّث في أمر مخجل".(4/162)
ويبين الدكتور إبراهيم عوضين طريقة طرح محمد محمد حسين ونقده، ودراساته وبحوثه، فيقول: "والمبدع في نقد الدكتور محمد محمد حسين أنه يأتي بالدليل الحاسم في قوة؛ فليست بحوثه ذبذبات عاطفية تعتمد على الضجيج الخطابي، ولكنها ثمرة فكر عاقل، يؤمن بالحجة، ويعتصم بالدليل، فإذا ملأ كفه من الإقناع جاء بوهج العاطفة ليحدث من التأثير البالغ ما يترك هداه في قلوب من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأحيل الدارس المتتبع إلى المجلد الثامن والعشرين من مجلة الأزهر الصادر في سنة 1376هـ، ليرى بحوث الدكتور محمد محمد حسين في هذا المضمار ناضجة الثمار شهية القطوف. والحق أن بحوثه في محاربة الحركات الهدامة في هذا العصر كانت ضرورة حتمية يوجبها الواقع المعاصر؛ حيث كان الاحتلال الإنجليزي لمصر مصدرًا خطرًا لشبهات ظالمة تلحق بالإسلام".
عالِم يدرب طلابه، ثم لا ينسى جهدهم:
لقد قاد محمد محمد حسين - رحمه الله - الصدق والأمانة وكَرَم النفس وأصالة الطبع ولطيف المعشر، لتسجيل عبرات الوفاء لمن ساهم معه في إخراج كتاب وتحقيقه ونشره، سجَّل تلك العبارات لنفر ربما كان هو صاحب الفضل عليهم وله السابقة في خدمتهم ونفعهم، بل ربما كانت جهودهم (المحدودة) معه رد جميل وبر وصلة لمعلم فاضل وأستاذ كريم لم يبخل عليهم بشيء، وقد طوَّق أعناقهم بفضائله ومكارمه.
يقول في مقدمة ديوان "الأعشى الكبير" وهو الديوان الذي حققه: "وقد كان ساعدني في إخراج هذا الكتاب في طبعته الأولى جماعة من الأصدقاء؛ فتفضل الأستاذ شوقي أمين بمعاونتي في مراجعة مسودات الطبع، وأسدى إليَّ كثيرًا من الآراء النافعة التي اقتنعت بكثير منها وأخذت به. وتفضل الزميل محمد أبو الفرج المعيد بقسم اللغة العربية في جامعة الإسكندرية بوضع الفهارس اللغوية للديوان - ويعلق في هامش الكتاب: توفي الدكتور محمد أبو الفرج في خلال العام الدراسي الماضي. أسأل الله الكريم أن يرحمه ويحسن إليه - ك ما تفضل مصطفى عبد اللطيف الشويمي الطالب بليسانس الآداب بوضع فهارس الأعلام والأماكن والقبائل والأيام، وتفضلت الآنسة عزة كرارة المتخرجة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، بترجمة المقدمة الألمانية للمستشرق (جاير) في الطبعة الأوروبية، فإلى هؤلاء جميعًا أقدم شكري الخالص".
إن في هذا لدلالة كبيرة على أن الرجل مربٍّ فاضل وليس عالمًا فقط؛ فهو يدعو بفعله قبل قوله إلى أن يُعْرَف الفضلُ لأهله؛ وهو بذلك يحفز همَّة كل قادر على العمل والبحث أن يقدم ما يستطيع؛ وليس بالضرورة أن يخرج عملاً مستقلاً بنفسه، ولكنه بإمكانه أن يشارك مع إخوانه وزملائه في إنجاز أعمال علمية؛ وله فيها - بإذن الله - أجران: فحقه أن يُشكر من قبل إخوانه، ثم إنَّ له ما هو أغلى وأسمى من ذلك وهو الأجر من الله تعالى إن خلُصت نيته وصدَق توجهه.
إن سطورًا متواضعة كهذه التي نكتب هنا لن تفي بحق عَلَم كمَن نتحدث عنه؛ ولكنها إشارات، وحَسْبنا أن نثبت فيها أسماء المصادر والمراجع لمن أراد المزيد.
وفاته:
توفي محمد محمد حسين سنة 1402هـ = 1982م، حيث بلغ من العمر سبعين سنة. وقد رثاه بعض الشعراء والأدباء، ومنهم الدكتور محمد بن سعد بن حسين بقصيدة منها:
صَمَتَ الصريرُ وجَفَّتِ الأقلامُ.. ... ..وطَوَتْ صَحَائِفَ عُمْرِكَ الأَيْامُ
هدأَ الزَّئِيرُ فَلا مَعَاركَ نَقْعُها.. ... ..وَهَجُ العُقُولِ يمدُّه الإِلْهَامُ
وَأُبِيحَ غَابٌ كُنْتَ فيهِ مُسَوَّدًا.. ... ..رَفَضَ ابنُ آوى إِذ هوى الضرغامُ
أَنَا إِنْ بَكَيْتُكَ سَاعَةً فلطالما.. ... ..ذَرِفَتْ علَيْكَ دُمُوعَها الأعْلامُ
مؤلفاته:
بلغت كتب الدكتور محمد محمد حسين المطبوعة أحَدَ عشر كتابًا، وهي:
1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (في جزأين).
2- الإسلام والحضارة الغربية.
3- أزمة العصر، وأصله ثلاثون حديثًا كتبت لتبث من إذاعة الرياض عام 1397هـ.
4- حصوننا مهددة من داخلها، وأصله مجوعة مقالات شهرية نشرت في مجلة الأزهر المصرية في عامي 1377هـ، 1378هـ.
5- الهجاء والهجَّاؤون في صدر الإسلام، وهذا الكتاب جزء من بحثه في (الدكتوراه).
6- أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار، وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) فصلان من بحث مرحلة (الماجستير).
7- شرح وتعليق على ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس).
8- المتنبي والقرامطةن وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) في الأصل محاضرة ألقاها في كلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي عام 1383هـ.
9- الهجاء والهجَّاؤون في الجاهلية.
10- مقالات في الأدب واللغة، وهذا الكتاب يحوي ستة بحوث هي:
أ - تطوير قواعد اللغة العربية.
ب - بين سينية البحترية وسينية شوقي.
ج- فقه اللغة بين الأصالة والتغريب.
د- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين التأييد والمعارضة.
هـ- أثر الأدب الغربي في الأدب العربي المعاصر.
و- اقتراحات للنهوض بمستوى اللغة العربية.
وقد طبعت تلك البحوث مجتمعة في كتاب واحد بعد وفاة المؤلف - رحمه الله - ونشرتها مؤسسة الرسالة في بيروت عام 1409هـ - 1989م بإشراف ورثة المؤلف.
11- الروحية الحديثة دعوة هدامة، وهذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية عام 1379هـ، وكانت بعنوان: الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها.
كما أن للأستاذ محمد محمد حسين مؤلفات أخرى وكتبًا بعضها لا يزال مخطوطًا، وبعضها طبع مرة واحدة فقط ثم نفد ولم يعد يوجد، ومنها:
أ- رواية الدموع.
ب- الأعشى صناجة العرب، بحثه في (الماجستير)، وهو لا يزال مخطوطًا فيما نعلم.(4/163)
ج- فتح مكة.
د- اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر، وهو في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية.
وقد لقيت كتب ورسائل هذا الأديب من طلابه وغيرهم عناية واهتمامًا، ومن أفضل من اعتنى بها كتاب نفيس بعنوان (موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة) ألفه الدكتور إبراهيم محمد عوضين، وفيه تناول المؤلف بالدراسة بعضًا من كتب محمد حسين وأبرز من خلال تلك الدراسة شجاعة أديبنا وجرأته وغيرته على الدين والعقيدة والمثل الإسلامية، وقد نشرت الكتاب مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ - 1985م، رحم الله محمد محمد حسين وغفر له.
وبعد وفاة هذا الأديب - رحمه الله - أُعِدَّتْ رسالتا (ماجستير) عن حياته وأدبه؛ فقد أعد الباحث: عليان بن دخيل الله الحازمي رسالة (ماجستير) في كلية اللغة العربية بالرياض في جامعة الإمام عام 1407هـ بعنوان: (محمد محمد حسين حياته وآثاره الفكرية والأدبية)، وبلغت صفحاتها حوالي ثمانمائة صفحة، وفي عام 1414هـ أعد الباحث محمد عبد الحميد محمد خليفة رسالة (ماجستير) في قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية بعنوان: (دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين)، وبلغت صفحاتها حوالي 330 صفحة.
ولكنَّ الرسالتين المذكورتين لم تنشرا - فيما نعلم - أسأل الله أن يوفق الأخوين الباحثين لطباعة كتابيهما ليكونا إضافة نفيسة إلى المكتبة العربية، كما نتمنى أن تجد كتب أستاذنا (محمد محمد حسين) العناية والاهتمام من القراء والباحثين وأصحاب دور النشر في البلاد العربية؛ لأن تلك الكتب تُحَدِّد معالم الأدب الأصيل، وتكشف زيف خصومه. والله الموفق والمعين.
ـــــــــــــــــــــ
بقلم:عبد العزيز بن صالح العسكر
==================
الشيخ عبد الله ناصح علوان
هو الشيخ الداعية المربي عبد الله ناصح علوان أبو سعد ، ولد رحمه الله تعالى في بلدته حلب سنة 1347هـ = 1928م، وأكب على طلب العلم منذ صغره فتلقى العلوم الطبيعية والشرعية فيها وحصل على الثانوية الشرعية سنة 1949 هـ على يد أساتذة أكْفاء وعلماء مبرِّزين.
انتقل بعد ذلك إلى الأزهر في مصر حيث أكمل تعليمه العالي وحصل على شهادة كلية أصول الدين في سنة (1952م) كما حصل على شهادة تخصص التدريس وهي تعادل الماجستير سنة 1954 هـ، وأخرج من مصر في العام نفسه.
وكان له في دمشق مصاحبة وتأثر بالشيخ الدكتور مصطفى السباعي والشيخ نايف عبّاس وسواهما من الشيوخ رحم الله الجميع.
بعد ذلك عاد إلى بلدته حلب فعيِّن فيها مدرساً لمادة التربية الإسلامية في مدارس الدولة. ثم تفرَّغ للعمل الدعوي في المساجد فكان شيخاً وخطيباً ومعلماً وقدوة للشباب وقد كان همُّه الأول رحمه الله تعالى هدايتهم وإرشادهم إلى دينهم فلم يكن له من نفسه حَظ وكان يتمنى أن يرى الأمة الإسلامية في أحسن حال وكان يتألم كثيراً لانحطاط الأمة وضياعها وتفرق كلمتها. وهو واحد من الدعاة الذين أفنَوْا عمرهم في الدعوة إلى الله تعالى والكتابة لشباب الصحوة الإسلامية .
حصل الشيخ على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية من باكستان ، كما عمل أستاذاً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة .
مؤلفاته
ترك الشيخ العديد من الآثار العلمية والدعوية والتربوية منها:
1. التكافل الاجتماعي في الإسلام
2. تعدد الزوجات في الإسلام
3. صلاح الدين الأيوبي
4. تربية الأولاد في الإسلام - كتاب مشهور في موضوعِه -
5. إلى كل أب غيور يؤمن بالله
6. فضائل الصيام وأحكامه
7. حكم التأمين في الإسلام
8. أحكام الزكاة
9. أخلاقيات الداعية
10. ثقافة الداعية
11. دور الشباب في حمل رسالة الإسلام
12. صفات الداعية النفسية
13. آداب الخطبة و الزفاف
14. الإسلام شريعة الزمان والمكان
15. الإسلام والجنس
16. الإسلام والقضية الفلسطينية
17. إلى ورثة الأنبياء والدعاة إلى الله
18. بين العمل الفردي والعمل الجماعي
19. تعدد الزوجات في الإسلام
20. حتى يعلم الشباب
21. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية
22. حكم الإسلام في التأمين
23. حكم الإسلام في وسائل الإعلام
24. نظام الرق في الإسلام
25. حين يجد المؤمن حلاوة الإيمان
26. دور الشباب في حمل رسالة الإسلام
27. شبهات و ردود حول العقيدة الربانية و أصل الإنسان
28. قصة الهداية 2 مجلد
29. القومية في ميزان الإسلام
30. معالم الحضارة الإسلامية و أثرها في النهضة الأوربية
وغيرها من المؤلفات النافعة بالإضافة إلى المحاضرات والمقالات التي كان ينشرها في المجلات والصحف الإسلامية وقد كان جل مواضيعها الحث على العمل الدعوي والإصلاح والخروج من ظلمات الانحطاط والوهن إلى عزّ الإسلام ونوره.
قال في مقدمة كتابه تربية الأولاد في الإسلام رحمه الله تعالى: (ويوم يقرر المسلمون وعلى رأسهم العلماء ورجال الدعوة إلى الله التخلّص من حب الدنيا والركون إليها والتمتع بلذائذها ويجعلون هداية الناس، وإصلاح المجتمع، والسعي إلى إقامة حكم الله في الأرض أكبر همهم ومبلغ علمهم وغاية الغايات ومنطلق العزائم والنيات. ويوم يتحررون من الجُبن والخوف وكراهية الموت، ويوقنون من قرارة نفوسهم أن الأرزاق بيد الله، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطأهم ما كان ليصيبهم، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوهم بشيء لم ينفعوهم إلا بشيء كتبه الله عليهم.
يوم يوقن المسلمون بهذا ويتحررون من أسباب الضعف والوهن فعندئذ ينطلقون في ميادين الدعوة إلى الله وفي مجالات التربية والتوجيه والإصلاح مبلغين رسالات ربهم لا يخشون أحداً سواه بل واثقين كل الثقة أنه سبحانه سينصُرُهم).(4/164)
ظلت الدعوة إلى الله ديدن الشيخ وهمَّه حتى آخر عمره وقد أصيب وهو في الستين من عمره بمرض في كبده ففتك به، ولكن الشيخ لم يضعف ولم يستسلم للمرض بل مضى يؤلف ويكتب وهو على سرير المرض... وكثيراً ما كان يخلع ثوب المستشفى ويستبدل به ملابسه العادية وييمم وجهه تجاه قاعات الجامعة لإلقاء المحاضرات ثم يعود للمستشفى.
وقد كانت حجرته في المستشفى منبر علم للسؤال والاستشارة إلى أن وافاه أجله في الخامس من محرم لعام 1408هـ الموافق له 29 آب 1987م.
قالوا عنه
يقول فيه الأستاذ الأديب الشيخ الطنطاوي في تقديمه لرسالته النافعة ( إلى ورثة الأنبياء):
( إنه - ولا أزكّيه على الله ولا أريد أن أقْصُمَ له ظهره أو عنقه - مثالُ المجاهد المكافح في النصف الثاني من هذا القرن العشرين الذي شهد ويشهد أعتى الحملات على الإسلام ورجاله... أقول: ورجاله... الرجال الذين صدعوا بالحق، ولم يبالوا بظالم، أو داعر، أو ديّوث خان دينَه وباع أمّته بدنيا سواه وكان حذاءً يحتذيه الملعونون الطغاةُ البُغاة، ثم لا يلبثون أن يخلعوه بعد أن يُفتَضَح أمرُه وتكون شتيمتُه على كل لسان...).
وقد رثاه شاعر طيبة محمد ضياء الدين الصابوني فقال :
قالوا قضى الشيخ علوان فقلت لهم .. .. ذاكم أبو سعد ألا يانفس فاعتبري
ما كنت أحسب أن الموت يرصده .. .. حتى دهاه ، ونمضي نحن بالأثر
إني لأذكر أعواماًً بصحبته .. .. فأنثني و دموع العين كالنهر
عرفته فعرفت الفضل شيمته .. .. عف الضمير سديد الرأي و النظر
رحم الله تعالى الشيخ عبد الله ناصح علوان العالم العامل وهيأ للأمة الإسلامية أمثاله وأثابه على كل ما قام به من خدمة لهذا الدين إنه سميع مجيب.
===============
عبد الرحمن الأوزاعي .. العالم المرابط
قال محمد بن عجلان: "لم أرَ أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي.." كان إذا وعظ الناس لم يبق أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو قلبه، ما رؤي ضاحكاً مقهقهاً ولا باكياً في مجلسه قط، وكان إذا خلا بكى حتى يُرحَم..
أفتى وله من العمر خمس وعشرون سنة.. ولم يزل يفتي حتى مات رحمه الله، وقد أفتى في سبعين مسألة بحدثنا وأخبرنا..
حياته ومولده
هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد، أبو عمرو الأوزاعي، نسبة إلى محلة "الأوزاع" قرية خارج باب الفراديس من قرى دمشق. ولد بمدينة بعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، ونشأ بالبقاع يتيماً في حجر أمه التي كانت تنتقل به من بلد إلى بلد. تأدّب بنفسه، فلم يكن من أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه، ولا أورع، ولا أعلم، ولا أفصح، ولا أحلم، ولا أكثر صمتاً منه. ما تكلم بكلمة إلا كان المتعين على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها، كما قال ابن كثير رحمه الله.
سكن بيروت مرابطاً إلى أن مات فيها سنة سبع وخمسين ومائة للهجرة، وعمره يومذاك سبع وستون سنة..
سمع جماعات من التابعين، كعطاء بن أبي رباح، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر، ومحمد بن المنكدر، والزهري..
وحدث عنه جماعات من سادات المسلمين، كمالك بن أنس، والثوري،والزهري، وهو من شيوخه، وأثنى عليه غير واحد من الأئمة. قال النووي رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو قدره وكمال فضله..".
وقال أبو عمرو الشامي الدمشقي: "الأوزاعي إمام أهل الشام في عصره بلا مدافعة ولا مخالفة".
وقال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "كان الأوزاعي إماماً يقتدى به".
أما سفيان بن عيينة فقال: "كان الأوزاعي إمام أهل زمانه".
كان رحمه الله كثير العبادة، حسن الصلاة، حتى قال في حقه الوليد بن مسلم: "ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة". وكان رحمه الله يقول: "من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة" أخذ ذلك من قوله تعالى: (ومن الليل فاسجدْ له وسبحه ليلاً طويلاً. إنّ هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) [الإنسان: 26-27].
كما كان، رحمه الله، إلى جانب زهده وورعه كريماً سخياً، لم يمسك شيئاً، ولم يترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه، وكان ينفق كل ما يأتيه في سبيل الله، وفي الفقراء والمساكين عدا عن كونه شديد التمسك بالسنة، فهو القائل: "العلم ماجاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم.. عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس،وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم.. اصبر على السنة، وقف حيث وقف القوم،وقل ما قالوا، وكفّ عما كفوا، وليسعك ما وسعهم..".
إلى جانب كونه قائماً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم،وقد روي عن والي بيروت عند وفاه الأوزاعي رحمه الله قوله: "رحمك الله يا أبا عمرو، فقد كنتُ أخافك أكثر ممّن ولاّني" أي: الخليفة.
وهو القائل: " لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا في قلب مؤمن.. وإذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم باب الجدل وسدّ عنهم باب العلم والعمل..".
مواقف خالدة
"فلا تحل لك إلا بطريق شرعي"..(4/165)
لما دخل عبد الله بن علي، عم السفاح العباسي، دمشق بعد القضاء على الدولة الأموية، طلب الأوزاعيَ الذي يحدثنا فيقول: دخلتُ عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة، والمسوّدة علي يمينه وشماله، معهم السيوف مسلطة، فسلمتُ عليه، فلم يردّ، ونكت بتلك الخيرزانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد، أجهاداً ورباطاً هو؟ فقلتُ: أيها الأمير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فنكت بالخيزرانة أشد من ذلك وقال: ما تقول في أموالهم؟ فقلتُ: إن كانت في أيديهم حراماً، فهي حرام عليك أيضاً، وإن كانت لهم حلالاً، فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.. فنكتَ أشد مما كان ينكت من قبل، ثم قال: ألا نولّيك القضاء؟ فقلتُ: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدؤوني به من الإحسان. فقال: كأنك تحب الانصراف؟ قلت: إن ورائي حرماً، وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي... فأمرَني بالانصراف..
(ألاّ تزر وازرة وزرَ أخرى)
ذكر صاحب كتاب "الأموال" أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك صاحب "فتوح البلدان" البلاذري وغيرهما من المؤرخين، ما أقدم عليه نفر من أهل الذمة -النصارى- في جبل لبنا أيام العباسيين من نكث للعهود وحمل للسلاح وإعلان للفتنة والتمرد، وكيف قضى على فتنتهم الوالي العباسي صالح بن علي بن عبد الله بن عباس،وكيف أقر من بقي منهم على دينهم وردّهم إلى قراهم، ثم كيف شرّد أهل القرى وأجلاهم عن قراهم رغم عدم اشتراكهم جميعاً في هذه الفتنة..
ويذكرون كيف أن إمام أهل الشام، الأوزاعي رحمه الله، لم يرضَ بما حلّ بهم، ولم يسكت عن هذا الظلم، فما كان منه إلا أن أرسل رسالة إلى الوالي يقول فيها: "... وقد كان من إجلاء أهل الذمة من أهل جبل لبنان، ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه، ممن قتلتَ بعضهم، ورددتَ باقيهم إلى قراهم ما قد علمتَ، فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم؟ وحكم الله تعالى: (ألا تزرَ وازرة وزرَ أخرى)، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به.. وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "من ظلم معاهداً أو كلَّفه فوقَ طاقته فأنا حجيجه" (أي: خصمه). وأصرّ على الوالي أن يبادر برفع هذا الظلم، وإزالة الحيف عن كاهل هؤلاء المظلومين مبيناً له ضرورة التزام مبادئ الإسلام مهما كانت الظروف.. ولقد استجاب الوالي وفعل ما طلبه الأوزاعي..
هذا على الرغم من أن الذين قاموا بالفتنة من هؤلاء النصارى نكثوا العهد، وكانوا على صلة بالبيزنطيين، يعملون لحسابهم، إضافة إلى ارتكابهم عمليات النهب والقتل وقطع الطريق وترويع الآمنين. يقول فيليب حتي اللبناني المتأمرك في كتابه (تاريخ سورية 2/165): ".. لجأت جماعة من نصارى الجبل إلى السلاح تفادياً لمصادرات جديدة تنزل بهم، منتهزين فرصة وجود الأسطول البيزنطي في مياه طرابلس، وانقضوا من قاعدتهم وانتهبوا عدداً من قرى البقاع، وكان يتزعمهم فتى قروي عظيم البنية، بلغ من جرأته وتهوره أن أقام نفسه ملكاً، لكن العصابة اللبنانية قيدت بعد حين إلى كمين قرب بعلبك، نصبته لهم فرقة فرسان عباسية وفتكت بهم.."
ولقد أوردتُ في هذا الجانب رواية فيليب حتي لأنه غير متهم بمعاداة هؤلاء بل بموالاتهم وحبهم والحدب عليهم.. ومع ذلك لم يقبل الأوزاعي، رحمه الله، ما لجأ إليه الوالي لكسر شوكتهم، احتياطاً وتحسباً لأمر قد يحدث مستقبلاً، فشردهم من القرى في الجبل وأسكتهم غيرها... وأصر عليه بضرورة التزام حكم الله عز وجل وإنفاذ سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. "وقد بلغنا أن حكم الله عز وجل أن يؤخذ العامة بعمل الخاصة، ولكن يؤخذ الخاصة بعمل العامة، ثم يبعثهم الله على أعمالهم، فأحق الوصايا أن تحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم".
موعظته للمنصور العباسي
اجتمع الأوزاعي بالمنصور العباسي حين دخل الشام - وكان الاجتماع استجابة لطلب المنصور، وبعد محاولات من الأوزاعي للتهرب- فوعظه وذكّره، وكان مما قاله: "يا أمير المؤمنين، إنك تحمل أمانة هذه الأمة، وقد عرضت على السموات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من راع يبيت غاشاً لرعيته إلا حرّم الله عليه رائحة الجنة". يا أمير المؤمنين، من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، فأعيذك يا أمير المؤمنين أن ترى قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعك مع المخالفة لأمره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد، استوهبا نفسيكما من الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". إنك عند الناس لحقيق أن تقوم فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لِمَ تُغلِق دونهم الأبواب،ولِمَ تقم عليك دونهم الحجاب؟ يا أمير المؤمنين، إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى.. إنه من طلب العز بطاعةالله رفعه الله، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه..(4/166)
ولما استأذن الأوزاعي بالانصراف، أمر له المنصور بمال يستعين به على خروجه، فرفض الأوزاعي المال، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا..
هذا غيض من فيض من مواقف وفقها الأوزاعي لله، فلا عجب أن يهابه الولاة، ولا عجب أن لم يمكنهم الله عز وجل أن يمدوا أيديهم بالأذى إليه.
رحمك الله أبا عمرو، وقيض للمسلمين في أيامهم هذه من العلماء العاملين أمثالك..
================
علامة الشام جمال الدين القاسمي
عاش العلامة جمال الدين القاسمي تسعة وأربعين عاماً بينما بلغت مؤلفاته وأعماله أكثر من مائة كتاب ورسالة ، فيالها من حياة مليئة بالعمل والعلم والإصلاح والتأليف والتصنيف!
اسمه و نسبه :
هو العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن اسماعيل بن أبي بكر ، المعروف بالقاسمي ، نسبة إلى جده.
نشأته
ولد ضحوة يوم الإثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث و ثمانين و مائتين و ألف في دمشق.
نشأ في بيت علم وفضل، فوالده كان فقيهاً ، عالماً ، أديباً ، أفاد منه الشيء الكثير وأخذ العلوم عن كثير من المشايخ فقد قرأ القرآن أولاً على الشيخ عبد الرحمن المصري ثم الكتابة تجويد الخط على الشيخ محمود القوصي.
- انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية حيث تعلم التوحيد و علوم اللغة على شيخه الشيخ رشيد قزيها المعروف بابن سنان.
ثم جوَّد القرآن على شيخ قراء الشام الشيخ أحمد الحلواني.
و قرأ على الشيخ سليم العطار شرح شذورالذهب ، وابن عقيل، وجمع الجوامع ، وتفسير البيضاوي ، وسمع منه دروساً من صحيح البخاري ، والموطأ ، ومصابيح السنة ، وأجازه شيخه إجازة عامة بجميع مروياته سنة 1301 هـ ،ولما يبلغ القاسمي حينها الثامنة عشرة من عمره .
ومن شيوخه الشيخ بكري العطار قرأ عليه كثيراً من الكتب في علوم متنوعة وأجازه هذا الشيخ أيضاً سنة 1302 هـ
ومن شيوخه الشيخ محمد الخان و الشيخ حسن جبينه الشهير بالدسوقي وغيرهم من الشيوخ
وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته ، ويتوقعون له مستقبلاً مشرقاً .
محنته
دعا الشيخ القاسمي إلى العلم ، ونبذ التعصب والتقليد ، وتصفية العقيدة مما علق بها من أفكار
وفلسفات واعتقادات دخيلة ، وإرجاع مجد الإسلام ، ورفع شأنه ، وجعله الحكم على شئون الحياة كلها.
كما دعا إلى نبذ التعصب والجمود ، وفتح باب الاجتهاد لمن ملك القدرة على ذلك ، وكثيراً ما كان يستشهد بأقوال الأئمة الأربعة للتدليل على أفكاره ، فكان يقول: "إن من يطلع على كتب هؤلاء الأربعة رحمهم الله يرفض التقليد ، لأنهم أمروا تلامذتهم بالاجتهاد ، وأن لا يجعلوا كلامهم حجة ، فكانت النتيجة أن اجتمعت عليه الجموع و لفقوا له تهمة خطيرة يستحق عليها السجن والتعذيب؟!
إنها تهمة الاجتهاد، وتأسيس مذهب جديد في الدين سموه (المذهب الجمالي) وشكلوا لذلك محكمة خاصة مثل أمامها مع لفيف من إخوانه العلماء ، كان ذلك سنة 1313ه وله من العمر ثلاثون عاماً ، ثم خلوا سبيله ثم كانت هذه المحنة سبباً في رفع قدره ومكانته وشهرته.
يقول في كتابه الاستئناس [ص 44]: "وإن الحق ليس منحصراً في قول ، ولا مذهب ، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها).
وفى كتاب إرشاد الخلق [ص 4]:يقول: "وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص والدعوة له على انفراد ، وإنما المراد إنهاض رواد العلم ، لتعرف المسائل بأدلتها".
ونظم من شعره مايرد به على بعض الجاحدين الذين اتهموه ووشوا به إلى الوالي :
زعم الناس بأن مذهبي يدعى الجمالي .. ... .. وإليه حينما أفتي الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني سلفي الانتحال.. ... .. مذهبي ما في كتاب الله ربى المتعالي
ثم ما صح من الأخبار لا قيل وقال.. ... .. أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلاً وعمى في كل حال
وقال في هذا المعنى أيضاً :
أقول كما قال الأئمة قبلنا.. ... .. صحيح حديث المصطفى هو مذهبي
أألبس ثوب القيل والقال بالياً.. ... .. و لا أتحلى بالرداء المذهب
من صفاته
لقد اتصف رحمه الله بصفات العلماء الحميدة، فكان سليم القلب ، نزيه النفس واللسان ، ناسكاً ، حليماً وفياً لإخوانه، جواداً سخياً على قلة ذات يده ، يأنس به جليسه ولا يمل حديثه ، حريصاً على الإفادة من أوقاته ولو كانت قصيرة ، فقد جمع مفكرة جميلة سماها "السوانح" حوت من الفوائد واللطائف الشيء الكثير، وكان يربي تلاميذه على حب الاعتماد على النفس، وعدم الكسب بالدين، والركون إلى الطغاة والظالمين ومسايرتهم على ضلالهم ، رغبة في عَرَضٍ من أعراض الدنيا ، ويستشهد على ذلك بابن تيمية ، فإنه عَرَضَ عليه الحاكم منصب قاضي عسكر براتب مغرٍ فأعرض عنها مخافة أن يكون عبداً وأسيراً لها.
ومن صفاته المشرقة عفة اللسان والقلم،وسعة الصدر،ورحابته، وبشاشة الوجه وطلاقته ، فقد كتب ولده الأستاذ ظافر القاسمي عن هذا الجانب فيقول: "عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم ، لم يتعرض بالأذى لأحدٍ من خصومه ، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة ، أو في مجالسه وندواته ، وكانت له طريقته في مناقشة خصومه، لم يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبره، وكثيراً ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيداً، ولا مستوضحاً، ولا مناقشاً ، بل محرجاً ، فكان يستقبلهم بصدره الواسع ، وعلمه العميق ، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجاباً وتقديراً . "(4/167)
و كان رحمه الله إماماً وخطيباً في دمشق ، وكان يلقي عدة دروس في اليوم الواحد ، للعامة والخاصة ، ويشارك في الحياة الاجتماعية ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقوم بواجبه في الدعوة والإصلاح ، والنصح والتذكير ، والنقاش والحوار ، ومواجهة البدع والخرافات ، والانحرافات والضلالات. وكان يلقبه محمد رشيد رضا بعلامة الشام.
مؤلفاته
وعن آثاره العلمية يقول ولده الأستاذ ظافر القاسمي في مقدمة كتاب قواعد التحديث عند الترجمة لأبيه: "أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المئة ، وأقدم ما عثرت عليه من مؤلفاته مجموعة سماها (السفينة) يرجع تاريخها إلى عام (1299هـ) ضم فيها طرائف من مطالعاته في الأدب، والأخلاق، و التاريخ، والشعر، و غير ذلك، وله من العمر ستة عشر عاماً، ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من بعده كيف اتسع وقته- ولم يعش إلا تسعة وأربعين عاماً -لهذا الإنتاج الضخم ، فضلاً عن تحمل مسئولية الرأي ، وترجيح الأقوال ومناقشتها ، والرجوع إلى المصادر ، وفضلاً عن أعبائه العائلية ، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد،وفضلاً عن إمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع،ودروسه العامة والخاصة، وتفقده للرحم ، ورحلاته ، وزياراته لأصدقائه ، وغير ذلك من المشاغل .
وقد ذكر الدكتور نزار أباظة في كتابه عن القاسمي 113 عنواناً من مؤلفات القاسمي رحمه الله ، مابين مطبوع ومخطوط و ما بين كتاب كبير يشتمل على مجلدات كثيرة ورسائل صغيرة قليلة الصفحات من أشهر مؤلفاته رحمه الله
محاسن التأويل وهو تفسير للقرآن الكريم ، دلائل التوحيد ، إصلاح المساجد من البدع والعوائد ، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث ، شذرة من السيرة النبوية ، رسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس ، كتاب المسح على الجوربين ، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام ، حياة البخاري ، شمس الجمال على منتخب كنز العمال ، ميزان الجرح والتعديل ، موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ،جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب .
من بليغ كلامه
- الحق يصرع إذا عُمِدَ إلى إظهاره بالسباب والشتائم .
- أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها ، وحكم الحق هو الثابت لذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به .
- التبذير في أشرف الأغراض قصد واعتدال .
-التقليد جذام فشا بين الناس ، و أخذ يفتك فيهم فتكاً ذريعاً ، بل هو مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي ، يوقع الإنسان في الخمول والكسل .
- الذكاء كالشرارة الكامنة في الزناد ، لا تظهر إلا بالقدح ، فإذا لم تحتك الأفكار بالعلوم مات ذلك النشاط والذكاء في مكامنه وانزوى في زوايا الصدور .
- المكسال شيخ في شبابه ، لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل .
- عدم تقدم الكثيرين هو من عدم محاولتهم التقدم .
- إن كتاباً يطبع خير من ألف داعية وخطيب ، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف .
وفاته
وكانت وفاته مساء السبت 23 جمادى الأولى سنة 1332 هـ ، الموافق 18/04/1914م.
ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق.
==================
الشيخ الداعية: محمد حسين يعقوب
هو الداعية الربانى أبو العلاء محمد بن حسين يعقوب، ولد فى الحادى عشر من شهر يوليو لعام 1956 م بقرية المعتمدية بمحافظة الجيزة بمصر. حصل على دبلوم المعلمين، وتزوج وهو دون العشرين من عمره، ثم سافر إلى السعودية فى الفترة من (1981 - 1985 م ). وهذه الفترة كانت البداية الحقيقية فى اتجاه الشيخ -حفظه الله- لطلب العلم الشرعى.
طلبه للعلم:
حفظ القرآن، وعمل بمركز السنة النبوية - وهو من أوائل المراكز التى عنيت بإدخال الأحاديث النبوية فى الحاسوب - وهذه الفترة مكنت الشيخ من الاطلاع على دواوين السنة لا سيما الكتب الستة، مما أثرى محصوله العلمى.
وكانت للشيخ عناية خاصة منذ البداية بكتب الأئمة كابن الجوزى وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم ، وكان للشيخ اهتمام خاص بكتب الرقائق ، والمؤلفات في التربية إذ يعتبر الشيخ واحدا من أفضل المربين.
ومع بداية التسعينات تفرغ الشيخ للدعوة إلى الله تعالى ...
شيوخه:
العلامة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ، والعلامة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- ، والشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، محمد المختار الشنقيطى، عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطى، عطية سالم، أبو بكر الجزائرى، عبد القادر شيبة الحمد، محسن العباد، رجائى المصرى المكى، أسامة عبد العظيم الشافعى المصرى -حفظهم الله جميعاً- . وقد التقى بفضيلة الشيخ/ مقبل بن هادى الوادعى -رحمه الله- بالجامعة الإسلامية بالمدينة.
إجازاته:
حصل الشيخ -حفظه الله- على إجازة فى الكتب الستة من فضيلة الشيخ/ محمد أبو خبزة التطوانى، وقد رحل الشيخ محمد حسين إليه فى بلدته تطوان بالمغرب الأقصى. كما حصل على إجازة أخرى فى الكتب الستة من فضيلة الشيخ/ حسن أبو الاشبال الزهيرى.
مصنفاته:
ألف الشيخ حفظه الله مجموعة من الكتب تناول في في أكثرها القلوب وما يتعلق بها ، وأولى الشيخ اهتماما خاصا أيضا بالشباب الذين هم أمل الأمة ومستقبلها، وبهموم الشارع المسلم وعاداته كما في دروسه ومؤلفاته عن التدخين وترك الصلاة وغيرها .. ومن مؤلفات الشيخ:(4/168)
كيف أتوب؟ - نصائح للشباب ( تهذيب غذاء الألباب للسفارينى ) - إلى الهدى ائتنا - منطلقات طالب العلم - الأخوة أيها الأخوة - صفات الأخت الملتزمة - القواعد الجلية للتخلص من العادة السرية - حرب التدخين - يا تارك الصلاة - الخطب ( صدر منها جزاءن ) ... وتحت الطبع مجموعة من الكتب كتهذيب طريق الهجرتين لابن القيم - مواجهة الشهوة - صناعة الرجال - أهوال القبر - البكاء من خشية الله.
===============
الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في سطور
الشيخ الدكتور / بكر بن عبد الله أبو زيد علم من أعلام الدعوة ، وواحد من رجالاتها ، وهو بقية المشايخ والعلماء .
مولده ونشأته
الشيخ بكر أبو زيد من قبيلة بني زيد . القبيلة القضاعية المشهورة في وسط نجد ، وهو من مدينة شقراء ، ثم الدوادمي حيث ولد فيها في أول شهر ذي الحجة عام أربعة وستين وثلاث مئة وألف من الهجرة .
نشأ نشأة كريمة في بيت صلاح وثراء وعراقة نسب .
درس في الكتّاب ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ، وأكملها في مدينة الرياض حيث واصل جميع مراحل التعليم الابتدائي ثم المعهد العلمي ثم كلية الشريعة ثم المعهد العالي للقضاء .
مشايخه
كان الشيخ بجانب دراسته النظامية يتلقى العلم عن عدد من المشايخ . فأخذ اللغة عن الشيخ صالح بن عبد الله بن مطلق القاضي المتقاعد في الرياض ، وكان يحفظ من مقامات الحريري خمسا وعشرين مقاما بشرحها لأبي العباس الشربشي ، وقد ضبطها عليه وأخذ علم الميقات ، وحفظ منظومة منظومته المتداولة على ألسنة المشايخ .
وقد انتفع انتفاعا بليغا من رحلته إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ عام ثلاثة وثمانين وثلاث مئة وألف حيث أخذ علم الميقات أيضا عن بعض المشايخ .
ولازم شيخه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - ، وقرأ عليه عددا من الرسائل ، ودرس عليه كتاب الحج من المنتقى في المسجد الحرام .
ولازم شيخه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي– رحمه الله – المتوفى سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة وألف من الهجرة عشر سنين دأب في المسجد النبوي ، وفي دروسه في عصر رمضان ، وفي منزله ، وقرأ عليه بعض تفسيره " أضواء البيان " ، والجزء الأول من " آداب البحث والمناظرة " ، ومواضع من المذكرة في أصول الفقه ، وعلم النسب من كتاب ابن عبد البر " القصد والأمم في أنساب العرب والعجم " ونبذا سواها .
وقد أثر فيه الشيخ – رحمه الله – تأثيرا بالغا حبب إليه النظر في لسان العرب ، وأصول اللغة العربية حتى صار لها التأثير الظاهر عليه في اسلوبه وبيانه ، وبالجملة فقد كان مختصا به ، وتخرج على يديه ، وكان مغرما بتحصيل الإجازات العلمية في كتب السنة ، وله ثبت في هذا .
وقد تخرج من كلية الشريعة عام ثمانية وثمانين وثلاث مئة وألف من الهجرة منتسبا ، وكان ترتيبه الأول من بين الخريجين .
واختير للقضاء فعمل قاضيا في محكمة المدينة الكبرى منذ عام ثمانية وثمانين وثلاث مئة وألف حتى نهاية عام أربع مئة وألف من الهجرة ، وفي عام تسعين وثلاث مئة وألف عُين مدرسا بالمسجد النبوي الشريف فدرس فيه الفرائض والحديث ، واستمر حتى عام أربع مئة وألف ، ثم عُين بعدها بسنة وكيلا لوزارة العدل ، واستمر في الوكالة حتى عام ثلاثة عشر وأربع مئة وألف من الهجرة ، وعُين عضوا لمجلس القضاء الأعلى بهيئته العامة ، ثم ممثلا للمملكة في مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، وعين رئيسا له منذ عام خمسة وأربع مئة وألف حتى تاريخه ، وعين أيضا عام خمسة وأربع مئة وألف عضوا في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي .
وفي عام ثلاثة عشر وأربع مئة وألف عين عضوا في هيئة كبار العلماء ، وعضوا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
وفي أثناء عمله في القضاء واصل الدراسة منتسبا في المعهد العالي للقضاء فتحصل منه على العالمية ( الماجستير ) ، والعالمية العالية ( الدكتوراة ) .
مؤلفاته
والشيخ بكر – حفظه الله – له مؤلفات عدة تمتاز بالدقة في البحث والجزالة في الأسلوب . طبع منها نحو خمسين مؤلفا منها :
1 – ابن القيم . حياته ، وآثاره ، وموارده .
2 – التقريب لعلوم ابن القيم .
3 – فقه النوازل . مجلدان .
4 – معجم المناهي اللفظية .
5 – طبقات النسابين .
6 – معرفة النسخ الحديثية .
7 – التحديث فيما لا يصح فيه حديث .
8 – حلية طالب العلم .
9 – التعالم .
10 – الرقابة على التراث .
11 – تعريب الألقاب العلمية .
12 – آداب طالب الحديث من الجامع للخطيب .
13 – التراجم الذاتية من العزاب والعلماء وغيرهم .
14 – تسمية المولود .
15 – عقيدة ابن أبي زيد القيراوني والرد على من خالفها .
16 – تصنيف الناس بين الظن واليقين .
17 – حكم الانتماء .
18 – هجر المبتدع .
19 – التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير .
20 – براءة أهل السنة من الواقع في علماء الأمة .
21 – خصائص جزيرة العرب .
22 – جزء في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء .
23 – جزء في زيارة النساء للقبور .
24 – بدع القراء .
25 – لا جديد في أحكام الصلاة .
26 – تحقيق اختيارات ابن تيمية للبرهان ابن القيم .
27 – أذكار طرفي النهار .
28 – المثامنة في العقار .
29 – آداب الهاتف .
30 – أدب الثوب والأزرة .
إلى غير ذلك .
نسأل الله للشيخ عظيم الأجر، وأن يزيده من فضله ، وأن ينفع به المسلمين ، وأن يحفظه ويجعله مباركا أين ما كان .
=============
الشيخ جاد الحق .. صاحب المواقف العظام(4/169)
الرجال مواقف وفضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - شيخ الأزهر الراحل - هو رجل المواقف العظام والشامخة والخالدة, دفاعا عن دينه وقضايا أمته ودفاعا عن الإسلام والمسلمين المستضعفين في شتي بقاع العالم.
وسيذكر التاريخ بأحرف من نور مواقف الإمام الراحل الشامخة دفاعا عن الإسلام مسجلا للأجيال القادمة شموخ هذا الرجل الذي جسد للبشرية جمعاء الدور الريادي للأزهر الشريف بعد أن أعاد الإمام الراحل للأزهر مرجعيته وقدسيته لا يخشي في ذلك لومة لائم, فقد كان (رحمه الله) مدافعا صلدا عن قضايا أمته حاملا همومها وغارق ا بمشكلاتها حتي لقي الله ومشاكل الأمة في صدره, وبعد أن أعاد للأزهر نهضته العلمية والفكرية, فانتشرت المعاهد الأزهرية في جميع قري ومدن مصر والكثير من البلدان الإسلامية.
نبذة عن حياته
ولد الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق يوم الخميس 31 من جمادي الآخرة عام 1335 الموافق الخامس من نيسان/ أبريل عام 1917 ببلدة بطرة مركز طلخا بمحافظة الدقهلية, ونشأ الإمام الراحل نشأة دينية خالصة في أسرة كريمة, حيث كان والده رجلا صالحا معروفا بالأمانة وحملها, فكان أهالي القرية يودعون لديه أشياءهم الثمينة, خوفا عليها من الضياع, وقد أثرت هذه النشأة الصالحة علي الإمام الراحل, حيث حفظ القرآن الكريم, وأجاد القراءة والكتابة في سن مبكرة جدا في كتاب القرية علي يد شيخها الراحل سيد البهنساوي, ثم التحق فضيلته بالتعليم الإعدادي بالمعهد الأزهري الأحمدي بمدينة طنطا عام 1930, حيث حصل علي الابتدائية الأزهرية عام 1934 والثانوية الأزهرية عام 1939م.
ثم التحق بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر, وحصل منها علي الشهادة العالمية عام 1934, ثم حصل علي الإجازة في القضاء الشرعي عام 1954, وقد عين الشيخ جاد الحق فور تخرجه موظفا قضائيا بالمحاكم الشرعية في كانون الثاني / يناير 1964, ثم أمينا للفتوي بدار الإفتاء عام 1953 فقاضيا بالمحاكم الشرعية عام 1954, وفي عام 1956 عين قاضيا بالمحاكم بعد إلغاء ثورة تموز/ يوليو للمحاكم الشرعية, ثم رئيسا للمحكمة عام 1971م .
وفي آب/ أغسطس 1978م عين فضيلته مفتيا للديار المصرية, وبعدها بعامين اختير عضو ا بمجمع البحوث الإسلامية, وفي الرابع من كانون ثان/ يناير عام 1982م عين فضيلته وزير ا للأوقاف المصرية وبعدها بشهرين, وفي شهر آذار/ مارس عام 1982م عين شيخا للأزهر ليصبح الإمام الثاني والأربعين للأزهر, وفي أيلول/ سبتمبر عام 1988م تم اختيار فضيلته رئيسا للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة.
مواقف جريئة وخالدة
كان لفضيلة الإمام الراحل الشيخ جاد الحق مواقف جريئة وشجاعة وصريحة في الكثير من القضايا والمشكلات المحلية والدولية تمسك فيها بموقف الإسلام, انطلاقا من رسالته الكبري كشيخ للأزهر وإمام للمسلمين.
1 - نصير الأقليات المسلمة:
كان شيخ الأزهر الراحل نصيرا للأقليات المسلمة المستضعفة في العالم, وكان في حواراته الصحفية وبياناته المتكررة في كل المناسبات الدينية ينبه إلي خطورة التحديات التي تواجه الأقليات المسلمة في العالم, ومما قال فضيلته: (إن الأقليات الإسلامية تتعرض لمحن قاتلة فهي مستضعفة في أوطانها مطرودة من ديارها ومساجدها ومدارسها مهددة بالتدمير, كما يحدث في الهند وكشمير وبورما, وبعض دول أوروبا دون ردع أو حماية من حكومات تلك البلاد, وكأن هؤلاء (الأقليات المسلمة) ليسوا من المواطنين لهم حقوق علي تلك الحكومات).
وكان فضيلته يؤكد دائما أن الأخوة الإسلامية تقتضي مؤازرة هؤلاء المستضعفين, والسعي لحماية حقوقهم, والحفاظ علي حياتهم وأموالهم في وقت تتنادي فيه الدول والشعوب بالمساواة, وتتواصي بحقوق الإنسان وبحرمة العقائد والأديان.
وكان الإمام الراحل يولي اهتماما بالغا بقضايا الأقليات المسلمة في العالم, ويطالب بوقف عمليات الاضطهاد التي يتعرضون لها, وكان له مواقف عظيمة وجريئة وشجاعة في عدد من الحالات التي تعرض فيها المسلمون للعدوان علي أرضهم وأرواحهم وعقائدهم, وأشهر هذه المواقف موقفه من العدوان الصربي علي المسلمين في البوسنة والهرسك.
فكان شيخ الأزهر الراحل عندما نشبت حرب إبادة المسلمين في البوسنة أول من أعلن أن حرب الإبادة صليبية في المقام الأول وهدفها إبادة المسلمين في البوسنة.
وكان أول من دعا لعقد مؤتمر إسلامي في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة لمناصرة شعب البوسنة والهرسك, وحضره عشرات الآلاف من المصلين, ودعا فيه إلي إقامة صلاة الغائب علي شهداء المسلمين في البوسنة, وأعلن (رحمه الله) أن مسلمي البوسنة والهرسك لا يحتاجون إلي مجاهدين بقدر حاجتهم إلي المال والسلاح, ودعا المصلين والمسلمين في شتي بقاع العالم للتبرع بالمال في سبيل الله ومناصرة شعب البوسنة.
ونجح الإمام الراحل من خلال منصبه كرئيس للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة وتأييده التام لحملة لجنة الإغاثة الإنسانية بنقابة الأطباء بمصر في أن يجمع ملايين الدولارات تم إرسالها للمجاهدين في البوسنة.
كما أوفد فضيلته وفد ا من علماء الأزهر الشريف برئاسة الشيخ جمال قطب - عضو البرلمان المصري وقتئذ - إلي البوسنة ليستقصي أحوال المسلمين هناك, ويحث المجاهدين من شعب البوسنة علي مواصلة الجهاد وعدم التنازل عن شبر واحد من أراضيهم.(4/170)
كما أجري العديد من الاتصالات مع المنظمات الدولية, ووجه سلسلة من النداءات الدولية لإنقاذ مسلمي البوسنة, وكان لفضيلته موقف شجاع في مناصرة المجاهدين في الشيشان, وقدم لهم كل الدعم المالي والمعنوي, وعندما نشبت حرب الشيشان بين الروس والشعب الشيشاني أصدر فضيلته بيانا حول تلك الحرب, حيث أكد أنه لولا تمسك شعب الشيشان بإسلامهم ما حاربهم الدب الروسي.
وقد قدم الإمام الراحل العديد من المنح الدراسية المجانية لأبناء البلدان الإسلامية المستضعفة حتي يعودا لأوطانهم دعاة للإسلام, وذلك من خلال الدراسة في الأزهر الشريف.
2 - قضية القدس:
كانت قضية القدس تشغل حيز ا كبير ا من عقل وقلب الإمام الراحل, وكان يذكر بها في كل المواقف والمناسبات مؤكد ا علي أن القدس ستظل عربية إسلامية إلي قيام الساعة رغم أنف الإسرائيليين.
وعندما قرر الكونجرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أصدر الإمام الراحل بيانا صريحا وواضحا أدان فيه العدوان الصهيوني المستمر علي القدس, وأدان فيه القرار الأمريكي, وقال: (إن أمريكا تزعم أنها صديقة كل العرب, وهي أصدق في صداقتها بإسرائيل تؤيدها وتدفعها لمزيد من العدوان علي العرب وحقوقهم, وتساعدها في وضع العراقيل نحو إتمام عملية السلام التي تتظاهر بدعمها, لكنه دعم غير عادل فهو دعم للمعتدين الظالمين واستهانة وهدم لقرارات منظمة الأمم المتحدة.
إن الأزهر الشريف يرفض هذا القرار الظالم من أمريكا, التي تسعي في إتمام عملية السلام, ولكن هذا القرار أكد أن دعاة السلام صاروا دعاة للغدر والاغتيال للأرض والعرض والمقدسات لا يرعون حقا للغير, ولا يدعون إلي خير, وإنما يسعون في الأرض فساد ا .
ورفض الإمام الراحل سياسة التطبيع مع إسرائيل ما استمرت في اغتصابها للأرض العربية, وكان مما قاله: (لا سلام مع المغتصبين اليهود, ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية), ورفض فضيلته زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتي بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م بين السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات والحكومة الصهيونية بقيادة إسحاق رابين, وأعلنها الإمام الراحل بعزة المؤمن الذي لا يخشي إلا الله.
(إن من يذهب إلي القدس من المسلمين آثم آثم.. والأولي بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلي القدس حتي تتطهر من دنس المغتصبين اليهود, وتعود إلي أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلي الصلوات, وعلي كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأسير).
وعلي أثر هذا النداء القوي من الإمام الراحل دعا البابا شنودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في مصر هو الآخر المسيحيين لعدم زيارة القدس.
وكان للإمام الراحل موقف واضح وقوي من رفض التطبيع فقد رفض أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان إبان زيارته للقاهرة, وبعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993, مما سبب حرجا شديدا للحكومة المصرية وللرئيس الصهيوني.
وكان لفضيلته مواقف شجاعة في التصدي للممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني, فأدان فضيلته الحادث الإجرامي البشع الذي قام به يهودي متطرف عندما قتل عشرات المصلين الفلسطينيين في شهر رمضان داخل الحرم الإبراهيمي عام 1994م, وقد سبق وأيد الإمام الراحل الانتفاضة الفلسطينية المباركة, والعمليات الاستشهادية للمجاهدين الفلسطينيين, مؤكد ا علي أن تحرير القدس لن يتم إلا بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
ورفض الإمام الراحل ما تردد عن حصول إسرائيل علي مياه النيل من خلال مشروع ترعة السلام, وقال مقولته الشهيرة: ؛إن حصول إسرائيل علي مياه النيل أصعب من امتلاكها سطح القمر .
وعن الأسري المصريين الذين قتلتهم إسرائيل عمد ا إبان حرب حزيران/ يونيو 1967 وأثارتها الصحافة المصرية, قال فضيلته: (القتل العمد ضد أسرانا يستحق القصاص).
3 - تمسك بحكم الإسلام في مؤتمر السكان:
يعتبر موقف الإمام الرحل من المؤتمر الدولي للسكان والتنمية, الذي عقد في القاهرة عام 1994 من المواقف الخالدة والشجاعة لفضيلته (رحمه الله) أعاد فيه للأزهر مكانته ومقامه الرفيع من القضايا الدولية باعتباره حامي حمي الإسلام والمدافع عنه ضد محاولات التغريب.
فقد أريد من قاهرة الأزهر أن تصدر قرارات تناقض تعاليم الإسلام والأديان السماوية, وتعتدي علي عفاف البشر وكرامة الإنسان, فقد تناقلت وسائل الإعلام المختلفة ونشرت الصحف العالمية قبيل انعقاد المؤتمر وثيقة المؤتمر, والتي تتضمن إباحة الشذوذ الجنسي بين الرجل والرجل وبين المرأة والمرأة, وإباحة الزنا, وحمل الصغيرات العذارى والحفاظ علي حملهن وإباحة إجهاض الزوجات الشرعيات الحرائر.
وفور علم الإمام الراحل بخطوط تلك المؤامرة الخبيثة أمر فضيلته العلماء والمختصين داخل الأزهر الشريف وخارجه بقراءة الوثيقة جيد ا, ودراسة ما فيها وتقديم تقارير عنها, ثم اجتمع فضيلته بمجمع البحوث الإسلامية عندما تأكد من صدق ما تناقلته وسائل الإعلام حول وثيقة المؤتمر لمناقشة وثيقة المؤتمر, وأصدر بيانا شديد اللهجة والصراحة يرفض وثيقة المؤتمر; لأنها تخالف شريعة الإسلام, وأكد البيان أن الإسلام لا يقر أي علاقة جنسية بغير طريق الزواج الشرعي الذي يقوم بين الرجل والمرأة, كما يحرم الإسلام الزنا واللواط والشذوذ, ويحرم إجهاض الجنين ولو عن طريق الزنا.
وأهاب البيان بالأمة الإسلامية عدم الالتزام بأي بند أو فقرة تخالف شريعة الله.(4/171)
وقد كان لبيان مجمع البحوث الإسلامية برئاسة الإمام الراحل فعل الزلزال القوي الذي أجهض المؤامرة الغربية التي تستهدف تحطيم الأخلاق الإسلامية الراسخة والتردي في هوة الفساد الجنسي, وقد سارعت الحكومة المصرية والقيادة السياسية المصرية بتبني بيان شيخ الأزهر, وأصدر الرئيس المصري حسني مبارك بيانه الذي أكد فيه أن مصر المسلمة لن تسمح للمؤتمر بأن يصدر أي قرار يصطدم مع ديننا وقيمنا, وخرج المتآمرون من قاهرة الأزهر يجرون أذيال الخيبة والفشل الذي لاحقهم في المؤتمر التالي, الذي عقد في مدينة بكين بالصين, وكان الفضل في ذلك لعزم وصلابة الإمام الراحل الشيخ جاد الحق الذي رفض وثيقة مؤتمر بكين مؤكدا أن هدف واضعي الوثيقة هو تدارك ما فاتهم في مؤتمر القاهرة.
وعندما ظهرت علي التو أول نتائج مؤتمر السكان في مصر بقيام وزير الصحة المصري بمنع ختان الإناث وتجريمه اتخذ الإمام الراحل قرارا جريئا بإعلانه بعد دراسة مستفيضة أن ختان الإناث من شعائر الإسلام ولا يجوز لأحد أن يمنعه, وتمسك الإمام الراحل بموقفه, بالرغم من الدعوي القضائية التي رفعتها ضده المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بمصر لإصداره فتوي تبيح ختان الإناث.
كما تصدي الإمام الراحل لقرار وزير التعليم المصري بمنع الحجاب في المدارس المصرية والابتدائية وضرورة موافقة ولي أمر الطالبة في المرحلة الإعدادية والثانوية علي ارتداء ابنته الحجاب, وأصدرت لجنة الفتوي بالأزهر برئاسة الإمام الراحل بيان ا أعلنت فيه أن القرار الوزاري يخالف الشريعة الإسلامية ونصوص الدستور, واستند المحامين المصريين لهذه الفتوي عند التقاضي أمام المحاكم ضد وزير التعليم المصري حتي تم إلغاء هذا القرار, وعاد الوزير إلي رشده بعد حكم القضاء بإلغاء هذا القرار.
4 - نهضة الأزهر:
شهد الأزهر الشريف في عهد الإمام الراحل نهضة كبيرة لم يشهدها في عهد من قبله.. فقد انتشرت المعاهد الأزهرية في كل قري ومدن مصر, كما لم تنتشر من قبل, فحين تولي الإمام الراحل مشيخة الأزهر عام 1982م كان عدد المعاهد الأزهرية لا يزيد عن ستمائة معهد, وبلغت عدد تلك المعاهد في عهده ستة آلاف معهد وبضع مئات, فقد زرع الإمام الراحل المعاهد الأزهرية في قري مصر, كما تزرع النخيل في الصحراء.
ولم يقف جهد الإمام الراحل علي نشر المعاهد الأزهرية في مصر, بل حرص علي انتشارها في شتي بقاع العالم الإسلامي, فأنشأ معاهد أزهرية تخضع لإشراف الأزهر في تنزانيا وكينيا والصومال وجنوب أفريقيا وتشاد ونيجيريا والمالاديف وجزر القمر.. وغيرها من البلدان الإسلامية.
كما فتح الإمام الراحل باب الأزهر واسعا أمام الطلاب الوافدين من الوطن الإسلامي وخارجه, وزاد من المنح الدراسية لهم حتي يعودوا لأوطانهم دعاة للإسلام.
ونجح الإمام الراحل في فتح فروع لجامعة الأزهر في جميع أنحاء مصر وعقدت الجامعة في عهده لأول مرة مؤتمرات دولية في قضايا طبية وزراعية وثقافية مهمة تحدد رأي الأزهر والإسلام فيها.
وعندما أصيبت مصر بزلزال تشرين أول/ أكتوبر عام 1992م وتهدم أكثر من 1500 معهد وتخلت الدولة عن تقديم الأموال الكافية لترميم تلك المعاهد, بينما أنفقت مليارات الجنيهات علي إنشاء مدارس حكومية عامة لم ييأس الإمام الراحل, وأخذ يجوب قري ومدن ونجوع مصر لحث رجال الخير والمحسنين علي التبرع بالمال لترميم تلك المعاهد وبناء معاهد جديدة.
وكان الإمام الراحل حريصا علي الدفاع عن علماء الأزهر الشريف, وإبراز الوجه المشرق لهم, انطلاقا من إيمانه الكامل بعظمة الرسالة التي يقومون بها, ورفض وصف هؤلاء العلماء بأنهم علماء سلطة, وأكد أن علماء الأزهر يجهرون بما يرونه حقا وعدلا في كل المواقف والأزمات وتاريخ علمائه وشيوخه حافل بما يؤكد ذلك, ورد علي من اتهم الأزهر وعلماءه بالتقصير في مواجهة الإرهاب والتطرف بقوله: مكنوا علماء الأزهر من منابر المساجد عندها لن يجرؤ أمير أو غفير, أو أي مدع علي الإسلام أن يعلو المنبر عندها لن يسمع عامة الناس وصفوتهم للجهلاء أن يخطبوا فيهم ويعلموهم.
ودعا الإمام الراحل بضرورة قيام علماء الأزهر الشريف بمحاورة الشباب المتطرف الذي يفهم الإسلام فهما خاطئا.
وكان آخر قرارات الإمام الراحل لنهضة الأزهر وإبراز دوره في نشر رسالة الإسلام هو تحويل الأزهر الشريف إلي مدرسة مسائية للرجال والنساء ولنشر الثقافة الإسلامية الرفيعة, ولتوضيح حقائق الدين السمحة البعيدة عن التعصب والتشرذم والداعية للحب والسلام علي شكل مركز مفتوح للدراسات الإسلامية, ويتم فيها تدريس جميع فروع العلوم الإسلامية.
مؤلفاته.. وتراثه الفكري
لفضيلة الشيخ الجليل جاد الحق (رحمه الله) العديد من المؤلفات النفسية, وهي تناهز خمسة وعشرين مؤلفا تتنوع موضوعاتها بين الكتب والرسائل الفقهية في موضوعات إسلامية وبحوث وفتاوي شرعية في قضايا معاصرة, ومن أشهر هذه المؤلفات:
1 - كتاب مع القرآن الكريم.
2 - كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ي في القرآن.
3 - كتاب الفقه الإسلامي : مرونته وتطوره.
4 - كتاب أحكام الشريعة الإسلامية في مسائل طبية عن الأمراض النسائية.
5 - كتاب بيان للناس.
6 - رسالة في الاجتهاد وشروطه ونطاقه والتقليد والتخريج.
7 - رسالة في القضاء في الإسلام.
وهاتان الرسالتان تدرسان بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية بالقاهرة ومركز الدراسات القضائية بوزارة العدل.
8 - وصدر لفضيلته من خلال الأزهر الشريف خمسة أجزاء (مجلدات) من فتاويه جمعت في حياته بعنوان: بحوث وفتاوي إسلامية في قضايا معاصرة.(4/172)
وقد أعدها الشيخ جاد الحق في 11 جزء ا , ولم يصدر منها سوي خمسة أجزاء فقط, وامتنع الأزهر بعد وفاة الشيخ الراحل عن إصدار وطبع الباقي.
9 - وللشيخ الراحل العديد من الأبحاث المستفيضة, التي تتناول قضايا الشباب والنشء والتربية الدينية, والتي قدمت للجهات المعنية بذلك منها بحثه عن الطفولة في ظل الشريعة الإسلامية, والذي أصدره مجمع البحوث الإسلامية في أيلول/ سبتمبر 5991م هدية مع مجلة الأزهر.
وفاته
توفي الإمام الراحل قبيل فجر الجمعة 25 من شوال6 141- بعد أن فرغ فضيلته من مراجعة أوراق الأزهر وبريد الجهات الرسمية الأزهرية والبريد الوارد لمكتبه من كافة أنحاء العالم..
مات (رحمه الله) ومشاكل الأمة في صدره وأوراق الأزهر في يده يقلب فيها, ومات متوضئا وهو يشرع لأداء الصلاة في الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم الجمعة, حيث شعر بدوار مفاجئ فجلس علي سريره ليستريح, ولكنه فارق الحياة بعد لحظات, وكانت وصيته أن يدفن بجوار مسجده الذي بناه في قريته بطرة, وأن يشهد غسله ويؤم صلاة الجنازة عليه الشيخ محمد متولي الشعراوي, وتم تنفيذ وصية الإمام الراحل, حيث صلي الجنازة عليه الشيخ الشعراوي الذي نعاه بقوله: لقد تعلمنا منه ألا نعصرن الدين, بل ندين العصر ، فعصرنة الدين تعني أنه غير كامل حاشا لله.
رحم الله الإمام الراحل صاحب المواقف العظام دفاعا عن الإسلام, والذي حافظ علي مرجعية وقدسية الأزهر الشريف ليظل نبراسا لصحيح الدين تتجه إليه عقول العلماء والمفكرين وأفئدة جميع المسلمين.
رحم الله عالمنا الكبير وجزاه عن الأزهر ومصر والإسلام خير ما يجزي العلماء العاملين والرجال الصالحين المخلصين
==============
الشيخ محمد أبو زهرة.. الحق على لسان رجل
حظيت الدعوة الإسلامية طوال تاريخها الطويل برجال أشداء في الحق، متجردين في العمل، بارعين في مقارعة خصوم الإسلام الحجة بالحجة.
من هؤلاء الشيخ محمد أبو زهرة الذي خاض معارك جمة من أجل الدفاع عن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، وتصدى لمشروعات تحديد النسل، وقوانين الأحوال الشخصية الوضعية، وسخر قلمه وفكره لمواجهة فتاوى إباحة الربا، ودعاة الإلحاد والإباحية في عهد شهدت فيه مصر الزخم الاشتراكي الذي حاولت السلطة أن تصبغ به كل نواحي الحياة، كما حاولت إسكات هذا الرجل الفذ باللين حينا، وبالشدة أحيانا دون جدوى؛ إذ كان لا يساوم على دينه، ولا يبيعه بعرض من الدنيا زائل.
لقد آتى الله هذا الرجل فصاحة في الحق، وبلاغة في الذود عن حياض الإسلام، أهلته لأن يقف صلبا في مواجهة السلطة في عصر أفرز عشرات من علماء السلطة الذين يدورون في فلكها، وركابها، ويروجون أفكارها.
فحين صدع ذات مرة برأي خالف هوى السلطة، دعاه الحاكم واتهمه بأنه إقطاعي يتكسب من وراء مؤلفاته، فرد عليه الشيخ أبو زهرة في جرأة صارمة: إنها مؤلفات كتبت لله، ولم تفرض على أحد، ولم تتول الدولة توزيعها قهرًا على المكتبات ودور الثقافة الحكومية لتسجن في الرفوف دون قارئ، وليكسب أصحابها من مال الدولة ما لا يحله الله.
وفي مناسبة أخرى دعي إلى مؤتمر افتتحه رئيس الدولة الداعية بكلمة عما سمي "اشتراكية الإسلام" ودعا العلماء المجتمعين إلى تأييد ما يذهب إليه، فتحير العلماء ولم يريدوا مجاهرته بما يرونه، إلا الشيخ أبو زهرة الذي طلب الكلمة في ثقة وقال: إننا نحن علماء الإسلام الذين يعرفون حكم الله في قضايا الدولة، ومشكلات الناس، وقد جئنا هنا لنصدع بما نعرف، فعلى رؤساء الدول أن يقفوا عند حدودهم، فيدعوا العلم إلى رجاله ليصدعوا بكلمة الحق، وقد تفضلت بدعوة العلماء لتسمع أقوالهم لا لتعلن رأيا لا يجدونه صوابا مهما هتف به رئيس، فلنتق الله في شرع الله.
وقد فزع رئيس الدولة فطلب عالما يخالف الشيخ في منحاه فلم يجد، وفض المؤتمر بعد الجلسة الأولى.
رحم الله الشيخ العلامة أبا زهرة الذي صان علمه عن الزيغ، وحصن فكره ضد المنافع الشخصية، ولم يخش في الحق لومة لائم.
أبو زهرة في سطور:
- محمد أحمد مصطفي أبو زهرة (1316ه- - 1394ه-) (1898 - 1974م).
- من مواليد المحلة الكبرى إحدى مدن محافظة طنطا - بالوجه البحري بمصر.
- حصل على عالمية القضاء الشرعي مع درجة أستاذ بتفوق عام 1343هـ - كما حصل على معادلة دار العلوم.
- عمل مدرسا للعلوم الشرعية والعربية في كليتي دار العلوم وأصول الدين بجامعة الأزهر والحقوق بجامعة القاهرة.
- شغل منصب أستاذ محاضر للدراسات العليا بالجامعة عام 1354 - 1935 وعضو المجلس الأعلى للبحوث العلمية ورئيس قسم الشريعة ووكيل كلية الحقوق ومعهد الدراسات الإسلامية.
- من مؤلفاته:
محاضرات في تاريخ المذاهب الإسلامية - محاضرات في النصرانية - خاتم النبيين - الأحوال الشخصية وأصول الفقه - العلاقات الدولية في الإسلام - تاريخ الجدل في الإسلام - موسوعة الفقه الإسلامي - التكافل الاجتماعي في الإسلام - الخطابة في المجتمع الإسلامي - الوحدة الإسلامية وغيرها.
قالوا عن الشيخ أبو زهرة
- كان الشيخ أبو زهرة مفزع أهل العلم في كل مشكلة تعن، وكان له من رسوخ القدم ونفاذ البصيرة وبلاغة اللسان وقوة الحجة ما يجعل أشد الناس معارضة له يكبرون فقهه، ويجلون اتجاهه.
د. محمد رجب البيومي في كتابه (النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين).
- في وجه الغمط والتجاهل نقول نحن عن الشيخ محمد أبو زهرة: إنه أمام من الأئمة، إمام وثيق في فقهه، دقيق في علمه.
- إن الرجل الذي رمق بازدراء الساسة المستبدين، وأدار وجهه عنهم مستغنيا متأبيا ينبغي أن يكون أسوة حسنة لعلماء هذا العصر إن بقي منهم أحد.(4/173)
================
وفاة الشيخ محمد صفوت نور الدين
" إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب تعالى وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . قالها رسولنا صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري عندما أُتي بابنه إبراهيم أثناء احتضاره " كالشن يتقعقع " فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد كتب الله تعالى على عباده الموت، فهو خلقهم ليبلوهم ثم يجازيهم في الآخرة بعد بعثهم من قبورهم، وما خلقهم سبحانه للبقاء في هذه الدنيا (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء:34، 35] . فقد صدمني وصدم غيري نبأ وفاة صاحب الفضيلة الشيخ محمد صفوت نور الدين " الرئيس العام لجماعة أنصار السنة بمصر" .
وقد كان الرجل بين ظهرانينا هنا بالدوحة منذ حوالي سبعة أشهر، ولكنه الموت (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف:34] .
فقد وافته المنية بمكة المكرمة (شرفها الله) ففقدنا بموته معلمًا مرشدًا صبورًا دؤوبًا بشوشًا ضحوكًا حسن الخلق .. أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا.
عرفت الشيخ أول مرة بمسجد (الحاج غريب) بمدينة الزقازيق وليس هو من مساجد أنصار السنة - إذ أن الدعوة كانت همَّ الشيخ وما كان يعبأ بالانتماءات، بل يكره التعصب، فهو صاحب رسالة يريد بها البلاغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أي مكان وعندما تحين الفرصة، فلفتني فيه الهدوء والسكينة ووضوح القضية التي يدعو إليها مع سوق الأدلة والشواهد العلمية من أحوال السلف الصالح .
وكان (رحمه الله) عادة ما ينتظره بعض الشباب بعد المحاضرة للاستفسار عن شيء في المحاضرة وعن كثير من الأمور خارجها، فكان يعطي وجهه وذهنه وتركيزه لمحدثه كأنما انقطع كاملاً عن كل شيء إلا عن محدثه، وصارت أُخوَّة في الله بيننا، بعد ذلك تزاورنا خلالها واستنرنا برأيه في كثير من الأمور فعرفته أكثر وأكثر .
وعرفته بعيدًا عن التعصب في الفقه لرأي واحد، ما دام غيره من الآراء واردًا في كتب الفقه المعتمدة وعليه من الأدلة والشواهد ما يقويه؛ مع ميل للتيسير (لا التسيب) ما دام الرأي الفقهي معروفًا عند بعض أئمة السلف مع وجود ما يقويه من الأدلة .
وعرفته مُجلاًّ لمن سبقه من العلماء خاصة منهم من كان على منهج السلف الصالح كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم .
وعرفته متبنيًّا للاجتهاد في الأمور التي تجِدُّ من أحوال الأمة فيما لم يعرف من قبل .
وعرفته كثير الحركة والتنقل بين مدن ومحافظات مصر - إذ كان ربما انتقل بين ثلاث أو خمس مدن في يوم واحد، إما دعوة إلى الله وإما إصلاحًا بين الناس أو مشاركة في خير، ولم تكن للرجل - حسب علمي - سيارة خاصة، فقد كان ينتقل بالمواصلات العامة (وما أدراك ماهية) .
وعرفته واسع الصدر، عميق الخبرة، عظيم الصبر، بالغ الحلم، خصوصًا في حل المشاكل الزوجية التي يستشيره فيها أصحابها . وكم أجرى الله على يديه من خير (رحمه الله) .
وعرفته لطيف المنطق، عفّ اللسان، متواضعًا للصغير، موقرًا للكبير .
وعرفته قريبًا من الشباب ومن مشاكلهم، متفاعلاً معهم في كل أمورهم في وقت اتخذ غيره لنفسه برحًا عاجيًا لسان حاله يقول: (من أرادني فليصعد إليَّ) فلم يستفد أحد منهم شيئًا، وماتوا وهم في عزلة تامة عن الشباب وعن مشاكله .
عرفته داعية من دعاة التوحيد، غير مستعدٍ للمساومة على أية جزئية منه، معلمًا للناس عقيدة سلف الأمة الصالح .
وعرفته مهتمًا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير أعلام الصحابة والتابعين بطريقة عملية منهجية يأخذ منها السامع القدوة والمثل .
إن مصابنا بفقد الرجل عظيم، نسأل الله تعالى أن يعوضنا بفقده خيرًا، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يجمعنا به في مستقر رحمته، وأن يرزق أهله جميعًا الصبر والاحتساب، وأن يعظم لهم الأجر.. إنه ولي ذلك والقادر عليه .
===============
الشيخ المراغي .. دعوة للإصلاح والتقريب
يعد الشيخ محمد مصطفي المراغي قيمة علمية ودينية كبيرة تستحق منا جميعًا الاحتفاء بها، والتذكير بالدور الكبير الذي لعبه الشيخ المراغي في حياتنا الفكرية والدينية في النصف الأول من القرن العشرين. فأمتنا الإسلامية في أشد الحاجة بين حين وآخر إلى تنشيط ذاكرتها، وتعريف الأجيال الناشئة والقادمة بسير أعلامها في جميع المجالات حفزًا للهمم، وتقوية للعزائم، وتواصلاً مع الأجيال، وسلوكًا على نفس الدرب من أجل خير الوطن والمواطنين.
فقد عرفت الساحة الفكرية والدينية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين الشيخ المراغي بوصفه أحد عظماء العلماء الكبار، كما عرفته مصلحًا اجتماعيًا كبيرًا ووطنيّا غيورًا دعا لإصلاح الأزهر ليكون منارة وقلعة للإسلام والمسلمين، كما دعا لإصلاح القضاء والتقريب بين المذاهب الإسلامية والتقريب بين طوائف المسلمين المختلفة.
مولده وحياته
في 9 مارس 1881م ولد الشيخ محمد مصطفى المراغي في بلدة المراغة بمحافظة سوهاج، التحق بالأزهر الشريف بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم بكتاب قريته، وتلقى العلم على يد كبار العلماء والمشايخ، واتصل بالإمام محمد عبده، وانتفع بدروسه في التاريخ والاجتماع والسياسة، وتوثقت صلته به، وسار على نهجه في الإصلاح والتجديد فيما بعد.(4/174)
تخرج الإمام المراغي من الأزهر بعد حصوله على الشهادة العالمية عام 1322هـ/ 1904م، وكان ترتيبه الأول على زملائه، وكان عمره آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، وهي سن مبكرة بالنسبة لعلماء الأزهر في ذلك الوقت.
وفي سنة التخرج اختاره أستاذه الشيخ محمد عبده ليعمل قاضيّا في مدينة دنقلة بالسودان، واستمر الشيخ المراغي في وظيفته تلك لمدة ثلاث سنوات فقط حتى عام 1907، حيث قدم استقالته من عمله بسبب خلافه المستمر مع الحاكم العسكري الإنكليزي للسودان، وعاد لمصر يتدرج في مناصب القضاء حتى تولي رئاسة المحكمة الشرعية العليا عام 1923م.
وفي عام 1928 تم تعيينه شيخًا للأزهر وهو في السابعة والأربعين من عمره، وكان معنيّا بإصلاح الأزهر، ولكنه لما وجد أن هناك عقبات كثيرة تحول ببينه وبين ذلك استقال من منصبه في أكتوبر 1929م.
وفي أبريل 1935 أعيد تعيين الشيخ المراغي شيخا للأزهر مرة أخري بعد المظاهرات الكبيرة التي قام بها طلاب الأزهر وعلماؤه للمطالبة بعودة الإمام المراغي للأزهر لتحقيق ما نادى به من إصلاح.
وظل الشيخ المراغي في منصبه شيخا للأزهر لمدة عشر سنوات إلى أن توفي في 22 أغسطس 1945.
آراؤه .. واتجاهاته الفكرية
كان الشيخ المراغي معنيّا بقضية الإصلاح والتجديد، مترسماً في ذلك خطى أستاذه محمد عبده، وقد اهتم الشيخ المراغي بإصلاح كل من الأزهر والقضاء.
(1) إصلاح القضاء: كان إصلاح القضاء هو الاهتمام الشاغل للإمام المراغي لتحقيق العدل والإصلاح بين الناس، وكان الشيخ يتبع أسلوبا جديدًا مع المتقاضين، حيث كان يحاول أن يوفق بينهما دون اللجوء للتقاضي، وكان يرى أن القاضي يستمد أحكامه وقدراته من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ولا سلطان لأحد عليه سوى الله ثم ضميره حتى يستطيع أن يؤدي رسالته في العدالة بين الناس دون الخوف من أحد، حتى ولو كان الحاكم أو السلطان.
وكان الإمام المراغي يرى أن إصلاح القانون هو إصلاح لنصف القضاء؛ لذلك شكل لجنة برئاسته تكون مهمتها إعداد قانون يكون هو الركيزة الأساسية للأحوال الشخصية في مصر.
وقد وجه الإمام المراغي أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد القانون بعدم التقيد بمذهب معين، حيث كان القضاة لايحيدون عن مذهب الإمام أبي حنيفة ، الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت ، إلى غيره من المذاهب، ولكن الإمام المراغي كان يرى بضرورة الأخذ بغيره من المذاهب إذا كان فيها ما يتفق مع المصلحة العامة للمجتمع، وكان مما قاله لأعضاء اللجنة: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، فالشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت".
(2) إصلاح الأزهر: كانت نصرة الإسلام وتطوير وإصلاح الأزهر على رأس أولويات الشيخ المراغي؛ لذلك شكل فور توليه مشيخة الأزهر لجانًا لإعادة النظر في قوانين الأزهر، ومناهج الدراسة فيه.
كما قدم قانونا لإصلاح وضع الأزهر للملك فؤاد الذي كان مشرفا على شئون الأزهر آنذاك، إلا أن بعض حاشية الملك فؤاد أوعزوا له بأن الشيخ المراغي يريد استقلال الأزهر عن القصر، فرفض الملك فؤاد القانون، وأعاده إلى الشيخ المراغي.
فما كان من الشيخ المراغي إلا أن وضع القانون الخاص بإصلاح الأزهر في ظرف، واستقالته من مشيخة الأزهر في ظرف آخر، وطلب من الملك فؤاد حرية الاختيار، فقبل الملك فؤاد الاستقالة، ولكن الإضرابات عن الدراسة التي قام بها علماء وطلاب الأزهر، والتي استمرت أكثر من 14 شهرًا أجبرت الملك فؤاد على إعادة المراغي شيخًا للأزهر مرة أخرى.
وقام الشيخ المراغي بإنشاء ثلاث كليات تكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات تتخصص إحداها في علوم العربية، وهي كلية اللغة العربية، والثانية في علوم الشريعة وهي كلية الشريعة والقانون، والثالثة في علوم أصول الدين وهي كلية أصول الدين.
وقد دعا الإمام المراغي إلى ضرورة العمل على تحرير مناهج الأزهر من التقليد والتلقين في التدريس، والأخذ بالأساليب الحديثة، والتوسع في الاجتهاد.
ودعا الطلاب إلى دراسة اللغات الأجنبية ليكونوا أكثر قدرة على نشر الإسلام والثقافة الإسلامية لغير المسلمين.
وقد شكل الإمام المراغي لجنة للفتوى داخل الجامع الأزهر تتكون من كبار العلماء تكون مهمتها الرد على الأسئلة الدينية التي تتلقاها من الأفراد والهيئات، كما شكل أكبر هيئة دينية في العالم الإسلامي، وهي جماعة كبار العلماء، والتي تتكون من ثلاثين عضوًا، واشترط الإمام المراغي في عضويتها أن يكون العضو من العلماء الذين لهم إسهام في الثقافة الدينية، وأن يقدم رسالة علمية تتسم بالجرأة والابتكار.
وقد دعا الإمام المراغي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والتقريب بين طوائف المسلمين، وبذل في سبيل ذلك بعض المحاولات منها: إجراء محادثات مع أغاخان!!! بهدف تكوين هيئة للبحث الديني تكون مهمتها توثيق الروابط بين المسلمين في جميع أنحاء العالم، وإقامة نوع من التعاون بين الهيئات التعليمية في البلدان الإسلامية، والتوفيق بين المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم وفرقهم.
شهادات بفضله
قال عنه د. محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر - بالرغم من أن حياة الشيخ المراغي كانت قصيرة، إلا أنها كانت طويلة وكبيرة بالنسبة للأعمال التي قام بها في خدمة الأزهر من إصدار قوانين، وتطوير للمناهج، وإنشاء كليات اللغة العربية، وأصول الدين، والشريعة والقانون.(4/175)
ولم يكن الإمام المراغي فلتة في عائلة، بل أحد أعضاء عائلة كلها علماء أثروا المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات والتراجم والتحقيق لكتب التراث.
وقالت عنه د. نعمات أحمد فؤاد: جمع الشيخ المراغي بين علوم الدين والعلوم الكونية، ومنها الأدب كما كتب الشعر والنثر.
كما نادى بدراسة الأديان دراسة مقارنة ضمن مناهج الأزهر لتتجلى فيها الصورة المشرفة للإسلام، كما أكد أن التقدم العلمي والفلسفي ليسا بقادرين على منع الحروب وأسبابها، فقد شهدت الأيام أن الحروب تزداد وحشية وقسوة بتقدم العلم، وأن الأديان ، وفي مقدمتها الإسلام ـ وحدها القادرة على وقف ومنع هذه الحروب.
وقال عنه: د. محمد نايل - عميد كلية اللغة العربية السابق، ورفيق الإمام المراغي (رحمه الله) - أن الإمام المراغي كان ثورة لا يهاب أحدًا في سبيل الحق.
مواقف تاريخية مشرفة في حياته
كان للإمام المراغي مواقف تاريخية مشرفة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه عالم رباني لا يخاف في الله لومة لائم.
من هذه المواقف المشرفة موقفه من الحرب العالمية الثانية، حيث رفض الإمام المراغي فكرة اشتراك مصر في هذه الحرب سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز، أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطاني، كما أعلن الإمام المراغي موقفه صراحة بقوله: "إن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأي صلة...".
وقد أحدثت كلة الإمام المراغي ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، والتي طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقف الإمام المراغي باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية.
فما كان من رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت حسين سري باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغي، وخاطبه بلهجة حادة طالبا منه أن يحيطه علما بأي شيئا يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب في إحراج الحكومة المصرية.
فرد عليه الإمام المراغي بعزة المؤمن الذي لا يخاف إلا الله قائلا : "أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟" وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت ذلك لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب.
وبعد فترة هدأت العاصفة لأن الإنجليز أرادوا أن يتفادوا الصراع مع الشيخ المراغي حتى لا يثير الرأي العام في مصر ضد القوات البريطانية المحتلة في مصر.
وقد تزعم الإمام المراغي حملة لجمع تبرعات في مصر لصالح المجاهدين في السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطاني، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصري آنذاك تقدر اليوم بحوالي ستة ملايين جنيه مصري.
ومن المواقف التاريخية المشرفة للإمام المراغي رفضه الاستجابة لطلب الملك فاروق ملك مصر، والخاص بإصدار فتوى تحرم زواج الأميرة فريدة طليقته من أي شخص آخر بعد طلاقها، فرفض الشيخ المراغي الاستجابة لطلب الملك فاروق، فأرسل الملك فاروق بعض حاشيته لكي يلحوا عليه لإصدار هذه الفتوى، فرفض الشيخ المراغي، ولما اشتد عليه المرض دخل مستشفي المواساة بالإسكندرية، وهناك زاره الملك فاروق للاطمئنان عليه من ناحية، وللإلحاح عليه مرة أخري لإصدار الفتوى الخاصة بتحريم زواج الملكة فريدة، فصاح الإمام المراغي برغم ما كان يعانيه من شدة الألم بسبب المرض قائلا : "أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم بالزواج فلا أملكه، إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله".
ولم يكن المرض ليمنع الإمام المراغي من أداء واجبه في خدمة الأزهر ليكون قلعة ومنارة للإسلام. ففي إحدى السنوات اشتد عليه المرض، وكانت فترة الامتحانات بالأزهر قد بدأت، فأصر الإمام المراغي على الذهاب يوميا لمكتبه في الأزهر، حيث كانت تطبع أوراق الامتحانات، وبرر ذلك بقوله: "إنني أتقبل تعرض صحتي للخطر وهو أمر أهون على من أن تتعرض سمعة الأزهر للخطر".
مؤلفاته
أثرى الشيخ المراغي المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات والتراجم، والتي اشتملت على برامجه الإصلاحية، وخاصة إصلاح الأزهر وقوانين الأسرة، بالإضافة لمؤلفاته ودروسه في تفسير القرآن الكريم، وبعض القضايا الفقهية واللغوية ومن أهم هذه المؤلفات.
(1) الأولياء والمحجورون: وهو بحث فقهي لا يزال مخطوطا بمكتبة الأزهر، تناول فيه الشيخ المراغي الحجر على السفهاء، وقد نال الشيخ المراغي بهذا البحث عضوية هيئة كبار العلماء.
(2) تفسير جزء تبارك: وقد قصر الشيخ المراغي من هذا التفسير أن يكون مكملاً وتكملة لتفسير جزء عم للإمام محمد عبده.
(3) بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم.
(4) رسالة بعنوان: الزمالة الإنسانية كتبها لمؤتمر الأديان في لندن.
(5) بحوث في التشريع الإسلامي وأسانيد قانون الزواج رقم 25 سنة 1929.
(6) مباحث لغوية بلاغية.
(7) دروس دينية نشرت بمجلة الأزهر تشتمل على تفسير لبعض سور القرآن الكريم، وقد ألقي الشيخ المراغي هذه الدروس في المساجد الكبري في القاهرة والإسكندرية، وحضرها الملك فاروق في الفترة من عام 1356هـ حتى عام 1364هـ، وقد نشرت هذه الدروس في كتيبات مستقلة فيما بعد.
==============
بدر الدين الحسني .. المحدث الكبير(4/176)
ولد الشيخ بدر الدين الحسني في وقت ضرب فيه الوهن الخلافة العثمانية، وانتشر الفساد في إدارتها، وعمت الفتن في جميع أجزائها، وتداعت الأمم على المسلمين كتداعي الأكلة إلى قصعتها، وشهدت ولادة الشيخ تنامي الاتجاه في بلاد الشام والعالم العربي إلى الانفصال عن الخلافة العثمانية، ولا سيما بعدما حكمها الاتحاديون الطورانيون (الدونمة). وشاهد الشيخ فيما بعد بأم عينه أكبر الأحداث ثقلاً على المسلمين، حيث جاء عليه اليوم الذي أصبح فيه الاستقلال عن الخلافة العثمانية حقيقة ماثلة أمامه بكامل بؤسها، ثم كان إلغاء الخلافة برمتها، وقامت ما سمي بـ «الثورة العربية الكبرى» على يد الشريف حسين بن علي في مكة المكرمة. وعى التحالف الغربي الأوروبي للعرب ، وتقسيم بلادهم، ثم احتلالها، حيث كان نصيب بلاده (بلاد الشام) من حصة فرنسا .
الناس كانت تترقب من يجدد لهم أمر دينهم، يلتفون حوله في أعتى ظروف تجتاح الأمة الإسلامية، وكان ذاك الرجل هو الشيخ بدر الدين الحسني، الذي لم يأت مثله منذ وفاة العلامة محمد أمين بن عابدين والذي أصبح كتابه «الحاشية» مرجع الفقه الحنفي في بلدان العالم الإسلامي.
ينتهي نسب الشيخ بدر الدين إلى حفيد رسول الله الحسن رضي الله عنه، كان لوالده الشيخ يوسف الفضل في إعادة دار الحديث، بعد أن تحولت حانة خمر لأحد نصارى الشام، إلى عهدة العلم، وهي الدار التي درس فيها علماء الأمة الكبار من أمثال ابن الصلاح والنووي والسبكي والمزّي.
بعد وفاة والده وهو ابن اثني عشر عاماً، درس في المدرسة القلبقجية بدمشق، وحفظ القرآن فيها ودرس العلوم على يد الشيخ أبو الخير الخطيب أبرز علماء دمشق آنذاك، اشتهر بحفظ نادر في الحديث النبوي وأسانيده، وعندما بدأ التدريس في جامع السادات ذاع صيته، كمحدّث، وكثر عليه الطلاب، فعينت له الدولة العثمانية راتباً إلزامياً.
عرف عنه الذكاء النادر، والفراسة الكبيرة، وحسن الخلق والتلطف، والزهد، والإيثار، والمواظبة على العلم ونشره؛ فقد أمضى حياته في الدرس والمطالعة والتدريس ما بين داره في حي النقاشات بجوار الجامع الأموي وما بين دار الحديث الأشرفية، وما بين قبة النسر في الجامع الأموي الكبير في دمشق.
قليل الكلام لا يتكلم إلاّ لضرورة، كثير العبادة، شهد له أبناء عصره بالتقوى والورع، مطبوع على مكارم الأخلاق، متمسك بما عليه السلف الصالح، كان لا يحب أن يخرج في غير هيئتهم، ويرى الإفراط في التأنق في الملبس من سفساف الأمور، وكان يراه الرجل حتى ليخال أنه واحدٌ من الصحابة أو التابعين، اقتطع من ذلك الزمان وجيء به إلينا، وهو أمر زرع له الهيبة العظيمة في النفوس، وبتواضعه الجم في غير ذل، وتعظيمه للعلماء واحترامه للناس عامتهم وخاصتهم جعله عظيم الإكبار والإجلال في قلوبهم.
الاهتمام بالشباب
كان يجد في الشباب مصير الأمة ومستقبلها، فقد كان حريصاً على التقرب إليهم والاهتمام الفائق بهم، حتى ليشار إلى خصاله بتقربه من الشباب.
التقرب إلى السلطان أو العمل في دواوينه يعني له أنه لن يستطيع أن يقول كل الحق، فما كان - لذلك - يدخل ديوان الحكومة قط إلاّ لشفاعة أو مصلحة عامة، بل كان يرسل خواص تلاميذه لينوب عنه مما يريده الشيخ ويقضي حاجته.
وهو لذلك عفٌّ عن الألقاب الكبيرة، والتفاخر بها، ذلك أنه لا يجد نفسه في العباد، وإنما في علاقته برب العباد، ولذلك عندما أرسلوا إليه عريضة يقرؤونها ليقدموها إلى الحكومة وذكر فيها تلامذته عبارة: (إن سيدنا ومولانا المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني يريد كذا وكذا...) غضب الشيخ، ومزّق الورق، فأعيدت كتابتها من غير ألقاب، فسرّ بذلك الشيخ.
وعندما شاع خبر أنه سيُخطب باسم الخليفة الأعظم على المنابر باسم الشيخ محمد بدر الدين الحسني خليفةً للمسلمين، وذلك عندما أعلن الدستور في زمن السلطان عبد الحميد الثاني، واشرأبت قلوب الناس لأن يكون الشيخ يومئذٍ خليفة للمسلمين، اتصل الخبر بالدولة العثمانية والجمعيات السياسية، فاهتمت الحكومة له، ولم يكن الشيخ على علم بذلك، وخشيت الحكومة مغبّة ذلك الأمر، فأبرق وزير الخارجية في مصر إلى والي دمشق ناظم باشا، بإجراء التحقيقات، والاحتياط لهذه القضية المهمة، ولما وصل الوالي إلى الشيخ، قال له الشيخ بدر الدين: يابا إنني لست متفرغاً إلاّ للدرس!.
صيته الذائع عن علمه وشخصيته، أحضر العلماء من كل مكان للالتقاء به، فاستمع الشيخ بخيت المطيعي إلى درسه، وقال له: لو جئتمونا إلى مصر، لافتخرت بكم مصر كلها، ولدرس عليكم علماؤها في الأزهر الشريف. وعندما زاره الشيخ محمد عبده أعجب به غاية الإعجاب..
وكان الشيخ يرى أن عزة الإسلام يجب التمسُّك بها، ولهذا عندما كان يأتيه سلطان أو والي أو ضابط جنرال لا يقوم له، فقد جاء إليه الجنرال الفرنسي غورو المندوب السامي الأول، لم يقم له الشيخ، وزاره جمال باشا فلم يقم له أيضاً، وحاول آنئذٍ أن يأخذ فتوى منه في إعدام من سموّا لاحقاً بـ «شهداء السادس من أيار» فرفض الشيخ ووعظه.
وعندما أرسل السلطان عبد الحميد الثاني باخرةً للشيخ بدر يدعوه مع من أراد لمجتمع عنده ودعى له العلماء، لما سَمع عنه من علمٍ وخلق، وزهدٍ وعبادة، فلما قرأ الكتاب المرسل إليه، قال للرسول: «يابا.. ما في إذن» وعادت الباخرة من حيث أتت فارغة.
الجهاد المقدس(4/177)
عندما تغلب الفرنسيون على البلاد، واحتلوها، أعلن الشيخ الجهاد المقدس، حتى جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد، وسافر في حملة «جهادية ضد المستعمر الفرنسي للأمة المسلمة في بلاد الشام»، وجاب الولايات الشامية من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، برفقة تلميذيه العالمين القديرين الشيخ علي الدقر، والشيخ هاشم الخطيب، داعياً إلى الثورة على الاحتلال والاضطهاد الذي وقع على المسلمين، ومحرضاً على الجهاد والقتال بحماس منقطع النظير، فما لبث أن اندلعت الثورة السورية الكبرى، والتي اعتبر منذ ذلك الوقت أباها.
كان الشيخ يجتمع بوجهاء دمشق وشجعانها، فيأتون إلى دار الحديث بكامل أسلحتهم فرساناً وركباناً، يؤدُّون أن يسلموا على الشيخ، ويتبركوا بدعائه، فيقفون قريباً من دار الحديث ينتظرون قدوم الشيخ عليهم، فينزل من غرفته ـ وكان لا ينزل إلاّ لأمر مهم ـ فيمرُّ بينهم، وهم مصطفّون أقساماً، على الخيول المطهّمة، ومشاةً مسلحين، يوجههم إلى تقوى الله عز وجل، ويدعوهم إلى طلب الفرج منه، والنصر على الأعداء، ولا يزال يمشي ويسلم عليهم وهم يتبركون به، ثم يودعهم ويرجع إلى دار الحديث فيذهبون وقد أذكى الشيخ فيهم نار الحماس، وهم يطلقون الرصاص، وتعلو أصواتهم بالأهازيج الحماسية.
أثارت دعوة الشيخ للجهاد نقمة الفرنسيين، فجاؤوا إلى دار الحديث ممثلين بالمندوب السامي الفرنسي ليثنوه عن دعوته، فقال الشيخ له: لا تهدأ هذه الثورة إلاّ بخروجكم، فغضب المندوب السامي وخرج.
كان الشيخ كثير الاهتمام بالثورة والمجاهدين، ودائم الاتصال بزعمائهم، إذ كان المجاهدان حسن الخرَّاط، الشيخ محمد الأشمر (من أشهر قادة المجاهدين) يأتيان كل صباح قبيل الفجر ليقابلا الشيخ بدار الحديث فيوجههما التوجيه المفيد، ويربط قلبيهما بالله، فيزدادان ثقة بالله واتكالاً عليه. وكان الشيخ يمدهما بالذخيرة والمؤن، وما يحتاجان إليه بطريق بعض طلابه المخلصين، وقد جعل الشيخ من يكون همزة وصل بينه وبين الثوار فيقدم له بياناً يومياً عن الثورة ومعارك الثوار.
كانت رمزية الشيخ بدر الدين وحضوره عند الثوار عظيماً، ولهذا مثلاً كانا المحكمة العسكرية التي يقيمها حسن الخراط من علماء مجاهدين لكي يقضي بالشريعة يُصدِّر حكمها باسم إمام المسلمين المحدِّث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني.
وصية قبل الوفاة
وتوفي الشيخ قبل أن يتم طرد آخر جندي فرنسي محتل من سوريا. توفي الشيخ مريضاً قبل أن يكحل عينه بيوم الجلاء، وترك وصيةً لم تخلف درهماً ولا ديناراً، ولكن موعظة بتقوى الله وخوفاً على الأمة، وحثاً على طلب العلم واحترام العلماء، فقد حضر علماء الشام ومحبوه في بيته قبيل وفاته، فأوصاهم قائلاً:
«السلام على أمة النبي ـ ونستغفر الله ما صدر منا حال وجودنا في الدنيا مع الأمة الإسلامية من التقصير في حقهم والإساءة إليهم، بل في حق عموم الخلق، ونسأل الله أن يستعملهم فيما يرضيه ويصرف عنهم كيد الأشرار والفجار ، ونستودعهم الله عز وجل في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم الذي فيه صلاحهم وعلى دنياهم التي فيها معاشهم وعلى آخرتهم التي فيها معاهدتهم ومصيرهم.
(...) وأوصيهم بالانكباب على طلب العلم لصيانته من الضياع، واحترام العلماء، والسلام على أهل السلام وكافة الناس من أولهم إلى آخرهم».
توفي الشيخ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 1354هـ، وخرجت جنازته فخرجت فيها الشام كلها، ودفن في مقبرة الباب الصغير، جنوبي دمشق، حيث قبر العلامة ابن قيم الجوزية.
......................................
تلخيص ومراجعة عبد الرحمن الحاج
================
الشيخ عبد الحميد كشك
الشيخ عبد الحميد كشك من أكثر الدعاة والخطباء شعبية في الربع الأخير من القرن العشرين ، وقد وصلت شعبيته إلى درجة أن المسجد الذي كان يخطب فيه خطب الجمعة حمل اسمه ، وكذلك الشارع الذي كان يقطن فيه بحي حدائق القبة . ودخلت الشرائط المسجل عليها خطبه العديد من بيوت المسلمين في مصر والعالم العربي.
والشيخ عبد الحميد كشك ولد بمصر عام 1933م في قرية شبراخيت من أعمال محافظة البحيرة بجمهورية مصر العربية . ومرض وهو صغير وبسبب المرض فقد نعمة البصر .
وقد ولد في أسرة فقيرة وكان أبوه بعيش بالإسكندرية، وحفظ القرآن الكريم ولم يبلغ الثامنة من عمره ، وحصل على الشهادة الابتدائية ، ثم حصل على الشهادة الثانوية الأزهرية بتفوق والتحق بكلية أصول الدين وحصل على شهادتها بتفوق أيضًا .
وفي أوائل الستينيات عين خطيبًا في مسجد " الطيبي " التابع لوزارة الأوقاف بحي السيدة بالقاهرة، ومثل الأزهر في عيده العام عام 1961، وفي عام 1964 صدر قرار بتعيينه إمامًا لمسجد عين الحياة بشارع مصر والسودان في منطقة دير الملاك بعد أن تعرض للاعتقال عام 1966 خلال محنة الإسلاميين في ذلك الوقت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر .
وقد أودع سجن القلعة ثم نقل بعد ذلك إلى سجن طرة وأُطلق سراحه عام 1968. وقد تعرض لتعذيب وحشي في هذه الأثناء ورغم ذلك احتفظ بوظيفته إمامًا لمسجد عين الحياة .
وفي عام 1972 بدأ يكثف خطبه وزادت شهرته بصورة واسعة وكان يحضر الصلاة معه حشود هائلة من المصلين . ومنذ عام 1976 بدأ الاصطدام بالسلطة ـ وخاصة بعد معاهدة كامب ديفيد ـ حيث اتهم الحكومة بالخيانة للإسلام وأخذ يستعرض صور الفساد في مصر من الناحية الاجتماعية والفنية والحياة العامة .(4/178)
وقد ألقى القبض عليه في عام 1981 مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر الشهيرة للرئيس المصري محمد أنور السادات ، وقد أفرج عنه عام 1982 ولم يعد إلى مسجده الذي منع منه كما منع من الخطابة أو إلقاء الدروس .
رفض الشيخ عبد الحميد كشك مغادرة مصر إلى أي من البلاد العربية أو الإسلامية رغم الإغراء إلا لحج بيت الله الحرام عام 1973م. وتفرغ للتأليف حتى بلغت مؤلفاته 115مؤلفًا ، على مدى 12 عامًا أي في الفترة ما بين 1982 وحتى صيف 1994، منها كتاب عن قصص الأنبياء، وآخر عن الفتاوى، وقد أتم تفسير القرآن الكريم تحت عنوان " في رحاب القرآن " ، كما أن له حوالي ألفي شريط كاسيت هي جملة الخطب التي ألقاها على منبر مسجد " عين الحياة " .
وكان للشيخ كشك بعض من آرائه الإصلاحية للأزهر إذ كان ينادي بأن يكون منصب شيخ الأزهر بالانتخابات لا بالتعيين، وأن يعود الأزهر إلى ما كان عليه قبل قانون التطوير عام 1961، وأن تقتصر الدراسة فيه على الكليات الشرعية وهي أصول الدين واللغة العربية والدعوة ، وكان الشيخ عبد الحميد يرى أن الوظيفة الرئيسية للأزهر هي تخريج دعاة وخطباء للمساجد التي يزيد عددها في مصر على مائة ألف مسجد . ورفض كذلك أن تكون رسالة المسجد تعبدية فقط ، وكان ينادي بأن تكون المساجد منارات للإشعاع فكريًا واجتماعيًا .
وقد لقي ربه وهو ساجد قبيل صلاة الجمعة في 6/12/1996 وهو في الثالثة والستين من عمره رحمه الله رحمة واسعة .
==============
العلامة عبد العزيز بن باز
أولا: اسمه ونسبه
هو الإمام الصالح الورع الزاهد أحد الثلة المتقدمين بالعلم الشرعي ، ومرجع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، في الفتوى والعلم ، وبقية السلف الصالح في لزوم الحق والهدي المستقيم ، واتباع السنة الغراء : عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز ، وآل باز - أسرة عريقة في العلم والتجارة والزراعة معروفة بالفضل والأخلاق قال الشيخ " سليمان بن حمدان " - رحمه الله - في كتابه حول تراجم الحنابلة : أن أصلهم من المدينة النبوية ، وأن أحد أجدادهم انتقل منها إلى الدرعية ، ثم انتقلوا منها إلى حوطة بني تميم .
ثانيا: مولده
ولد في الرياض عاصمة نجد يوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة عام ألف وثلاثمائة وثلاثين من الهجرة النبوية ، وترعرع فيها وشب وكبر ، ولم يخرج منها إلا ناويا للحج والعمرة .
ثالثا: نشأته
نشأ سماحة الشيخ عبد العزيز في بيئة عطرة بأنفاس العلم والهدى والصلاح ، بعيدة كل البعد عن مظاهر الدنيا ومفاتنها ، وحضاراتها المزيفة ، إذ الرياض كانت في ذلك الوقت بلدة علم وهدى فيها كبار العلماء ، وأئمة الدين ، من أئمة هذه الدعوة المباركة التي قامت على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأعني بها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وفي بيئة غلب عليها الأمن والاستقرار وراحة البال ، بعد أن استعاد الملك عبد العزيز - رحمه الله - الرياض ووطد فيها الحكم العادل المبني على الشرعة الإسلامية السمحة بعد أن كانت الرياض تعيش في فوضى لا نهاية لها ، واضطراب بين حكامها ومحكوميها .
ففي هذه البيئة العلمية نشأ سماحته - رحمه الله - ولا شك ولا ريب أن القرآن العظيم كان ولا يزال - ولله الحمد والمنة - هو النور الذي يضيء حياته ، وهو عنوان الفوز والفلاح فبالقرآن الكريم بدأ الشيخ دراسته - كما هي عادة علماء السلف - رحمهم الله - إذ يجعلون القرآن الكريم أول المصادر العلمية - فيحفظونه ويتدبرونه أشد التدبر ، ويعون أحكامه وتفاسيره ، ومن ثمَّ ينطلقون إلى العلوم الشرعية الأخرى ، فحفظ الشيخ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ ، فوعاه وحفظه تمام الحفظ ، وأتقن سوره وآياته أشد الإتقان ، ثم بعد حفظه لكتاب الله ، ابتدأ سماحته في طلب العلم على يد العلماء بجد وجلد وطول نفس وصبر .
ومن الجدير بالذكر والتنويه في أمر نشأته ، أن لوالدته - رحمها الله - أثرا بالغا ، ودورا بارزا في اتجاهه للعلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه ، فكانت تحثه وتشد من أزره ، وتحضه على الاستمرار في طلب العلم والسعي وراءه بكل جد واجتهاد .
ولقد كان سماحة الشيخ / عبد العزيز - رحمه الله - مبصرا في أول حياته ، وشاء الله لحكمة بالغة أرادها أن يضعف بصره في عام 1346 هـ إثر مرض أصيب به في عينيه ثم ذهب جميع بصره في عام 1350 هـ ، وعمره قريب من العشرين عاما؛ ولكن ذلك لم يثنه عن طلب العلم ، أو يقلل من همته وعزيمته بل استمر في طلب العلم جادا مجدا في ذلك ، ملازما لصفوة فاضلة من العلماء الربانيين ، والفقهاء الصالحين ، فاستفاد منهم أشد الاستفادة ، وأثّروا عليه في بداية حياته العلمية ، بالرأي السديد ، والعلم النافع ، والحرص على معالي الأمور ، والنشأة الفاضلة ، والأخلاق الكريمة ، والتربية الحميدة ، مما كان له أعظم الأثر ، وأكبر النفع في استمراره ، على تلك النشأة الصالحة ، التي تغمرها العاطفة الدينية الجياشة ، وتوثق عراها حسن المعتقد ، وسلامة الفطرة ، وحسن الخلق ، والبعد عن سيئ العقائد والأخلاق المرذولة .
ومما ينبغي أن يعلم أن سماحة الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - قد استفاد من فقده لبصره فوائد عدة نذكر على سبيل المثال منها لا الحصر أربعة أمور :
الأمر الأول : حسن الثواب ، وعظيم الأجر من الله سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني : قوة الذاكرة ، والذكاء المفرط .
الأمر الأمر الثالث : إغفال مباهج الحياة ، وفتنة الدنيا وزينتها .(4/179)
الأمر الرابع : استفاد من مركب النقص بالعينين ، إذ ألح على نفسه وحطمها بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء الكبار ، المشار إليهم بسعة العلم ، وإدراك الفهم ، وقوة الاستدلال وقد أبدله الله عن نور عينيه نورا في القلب ، وحبا للعلم ، وسلوكا للسنة ، وسيرا على المحجة ، وذكاء في الفؤاد .
رابعا: هيبته
مما تميز به سماحته - رحمه الله - الهيبة ، وقد حدث غير واحد من كبار العلماء الفضلاء وطلبة العلم أن للشيخ هيبة فيها عزة العلماء مع عظيم مكانتهم وكبير منزلتهم ، وهذه الهيبة قذفها الله في قلوب الناس ، وهي تنم عن محبة وإجلال وتقدير له ، لا من خوف وهلع وجبن معه ، بل إن الشيخ - رحمه الله - قد فرض احترامه على الناس ، بجميل شمائله وكريم أخلاقه ، مما جعلهم يهابونه حياء منه ، ويقدرونه في أنفسهم أشد التقدير .
ومما زاد هيبته أنه ابتعد عن ساقط القول ، ومرذول اللفظ ، وما يخدش الحياء أشد الابتعاد ، فلا تكاد تجد في مجلسه شيئا من الضحك إلا نادرا ولماما ، بل تجد مجالسه عامرة بذكر الله ، والتفكر والتأمل في الدار الآخرة . ومع هذه المكانة العظيمة ، والمنزلة السامية ، والهيبة ، فإنه آية في التواضع ، وحسن المعاشرة ، وعلو الهمة ، وصدق العزيمة ، مع عزة في النفس ، وإباء في الطبع ، بعيدا كل البعد عن الصلف والتكلف المذموم كأنه واضع بين نصب عينيه قوله تعالى : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ )
خامسا: فصاحته
اللغة العربية لغة جميلة في بابها ، ماتعة في لبابها وفوائدها ، فهي لغة القرآن والسنة ، أسلوبا ومنهجا ، ومقصدا ومغزى ، وهي الوسيلة إلى فهم الدين ، وإدراك أسراره ، وسبر أغواره ، وهي من مستلزمات الإسلام وضروراته .
والشيخ - رحمه الله - يعد وبجداره من أرباب الفصاحة ، وأساطين اللغة وخاصة في علم النحو ، وفي علوم اللغة العربية كافة . وفصاحته تبرز في كتابته ومحادثته ، وخطبة ومحاضراته وكلماته ، فهو ذو بيان مشرق ، ونبرات مؤثرة حزينة ، وأداء لغوي جميل ، ويميل دائما إلى الأسلوب النافع الذي كان عليه أكثر أهل العلم وهو الأسلوب المسمى " السهل الممتنع " .
ومن المألوف حقا - في عالم الإسلام - أن الذين يحرمون بصرهم من أهل العلم ، يمتازون بالفصاحة في الألفاظ والمعاني ، وقوة الخطابة وإتقانها ، لأن معظم اعتمادهم على الإلقاء والخطابة في الدرس والوعظ والدعوة ، وهذا ما يتجلى واضحا في الشيخ - رحمه الله - . والشيخ - خطيب مصقع ، وواعظ بليغ سواء في محاضراته الكثيرة النافعة أو تعقيباته على محاضرات غيره ، أو في توجيهاته الحكمية ، وتوصياته المفيدة ، التي تشرئب إليها الأسماع ، وتتطلع لها الأفئدة والقلوب الصادقة المؤمنة .
ومن مميزاته وخصائصه الخطابية قدرته على ترتيب أفكاره حتى لا تشتت ، وضبطه لعواطفه حتى لا تغلب عقله ، ثم سلامة أسلوبه ، الذي لا يكاد يعتريه اللحن في صغير من القول أو كبير ، وأخيرا تحرره من كل أثر للتكلف والتنطع .
خامسا: قوة الحافظة ، وسرعة البديهة
ومما تميّز به سماحته - رحمه الله - قوة الحافظة ، وسرعة البديهة ، واستحضار مسائل العلم بفهم واسع ، ووفرة في العلم ، وشدة في الذكاء ، وغزارة في المادة العلمية ، فهو - رحمه الله - صاحب ألمعية نادرة ، ونجابة ظاهرة . وإن نعمة الحفظ ، وقوة الذاكرة ، هما من الأسباب القوية - بعد توفيق الله عز وجل - على تمكنه من طلبه للعلم ، وازدياد ثروته العلمية ، المبنية على محفوظاته التي وعتها ذاكرته في مراحل التعلم والتعليم ، وقد حباه الله من الذكاء وقوة الحفظ وسرعة الفهم ، مما مكنه من إدراك محفوظاته العلمية عن فهم وبصيرة .
ومما يؤكد على ذلك أنه لربما سُئِلَ عن أحاديث منتقدة في الكتب الستة وغيرها من كتب السنة فيجيب عليها مع تخريجها والتكلم على أسانيدها ورجالها ، وذكر أقوال أهل العلم فيها ، وهو ممَّن منَّ الله عليه بحفظ الصحيحين واستحضارهما ، ولا يكاد يفوته من متونهما شيء؛ إلا اللهم أنه سُئِلَ مرة ونحن على طعام الغداء عنده ، فقال السائل : هل تحفظ الصحيحين فأجاب قائلا : " نعم ولله الحمد والمنة " ، إلا أن صحيح مسلم يحتاج إلى نظر وتربيط . .
سادسا: فراسته
إن الفراسة حلية معلومة ، وخصلة حميدة لكبار العلماء وأهل الفضل والهدى ، والفراسة كما قال عنها الإمام ابن القيم - رحمه الله - : الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده يفرِّق به بين الحق والباطل ، والحال والعاطل ، والصادق والكاذب ، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدَّ فراسة ، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أعظم الأمة فراسة ، وبعده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ووقائع فراسته مشهورة ، فإنه ما قال لشيء : " أظنه كذا إلا كان كما قال " ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة .(4/180)
وفراسة الصحابة - رضي الله عنهم - أصدق الفراسة ، وأصل هذا النوع من الفراسة عن الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده ، فيحيا القلب بذلك ويستنير ، فلا تكاد فراسته تخطئ ، قال تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )[ الأنعام/] قال بعض السلف : " من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطئ فراسته " . والشيخ عبد العزيز - رحمه الله - ولا نزكي على الله أحدا - ، صاحب بصيرة نافذة ، وفراسة حادة ، يعرف ذلك جيدا من عاشره وخالطه ، وأخذ العلم على يديه . ومما يؤكد على فراسته أنه يعرف الرجال وينزلهم منازلهم ، فيعرف الجادّ منهم في هدفه ومقصده من الدعاة وطلبة العلم فيكرمهم أشد الإكرام ، ويقدمهم على من سواهم ، ويخصهم بمزيد من التقدير ويسأل عنهم وعن أحوالهم دائما ، وله فراسة في معرفة رؤساء القبائل والتفريق بين صالحهم وطالحهم .
من صفاته الخُلقية
مما تواتر عند جميع الناس أن سماحة الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - ممَّن تميَّز بالخلال الحميدة ، والخصال الرشيدة ، وجميل الأخلاق ، وطيب الفعال ، وعظيم التواضع ، وهو ممن يقتدى به في الأدب والعلم والأخلاق ، بل هو أسوة حسنة في تصرفاته وسمته وهديه المبني على كتاب الله العظيم ، وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم ـ وخاصة في زهده وعبادته وأمانته وصدقه ، وكثرة التجاءه وتضرعه إلى الله ، وعظيم خشيته لله ، وذكاء فؤاده وسخاء يده ، وطيب معشره ، مع اتباع للسنة الغراء ، وكثرة عبادة - رحمه الله - وقصارى القول أن للشيخ - رحمه الله - صفات حسنة ، وخلال جميلة ، وشيم كريمة ، ومناقب فذّة عظيمة ، يجدر بنا أن نتناول بعضها :
1- تواضعه : التواضع هو انكسار القلب لله ، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق ، ومنشأ التواضع من معرفة الإنسان قدر عظمة ربه ، ومعرفة قدر نفسه ، فالشيخ - رحمه الله - قد عرف قدر نفسه ، وتواضع لربه أشد التواضع ، فهو يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب ، لا يزهو على مخلوق ، ولا يتكبر على أحد ، ولا ينهر سائلا ، ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة ، ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمساكين ، والمشي معهم ، ومخاطبتهم باللين ، ولا يأنف أبدا من الاستماع لنصيحة من هو دونه ، وقد طبق في ذلك كله قول الله : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )[الفرقان/] وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحدٍ ولا يبغي أحد على أحد "( أخرجه مسلم/ 2865 ) .
2- السكينة والوقار : وهما من أبرز صفات الشيخ - رحمه الله - وهما أول ما يواجه به الناس سواء القرباء أو البعداء ، جلساءه الأدنين أو زواره العابرين ، فإن الناس ليتكبكبون حوله أينما وجد ، في المسجد ، في المنزل ، في المكتب ، وإنه ليصغي لكل منهم في إقبال يخيل إليه أنه المختص برعايته ، فلا ينصرف عنه حتى ينصرف هو ، ومراجعوه من مختلف الطبقات ، ومن مختلف الأرجاء ، ولكل حاجته وقصده ، فيقوم الشيخ - رحمه الله - بتسهيل أمره ، وتيسير مطلبه ، ولربما ضاق بعضهم ذرعا عليه ، بكلمات يرى نفسه فيها مظلوما فما من الشيخ - حفظه الله إلا أن يوجهه للوقار والدعاء له بالهداية والصلاح ، إنها والله صور صادقة ، بالحق ناطقة ، تدل على تواضع جم ، وحسن سكينة ، وعظيم أناة وحلم ، وكبير وقار .
ومما يؤكد تواضعه -رحمه الله - تلبية دعوة طلابه ومحبيه في حفلات الزواج الخاصة بهم ، ويحضر حضورا مبكرا ، ويطلب من أحد الإخوان قراءة آيات من القرآن الكريم ، ثم يقوم بتفسيرها للجميع ، هذا دأبه والغالب عليه في حضوره للولائم - رفع الله قدره - .
أعماله ومناصبه :
من الأعمال والمناصب التي أسندت الى الشيخ رحمه الله:
1- القضاء في منطقة الخرج سنة 1357هـ لأكثر من أربعة عشر عاماً.
2- التدريس في المعهد العلمي بالرياض سنة1372هـ,وكلية الشريعة
بالرياض سنة1381هـ,في علوم الفقة والتوحيد والحديث.
3- عين في عام 1381هـ نائباً لرئيس الجمعة الأسلامية بالمدينة المنورة.
4- تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة1390هـ.
5- وفي عام1395هـ صدر الأمر الملكي بتعيينة في منصب الرئيس العام لإدارت البحوث العلمية وافتاء والدعوة والأرشاد.
6- عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة.
7- رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في هيئة كبار العلماء بالمملكة.
8- عضوية ورئاسة المجلس التأسيسي لرابطة العالم الأسلامي.
9- رئاسة المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
10-رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمةالتابع لرابطة العالم الإسلامي.
11-عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
12-عضوية الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
مؤلفاته:
1- الفوائد الجلية في المباحث الفرضية.
2- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة(توصيح المناسك).
3- التحذير من البدع .
4- رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام.
5- العقيدة الصحيحة وما يضادها.
6- وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله علية وسلم وكفر من أنكرها.
7- الدعوة الى الله وأخلاق الدعاة.
8- وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفة.
9- حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار.
10-نقد القومية العربية.
11-الجواب المفيد في حكم التصوير.(4/181)
12-الشيخ محمد بن عبد الوهاب(دعوتة وسيرتة).
13-ثلاث رسائل في الصلاة.
14-حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن أو في رسول الله صلى الله علية وسلم.
15-حاشية مفيدة على فتح الباري.
16-رسالة الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب.
17-إقامة البرهان على حكم من استغاث بغير الله أو صدق الكهنة والعرافين.
18-الجهاد في سبيل الله.
19-الدروس المهمة لعامة الأمة.
20-فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة.
21-وجوب لزوم السنة والحذر من البدعة.
قالوا في الشيخ
كان للشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة، وكتب متنوعة وكان بحق أمة وحدة،وجامعة بمفرده,وهو يعلم أن المسألة ليست فيما تخطه الأقلام,بل بما تسير عليه الأقدام,وتصدح بة الأفهام,يعلم أن الأمة ليست بحاجة إلى كثرة التأليف بل بحاجة الى العلم الحنيف الذي يضرب لها قدرة بفعله الشريف ورأية الحصيف,بل لابد من مع ذلك من القدوة الحسنة,والسيرة المباركة,والأثر المحمود أن ملازمة ذلك العالم الأجل-رحمة الله-تزكو بها النفس ويصفو بها الفؤاد,ويرق بها الفلق,ويقوى بها إلايمان ويذكر بها الرحمن,ويزداد بها العلم,ويتسع بها الأفق.
يقول الشيخ محمد الموسى: (إن الشيخ لم يكن يدع دقيقة واحدة من الوقت تذهب سدى في حضر ولا سفر).
ويقول فضيلة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان,عضو هيئة كبار العلماء(كان رحمه الله يقدر رأي مخالفه ويحترمة، بل يجلة إذا كان له دليل ووجهة نظر لها ملحظ علمي، يصغي له ويفسح له المجال ,دون اعتراض, أوتحامل، يحاول- رحمة الله - أن يوائم بين الواجب والشرع والمواقع التي يعيشها الناس فيما يجد له مندوحة محتذياً في تصرفات المكلفين ضمن إطار الشرع وحدوده,وقد أثرى الفقة الإسلامي بفتاواه الإجتهادية التي كان لها الأثر الديني والاجتماعي في الإصلاح والتوفيق بين الأزواج ولم يشمل الأسر,بل أمتدت أثار فتاواه الى الأقطار التي يحمل بها مسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
يقول أحدتلاميذه:(كان يتعامل مع الناس جميعاً بأسلوب واحد وطريقة واحدة غير متكلف ولامتصنع,على سجيته وفطرته ولم تزده المكانةالإجتماعية والوجاهة العلمية والعملية إلأ تواضعاً وإحساناً وحباً للأخرين وحسن التعامل معهم رحمه الله).
ويقول مدير مكتب سماحتة-رحمة الله-الدكتور عبد الله الحكمي: (أبكيه ويبكيه الفقراء والمساكين فهو أبو المساكين سعى في رفع معاناتهم ، وفك كربتهم ، وقضاء ديونهم، وعلاج مريضهم، فامتلأت دواوين مكتبه بطلباتهم ، يخصص لها الوقت الطويل يدرسها ويبذل الجهد في نفعهم ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً.
فكم من مدين كان سبباً في قضاء دينة,وكم من فقير رفع عنه ألم الحاجة,وكم من مسكين فرج كربته,ويواصل حديثه الدكتور عبد الله الحكمي (لقد كان من نشاط الشيخ وآجتهاده في الأشهر الأخيرة من حياتة مايبعث على العجب، فقد كان يضاعف جهده، ويرهق نفسه، ويريدأن ينهي أكبر قدر من المعاملات والأوراق والبحوث، وكأنه يعلم أنه مودع، أحب ان ينجز أكبر قدر ممكن من مصالح المسلمين وحوائجهم ) .
وقد توفي الشيخ _ رحمه الله _ قُبيل فجر يوم الخميس 27محرم1420هـ .
=============
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط واحد من هؤلاء العلماء الذين اختاروا طريق مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بخدمة الجديث النبوي الشريف ، وقد من الله تبارك وتعالى على الشيخ ففتح له في هذا العلم ، وجعل له فيه قدما راسخا ، ونفع الله به نفعا عم أرجاء العالم الإسلامي ، وكانت له مع السنة رحلة ممتعة مع مشقتها ، ونحن هنا نترجم للشيخ بعد مقابلة أجرتها معه الشبكة الإسلامية
قدري أو عبد القادر!!
يشتهر شيخنا في عالمنا الإسلامي بالشيخ "عبد القادر الأرناؤوط" واسمه الحقيقي كما تقول البطاقة الشخصية "قدري" وشهرته (الأرناؤوط) جاءت من اللقب الذي أطلقه الأتراك على كل ألباني .
كان ظلم الصرب واضطهادهم للألبان في كوسوفا ( kOSOVAV) قد بلغ أوجّه عندما قرر "صوقل" (والد الشيخ) الهجرة من قريته فريلا ( VRELA) إلى الشام مع زوجته وأولاده ، وكان "قدري" الطفل الصغير آنذاك (1252هـ-1932م) لم يتجاوز بعد سنواته الثلاث .
وعندما استقر في دمشق ، لم تلبث أن توفيت زوجته (والدة الشيخ) وقدري ما يزال صغيرًا ، وقرر والده الذي فرَّ بدينه أن يُعلّم ولده الدين منذ نعومة أظفاره ، فأدخله مدرسة "الإسعاف الخيري" حتى أنهى الخامس الابتدائي سنة (1363هـ-1942م) ، وكان الصف الخامس آنئذٍ هو نهاية المرحلة الابتدائية . في وقت كانت الحاجة إلى المال تضغط على أسرته ، مما اضطره إلى ترك العلم من أجل العمل لسد حاجته المالية ، فعمل في تصليح الساعات في محلة "المسكية" بدمشق ، لكنه ما زال شغوفًا بالعلم .
وهكذا كان يعمل في النهار ويدرس القرآن والفقه في المساء . ولحسن حظه أن صاحب العمل كان رجلاً أزهريًا (يدعى الشيخ سعيد الأحمر التلي) كان محيطًا بالعلم الشرعي ، فكان أيضًا يعلمه الدين واللغة ، فلما رأى نبوغه وشدة حفظه للقرآن والحديث النبوي الشريف ، قرر أن يرسله إلى حلقات العلم ، قال له : "يا بني أنت لا تصلح إلا للعلم" . فسلمه إلى الشيخ عبد الرزاق الحلبي - الذي ما زال إلى اليوم مديرًا للجامع الأموي الكبير في دمشق - لينضم إلى حلقة من حلقاته العلمية .
يقول الشيخ : "كنت في فترة الاستراحة بين الحصص المدرسية أحفظ خمسة أحاديث ، كنت متمتعًا بذاكرة طيبة ، وقدرة على الحفظ كبيرة بحمد الله تعالى وعونه" .(4/182)
وبالرغم من أن الشيخ لم يتابع تعليمه المدرسي بعد ذلك ، لكنه تلقى علومه على يد علماء عصره في الشام ، فقد درس على بعض الشيخ الألبان الأجلاء ، منهم الشيخ "سليمان غاوجي الألباني" رحمه الله حيث درس من الفقه وعلم الصرف ، وقرأ القرآن وجوّده على الشيخ "صبحي العطار" رحمه الله : ثم على الشيخ "محمود فايز الديرعطاني" رحمه الله ، وقرأ على الشيخ "محمد صالح الفرفور" رحمه الله اللغة العربية والفقه الحنفي والتفسير والمعاني والبيان والبديع ، ولازمه فترة من الزمن تقارب العشر سنوات مع طلابه ، وغيرهم من شيوخ الشام . والشيخ لا يعدد أحدًا من تلامذته ، ويظهر تواضع شيخنا أنه يعتبر الذين درّسهم طوال السنين السالفة هم أخوة له يتدارس معهم العلوم الشرعية
رباه والده على ألا ينسى بلده ، وهكذا علّمه الألبانية منذ صغره ، وهي إلى اليوم لغة منزله ، فهو يتحدث مع أهله وأولاده بالألبانية كما لاحظت ، وقد يسّرت له هذه اللغة التواصل مع أقربائه وأبناء بلاده ، مما جعله يرتحل إليها في كل عام للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فترك آثارًا لا تمحى في الإحياء الإسلامي هناك.
زار الشيخ بلدانًا عدة من العالم الإسلامي داعيًا وعالمًا يدرّس في المساجد ويشارك في المؤتمرات والندوات العلمية .
خلافه مع الشيوخ
بات معروفًا أن ثمة خلافًا حادًا قام بينه وبين عدد من شيوخ الشام ، وبالرغم من أن ظاهر خلافه معهم يعود إلى عدم التزامه مذهبًا معينا في الفتوى ، فهو يرى أن "العالم الحقيقي لا يتقيد بقول عالم واحد مهما كان شأنه" بل يتبع الدليل "ولا يحق أن يكون مقلدًا" ، وإن كان يرى أن العامي لا مذهب له ، ومذهبه مذهب مفتيه ، فالتزامه بالمذهب أمر ضروري طبيعي ، وبالرغم من أن الشيخ لم يدَّعي الاجتهاد ، لكنه لا يرض بالتقليد دون معرفة الدليل .
والحقيقة أن اللا مذهبية وحدها لم تكن المشكلة الأساسية ، وإنما نزوع الشيخ "السلفي" (وانتقاده للغلو في التصوف) الذي يتضارب مع روح التصوف السائدة في بلاد الشام رغم أنه لا يرى مانعًا من التصوف عندما يكون " بمعنى الرقائق التي تليّن القلوب وتهذَّب النفوس" . وقد حققت له سلفيته المعتدلة وشخصيته المرحة وجرأته ووضوحه ، المعروفان شعبية كبيرة ، فأثارت حسدهم .
جهوده في التعليم
فيما عدا دروسه الكثيرة في المساجد ، عمل الشيخ مدرسًا لعلوم القرآن والحديث النبوي الشريف بين عامي (1952-1959م) في مدرسة "الإسعاف الخيري" التي تخرج فيها من قبل ، وأدرك فيها شيخه صبحي العطار رحمه الله ، وفي عام 1960م (1381هـ) انتقل إلى المعهد العربي الإسلامي بدمشق ، فدرّس القرآن والفقه ، وقد كان إلى فترة يدرّس في معهد "الفرقان" بالمزة ، ومعهد المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسيني ، لكنه الآن وقد ضيّق عليه ، فجرّد من كل هذه الوظائف لم يبق له سوى درس أسبوعي واحد في أحد جوامع دمشق ، مرة في الأسبوع .
كان خطيبًا لمدة خمسة عشر عامًا في جامع "الديوانية البرانية" بدمشق القديمة منذ عام 1948هـ (1369هـ) ثم انتقل إلى جامع "عمر بن الخطاب" في القدم . الذي كان الشيخ نفسه وراء بنائه بمساعدة أهل الخير ، وبقي فيه خطيبًا لمدة عشر سنوات ، ثم أصبح خطيبًا لعشر سنوات أخرى في جامع "الإصلاح" وفي منطقة الدحاديل ، ثم أصبح خطيبًا لجامع "المحمدي" بالمزة لثماني سنوات أعفي بعدها من الخطابة بشكل كامل بتداعيات خلافه مع الشيوخ ، كما مُنع من الحديث في المناسبات الرسمية ، ورغم ذلك فهو لا يفتأ يخالط الناس ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم فبقي قريبًا من قلوبهم .
جهوده العلمية في الحديث الشريف
ليس للشيخ اجتهاد خاص في علم مصطلح الحديث، وإنما يفضل العمل بآراء علماء الحديث وشرطه، وهو لذلك يأخذ برأي الإمام النووي - رحمه الله - في تصحيح الحديث وتضعيفه ، الذي يقول فيه "يجوز لمن ملك خبرة بهذا الفن وقويت معرفته ، أن يصحح ويحسّن حسب قواعد مصطلح الحديث عند العلماء" ، ففي الحديث المرسل - مثلاً - يقول الشيخ الأرناؤوط : "أعمل برأي الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول بأن المرسل ضعيفه لا يُعمل به إلاّ إذا وجد للحديث طرق وشواهد، فعند ذلك يعمل به" .
وفي حكم الأخذ عن أصحاب البدع والأهواء يقول : "وقد احتج بعض الأئمة برواية المبتدعة الدعاة وغير الدعاة ، فقد احتج البخاري بعمران بن حطان وهو من دعاة الشراة ، وبعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء.. والحق في هذه المسألة - كما قاله العلامة محمد نجيب المطيعي في حاشيته على (نهاية السول) قبول رواية كل من كان من أهل القبلة يصلي بصلاتنا ويؤمن بكل ما جاء به رسولنا ، فإن من كان كذلك لا يمكن أن يبتدع بدعة ، إلا وهو متأول فيها ، مستند في القول بها إلى كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتأوّل" رآه باجتهاده ، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ ، أما إن كان ينكر أمرًا متواترًا من الشرع ثابتًا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة معلومًا من الدين بالضرورة أو اعتقد عكسه ، كان كافرًا مجاهرًا فلا يقبل مطلقًا…" .
ويؤكد الشيخ على أن "سلامة المعتقد" شرط ضروري عند المحدّث لأنه يؤثر في منهجه ، وعلى ما سبق تأسس منهجه في تحقيق الحديث ، فهو يحرص كل الحرص على بيان درجة كل حديث مما لم يرد في أحد "الصحيحين" (البخاري ومسلم) ، من حيث الصحة والضعف ، حسب الأصول والقواعد المتبعة في علم المصطلح ، فيذكر ما يقال في رجال الحديث ممن تُكلّم فيهم ، مسترشدًا بأقاويل جهابذة الحديث ونقاده .(4/183)
وإذا كان الخبر ضعيفًا فإنه يبحث في طرقه المختلفة وشواهده ، فإذا تقوّى بتعدد الطرق ، أو بالشواهد حكم عليه بالصحة أو الحسن تبعًا لمنزلة تلك الطرق والشواهد ، وما لم يجد له ما يقويه يحكم عليه بالضعف معززًا ما ذهب إليه الحفّاظ من أئمة الحديث الذين عنوا بذلك .
وكان منهجه في تحقيقه لكتاب "جامع الأصول" الذي استشهر به ، أنه يقتصر على تصحيح النص وضبطه ومقابلته مع الأصول الخطية التي حصل عليها ، والأصول الستة التي جمع المؤلف كتابه منها ، حيث بدأ بترقيمه وتفصيله ، ثم ألم بمذاهب الأئمة المجتهدين ، وذكر جملاً من الاستنباطات الجديدة وتتبع الأحاديث التي لم يلتزم أصحابها إخراج الصحيح (كأبي داوود والترمذي والنسائي) وتكلم عن كل حديث من جهة الصحة والضعف ، لأن المؤلف (ابن الأثير) لم يتطرق إلى ذلك ، واستشهد بأحاديث من خارج الكتاب (المسانيد والمصنفات الأخرى) ، وقد أعاد الشيخ مؤخرًا النظر فيه من جديد فزاد عليه رواية ابن ماجة وغير ذلك وهو بصدد إصداره .
يعرض الشيخ عمومًا عن التأليف لأنه يجد نفسه أمام مهمة يؤمن أنها أهم منه ، وهكذا يبرر ذلك بقوله : "… المؤلفات كثيرة ، والتحقيق أولى ، وذلك حتى أقدم الكتاب إلى طالب العلم محققًا ومصححًا حتى يستفيد منه.." .
لأجل ذلك نجد ندرة في مؤلفاته ، التي لم تتجاوز أصلاً بعض الرسائل الصغيرة ، منها رسالة بعنوان "الوجيز في منهج السلف الصالح" والذي دعاه إلى كتابتها عدم فهم كثير من الناس العقيدة السليمة فهمًا صحيحًا ، وكثرة من يتكلم في هذا الموضوع وهو لا يحسنه ، وله أيضًا رسالة بعنوان "وصايا نبوية" شرح فيها خمسة أحاديث نبوية ، مطبقًا بذلك قول بشر بن الحارث الحافي رحمه الله حيث قال : "يا أصحاب الحديث : أدوا زكاة الحديث من كل مائتي حديث خمسة أحاديث" وقد اختارها في العقيدة والأخلاق .
تحقيقاته لمصنفات الحديث الشريف
كان باكورة أعماله تحقيقه لكتاب "غاية المنتهى" في الفقه الحنبلي ، وكان الشيخ جميل الشطي رحمه الله قد بدأ به ولم يتمه ، فطلب من الشيخ إتمامه .
وفي بداية الستينات انتظم الشيخ للعمل مدرسًا لقسم التحقيق والتصحيح في المكتب الإسلامي بدمشق ، وذلك بصحبة الشيخ شعيب الأرناؤوط - حفظه الله - واستمر في عمله هذا حتى عام (1968-1389هـ) تقريبًا .
ومنذ تلك الفترة قام الشيخ بالاشتراك مع الشيخ المحقق شعيب الأرناؤوط بتحقيق وتصحيح العديد من الكتب الإسلامية التي صدرت عن المكتب الإسلامي ، وأهمها :
- زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (9 مجلدات) .
- المبدع في شرح المقنع - لابن مفلح ( 8 مجلدات) .
- روضة الطالبين وعمدة المفتين - للنووي (12 مجلدًا) .
- زاد المعاد في هدي خير العباد - لابن القيم (5 مجلدات) .
- جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام - لابن القيم (مجلد) .
يقول الشيخ عن نفسه : "إني بعونه تعالى قد حققت أكثر من خمسين كتابًا كبيرًا وصغيرًا في الفقه والحديث والتفسير والأدب وغيرها ، وهي موجودة في العالم الإسلامي…" .
ومن أهم الكتب التي حققها الشيخ بمفرده : كتاب "جامع الأصول" لابن الأثير ، الذي أشرنا إليه سابقًا ، وقد استغرق عمله في هذا التحقيق مدة خمس سنوات كاملة ، كما أنه كان سببًا لشهرته ، ومن بين الكتب الأخرى نجد :
- مختصر شعب الإيمان - للبيهقي .
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - لابن تيمية .
- كتاب التوابين - لابن قدامة المقدسي .
- كتاب الأذكار - للنووي .
- كتاب الشفا في تعريف حقوق المصطفى - للقاضي عياض .
- كفاية الأخيار - للحصني .
- شمائل الرسول - لابن كثير .
- الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة - لمحمد صديق حسن خان .
وغيرها .
وهو الآن مشغول بكتاب "النهاية" لابن كثير الدمشقي ، لإعداده للطباعة .
(تنبيه : استعنا في هذه المادة بالكتاب الذي قدّمه الشيخ لنا وهو "كشف اللثام عن أحد محدّثي الشام" المحدث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ، جمع وإعداد محمود محمد جميل ، دار المأمون للتراث ، بيروت ط1 /2000) .
================
الشيخ عبد الله الأنصاري
إذا وجدته في قطر فهو مسافر، وإذا سافر فهو مقيم! في حياته، مؤتمن على خاصيات أحبابه، ومشكلاتهم الاجتماعية، وهو القاضي والمصلح في الزواج والطلاق، واليه تتوجه صدقات وزكاة المخلصين لتصب في نهر الخير إلى كل محتاج وطالب علم في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وفي كل أوقاته يعطي علماً، وعظاً، حباً، حتى سمع به ونال من عطائه أولئك المسلمون في روسيا رغم الشيوعية ودكتاتوريتها.
في وفاته جاء إلى الدوحة (420) مُعزًّ، أما البرقيات فقد بلغت (1400) برقية، إنه فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري.
- ولد في مدينة الخور سنة 1340هـ، وحفظ القرآن في سنة الثانية عشر، بعدها بأربع سنوات ذهب إلى الاحساء بالسعودية طالباً العلم بد أن أذن له والده القاضي بذلك، حيث درس الفقه المالكي والمواريث والتجويد والنحو والحديث والتفسير.. وإلى مكة ظل هناك يواصل رحلة العلم حيث درس الموطأ وكتاب التوحيد وصحيح مسلم والتفسير والبلاغة.. وظل بأم القرى خمس سنوات.. غير ثلاث بالاحساء.
- في عام 1367هـ، ذهب للدمام طالباً للعمل وظل بها خمس سنوات ما بين تعليم وتدريس وقضاء وإمامه حتى طلبه صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني حاكم قطر آنذاك (1372هـ) فعاد بعد أن سمح له الملك سعود بن عبد العزيز ملك السعودية بالعودة.(4/184)
- أنشأ أول معهد ديني في قطر سنة 1376هـ وأستمر ثلاث سنوات، ضُم بعدها إلى إدارة المعارف وأحيل إلى المدرسة الجديدة الابتدائية التي عرفت بعد ذلك بمدرسة صلاح الدين الأيوبي.
- أسندت إليه مسؤولية إدارة الشؤون الدينية والقروية التابعة لوزارة المعارف، وكان من شؤونها الإشراف على العلوم الشرعية وكتبها ومناهجها وما يتعلق بها من تعليم وخدمات عامة في الطرق والمواصلات والإسكان حتى عام 1397هـ، حيث أُنشئت إدارة الشؤون الدينية على مستوى دولة قطر إليه، واختصت بالوعظ والإرشاد ونشر التراث الإسلامي وطباعة الكتب الإسلامية وتحقيقها ومراجعتها وإنشاء مراكز لتحفيظ القرآن الكريم.
- وفي العام 1402هـ تحولت تلك الإدارة بمرسوم أميري إلى إدارة إحياء التراث الإسلامي، ولها التخصصات والأهداف نفسها.
- برز دور إدارة إحياء التراث الإسلامي، كهيئة تغطي في أنشطتها مختلف أنحاء العالم الإسلامي في أمرين: طباعة وتوزيع المصحف الشريف، طباعة وتوزيع الكتب الإسلامية المختلفة بخاصة كتب التراث الإسلامي.. وذلك بلغات مختلفة.
- بلغ عدد الكتب التي وزعت في 29 دولة تشمل القارات الخمس عام 1406هـ فقط (110431) كتاباً إسلامياً.. وقد اشتمل هذا العدد على قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين. وقد طبع من المصحف من 8-10 طبعات مختلفة.
- أقام عدة ندوات إسلامية في مساجد الدوحة على مدار أيام الأسبوع وما زال بعضها قائماً، يقدم فيها العلماء إرشادهم ووعظهم.
- عضو في أغلب الهيئات الإسلامية، لعل من أهمها رابطة العالم الإسلامي التي كلفته بالإشراف على المصالحة بين منظمات الجهاد الأفغاني مع علماء آخرين، ولقد وفقهم الله في إتمام هذا الصلح في بداية حركة الجهاد.
- أشرف على مدارس تحفيظ القرآن الكريم في قطر، وأجرى لها مسابقات سنوية، إضافة إلى تشجيع الطلاب على الاشتراك فيها، وصرف مكافآت تشجيعية لهم.
- أشرف على بناء مساجد عدة في العالم الإسلامي، وقد بلغ عددها 36 مسجداً، في السعودية وقطر، والهند وباكستان، وموريتانيا والمغرب واليمن الفلبين وغيرها.
- أشرف على بعثة الحج القطرية لمدة ستة عشر عاماً (من 1958-1974) حيث أشرف عليها ولده محمد بعد ذلك.
- أهتم بالتقويم القطري وتوزيعه على المستحقين في شبه الجزيرة العربية، وأعده بتوقيت سائر بلاد الجزيرة، وأشرف على طباعته ونشره وتوزيعه.
- ظلت علاقته برابطة العالم الإسلامي - كهيئة إسلامية عالمية تهتم بأمر المسلمين في العالم - ذات بعد خاص، فإضافة إلى ما ذكرته عن تكليفها بالإشراف على المصالحة بين أطراف الجهاد الأفغاني، فإن صلة وثيقة بين الرابطة والشيخ وإدارة إحياء التراث بإرسال شاحنات الكتب للرابطة لنشرها على المسلمين في أنحاء العالم، فتكونت بذلك سمعة طيبة لدولة قطر.. وفي كل مسجد من مساجد العالم الإسلامي تجد مصحفاً أو كتاباً قد طبعته دولة قطر.. حتى مساجد روسيا التي فتحت مؤخراً تحت ظل الحرية النسبية في سياسة البروسترويكا التي تزعمها ميخائيل غورباتشوف.
- وأخيراً فقد عرف عنه طاقة واسعة في أداء عدة أعمال في آن واحد، قال لي أحد المعاصرين له وزامله في أكثر من عمل: لقد كان مُدرساً في مدرسة صلاح الدين، ومديراً للمعارف، ومديراً لإدارة شؤون القرى.. كل ذلك في آن واحد.. وأضاف: كان بكاءً، لذكر الله، خاشعاً، طيب السريرة والطوية رحمه الله رحمة واسعة.
- وبعد فهذا أنموذج من الشخصيات الإسلامية الفعالة في إعادة مجد الحضارة الإسلامية، ليتخذها جيل الصحوة قدوة على الطريق.
===============
الشيخ محمد الخضر حسين
يحفل تاريخنا الإسلامي في القديم والحديث بنماذج مشرفة للعلماء الذين ضربوا المثل الأعلى في الفضل والعلم والجهاد ، وكثير من هؤلاء مغمورون ، وقليل من الناس من يعرفهم .
وسأحاول في هذه المقالة عرض حياة علم من هؤلاء العلماء الأعلام، وسترى فيه أخي القارئ ، نموذجاً للصبر على العلم والتحصيل والتبليغ والجهاد والمواقف الجريئة . فما أحوجنا لأمثاله من العلماء العاملين الذين هم بحق ورثة الأنبياء .
هو: محمد الخضر حسين الذي ينتسب إلى أسرة عريقة في العلم والشرف، حيث تعود أسرته إلى البيت العمري في بلدة (طولقة) جنوب الجزائر، وقد رحل والده إلى (نفطة) من بلاد الجريد بتونس بصحبة صهره (مصطفى بن عزوز) حينما دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر، ومما يدل على عراقة أسرته في العلم أن منها جده (مصطفى بن عزوز) وأبو جده لأمه (محمد بن عزوز)، من أفاضل علماء تونس، وخاله (محمد المكي) من كبار العلماء وكان موضع الإجلال في الخلافة العثمانية .
وسنتتبع حياة عالمنا في مراحل ثلاث(4/185)
الأولى : في تونس: حيث ولد الشيخ بنفطة عام 1293 ، وعلى أرضها درج ونشأ ، وهو - كأي عالم مسلم - تبدأ حياته في أجواء البيت المسلم ، والأسرة المسلمة ، ثم أخذ العلم في نفطة وكان لا يتعدى مبادئ علوم الدين ووسائلها ، وقد ذكر أن والدته قد لقنته مع إخوانه (الكفراوي) في النحو و (السفطي) في الفقه المالكي ، وفي عام 1306 انتقل مع أسرته إلى العاصمة ، فتعلم بالابتدائي ، وحفظ القرآن مما خوله الانتظام بجامع الزيتونة فجد واجتهد وثابر على مواصلة العلم ، حتى صار مثار إعجاب أساتذته وعارفيه ، حيث درس على أستاذه (سالم أبو حاجب) صحيح البخاري ، وعنه أخذ ميوله الإصلاحية وأخذ التفسير عن أستاذيه (عمر بن الشيخ) و (محمد النجار) ، وفي عام 1316 نال شهادة (التطويع) التي تخول حاملها إلقاء الدروس في الزيتونة تطوعاً وكانت هذه الطريقة درباً للظفر بالمناصب العلمية وميداناً للخبرة والتدريب على مهنة التعليم ، فعظمت مكانته في نفوس زملائه ، وذاع صيته في البلاد حتى صار من قادة الفكر وذوي النفوذ ، وأعجب به طلبة الزيتونة وكانت الحركة الفكرية هناك في حاجة لإبراز نشرة دورية تنطق بلسانها ، ولم يكن يوجد آنذاك بتونس سوى الصحف . فقام بإنشاء مجلته (السعادة العظمى) فنالت إعجاب العلماء والأدباء وساء بعضهم صدورها لما اتسمت به من نزعة الحرية في النقد واحترام التفكير السليم ، ولتأييدها فتح باب الاجتهاد حيث قال الشيخ عنه في مقدمة العدد الأول :
(.. إن دعوى أن باب الاجتهاد قد أغلق دعوى لا تسمع إلا إذا أيدها دليل يوازن في قوته الدليل الذي فتح به باب الاجتهاد) .
وكان منهج المجلة كما جاء في المقدمة أيضاً يتمثل في :
1- افتتاحية لكل عدد تحث على المحافظة على مجدنا وتاريخنا .
2- تعرض لعيون المباحث العلمية .
3- ما يكون مرقاة لصناعة الشعر والنثر .
4- الأخلاق كيف تنحرف وبم تستقيم .
5- الأسئلة والمقترحات .
6- الخاتمة ومسائل شتى .
وهكذا صدرت هذه المجلة فملأت فراغاً كبيراً في ميدان الثقافة الإسلامية وتسابق العلماء والكتاب للمشاركة فيها حتى أغلقها المستعمر الفرنسي حينما تعرض لهجومها عام 1322 هـ أي بعد مضي عام واحد فقط على صدورها ، فاتجهت إلى الشيخ الجمعيات الرسمية وغيرها للاشتراك في أعمالها ، ثم تولى قضاء (بنزرت) عام 1323 مع الخطابة والتدريس بجامعها ، وحدثت اشتباكات بين المواطنين والمستعمر ، فتطور الأمر ، وأعلنت الأحكام العرفية وعطلت الصحف ، وسجن أو نفي معظم ذوي الشأن من القادة والمفكرين فأصبحت كل حركة تبدو من الطلاب محمولة عليه . فنظر إليه المسؤولون شذراً ، خصوصاً بعد إضراب الطلاب عن التعليم. وفي هذا الجو المكهرب والمحبوك بالمؤامرات دفع به الضيق إلى طلب حياته الفكرية والعملية في خارج تونس ، خصوصاً وأنه من أنصار (الجامعة الإسلامية) الذين يؤمنون بخدمة الإسلام خدمة لا تضيق بها حدود الأوطان .
فقام بعدة سفرات متوالية بادئاً بالجزائر عام 1327 لإلقاء المحاضرات والدروس فلقي ترحيباً من علمائها ، وكانت هذه الرحلة بداية جديدة شرع بعدها في إعداد نفسه وأفكاره الإصلاحية . ثم عاد إلى تونس لمزاولة التدريس . واشترك في مناظرة للتدريس من الدرجة الأولى ، فحرم من النجاح فحز ذلك في نفسه لسيطرة روح المحاباة على الحياة العلمية في بلده .
وفي عام 1329 وجهت إليه تهمة بث العداء للغرب ، ولاسيما فرنسا ، فيمم وجهه صوب الشرق ، وزار كثيراً من بلدانه ، وزار خاله في الآستانة ولعل هذه الرحلة لاكتشاف أي محل منها يلقي فيه عصا الترحال . ثم عاد لتونس فلم يطب له المقام والمستعمر من ورائه.
المرحلة الثانية : عدم الاستقرار
وصل دمشق عام 1330 مع أسرته ومن ضمنها أخواه العالمان المكي وزين العابدين ، فعين الشيخ (محمد الخضر حسين) مدرساً بالمدرسة السلطانية ، وألقى في جامع بني أمية دروساً قدّره العلماء عليها، وتوثقت بينه وبين علماء الشام الصلة وبخاصة الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي ، ولما كانت آنذاك سكة الحديد الحجازية سالكة إلى المدينة المنورة زار المسجد النبوي عام 1331 وله في هذه الرحلة قصيدة مطلعها :
أحييك والآماق ترسل مدمعاً كأني أحدو بالسلام مودعاً
وفي هذه الفترة شده الحنين إلى تونس الخضراء، فزارها وله في ديوانه ذكريات في الصفحات 26 ، 134 .
وكان الشيخ دائماً ما يدعو للإخاء بين العرب وإخوانهم الأتراك حينما بدأت النعرة القومية تفرقهم. وقد ذهب إلى الآستانة، ولقي وزير الحربية (أنور باشا) فاختير محرراً للقلم العربي هناك فعرف دخيلة الدولة، فأصيب بخيبة أمل للواقع المؤلم الذي لمسه ورآه رؤيا العين، فنجد روحه الكبيرة تتمزق وهي ترى دولة الخلافة تحتضر وقال في قصيدة (بكاء على مجد ضائع) :
أدمى فؤادي أن أرى الـ أقلام ترسف في قيود
وأرى سياسة أمتي في قبضة الخصم العنيد(4/186)
وفي عام 1333 هـ أرسله (أنور باشا) إلى برلين في مهمة رسمية ، ولعلها للمشاركة في بث الدعاية في صفوف المغاربة والتونسيين داخل الجيش الفرنسي والأسرى في ألمانيا لحملهم على النضال ضد فرنسا ، أو التطوع في الحركات الجهادية . وظل هناك تسعة أشهر أتقن فيها اللغة الألمانية وقام بمهمته أحسن قيام ، وقد نقل لنا من رحلته هذه نماذج طيبة مما يحسن اقتباسه ، لما فيه من الحث على العلم والجد والسمو . نجدها مفرقة في كتبه ففي كتاب (الهداية الإسلامية) ص 155 ، 164 ، 175 ، وفي كتابه (دراسات في الشريعة) ص 135 ، ولما عاد للآستانة وجد خاله قد مات فضاقت به البلد ، وعاد إلى دمشق ، فاعتقله (جمال باشا) عام 1334 بتهمة علمه بالحركات السرية المعادية للأتراك ، ومكث في السجن سنة وأربعة أشهر برئت بعدها ساحته ، وأطلق سراحه فعاد للآستانة فأرسل في مهمة أخرى لألمانيا . ثم عاد إلى دمشق ، وتولى التدريس بثلاثة معاهد هي : (المدرسة السلطانية - المدرسة العسكرية - المدرسة العثمانية) ثم نزح عن دمشق التي أحبها حينما أصدر ضده حكم غيابي بالإعدام - لما قام به ضد فرنسا من نشاطات في رحلاته لأوربا - وذلك بعد دخول المستعمر الفرنسي إلى سورية، وكان أمله أن يعود إلى تونس، ولكن إرادة الله شاءت أن تكون مصر هي مطافه الأخير ، وبهذا تتم المرحلة الثانية .
المرحلة الثالثة : مصر
وقد وصلها عام 1339 فوجد بها صفوة من أصدقائه الذين تعرف عليهم بدمشق ومنهم: (محب الدين الخطيب) ونظراً لمكانته العلمية والأدبية اشتغل بالكتابة والتحرير ، وكان العلامة (أحمد تيمور) من أول من قدر الشيخ في علمه وأدبه . فساعده وتوطدت العلاقة بينهما. ثم كسبته دار الكتب المصرية . مع نشاطه في الدروس والمحاضرات وقدم للأزهر ممتحناً أمام لجنة من العلماء اكتشفت آفاق علمه ، فاعجبت به أيما إعجاب فنال على أثر ذلك (العالمية) فأصبح من كبار الأساتذة في كلية (أصول الدين والتخصص) لاثنتي عشرة سنة ، وفي عام 1344 أصدر كتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) رد فيه على الشيخ (علي عبد الرزاق) فيما افتراه على الإسلام من دعوته المشبوهة للفصل بين الدين والدولة ، وفي عام 1345 أصدر كتابه (نقض كتاب في الشعر الجاهلي) رداً على طه حسين فيما زعمه في قضية انتحال الشعر الجاهلي وما ضمنه من افتراءات ضد القرآن الكريم . وفي عام 1346 هـ شارك في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وفي السنة نفسها أسس جمعية (الهداية الإسلامية) والتي كانت تهدف للقيام بما يرشد إليه الدين الحنيف من علم نافع وأدب رفيع مع السعي للتعارف بين المسلمين ونشر حقائق الإسلام ومقاومة مفتريات خصومه، وصدر عنها مجلة باسمها هي لسان حالها، وفي عام 1349 هـ صدرت مجلة (نور الإسلام - الأزهر حالياً) وتولى رئاسة تحريرها فترة طويلة . وفي عام 1351 منح الجنسية المصرية ثم صار عضواً بالمجمع اللغوي . ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (لواء الإسلام) مدة . وفي عام 1370 تقدم بطلب عضوية جمعية كبار العلماء فنالها ببحثه (القياس في اللغة) وفي 21/12/1371 هـ تولى مشيخة الأزهر وفي ذهنه رسالة طالما تمنى قيام الأزهر بها، وتحمل هذا العبء بصبر وجد وفي عهده أرسل وعاظ من الأزهر إلى السودان ولاسيما جنوبه، وكان يصدر رأي الإسلام في المواقف الحاسمة، وعمل على اتصال الأزهر بالمجتمع واستمر على هذا المنوال، ولما لم يكن للأزهر ما أراد أبى إلا الاستقالة .
ولابد من ختم هذا المقالة بذكر بعض من المواقف الجريئة التي تدل على شجاعته ، وأنه لا يخشى في قول الحق لومة لائم شأنه شأن غيره من علماء السلف الذين صدعوا بالحق في وجه الطغيان في كل زمان ومكان .
1- حينما كان في تونس لم تمنعه وظيفته من القيام بواجبه في الدعوة والإصلاح بالرغم من أن الاستعمار ينيخ بكلكله على البلاد ، فقد ألقى في نادي (قدماء مدرسة الصادقية) عام 1324 محاضرته (الحرية في الإسلام) والتي قال فيها :
(إن الأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها ، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد وننفي عنها لقب الحرية) .
ثم بيّن حقيقتي الشورى والمساواة ، ثم تحدث عن حق الناس في حفظ الأموال والأعراض والدماء والدين وخطاب الأمراء . ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد وهذه المحاضرة من دراساته التي تدل على شجاعته وعلى نزعته المبكرة للحرية المسؤولة وفهمه لمنهج الإسلام فهماً راقياً سليماً .
2- وفي عام 1326 عرضت عليه السلطة المستعمرة الاشتراك في المحكمة المختلطة التي يكون أحد طرفيها أجنبياً . فرفض أن يكون قاضياً أو مستشاراً في ظل الاستعمار . ولخدمة مصالحه وتحت إمرة قانون لا يحكم بما أنزل الله .
3- ولا أزال أذكر ما قصه علينا أستاذ أزهري كان آنذاك طالباً في أصول الدين إبان رئاسة الشيخ للأزهر ، حين دعا أحد أعضاء مجلس الثورة إلى مساواة الجنسين في الميراث ، ولما علم الشيخ بذلك اتصل بهم وأنذرهم إن لم يتراجعوا عن ما قيل فإنه سيلبس كفنه ويستنفر الشعب لزلزلة الحكومة لاعتدائها على حكم من أحكام الله ، فكان له ما أراد .
أواخر حياته
واستمر الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- في أواخر حياته يلقي المحاضرات ويمد المجلات والصحف بمقالاته ودراساته القيمة، بالرغم مما اعتراه من كبر السن والحاجة إلى الراحة وهذا ليس غريباً عمن عرفنا مشوار حياته المليء بالجد والاجتهاد والجهاد .
وكان أمله أن يرى الأمة متحدة ومتضامنة لتكون كما أراد الله خير أمة أخرجت للناس، وحسبه أنه قدم الكثير مما لانجده عند الكثير من علماء هذا الزمان .(4/187)
وفي عام 1377 هـ انتقل إلى رحاب الله ، ودفن في مقبرة أصدقائه آل تيمور جزاه الله عن الإسلام خير الجزاء ، ورحمه رحمة واسعة ، وعفا الله عنا وعنه .
=================
محمد متولي الشعراوي
علم بارز من أعلام الدعوة الإسلامية ، وإمام فرض نفسه ، وحفر لها في ذاكرة التاريخ مكاناً بارزاً كواحد من كبار المفسرين ، وكصاحب أول تفسير شفوي كامل للقرآن الكريم ، وأول من قدم علم الرازي والطبري والقرطبي وابن كثير وغيرهم سهلاً ميسوراً تتسابق إلى سماعه العوام قبل العلماء ، والعلماء قبل العوام .
مولده
- ولد الشعراوي يوم 15 أبريل عام 1911م ، بقرية "دقادوس" ، مركز ميت غمر ، بمحافظة الدقهلية ، بجمهورية مصر العربية .
- حفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة ، والتحق بمعهد الزقازيق الديني الابتدائي ، ثم الإعدادي ، فالثانوي .
- حصل على شهادة العالمية من كلية اللغة العربية بالقاهرة سنة 1941م .
- عين مدرساً بالمعهد الديني بطنطا ، ثم انتقل إلى الزقازيق ثم إلى الاسكندرية ، واستمر تدريسه مدة ثلاث سنوات فقط ، سافر بعدها إلى السعودية ضمن البعثة الأزهرية - ليعمل أستاذاً للشريعة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة 1950م ، وفي عام 1963م حدث خلاف بين جمال عبدالناصر والملك سعود سُحِبت على إثره البعثة الأزهرية ، فعاد إلى مصر ، وتولى منصب مدير مكتب شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون .
- وسافر الشيخ مرة أخرى إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر ، وبقي بها مدرساً لمدة سبع سنوات ، قبل أن يعود إلى مصر ويتولى منصب مدير أوقاف محافظة الغربية ، ثم بعد ذلك وكيلاً للأزهر الشريف .
- في سنة 1976م اختير وزيراً للأوقاف في وزارة ممدوح سالم ، ولكن وقع خلاف بينه وبين السادات "رئيس الجمهورية" فترك الوزارة ، وسافر إلى السعودية ولم يعد إلا بعد مقتل السادات سنة 1981م .
نور على نور
عرف الناس الشيخ الشعراوي ، وتوثقت صلتهم به ، ومحبتهم له من خلال البرنامج التلفزيوني "نور على نور" وهو الذي كان يفسر فيه كتاب الله العزيز ، وقد بدأ هذا البرنامج في السبعينات من هذا القرن ، ومن خلاله ذاع صيت الشعراوي في مصر والعالم العربي والإسلامي ، ومن التليفزيون المصري انتقل البرنامج إلى إذاعات وتليفزيونات العالم الإسلامي كله تقريباً .
كان الشعراوي في تفسيره للقرآن آية من آيات الله ، وكان إذا جلس يفسر كأن كلامه حبات لؤلؤ انفرطت من سلكها فهي تنحدر متتابعة في سهولة ويسر .
غواص معانٍ
كان - رحمه الله - في تفسيره كأنه غوَّاصٌ يغوص في بحار المعاني والخواطر ، ليستخرج الدرر والجواهر ، فإذا سمعت عباراته ، وتتبّعْت إشاراته ، ولاَمَسَتْ شغافَ قلبك خواطرُه الذكية ، وحرّكت خلجات نفسك روحانياتُه الزكية قلتَ : إنه لَقِن معلَّم ، أو فَطِنٌ مُفَهَّم ، لا يكاد كلامه يخفى على سامعه مهما كان مستواه في العلم ، أو قدرته على الفهم ، فهو كما قيل السهل الممتنع .
وعلى رغم أن علم التفسير علمٌ دقيق ، وغالباً ما يُقدم في قوالب صارمة ، ولغة صعبة عالية ، إلا أن الشعراوي نجح في تقريب الجمل المنطقية العويصة ، والمسائل النحوية الدقيقة ، وكذلك المعاني الإشارية المُحلِّقة ، ووصل بذلك كله إلى أفهام سامعيه ، حتى باتت أحاديثه قريبة جداً من الناس في البيوت ، والمساجد التي ينتقل فيها من أقصى مصر إلى أقصاها ، حتى صار الناس ينتظرون موعد برنامجه ليستمتعوا بسماع تفسيره المبارك .
لقد عاش الشعراوي مع القرآن يعلمه للناس ويتعلم منه ، ويؤدب الناس ويتأدب معهم ، فتخلَّق بأخلاقه ، وتأدب بآدابه ، فعاش - رحمه الله - بسيطاً متواضعاً ، رغم سعة شهرته ، واحتفاء الملوك والأمراء والوجهاء والكبراء به ، وكان يحيى حياة بسيطة على طريقة سراة الفلاحين .
كان الشيخ مألوفاً محبوباً ، يألفه الناس ويحبونه لصفاء نفسه ، ولطف معشره ، وحسن دعابته مع مهابة العلماء ووقارهم .
كان الشعراوي واسع الثراء ، كثير الإنفاق في سبيل الله تعالى - حتى إنه تبرع مرة بمليون جنيه مصري للمعاهد الأزهرية .
وما زال الشيخ الشعراوي مستمراً في التفسير إلى أواخر حياته ، وقبيل أن يمنعه المرض الذي عانى منه قبل وفاته بخمسة عشر شهراً .
وفاة الشيخ
وفي صباح الأربعاء 22 صفر 1419هـ الموافق 17/6/1998م انتقلت الروح إلى باريها ، وفقدت الأمة علماً آخر من أعلامها البارزين .
وانتهز الصوفية محبة الناس للشعراوي فأقاموا له مقاماً في محافظة الدقهلية ، وزعموا أنه كان من أكابر أئمة الطريقة . ومحبي الأولياء ، ومقبلي الأعتاب .
رحم الله الشعراوي ، وعفا عنه ، وجازاه عن القرآن خيراً ، وعوض المسلمين خيراً منه . آمين
================
محمد ناصر الدين الألباني
صفحة من صفحات أمتنا البيضاء طويت مع ما طوي قبلها من صفحات ، وكلها صفحات من نور ، وورقة أخرى من ورقات شجرة الحياة سقطت بعد ما سقط قبلها - فسقط بسقوطها علم وهوى بهويها نجم بل قمر، وانطفأت شمس طالما أضاءت الطريق إلى الله تعالى .
إنه الفقيد الذي ارتبط اسمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يذكر إلا ويذكر معه ، العالم الذي بزّ لداته ، وفاق أقرانه ، وتميز حتى صار شامة في جبين الصحوة المعاصرة ، والعلم الذي أحيا مكانة السنة الصحيحة ، وأوضح أثرها في حياة نهضة الأمة ، وفضح السنة المنحولة ، وحذّر منها وبيَّن ضعيفها وسقيمها .(4/188)
إنه الساعي الحثيث في إعلاء شأن الحديث ، العالم الرباني، والعلامة الجهبذ ، والمحدث الكبير ، ناصر السنة ، وقامع البدعة الشيخ الفاضل : أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
مولده ونشأته
ولد الشيخ سنة 1332هـ في مدينة أشقودرة عاصمة ألبانيا آنذاك – لأسرة فقيرة وكان بيته بيت علم ، فوالده رحمه الله من كبار علماء الحنفية في ألبانيا .
نزح الشيخ مع والده إلى سوريا فراراً من حكم الهالك أحمد زوغو الذي حول ألبانيا إلى دولة علمانية تحارب الإسلام وأهله .. وفي سوريا بدأ دراسته الابتدائية ، وحفظ القرآن على يد والده وأخذ عنه كثيراً من الفقه الحنفي ، كما قرأ الشيخ على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح وشذور الذهب وبعض كتب البلاغة، ومنحه الشيخ محمد راغب الطباخ محدث حلب إجازة في الحديث .
تعلّم الألباني مهنة تصليح الساعات من والده وأتقنها، وبها كان يتكسب رزقه .
توجه الشيخ للحديث وولَّى وجهه شطره ، وكانت البداية مقالاً نشره الشيخ رشيد رضا في مجلته "المنار" عن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وبيّن فضله وقيمته لولا ما فيه من أحاديث ضعيفه وموضوعه ، ثم ما فعله العراقي من نقد هذه الأحاديث والحكم عليها .
وبعد أن قرأ الألباني المقال ذهب إلى سوق المسكية بدمشق واستأجر الكتاب - إذ لم يكن بمقدوره شراؤه - ثم نسخ كل الأحاديث وبجوار كل حديث تعليقات العراقي عليه ، حتى جمعها في كتاب خالص ، كان هو مدرسته الأولى التي عليها تتلمذ وبها تخرج .
علو الهمة
كما هو حال كل علماء الأمة العظام ، كان الصبر على العلم والهمة والنهمة في طلبه ، والمحافظة على الوقت لأقصى درجة ، وإمضاؤه في القراءة والبحث والتنقيب ، أو في التأليف والتقييد .
كذلك كان شيخنا - رحمه الله - يكتفي بعمل ساعة في اليوم أو ساعتين فيحصل قوته وأولاده ثم ينطلق إلى المكتبة الظاهرية لينكب على الكتب والمخطوطات دراسة وبحثاً وتنقيباً ، فربما قضى فيها خمس عشرة ساعة كل يوم ، وربما بقي بعد انتهاء الدوام فيطلب منه الموظفون أن يغلق الأبواب خلفه ، ومن جميل ما يذكر أنه كان أحياناً يصعد على السلم ليلتقط كتاباً من على الرف فيبقى على السلم ساعة يقرأ وقد نسي نفسه من شغفه بالقراءة .
مدرسة جديدة
استطاع الشيخ بتوفيق الله له أن يؤسس مدرسة جديدة في علم الحديث ، كان أهم معالمها تنقية السنة الشريفة مما يعرف عن العلماء بالحديث المردود ( الموضوع والضعيف بأقسامه)، وألف رحمه الله كتبا خصصها للأحاديث الصحيحة وأخرى للضعيفة، وعمل على عزل الصحيح عن الضعيف في كتب السنة ـ كما فعل في الكتب الستة وغيرها ، وخرج أحاديث بعض الكتب ، ونقد نصوصا حديثة في الثقافة الإسلامية ، ودافع عن الحديث النبوي والسيرة بالرد على من تجرؤا عليهما .. إلى غير ذلك من جهوده المميزة التي جعلته بحق مدرسة في علم الحديث تذكر بجهود الأولين في حفظ سنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
ومما لا ينبغي إغفاله أنه قد تخرج على يدي الشيخ رحمه الله أعداد غفيرة من طلبة العلم الذين اشتغلوا بهذا العلم الشريف على منهجه في كل البلاد ، فكانوا بإذن الله صدقة جارية تبقى في صحائف الشيخ مع مؤلفاته إلى يوم الدين .
مؤلفاته
وقد بارك الله في حياة الشيخ ووقته وعلمه فألف التآليف الماتعة، وألقى المحاضرات والدروس النافعة ، وانتشرت كتبه في كل مكان حتى انتفع بها القاصي والداني ، وصارت دواوين للسنة يرجع إليها المبتدؤون والمتخصصون ، ويعزو إليها الكاتبون والمؤلفون والمحققون ، وجمع الله كلمة الناس على فضله في هذا العلم ، واقر له الكثير بطول الباع فيه ، فأقر الله عينه بهذه المؤلفات ، كما نفع بها جموع المسلمين.
ومن مؤلفاته النافعة الماتعة : -
1-إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ولعله من أنفع كتبه .
2- سلسلة الأحاديث الصحيحة .
3- سلسلة الأحاديث الضعيفة .
4- تلخيص أحكام الجنائز .
5- صفة صلاة النبي ( وهو من أول مؤلفاته وأكثرها انتشاراً ونفعاً ) .
6- حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
7- الحديث حُجّة بنفسه .
8- ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة لابن أبي عاصم .
9- تحقيق مشكاة المصابيح .
10- تحريم آلات الطرب .
إضافة إلى الكثير والكثير من الكتب التي خرَّج أحاديثها ، والمؤلفات التي أمتع بها ونفع بها . فله أكثر من مائة كتاب ما بين صغير وكبير .
وهو رحمه الله من المكثرين تأليفاً وتحقيقاً رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً .
درّس الشيخ في الجامعة الإسلامية لمدة ثلاث سنوات بداية من 1383هـ ، وبترشيح من الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة ، ثم عاد إلى سوريا ومنها إلى الأردن .
وفي سنة 1419هـ حصل على جائزة الملك فيصل العالمية ، فرع الدارسات الإسلامية ، نظير جهده واجتهاده وتفانيه في خدمة الإسلام ، والعناية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثناء العلماء عليه
وقد أثنى العلماء على الشيخ رحمه الله ثناءً حسناً .
فمن ذلك قول الشيخ ابن باز رحمه الله - لا نعلم أحدًا أعلم بالحديث منه يعني الألباني وقال : ماتحت أديم السماء عالم بالحديث في العصر الحديث ( فيما نعلم ) مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني .
وسمعت الشيخ صالح بين عثيمين وقد ذكر الشيخ أمامه بسوء فقال :
أقلُّوا اللَّوم لا أبا لأبيكم عليه أو سدُّوا المكان الذي سدَّا
ثم قال : أشهد أن الشيخ الألباني كان عالماً محدثاً فقيهاً ولكن غلب عليه الحديث أكثر، لا أقول إنه معصوم ولكنه إمام . أو نحوه .(4/189)
وتكفي شهادة هذين العالمين الإمامين للدلالة على فضل الألباني ومكانته - رحمه الله.
أولاده
رزق الشيخ بسبعة أولاد وست بنات ، وقد تزوج من أربعة نسوة .
وفاته
وفي مساء السبت 22/6/1420هـ ، وفي إحدى مستشفيات عمان عاصمة الأردن ، أسلم الشيخ روحه إلى باريها بعد صراع مع المرض دام عامين ، وقد شيعه وصلى عليه خلق كثير .
رحم الله الشيخ الألباني، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، ونضر وجهه بخدمته للسنة، وأخلف على المسلمين خيرًا منه. آمين.
==============
عبد الله بن زيد آل محمود
الحمد الله الذي رفع أهل العلم أعلى الدرجات ، والصلاة والسلام على من أسكنه ربه أعلى الجنات محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .. وبعد :
فهذه ترجمة مختصرة لعلم من أعلام القضاء في الجزيرة العربية وعالم من علمائها الأفذاذ الشيخ العلامة عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى رحمة واسعة .
اسمه ونسبه
هو العالم الجليل والفاضل النبيل، الشيخ العلامة " عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود " ينتهي نسبه إلى الأشراف من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . كنيته : أبو محمد ومحمد أكبر أبنائه .
مولده ونشأته
ولد الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود بحوطة بني تميم في نجد عام 1329هـ ، وقد نشأ بها في كنف والديه ، وقد توفى أبوه ولم يبلغ الشيخ عبد الله سن الرشد ، فتولى رعايته خاله حسن بن صالح الشثري ، وقد سمت همته لطلب العلم منذ الصغر ، فتلقى العلم على عدد من مشايخ الحوطة.
وكان قد بدأ بالقرآن الكريم فحفظه وهو صغير ، وبدأ بدراسة العلم مع ما موهبة الله من استعاب ذهني ؛ حيث فاق زملأؤه في الطلب ، وتقدم إمامًا على جماعته في الصلاة والتراويح ، ويم يتجاوز سنه الخامس عشرة .
وقد وفق لطلب العلم على عدد من أئمة الدعوة السلفية في زمنه ،فأخذ عنهم العلم الشرعي، ومنهم :
1- مفتي الديار السعودية العلامة الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ المتوفي سنة 1389هـ .
2- العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع المتوفي سنة 1385هـ .
3- الشيخ / عبد العزيز بن محمد الشثري المتوفي سنة 1387هـ وهو الشهير بأبي حبيب .
4- الشيخ / عبد الملك بن الشيخ إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ .
نبوغه في العلم
ومن شواهد نبوغ الشيخ عبد الله استظهاره لعدد من المتون العلمية ومنها :
1- في العقيدة : الأصول الثلاثة وكشف الشبهات ، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ، والواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية ـ رحمه الله ـ .
2- وفي الحديث : بلوغ المرام للحافظ بن حجر ، وعمدة الحديث للحافظ عبد الغني المقدسي ، وحفظ ألفية السيوطي في مصطلح الحديث .
3- وفي الفقه: آداب المشي إلى الصلاة ، وزاد المستقنع ، ونظم المقنع لابن عبد القوي .
4- في العربية : حفظ متن الآجرومية ، وقطر الندى لابن هشام ، وألفية ابن مالك .
أعماله
تولى الوعظ والتدريس بالمسجد الحرام بتكليف من مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، وقد مكث ما يقرب من سنة في مكة ، ثم رحل إلى قطر لتولي القضاء فيها بعد أن رشحه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع بمباركة من الملك عبد العزيز آل سعود ، والشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني .
وقد باشر عمله بالقضاء والخطابة والتدريس منذ وصوله إلى قطر ، ولم يزل فيها إلى أن توفي
مع تردده إلى مسقط رأسه ومرتع صباه ( الحوطة ) جنوب مدينة الرياض .
صفاته
كان الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود يتمتع إلى جانب العلم الواسع بتواضع جم وحكمة ولباقة في تيسير المسائل الشرعية ، وبيان مشرق عذب في الخطابة والمحاضرة ، وصياغة جميلة وأسلوب رصين في الكتابة والتأليف في المواضيع الإسلامية التي عالجها وفي المشاكل التي يواجهها المسلمون اليوم .
ولخصاله الحميدة وأخلاقه الجميلة كان موضع حب الناس وتقديرهم على اختلاف الطبقات .
مؤلفاته
ألف ـ رحمه الله ـ الكثير من الرسائل والكتب المهمة ، تناول بعضها اجتهاداته في الأمور الشرعية وقد جاوزت مؤلفاته الستين رسالة .
منها : تيسر الإسلام ، بدعة الاحتفال بالمولد ، أحكام عقود التأمين ، الجهاد المشروع في الإسلام ، الأحكام الشرعية ومنافاتها للقوانين الوضعية ، كتاب الصيام ، الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة.
وفاته
بعد حياة حافلة في خدمة الإسلام والمسلمين أدى فيها الشيخ دورًا مهمًا وفاعلاً في الحياة العلمية والاجتماعية على نحو مشرف وغاية سامية نبيلة .
انتقل الشيخ إلى جوار ربه سبحانه وتعالى في حوالي الساعة التاسعة من صباح يوم الخميس في أواخر العشر المباركة من الشهر الفضيل رمضان ، وذلك في اليوم الثامن والعشرين منه من عام 1417هـ الموافق للسادس من فبراير لعام 1997م عن عمر ناهز التسعين عامًا .
وصلى عليه بالمسجد الكبير ، بعد صلاة عصر يوم الخميس ، وقد أم المصلين للصلاة عليه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي ، وقد ازدحمت جنبات المقبرة وغصت بالناس وقد بكاه أهل قطر رجالاً ونساءً ، وقد رؤيت له رؤى حسنة قبل وفاته وبعدها .
فجزاه الله خيرًا .. وأدخله فسيح جناته .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
================
العالم الرباني الشيخ محمد المختار الشنقيطي
العالم الرباني الأصولي المفسر اللغوي البحر الموسوعي الشيخ الجليل - نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا - محمد المختار بن محمد سيد الأمين بن حبيب الله بن مزيد الجكني الشنقيطي عليه رحمات الله ورضوانه .(4/190)
ولد رحمه الله وجزاه عني خيرا في منطقة الشفيق على مقربة من مدينة الرشيد ؛ في بلاد شنقيط بموريتانيا عام 1337هـ، ونشأ في بيت علم حيث كان جده عالماً، ووالده شيخاً لقبيلة آل مزيد الجكنية.
بدأ حفظ القرآن وهو صغير على يد والدته حتى وفاتها، ثم على يد والده إلى أن أتمه، ثم شرع في قراءة ودراسة رسم المصحف وضبطه ، وما يتعلق بذلك من علوم القرآن وفنونه على عدد من علماء بلده، ومنهم: الشيخ محمد بن السالم، والشيخ محمد بن محمود الحبيب ، ودرس كذلك النحو، والصرف، والفقه وأصوله على يد الشيخ أحمد بن خود.
وفي عام 1356هـ هاجر إلى الحجاز فنزل أولاً في مكة المكرمة ثم توجه إلى المدينة المنورة ، وفيها التحق بحلقات العلم في المسجد النبوي الشريف ، وكان من شيوخه: الشيخ عمر السالك ، والشيخ محمد الأمين بن عبدالله الحسن.
ثم رجع إلى مكة المكرمة، وأقام فيها أربع سنوات يطلب العلم بأنواعه على علماء المسجد الحرام ، ومن شيوخه: الشيخ محمد العربي التباني، والشيخ محمد تكر الإفريقي، والشيخ حسن المشاط ، والشيخ محمد أمين كتبي.
ثم عاد إلى المدينة المنورة ، وأخذ مكانه للتدريس في المسجد النبوي ، وكان له خمس حلقات بعدد الصلوات الخمس ، يدرس فيها مختلف العلوم الشرعية والعلمية، حيث ضرب في كل فن من الفنون بسهم وافر.
وتولى الخطابة في مسجد قباء ، وخصص فيه يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع للتدريس ، وبقي فيه حتى عام 1366هـ. حيث انتقل للتدريس في مدرسة الفلاح بجدة، وفي عام 1371 هـ انتقل إلى الرياض للتدريس في معهدها العلمي وبقي فيه إلى عام 1377هـ.
وفي عام 1378هـ، صدر قرار بتعينه مدرساً في دار الحديث بالمدينة المنورة ، كما درس التفسير في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وبقي فيها حتى عام 1403 هـ، حيث أحيل إلى التقاعد، فتفرغ للعلم والتدريس في المسجد النبوي حتى وفاته عام 1405 هـ.
كان رحمه الله عالماً من علماء المدينة الكبار، وكان له تلاميذ ومحبون لازموه لفترة طويلة، ونهلوا من علمه وأصبحوا علماء ، منهم: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وراشد بن حنين، وعطية محمد سالم، وعبد الله الزاحم، ونايف هاشم الدعيس ، وعبد الله إبراهيم الأنصاري ، ومحيى الدين كمال، وعلي مشرف ، وعبد المحسن آل الشيخ ، وغيرهم.
وكان الشيخ رحمه الله تعالى مقلاً في التأليف حيث وهب نفسه وحياته لدراسة العلم، وتعليمه ونشره بين أهله وذويه ، سواء في المعاهد والمدارس أو في المسجد النبوي، وكان له من المؤلفات المطبوعة :
ـ الجواب الواضح المبين في حكم التضحية عن الغير من الأحياء والأموات.
ـ شرح سنن النسائي .
كما ترك الشيخ مكتبة عامرة بأمهات الكتب والمراجع في مختلف الفنون والعلوم يستفيد منها الباحثون وطلاب العلم.
كذلك فقد خلف عدداً من الأبناء العلماء الذين ساروا على طريقته ونهجوا نهجه في نشر العلم والتدريس في حلقاته، منهم:
الدكتور عبد الله بن محمد المختار، والدكتور محمد بن محمد المختار.
-----------------------
للتوسع: أعلام من أرض النبوة ـ ج2 ص 137 < p>
==============
محمد علال الفاسي (1326 – 1394 هـ)
هو أحد رواد الفكر الإسلامي ، وبطل النضال الزعيم السياسي والمقاوم الصامد الأستاذ الخطيب الأديب محمد علال ابن العلامة الخطيب المدرس الكاتب المفتي عبد الواحد ابن عبد السلام بن علال الفهري نسبا، القصري ثم الفاسي مولدا ودارا ومنشأ.
ينحدر من عائلة عربية عريقة نزحت من موطنها بديار الأندلس إلى المغرب الأقصى فرارا بدينها وعقيدتها من محاكم التفتيش الإسبانية واستوطنت بمدينة فاس تحت اسم بني الجد واشتهرت بآل الفاسي الفهري وساهمت في جميع المجالات العرفانية حيث أنجبت علماء جهابذة وفقهاء نحارير وقضاة بارزين ومؤلفين بارعين.
ولد علال الفاسي بفاس في أواخر شوال عام1326هـ ولما وصل إلى سن التمييز أدخله والده إلى الكتاب لتلقي مبادئ الكتابة والقراءة ، وحفظ القرآن الكريم على الفقيه محمد الخمسي الذي حباه الله تعالى بالخط الجميل البارع وعلى الفقيه محمد العلمي ، إلى أن حفظه في سن مبكرة، وبعد ذلك نقله والده إلى المدرسة العربية الحرة الواقعة بحي القلقليين بفاس القديم ليتعلم مبادئ الدين وقواعد اللغة العربية ، حيث كان محل عناية فائقة خاصة عنده لكونه الولد الوحيد الذي وهبه الله له، وكان أمله الكبير أن يتخرج عالما من علماء المغرب الأفذاذ، وقد حقق الله تعالى رجاءه فكان مبرزا على أقرانه، مفخرة أسرته، بل مفخرة القرويين والمغرب ، علما ونبوغا وذكاء وعبقرية ووطنية صادقة ومقاومة مستميتة، وكان من جملة القائمين بالتدريس في تلك المؤسسة التعليمية ابن عمه الأستاذ الخطيب عبد السلام بن عبد الله الفاسي.
وفي عام 1338هـ التحق بجامع القرويين العامر للارتواء من ينابيعه المتدفقة وجداوله الفياضة الزاخرة، فقرأ على الشريف الفقيه محمد بن العربي العلوي المختصر بشرح الدردير، والتحفة بشرح الشيخ التاودي بن سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلي، والكامل في الأدب للمبرد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبة.(4/191)
وقرأ على الشريف المفتي الحسين العراقي الألفية بشرح المكودي، والتفسير، وعلى القاضي أحمد بن المامون البلغيثي أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، وعلى محمد ابن عبد المجيد أقصبي كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، وعلى القاضي عبد الله الفضيلي جمع الجوامع بشرح المحلي ، والمختصر بشرح الزرقاني ، والخرشي والرهوني وبناني ، وعلى الفقيه الرباني أحمد العمراني و الفقيه الشيخ أبي شعيب الدكالي صحيح الإمام البخاري، وعلى الفقيه محمد بن عبد الرحمن العراقي ألفية ابن مالك والاستعارة،
وعلى الفقيه المعقولي القاضي العباس بناني منظومة السلم بشرح الشيخ بناني ، وعلى الفقيه المحدث محمد بن الحاج السلمي التفسير، وعلى الفقيه محمد بن حعفر الكتاني دروسا من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، وسرد الكتب الستة على أبيه وعمه القاضي عبد الله الفاسي . وعلى الشريف السلفي علي الدرقاوي زاد المعاد في هدي خير العباد، وأدب الدنيا والدين، والشمائل المحمدية، وتابع دراسته إلى أن انتهى الموسم الدراسي فظفر بالفوز مكللا بأكاليل النجاح حاصلا على الشهادة العالمية ، وبعد التخرج صار يقوم بدروس تطوعية في مختلف العلوم بجامع القرويين .
وفي عام 1380هـ عين وزيرا للدولة مكلفا بالشؤون الإسلامية ثم انسحب من الحكومة صحبة رفاقه في حزب الاستقلال وذلك في عام 1382هـ وعين أستاذا بكلية الشريعة التابعة لجامعة القرويين بظهر المهراز وكليتي الحقوق والآداب لجامعة محمد الخامس بالرباط، وبدار الحديث الحسنية بنفس المدينة ، وكان عضوا مقررا عاما في لجنة مدونة الفقه الإسلامي التي شكلت في فجر الاستقلال .
وقد أجيز من قبل والده وعمه الفقيه عبد الله الفاسي وشيخيه العلامتين أبي شعيب الدكالي محمد بن جعفر الكتاني ، إجازة رواية كتابية .
و خلف رحمه الله كثيرا من المؤلفات في شتى الموضوعات منها
- الحماية في مراكش ممن الوجهتين التاريخية والقانونية
- الحركات الاستقلالية في المغرب العربي
- السياسة البربرية في المغرب
- النقد الذاتي
- المغرب العربي من الحرب العالمية الأولى إلى اليوم
- حديث المغرب في المشرق
- عقيدة وجهاد
- منهج الاستقلالية
- مفاصد الشريعة الإشلامية ومكارمها
- دفاع عن الشريعة
- الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدإ الشهور الإسلامية العربية
- معركة اليوم والغد
- كيلا ننسى
- محاضرتان عن مهمة علماء الإسلام
- المثل الأعلى في الصدق والثبات وحسن الإنابة
- نضالية الإمام مالك ورجال مذهبه
- واقع العالم الإسلامي
- الإنسية المغربية
- صحراء المغرب المغتصبة
- الإسلام وتحديات العصر
- دفاعا عن الأصالة
- في المذاهب الاقتصادية
- لفظ العبادة : هل يصح إطلاقه لغير الله
- مجموعة أبحاث في الأدب والإجتماع
- هل الإنسان في حاجة إلى الفلسفة ؟
- تاريخ التشريع الإسلامي
- شرح مدونة الأحوال الشخصية
- بحث مفصل عن النظريات الفلسفية المختلفة ومقابلتها بالحرية الإسلامية
- مستندات لتاريخ المقاومة المغربية
هذا زيادة على مجموعة أخرى من الخطب والمحاضرات والمذكرات السياسية والقصائد الشعرية والبحوث والمقالات المنشورة في أمهات الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الدورية. كما أصدرمجلة "البينة"، وجريدة "صحراء المغرب"، و "الحسنى"، كما خط قلمه مجموعة من الكتب باللغة الفرنسية.
وقد أسهم رحمه الله بنصيبه في ميدان الشعر الفسيح ونبغ في قرضه في سن مبكرة فنظم كثيرا من القصائد الطوال والمقطعات والأراجيز في مختلف الموضوعات ، من دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية ووطنية ثائرة وحماسية نارية مما أهله لأن يلقب بحق وعن جدارة شاعر الشباب ، ويتوج بتاجه الرفيع. يقول رحمه الله في قصيدة "إما حياة وإما ممات":
إلى كم نعيش بدون حياة وكم ذا ننام عن الصالحات؟
فوا حسرتاه على حالنا وماذا استفدنا من الحسرات؟
عرانا الذهول وياليتنا عرانا الذهول عن المهلكات؟
أنبقى بلا عمل نافع ونرضى جميعا بهذا السبات؟
وافته المنية، رحمه الله تعالى، بمدينة بوخاريست عاصمة رومانيا، إثر نوبة قلبية، عشية يوم الإثنين 20 ربيع الثاني عام 1394 هـ، و نقل جثمانه إلى أرض الوطن، فدفن بمقبرة الشهداء بحي العلو في مدينة الرباط.
===============
محمد المختار السوسي
هو الوطني الغيور المقاوم الصبورالأستاذ العامل محمد المختار ابن علي بن أحمد السوسي الإلغي الدرقاوي الملقب برضا الله.
ولد في "إلغ" وهي قرية بناحية تازروالت في أقصى جنوب القطر السوسي بجنوب المغرب، وتبعد عن مدينة تيزنيت شرقا ب84كلم، وذلك في شهر صفر الخير عام1318هـ ونشأ بها، وحين بلغ سن الإدراك اتجه إلى الدراسة الأولية لتعلم الكتابة والقراءة واستظهار كتاب الله العزيز على عدة معلمين، أولهم والدته السيدة رقية بنت محمد بن العربي الأدوزي، وختم ذلك سبع ختمات في مختتم عام 1328هـ.
مشوار الطلب
وفي أوائل عام1329هـ صبت همته الطموح للمعالي للدراسة العلمية فارتاد منابع العلوم والثقافة الإنسانية، فدرس بالزاوية الالغية، ثم التحق بمدرسة إيغشان الواقعة في الشمال الشرقي لقرية إلغ ، وأخذ عن العالم عبد الله بن محمد الإلغي ثم ارتحل إلى المدرسة البونعمانية بآيت براييم وأخذ عن العالم الصالح أحمد بن مسعود البونعماني، كما أخذ عن العالم الأديب الطاهر بن محمد الافراني،والشيخ عبد الرحمن البوزاكارني.(4/192)
ومن بين ما درسه في هاته المعاهد: المقدمة الأجرومية، و لامية المجرادي في أحكام الجمل، ولامية الأفعال للإمام ابن مالك في التصريف، والخلاصة الألفية، ولامية العجم للطغرائي، والمقامات الحريرية، وطرف من الرسالة القيروانية، والمختصر الخليلي، والتحفة للإمام ابن عاصم الغرناطي، والفرائض والحساب مع كثير من القصائد الأدبية المتداولة في الدراسة .
وفي عام 1338هـ رحل إلى عاصمة الجنوب مراكش ، فقطن بمدرسة ابن يوسف، وحضر في الحلقات العلمية بالكلية اليوسفية المعقودة للفقيه محمد بن الحسن الدباغ، والفقيه محمد بن عمر السرغيني الشهير بابن نوح، وأبي شعيب الشاوي، والفقيه أحمد بن الحسن الخصاصي، كما حضر المجالس العلمية التي عقدها هناك الشيوخ الواردون عليها وهم: الفقيه فتح الله بناني، وشيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي .
وقد تلقى عن هؤلاء الشيوخ بمراكش تحفة الحكام، ولامية الزقاق، والجوهر المكنون، والخزرجية في العروض، و السُّلَّم للشيخ الأخضري، وجمع الجوامع، ومختصر المواهب اللدنية، والجامع الصحيح للإمام البخاري .
وفي عام 1343هـ شد الرحلة إلى العاصمة العلمية "فاس" فاستوطن ببيت في المدرسة البوعنانية بالطالعة، وتردد على مجالس الشريف العلامة المحدث محمد بن جعفر الكتاني، والمفتي محمد بن الطيب البدراوي، والعلامة محمد الحجوجي. فدرس الموطأ وشمائل الترمذي، والشفا للقاضي عياض، والمسند للإمام أحمد، والحساب، والجغرافيا، و المعلقات السبع، والكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد، وديوان الحماسة لأبي تمام الطائي. وقد تتلمذ في هذه الدراسة الأدبية للأستاذ الشريف السلفي محمد بن العربي الوزاني المدغري.
وفي عام 1347هـ رحل إلى الرباط، وفيها أخذ عن العلامة الشيخ أبي شعيب الدكالي بعض الأحزاب من تفسير كلام الله المبين، ودروسا من الأمالي لأبي علي القالي، وأخذ عن العلامة محمد المدني بن الحسني طرفا كبيرا من التلخيص للقزويني، و ألفية العراقي في الحديث، و غير ذلك.
وفي عام 1348هـ عاد إلى مراكش وقام بإملاء دروس علمية تطوعية في مختلف مساجدها، وكانت تشتمل على الحديث و النحو والسيرة النبوية، والفقه وأصوله، وانتظم في عقد علماء مراكش الرسميين.
جهاده ضد الاستعمار
كان رحمه الله من الوطنيين الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والذين قاموا بمساع حميدة مشكورة في سبيل الوطن العزيز والعمل على انعتاقه وفك أغلاله وقيوده من ربقة الاستعمار اللعين، فقد ساهم خلال إقامته في فاس في تأسيس بعض الجمعيات السياسية السرية، والمنتديات الأدبية، و واصل نضاله السياسي والوطني في مراكش مما أدى إلى اعتقاله. ولما أكرم الله تعالى المغرب الأقصى بحريته المنشودة عُين في أول حكومة مغربية وطنية وزيرا للأوقاف العمومية وذلك خلال عام 1375 هـ، ثم لما أسس مجلس التاج عين وزيرا عضوا فيه عام 1376هـ، و بقي متقلدا مهام تلك الوظيفة إلى أن توفي رحمه الله، كما أنه اشتغل عضوا في لجنة مدونة الفقه الإسلامي.
جهود علمية ومؤلفات
ويعتبر المختار السوسي شخصية بارزة لامعة في أسماء العلم و الأدب و التاريخ و البحث والدراسة، والاستفادة والإفادة، مشارك في كثير من فنون المعرفة، متخصص بارع في مادة الأدب و التاريخ، خصوصا تاريخ سوس، متضلع في ميدان اللغة العربية، متمكن من ناصيتها، فقد أثرى المكتبة بعدد لا يستهان به من نوادر المخطوطات العربية التي اكتشفها في مختلف المكتبات المغربية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
× ديوان ملك غرناطة يوسف الثالث
× مختصر رحلة العبدري لمؤلف مجهول
× طبقات المالكية لمؤلف مجهول.
وقد خلف رحمه الله مؤلفات بالغة الأهمية نذكر منها :
× المعسول في عشرين جزءا
× سوس العالمة
× من أفواه الرجال
× رجال العلوم العربية في سوس
× اصفى الموارد
× بين الجمود والميع وهو رواية من أفكار إسلامية
× تقييدات على تفسير الكشاف للزمخشري
==================
العلامة ابن قيم الجوزية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد :.
فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌّ بعث الله نبيّاً ، كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد انقطعت النبوة وذهبت وبقيَ حملةُ ميراث النبوة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر . رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وصححه الألباني .(4/193)
وإن من نِعَمِ الله على هذه الأمة أن جعل فيها من يُجدد لها أمر دينها كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد
لها دينها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
والعلماء هم مصابيح الدُّجى ، وأئمة الهدى .
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية – على ما ذكر ابن القيم – وذكر أن ابن وضّاح نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال جاهل قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
قال ابن القيم – رحمه الله - : ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ له من يجدد أعلامه ، ويُحيى منه ما أماته المبطلون ، ويُنعش ما أخمله الجاهلون ، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين . اهـ .
ولئن كان الناس في أسفارهم يَهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر ، فإن العلماء هم نجومُ الهداية . بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة ، فهم مناراتٌ يُهتدى بها ، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر ، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات .
فَدَوْرُ العلماء كبير ، وشأنهم عظيم ، فهم يُبصِّرون الناس من العمى ، ويدلُّونهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة ، ولا أدلّ على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً فسأل : هل لي من توبة ؟ فدُلَّ على رجل عابدٍ لكنه جاهل ، فحجّر واسعاً وقال : لا ليس لك من توبة ، فأتمّ به المائة ، ثم سأل : هل لي من توبة ؟ فَدُلَّ على عالم ، فقال : نعم ، ومن يحول بينك وبينها ، ثم زاد في إرشاده ، فقال له : انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
أو قصة ذلك الدجّال الذي كان يدّعي علم الغيب ، وذلك أن رجلاً كان في مجلس أحد الخلفاء ، وكان بين أيديهم صُرّةً فيها دراهم فكان يخرج من المجلس ويقول : ليأخذ كلُّ
واحد منكم حفنةً من الدراهم ثم يَخرج هو ، ويَعُدُّ كلُّ واحدٍ ما أخذ ، ثم يَدخل ويُخبرَهم بما مع كلّ واحد ، فيكون الأمر كما قال ، فتعجّبوا ، حتى دخل أحدُ العلماء ، فأمر ذلك الدجّال أن يخرج ، فخرج ، ثم ادخل العالمُ يده في الصرة وأخرج حفنةً من الدراهم من غير أن يَعُدّها ووضعها في جيبه ، وقال للدجال : أدخل ، فلما دخل أخذ يُخمّن ويتوقّع فلم يدرِ كم معه بالتحديد ، ثم أزال ذلك العالم اللبس ، وأوضح الحقيقة بأن ذلك الدجّال يستخدم الشياطين ، وكلُّ إنسان وُكِّلَ به قرين – كما أخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فإذا عدّ الدراهم عدّ معه القرين ، ثم أخبر قرين الساحر أو الكاهن أو العرّاف ، فيُخبر بما أُخبرَ به .
فالعالم ينظر بنور الله ، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات .
وقد روى الإمام اللالكائي من طريق الوليد بن هشام عن أبيه قال : بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلا قد ظهر يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيرا ، فبعث إليه هشام فاحضره .
فقال : ما هذا الذي بلغني عنك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تقول إن الله لم يقدر على خلق الشر ؟
قال : بذلك أقول ، فاحْضِر من شئت يحاجّني فيه .
فإن غلبته بالحجة والبيان علمت أني على الحق ، وإن هو غلبني بالحجة فأضرب عنقي .
قال : فبعث هشام إلى الأوزاعي ، فأحضَره لمناظرته .
فقال له الأوزاعي : إن شئت سألتك عن واحدة ، وإن شئت عن ثلاث ، وإن شئت عن أربع !
فقال : سَلْ عمّا بدا لك .
قال الأوزاعي : أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى ؟ قال ليس عندي في هذا شيء .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قلت له : أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر ؟
قال : هذه أشد من الأولى .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه اثنتان .
ثم قلت له : هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
قال : هذه أشد من الأولى والثانية .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه .
فأمَر به هشام فضُربت عنقه .
ثم قال للأوزاعي : يا أبا عمر فسّر لنا هذه المسائل .
فقال : نعم يا أمير المؤمنين .
سألته : هل يعلم أن الله قضى على ما نهى ؟
نهى آدم عن آكل الشجرة ، ثم قضى عليه فأكلها .
وسألته : هل يعلم أن الله قضى حال دون ما أمر ؟
أمر إبليس بالسجود لآدم ، ثم حال بينه وبين السجود .
وسألته : هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
حرم الميتة والدم ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه .
قال هشام : والرابعة ما هي يا أبا عمرو ؟
قال : كنت أقول : مشيئتك مع الله أم دون الله ؟
فإن قال : مع الله فقد اتخذ الله شريكا ، أو قال : دون الله فقد انفرد بالربوبية ، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها .
قال هشام : حياة الخلق وقِوام الدين بالعلماء .(4/194)
والعلماء هم صمام الأمن للأمة بإذن الله ، فإذا ذهب العلماء تخبّط الناس في دياجير الظلمات ، واستفتوا من ليس أهلاً للفتوى ، وتصدّر الأوغاد ، ونطق الرويبضة يُحدّث الناس كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : تأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين وينطق فيهم الرويبضة . قيل : يا رسول الله وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال ابن حجر : إسناده جيّد ، وحسّنه الألباني .
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَترك عالما اتخذ الناس رؤساً جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
والعلماء هم أهل البصيرة والنّظر الثاقب ، ولذا كان يُقال : إن الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء ، وإذا أدبرت عرفها كلّ أحد .
ولذا جاء في وصف الفتن العظيمة : تدعُ الحليم حيراناً .
بمعنى أنه إذا كان العالم الحازم الحليم يَحارُ في الفتن فغيره من باب أولى .
ولا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة .
فمن لم يصبر على تعلّمِ العلم لم يفقه في دين الله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ )
ولما قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كلّه ؟ قال : بنفي الاعتماد ، والسيرِ في البلاد وصبرٍ كصبرِ الجماد ، وبكور كبكور الغراب . ذَكَرَه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث»
والشعبي قال عنه ابن سيرين : لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون .
وإذا تقدّم غير العالم ، وتصدّر الحَدَث كان في ذلك هلاكه وهلاك مَن تبِعه .
ولذا جاء في وصف الخوارج أنهم حدثاء الأسنان ، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
قال ابن حجر : قوله : حدثاء الأسنان أي صغارها وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول .
ولما تطاول الناس في البناء في زمن عمر قال عمر رضي الله عنه : يا معشر العرب الأرض الأرض . إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ومن سوّده قومه من غير فقه كان هلاكا له ولهم . رواه الدارمي
وهذا ما يُشاهد في السنوات الأخيرة فقد لوحظ قبض العلماء ، وأبْرَزَتْ الفضائيات وبعض وسائل الإعلام الأخرى من ليسوا أهلاً للتّصدّر ، ولا يُظنّ أن الفضائيات التي تُتاجِر بالغرائز وإثارة الفتن والشهوات ، وتقذف بالشُّبهات قذفاً مُروّعاً ، لا يُظنّ بها أنها ستُبرِزُ العلماء الصادقين الذين يجب أن تَصْدُرَ الأمة عن رأيهم ، إنما يُبرزون – في الغالب – من يُوافقهم على باطلهم أو على الأقل مَنْ يَسكُت عن عوراتهم ، ويغضّ عنها طرفاً .
فالعلماء الصادقون يُحارَبون من قبل أهل الباطل في كل زمان ومكان ، حيث يُفتون بما لا يُعجب أهل الرّيْب والفساد ، ومن ثم يُرمون عن قوس واحدة بما هم منه براء ، ثم تذهب الليالي والأيام ويبقى للعلماء ذِكرهم وثناء الناس عليهم .
ولا عجب أن تُحارب الدعوات الصادقة وتُلفّق الاتهامات لأصحابها ، كما تعرّضت دعوة الأئمة المجددين ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومن سار بسيرهم ، ودعا بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وإلى تقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال .
وكان ابن القيم – رحمه الله – أحد أولئك العلماء الصادقين ، الذين تعرّضوا قديماً وحديثاً إلى النيل من أعراضهم ، بل وإلى إلصاق التُّهم العريضة الذين هم بريئون منها .
وقبل الدخول في سيرته ، وقبل أن أقف مع فوائد هذه السلسة ، وما فيها من تدارُسِ سيَرِ أئمة الهدى ، أودُّ التعريف بابن القيم ، والتفريق بينه وبين ابن الجوزي وسبب الخلط بينهما .
فأولاً : التعريف به – رحمه الله – :
هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي . الشهير بـ ( ابن قيّم الجوزية ) أو ابن القيم اختصاراً .
وُلِد – رحمه الله – سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة .
وسببُ تسميته بابن قيم الجوزية ، أن والده – رحمه الله – كان قَيِّماً على المدرسة الجوزية بدمشق ، والقيّم هو الناظر أو الوصي ، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا .
وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق .
وأما بالنسبة للخلط بينه وبين ابن الجوزي – رحمه الله – فإن سبب ذلك يعود إلى الاشتراك في التّسمية ، حيث إن المدرسة التي كان أبوه قيّماً لها تُنسب لابن الجوزي ، إذ هو واقِفُها ، وهو – أي ابن الجوزي – واعظُ بغداد ، وصاحب المصنّفات الكثيرة ، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن الجوزي القرشي البغدادي ، ت ( 597 هـ ) وهو مُتقدّم على ابن القيم . رحم الله الجميع .
وغَلِطَ في الخلط بينهما بعض الكتاب حتى نسبوا بعض كُتب ابن الجوزي إلى ابن القيّم .
وقد نشأ ابن القيم – رحمه الله – في بيت علم وفضل .
فأبوه وأخوه وابنُ أخيه وابناه عبد الله وإبراهيم كانوا من العلماء البارزين في عصرهم .
أخلاقه :
وكان – رحمه الله – صاحبَ هِمّةٍ عالية وخُلُقٍ فاضل .(4/195)
قال عنه تلميذُه ابن كثير : وكان حسنُ القراءة والخُلُق ، كثير التّودد ، لا يحسِد ُأحداً ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحدٍ ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة .
وقال عنه تلميذُه الآخر ابن رجب : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاةٍ إلى الغاية القصوى ، وتألُّهٍ ولهْجٍ بالذِّكر ، وشغفٍ بالمحبة والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار له ... ولا رأيتُ أوسع منه علماً ، ولا أعرف بمعاني القرآن والسُّنّة وحقائق
الإيمان أعلم منه ، وليس هو المعصوم ولكن لم أرَ في معناه مثله .
طلبُه للعلم :
طلب العلم صغيراً ، فقد بدأ في طلب العلم وعمره سبع سنوات ، كما ذكر ذلك في كتابه النافع الماتع ( زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم ) فقد ذَكَر أنه سمِع من شيخه الشهاب العابر ، وشيخُه هذا توفي سنة ( 697 هـ ) وابن القيم وُلِدَ سنة ( 691 ) كما تقدّم .
وكان ابن القيم في أولِ حياته قد تأثّر ببعض أقوال أهل البدع إلى أن قيّض الله له شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما ذَكَرَ هو في النونية حيث قال :
يا قومُ واللهِ العظيم نصيحةٌ *** من مشفق وأخٍ لكم مِعوانِ
جرّبت هذا كلَّه ووقعت في*** تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهلُه *** من جنة المأوى مع الرضوان
أخَذّتْ يداه يدي وسار فلم يَرُم *** حتى أراني مَطْلَعَ الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثارا عظيما شأنُها *** محجوبةً عن زمرة العميان
ووردت رأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلالئ التيجان
ورأيت أكوابا هناك كثيرةً *** مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان
ميزابُ سنته وقولُ إلهه *** وهما مدى الأيام لا يَنيان
والناس لا يردونه إلا من الـ *** آلاف أفرادا ذوو إيمان
وردوا عِذاب مناهل أكرِم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان
ثم لازم ابنُ القيمِ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير ، وكان أكثر ذلك بعد عودة شيخِ الإسلام من مصر سنة ( 712 هـ ) إلى أن مات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
قال تلميذه ابن رجب : تفقّه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وتفنن في علوم الإسلام ، وكان عارفاً في التفسير لا يُجارى فيه ، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك .
ومما يدلّ على سعة علمه واطلاعه كثرة مصنّفانه حتى أنه كان يؤلف ويكتب المجلدات في أسفاره
ومن ذلك أنه ألّف بعض الكتب في أسفاره ، فمن ذلك :
1 – مفتاح دار السعادة .
2 – زاد المعاد .
3 – روضة المحبين .
4 – بدائع الفوائد .
5 – تهذيب سنن أبي داود .
ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
ولا غرابة أن يؤلف ويكتب ويُصنِّف في أسفاره ، فهو بحرٌ لا تُكدِّره الدلاء ، ولا أدل على ذلك من كتابه ( الداء والدواء ) وطُبِع باسم آخر ( الجواب الكافي ) فقد ألّفه إجابة على سؤال واحد وَرَدَ إليه .
ابتلاؤه وامتحانه :
الابتلاء سُنّةٌ ربانية ، وقد سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله – :يُبتلى المرء أو يُمكّن له ؟
فقال : يُبتلى المرء ثم يُمكّن له ؟
وابن القيّم – رحمه الله – لم يتبوأ تلك المكانة العالية إلا بعد أن ابتُلي .
قال ابن رجب : وقد امتُحِن وأُذيَ مراتٍ وحُبِسَ مع تقيّ الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ .
كما امتُحن بسبب بعض فتاواه في بعض المسائل التي خالَف فيها علماء عصره ، والتي استبان له فيها الحق أو أنه رأى أن الحقّ فيما ذَهَبَ إليه مما أدّاه اجتهاده إليه .
ومن ذلك أنه أنكر شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
قال ابن رجب : وقد حُبِسَ مدةً لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
وأفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع طلقة واحدة .
وكان مع ذلك – أي مع مخالفته للمذهب أحياناً - شديد الاحترام للأئمة ، فهو يحكي أقوالهم ، ويستأنس بها لما يختاره .
قال – رحمه الله – : وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به ، وبالله التوفيق .اهـ .
طريقته في التأليف :
ألفّ ابن القيم – رحمه الله – فكان يعتمد في مؤلفاته على الدليل من الكتاب والسنة ، فلا يُخالف الدليل متابعة للمذهب أو ردّاً للسنة ، حاشاه ذلك ولم يكن هذا من شأن العلماء بل هو من شأن السَّفَلة والبطّالين ، الذين ثَقُلَ عليهم الكتاب والسنة والتنقيب في بطون الكتب .
ثم إنه – رحمه الله – ( كما قال الشيخ الفاضل بكر أبو زيد ) : لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أن غيرَه أولى منه .
قال : ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهم فهمَه ، وليعلم أن البليّة منه .
ثم إنه – رحمه الله – يُقدّم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم .
ومما يُميّز مؤلفاته – رحمه الله – سعة علمه وشمولية أفكاره .(4/196)
ومما يُميّز مؤلفات ابن القيم – رحمه الله – حُسنَ الترتيب والسياق ، وهذه ميزةٌ بارزة في مؤلفاته ، لا تكاد تجدها لسواه ، فكلامه مرتّب ، فهو يُعالج القضية التي بين يديه أو التي يُناقشها وكأنها تخصصه وفنّه الذي لا يُتقن سواه ، فهو كما ذكر معالي الشيخ صالح آل الشيخ عن شيخه الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فإنه قال : شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيهدمه بضربة واحدة ، وأما ابن القيم فينقضه حجراً حجراً .
ولا يعني هذا أن كلام ابن تيمية – رحمه الله – غير مرتّب ، فمن تأمل كتابه منهاج السنة النبوية أو الجواب الصحيح وغيرهما من كُتُبِه يجد في من ذك الشيء الكثير .
وابن القيم – رحمه الله – أفكاره مرتّبة سواء كان ذلك في الردود أو في تقرير المسائل أو في التقعيد والتأصيل .
ومن ذلك أنه – رحمه الله – لما أراد أن يُدلل على فضل العلم وشرفِه ساق فضله من أكثر من مائةٍ وخمسين وجهاً ، بدأ بالأهم فالأهم ، وذلك في المجلّد الأول من مفتاح دار السعادة ، وقد تقدّم أنه ألّف هذا الكتاب في بعض أسفاره .
ومما امتازت به مصنّفات ابن القيم – رحمه الله – الإنصاف ، فهو يُنصف خصومه وينظر إلى الأمور بعين إنصاف لا بعين هضم لحقوق الآخرين وإسقاط الرموز ، وغمر حسنات الآخرين المخالفين
لما قال صاحب منازل السائرين: اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم .
قال – رحمه الله – متعقّباً له : هذا الكلام إن اُخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تَزِلّ به القَدَم
ولم يَكْب به الجواد .
وقال صاحب منازل السائرين في موضع آخر : الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة وتلك الفائدة هي كونه يبرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .
فقال – رحمه الله – : شيخ الإسلام (1) حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامِله ثم نبين ما فيه … فأما قوله الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )
وقال في موضع ثالث : شيخ الإسلام – يعني الهروي - حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : عمله خير من علمه ، وصدق -رحمه الله – فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشقُّ له فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وتلك الأخطاء لو وجدها صبيان الصحف لطاروا بها ولطيّروها ، ولَبَنَوْا عليها قصوراً ، ولَشيّدوا عليها منارات ، يظنّون أنهم بهذا الفعل أتوا بما لم تأت به الأوائل !
فهذا شيء من إنصافه ، وله وصيةٌ في ذلك .
قال – رحمه الله – : فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرِّده من لباس العبارة ، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ، ناظرا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تامّاً بكل قلبه ، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشّزَر والملاحظة ، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق . اهـ .
فما أحوجنا إلى هذا الأدب من هذا العالِم الرّباني ، وما أحوج الناس إلى الإنصاف ، وطلاّب العلم على وجه الخصوص .
وقد ألّف ابن القيم – رحمه الله – في شتى العلوم ، في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلله ورجاله والفقه وأصوله ، واللغة ، والسلوك والأخلاق ، وله كتاب في الفروسية ، وله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل كتاب حافل نافع في بابه لم يُسبق إلى مثله ، أفاد وأجاد فيه ، وله كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الآنام صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابه كذلك ، وألّف كُتباً في الفوائد التي كان ينتقيها ويجمعها بين الحين والآخر ، مثل : كتاب بدائع الفوائد ، وكتاب الفوائد .
وكان – رحمه الله – مُغرماً بجمع الكتب ، ولذلك فهو في بعض كُتُبه ينقل أحياناً عن مائة مصدر أو أكثر .
وهو شاعر مُجيد ، وناظم فريد فله القصيدة النونية الموسومة بـ ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) فهي اسم على مُسمّى ( كافيةٌ شافية ) .
وله القصيدة الميميّة .
وله قصائد أخرى أجاد فيها وأفاد .
فمن ذلك قوله :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** تَوَقَّهُ إنه يرتدُّ بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض *** فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومُفْنِياً نفسه في إثر أقبحهم *** وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها ... *** لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر *** بطيف عيش من الآلام منتَهَب(4/197)
غُبِنت والله غبنا فاحشا فلو اسـ *** ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر *** أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا *** لكل داهية تدنو من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب *** وضاع وقتك بين اللهو واللعب
من أبرز تلاميذه – رحمه الله – :
ابن رجب الحنبلي صاحب المصنّفات المفيدة ، فَلَه ( فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولكنه لم يُتمّه ، ولو أتمّه لكان أفضل شروح البخاري ، وله كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلِم .
ومن تلاميذ ابن القيم أيضا : ابن كثير صاحب التفسير والتاريخ المسمّى ( البداية والنهاية ) .
ومن تلاميذه كذلك الذهبي صاحب المصنّفات في علوم الحديث والتاريخ والتراجم .
وممن تتلمذ على يديه : السُّبكي ، وابن عبد الهادي ، والفيروز أبادي صاحب القاموس ، وأولاده هو ، وغيرهم .
وفاته – رحمه الله –
توفي – رحمه الله – ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب من عام واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة ، عن ستين سنة .
وصُلِّيَ عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع جرّاح ، وقد ازدحم الناس على تشييع جنازته .
قال ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة – رحمه الله – شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه .
الدروس والفوائد :
إنما تُذكر سيرُ هؤلاء الأئمة الأعلام لأخذ الفوائد والعبر والدروس ، ومن تلك الدروس :
1 - ... ما نحن فيه في هذه السلسلة ، مِن ذِكرٍ لأولئك الأعلام ، وثناء عطرٍ على أولئك الأئمة وكأنهم يعيشون بيننا ، وكأننا نعرفهم معرفة الصديق لصديقه ، وما ذلك إلا لأنهم صدقوا مع الله فصدق الله معهم – فيما نحسب – والناس شهود الله في أرضه كما قال صلى الله عليه وسلم ، فيكون ذلك دافعاً ومرَغِّباً في طلب العلم والاستزادة منه ، فالذِّكر للإنسان عمر ثاني .
قال ابن القيم – رحمه الله – : ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام كأئمة الحديث والفقه كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم لم يَفْقِدوا منهم إلا صورَهم ، وإلا فذكرُهم وحديثُهم والثناءُ عليهم غير منقطع ، وهذه هي الحياة حقا ، حتى عُدّ ذلك حياة ثانية ، كما قال المتنبي :
ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته *** ما فاته وفضول العيش أشغال . اهـ .
ولو لم يكن في العلم إلا ما قاله الإمام أحمد : موعدنا يومَ الجنائز ، لكان كافياً في الترغيب فيه ، فهذه جنائز العلماء تشهد بذلك ، والعلم خير من المال كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . فالعلم خادم والمال مخدوم ، والعلم حارس والمال محروس .
فكيف وصاحب العلم مذكور في حياته وبعد مماته ، وسعيه مشكور في الدنيا والآخرة .
والأمر كما قيل :
يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكِنَه ... *** وربَّ ميتٍ على أقدامه انتصبا
وقيل :
الناس صنفان : موتى في حياتهمُ *** وآخرون ببطن الأرض أحياء
وقيل أيضا :
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات
ويعني هذا أن من الناس من يعيش في هذه الدنيا وهو – كما يُقال – : تكملة عدد ، ولله في وجودهم حكمة !
كما قيل :
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى *** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت العابدِ القوّام ليلاً *** يُناجي ربّه في كل ظلمة
وموتُ فتىً كثير الجود محلٌ *** فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ *** فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الناس همجٌ رعاعٌ *** وفي إيجادِهم لله حكمة
والمقصود بهذا كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : الناسُ ثلاثة : فعالمٌ ربانيّ ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق .
وقد ثبت في جامع الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن لدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرُ الله وما والاه وعالِمٌ أو متعلم .
والجهل أضرُّ على صاحبه من المرض أو الموت .
وفي الجهل قبل الموتِ موتٌ لأهله *** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم *** وليس لهم حتى النشور نشور
فهذه أصناف الناس فاختر لنفسك من أيِّ الأصناف تريد أن تكون ؟
أتريد أن تكون ممن يُذكر في كل مجلس علم ؟ ويتردد اسمه فوق المنابر ؟ وممن وَرّث علماً يُنتفع به فيجري عليه عمله إلى يوم القيامة ، كما في الحديث .
أو ممن يموت فلا يُدرى عنه ؟ وربما لا يُذكر بخير ولا يُترحّم عليه ؟!
وإن كان القطار فاتَكَ فلا أقل من أن تحرِص على من تحت يدك ، فكم ورّث من أبٍ عالماً أفاد الأمة بعلمه ، وكم ورّثت من أمٍّ مِن عالم كان سبباً في هداية الخلق ؟
فعلى يدِ مَنْ تربّى إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ؟
وعلى يد مَنْ تربّى خاتمة الحفاظ ابن حجر ؟
وغيرهم من علماء الإسلام .
واعلم أن من علماء الإسلام من لم يطلب العلم إلا بعد المشيب ، فمنهم من طلب العلم بعد الأربعين ، وإن تعجب فاعجب ممن طلب العلم بعد السبعين ! كما في ترجمة صالح بن كيسان
ولا تحقرن من المعروف شيئاً ، واعلم أن أفلام الكارتون لا تُخرّج علماء ولا رجال ، فاحرص على أولادك ومن استرعاك الله إياهم .
ألسنا نذكر أولئك الأئمةَ الأخيار الأبرار فنترحّم عليهم ، ونذكرهم بكلِّ خير ؟
بل ربما ذكرنا أولئك الأئمة أكثر من ذكرنا آبائنا وأقاربنا .(4/198)
في كل يوم وفي كثير من بقاع الأرض وفي كثير من مساجد المسلمين يقرأ الإمام على جماعته من كتابٍ لعالم من العلماء فيُصدّر عبارته وقراءته بقوله : قال المؤلّف – رحمه الله – .
2 - ... أن العلم هو الملك الحقيقي ، ولذا لما ابتنى معاوية بالأبطَح مجلسا جلس عليه ومعه ابنه قُرَظَة فإذا هو بجماعة على رحال لهم ، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى :
من يساجلني يساجل ما جداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكُرب
قال : من هذا ؟
قالوا : عبدالله بن جعفر .
قال : خلُّوا له الطريق ، ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى :
بينما يذكرنني أبصرنني *** عند قِيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى ؟ قلن:نعم *** قد عرفناه وهل يخفى القمر
قال : من هذا ؟
قالوا : عمر بن أبي ربيعة .
قال : خلُّوا له الطريق فليذهب .
قال : ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسأل ، فيقال له : رميت قبل أن أحلق ؟ وحلقت قبل أن أرمي ؟ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ، فقال : من هذا ؟
قالوا : عبد الله بنُ عمر .
فالتَفَتَ إلى ابنه قُرَظَة وقال : هذا الشرف . هذا والله شرف الدنيا والآخرة .
وبينما كان الرشيد يوماً في مجلِسِ الخلافة سأل يحيى ابنَ أكثم:ما أنبلُ المراتب ؟ قال يحيى : قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين . قال : فتعرفُ أجلّ مني ؟ قلت : لا . قال : لكني أعرفه ؛ رجلٌ في حلْقه يقول حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قلت :يا أمير المؤمنين أهذا خير منك وأنت ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليُّ عهد المؤمنين ؟ قال : نعم ، ويلَك هذا خير مني ؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله لا يموت أبدا ، ونحن نموت ونفني والعلماء باقون ما بقي الدهر . رواه الخطيب في شرف أصحاب الحديث .
ولما قَدِم هارون الرشيد الرَّقة انجفل الناس خَلْفَ عبدِ الله بنِ المبارك و تقطعت النعال وارتفعت الغَبَرَة ، فأشرفت أمُّ ولدِ أمير المؤمنين من برجٍ من قصر الخشب ، فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟
قالوا : عالمٌ من أهل خراسان قدم الرَّقة يُقال له : عبدُ الله بنُ المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ! لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
وقال أبو الحسن بن فارس : سمعت الأستاذ ابن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ من الرياسة والوزارة التي أنا فيها حتى شهدت مذاكرة سليمانَ ابنِ أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي فكان الطبراني يَغلب بكثرة حفظه ، وكان الجعابي يَغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد ، حتى ارتفعت أصواتُهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبَه فقال الجعابي : عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي ، فقال : هاتِه ، فقال : حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب وحدّث بالحديث ، فقال الطبراني : أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة ، فاسمع مِنِّي حتى يعلو إسنادك !
فإنك تروي عن أبي خليفة عني ، فخجل الجعابي وغلبه الطبراني .
قال ابن العميد : فودِدتُّ في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فَرِح الطبراني لأجل الحديث . رواه الخطيب في تاريخ بغداد .
قال ذلك ابن العميد ، ومن هو ابن العميد ؟
قال عنه الذهبي في السير : الوزير الكبير ، وقال أيضا : كان عجباً في الترسّل والإنشاء والبلاغة ، يُضرب به المثل ، وقيل : بُدئت الكتابة بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد .
3 - ... كم من الأغنياء والأثرياء والوجهاء في زمن ابن القيم وقبله وبعده ذهبوا وذهبت وجاهاتهم وذهب معها ذكرهم ، وما ذلك إلا دليلٌ صريحٌ على أن العلم خيرٌ من المال كما تقدّم ، قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه : مات خُزّانُ الأموال وهم أحياء ، والعلماءُ باقون ما بقيَ الدّهر .
وصدق الله : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) .
وما دام ذكرُ لعبدٍ بالفضل باقياً *** فذلك حيٌّ وهو في التربِ هالكُ
4 - ... أن مَنْ أجَلّه الناس لأجل علمه بقيَ له الإجلال وبقيَ له التقدير والاحترام ، بخلاف من أجلّه الناس لأجل دنياه أو جاهه ، فإنه إذا ذهب عنه ذلك تركه الناس وهجروه ، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما عند البخاري - : نعم المرضعة ، وبئست الفاطمة .
وكانت العرب تقول : مَنْ وَدّكَ لأمرٍ مَلّكَ عند انقضائه .
وكان يُقال : إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو سلطان فلا يُعجبك ذلك ، فإن زوال الكرامة بزوالهما ، ولكن ليُعجبُك إن أكرموك لعلمٍ أو دِين .
قال الإمام مالك : بلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه دُعيَ إلى وليمة فأتَى فحُجِبَ فَرَجَعَ فلبِس غير تلك الثياب فأُدخِل ، فلما وُضِعَ الطعام أدخل كمّه في الطعام ! فعوتب في ذلك، فقال : إن هذه الثياب هي التي أُدخلت فهي تأكل!!
وكانوا بنو عمي يقولون : مرحباً ... *** فلما رأوني مُعسِراً مات مرحبُ !(4/199)
5 - ... ملازمة الشيوخ والأخذ عنهم ومشافهتُهم ، فقد استفاد ابن القيم من شيخه ابن تيمية كثيراً ، ولازمه ملازمة الظلّ كما يُقال ، فتجده يقول كثيراً : قال شيخنا ، سألت شيخي ونحو ذلك ، وانتفاعه بوصاياه أكثر ، فمن ذلك ما حكاه في مفتاح دار السعادة قال : وقال لي شيخ الإسلام - رضى الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السِّفِنْجَة ، فيتشرّبها ، فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمرّ الشبهات بظاهرها ، ولا تستقرُّ فيها ، فيراها بصفائه ويدفعُها بصلابته ، وإلا فإذا أَشْرَبْتَ قلبك كلَّ شبهة تمرُّ عليها صار مقَرّاً للشبهات . أو كما قال ، فما أعلم أنى انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك .
وقد لازم ابنُ القيم شيخَه ابنَ تيمية ستة عشر عاماً وهو يقرأ عليه فنون العلم .
ولهذا كان يُجلُّ شيخَه ويُثني عليه ، وهذا من الوفاء لمن تعلّم منه الإنسانُ علماً .
ولم يكن تقديره لشيخه وإجلاله له لم يكن ذلك ليمنعه من مخالفة شيخه في بعض المسائل التي رأى أن الحق فيها خلاف ما ذهب إليه شيخُه ، فالحق أحقُّ أن يُتّبع .
وهو مع ذلك يقول : والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل كيف وقد نفعه الله بكلامه وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما ، وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع فمن كان عنده فضل علم فليجد به أو فليعذر ، ولا يبادر إلى الإنكار فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان ، وهو يقول له : ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله ولا المعترِض .
هكذا يجب أن ينظر طالب العلم إلى نفسه وإلى شيوخه ، وإن خالفهم في مسألة أو رأى .
أو استبان له الدليل وما شابه ذلك ، مما قد يخفى على الشيخ ويتّضح للتلميذ ، فإنه يجب أن يَعلم أنه حَفِظ شيئاً وغابت عنه أشياء .
فأوصي نفسي وأوصي إخواني بالحرص على تعلّم العلم النافع ، والتّلقي عن الشيوخ والاستفادة ممن بقيَ فربما احتاجت الأمة إليك كما احتاجت الأمة إلى ابن عبّاس فصار عالمها ومفتيها ، وكان يطلب العلمَ صغيراً ، فقال لرجلٍ من الأنصار : هلم يا فلان فلنطلب العلم ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء .
قال : عجبا لك يا ابن عباس ! ترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ فيهم ؟
قال : فتركت ذلك وأقبلت أطلب العلم .
6 - ... أن فقد العلماء مصيبة يجب أن تكون عبرة وذكرى ، فيُسارَع إلى ملازمة الأحياء منهم قبل أن تتخطّفَهم يدُ المنون ، وكم ندِم المفرِّطون ولكن حينما لا ينفعُ النّدم .
7 - ... أن العلم كنز خفيف الحمل ، يزيد بكثرة الإنفاق منه كما قال أبو إسحاق الألبيري – رحمه الله – وهو يُوصي ابنه أبا بكر :
أبا بكر دعوتُك لو أجبتا *** إلى ما فيه حظّك لو عقلتا
إلى عِلْمٍ تكون به إماماً *** مُطاعاً إن نهيتَ وإن أمرتا
ويجلو ما بعينيك مِن غِشاها *** ويهديك الطريق إذا ضللتا
وتحملُ منه في ناديكَ تاجاً *** ويكسوك الجمال إذا عريتا
ينالُك نفعُه ما دمتَ حياً *** ويبقى ذكرُه لك إن ذهبتا
هو العضبُ المهنّد ليس ينبو *** تُصيبُ به مقاتِل من أردتا
وكنزٌ لا تخافُ عليه لصّاً *** خفيف احِحملِ يوجدُ حيثُ كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه *** وينقص إن به كفّاً شددتا
فلو قد ذقتَ من حلواه طعماً *** لآثرتَ التّعلّمَ واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ *** ولا دنيا بزخرفها فُتنتا
إلى أن قال :
ستجني من ثمار العجز جهلاً *** وتصغُرُ في العيون إذا كَبُرتا
وتُفقدُ إن جَهِلْتَ وأنت باقٍ *** وتوجدُ إن علمتَ ولو فُقدتا
8 - ... أن نحرص على قراءة سير أئمة الإسلام وتتبع طريقتهم والإفادة منهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ، بخلاف من خالفوا نهج سلف الأمة ، وتعلّقوا بمناهج أرضية أو مِنْ وَضع خلف الأمة ، يجعلون لهم قواعد وأصول تخالف أصول أهل الإسلام من صنع بُنيّات أفكارهم ، فكم بُليَت الأمة بأمثال هؤلاء ، الذين وقفوا كما وقف حمارُ الشيخ في العقبة – كما يُقال – فلا هُم بالذين تعلّموا العلم وأخذوا به ، ولا هم بالذين بقوا على عقائد عجائز نيسابور ، فتخبّطوا في دياجير الظلمات ، وقالوا عن أئمة الإسلام : هم رجال ونحن رجال !
وصدق من قال : هم رجال وأنتم ذكور !!
أحدُ أولئك المتعالمين – وهو شابٌ من أبناء هذه البلاد – نُشِرَ له مقالات ، فصار يُدعى في المجالس ويتصدّر فيها ، وظنّ نفسه أنه إمام الأئمة ! حتى صار يَنال من أئمة الإسلام ويطعن في إمام أهل السنة أحمد بن حنبل بل ويُثني على شيخ المعتزلة والمبتدعة أحمد بن أبي دؤاد ، ويُعرّض بشيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية وابن القيم ، ولم يعلم أنه يقف مع أهل البدع في صفٍّ واحد ، ويرمي الإسلام بقوس أعدائه شاء أم أبى .
وليس النَّيْل من أولئك إلا طعناً في الدِّين مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ ، والطّعن في حَمَلَةِ الإسلام طعنٌ في الإسلام .
وكان أبو حنيفة – رحمه الله – يقول : سيرُ الرجال أحبُّ إلينا من كثير من الفقه .
لأن دراسة سير الرجال خصوصاً العلماء والصالحين تُكسب القارئ أخلاقاً حميدة ، بل وتُعرِّفُه على أسلاف أمّتِه وقدرهم وقيمتهم ، وتحثُّه على أن يسلك سبيلَهم ، ويتشبّه بهم فإن التّشبُّه بالكرام فلاح .(4/200)
ولأن دراسة سير أولئك العظماء تُعرّف القارئ بقدر أولئك ، وكم من السنوات أمضوا في طلب العلم ، وكم أمضوا من الجهود في صدّ كيدِ أعداء الإسلام ، وكم من الأوقات أمضوها في التأليف والتصنيف الذي نفع الله به الأمة .
لقد سرد الإمام الذهبي أكثر من مائتين وخمسين صفحة في ترجمة الإمام أحمد – رحمه الله – ثم يأتي متطاول مثل هذا القزم ليرمي ذلك الإمام الجبل بما يرميه به .
وربما كانت أعمار أولئك الأغمار الذين ينالون من سلف الأمة لا تعادل سنوات الطلب في حياة أولئك الأئمة ، أو عمر تأليف كتاب واحد لأحد أئمة الإسلام .
بل لعل نَعل الإمام أحمد خيرٌ وأنفع للأمة من هؤلاء الصبيان !
وأين هي جهود أولئك الأغمار سوى مقال في صحيفة ، وافتيات على موائد الكبار .
أما علموا أن ابن القيم ثنى ركبتيه ستة عشر عاماً مستفيداً من شيخه حتى وفاته ، وهو مع ذلك يغترف من بحر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
9 - ... أن أولئك الأئمة ما كانوا يرون لأنفسهم حقّاً ، بل كانوا يُزرون بأنفسهم ويهضمونها ويرمونها بالتقصير بخلاف المتأخرين الذين يُلمّعون أنفسهم قبل أن يتعلّموا العلم ، وكم من أولئك الذين يُدعون ( مفكرون إسلاميون ) ليس لديهم سوى ثقافة المَجلاّت ، وبحوث النّشَرات ، وجهل بأبجديات العلوم الشرعية ، وذلك مبلغُهم من العِلْم ، فتجد أحدَهم يخبط خبط عشواء في مسائل يعرفها صغار الطلبة ، وهم يُشار إليهم بالبنان ، ولا يرضى أحدهم أن يدعى باسمه مجرّداً عن الألقاب بل ربما ألّف أحدُهم رسالةً أو كتاباً وخط على الغلاف بخط عريض تأليف الشيخ فلان،أو يكتب تحت اسمه أحد علماء البلد الفلاني!
فحال هؤلاء لا ينتهي من العجب ، بينما نجد ابن القيم – رحمه الله – يقول عن نفسه متضرّعاً مبتهلاً :
بُني أبي بكر كثيرٌ ذنوبه *** فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكر جهول بنفسه *** جهول بأمر الله أنّى له العلمُ
بُني أبي بكر غدا متصدّراً *** يُعلّم علماً وهو ليس له علمُ
بُني أبي بكر غدا متمنياً *** وِصال المعالي والذنوب له همُّ
بُني أبي بكر يروم تَرقّياً *** إلى جنة المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكر لقد خاب سعيُه *** لم يكن في الصالحات له سهم
هكذا كانوا يُزرون بأنفسهم ، ويرون أنهم مقصّرون .
وكم يحتاج المتعالم من هؤلاء إلى وصية عمر رضي الله عنه حينما قال : تفقّهوا قبل أن تُسوّدوا .
ذَكَرَ ابن كثير كلمة الإمام أحمد – رحمه الله – : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ، فقال : وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان ، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يُصلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد .
قال أبو جعفر الطحاوي كنت عند أحمد بن أبي عمران فمرَّ بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشُغلت به عما كنت فيه من المذاكرة ، فقال لي : كأني بك قد فكرتَ فيما أُعطى هذا الرجل من الدنيا ؟! قلت له : نعم ، قال : هل أدلُّك على خلةٍ ؟!
هل لك أن يُحَوِّلَ اللهُ إليك ما عنده من المال و يُحَوِّلَ إليه ما عندك من العلم فتعيشَ أنت غنيا جاهلا ويعيشَ هو عالما فقيرا ؟
فقلت : ما اختارُ أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده ، فالعلم غنى بلا مال ، وعزٌ بلا عشيرة ، وسلطانٌ بلا رجال .
وفي ذلك قيل :
العلم كنزٌ وذخرٌ لا نفاد له *** نِعم القرينُ إذا ما صاحبٌ صحِبا
قد يجمع المرءُ مالاً ثم يُحرمُه *** عما قليل فيلقى الذلَّ والحَرَبا
وجامعُ العلم مغبوطٌ به أبداً *** ولا يُحاذر منه الفوتَ والسَّلَبَا
يا جامعَ العلم نِعمَ الذُّخْرِ تجمعُه *** لا تعدلنَّ به درا ولا ذهبا
أسأل الله أن يحشرنا في زمرة من أحببنا من أئمة الإسلام وعلمائه العِظام .
كتبه / عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
[ كانت ضمن سلسلة محاضرات بعنوان : أئمة الهدى ]
((((((((((((
الفهرس العام :
الباب الرابع- من أعلام الدعوة
سعيد بن المسيب
سعيد بن جبير أعلم التابعين بالتفسير
الحسن البصري
عبد الملك بن مروان
عمر بن عبد العزيز
المأمون بن الرشيد
هارون الرشيد
المعتصم بالله
الناصر لدين الله.. صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي
من مآثر صلاح الدين الأيوبي
سيف الدين قطز
السلطان عبد الحميد الثاني
جعفر الصادق
أبو حنيفة النعمان
الليث بن سعد
شريك بن عبد الله
مالك بن أنس
أبو يوسف
الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن
الشافعي
أحمد بن حنبل
ابن حزم الأندلسي
الجويني
عز الدين بن عبد السلام
سلطان العلماء العز بن عبد السلام
شيخ الإسلام ابن تيمية
سفيان الثوري
البخاري
ابن ماجة
أبو داود
ابن حجر العسقلاني
الطبري
الألوسي
سيد قطب
إبراهيم بن أدهم
عبد الله بن المبارك
الفضيل بن عياض
عقبة بن نافع
طارق بن زياد
موسى بن نصير
أسد بن الفرات
يوسف بن تاشفين
عمر المختار
أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع
الخليل بن أحمد
سيبويه
شكيب أرسلان
أحمد شوقي
الماوردي
أبو حامد الغزالي
ابن رشد
عبد الرحمن الكواكبي
محمد بن عبد الوهاب
جمال الدين الأفغاني
محمد إقبال
حسن البنا
د.محمد عبد السلام
نجم الدين أربكان
الشهيد أحمد ياسين
عثمان بن محمد فوديو
أيوب السختياني
الشيخ الأديب عبد الغني الدقر
الإمام الذهبي
أبو الأعلى المودودي
الشيخ محمد الحامد
مصطفى السباعي(4/201)
د. مصطفى السباعي.. العالم.. الداعية.. المجاهد
محب الدين الخطيب
الشيخ طاهر الجزائري
كامل الغزّي
الشيخ كامل القصاب
محمد المبارك
محمد بهجت البيطار
محمد رشيد رضا
الشيخ علي الطنطاوي
علي الطنطاوي
خير الدين الزركلي
الشيخ علي الدقر
القائد الشهيد : عبد القادر الحسيني
الحاج محمد أمين الحسيني
أكرم زعيتر
فوزي القاوقجي
الشيخ عز الدين القسام
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
عبد الله عزام
محمد طاهر الأتاسي
رفيق العظم
عبد العزيز الرنتيسي.. الطبيب الثائر
الشيخ الحصري.. ولسان الصدق في الآخرين
محمود شاكر المقاتل التراثي الشجاع
مسلمة بن عبد الملك.. الفاتح الكبير
الفقيه الأميرال 1/2
الفقيه الأميرال 2/2
أحمد ديدات.. دعوة حتى آخر رمق
د. محمد رأفت السعيد.. الفارس الكبير
محمد أنور شاه الكشميري .. المحدِّثُ الكبير
أحمد بن حجر .. قاضي قطر وعالمها
الشيخ محمد حامد الفقي مؤسس" أنصار السنة
شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي
محمد محمد حسين.. رائدٌ سَمَا عَنِ الأَطْمَاع
الشيخ عبد الله ناصح علوان
عبد الرحمن الأوزاعي .. العالم المرابط
علامة الشام جمال الدين القاسمي
الشيخ الداعية: محمد حسين يعقوب
الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في سطور
الشيخ جاد الحق .. صاحب المواقف العظام
الشيخ محمد أبو زهرة.. الحق على لسان رجل
وفاة الشيخ محمد صفوت نور الدين
الشيخ المراغي .. دعوة للإصلاح والتقريب
بدر الدين الحسني .. المحدث الكبير
الشيخ عبد الحميد كشك
العلامة عبد العزيز بن باز
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
الشيخ عبد الله الأنصاري
الشيخ محمد الخضر حسين
محمد متولي الشعراوي
محمد ناصر الدين الألباني
عبد الله بن زيد آل محمود
العالم الرباني الشيخ محمد المختار الشنقيطي
محمد علال الفاسي (1326 – 1394 هـ)
محمد المختار السوسي
العلامة ابن قيم الجوزية(4/202)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (5)
الباب الخامس - دراسات في الدعو ة
جمعها وأعدها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الخامس - دراسات في الدعو ة
علو الهمة ـ علامة كمال العقل
خلق الله البشر وجعل لكل منهم همة وإرادة فلا يخلو إنسان عن هم؛ ولذلك كان أصدق اسم يوصف به العبد أنه همام ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "... وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام..".
وجهة الصدق أن كل إنسان له إرادة وعنده اهتمام، كما قال المنذري: وإنما كان حارث وهمام أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمام الذي يهيم مرة بعد أخرى، وكل إنسان لا ينفيك عن هذين والله أعلم.
ولكن همم الناس تختلف بين علو وسفول وبين كبر وصغر وبين ضخامة ودناءة . وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة . فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب.
قيمة المرء على قدر همته:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب". (يريد همته ومطلبه وقصده).
وإنما كان الأمر كذلك لأن الهمة طليعة الأعمال ومقدمتها.. قال أحد الصالحين: "همتك فاحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من العمل".
وقال عبيد بن زياد : كان لي خال من كلب، فكان يقول لي: يا زياد هم فإن الهمة نصف المروءة.
وعلامة كمال العقل ورجحانه علو همة صاحبه.. يقول ابن الجوزي: "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام"
ومعنى علو الهمة:
" استصغار ما دون النهاية من معالى الأمور" .. بمعنى أن يطلب المرء من كل أمر أعلاه وأقصاه، ويستصغر كل ما وصل إليه إن كان هناك ما هو فوقه أو أعلى منه.
وقيل: "هو خروج النفس إلى غاية الكمال الممكن في العلم والعمل".
وقد فسر ابن الجوزي ذلك في صيد خاطره بقوله: "ينبغي لمن له أنفة أن يأنف التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة ـ مثلا ـ تأتي بالكسب لم يجز له أن يرضى بالولاية، أو تصور أن يكون خليفة لم يقنع بإمارة، ولو صح أن يكون ملَكا لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل".
وأعلى الهمم على الإطلاق هي التي لا تقف دون الله تعالى، ولا تطلب سواه، ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها ولا حطامها الخسيس الفاني. كيف والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب.
سقوط الهمة أصل الخذلان
إن سقوط الهمم وخساستها هو أصل ما وصلنا إليه من ذل وهوان وحقارة وخذلان، وما من أمة يرضى أهلها بالأمر الواقع ولا تبلغ همم أبنائها أن يغيروه إلا كان لهم الخزي والعار والذلة والصغار.
إن الهمم الكبار تغير التاريخ بل هي التي تسطره وتكتبه:
لقد رأينا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.. رجل واحد في وسط عالم كامل من الشرك كيف عبّده بهمته لله رب العالمين؟.
ولقد رأينا أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كيف أسقطوا أكبر إمبراطوريتين وأعظم دوليتين في زمنهم (فارس والروم) وفتحوا بلاد السند والهند والمغرب والأندلس في فترة وجيزة هي كالحلم في عمر الزمان.
ولقد رأينا في زمان العز وعلو الهمم كيف كان المسلم في عهد صلاح الدين يربط عشرات الأسرى في طنب خيمة.. ولقد باع مسلم أسيرا نصرانيا بنعل فلما سألوه لماذا؟ قال: أردت أن يخلد التاريخ هوانهم وذلهم وأن رجلا منهم بيع بنعل، فخلدها له التاريخ.
ثم مرت الأيام وقعدت الهمم ورأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم قعيد الهمة (بل العدد منهم) أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب فيأتي بالسيف ليقتلهم فيمنعهم الخوف أن يتحركوا حتى يعود إليهم فيقتلهم أجمعين!!
ومرت الأيام ورأينا كيف بيعت فلسطين بثمن بخس، وضاعت القدس، وسلب المسجد الأقصى.
ومرت الأيام ورأينا كيف ضاعت العراق ورأينا كيف يركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي طالبا منه العفو والصفح، وطالعتنا الأخبار بصورة رجل هناك يقبل يدي جندي أمريكي شكرا له على تحرير البلاد!!
ومرت الأيام ورأينا في عصرنا شبابا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم إلا عن السفاسف ومحقرات الأعمال، يمعنون في التشبه بالكفار في قصات الشعور وفي أزياء الملابس، وبعضهم يعلق على سيارته أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وطأطأت أعناقهم وأهدرت كرامتهم واستعبدت أمتهم .
إن هذه الأمة إن أرادت أن تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها.. وإنما تعلو الهمم بأمور خلاصتها تخلية وتحلية..
فأما التخلية فهي ترك مثبطات الهمم وأسباب انحطاطها.. ومنها:
أولا: حب الدنيا وكراهية الموت: وهما صنوان لا يفترقان، وقرينان لا يختلفان من أحب الدنيا كره الموت ولابد.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، والانغماس في الشهوات والتشاغل بها عن المهمات. وكراهية الموت يورث طول الأمل، والقعود عن المكارم خشية المخاطر، والهمة لا تسكن قلبا جبانا:
حب السلامة يثني عزم صاحبه .. .. عن المعالي ويغري المرء بالكسل
فحال خسيس الهمة كحال القائل :
أضحت تشجعني هند فقلت لها .. .. إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي حجت الأمصار كعبته .. .. ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم .. .. إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا(5/1)
ولست منهم ولا أهوى فعالهم .. .. لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
فإذا أحببت الدنيا وكرهت الموت
فدع المكارم لا ترحل لبغيتها .. .. واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ثانيا: الكسل والخمول: وهما منابت العجز، ولكنه عجز القادر على العمل المتراخي عنه، المتثاقل إلى سفاسف الأمور، المتخلف عن عظائمها.. ومثل هذا تراه دائما في ذيل الركب راضيا بأقبح الأعمال وأحقر الوظائف لقلة همته.. ولله در ابن الجوزي حين قال: "سفول همة الكساح أنزله في جب العذرة".
قال رجل لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار وقع عليَّ النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.
قال المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. .. كنقص القادرين على التمام
ثالثا: التسويف والتمني: وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، كلما همت نفسه بالخير أعاقها بسوف حتى يأتيه الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب.
فالتمني بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم
إذا تمنيت بت الليل مغتبطا .. .. إن المنى رأس أموال المفاليس
قال رجل لابن سيرين: رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح فما تفسير ذلك؟ قال أنت رجل كثير الأماني والأحلام.
رابعا: مصاحبة سافل الهمة: فيسرق طبعك منه فإن الطباع سراقة
ولا تجلس إلى أهل الدنايا .. .. فإن خلائق السفهاء تعدي
خامسا: الانشغال بحقوق الزوجة والأولاد: بمعنى الإمعان في تحقيق رغباتهم وطلباتهم خاصة مالا حاجة له وإن ضاع لها العمر أو حمل ذلك على تعدي حدود الشرع وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) .
موجبات علو الهمة
فلابد من تخلية النفس أولا عن تلك المثبطات والموانع عن رفع الهمة ثم بعد ذلك تحليتها بموجبات علوها ومنها:
أولا: العلم والبصيرة: فالعلم يرتقي بالهمة، ويرفع طالبه عن الحضيض ويصفي النية ويورث الفقه بمراتب الأعمال؛ فيتقي فضول المباحات من الكلام والمنام والنظر والطعام وينشغل بما هو أعلى منها.
ثانيا: إرادة الآخرة: بجعل الهم هما واحدا .. قال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة". (صحيح ابن ماجه).
ثالثا: كثرة ذكر الموت: فإنه الباعث الحثيث على إحسان العمل، والمسارعة إلى الطاعات، وقد وقف صلى الله عليه وسلم على قبر فقال: (إخواني ، لمثل هذا اليوم فأعدوا ) رواه ابن ماجه بسند حسن.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلة الأموات.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأوزاعي: أما بعد.. فإنه من أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.
ومن فارق ذكر الموت قلبه ساعة فسد قلبه.
رابعا: صحبة أولي الهمم ومطالعة أخبارهم: وانظر إلى أبي بكر لما كان صاحبه هو أعلى الناس همة على الإطلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت به الهمة أعلاها فكان خير الناس بعد النبيين والمرسلين، فلم ترض همته مجرد دخول الجنة لا بل يريد أن ينادى عليه من أبوابها كلها كما ورد في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر رضي الله عنه هل على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها قال نعم وأرجو أن تكون منهم).
وانظر إلى أحمد والشافعي ، وكذلك الإمام أحمد مع يحيى بين معين فإنها صحبة بلغت بأصحابها إمامة الناس في العلم والدين والورع.
أنت في الناس تقاس .. .. بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو.. .. وتنل ذكرا جميلا
خامسا: المجاهدة: وهو الصبر على النفس وسياستها وتعويدها بلوغ الغايات وأعالى المقامات وعدم الرضا بالدون، وكلما جاهد الإنسان نفسه في بلوغ القمم بلغها سواء في أمور الدنيا أو الآخرة" (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
وأخيرا تربية الأولاد على علو الهمة : فالمرء على ماشب عليه، وإذا لم ينشأ الطفل منذ صغره على علو الهمة وترك السفاسف فلن يفلح أبدا، وإذا كان ما حولنا من إعلام ومناهج دراسة ومظاهر معيشة كلها لا يصب في صالح هذا الباب وجب على أولياء الأمور الاهتمام بزرع ذلك في أولادهم، وقبل ذلك في أنفسهم فإن فاقد الشيء لا يعطيه.. وقد قالوا قديما:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على .. .. حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وقالوا:
وينشأ ناشئ الفتيان منا .. .. على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن.. .. يعوده التدين أقربوه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم.
صلاح الأمة في علو الهمة للشيخ سيد حسين العفاني.
===============
العقبات الخارجية في الدعوة وكيفية مواجهتها(5/2)
كلما كانت الدعوة عظيمة وإلى أمر عظيم كانت المشكلات التي تواجهها أكبر والعقبات في طريقها أكثر وأخطر، ويعتمد نجاح مثل هذه الدعوات على مدى قدرتها على حل تلك المشكلات ومواجهة تلك العقبات .
والدعوة إلى الله ليس شيئ من الدعوات أعظم منها ولا أكرم ولا أجل؛ ولذلك كانت العوائق والعقبات في طريقها أكبر من غيرها وأقوى.. ونعني بالعقبات والمشكلات هنا "مجموعة الأخطاء والمعوقات التي يقع فيها الدعاة أو يواجهونها في طريق دعوتهم سواء كانت داخلية أو خاريجية".
وسوف نبدأ في حديثنا بالجانب الخارجي منها إذ هي التي ينصرف إليها ذهن الناس عند الإطلاق، وهي أشد وضوحا وأكثر بروزًا وظهورًا للدعاة والمدعوين على السواء، يحذرون منها ويخططون لمواجهتها.. وهذه العوائق يمكن إجمالها في عدة أمور أساسية :
أما العقبة الأولى: وهي مكر الأعداء والكيد والتخطيط لمحاربة الدعوة والدعاة: وهذه سنة من سنن الله الثابتة في هذه الحياة، ومَعلَم من معالم الصراع بين الحق والباطل في تاريخ الدعوة. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]. {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سبأ:33]. وقال أيضًا: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم:46]. وقال:{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:42]. كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}[الطارق:15-17].
فكل هذه النصوص القرآنية تؤكد ثبوت المكر والكيد لهذا الدين، كما تؤكد شدته واستمراريته.
أما العقبة الثانية: فهي تعاون الأعداء في سبيل تطبيق هذا المكر وتنفيذ ذاك الكيد: فهذه أيضًا حقيقة قائمة، وسنة ثابتة، كشف عنها القرآن الكريم وأخبر بها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[النمل:48-53].
وجاء في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود وأحمد: "يوشك أن أن تداعى عليكم الأمم من كل أُفُقٍ كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله! أمِن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن. قلنا: وما الوهن؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت".
أما العقبة الثالثة: فهي تنوع أساليب الأعداء في مواجهة الدعوة والدعاة: فإن أساليب الأعداء في هذا كثيرة وعديدة، فمنهم من يدخل على المسلمين في مواجهات صريحة مكشوفة للقضاء عليهم واستئصال دعوتهم، ومنهم من يحاول الاحتواء للدعوة وأصحابها، ومنهم من يعمد إلى المراوغة والمخادعة، ومنهم من يستدرج الدعاة إلى ما فيه حتفهم وهلاكهم.
فكلما استنفد الأعداء أسلوبًا أو ثبت لهم فشله في مكان، اختاروا أسلوبًا آخر جديدًا مناسبًا وعملوا على تطوير أساليبهم باستمرار على وجه يحقق لهم أهدافهم ويوصلهم إلى غاياتهم. وقد عرض القرآن كثيرًا من تلك الأساليب المتنوعة التي استخدمها أعداء دعوة الله على مدى التاريخ، والتي لا يزالون يكررونها ويطورون فيها إلى اليوم.
أما العقبة الرابعة: فهي المتمثلة في قوة وسائلهم المادية، وتسخير العلوم الحديثة والدراسات والتقنيات في سبيل تحقيق أهدافهم: فإننا نرى بأم أعيننا ما وصلوا إليه من تقدم علمي وتقني في مختلف جوانب الحياة المادية. كما نرى كثرة مراكز الأبحاث والدراسات التي ينشؤونها ويصرفون عليها في سبيل دراسة واقع العالم الإسلامي من جميع جوانبه المادية والمعنوية.
كما يعقدون المؤتمرات والمعاهدات والندوات والاتفاقات بينهم وبين تلك الدول الضعيفة ليتمكنوا منها. فلا يوفرون وسيلة من الوسائل في سبيل تحقيق أهدافهم، عدا عن تفوقهم العلمي والتقني.
تصور لطرق العلاج(5/3)
هذه هي أبرز المشكلات والعقبات الخارجية التي تواجه الدعوة الإسلامية اليوم، وتعوق مسيرتها. والمتتبع لواقع الدعوة يرى الدعاة يجتهدون دائمًا في معالجة مثل هذه العقبات، وتختلف آراؤهم واجتهاداتهم في الأساليب والوسائل المتبعة في ذلك. ولكن الملاحظ: أنهم كلما عالجوا مشكلة أو عقبة، برزت أمامهم تلك العقبة والمشكلة أو غيرها بثوب جديد وصورة مغايرة.. مما قد يصيب البعض بنوع من الاستسلام أو اليأس! وهذا يدعونا إلى أن نختار طريقًا جديدًا في معالجة هذه المشكلات الخارجية ..ومن طرق العلاج:
أولا: التنبيه إلى المعالم الإلهية والسنن الربانية في هذا الأمر، ذلك لأن المشكلات الخارجية – كما سبق – مشكلات قديمة، واجهت الدعوة إلى الله في جميع مراحل تاريخها. فما من رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام إلا وقد واجه وقومه المؤمنون معه مثل هذه العقبات والمشكلات، وكانت العاقبة للمؤمنين بعد ذلك.
ولم تكن العقبات في زمنهم خفيفة أو بسيطة – كما يتوهم البعض – وإنما كانت في بعض الأحوال والأزمان على أشدها وأقواها، والشدة والخفة أمران نسبيان من وقت لآخر بحسب طبيعة كل عصر وإمكاناته. ولكنها سنة الله الثابتة التي لا تتغير. قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}[الإسراء:77]. وقال أيضًا: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الأحزاب:62].
وقد لخص الله عز وجل معالم معالجة هذه العقبات الخارجية التي تواجه الدعوة الربانية مهما كان نوعها في أمرين اثنين متلازمين مترابطين هما:
1- التقوى: فقد جاءت آيات عديدة تربط بين هذين الأمرين في مجال معالجة العقبات والنجاة من كيد الأعداء ومكرهم فقال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[آل عمران:120]. وقال أيضًا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ}[آل عمران:186]. كما قال بعد عرض العقبات والمشكلات التي واجهت يوسف عليه السلام: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90].
ولكننا أيها الأحبة كثيرًا ما نمر على هذه الآيات القرآنية وأمثالها ولا نتنبه إلى معانيها، وإلى أنها تقرر حقيقة قاطعة وسنة ثابتة في الصراع بين الحق والباطل إلى يوم القيامة، لابد للمسلمين من الإفادة منها، والعمل على أساسها، وإلا كان عملهم دون جدوى..!
ومما يجدر التنبه إليه والتبصر به في هذا المقام: أن التقوى التي يتحدث عنها القرآن ويأمر بها ويكررها على مسامعنا، ليست كلمة تقال، أو دعوى تدعى، إنما هي حالة نفسية خاصة، تعرف بآثارها ومظاهرها.
كما أن الصبر المذكور في هذه الآيات الكريمة ليس أمرًا هينًا، وإنما هو من عزائم الأمور التي تتطلب جهادًا ومجاهدة، والتي تعرف بمظاهرها وآثارها أيضًا. ولعل من أبرز مظاهر التقوى المطلوبة في مواجهة العقبات:
1- إخلاص المؤمن لله عز وجل في نيته وقوله وعمله وجميع شؤونه. فالإخلاص هو الذي يقي الأعمال من أن تحبط وتضيع آثارها، وهو الذي يقي صاحبه من كيد الأعداء في الدنيا، ومن نار الله في الآخرة. وقد جاء في الحديث الشريف: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
2- التزام طاعة الله سبحانه واجتناب نهيه، ومن هنا عرف بعض العلماء التقوى بقوله: "أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك". وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الأحزاب:70، 71].
3- التواصي بين المؤمنين بالحق والصبر، وتبادل النصيحة والشورى فيما بينهم، والتآمر بينهم بالمعروف والتناهي عن المنكر. قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:1-3]. وجاء في الحديث الشريف: "الدين النصيحة" فجعلها أساس الدين وجوهره.
4 ـ إتقان العمل الصالح، والاستمرار عليه، وتوخي الحكمة فيه: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". ومن العمل الصالح الذي يدخل في هذا: الاستمرار في دعوة الآخرين إلى الحق والهدى، والحرص على هداية الناس، وعدم اليأس من صلاحهم، فبالدعوة الصحيحة الحكيمة قد ينقلب العدو صديقًا، وتتحول قوة الأعداء إلى قوة للمسلمين، حكما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية.
5 ـ تحقيق وحدة الصف بين العاملين، ونبذ الشقاق والتفرق عنهم، ولاسيما عند مواجهة الأعداء. قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:46]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4].(5/4)
6 ـ ومن ذلك أيضًا: اللجوء إلى الله وحده، والإكثار من ذكره والتضرع إليه في السراء والضراء. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:45].
هذا عن مظاهر التقوى المطلوبة عند مواجهة الأعداء. أما عن الصبر المطلوب ومظاهره فمنها:
1- الاستمرار في العمل الحكيم، والثبات على التقوى والعمل الصالح.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:200].
2- البذل والتضحية في سبيل الله، والجهاد بالمال والنفس، والوقت، وجميع ما يملكه الإنسان. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142]. وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31].
3- التعقل في العمل، وعدم التعجل في النتيجة، وضبط النفس. قال تعالى: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}[الأنبياء:37].
4- عدم الركون إلى الأعداء وعدم توليهم، وإعلان البراءة منهم، وتجنب الخضوع والتنازل عن أمور الدين من أجلهم. قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}[الإنسان:24]. وقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[هود:112، 113]
5- التصديق بوعد الله، والجزم بأن العاقبة للمتقين. قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60]. وقال: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103].
6- تفويض الأمر لله سبحانه، وصدق التوكل عليه، فهو القادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}[النساء:81]. وقال: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[النور:57].
إلى غير ذلك من معالم وتوجيهات قرآنية، لو تنبه إليها الدعاة، وتمسكوا بها مجتمعة، لما وقفت أمامهم عقبة، ولا عسرت عليهم مشكلة.
هذه كانت أهم المعالم والبصائر في مواجهة المشكلات الدعوية وعقباتها، فلابد لنا تجاهها من الصدق والمجاهدة، ومن الصبر والمصابرة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69].
ـــــــــــــــــــــــــــ
بصائر دعوية للبيانوني
=============
الفتور.. مظاهره وأسبابه، وطرق العلاج
هل أحسست يوما بقسوة في قلبك وتحجر في عواطفك، وعدم تأثر بالقرآن والمواعظ؟
هل شعرت يوما بضيق في صدرك، أو بهمّ أثقل عليك كاهلك فأنت في ضيق لا تعرف له سببا ولا تجد مخرجا؟
هل أصابتك وحشة فيما بينك وبين الناس فأنت سريع الغضب منهم قليل الصبر عليهم لا تحب مجالستهم ولا مؤانستهم؟
هل وجدت وحشة فيما بينك وبين الله فأصبحت تستثقل العبادات وتتهاون في الطاعات ولا تجد لذة لأنواع القربات؟
هل أصبحت تشكو كما كنت تسمع من يشتكي من قسوة القلب، ومن يقول: "لا أجد لذة للعبادة"، "أشعر أن إيماني في الحضيض"، "لا أتأثر بقراءة القرآن". "لا أتأثر بموعظة"، أقع في المعصية بسهولة.
إذا كان أصابك شيء من ذلك فاعلم أن السبب في هذا هو ما يسمى بظاهرة الفتور أو ضعف الإيمان، وهو مرض واسع الانتشار يعاني منه كل مؤمن موحد ولو بين الحين والحين. وذلك أن من أصول أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والكتاب والسنة مليئان بالأدلة على هذا الأمر وكذا كتب السلف الصالحين.
وقد أخبرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يبلى في قلب المؤمن ويحتاج إلى تجديد كما في المستدرك والطبراني: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم".
فالإيمان في قلوبنا يزيد وينقص ثم يزيد وينقص حسب ما يتعرض له المرء من أسباب ضعف الإيمان وقوته أو نقصه وزيادته، وهو ما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الحلية قال: "ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضئ إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء".
فكما أن القمر أحيانًا بينما هو منير في السماء تأتي عليه سحابة تحجب ضوءه ونوره ثم ما تلبث هذه السحابة أن تنقشع فيرجع له ضوؤه فينير السماء، كذلك قلب المؤمن بينما هو سائر في طريق استقامته إذا اعتورته بعض السقطات والهنات ولحظات الضعف بل والمعاصي فحجبت عنه نوره فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله انقشعت تلك الغمة وعاد للقلب نوره واستقامته.
مظاهر الفتور
معلوم أن الإيمان لاينزع من قلب العبد مرة واحدة وإنما يحمله الشيطان على التهاون في دينه خطوة خطوة فيدب الضعف إلى إيمانه رويدًا رويدًا. ولضعف الإيمان في قلب الإنسان علامات تدل عليه ومظاهر يعرف بها:
1) قسوة القلب(5/5)
فيحس أن قلبه يجمد شيئا فشيئا، لا يتأثر بموعظة ولا برؤية بلاء أهل البلاء، ولا حتى بالقرآن، وربما دخل المقابر وحمل إليها الأموات وواراهم التراب وكأنه لم ير شيئًا، حاله كما قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ}[البقرة:74]. فإذا أحسست بقسوة في قلبك وتحجر في عواطفك فاعلم أنه مظهر من مظاهر ضعف الإيمان.
2) ضيق الصدر والوحشة من الناس
فيصبح المرء سريع الغضب على من حوله قليل الصبر والتحمل لهم ، يضيق ذرعا بأفعالهم، ويتأفف من أعمالهم ، قد ذهبت عنه سماحة أهل الإيمان فلم يعد يألف ولا يؤلف، وكلما زادت غفلته وفترته زاد همه وضاق صدره.
3) الوحشة بينه وبين الله
وعلامتها استثقال العبادة، والتهاون في الطاعة ، وعدم الحزن على فواتها ، فتفوته مواسم العبادة ولا يتأثر، ويتأخر عن الجمع والجماعات ولا يحزن، وعبادته إن أداها فهي مظاهر خالية من الروح: فالصلاة بلا خشوع، وقرآءة القرآن بلا تدبر، والأذكار عادة، والدعاء مجرد كلام باللسان مع غياب القلب، والله لا يقبل دعاء قلب ساهٍ لاهٍ.
4) الاستهانة بالمكروهات والمشتبهات
فبعد ما كنت تسأل عما فيه شبهة لتجتنبه حفاظًا على دينك ولا تتجرأ أن تقترب مما قيل إنه مكروه، إذا بك لاترى بما دون الحرام بأسًا، فقارفت المكروهات، وولغت في الشبهات: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام...".. فقادك هذا التساهل إلى رفع الحاجز عن الحرام فسهل عليك الوقوع فيه فاجترأت على محرمات لم تكن قديما تخطر لك على بال.. وكلما ضعف الإيمان ازداد المرء تفلتا.
5) عد م الغيرة على محارم الله
فإن نار الغيرة إنما توقدها جذوة الإيمان، وقد خبت.. وكيف ينكر المحرَّمَ من وقع فيه؟ وكيف يكره أهل المعاصي من يعيش بينهم .وربما زاد القلب إظلاما حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا والحسن قبيحا والقبيح حسنا .
6) ضعف رابطة الأخوة الإيمانية
لأن سبب الرابطة هو الإيمان المحرك لها؛ فإذا ضعف الإيمان ضعفت بضعفه تلك الروابط، فلا زيارات ولا دعوات ولا عيادة مريض ولا معاونة ولا شيء، ربما ولا سلام ولا كلام، وربما لا يهتم بقضايا المسلمين ولا يتمنى نصرتهم وانتصارهم: (ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام ففرق بينهما إلا بذنب يحدث أحدهما)(رواه أحمد وغيره).
ومن مظاهر ضعف الإيمان أيضا : حب الدنيا على جميع صوره، والخوف عند المصيبة والجزع لها، وكثرة المراء والجدال المقسي للقلب، والاهتمام بالمظاهر والمغالاة فيها.
الأسباب
يقول بعض السلف : "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم إيزداد إيمانه أم ينقص، ومن فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان من أين تأتيه". فمن فقه الإنسان أن يراقب قلبه ودينه وينظر من أين يأتيه الفتور، وماهي أسباب ضعف إيمانه.. وقد ذكروا منها:
أولا : الابتعاد عن أجواء الإيمان
وهو أول ما يدخل الفتور به على أهل الإيمان فيتحول عن المسجد، ويستبدل الرفقة الطيبة أو يغيب عنهم، والبيئة لها أثر عظيم . قال الحسن: إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا الدنيا وإخواننا يذكروننا الآخرة . وفيما سبق قال العالم لقاتل المائة نفس: "ودع أرضك هذه فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا فإن فيها قوما يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم.
ثانيا: الانشغال بالدنيا
والحرص عليها، والسعي وراءها وطلب الجاه فيها، وفي الحديث: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".(رواه الترمذي). فطغيان الدنيا على الآخرة مفسد للدين كما روي عن معاذ رضي الله عنه: "يا ابن آدم! أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما. وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر".
ثالثا: طول الأمل
طول الأمل مفسد للقلب؛ فإن من طال أمله نسي الآخرة، وسوَّف في التوبة، ورغب في الدنيا، وكسل عن الطاعة، وأسرع للمعصية؛ فيقسو قلبه لأن رقة القلب بتذكر الموت والقبر والجنة والنار، وطويل الأمل لا يذكر هذه الأشياء.
قال علي: "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".
وفي الأثر: "أربعة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا".
رابعا: الابتعاد عن العلم الشرعي
وخاصة بالكتب التي تقسي القلب وتشتت الفكر ككتب الفلسفة، وكذلك قصص الحب الساقطة، والمجلات الخليغة، وقد يصاب بقسوة القلب من يكثر من الجدال والمراء، وقراءة كتب أهل البدع والخلاف وترك كتب الرقائق ككتب ابن القيم وابن رجب وغيرهم.. وخير ما يستفاد منه قوة الإيمان كتاب الله ثم مدارسة السنة والسيرة ثم قصص الصالحين وأحوالهم.
خامسا: عدم وجود القدوة
فالقدوة الصالحة لها أثر حي وفعال في قلوب المشاهدين، ولذلك كانوا ينصحون بملازمة أهل الصلاح والورع، وعندما مات أعظم قدوة في الدنيا قال الصحابة: ما هي إلا أن واريناه التراب حتى أنكرنا قلوبنا، وكانوا كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، مع كونهم كلهم قدوات يقتدى بهم، وكلام ابن القيم عن ابن تيمية مشهور معروف.
سادسا: الإفراط في الكلام والطعام والمنام والخلطة
فكثرة الكلام تقسي القلب.
وكثرة الطعام تثقل عن العبادة.
وكثرة المنام تضيع خيرًا كثيرًا.
وكثرة الخلطة لا حد لمفاسدها.
علاج ضعف الإيمان(5/6)
وبعدما تعرفنا على مظاهر الفتور وضعف الإيمان وأسباب ذلك، لابد أن نتعرض للعلاج حتى يستطيع من ابتلي بشئ من ذلك العودة إلى ماكان عليه من قوة الإيمان والعبادة ومن ذلك:
دوام المراقبة والمحاسبة
فمراقبة القلب الدائمة ومراقبة الحالة الإيمانية تجعل العبد على علم بمكانه من الله وهل هو في ازدياد أو نقصان، ودوام محاسبة النفس يعيد الأمور إلى نصابها ويجعله يستدرك الأمور قبل استفحال خطرها، ومعالجة الأمر في البدايات أيسر كثيرا من المعالجة في النهايات والوقاية دائما خير من العلاج " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
تدبر القرآن
فإن ضعف الإيمان مرض قلبي، والله أنزل القرآن شفاء لأدواء القلب والبدن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء:82]. وإنما يأتي العلاج مع التدبر والفهم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص:29]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة يتلو آية واحدة يكررها: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]. وكذلك ورد عن تميم الداري، وكان كثير من السلف يكرر الآيات يتعمق في فهم معناها كسعيد بن جبير: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:48].
ومرض عمر رضي الله عنه من آية قرأها: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ}[الطور:7]، وسمع بكاؤه وهو يقرأ: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[يوسف:86].
وقال عثمان: "والله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا".
ومات علي بن الفضيل من آية سمعها: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ}[الأنعام:27].
ومات زرارة بن أوفى في الصلاة عندما تلى قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}[المدثر:8]
ذكر الله
فهو جلاء القلوب من صدئها وشفاؤها من أمراضها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة، والفلاح يترتب عليه: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}[الأنفال:45]. وهو وصية الله لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}[الأحزاب:41]. ووصية النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أعتصم به. قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله).
فالذكر مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم، جالب للرزق والفهم، به تطمئن القلوب وتبتهج النفوس وتنشرح الصدور: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28].وترك الذكر قسوة للقلب وأي قسوة، كيف لا وهو نسيان لله، ومن نسي الله نسيه الله.
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور
يقول ابن القيم رحمه الله: "في القلب قسوة لا يزيلها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله".
قال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر".
قال مكحول: "ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء".
الدعاء والانكسار بين يدي الله
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60]. وأقرب باب يدخل منه العبد على الله باب الافتقار والمسكنة، ولذلك كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأن حال السجود فيها من الذلة لله والخضوع له ما ليس في غيرها من الهيئات. قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)[رواه مسلم]. وهل هناك حال أرجى للقبول من عبد عفر جبهته في التراب خضوعًا للعزيز الوهاب، واستكانة ومذلة بين يديه ثم أخذ يناجيه من صميم فؤاده بحرقة المحتاج، وابتهال المشتاق، اللهم إني أسألك بعزتك وذلي، وأسألك بقوتك وضعفي، وقدرتك وعجزي، وبغناك عني وفقري إليك إلا رحمتني وهديتني وأصلحتني. اللهم هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، فخذ بها يارب إليك أخذ الكرام عليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك. أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وذل لك قلبه وفاضت لك عيناه.
فهل تظن بعد هذا الدعاء مع الإخلاص يرده الله .. لا والله.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. والحمد لله رب العالمين.
==============
الحركة الإسلامية .. هموم وآمال(5/7)
يمثل فقدان الإحساس بالزمن وقيمته وأثره في التحولات السياسية والاجتماعية والعقدية أحد أبرز مشكلات الحركة الإسلامية المعاصرة، وخاصة في مصر، لقد كانت السمة الغالبة على تصرفات أجيال الحركة الإسلامية هي سمة العجلة والتسرع واستعجال الثمرة والضجر من طول الطريق وعدم الصبر على عوائقه وتصور إمكانية القفز على معطيات الواقع لاختصار الطريق، ولعل ذلك كان السبب الأهم في اندفاع فصائل من الحركة الإسلامية إلى العنف المسلح في الحالة المصرية، دون نظر دقيق وراشد وعاقل في معطيات الواقع وفي آفاق التجربة وحساباتها، بل إن الغريب أنه على الرغم من أن بدهيات العمل العام تعطي معنى أن الحرب هي مجرد آلية من آليات السياسة، فإننا وجدنا بعض فصائل الحركة الإسلامية تغامر بدخول مواجهات مسلحة دون أن تكون لها - من حيث الأصل - أية خبرات سياسية، بل ودون أن يكون لها تصور سياسي، بل إنها - وما زالت حتى الآن - تنظر بتوجس إلى السياسة ومفرداتها، وما زال قطاع كبير منها يفكر بعقلية التنظيم السري ذي الطابع العسكري، وأحيانا يكون بعقلية التنظيم السري على الرغم من الطابع الفكري المجرد للتنظيم والبعيد كل البعد عن العنف وعن السياسة معا.
سياسة النفس الطويل
إن طبيعة المعركة التاريخية التي تخوضها الحركة الإسلامية لوقف مسيرة التغريب في ديار الإسلام، والعمل على إصلاح البلاد والعباد، وتأسيس دولة العدل والإيمان والحرية، وإحياء دين الحق في النفوس وفي الواقع، وإعادة شريعة الله حاكمة لعباد الله، كما كانت منذ بعثة النبي {صلى الله عليه وسلم} وحتى فجر التاريخ الحديث عندما وقع الشرخ الكبير بفعل التغريب والغزو والاستبداد - هذه المعركة التاريخية هي - في صلبها وجوهرها - معركة النفس الطويل، والبناء الصعب، والمعاناة العاقلة الذكية، المعاناة التي ترصد الواقع ومتغيراته وتدرس مفاتيحه ومداخل الإصلاح فيه وتضع خططها الصبورة للنفاذ إلى هذا الواقع والعمل على إصلاحه بهدوء وروية مستوعبة موجات التحدي لرسالتها بأشكالها كافة، تحديات الاستبداد والجهل والقمع بما في ذلك القمع الإعلامي، ومصالح دولية معاكسة ومتباينة مع المصلحة الإسلامية، وتوازنات محلية ودولية، وليست تلك المعاناة التي تتصور أن أهم إنجازات المسلم المعاصر أن يقضي جزءا من عمره في السجون والمعتقلات، لقد غلب على مشاعر أبناء الحركة الإسلامية في مرحلتها الجديدة نزوع عاطفي كبير نحو الخلاص الذاتي، والرغبة في التطهر، دون نظر إلى أهمية الخلاص الجماعي والعام للأمة بكاملها، وهذا النوع الثاني من الإحساس هو الذي يفتق الذهن للإبداع الحركي، وهو الذي يدفع الطاقات الإسلامية إلى احترام الواقع والتفاعل معه ومن ثم قيادته، وهو الذي يجعل المسلم أكثر حرصا على وقته وعلى عمره وعلى شبابه وعلى جهوده من أن تضيع هدرا، لأنه يعي أنه مطالب بتحقيق النصر في موقعة تاريخية، وليس فقط مجرد التضحية دون حسابات جدوى كاملة ودقيقة لأبعاد هذه التضحية.
إنه ليس مطالبا فقط بتخليص نفسه وتطهيرها، بل أيضا بتخليص أمته من آفاتها الكبرى، وتحريرها من العبودية لغير الله، ومثل هذه الأمانة الضخمة تحتاج إلى وعي وسلوك وأفق مختلف عن مجرد الشعور العاطفي الصادق بالرغبة في التضحية والتطهر دون نظر إلى الغاية أو الأفق أو الدور، وفي تقديري أن هذه خطوة أولى وحيوية لإصلاح مسار الحركة الإسلامية وتأسيس وجهتها المستقبلية على أسس جديدة أكثر وعيا ورشدا وأكثر قدرة على الالتحام بالواقع، وأكثر فاعلية على التغيير والإصلاح .
عمل خطر
إن العمل في الإصلاح العام، والعمل المتقاطع مع السياسة - بشكل عام فيما يسمى بالعالم الثالث - شديد الخطورة والتعقيد، ومنطقه مختلف تماما عن منطق السياسة وحساباتها في الدول التي قطعت شوطا كبيرا في الإصلاح السياسي وأصبحت لديها قاعدة مؤسسية راسخة تحقق توازن القوى وتضبط السلوك السياسي في مجتمعاتها، فالعمل السياسي في العالم الثالث أشبه بالخوض في حقول ألغام، بما يعني بذل جهد مضاعف للتعامل بحكمة مع هذا الواقع، وبدلا من أن يحدث ذلك كانت الحركة الإسلامية أقل تحوطا في سلوكها الإصلاحي والحركي، وأقل قدرة على فهم موجات السياسة في بلادنا، وأقل قدرة على (تفكيك) الألغام المبثوثة في مسيرتها نحو الإصلاح، بل كانت أجيالها تنتشي باقتحام حقول الألغام حيث يتم تدمير أجيال من الحركة بدون طائل عملي حقيقي تجنيه الأمة، وكان منطق الخلاص الذاتي والفردي هو القائد، وروح التضحية الفردية، بينما كان المطلوب هو منطق البحث عن سبل النصر وشروطه، وروح الجماعة، وحسابات الزمن، ومصالح الأمة الكبرى، وأفق المستقبل، لم يكن المطلوب هو أن أقتحم اللغم لكي أفجره وينفجر فيّ، بل كان المطلوب هو أن أضع خريطة علمية لحقل الألغام، ومعرفة خصوصيات هذه الألغام، وأدرس كيفية تفكيك هذه الألغام، بحيث أنزع منها قدراتها على التدمير، وقد يمكن الإفادة من هذه الألغام ذاتها في مرحلة تاريخية معينة بشكل إيجابي لا يضر بمسيرة الحركة الإسلامية نحو الإصلاح، كل هذا لم يحدث، لأن الأفق السياسي كان غائبا، بل الأفق المستقبلي الأساسي كان غير موجود وغير موجه للحركة الإسلامية، ومن ثم كان الحديث عن (استراتيجية) مستقبلية - تحكم مراحل عملها، وتوجه بوصلة فعلها وتفكيرها -نوعا من الترف غير المطروح أساسا للنقاش الجاد .
عاقبة وخيمة(5/8)
وكانت غلبة الروح التنظيمية في العمل الحركي على حساب التجديد الفكري وخيمة العواقب، حيث تم إعلاء شأن الانضباط التنظيمي على مهمة بناء الشخصية المستقلة والبصيرة والناقدة، وتمت مصادرة حق الفرد في النقاش والاختلاف وإبداء الرأي، ما دامت (قيادة التنظيم) رأت رأيها، وتمت عملية (عسكرة) الحركة الإسلامية بتأسيسها على الطاعة العمياء والصارمة على حساب الطاعة الفاحصة والبصيرة، وكان من الطبيعي أن تموت ملكات الإبداع والتجديد الفكري والحركي والسياسي في ظل هذه الأجواء، الأمر الذي أدى إلى خسارة الحركة الإسلامية - بفصائلها كافة - لجهود أصحاب الفكر والباحثين عن التجديد، وأصبحت (الجماعات) عامل طرد للمميزين فكريا، ولذلك يعز أن تجد في حركة إسلامية رموزا فكرية مؤثرة، وتحولت الحركات - من ثم - إلى تنظيمات بلا قدرات فكرية خلاقة، وكان هذا من العوامل التي أدت إلى جمود الوعي الحركي والسياسي والمستقبلي
الحاجة إلى بعث جديد
إن الحركة الإسلامية في حاجة إلى بعث روح جديدة، وفكر جديد، وأخلاقيات جديدة، وعلى أكثر من صعيد، وصحيح أن هناك فروقات معينة بين كل فصيل وآخر، إلا أن جوهر الداء ستجده عند الجميع بدرجات مختلفة، بحكم أن المناخ العام الذي نعيشه والخبرات التي أسسنا عليها حركيتنا - هو من المشترك العام بيننا، وأملنا أن تكون الانتكاسات المتتالية التي مرت بها الحركة، والهشاشة العجيبة في محصلة جهدها في المجتمع على مدار أجيال طويلة - أملنا أن يكون هذا كله دافعا وحافزا يضطرها لفتح أبوابها أمام هذه الروح الجديدة، لاسيما ونحن نتحدث عن تيار لا ينقص أفراده الإخلاص والصدق وجذوة الإيمان
=============
الداعية في مواجهة الآخر.. الانطلاق من النقطة الخطأ
أعادت أحداث الحادي عشر من سبتمبر العلاقة بين الإسلام والغرب إلى نقطة الصفر، حيث الألغام تنتشر تحت أقدام من يحاولون عبور الهوة بين الجانبين، وأزمة الثقة وسوء الفهم والاتهامات المتبادلة تسيطر بصورة خاصة على المربع الغربي، في حين تولى المسلمون دور الدفاع عن دينهم من اتهامات هو بريء منها.
وما يهدف إليه هذا التحقيق هو تقديم تصور سليم للعلاقة بين الداعية المسلم والآخر، ووصف السلبيات في العلاقة الحالية، ورسم المنهج الصحيح الذي يجب اتباعه لتصحيح صورة الإسلام، وإقامة ما يسمى بحوار الأديان والحضارات على أسس سليمة، لا يكفي معها حسن النية وحده، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل الحوارات السابقة.
الحوار والتراجع المرفوض
يقول الأستاذ الدكتور طه الدسوقي، أستاذ العقيدة والأديان بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر: إن العالم الإسلامي امتلأ في الفترة الأخيرة بصيحات تردد صداها في كل ركن من أركانه، تتحدث عما يجب على المسلمين أن يفعلوه في علاقاتهم بغيرهم من الشرقيين أو الغربيين، وهذه الصيحات تطالب المسلمين والغربيين جميعًا بنبذ فكرة الصراع بين الأديان والحضارات، وأن يسعوا إلى الحوار في كل المجالات بما فيها الدين.
ويضيف د. الدسوقي: لكن هذه الصيحات تلاحقت بسرعة مذهلة لتكشف عن النوايا وراءها، كما وضعت دعاة هذه الفكرة في العالم الإسلامي على وجه الخصوص في حرج بالغ أمام التاريخ وأمام أممهم، وبناء على هذا الكشف فإن فكرة الحوار فيها مغالطات كثيرة، تبدأ من كلمة الحوار نفسها والذي يجب أن يسلكه الداعية في التوجه نحو الآخر، إذ إنه علينا أن نفهم أنه إذا كان الحوار دائرًا حول ثقافة أو دين أو غيره فلا بد أن يقوم كلا المتحاورين بالتنازل شيئًا ما عن مبادئه وثوابته، أو يلزم ذلك أحدهما على الأقل.
وأمام هذا التراجع، فإن غير المسلمين أعلنوا إعلانًا جازمًا أنهم ليسوا في مجال الحضارات مستعدين أن يتنازلوا عن شيء ولا حتى " قلامة ظفر" على أساس أن حضارتهم وثقافتهم هي الحضارة والثقافة المعصومة من الخطأ، وعلى المسلمين وحدهم أن يتنازلوا عن أشياء كثيرة تتصل بشريعتهم اتصالا مباشرا، حتى لو كان يحكمها نص لا يقبل التأويل.
ويضيف د. الدسوقي: والشيء الغريب أن كثيرًا من المنادين بالحوار أو التوجه نحو الآخر من المسلمين قد تنازلوا متطوعين أو مأجورين؛ فدعوا إلى إحداث تغييرات في الشريعة وفي الفقه الإسلامي، وإعادة صياغة الشريعة والفقه على أسس غربية، من نحو فقه الواقع وفقه المصالح وفقه المقاصد أو أي فقه كان ما دام ذلك يخدم فكرة حوار الأديان !
ويؤكد د. الدسوقي مرة أخرى على أن ظلال كلمة الحوار أو التوجه نحو الآخر يؤكد أنه يجب أن يلزم أحد الطرفين - نحن والآخر- أن يتنازل مقهورًا عما لديه من أسباب الحضارة، وهو ما يفضي إلى سهولة الانقياد والتبعية للآخر من غير شعور بالأنفة أو التمسك بأسباب العزة، والحوار مع الآخر في ظل هذا المفهوم لا يعني إلا أن يتنازل المسلمون قهرًا أو طواعية عما لديهم من الشريعة والشعيرة، ويلتزم فقط بما في الإسلام من أخلاق كالصدق والرحمة والإحسان وغيرها من الصفات الحميدة.
أما في مجال العقائد - والكلام ما يزال للدكتور الدسوقي - فعلى المسلمين أن يضمروا في قلوبهم فكرة التوحيد، وألا يجاهروا بفكرة التنزيه لله تعالى، وألا يعلن المسلمون أن باب النبوة قد أغلق فضلاً عن المجاهرة بدعوى النبوة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أنه هو خاتم المرسلين.(5/9)
ويعلق قائلاً : إنه إذا كان هذا هو مفهوم كلمة الحوار بما فيها من تعميم وتدليس وما لها من أبعاد وظلال، فإن المراد من هذه الكلمة ما كتبه بعض المفكرين المسلمين المصريين يطلب الوفاق بين الديانات، ويطلب الوحدة بين أصحابها تحت مظلة " الإبراهيمية " ، فجميع الأنبياء من سلالة إبراهيم، وعلى تابعي الأنبياء أن يتحدوا تحت مظلة الأب الرحيم، ونحن لا يخفى علينا ما في هذه المقولة من مغالطة تضر بالديانات جميعا والضرر الأكبر سيقع على الإسلام.
وبناء على ما سبق يؤكد الدكتور الدسوقي قائلا: إنه بعد أن ظهرت الفلسفات الاجتماعية المختلفة لم يحظ اثنان متحاوران بالاتفاق على مبادئ للحوار أو المواجهة، بل يتربص الكل بالكل، وحدث ما سمي بالحرب الباردة بين الشيوعية ذات الوجه الماركسي والرأسمالية الغربية ذات الفكر الصليبي، وكل يملك عوامل هدمه، أما الإسلام ففيه عناصر بقائه واستمراره، وهذا ما طالب به نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة" حيث طالب بسحق كل مناوئ للفكر الغربي الصليبي.
ويقول د. الدسوقي: في اعتقادي أن الغرب (الآخر)، والأمريكان على وجه الخصوص، يرفضون فكرة التبادل والاستفادة من الآخرين، ويعتبرون أن ثقافتهم وحضارتهم هي وحدها التي تملك حق الحياة ولا ينبغي لغيرهم أن تكون له ثقافة أو تقوم لهم قائمة، والتاريخ طبعًا يكذب هذا الادعاء وينفيه كما أن فطرة الإنسان ترفض ذلك وتجافيه.
يقظة ضد المؤتمرات
الأستاذ الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، يؤكد أن دور الداعية في مواجهة الآخر يستدعي يقظة الداعية الشديدة، باعتبار أن حوار الحضارات أو الأديان ومعظم ما يقال عنها مؤامرات يهودية يقصد بها استدراج المسلمين لتمييع مواقفهم الصارمة من انحرافات أصحاب العقائد والكتب السابقة.
ومع تأكيد د. سعيد على دعوة الإسلام للحوار وإرساء قيم مثل حفظ العقل واحترامه واستخدامه من قبل المسلمين حكمًا بين طرائق البشر وأفكارهم ومذاهبهم، إلا أنه يؤكد على وجوب التفرقة بين الحوار الجاد والمواجهة الشريفة التي تستهدف بيان الحقائق وإقامة الحجج والبراهين، وبين الحوارات المفتعلة التي تهدف إلى نتيجة مرسومة سلفًا، وهي زعزعة القاعدة الصلبة، وهي أن الإسلام خاتم للأديان، ومحفوظ الكتاب والسنة، وباعتباره دينا عالميا طبق في الأرض لأكثر من 1400 عام، ولن ولم تقم فيه هيئات كهنوتية تملك تغيير معالمه وحقائقه، وإنما ظلت المرجعية الدائمة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفهم العلماء المشهود لهم بالتقوى والصلاح.
ويضيف د. سعيد: إذا كان الغرض من الحوار هو فهم الآخر وأن يفهمونا فهذا أمر طيب، وطالما أوصلنا ذلك إلى التعايش في سلام وإنصاف بين الطرفين، وذلك رغم حكم الإسلام بزيف وخطأ ما عليه أهل الكتاب في العقائد .. رغم ذلك جعل الإسلام لأهل الكتاب منزلة خاصة في التعامل والتعايش ، بل قال الله تعالى في أحد المواضع : " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ، فلم يأمر بالجدل بالحسنى فقط وإنما بالتي هي أحسن إلا مع الظالمين منهم والذين خرجوا عن كل حدود الفعل والفكر.
أيضًا لم يظفر أهل الكتاب في تاريخهم - والحديث ما يزال للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد- بمعاملة حسنة إلا في ظل الدولة الإسلامية في مختلف أنحائها، وخاصة أعداء الله اليهود، والتاريخ يشهد بذلك.. لكن هذا الآخر ينظر إلى المسلمين وعلى مر التاريخ نظرة ترصد، وحدثت انتهاكات كثيرة للمسلمين في الدول التي عاشوا فيها كأقليات، والتاريخ القريب يؤكد ذلك في البوسنة والهرسك، وروسيا والهند وغيرها من الدول.
ويؤكد د. سعيد أن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة، ولا بد أن يسبقوا الجميع إلى الحوار، ولكن مع الحيطة الشديدة حتى لا نقع في شرك الخديعة، والتي تهدف إلى جر المسلمين إلى التخلي عن ثوابت دينهم وتقبل جزء أو أجزاء من أباطيل غيرهم (الآخر)، فيفقد المسلمون حينئذ تميزهم وتفردهم بالحق في الأرض، وهذا التفرد ليس امتيازًا شخصيًا للمسلمين، وإنما هو الوحي الإلهي الصحيح الذي قام عليه الدليل والبرهان لأكثر من 1400 عام، ولذلك يجب الحذر بشدة.
ويؤكد د. سعيد مرة أخرى على ضرورة أن تكون مواجهة الآخر أو الحوار معه عائدا إلى أمرين مهمين هما:
أولا: المرجعيات الدينية الصحيحة
ثانيا: نوعية الأشخاص المكلفين بالدخول مع الآخر في جدال أو نقاش، حيث يجب أن يكونوا مشهودا لهم بالصلاح والتقوى أولا والاعتزاز بالإسلام ثانيا، فضلا عن الكفاءة.
الحوار حول أسس الإسلام
أما الدكتور عبد العظيم المطعني الأستاذ بجامعة الأزهر فيقول: إن الحوار مع الآخر أو مواجهته .. الحكم حيالها يجب أن يضع في اعتباره التجربة التي مر بها هذا الحوار، وهي تجربة لم تحقق أي نجاح، وهو حركة لكنها تقف في مكانها، وكان هذا شيئًا منتظرًا.(5/10)
والسبب في فشل الحوار بين الأديان لا يرجع إلى المسلمين، فالإسلام هيأ أتباعه مبدئيًا للمشاركة في الحوار، وقد دعا إليها القرآن منذ 1400 عام عندما قال تعالى : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله وألا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ، فهذا هو أساس الحوار من جانبنا كمسلمين، وما يترتب على ذلك أن الإسلام يتيح حرية الاعتقاد بألا يجبر أحدًا أن يعتنقه بقوة السلاح، كما يدعو إلى مسالمة جميع من يختلف معنا في العقيدة، وأن نودهم ونبرهم ونحسن إليهم إلا إذا قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا أو ساعدوا عدوا علينا، ففي هذه الحالة لا بد من المعاملة بالمثل.
ويضيف د. المطعني أن الإسلام جوز كل ألوان التعامل مع الآخر مثل حله لطعام أهل الكتاب والمصاهرة منهم، ولا يطلب من الإسلام أكثر من ذلك، ومهما عقدوا من لقاءات أو ندوات وطرحوا من أفكار من خلال الحوار أو المواجهة فليس عندنا كمسلمين أكثر من هذا، وعليهم أن يعاملونا بالمثل، فيعترفوا بديننا وبرسولنا وبقرآننا كما نعترف نحن بهم، أما وهم يرفضون كل هذا فلا أمل من الحوار معهم لأنهم يريدون التحاور في أسس الإسلام والتفاوض عليها بدافع عزلنا عن الإسلام، والإسلام فوق هذه التوهمات.
محقق ومتهم
ويقول الأستاذ الدكتور محمد يحيى أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة والكاتب الإسلامي المعروف باهتمامه بشأن الحوار مع الآخر: ما يحدث الآن ليس إلا جلسات تعقد بين أشخاص يفترض أنهم يمثلون الأديان - إما الكنيسة وإما الإسلام- ونحن معنيون بمن يقومون بمواجهة الآخر أو التحاور معه، حيث نؤكد أن هؤلاء الأشخاص في الغالب الأعم أشخاص معينون من جهات رسمية، وليست لديهم الحماسة الكافية في الحوار أو النقاش أو مواجهة الآخر، وهذا يحدث مع إمكانية وجود أشخاص من الكنيسة مثلا، لكنهم لا يتمتعون بالاستقلالية التامة عن أية جهات رسمية، وإنما يمثلون مراكز أنشئت في الغرب لهذا الغرض تتمتع بكثير من الخبرة والكفاءة.
ويضيف د. يحيى أن الواقع يؤكد أن تجارب المواجهة مع الآخر والحوار معه تجربة مليئة بالسلبيات ؛ لأنها على سبيل المثال سعت من جانب ممثلي الإسلام إلى الاعتراف بالكنيسة الغربية دون أن يكون هناك اعتراف منها بالإسلام، كما أنها تحولت إلى جلسات توجيه اتهامات إلى الإسلام ودفاع من ممثليه، وأصبحنا أمام جلسة تحقيق ومتهم وتهم!!
والأخطر في الأمر أن المتهم "وهو الإسلام" يتم الدفاع عنه بنوع من الاعتذار ووعد بالإصلاح في المستقبل، وهذا طبعًا ليس حوارًا وليست مواجهة.
الحوار مع النفس أولاً
الدكتورة نادية مصطفى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة ورئيس مركز الحضارة للدراسات السياسية تنظر للقضية بشكل علمي ، وتقول: في موضوع مواجهة الآخر أو حتى التحاور معه، لا ينبغي التركيز على الأدوات والقنوات والوسائل المطلوب التحاور بها مع الآخر فقط، ولكن على مضمون الخطاب الذي يجب أن تحمله وضوابط الإعداد لهذا الخطاب، وهذا الأخير محكوم بدوره بأزمتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية.
وتضيف: إن تداعيات أحداث سبتمبر 2001 بالنسبة لوضع الإسلام والمسلمين تعلن عن تدشين الهيمنة الحضارية علينا والإقصاء الحضاري لنا، وهنا يجب علينا:
1. أن نواجه هذه المرحلة باستراتيجية جديدة لا تقوم فقط على الدفاع عن الإسلام والمسلمين والاعتذار عنه كما حدث في المبادرات والحوارات السابقة مع الغرب، ولكن بالانتقال إلى الهجوم وعدم التعامل كمتهمين، ويتطلب هذا أن يتضمن خطابنا المطالبة بإثبات الفاعل في أحداث 11 سبتمبر وتوجيه الاتهام إلى بدائل أخرى -غير تنظيم القاعدة- مثل اليمين الغربي أو الموساد، وبتعبير آخر يجب ألا نسلك طريقًا حددته الولايات المتحدة للمتهم وللفاعل والتي يحصد المسلمون ثمارها الآن.
2. ثانيا أن ندفع عن أنفسنا كعرب ومسلمين تهمة أننا لا نقبل الآخر، لأن الصراع ليس مع الذات فقط لنقبل الآخر - داخليًا وخارجيًا - ولكن الصراع في مواجهة الآخر ليكف عن رفضنا من ناحية، ولنعرف ما هي حدود وضوابط قبول الآخر أو رفضه.
أمر آخر في غاية الأهمية، وهو تحديد مفهوم الإرهاب والجهاد الإسلامي وبيان ضوابطه للحيلولة دون تحوله إلى إرهاب بالمعنى الشائع، وبيان متى يكون استخدام القوة جهادًا ومتى يكون عنفًا.
وتقول د. نادية: إن الوجه الآخر للعملة هو أن نتجه نحو الذات، فنحن لسنا مطالبين بالهجوم على النظام الدولي فقط لإفرازه الإرهاب، ولكن على النظم الداخلية التي أفرزت أيضًا الإرهاب، إن صح التعبير، ويجب أن نتفهم مسؤولية التغيير في سياساتنا ومجتمعاتنا التي انقطعت تدريجيًا عن المرجعية الإسلامية، بحيث إذا ظهر من يريد العودة لهذه المرجعية والاجتهاد انطلاقًا منها حول المجتمع والسياسة، أو من يرفض المظاهر السلبية لتأثير القيم والسلوكيات الغريبة على مجتمعاتنا لا يصبح بين عشية وضحاها متطرفًا، أو يتحول في نظر المجتمع إلى إرهابي.
كما يجب - كما تقول الدكتورة نادية- التمييز بين مشروعية الشعور بالذات والخصوصية وبين مشروعية رفض الآخر، وليس لأنه (آخر) ولكن لأنه يريد استيعابي وإقصاء خصوصيتي.
=================
رؤية مستقبلية للدعوة النسائية(5/11)
الناظر إلى الأحداث التي تعصف بالأمة بعين البصيرة المتأملة وقلب المشفق النصوح يدرك تماماً الأهمية الكبرى للإصلاح والتقويم الذي يرتكز على هدى من الله تقوم أسسه على اتخاذ الدعوة إلى الله منهجاً ووسيلة نحو غاية التغيير إلى الأفضل والرقي نحو المعالي وتعبيد الناس لربهم تبارك وتعالى.
وفي صفوف النساء، يبتهجُ القلبُ بجهودٍ رائعةٍ في الدعوة إلى الله تزخر بها الساحات، فمن أنشطة في المؤسسات التعليمية، إلى إطلالة متميزة في عالم القلم والصحافة، إلى جهود محتسبة في تعليم القرآن، ومحاضرات ودروس تشهد إقبالاً كبيراً، وملتقيات قوية تقوم بها مؤسسات دعوية رائدة.
وأولو النظرة المتزنة يلتفتون إلى الماضي متعظين، ويعيشون الحاضر قانعين، ويستشرفون المستقبل متفائلين، بتصحيح الأخطاء السابقة، وتطوير الأعمال الحالية، وتصحيح كل زلل والزيادة من كل خير، فكانت هذه النظرة الاستشرافية لمستقبل ذي تأثيرٍ قوي، وإصلاحٍ أعمق، وجهودٍ أوسع، مرتكزة على علمٍ وافر وعمل دؤوب، واعتباراً بسنن الله في الكون كما يقول الله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وهذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}.
فإن دراسات المستقبل وما تقدمه من رؤية ثاقبة ذات أبعاد مبنية على أسس وأوليات تعطي نتائج متوقعة إلى حد كبير يعتمد على الدقة والواقعية في تحديد الأهداف ورسم الاستراتيجيات والاستفادة من معطيات الحاضر بأقصى درجة لقيادة المستقبل ويمنحنا هذا الاستشراف القدرة على المقارنة الواعية بين النتائج التي تنجم عن اختيارنا وبين التي تتم ونجد أنفسنا فيها دون استعداد يذكر.
والمستقبل لا يمكن القفز إليه، بل لا بد من اتخاذ الحيطة والاستعداد له منطلقين من رؤية علمية استوعبت تجارب الآخرين، وانطلقت من ثوابت ورؤى تكفل الاطمئنان إلى نجاحها وسداد وجهتها.
ومن أهم ما تقدمه دراسات استشراف المستقبل هو التعرف على إمكانيات الصف الإسلامي في ظل الظروف الحالية وما يمكن أن نحافظ عليه منها وما يمكن أن نتنازل عنه، كما يجب أن نعيش الواقع بكل زواياه ونتعرف على خطط المواجهة، ونعد لذلك خططاً للتطور مستفيدين من كل المكتسبات والقوى الداخلية والخارجية، مع عدم إغفال حال الطوارئ، وما يواجهه المستقبل الدعوي من تحديات، وما يفرضه ذلك من تدريب وإعداد من شأنه أن يقلل الخسائر، ويفتح أعيننا على أهمية تنويع مواردنا المالية وأنشطتنا الدعوية، وتكثيف الاستثمار في التربية الإبداعية لأجيالنا القادمة.
وتتجه هذه الاستراتيجية إلى تأصيل هذا الوعي الاستشرافي ليقوم على نهج علمي، وتنميته لينتقل من دائرة المعرفة إلى دائرة الفعل الذي يقود تخطيطنا وأولويات مشاريعنا وسلوكنا واختياراتنا، فهو أساسي في المنهجية التي لا بد أن يربى عليها الأجيال القادمة.
ويتوجه العمل في المجال النسوي إلى:
ـ الاهتمام بنظم المعلومات المتقدمة وخدماتها التي تتيح التواصل الفعال.
ـ أن تتضمن لقاءاتنا تعميق الوعي بحدود إمكانياتنا وقدراتنا ومستقبل أمتنا، ليس في حدود البلد الواحد وإنما على مستوى العالم.
ـ التنسيق مع المؤسسات المعنية الدعوية والإعلامية والثقافية والاجتماعية لتنمية التعاون المستقبلي والإفادة من كل الطاقات.
ـ العناية بالدراسات المستقبلية، ودراسات خطط التغيير التي يتزعمها الغرب سعياً لإضعاف التمسك بالقيم الإسلامية كاتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة، والشرق الوسط الكبير وعولمة الثقافة الغربية ودراسة وسائل التنفيذ المزمع العمل بها لتكوين حصانة قوية لدى الجيل.
ـ ضرورة المبادة لاقتراح لتغيير المجتمع الغربي ودعوة إلى الإسلام بإعطاء النموذج الإسلامي الذي تقبله النفوس وتسعد به البشرية.
واقع الدعوة النسائية وميادين العمل:
المتأمل للدعوة النسائية يجدها في بداياتها، إلا أنها قفزت قفزات كبيرة، ففي الحين الذي سبقتها الحركات النسوية الليبرالية من قوى عظمى لا تخطو تلك الحركات خطوها المؤمل منها في كثير من البلاد الإسلامية! تقول ليلى الأطرش: وبمنتهى الصدق نقول إن استراتيجيات المرأة للوصول إلى البرلمان بالمنافسة أثبتت فشلها، ولم تؤد إلى نتيجة فاعلة رغم كل ما بذل من جهد ورغبة حقيقية منذ مؤتمر بكين وحتى اليوم.. (عن صحيفة الدستور الأردنية 23/6/2003م). بينما المتابع للمناشط الدعوية يجد الإقبال الكبير عليها رغم ضعفها من حيث التنظيم والتنظير مع ضعف الحصيلة العلمية والقدرة الخطابية مما يؤكد الرغبة والمتابعة الشغوفة للخطاب الإسلامي.
ولعلي أعرض في هذه الورقة وباختصار جوانب من واقع العمل الدعوي في الأوساط النسائية، مع استشراف ما يمكن القيام به في المستقبل.
المدارس النظامية والجامعات:
انطلقت الدعوة النسائية من الجامعات والكليات حيث كانت تتأسس الصحوة في المصليات وقاعات الدرس، وأثمرت بعد بضع سنين كوادر متحمسة استطاعت أن تبني فكراً وتوجد تياراً قوياً واعياً فاعلاً على قدر من التدين، بالرغم من المؤثرات الإعلامية الفضائية والصحفية. وهي بهذا تعتبر أحد أهم المجالات الدعوية يجتمع فيها ما يزيد على المليون فتاة من شتى أنحاء البلاد، من فئة عمرية مهمة وحيوية، فلا نحتاج إلى تكلف في الوصول إليها، إنما نحتاج الخطاب وقوة التأثير وتعدد الوسائل، وتفهم للحاجات النفسية والعاطفية والاجتماعية!
يقترح لمستقبل هذا المجال ما يلي:
ـ الاهتمام بالأنشطة الثقافية في الكليات بصورة مؤسسية.(5/12)
ـ الحرص على بناء المدارس والكليات النموذجية التي توفر التعليم الحديث، مع الحرص على وضع البرامج التربوية المركزة المحددة الأهداف المتنوعة الوسائل، ويمكن الاستفادة من سهولة الحصول على التراخيص والعائد المادي منها لإقناع التجار الطيبين بالمساهمة الفاعلة فيها.
ـ الاهتمام بالبرامج العامة واستغلال المناسبات، كاليوم المفتوح والمعارض، والقيام بجهود دعوية إبداعية تهتم بأماكن تجمع الطالبات، ولا تقتصر الأنشطة داخل جدران المصلى كما هو الحاصل، بل إن الخروج للأماكن العامة للطالبات يشكل مفاجأة وإثارة تجذب نفوس الفتيات.
ـ التركيز في المستقبل على المناظرات والحوارات المفتوحة مع أولي العلم والبصيرة والمربين، والصبر على الآخر، فالمناظرات كانت وما زالت وسيلة قوية لدحض الشبه وإنارة البراهين، إلى جانب ما لها من قرب عاطفي من المخالف وسماع لرأيه، فكم سيكون التأثير قوياً لو تم الإعلان ـ مثلاً ـ عن مناظرة للحديث عن خطر الفضائيات أو العلاقات العاطفية غير الشرعية، أو غير ذلك من الموضوعات التي لا أدري لم أصبحنا نغفل علاجها أو نتناولها برتابة ونمطية جامدة؟!
ـ العناية القوية بتأهيل المعلمات والمديرات، وخصوصاً القائمات على الجهود الدعوية في المدارس والكليات، واحتضان أصحاب المواهب والقدرات الفنية، وذلك من خلال توجيه إداري واع، واستقطاب لأولي الخبرة في الإرشاد والشورى، وإقامة دورات وتبادل التجارب بين المحاضن للاستفادة من النجاحات وتصحيح الأخطاء ومواطن الضعف.
ـ الالتفات إلى وسائل التأثير مباشرة، كالوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم الشرعي، خصوصاً في أبواب العقيدة والفقه، فالتوازن مطلوب بين إشغال أوقات الفتيات بالنافع من الوسائل غير المباشرة، وبين إصلاح الذات وتربية النفس بالوعظ والتذكير والعلم الشرعي، كما لا ينبغي أن يميت الواقع في أنفسنا الاهتمام بالقضايا الكبيرة، كالحجاب وتحرير المرأة، بل علينا بذل الجهد في التخطيط والتنسيق لأعمال دعوية مؤثرة فيها.
مدارس تحفيظ القرآن الكريم:
انتشرت مدارس التحفيظ وتوجه النساء إلى حفظ كتاب الله وتعلم أحكامه، فمثلاً في مدينة الرياض يدرس أكثر من 45000 طالبة في 300 مدرسة في حين لم يتجاوز عدد المدارس خمسا فقط قبل عشرين عاماً، ومع أن هذه المدارس لا يتجاوز دوامها الساعتين إلا أنها بالغة الأثر؛ لأن أغلب الدارسات أقبلن برغبة وإخلاص. فإذا التفت أهل العلم والدعوة لهذه المدارس فإنها ستثمر (بإذن الله) كوادر ذات علم وأثر في المجتمع.
ولضمان مستقبل أكثر إشراقاً، خصوصاً في ظل توقع أن يتم تحجيمها، فأقترح التالي:
ـ التفكير في احتمالات تقليص عددها وتحجيم دورها، ووضع الاستراتيجية المناسبة، وذلك من خلال بناء مؤسسات اجتماعية تعني بتعليم كتاب الله.
ـ انتقاء عدد من المتميزات من الطالبات، وإعطاؤهن دروساً خاصة في المهارات التي تحتاج لها الداعية كفن الإلقاء، وطرق إعداد البحوث، وكيفية التأثير في الآخرين، وفقه السيرة... إلخ؛ ليكن نواة ينفع الله بهن في أماكن دراستهن النظامية أو أماكن عملهن في المستقبل.
ـ تدريب الطالبات بعد إعدادهن في مجاميع أقل سناً أو خبرة أو علماً. وهذا يتطلب تشجيع لقاءات خاصة بالمراهقات وغير ذلك.
الصحافة والإعلام:
أثبتت المرأة الداعية إلى حد ما قدرتها على النجاح في العمل الصحفي الموجه واتباع أصوله، والحرص على السبق الصحفي، والإثارة الإعلامية، وجذب الجمهور، وأساليب ذلك.
تحتاج المرأة في الصحافة إلى توجيه قوي من أصحاب الخبرة والتعليم الأكاديمي العالي في مجال الإعلام، لمعرفة أسباب الضعف وطرق التطوير، خاصة مع كثرة المتطوعات وهاويات العمل في هذا المجال، ويقترح عمل دورات تأهيلية للمنسوبات، والتركيز على الحديث عن هموم واقعية يومية للمجتمع، بعيداً عن مثاليات ضخمة أو غير ذات جدوى، إضافة إلى التفاعل مع الأحداث والمناسبات، وإبراز الجهود الدعوية في كل مكان، تبشيراً ونشراً لأخبار الخير.
تجدر الإشارة إلى وجود انتعاش في الحركة الدعوية النسائية، حيث برزت مجلات ناجحة أسهمت في بناء الكوادر الدعوية كالأسرة المتميزة وأسرتنا وحياة، وغيرها، لكن ما تزال بحاجة ماسة لدخول المرأة الداعية الصحفية في الصحافة اليومية التي تدخل كل بيت وعمل، للصدع بالآراء النيرة التي تمثل لسان الغالب من نساء مجتمعنا المحافظ. ونحتاج في المستقبل إلى تكثيف المشاركة الإعلامية في مختلف الوسائل الإعلامية، ولا بد من أجل الوصول لذلك إلى وجود مراكز تدريب صحفية تشرف عليها الأخوات الإعلاميات المتميزات، يكون هدفها توجيه مجموعة من النابهات المتميزات في طرحهن الفكري، وإمدادهن بالأدوات اللازمة في مجال التواصل الإعلامي، ويمكن كذلك التفكير في تحويل بعض المجلات النسائية إلى أسبوعية وإصدار صحف يومية تعني بالشأن النسائي. كما يمكن التفكير في إنشاء قنوات فضائية موجهة للمرأة، تقوم النساء على إعداد برامجها كاملة ويقوم الرجال بتقديمها. كما أن من الأفكار: إنشاء مكتب صحفي يرعى إنتاج المربيات ويتولى تنسيق وصوله إلى معظم وسائل الإعلام.
المؤسسات الخيرية الإغاثية:(5/13)
لم تكن المؤسسات الإغاثية في السابق متوجهة لخطاب المجتمع النسائي بهذا الحجم الذي نراه اليوم، ولم يعد سراً أن مؤسسات كثيرة نجحت من خلال السماح بإقامة أنشطة نسائية فأصبحت محاضن قوية التأثير كبيرة الجهود رغم الخبرة القصيرة. ولا بد من التأكيد على وحدة الهدف والتآخي والترابط، فَيَد الله مع الجماعة، وأن تسلم من "الغيرة" و "الاستئثار" و "التنافس غير الشريف"، وهذه نقطة مهمة ينبغي مراجعتها في كل آن!!
يقترح لهذا المجال:
ـ إقامة اتحاد نسائي يجمع العاملات في الجمعيات الخيرية الطيبة في كل أنحاء المملكة، وذلك يتطلب التدرب على العمل الإداري وغيره من المهارات اللازمة لإقامة التجمعات الشعبية.
ـ التواصل مع الجمعيات النسائية الإسلامية العالمية وإقامة مؤتمرات مشتركة ولقاءات، وغير ذلك.
ـ تولي شؤون الدعوة إلى الله بين النساء بشكل عام، ربطاً بين المؤسسات؛ لتبادل الخبرات والتجارب وتلافي مواطن الضعف.
ـ حرص القائمات عليها على النفوذ وصناعة القرار في مسيرة المرأة بشكل عام، كإصدار البيانات والشفاعة.
ـ عمل خطط واضحة واقعية للطوارئ من قبل هذه المؤسسات بشأن قضية المرأة، والتفكير في منابر أخرى في حال تعرضت هذه المؤسسات للإغلاق، وهذا أمر متوقع.
ـ العناية بتأهيل الداعيات المحاضرات، واحتضان المواهب وتربيتها لمستقبل يشوبه الغموض والتوجس، خاصة في قضية المرأة، وصناعة الفتيات لغد يكن فيه منارات هدى ساطعة وجبال مقاومة راسخة!
ـ تشجيع العمل التطوعي لكثير من الفتيات والنساء – ولو عن بعد – ونشر مفهوم العمل التطوعي؛ ليكون رافداً، فليس ممكناً أن تصل هذه المؤسسات إلى كل مكان لخريجات الجامعات من المتفوقات في الدراسات الشرعية، استفادة من خبراتهن وحماسهن لمستقبل دعوي أفضل.
ـ إلقاء أضواء إعلامية عبر الصحافة اليومية على جهودها، فمن المؤسف أن هذه الأعمال الضخمة الرائعة لا تحظى بتغطية إعلامية.
ـ ضرورة ارتباط العمل الإغاثي بالدعوة؛ لتحقيق الهدف الذي من أجله أنشئت المؤسسات الخيرية.
ـ العناية بالدعوة في أوساط المرأة الريفية.
المؤتمرات والمحاضرات:
تطور الحس النسائي فأصبحت المرأة تنظم اللقاءات الدعوية، وقد فاجأ الإقبال على هذه الملتقيات الجميع، فكان عدد الحضور من النساء يفوق المتوقع..
وهذا مجال آخر مبشر بقوة الحركة الدعوية بين النساء. يقترح لتطوير هذا المجال:
ـ اشتراط القوة العلمية والخطابية والمعرفة الواقعية للداعية، وتطوير ذلك.
ـ الاهتمام بالفئات العمرية والشريحة الاجتماعية المقبلة على المحاضرة، والتي غالباً ما تكون من كبيرات السن أو ربات البيوت، ومن أهل الخير عموماً.
ـ الحرص على رسم خطوات علمية توجه النفس للتغيير، فلا يكفي الحديث العاطفي المجرد عن القضية، بل لا بد من تخطيط عملي تضيء خطواته الداعية للحاضرات.
ـ رفع مستوى العلمي للحاضرات، بالاهتمام بأمور العقدية بأدلتها، والأحكام الفقهية، وأعمال القلوب.
ـ إنشاء مؤسسة نسائية لترتيب المؤتمرات واللقاءات إذ إن من الملاحظ أن الترتيبات تستهلك جهوداً كبيرة.
ـ تنشيط إقامة هذه المؤتمرات في كل المناطق حيث تنحصر في مدينتين أو ثلاث.
ـ استضافة متحدثات من الخارج؛ تحقيقاً لعالمية الرسالة وإشعاراً للترابط القائم على العقدية بين المسلمات، وكذلك استفادة من الخبرات.
ـ تنويع الموضوعات بحيث تتفاعل مع الأحداث، والبعد عن التكرار، مع ضرورة التواصل الشرعي.
التأليف العلمي:
بالنظر إلى دخول المرأة في مجال الدراسات العليا في المجال الشرعي والدعوي أستطيع أن أقول: إن المرأة حققت تطوراً في هذا المجال، إلا أنه ما يزال حبيس الأرفف.. ورهن الدرجات العلمية.. لذا فأقترح على المعتنين بالشأن الدعوي تكوين لجنة لفرز الرسائل العلمية ومكاتبة الباحثين لنشرها والاستفادة من الباحثات في المجال نفسه، وأقترح تكوين هيئة أو مؤسسة أو تجمع للباحثات بحيث يكون رابطة لهن يستفدن، بعضهن من بعض، ويعين بعضهن بعضا على اختيار الموضوعات، وغير ذلك. وأقترح كذلك إنشاء دار نشر نسائية تهتم بالتأليف للمرأة والتنظير لها، ويمكن أن تكون نواة لمركز دراسات وبحوث نسائية.
الحِلق الخاصة واللقاءات الاجتماعية:
مع ظهور الميل إلى التجمعات الأسرية ووجود الداعيات من النساء بدأت الدعوة تنتشر في أوساط عامة النساء عن طريق توجيه محاضرات ومسابقات ثقافية لا تخلو من فائدة علمية. إضافة إلى الحلق التي تعقدها بعض المتميزات ذات الظروف الخاصة. فأقترح تكوين ملتقيات أو ما يسمى "صوالين" للتربية والتعليم لدى عدد من المتميزات علمياً وأدبياً، مع ضرورة التنوع؛ فلا يكون التركيز على الناحية الشرعية.. فقط بل يوجه إلى إعداد الشاعرة والكاتبة والأديبة.
الجاليات:
توجه عدد من الداعيات إلى الجاليات غير العربية بالدعوة، فوجهن الخطاب الدعوي بلغات مختلفة لشريحة عريضة من المجتمع، مما أثمر وعياً لدى عدد من النساء، ولكن لا يزال دون المستوى المطلوب، وحبذا لو عملت دراسة تبين أثر العناية بهذا النوع من الدعوة في هذا الوسط، سواء في أوساطهن التي تعيش بيننا أو في بلادهم بعد رجوعهم لها.
المصدر : لها أون لاين ( د. رقية بنت محمد المحارب )
=============== ...
مناهضة الفكر الاستشراقي(5/14)
مثَّل الاستشراق، ولا يزال يمثل، تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ونحن ـ كما ذكرنا في المقال السابق بعنوان "الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة" أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج، الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ونرد الصاع بالصاعين، وفي هذا أظننا بحاجة إلى أن نعمل في مسارين اثنين في آن واحد:
الأول: تنقية الذاكرة الغربية من مخلفات استشراق القرون الوسطى والتي تثبط همم الغربيين عن دراسة الإسلام ومبادئه.
والثاني: مناهضة المستشرقين أنفسهم مناهضة جادة وشاملة حتى يتهدم بنيان أفكارهم هدماً كاملاً ، بحيث لا يجد طريقاً للنهوض مرة أخرى .
ففي إطار الأمر الأول لا أظن أنه يكفي فيه مجرد الردود الكتابية، إذ إن مثل هذه الردود بذل الكثيرون فيها إلى اليوم مجهوداً مشكوراً ولكن رغم ذلك لازالت آثار الموقف المجافي للحقيقة، والذي ولدته كتابات العصور الوسطى في أوروبا، قائمة.
أما السبب في هذا الإخفاق في إزالة المفتريات الاستشراقية فأظن أنه يكمن في عزوف الإنسان الغربي عن قراءة الموضوعات الدينية وعن الاهتمام بكل ما هو ميتافيزيقي، بعد انتشار الفكر الإلحادي الذي ألقى الأديان كلها، من غير استثناء ، في سلة المهملات، فالبحوث الدينية التي ألفت في هذه الفترة، سواء أكانت تتعلق بالإسلام أم المسيحية أم غيرهما من الأديان لم تلق آذاناً صاغية في المجتمع الغربي، فلم يقرأها إلا العدد القليل؛ مما جعل الرؤى الاستشراقية عن الإسلام تظل باقية كعادتها في عقول الغالبية العظمى من الأوروبيين الذين يرثون تلك الرؤى خلفاً عن سلف.
بل الحال، كما أعتقد، يكمن- بالإضافة إلى إعداد كتب جيدة تعرض الإسلام بصورة موضوعية وتناقش المفتريات الاستشراقية بصورة علمية رصينة -في تحريك العمل الدعوى في العالم الغربي على نطاق أوسع بحيث لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا وقد طرقنا بابه ووضحنا لأصحابه حقيقة الإسلام والصورة الصحيحة التي كانت عليها حياة نبي الإسلام، وقبل هذا وذاك أن نخلق في الوعي الغربي أهمية التدين بإزالة ما به من شبهات إلحادية وتساؤلات لا دينية وذلك حتى ينصت الغربيون إلينا فيستمعوا إلى ما نود قوله بقلوب يقظة وعقول منتبهة.
أما في نطاق الأمر الثاني، وهو مناهضة المستشرقين وهدم بنيان أفكارهم، فينبغي علينا أن نضع في الاعتبار بأن أزمة الاستشراق هي أزمة المناهج، وليست أزمة التطبيق، أي أن المستشرقين بعد عصر النهضة بدؤوا يخضعون مصادر الإسلام - كما أسلفت ذكره - لقواعد المنهج الفيولوجي والتاريخي وعلوم الإنسان الاجتماع وكلها بمفاهيم غربية، مما جعل حقائق الإسلام تظهر في غير ثوبها بل تصبح مشوهة المظهر، مبتورة الأطراف.
فالخطأ إذن، يكمن في مناهج البحث أو في طريقة توظيف تلك المناهج في سبيل الوصول، إلى أهداف معينة، مما يحتم علينا إذا أردنا مناهضة الاستشراق حقاً وحقيقة أن نغربل تلك المناهج غربلة دقيقة وأن نشير إلى مكامن الخطأ فيها، وأن نبرز كيف أن تلك المناهج استغلت استغلالاً مجحفاً في سبيل الوصول إلى مآرب معينة، فعلى سبيل المثال استغل طه حسين- المنهج التاريخي والفيلولوجي في إبطال صحة الشعر الجاهلي ، بينما أثبت ناصر الدين الأسد، وباستخدام المناهج عينها صحة الشعر الجاهلي، مما يدل على أن الخطأ قد يكمن في طريقة توظيف واستغلال منهج ما وليس في المنهج عينة.
وأظن أن إبراز أخطاء المستشرقين في استخدام المناهج ثم إظهار الفكر الإسلامي وفقاً لمعايير المناهج المتقدمة ليس من الأمر المستحيل، غير أنه يبدو أننا في حين معارضة الاستشراق قد صرفنا معظم طاقاتنا في نقد التطبيقات الاستشراقية واكتفينا في حين تقديم الإسلام بالتزمت عند مناهج ينظر إليها المستشرقون نظرة الازدراء و يطلقون عليها بأنها (بالية) و(لا تاريخية)، وهناك بعض المستشرقين ممن لا يكتفون بهذا فقط بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرفضون أن تكون لدينا مناهج معاصرة أصلا، فهذا المستشرق المعاصر "فرنسيسكو غابريلي" يقول بعد أن تبجح بما لديهم من المنهجيات والأدوات: (لا ينبغي على أصدقائنا الشرقيين أن يطلبوا منا دراسة ماضيهم وحاضرهم على ضوء علم التاريخ الحديث الشرقي، أو الفلسفة الحديثة الشرقية، أو علم الجمال أو علم الاقتصاد الشرقي، لماذا ؟ لسبب بسيط هو أن ذلك غير موجود حتى الآن)!!
تطوير مناهج البحث
فنحن، إذن، بحاجة إلى تطوير المناهج الموجودة أصلاً في تراثنا الغني، وكل ما نحتاج إليه هو إعادة إبراز تلك المناهج بقوالب معاصرة، وخلع الهيبة الأكاديمية الحديثة عليها، فما يتبجح به الغربيون من المناهج ليس إلا اقتباسات مما أبدعه العلماء العرب والمسلمون من المناهج في عصور الازدهار العلمي الإسلامي، فكل ما فعلوه هو تطوير تلك المناهج وإحداث بعض تعديلات طفيفة حتى يتساوق مع النسق الغربي في التكفير والتأمل ثم تجربة تلك المناهج في مجالات أوسع كما اقتضته طبيعة العصر.
فمسألة تطوير المناهج لكي تواكب مصطلحات العصر ليس من الأمر المستحيل، وأقل ما يمكن فعله في هذا الإطار هو القيام بعملية الغربلة والانتقاء، وإعادة صياغة ما يتوافر لدى الغرب من مناهج البحث والتفكير وفقاً للتوجهات والمفاهيم الإسلامية ثم قولبة الفكر الإسلامي وفقاً لخطوات ومصطلحات تلك المناهج الحديثة، وبهذه الصورة أظننا نستطيع أن نقف في وجه المستشرقين ونبطل ما يبدونه من عنهجية ويمارسونه من تطفل وتشويش على الفكر الإسلامي النقي الذي هم بعيدون عن كل البعد، قلباً وقالباً.
إنشاء علم الاستغراب(5/15)
وأمر آخر ينبغي فعله في إطار مناهضة الاستشراق وهو إنشاء علم (الاستغراب) في جامعاتنا ومعاهدنا المتخصصة بغية استيعاب الغرب واحتواء توجهاته وميوله الفكرية وكذلك كشف البنية التحتية للعقلية الغربية حتى تكون مناهضتنا للغرب والاستشراق الغربي متسمة بالدقة والإتقان ويكون خطابنا وردودنا نابعة عن موقف المسؤولية العقلية والنضج الثقافي وعلى مستوى الوعي الغربي والعقلية الغربية، ولعل إدوارد سعيد يمثل معلماً رائعاً في هذا الطريق.. فالرجل عربي فلسطيني حاول استيعاب الغرب وتوجهاته الاستشراقية استيعاباً أقل ما يمكن وصفه بأنه يتصف بكثير من الجدية والإتقان ، ثم هو بحكم معايشته الغربيين لمدة طويلة أتقن أسلوب مخاطبة العقلية الغربية مما جعل كتابه الذي أصدره عام 1978 ميلادي (بالإنجليزية) متناولاً فيه موضوع الاستشراق يحدث دوياً كبيراً في الساحة الثقافية الغربية بصورة عامة وفي محيط الاستشراق بصورة خاصة، وأظن أننا لو سرنا على خطى إدوارد سعيد وأسسنا دوائر متخصصة لإنجاز مثل هذه الأعمال فإننا سنحقق الكثير في سبيل الرد على التحدي الاستشراقي بجدارة وإتقان.
ــــــــــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله: "محمد شمس الحق"
================
الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة
مما لا شك فيه أن الاستشراق منذ نشأته في أوروبا القرون الوسطى، قد عمل جاهداً على مقاومة الدعوة الإسلامية وهدم قيم الإسلام وأسسه الفكرية وذلك عن طريق تشويه صورة الإسلام بمفتريات وأكاذيب تمجها الآذان وتتقزز منها المشاعر، وكانت معظم هذه المفتريات ينصب بالدرجة الأولى على شخصية نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بسبب يقين المستشرقين بأنه صلى الله عليه وسلم يمثل الأساس في الرسالة الإسلامية، إذ إنه هو الذي بلغ الإسلام عن الله، وامتثله في نفسه وكوَّن أمة عظيمة على عاتقه.فإذا استطاعوا إلقاء أغشية على شخصيته فإن ذلك سيكفل لهم عدم انتشار رسالته ثم إدخال كثير من الريب والشكوك في قلوب الذين اتبعوه وآمنوه به.
ومن ثمَّ قالوا عن نبي الإسلام الطاهر، الصادق الأمين، بأنه كان رديء الولادة والسمعة وأنه عاش بربرياً بين برابرة، وثنياً بين وثنيين، وأنه تعلم ما نشره من الدين من راهب فر إلى الجزيرة العربية واسمه "سيرجونز" الذي اعتقد محمد أنه الملك ((جبريل))، وأنه كان ذا شهوات جامحة، متعجرفاً في الحياة وأنه قبل الوفاة حاول أن يعمِّد نفسه ولكن الشياطين منعته من ذلك!! وعندما مات أكلته الخنازير التي تعتبر من الحيوانات القذرة.
بالإضافة إلى هذه الادعاءات الكاذبة التي افتراها مستشرقو القرون الوسطى على أعظم شخصية في التاريخ وأكثرها عفة وطهراً، اخترع المستشرقون مفتريات أخرى حاولوا أن يصِمُوا بها أقدس جماعة بشرية في التاريخ كله، الصحابة الكرام وكذلك المسلمين بصورة عامة، فقد قالوا عن الصحابة بأنهم: (زمرة من منتهكي الحرمات المقدسة، وقطاع الطرق والسالبين، والقتلة واللصوص)، وقالوا عن المسلمين بصورة عامة بأن سبب إسلامهم:
1- إما أنهم خدعوا بالشيطان بسبب سذاجتهم .
2- أو حذوا حذو أقربائهم ولو قاد ذلك إلى الخطأ.
3- أو للحصول على المنافع المادية.
وقالوا عن المسلمين أيضا بأنهم يعبدون محمداً في المساجد، وأنهم شعوب ينتمون أساساً إلى السيف.
أما عن الإسلام فقد قالوا عنه بأنه (مجموعة من العقائد المسيحية واليهودية والوثنية)، وأن العنف من مكوناته، وأنه لا يقبل الخلاف العقلاني، وأنه رمز للتعصب واللاإنسانية وأنه منبع المبالغات والانحرافات في أنظمة الفكر.
وقالوا عن القرآن الكريم بأنه غير منطقي وغير معزز بالمعجزات.
هذه بعض النماذج من الإفك الأثيم الذي أنتجه الفكر الاستشراقي وروجه في عرض العالم الغربي وطوله منذ العصور الوسطى. وإذا كان هذا الإفك الاستشراقي لم ينجح في طمس معالم الإسلام وزعزعة أركانه إلا أنه نجح إلى حد كبير في وقف أو على الأقل إبطاء انتشاره في العالم الغربي المسيحي على وجه الخصوص، إذ إن الإنسان الغربي كلما كانت تطرق إذنه لفظة الإٍسلام أو ما أسموه بـ (المحمدية) فإن تلك الصور البشعة والمرعبة كانت تتمثل أمام ناظريه، فيفر من الإسلام فرار الظبي من الأسد، ولا شك أن كثيراً من هذه الصور لا تزال عالقة في العقل الأوروبي إلى اليوم مما يجعله ينظر إلى الإسلام بكثير من الشك والريب والتوجس.
انعطافة في الفكر الاستشراقي
وإذا كان استشراق القرون الوسطى قد مارس هذا النوع المخزي من الهجوم ضد الإسلام بهدف حماية المسيحيين من التأثير الإسلامي - بسبب ما كان يجسده في تلك الفترة من قوة تبشيرية عارمة - ثم محاولة جعل المسلمين يعتنقون الإسلام فإن الاستشراق في نهاية القرون الوسطى قد أخذ ينحو منحى أخر. فقد أصبح الأوروبيون أكثر تقدماً في مجال الفلسفة والطب والعلوم الأخرى بعد أن كان المسلمون أساتذتهم فيها، وبدا لهم أن تحويل المسلمين عن دينهم لكي يعتنقوا المسيحية بهذا الأسلوب العنيف شيء مستحيل.(5/16)
من هنا أصبحت تلك الخطابات الاستشراقية العنيفة في طور الانحدار والأفول، لتتخذ مكانها ممارسات استشراقية أقل عنفاً وأكثر ذكاء، ولعل عصر النهضة قد قدم للاستشراق آليات جديدة لممارسة المماحكات الهجومية المخفية والمختبئة خلف الجهاز الأكاديمي الثقيل، فقد قدم عصر النهضة التقنيات الفيلولوجية التي تم بلورتها من أجل دراسة النصوص اللاتينية والإغريقية والعبرية، كما قدم أنواعاً أخرى من المناهج في مجال البحث والدراسة والتي من أهمها منهج البحث التاريخي الذي تبلورت صورته الغربية على حساب خروج الغرب كلياً من الدوغماتية الدينية (ولم يخرج منها فقط بعض الأفراد أو بعض التيارات وإنما مجمل الأوساط العلمية بمن فيهم أعضاؤها المؤمنون أنفسهم) لقد انخرطوا جميعاً على طريق البحث الذي يحيد تدخل الله في التاريخ ومسيرة المجتمعات وآليات مسيرتها، فأصبحوا يدرسون النصوص والقصص المقدسة عن طريق استبعاد أية سببية غير السببية المرتكزة على القوانين المشتركة لحركية المجتمعات البشرية أي أن دراسة الدين أصحبت تتم بعيداً عن فكرة الوحي، بل باعتبار أنه ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تولدت بسبب عوامل اجتماعية وتاريخية.
الاستشراق الحاضر
وإذا غضضنا الطرف عن الصورة الاستشراقية الماضية ونظرنا إلى أيامنا الحاضرة فإننا نرى فيها منحى استشراقياً آخر للنيل من الإسلام وهدم أسسه، فكما هو معروف أن الاهتمام بالإسلام قد زاد في الغرب بصورة منقطعة النظير بعد الثورة الإيرانية عام 1979 ميلادي، فقد تكاثرت المقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وحملت معظمها في طياتها الغش والخداع والأخطاء مما جعل المعلومات الخاطئة تنشر في كل مكان وكما يقول مكسم رودنسون فإن (مجمل صورة عالم الإسلام قد شوهت من خلال منظور مشوه إلى حد كبير) والسبب في ذلك ، على حد اعتقاد "مكسيم رودنسون"، هو التقدم الهائل في مجال وسائل الإعلام الجماهيري الذي استثار شهية الكثيرين، لكي يكتبوا عن الإسلام والعالم الإسلامي على الرغم من أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء اكتساب الكفاءة العلمية التي تتطلب وقتاً طويلاً وتحضيراً حقيقياً، وقد أطلق عليهم "رودنسون" بأنهم طفيليون (الذين يتطفلون على العلم تطفلاً ويحدثونك موضوع الإٍسلام والعرب إلخ ... وكأنهم عارفون).
وخلاصة القول أن الاستشراق سواء بصورته القديمة أو الذي ظهر بعد عصر النهضة أو ذلك الذي نعايشه اليوم عمل على تشويه الإسلام وهدم مرتكزات المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية بصورة لا هوادة فيها، وقد اشترك في هذا العمل جيش عرمرم من المستشرقين الذين لا يسعني أن استثني منهم إلا عدداً ضئيلاً، وحتى أولئك الذين أعدوا المعجم المفهرس لألفاظ الحديث وألفاظ القرآن وأولئك الذين فهرسوا المخطوطات العربية وحققوا كثيراً منها وأظهروها إلى النور نكون مخطئين إذا اعتبرناهم ممن خدموا العلم وأنهم أرادوا خدمة الإسلام والمسلمين بنية خالصة، لا والله لم يكونوا ممن يحملون مثل هذه الروح الخيرة التي يطيب لكثير منا أن يتصورها فيهم، بل إنهم عكس ذلك كانوا يريدون من خلال ما قاموا به من أعمال الفهرسة وطباعة المخطوطات وغيرها هو تسهيل عملية تداول الكتب الشرقية وتيسير الاطلاع على محتوياتها حتى يتمكن الرجل الغربي أن يستوعب الشرق وينفذ إلى أعماقه بسهولة ويسر. هذا ما نتأكد منه من خلال ما قال "جون مول" عام 1841 ميلادي بأنه (مهما كررنا وأعدنا فإننا لا نكرر بما فيه الكفاية أن طبع المخطوطات الشرقية الأهم هو الحاجة الأكبر والأكثر ضغطاً وإلحاحاً بالنسبة لدراساتنا، وبعد أن يكون العمل النقدي للعلماء قد مر على الأدبيات الشرقية، وبعد أن تكون الطباعة قد سهلت عملية تداول الكتب بعد ذلك فقط يمكن للعقل الأوروبي أن ينفذ فعلاً إلى أعماق الشرق) وكذلك من خلال ما قاله المستشرق المعاصر "مكسيم رودنسون" عن الفهارس البيلوغرافية والجداول الإحصائية، والقواميس وكتب النحو وغيرها، والتي تعب المستشرقون الأوائل في إعدادها، يقول عنها: (إنه لتدريب طويل وصعب ويستحق الإعجاب على كل حال، فنحن الذين نصرف كل هذا الوقت والعناء لجمع المعلومات التفصيلية المتراكمة منذ مائة وخمسين عاماً، في كتب متوافرة على طاولتنا، لا يمكننا إلا أن نشعر بالإعجاب والإكبار أمام "سيلفستر دوساسي" الذي كان مضطراً للبحث عنها في مخطوطات المكتبة الوطنية التي علاها الغبار، فهذه الكتب من تلك المخطوطات ولولا جهود المستشرقين الأوائل لما توافرت لدينا جاهزة).
فالمجهود الاستشراقي المختص بالعالم الإسلامي، إذن ، في مجملة إلا ما شذ وندر، صرف ولا يزال يصرف، في سبيل مقاومة الدعوة الإسلامية وتحييد العالم الإسلامي من مواكبة تطورات العصر وبنائه.
وليس من شك في أن الاستشراق قد نجح في تحقيق بعض مستهدفاته على أصعدة مختلفة، فقد تمكن من جهة من إيقاف المد الإسلامي إلى الدول الغربية وذلك عن طريق ترويج تلك الصورة الشائبة عن الإسلام والتي اقتنع بها الإنسان الغربي مع مرور الأيام فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الإرث الفكري الذي ينقله كل جيل إلى الذي يليه دونما وعي مما نجم عنه أن الإٍسلام أصبح أكثر الأديان كرهاً في المحيط الغربي، ومن جهة أخرى تمكن الاستشراق من زعزعة ثقة كثير من المسلمين بموثوقية مصادر دينهم وبإخلاص نبيهم، وذلك عن طريق إثارة الشبهات والشكوك ومحاولة فهم النصوص المقدسة بوضعها في بعد بشري معزول عن أية علاقة بالوحي.(5/17)
فالاستشراق، إذن ، قد مثل ولا يزال يمثل، تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ونحن أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج، الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ونرد الصاع بالصاعين.. وهو ما تجده في المقال التالي بعنوان (مناهضة الفكر الاستشراقي).
ــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله: "محمد شمس الحق"
===============
المال.. دور حيوي وأثر فعال في إحياء الدعوات
جاء في جريدة الشرق الأوسط عدد الاثنين 20 ربيع الآخر 1420 هـ 2 أغسطس 1999 م الصفحة الأولى في عنوان بالخط العريض أن "بيل غيتس" (إمبراطور الكمبيوتر) يعتزم التبرع بـ 100 مليار (مائة ألف مليون) دولار للأعمال الخيرية.
والسبب كما جاء في طيّات الخبر (أنه أصيب بصدمة قاسية من جراء المناظر المروعة التي شاهدها أثناء زيارة للهند وجنوب أفريقيا؛ فقرر أن يبذل الجهود للمساعدة في تخليص العالم من الأمراض الخطيرة والقاتلة مثل الإيدز والملاريا من خلال المؤسسة الخيرية التي يرعاها والتي تحمل اسمه، بحيث يحتل المرتبة الأولى في قائمة المانحين من الأفراد في العالم). انتهى الخبر.
إنما جئت بهذا الخبر وصدرت به كلامي لأشعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان، ولا أقول في قلوب أهل الثروات والمال، والعظة واضحة جلية: ثروة تعادل احتياطي العملة الأجنبية الموجود في كل بنوك بلدة عربية أو يزيد، يتبرع بها صاحبها - الكافر - لمؤسسة خيرية باسمه، شفقة على مرضى الإيدز والملاريا، فكيف بنا ونحن مسلمون، والبذل في سبيل الدين واسع، ولو كان بالقليل من المال.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خرج من ماله كله، والعظة فيه أقوم، ولكن الناس إذا سمعوا من يستخدم فئة المليار في التبرعات تعجبوا، وإذا كان كافرا زاد العجب، وإلا فإن خروج أبي بكر من ماله كله أوقع أثرا في القلب، وقد قال في ذلك الموقف لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟) قال: تركت لهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولعمري فإن هذا هو المال المبارك: ما أنفقه صاحبه في سبيل الله، ولو كان به خصاصة، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا ولا رياء ولا سمعه ولا أن يكون هو صاحب المرتبة الأولى بين المانحين ولا أن تكون مؤسسته على رأس قائمة مؤسسات العالم الخيرية.. ولا .. ولا..، ولكن كما قال الله تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}، ثم لا يتبع ما أنفق منا ولا أذى، أولئك {لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
إن استثمار المال في كل مجال دنيوي محفوف بمخاطر الإفلاس والسرقة وإتلاف الجوائح واختلاس الخونة وكساد السلع وإعراض المشتري ومنافسة السوق، أما التجارة واستثمار المال في الدعوة إلى الله ونصرة الدين فمن أضمن الاستثمارات، فأصحاب هذا المال {يرجون تجارة لن تبور} وأصحاب هذا الاستثمار هم الآمنون يوم الخوف الأكبر، ولنتعظ ببذل أبي بكر الصديق للدين، ولنعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر) قال أبو هريرة: فبكى أبو بكر، وقال: وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك، وهل نفعني الله إلا بك. رواه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم.
والبذل الذاتي للدين سيظل هو المورد الأساسي الذي تنفق منه الدعوة، وقد تبتكر الدعوة أساليب (سنتحدث عنها) في تحصيل المال الكافي للإنفاق على أوجه النشاط الدعوي المختلفة، وقد يكون لها أملاك خاصة تدر عليها أرباحا، ولكن العطاء الذي يمنحه الأفراد لدينهم يبقى هو الأصل والباقي كله فرع.
فالدعوة تحتاج أفرادًا كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم من أثرياء الصحابة ممن أوقفوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فلم يقدموا على البذل للدين زوجا ولا ولدا؛ وذلك لأن الأصل أن المسلمين ما وجدوا إلى ليكون الإسلام مصدر عزهم في هذه الدنيا، فهم يبذلون في سبيل رفعته ونصرته، ويعلمون أن أي مال ينفق في سبيل الدين فهو في سبيل إعزازهم هم. ومن هنا كثرت النصوص الآمرة بالإنفاق، الداعية إلى البذل، لأن الإنفاق في حد ذاته عبادة مقصودة لكل مسلم، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}.
ونحن لن نعول كثيرا على إنفاق الحكومات، وإن كان مهما في ذات الأمر، وذلك لما يصحبه من مداخلات ومعوقات تقلل من فائدته، وتحول بينه وبين الانتفاع المثمر.
أسس لتوفير المال
ومن أهم الأسس التي يجب أن تعول عليها الدعوة الإسلامية في توفير النفقة اللازمة للمشروعات الدعوية أساس المبادأة في تحصيل النفقة والتبرع، لا الانتظار لما يفيض به المحسنون على الدعوة من فضول أموالهم؛ فيجب أن يلتزم كل الدعاة والمنتمون للصحوة بمبلغ مالي معتبر يقدمونه للدعوة كمورد ثابت، كل حسب استطاعته، كما يجب أن يسعى الدعاة لدى المحسنين من ذوي الكرم والمروءات والنجدة والديانة ليمدوا مشروعات الدعوة بما تحتاجه، ومن الأفضل أن تكون مشروعات الدعوة مدروسة ومنظمة ومعروضة على شكل بيان مكتوب، يمكن تقديمه للمحسنين ليقتنعوا بوجود مشروعات حقيقية تقوم بها الدعوة، والسيئ أن بعض الساعين في الأعمال الخيرية ضربوا مُثُلا غير لائقة في جمع التبرعات حتى احتاط أهل الإحسان في أموالهم فلم يعد البذل كما كان في الماضي لتغير الزمان وكثرة المتسلقين واللصوص الذين اقتحموا الميدان، فإلى الله المشتكى.
إدارة وكفاءة(5/18)
كما يجب أن تقوم الدعوة بدور فاعل في جمع زكاة المال من المسلمين، إذا تيسر دون مشكلات أو مضايقات، وكذلك حث الناس على أبواب الخير الأخرى، كالصدقات المطلقة والصدقة الجارية والوصية قبل الموت والوقف على أعمال البر وكفارات الأيمان والنذور، ورعاية طلبة العلم وبناء المساجد وحفر الآبار ونحو ذلك من أوجه الإنفاق وأضعاف ذلك ولا ريب.
وإذا تصدرت الدعوة لمثل هذا النشاط فلا بد أن يكون لديها جهاز إداري ذو كفاءة وقدرة على عملية جمع النفقة وإدارتها وكيفية إنفاقها أو استثمارها على حسب الضوابط الشرعية التي أقرتها الشريعة؟؟؟
كما أنه من الأهمية بمكان أن يكون لهذا الجهاز الإداري لجنة شرعية تراقب تعاملاته، أو أن يستعين ذاك الجهاز بالعلماء ويستفتونهم في المسائل المتعلقة بعملهم.
إن المال المبارك الذي ينفقه أي مسلم على الدعوة جزء من الجهاد في سبيل الله، بل ركن عظيم منه، وجُلُّ الآيات التي تحدثت عن الجهاد في سبيل الله قرنت الإنفاق بالقتال... وليست العبرة بالكثرة، بل العبرة بفعل النفقة نفسها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم: رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها). رواه النسائي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
ويغيب عن كثير من الدعاة والغيورين على الصحوة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). فما داوم الناس في إنفاقه على الدعوة - وإن قل - أكثر بركة وأعظم نفعا من الكثير المنقطع، فالله عز وجل إذا أحب عملا من ابن آدم باركه له وأعانه عليه كما قال تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} وكما قال سبحانه: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال لي: أَنْفق أُنْفق عليك) رواه مسلم في الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عز أو ما تواضع أحد لله إلا رفعه) رواه مسلم أيضا.
إياك والإحباط
وهذه القلة في المال والإمكانيات ما ينبغي أن تفت من عضد الدعاة وتقنطهم من نصرة الله ومعونته، فالعقيدة الصامدة الشامخة مع بذل المستطاع يستجلب معونة الله على حسب موعوده سبحانه في قوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} وقال عز وجل: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء).
ويمكننا أن نمثل بكرامات معاصرة لإمكانيات قليلة تيسرت للدعاة واستطاعوا بها أن يفتحوا أبواب بلاد وقلوب عباد، ولكننا نمثل بنموذج واضح بين، وهو نموذج الصحوة الإسلامية في العالم كله، حيث تقل الإمكانيات الدعوية أو تنعدم، بل وتحارب من كل قوى الاستكبار العالمي، ويطارد الدعاة ويشردون، وتحمل عليهم وسائل الإعلام بحملات تشويه مسعورة، إضافة إلى ما يعانيه صف الدعاة من فرقة وتشرذم أيضا، ولكنهم يخرجون بعافية أكثر من ذي قبل ونصر أعلى من السابق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما أخال ذلك إلا من بقية إخلاص وقليل من البذل المبارك وعدد من الدعوات الصادقة الخالصة، فكيف بنا نحن معاشر الدعاة لو تمحض صدقنا وإخلاصنا ولو تكاتفت سواعدنا في التعاون والنفقة والبذل لدين الله تبارك وتعالى.
المجهود الفردي
وعلى صعيد المجهود الفردي، فالمال وسيلة مهمة لكل نشاط، ويستطيع كل داعية إلى الله بل كل غيور أن يكون صندوقا للدعوة في كل منطقة ينادي الغيورين على الدين للبذل ولو بالقليل، وقد أخبرني بعض الدعاة أنه يلزم إخوانه ببذل قروش (بمعنى القروش الحقيقي) كل يوم، فتعاظم عنده من المال ما قام به بمشروعات كثيرة.
وإذا تعسر مثل هذا النظام فليجعلها كل داعية في خاصة نفسه، يُسِرُّ إلى إخوانه بمشروعات الدعوة - ولو كانت صغيرة كعيادة مرضى أو تأليف قلب عاص بهدية ونحو ذلك - ويجمع منهم ما يستطيع به تنفيذ ذلك المشروع.
وما أخال الأمر عسيرا على أحد: أن يدخر الداعية من حر ماله هو ما ينفق به على الدعوة، ولا خير في داعية لا يحتوش من طعامه وشرابه ولباسه في سبيل دينه وأمته.
================
صراع الهويات.. وخصائص الهوية الإسلامية
قضية الهوية قضية محورية، أزعجت كل الناس، إذ إن كل جماعة أو أمة تعوزها الهوية المتميزة ليمكنها المعيشة والمحافظة على وجودها؛ فالهوية هي التي تحفظ سياج الشخصية، وبدونها يتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل تابع مقلد؛ لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، وبالتالي تحديد سمات شخصيته فتجعله إنسانًا ذا قيمة ولحياته معنى وغاية.
والهوية معناها: تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة.. أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره.
وكما أن للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية.. فهناك مجتمع إسلامي، ومجتمع علماني، وهناك النصراني، وأيضا الشيوعي والرأسمالي.. ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادؤها.(5/19)
فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب. ومن هنا يمكنك فهم معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا؛ فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ"[مسلم].
هذه الهوية هي التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها، والانتماء لها، والانتصار لها، والموالاة والمعاداة على أساسها، فبها تتحدد شخصية المنتمى وسلوكه، وعلى أساسها يفاضل بين البدائل.
وبالنسبة للمجتمع تعتبر الحصن الذي يتحصن به أبناؤه، والنسيج الضام، والمادة اللاصقة بين لبناته، فإذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته المنتاقضات.
ولا شك أن مقومات الهوية هي العناصر التي تجتمع عليها الأمة بمختلف أقطارها من وحدة عقيدة، ووحدة تاريخ، ووحدة اللغة، والموقع الجغرافي المتميز المتماسك، وأعظمها لا شك هي العقيدة والتي يمكن أن يذوب فيها بقية العناصر.
والهوية الإسلامية في الحقيقة هي الانتماء إلى الله ورسوله وإلى دين الإسلام وعقيدة التوحيد التي أكمل الله لنا بها الدين وأتم علينا بها النعمة، وجعلنا بها الأمة الوسط وخير أمة أخرجت للناس، وصبغنا بفضلها بخير صبغة (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[البقرة:138]
خصائص الهوية الإسلامية:
1 ـ أنها هوية العقيدة: فينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته؛ فلأهل الإسلام مميزاتهم الخاصة بهم، والتي تجعلهم كلهم تحت مسمى واحد ومعتقد واحد هو سماكم المسلمين من قبل. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92].
أنها لازمة لكل مسلم: لا يجوز لمسلم الخروج عنها، فهي فرض لازم (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الأعراف:158]. " وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ يَهُودِيّ وَلاَ نَصْرَانِيّ، ثُمّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ".
أنها متميزة عمَّا عداها: وهذا التميز هو الذي يعطي كل قوم مقومات بقائهم، ويحفظ عليهم ثقافتهم وإيدلوجيتهم، فلا يذوبون في غيرهم ولذا شمل هذا التميز كل جوانب الحياة بداية من العقيدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون:6]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة:6، 7]. ونهاية بالشكل الظاهر في الملبس والهيئة " إياكم وزي الأعاجم"، ومرورا بكل أمور الحياة العملية "ليس منا من عمل بسنة غيرنا".[الطبراني في الجامع الصغير]. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس:41].
أنها تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته: فهي تامة الموضوع محددة المعالم تحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162، 163].
هي مصدر العزة والكرامة: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء:10]، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)[المنافقون:8]، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)[فاطر:10]، (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)[النساء:139]. وقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
تربط بين أبنائها برباط وثيق: فتجعل الولاء بين أتباعها والمحبة بين أصحابها وتربط بينهم برباط الأخوة والمحبة والنصرة والموالاة، فهم جسد واحد (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)[آل عمران:103]، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[الحجرات:11]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. "المسلم أخو المسلم".
صراع الهويات
لقد أدركت كل الأمم أن قضية الهوية قضية محورية، وأن من لم ينتبه إليها سيذوب حتمًا في ثقافة غيره، وستتلاشى مميزاته الخاصة ليكون ذيلاً أو ذنبًا.. وأعداء الأمة لم ولن يتركوها على هويتها الإسلامية وعقيدتها التوحيدية وثقافتها الإيمانية،بل يكيدون الليل والنهار، ليزحزحونا عنها ويطمسوها عنا قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة:217] (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة:120] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)[النساء:89] (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)[البقرة:109](5/20)
والذي ينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام أن الآخرون يحرصون على هوياتهم مع اجتهادهم في تذويب هوية المسلمين وطمس معالمها والنأي بهم بعيدا عن دينهم حتى لا يعود الإسلام إلى الساحة مرة أخرى وهذا واضح من خلال تصريحاته القوم وكلامهم:
في آخر عام 1967وفي محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية صرح أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل حينها: " يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة ، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل ، ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي".
وفي صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 18\3\78 : " إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب ، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدا عن المعركة إلى الأبد ،ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واجدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش فإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا" اهـ.
وفي كتابه انتهز الفرصة" يقول الرئيس الأمريكي نيكسون : إننا لا نخشى الضربة النووية ولكن نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب". وقال أيضا : " إن العالم الإسلامي يشكل واحدا من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".
وقال إيوجين روستو مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون لشئون الشرق الأوسط: "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي ، فلسفته ، وعقيدته ونظامه ،وذلك يجعلها تقف معادية للعلام الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي.
وقد صرح مسؤول في الخارجية الفرنسية من فترة بـ: "أن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا هو الخطر الإسلامي... ".
اهتمام كل أمة بهويتها
الأمم التي تريد أن تبقى هي التي تحافظ على هويتها، ولذلك لا عجب أن تحاول كل دولة أو أمة أن تصون لأتباعها هويتهم وتحميهم عن غزو الثقافات الأخرى لثقافتهم.. فعندما رأى الفرنسيون أن اتفاقية الجات تؤدي إلى دخول المواد الثقافية الأمريكية بمعدلات كبيرة لفرنسا مما يشكل تهديدا صارخا لهويتهم القومية ، رفضوا التوقيع على الجزء الثقافي من الاتفاقية وطالبوا بتخفيض تلك المعدلات.
وأما الدولة اللقيطة فحدث ولا حرج عن تمسكها بهويتها، فهي لم تقم إلا على أساس الدين اليهودي، وتحمل اسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"، وليس لها دستور لأن دستورها التوراة ، ويتشبث اليهود بتعاليمها في السياسة والاجتماع وحياة الأفراد أو هكذا يظهرون، وقد أحيوا اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة لتكون لغتهم الخاصة ولغة العلم عندهم .
يقول "أدولف كريمر" اليهودي: " جنسيتنا هي دين آبائنا ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى"
وعندما قال رئيس وزراء إحدى الدول العربية في ندوة في جامعة تل أبيب: "إننا في (بلدنا) نفرق بين الدين والقومية ، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية " رد عليه ديفيد فيثال قائلا : "إنكم أحرار في أن تفصلوا بين الدين والدولة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط".
وأعجب من هذا أن يقوم الهندوس في بلاد الهند بمنع بيع الزهور في يوم عيد الحب " فالنتاين" وحرق المحلات التي تبيعه لأن ذلك ليس من الهندوسية ويحارب الثقافة الهندية.
وهذا كله إن دل فإنما يدل على مدى محافظة كل أمة على هوية أبنائها وحمايتهم من السقوط في هوة الانبهار بثقافات الآخرين .. فمتى نهتم نحن لهذا ونحوط أبناء أمتنا ونحميهم من الوقوع في هذه الحمأة..؟!
==============
القدوة الحسنة
إن صلاح المؤمن هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان ، وخلقه الفاضل هو السحر الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب ، أتظن جمال الباطن أضعف أثرًا من وسامة الملامح ؟!! كلا .. إن طبيعة البشر محبة الحسن والالتفات إليه ، وأصحاب القلوب الكبيرة لهم من شرف السيرة وجلال الشمائل ما يبعث الإعجاب بهم والركون إليهم ، ومن ثم فإن الداعية الموفق الناجح هو الذي يهدي إلى الحق بعمله ، وإن لم ينطق بكلمة ؛ لأنه مثلٌ حيٌ متحرك للمبادئ التي يعتنقها ، وقد شكا الناس في القديم والحديث من دعاة يحسنون القول ويسيئون الفعل !!
والواقع أن شكوى الناس من هؤلاء يجب أن تسبقها شكوى الأديان والمذاهب منهم؛ لأن تناقض فعلهم وقولهم أخطر شغب يمس قضايا الإيمان ويصيبها في الصميم ، ولا يكفي - لكي يكون المرء قدوة - أن يتظاهر بالصالحات أو يتجمل للأعين الباحثة ، فإن التزوير لا يصلح في ذلك الميدان ، ولابد أن ينكشف المخبوء على طول المعاملة وامتداد الزمن وتمحيص الأحداث ، وسرعان ما يبدو معدن النفس على الحقيقة العارية ، ذلك أن النفس المتحركة من هذا الروح فهي كالآلة الدائرة مما يعمر خزانها ، أما النفس المحرومة من هذا الروح فهي كالآلة التي تدفع باليد حينًا لا يلبث أن يغلبها العطل والعطب فتتوقف وتسكن ، والمصيبة الطامة أن بعض المنافقين يحسبون أن تمثيل دور الإيمان لا يحتاج إلا إلى شيء من التكلف والمصانعة ، كما أن بعض المتهاونين يحسبون أن لباس التقوى يمكن نسجه بشيء من إدمان الرسوم وإتقان الهمهمة ، وهذا ضلال بعيد ، فالأمر أخطر مما يظنون .(5/21)
إن التدين الحقيقي صورة لجوهر النفس بعد ما استكانت لله ونزلت على أمره واصطبغت بالفضائل التي شرعها ، وترفعت عن الرذائل التي حرمها واستقامت على ذلك استقامة تامة .
هذا التدين وحده هو الذي تلتمس منه الأسوة ويقتبس منه الهدى ، ويؤسفني أن أقول : أن هذا الضرب من التدين العالي نادر الآن ، وأن أشعة الكمال المنبعثة من وهجه لا تكاد تُرى ، بل عن نفر من الناس الذين لا دين لهم أقرب إلى المسلك الصحيح وأجدر بالقوامة على شتى الوظائف من الذين انتسبوا إلى الدين ، وحملوا عنوانه دون اصطباغ به وتشرب لروحه !!
وعندما يُنكب الدين بأقوام كثيرين على هذا الغرار فالمجال واسع لشيوع الإلحاد وانتشار المعصية والعدوان .
قال لي صديق : إن فلانًا " الأوروبي " إذا وكلت إليه مهمة خرجت من بين يديه متقنة الأداء ، ظاهرة الجودة ، أما فلان الذي يُكثر الصلاة فقلما يريحني في إحسان واجب " .
لقد جزعت لهذه المقابلة بين الشخصين ، ولم يسؤني منها أنها باطل - إذ هي حق - ، وإنما ساءني منها أن ذلك " التدين " الكسول دعاية شنيعة ضد الصلاة ، إنها القدوة الرديئة تعمل عملها ضد المثل الرفيعة والمبادئ الفاضلة ، وقد لاحظت أن الأجنبي - في أغلب الأحيان - يرى خدشًا لكرامته وطعنًا في كيانه أن يصدر العمل عنه ناقصًا، فهو يجوده احترامًا لنفسه ، وصيانة لشخصه ، على حين تجد مواطنًا ينتمي إلى الدين - كما يزعم - ثم هو يقوم بالعمل على أسوأ الوجوه ويبسط لسانه بالجدل الطويل في تسويغه وإقناع الآخرين بقبوله !
ولعلنا لم ننس قصة المهندس الذي أشرف على بناء جسر السلطان أبي العلاء - وكان أجنبيًا - فإنه لما رأى عمله لم يصل إلى درجة الكمال التي ينشدها رمى بنفسه من فوق الجسر العالي فهوى بين أمواج النيل ، وكاد اليم يبتلعه لولا إسعاف المنقذين .
لقد أحس غضاضة من أن يعيش بعدما فشل في إحسان العمل الذي كلف به ، إنما أثبت هذه القصة لأني أعرف أناسًا مثله ، وقعوا في شر من تفريطه ، وخرج العمل من بين أيديهم مبتورًا مشوهًا ، فلما عوتبوا شرع كل منهم يتنصل ويعتذر أو يهز كتفيه ملقيًا العتبة على غيره .
ولعله بعد ذلك جلس إلى مكتبه يجرع القهوة في كبرياء !! أيصلح هؤلاء أمثلة للإسلام ؟! قل لي بالله : كيف يهوى سلوك الفرد منا إلى هذا الحد ثم ينتظر أن يُحترم الإسلام ويُقَبلُ عليه !!
إن الدعوة إلى الإسلام تكون أولاً بعرض ثماره في الأخلاق والأحوال ، أعني ثماره في أتباعه المؤمنين ، ويومئذٍ ترجى الإجابة ويرتقب الاهتداء .
ولنعد إلى أسباب انتشار الإسلام أيام السلف الصالح ، إن خلق الدولة ، وصلاح أنظمتها ، وكفالتها أكبر حظ من العدالة والسعادة للأفراد ، كان الباعث الأعظم على دخول الناس في دين الله أفواجًا ، وقبولهم عن طيب خاطر ، الانضواء تحت راية الإسلام ، بل غبطتهم ؛ لأن دائرة هذا الدين بلغت في الرحابة حدًا جعلتهم يأوون إليها وهم وافرون أعزاء ، حتى أيام اضطراب أجهزة الحكم في الدولة الإسلامية وقصورها عن التحليق مع المثل الرفيعة التي نشدها الإسلام في اختيار الحكام .
إن هذا القصور لم يقدح في مدى الخير الذي يحرزه الناس - على اختلاف اللون والمذهب - تحت علم الدولة الجديدة ! ذلك أنه أعلى درجة ألف مرة من الخير الذي رأوه في ظل أكاسرة فارس وقياصرة الروم .
وحين تتابع أوصاف المسلمين الفاتحين - كما شرحها بعض المنصفين من المستشرقين - نجد أن الجماهير رمقت حملة العقيدة الظافرة بشيء من الدهشة ، ورأت فيهم نماذج خلابة للفضل والعدل ، فلم يمكثوا غير قليل حتى زاحموهم عليها !
أجل .. زاحموهم عليها ، ونافسوهم فيها ، واعتنقوها ليعملوا بها مثل أو أجل من أصحابها الذين نقلوها مصداق قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ((رُبَّ مبلغ أوعى من سامعٍ )) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه )) .
الإعجاب بالإسلام في أحوال الفرد ، والإعجاب بالإسلام في أحوال الدولة هو وحده السبب الفعال في تزاحم الخاصة والعامة على هذا الإسلام وارتضائهم له .
والإعجاب لا ينبت في النفس خبط عشواء ، أتظن العقول النضرة تعجب بالعقول الخرفة ؟ ، أتظن الأخلاق الرضية تعجب بالأخلاق الرديئة ؟ أتظن المتقدم في افكاره ومشاعره يعجب بالمتخلف في هذه وتلك .. كلا .. كلا .
إن المسلمين استحقوا أن يتأسى الناس بهم ، وان ينسجوا على منوالهم ، وأن يقلدوهم في أقوالهم وأعمالهم ، وأن يهجروا لغاتهم الأصلية إلى اللغة العربية الوافدة ؛ لأن المسلمين كانوا يمثلون في العالم نهضة مجددة راشدة مسعدة ، والمعجب بك قد يذوب فيك ، وذلكم هو ما حدث في ( المستعمرات ) التابعة من قرون للشرق والغرب ، أعني لـ " فارس " و " الروم " ، يوم زحفت عليها جيوش الإسلام ، وانساب في جنباتها .
إن من الغباء البالغ أن تنتظر أحدًا يؤمن بك عقب انتصار في معركة جدل ، أو انتصار في ميدان حرب
إن المقهور في أحد الميدانين قد يستسلم راضيًا أو ساخطًا ، بيد أنه لن يتبعك عن إخلاص ، ولن يشاكك الشعور والفكر أبدًا ، ومن ثم نرى لزامًا علينا التوكيد بأن القدوة وحدها ، وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب هما السبيل الممهدة لنشر الدعوة في أوسع نطاق .
================
اكتساب مهارات الدعوة(5/22)
إن الدعوة كغيرها من الأعمال تحتاج إلى دربة وخبرة، وما من عمل أتقنه صاحبه بالفطرة، مصداق ذلك قوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } . وموسى عليه السلام طلب الاستعانة بذي الخبرة حين قال : { واجعل لي وزيرا من أهلي.هارون أخي.أشدد به أزري وأشركه في أمري }.كما أن مما رشحه أن يؤاجره صاحب مدين للعمل توفر الشرطين الذين ذكرتهما إحدى البنتين : { إن خير من استأجرت القوي الأمين }.وطالوت استحق الملك بما أوتي من بسطة في العلم والجسم.
وهكذا يجب أن يمضي الدعاة، يجابهون الصعاب ويواجهون المواقف بمهارات مكتسبة، وخبرات مجتناة، ودربة مستقاة.ما أعظمها من همة لا تترك لكلمة ( ظروف ) حجة لمحتج، أو عذرا لمعتذر، إنه يأبى إلا الكمال، لأن النفوس الكاملة تستقبح النقص :
ولم أر في عيوب الناس عيبا .. ... .. كنقص القادرين على التمام
وتكامل الداعية في إتقان الأسباب مواز ليقينه في معونة الله تعالى، لأنها لا تأتي إلا على قدر المئونة، وهداية التوفيق منوطة باتباع هداية الإرشاد، والله لا يضيع أجر المحسنين .
إذا أسند إلى أحدهم عمل من أعمال الدعوة أقبل عليه بالدرس والتحليل والتمحيص، واقترح الأساليب ودرس إمكانية تطبيقها، والعوائق التي قد تحول دون نجاحها، كما يدرس النتائج المتوقعة واحتمالات الفشل والبدائل المقترحة
إن الداعية الناجح ذو قلب عقول ولسان سؤول، يبغض الجهل، ويعظم العلم، ويحترم التخصص، يرفض أن يقوم بعمل لا يتقنه حتى يتقنه.فهو لا يحتج بعدم الإتقان على ترك العمل، بل يعتذر عن العمل ريثما يتقنه ويقوم به حق القيام .
إن الداعية الناجح إذا أسندت إليه خطبة حال كونه لا يجيد الخطابة، استأذن أصحابه شهرا ليتعلم فن الخطابة ويجيد أساليبها، ليرقى المنبر متمكنا من صنعته مالئا مكانه الذي وضع فيه .
إن الداعية الناجح إذا اكتشف أنه لا يتقن محادثة الناس على الملأ، هرع إلى المكتبات يبحث عن الكتب التي صنفت في كيفية تنمية مهارات المحادثة ومواجهة الجماهير .
إن الداعية الناجح إذا خطب في موضوع أشبعه، وإذا تحدث في قضية أتى على تفاصيلها فلم يترك تعقيبا لمعقب .
إن مشاريع الدعاة الناجحين لا يعتريها الفشل من قبل تقصيرهم، أو يصيبها الشلل بسبب أخطائهم، بل بأقدار وحكم لا يعلمها إلا الله تعالى. وهم في بذلهم الوسع مثل الأنبياء الذين مكثوا في أقوامهم مئات أو عشرات السنين ثم لا يأتون يوم القيامة مع أقوامهم إلا بالرهط وبالواحد والاثنين وربما يأتي النبي وليس معه أحد .
المهارات الدعوية تخصص
والمهارات الدعوية تخصص يجب أن نؤمن به ونحترمه، فليس كل عالم داعية والعكس صحيح أيضا، وكم من علماء متخصصين ملؤوا الدنيا علما ولكنهم ربما يفشلون في أي موقف دعوي ساذج . وكما يجب على الدعاة ألا يفتئتوا على وظيفة العلماء في الفتوى والإفادة، فيجب على العلماء ألا يحتكروا الدعوة بزعم احتكارهم للعلم .
والواقع يشهد بأن المهارات الدعوية صارت تتطلب تخصصات مختلفة ومعقدة لا يسد احتياجاتها المتخصصون في الفقه والحديث .
فالدعوة تحتاج إلى المربين لمختلف الأعمار، والذي يتعهد الأطفال والصبية الصغار ليس كمن يربي الشبيبة المراهقين، ومن يعنى بمقارعة المنصرين ومجابهة العلمانيين لن يتفرغ كثيرا للاهتمام بسد حاجة الفقراء المسلمين مثلا .
إنها وظائف كثيرة، تحتاج إلى جهود متضافرة، وفي نفس الوقت إلى مهارات مكتسبة تتناسب وتلك الوظائف . إذ لم يعد من المقبول أن يقوم داعية واحد بكل تلك الأنشطة التي ذكرناها، أو يهتم بها ويفكر فيها، إن ذلك سيؤدي به إلى خلل في الأداء أو قصور في التخطيط والتنظيم ولا ريب . فناسب حينئذ أن تتوزع اختصاصات الدعوة على الدعاة، مع ضرورة أن يقوم كل داعية بإتقان الدور الذي أسند إليه وأن يتخصص فيه، ويعد نفسه أن يكون مرجعا لغيره من الدعاة فيما أسند إليه .
إننا لن نستطيع إيجاد العالم الموسوعي، والداعية الجامع لكل الفنون والعلوم، إلا أن يكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن ينبغي أن نتعامل مع السنن الكونية بواقعية، وألا نركن إلى الأماني الكاذبة والأحلام الشاردة .
مجال واسع
ومن الواقعية بمكان أن يدرك الدعاة أن مجال الدعوة واسع الأرجاء، وأنه يحتاج إلى جهود جبارة، وطاقات هائلة، وسواعد متضافرة . وأن الساحة مليئة بالأعداء الذين أتقنوا كل المهارات الممكنة للمواجهة مع الإسلام، وأنهم يعدون العدة الكاملة لاستئصال الدين، وأن عدتهم في ذلك متكاملة التجهيز والتنسيق، وأنهم متفقون على تسخير كل تقنية متاحة في نصرة باطلهم.
وبإزاء ذلك يتعامل بعض الدعاة مع واقعهم بسذاجة وبساطة لدرجة تدعو للرثاء أو الشفقة، مدفوعين بعواطف صادقة لكنها لا تغني فتيلا أمام سنة الله التي لن تجد لها تبديلا . فسنة الله لا تحابي أحدا، حتى الأنبياء والمرسلين، اجترفتهم أقدار الإله لما حصل التقصير من بعض أتباعهم. أخذت الرجفة موسى ومن اختاره لميقات ربه بفعل بعض السفهاء، ويهزم جيش فيه خير البشر وخيرة الله من العالمين محمد صلى الله عليه وسلم لأن من جنده من كان يريد الدنيا .
إن المسلمين قد عاشوا - للأسف - قرونا في ظل ثقافة تواكلية، وتحت سقف سلبية مقننة، وقد وجد من علماء المسلمين - للأسف أيضا - من يقعد مبدأ السياحة في الأرض والخلوة في الفيافي في وقت كان التتار يدكون حصون الشام والصليبيون يدكون حصون مصر .(5/23)
إن في بعض الأدبيات الصوفية جنوح لما يمكن أن نسميه دعوة للكسل والخمول، ولن نعجب أن يستقر في أذهان العامة أن الصوفية أو رواد المساجد في الجملة أصحاب بطون، أو أنهم عشاق الفَتَّة .
إن هذه الثقافة التواكلية سرت في وجدان الأمة حتى أضحت عقيدة يُعْتدُّ بها ومَهْيَعا يرتاده كل من أراد التدين.ولا أغالي إذا قلت إن شيئا من هذه التواكلية سرى إلى أوصال الصحوة المباركة بفعل التجاور والمعاشرة .
ورأينا من يقنن لهذا الكسل، ويقعد لما اصطلح عليه العوام اسم (البركة)، أي أن كل شيء يمشي بالبركة أي بدون اتخاذ الأسباب وبدون اكتساب المهارة اللازمة لأدائه .
وسمعت بعض الدعاة ينفر من التخطيط السليم لإدارة الدعوة، وأن الخير في عدم تعقيد الأمور، وآخر يبدِّع العمل الجماعي، وثالث يحرم ابتكار الوسائل الدعوية، في نمط من السذاجة لا يتناسب مع مقامهم في العلم والفضل .
اتخاذ الأسباب عقيدة
إن اتخاذ الأسباب عقيدة كما أن التوكل نفسه من العبادات القلبية الأصيلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الاثنين في أسلوب بليغ حين قال : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا ).أي تذهب في الصباح المبكر خالية الحواصل، فإذا عادت في المساء كانت ممتلئة البطون. ولو كان التوكل في ترك الأسباب، لَقَرَّت الطير في وُكُنَاتِها وأوكارها تنتظر رزقها رغدا يأتيها من كل مكان.ولكنها خرجت وطارت وسعت في أرجاء الحقول تبحث عن الحب والدود، والفقيه من اعتبر .
إنني استحيي والله من نفسي حين أرى المنافق أو الفاسق يتقن من حرفة الدعاية لنحلته ومنهجه مالا أتقن، وأتوارى خجلا وأذوب كمدا حينما أرى جحافل الكفر تغير على موقع من مواقع المجتمع والدعاة يقفون في دهشة واجمين .
إن هذه الثقافة غير الواعية، يجب أن تُسْتَأْصل من وجداننا، ويحل محلها الإيمان بأهمية السبب، والاستعداد به لمواجهة الباطل، والبحث عنه (أعني السبب) واستفراغ الوسع في طلبه والحصول عليه، وإعمال سبيل الدربة لاستعماله وتطبيقه واكتساب المهارة فيه .
وقادة الصحوة الإسلامية إذا أرادوا أن تخطوا الصحوة خطوات واثقة نحو العالمية التي تتناسب مع رسالتها وضخامة تبعتها فيجب عليهم أن يتدارسوا بجدية مبدأ تدريب الدعاة على المهارات الدعوية، وتثقيفهم بالثقافات التي يحتاجونها في مسيرتهم .
إنه ما من هيئة إدارية أو شركة تجارية إلا وتعقد لموظفيها دورات تدريبية في كل المناحي التي يحتاجها قطاع أعمالهم، بحيث يترقى الموظفون في درجات المهارة ولا يبقون أسرى المعلومات العتيقة والأساليب البالية .
إذن .. فليس على الدعوة من بأس أن تعقد دورات تدريبية لتنمية مهارات الدعاة في الخطابة والموعظة والتأثير على الناس، أو دورات تدريبية في تحضير الموضوعات وتنسيقها، أو دورات في إدارة الدعوة في المساجد أو في الجهات التي يكثر تواجد الدعاة فيها .
مثل هذا الاتجاه كفيل بتكثير سواد الدعاة عبر رفع كفاءة آحادهم ممن لم يشارك في الدعوة بفعالية من قبل، ومن شأن هذه الطريقة أن ترفع مستوى أداء الداعية فيتحسن النشاط الدعوي بالتبع ولا ريب .
إن من العادي في الدول المتقدمة أن تعقد مؤتمرات بحثية على مستوى الجامعات والصحف والشركات - في كل المجالات - وفي المدارس على مستوى المدرسين والطلبة، تعرف هذه المؤتمرات بجلسات (السمنار) يستضاف فيها متخصص في مجال معين ليتحدث عن تخصصه وكيفية الاستفادة منه في القطاع الذي يستمع إليه، ثم يتم إتاحة فرصة المناقشة ثم يتم صياغة توصيات يُدلى بها إلى ذوي الاختصاص ليروا ما يمكن تنفيذه من عدمه .
ومن الأمور الطريفة التي علمتها مؤخرا أن شهادة الأيزو (الجودة العالية العالمية) تعدّى مجالها الجانب الإداري والصناعي ليشمل العملية التعليمية، فصارت المدارس تمنح شهادة الجودة التي تثبت رقي مستوى مدرسيها وإدارتها وعمليتها التربوية والتعليمية وغير ذلك من الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في المدرسة النموذجية .
ولا شك أن هذا الأمر يستدعي إسقاطا مباشرا على شأننا الدعوي، حيث إن نشاطاتنا الدعوية تفتقر إلى الجودة، بل تفتقر إلى معايير الجودة نفسها، لدرجة أن بعض الجماعات العاملة في حقل الدعوة تستسيغ لأفرادها التصدر للخطابة والإفادة حال كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ولا ريب أن هذه جرأة على الله تعالى، واستهزاء بجناب الشرع الموقر، واستخفاف بعظمة شعائر الله .
إنني أتصور قوة الدعوة في قوة دعاتها وثباتها في ثباتهم، وقدرتها على غزو قلوب الناس من قدرة دعاتها على حل مشكلاتهم: كل مشكلاتهم، ولا يمكن أن نرجو نصرا في معركة ما تخاذلت همتنا فيها عن استعمال نفس السلاح الذي يستعمله أعداؤنا أو استعمال ما هو أفضل منه .
إن معارك حامية الوطيس دارت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وخصومه كان محك الغلبة فيها لمن أحاط بعلوم الشرع، ولولا أن قيض الله لأهل السنة مثل شيخ الإسلام في ذلك الزمان لكانت السنة تعاني الآن غربة حالكة، فكان في تصدي شيخ الإسلام للبدع الكلامية والانحرافات العقدية والسلوكية في المجتمع الإسلامي مع شهادة الخصوم له بطول الباع في علوم الشريعة، كان ذلك له أعظم الأثر في رفعة شأن أهل السنة وعلو كعبهم بين الناس .
وكذلك كانت مجهودات العلامة المحدث الشيخ الألباني - يرحمه الله - في علوم السنة، ومن قبله جهود الإمام ابن باز رحمه الله في الدعوة والفتوى، فأعظم الله منزلة أهل السنة بهما، وجعل لهم بين الناس وجاهة وصيتا، وأحسب أن الدعوة تحتاج إلى عشرات من مثل هؤلاء حتى تخوض المعركة بخطى واثقة .(5/24)
مهمات هذه الطريقة
وإذا أردنا أن نصوغ مهمات هذه الطريقة في عناصر عملية محددة فيمكننا أن نلخصها فيما يلي :
(1) تكوين مكاتب لتبادل الخبرات بين الدعاة مهمتها البحث عن كل جديد في تقنيات العصر مما له مسيس صلة بواقع الدعوة وتسخيره في خدمة الدين، مع إيجاد الكوادر التي تستطيع التعامل مع تلك التقنيات الحديثة .
(2) أن تتواصى همم الجماعات والهيئات الإسلامية على تدريب أفرادها وصياغة مناهج علمية تدريبية، مع الحرص على متابعة المستوى ومحاسبة المقصرين مع توليد القناعة في نفوس الأفراد والجماعات بأهمية اكتساب الخبرات والتخصصات المناسبة التي تحتاجها الدعوة، وأن ذلك من صميم الإتقان والإحسان الذي أمر به الشرع المطهر .
(3) قد يعسر تنفيذ مثل هذه المناهج التدريبية بطريقة جماعية، فلا أقل من أن توجد تلك المناهج في صورة مؤلفات متاحة لكل قطاعات الدعاة حتى يتمكنوا من النهوض بإمكانياتهم الدعوية بصفة ذاتية .
(4) ضرورة وجود متخصصين في المناهج التدريبية، مهمتهم متابعة احتياجات الدعوة والدعاة وملاحقة هذه الاحتياجات على صورة كتب أو أشرطة سمعية أو برامج حاسب آلي .
(5) من الأهمية بمكان أن يعمل هؤلاء المتخصصون على متابعة الجديد مما تحتاجه الدعوة من المؤلفات الأجنبية وترجمتها وتيسير تداولها على مستوى الدعاة .
(6) الاهتمام بالجانب الإحصائي في الأنشطة الدعوية، لأنها من أهم سمات الموضوعية في تقدير جدوى الوسائل ومدى نجاح التجارب، وأرى أن القصور الحاد في إحصائيات الدعوة له دور كبير في الارتجالية في معالجة المشكلات .
(7) من أهم الجوانب التي يجب على الدعاة إتقانها أو الإلمام بها على أقل تقدير : تقنيات الحاسب الآلي وإمكانياته المتعاظمة وبخاصة في ثورة المعلومات التي أتاحها الحاسب الآلي، حتى أضحت آلاف الكتب التي يجمعها طلبة العلم في عشرات السنين مخزنة في قرص من أقراص الحاسب الآلي .
(8) إصدار دوريات متخصصة في الجوانب التي يحتاجها الدعاة لاسيما الأخبار والقضايا الدعوية الملحة، وحشد آراء أئمة الصحوة وقادتها فيها لضمان أعلى نسبة توحّد في الاتجاهات وردود الأفعال .
(9) عقد المؤتمرات واجتماعات البحث باستمرار على مستوى القادة والأفراد - عند الإمكان - لمناقشة أوضاع الصحوة ودراسة المشكلات واقتراح الحلول والعلاجات، والتركيز على جانب المشروعات الدعوية العملاقة التي تتطلب مجهودات جماعية وإمكانيات متضافرة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
30 طريقة لخدمة الدين (الشيخ: رضا صمدي)
================
كيف نخاطب الجماهير..؟!
دأب عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال المنابر المختلفة، ووجد كثير منهم - والحمد لله - إقبالاً واسعًا، والتفتت الجموع بين أيديهم، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز الفكر والأدب والثقافة الآخرين. ولهذا فمن الواجب على العاملين في حقل الدعوة إعادة النظر في طروحاتهم وطريقتهم في الخطاب وتقويمها؛ لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر الإمكان، والاستفادة من التجربة الماضية. وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها في هذا الأسلوب:
أولاً: الإيمان بالهدف:
من المسلم به بعد الدراسة ومراقبة الواقع أن صلة الجماهير بالدعاة والمصلحين تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك المبادئ والتضحية من أجلها. وفي ا لمقابل نجد أن الجماهير تنفض عن تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها، وقديمًا قال الرافعي: "رؤية الكبار شجعانًا هي وحدها التي تخرج الصغار شجعانًا، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة".
ثانيًا: الحذر من الخيلاء وحب الرياسة:
محبة الناس للمصلح وتجمعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض ذوي النفوس الضعيفة، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة، وتصرفها عن كثير من معالي الأمور. وكم من الرموز التي تساقطت ولَفَظتها الجماهير، أو تناستها حينما غلبت عليها تلك الشهوة، وقد قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
ولهذا قال ابن تيمية: "كان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب! إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قال أبو داود صاحب السنن: الشهوة الخفية: حب الرياسة. وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم".
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن يأخذ بها، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل، ومن تعلق قلبه بحب الظهور صغرت نفسه، وغلبت عليه الأهواء الشخصية، وتردى في سلسلة من الانحراف التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية، وما أحسن قول الرافعي: "إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم".
ثالثًا: الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة:
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر! - في دائرتهم، فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة الهتاف والتصفيق، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولا يحيطون بكثير من التداخلات الفكرية والسياسية، ولا يزنون ردود الأفعال بالموازين العلمية. وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان:
الأول: التأثر الإيجابي:(5/25)
وهو في غاية الأهمية؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام، ويَحِسُّون بأهمية آرائهم، وقيمهم المعنوية، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير؛ مما يزيدهم ارتباطًا بهم ورغبة في الإصلاح، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون.
الثاني: التأثر السلبي:
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم، ويقع في شراكهم، ويصبح برنامجه الإصلاحي مرتبطًا برغباتهم، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم، وتكون النتيجة أن الجماهير هي التي تقوده، وهو يحسب أنه يقودهم!!
رابعًا: الدقة في الخطاب:
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل، حاله كحال غيره من المتحدثين، "وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب". ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم، وقد يطير خطؤه في الآفاق، وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن يتصيد العثرات، ويتسقَّط الزلات، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح، ولهذا قال عمر بن الخطاب: "ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزًا". ولما قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إن هاهنا قومًا يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك! فقال الحسن: "يا هذا! إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لما رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم".
إن من يتصدر لمخاطبة الناس عليه أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءً شديدًا، وينتقي عباراته انتقاءً دقيقًا، ويحرص حرصًا كبيرًا على أن يخرج كلامه بدقة وإتقان، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس، ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه. ويعجبني المتحدث الذي يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله، ويوضح ما استشكله الناس عليهن ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ.
خامسًا: الحذر من التعلق بالأشخاص:
من الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير؛ سواء أكان ذلك على المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي.. ونحوها: التعلق بالرموز والانكفاء عليها، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض بها من كبوتها، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط، وثارت في كوامنهم دواعي العجز والحيرة، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحيانًا إلى ازدراء مصلحين آخرين ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهمًا وقدرة، وقد يؤدي هذا التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد، أو عدم استغلال الفرص السانحة لهم.
وقد يُرسِّخ هذا المفهومَ بعضُ هؤلاء الرموز، ويدفع الناس إلى تقليده وتعظيمه، بلسان المقال حينًا، وبلسان الحال أحيانًا أخرى، والتقليد قاصمة من القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير، وتحوِّل الجماهير إلى مجرد قطعان هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال، وهي تستجيب له بكل دعة وخنوع. والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس إليهم فحسب، بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم؛ فمن تبعهم تبعهم بحجة وبرهان؛ ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم.
سادسًا: وضوح الرؤية:
تتم مخاطبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية راتبة؛ حيث لا توجد لديهم رؤية واضحة، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي يريدون الوصول إليها؛ وقد ترى أن كثيرًا من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية على خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم من هنا وهناك، بل تلمس أحيانًا أن بعضهم لا يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي، ولهذا تراه يجتر كثيرًا من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة!
إن وضوح الأهداف يعين كثيرًا على الاعتبار بالماضي واستبصار الحاضر واستشراف المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة: ما الموضوعات التي سوف يتحدث عنها؟! وما القواعد التي يريد بناءها؟! وما الأمراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها؟! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك؟ ويعرف في ذلك الأولويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة، ونحو ذلك مما يعدُّ من البدهيات المنهجية التي لا غنى عنها.
سابعًا: تلمُّس احتياجات المخاطبين:
احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية كثيرة جدًّا، ويتميز المصلح الجاد بقدرته على تلمُّس احتياجات الناس، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون، ويتحدثون عن أشياء كثيرة لكنهم بعيدون عن نبض الشارع واهتمامات الناس.
ومعلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيرًا، ويألفه في بداءة أمره، لكنه يبتعد عنه شيئًا فشيئًا إذا فقد المادة الأصلية المتجددة التي تشبع حاجاته وطموحاته، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجمهور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم بالحيوية والتجدد، وهذا - فيما أحسب - أحد المعايير الرئيسة للاستمرار والبقاء.
ثامنًا: الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي:
يغلب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي يُبنى على استثارة المشاعر، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه، ولكنه وحده لا يكفي على الإطلاق، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء. نعم قد تجمع العاطفة أناسًا كثيرين، ولكنها وحدها لا تحيي الأمة، ولا تبني رجالاً، ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن.(5/26)
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة عواطفهم، ولكنهم القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم وصناعتهم من جديد.
وإن من أكبر التحديات التي تواجه دعاة الإصلاح: هي القدرة على توظيف الطاقات، واستثمارها في البناء والعطاء، وكم هي الطاقات المهدرة التي طالما استُهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة!
ولذا كان مما ينبغي لدعاة الإصلاح إداركه أن من واجبهم التأثير الفكري والمنهجي في الجماهير، ورفع مستواهم الثقافي، وإحياء الوعي في صفوفهم، وتربيتهم تربية راسخة عميقة، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة العطاء والوعي الإنتاجي.
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنه لو دعاهم إلى تحرير القدس لما تخلف منهم رجل واحد، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق هذه الغاية العظمى، ولكنه يفاجأ بأن كثيرًا منهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته! ولست هنا أدعو إلى ترك ا لجماهير أو عدم الثقة بهم، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة.
لقد ظلت الجماهير عقودًا متتابعة مغيبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر والوطنية، وهاهنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعادة تشكيل عقولهم وصناعة أفكارهم، ولا شك بأن هذا يتطلب جهدًا كبيرًا ونفسًا طويلاً.
تاسعًا: الارتقاء بمستوى الخطاب:
كثير من الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة ومشكلاتهم، وتتوافق وطموحاتهم وتطلعاتهم، ولا شك بأن هذه الطموحات محدودة، وتدور في أطر ضيقة، وقد يغفل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة طبقات أخرى في المجتمع، ولا بأس أن يوجد من يتخصص في مخاطبة العامة ويقصر اهتمامه على دائرتهم، ولكن ليس من المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر الأخرى!
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الذي أدى إلى انفتاح اجتماعي وفكري عريضين، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية من أهم أدوات التأثير الفكري، وأعتقد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية الأهمية، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجامعة، وما يصلح في المسجد لا يصلح في وسائل الإعلام، وما يصلح في البلد قد لا يصلح في البلد الآخر.. وهكذا.
وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحد المفكرين الإسلاميين مع مفكر ليبرالي، فآلمني جدًّا أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية خطابية هزيلة، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء والمراوغة، شعرت من خلالها أنه يعرف ماذا يريد. ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور عريض من العامة!
عاشرًا: إيجاد البرامج العملية الجادة:
من الجوانب المهمة في مخاطبة الجماهير: أن ندفعهم إلى برامج عملية مثمرة، فالتفاعل المجرد يبقى أثره محدودًا، ولكن حينما يستثمر تفاعلهم في بناء المجتمع ونشر الدعوة وبذل المعروف، سوف نجد بإذن الله تعالى طاقات كثيرة تبدع وتنفع ما كنا نتوقع منها ذلك.
ـــــــــــــــــ
في البناء الدعوي
==============
الأصالة والمعاصرة
الأصالة والمعاصرة من الكلمات التي كثر الحديث عنها والدعوة إليها في العصر الحاضر ، وما من شيء أخطر على الدعوة من أن تلتبس سماتها الأساسية أو يلابس خصائصها غموض أو اضطراب.
ويقصد بالأصالة " المحافظة على جوهر الدعوة باستنادها إلى الأصول والأدلة الشرعية والتمسك بمبادئها الأساسية " والمعاصرة هي : " تكافؤ الدعوة مع العصر الذي تعيش فيه بحيث تعالج واقعه وتلبى متطلباته " ومن هذا التعريف يتضح أن وصف الدعوة بالأصالة وصف صالح لكل زمان ومكان.(5/27)
ووصف الدعوة بالمعاصرة أيضاً صالح لكل زمان ومكان ، وليس وصفاً خاصاً بالعصر الحديث كما قد يتوهم ، فدعوة الناس بلسانهم ولغتهم معاصَرة , واختيار الأسلوب الدعوى المناسب لموقف من المواقف معاصَرة واستخدام الوسائل المتوفرة في عصر من العصور لنشر الدعوة معاصرة ، وسيرته صلى الله علية وسلم في تمسكه بأصالة دعوته لا يحيد عنها ، ولا يقبل مساومة فيها وفى ذات الوقت معالجته واقع عصره ، وتخيره الأساليب النافعة لدعوته ، واستخدام جميع أنواع الوسائل المشروعة المتوفرة في عصره غير زاهد بشيء منها أمر لا يخفى على من اطلع على سنته صلى الله علية وسلم ، وقد سار الصحابة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهجه كما في جمع أبى بكر الصديق رضى الله عنه للقرآن، يقول الحافظ ابن حجر : " وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول صلى الله علية وسلم ، بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله علية وسلم ، وكذلك موقفهم رضي الله عنهم من إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه بعد موت رسول الله صلى الله علية وسلم. وهو موقف تتجلى لنا دقة الموازنة فيه بين الأصالة والمعاصرة فما أشار الصحابة رضوان الله عليهم ، وفيهم عمر بن الخطاب بعدم إنفاذه إلا خوفاً منهم على مصلحة الدعوة ورأيا منهم بأن الظروف قد تغيرت والمصلحة تقتضي بقاء هذا الجيش العظيم في عاصمة الدولة وحول الخليفة. وقد هددها ما هددها من عدو ماكر لدود ولم يجدوا في ذلك معارضة لأمر رسول الله صلى الله علية وسلم في إنفاذ الجيش وإنما هي مصلحة قد طرأت ، وظروف قد تغيرت يمكنها أن تقيد ذلك الأمر وما أبى أبوبكر رضي الله عنه - وهو الإمام - ذلك الإباء الشديد وحزم ذلك الحزم إلا وهو يرى المصلحة في إنفاذ ذلك الجيش ، وأنه أمر منه صلى الله علية وسلم يلزمه ويلزم المسلمين وقال قولته المشهورة : " والذي لا إله غيره ، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله علية وسلم ، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله علية وسلم ، ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله علية وسلم " وكان الخير والصواب في تصرف أبى بكر رضى الله عنه.
ضوابط الأصالة والمعاصرة :
لابد من التعرف على ضوابط الكلمتين حتى لا يساء فهمهما فتصاب الدعوة بالجمود أو تقع فى التنازلات والتجاوزات. فليست الأصالة تحجراً فى العقول ، وليست المعاصرة أيضاً ميوعة فى المواقف ولا ذوباناً فى الشخصية وليست الغاية من الدعوة إرضاء الناس وتحقيق رغباتهم ، وإنما هي هدايتهم ودلالتهم على الصراط المستقيم. قال تعالى :
( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصرى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن أتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا نصير ) [120البقرة]
ومن أهم هذه الضوابط :
1.المحافظة على الأصول الشرعية محافظة تامة ، والتمسك بالسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ ( وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ سورة الحشر : آية 7] وعن العرباض بن سارية رضى الله عنه قال : " وعظنا رسول الله صلى الله علية وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة " ( رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ). والاتباع والتأسى بسنة رسول الله صلى الله علية وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم ، يشمل أقوالهم وأفعالهم ، كما يشمل سيرتهم العملية ومناهجهم التطبيقية. والاتباع في المناهج والأساليب مقدم في الأهمية على الاتباع في الأقوال والأحكام.
2.اجتناب البدع اجتناباً كاملاً ، والحذر منها كل الحذر : ففي الحديث : " وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلاله " ( متفق عليه ) وفى الحديث أيضاً : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ( متفق عليه ). ولابد هنا من حمل الأحاديث المطلقة على المقيدة وذلك ليصح فهمها ، والعمل بالمنطوق والمفهوم خير من العمل بأحدهما. كما في جمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس في الصلاة التراويح ثم قوله بعد ذلك نعم البدعة هذه. فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم ، وأخرج البيهقي عن الشافعي أنه قال " المحدثات ضربان : ما أحدث يخالف كتاباً ، أو سنة ، أو أثراً ، أو إجماعاً ، فهذا بدعة الضلال وما أحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك ، فهذه محدثة غير مذمومة ".
3.التمييز بين المناهج الدعوية الثابتة وبين الأساليب والوسائل المتطورة فمن المناهج ما هو رباني ثابت لا يجوز أن يطرأ عليه تحويل أو تغيير ، قال تعالى : ( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) ومن الوسائل ما هو بشرى متطور ، يضعه الدعاة بما يتناسب مع المدعوين ، مجتهدين في ذلك مقتبسين له من منهج الله تعالى. وهذا النوع من الوسائل يتطور ويتغير بحسب المدعوين ، وتبعاً لظروفهم وأحوالهم ومستوياتهم. وإذا كان الأصل في المناهج الربانية الثبوت والاستمرار وعدم التحول ، فإن الأصل في الأساليب والوسائل والمناهج البشرية التطور والتحول إلى ما يناسب كل عصر و بيئة.(5/28)
4.المحافظة على شرعية المناهج والأساليب والوسائل ، وتجنب مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " ... فعلى المسلم أن يتجنب الحرام ، ولو توهم أن فعله قد يوصله إلى خير ، كما عليه أن يفعل الواجب ، وإن توهم أن تركة يدفع عنه شراً ، فإن الشر لا يأتي بالخير ، وفى الحديث : " تحروا الصدق ، وإن رأيتم أن الهلكة فيه فإن فيه النجاة " وفى رواية - أخرى بزيادة : " واجتنبوا الكذب ، وإن رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة " ولا يتعارض هذا مع ما ورد من ترخيص بالكذب في بعض المواطن - كاستثناء من حكم عام - كما فى الحديث : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، فينمى خيراً أو يقول خيراً " ( متفق عليه ). وفى رواية لمسلم بزيادة قالت أم كلثوم " ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ، تعني: الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ".
5.مراعاة الاختلاف فى الأحكام الشرعية ، فلا ينزل الأمر المختلف فيه ، منزلة الأمر المتفق عليه ، يقول سفيان الثوري: " إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه ، وأنت ترى غيره ، فلا تنهه : ويقول : " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به " وقديما قالوا : وما كل خلاف جاء معتبراً ...
وعلى الإنسان أن يفرق بين الأحكام الشرعية القطعية التي لا يختلف فيها ، وبين الأحكام الاجتهادية المختلف فيها ، فيعمل بما ترجح لديه فيها - إن كان أهلاً للترجيح - ثم السلامة والحيطة لا يعدلها شيء. يقول ابن تيمية : " ... نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ".
6.التوسط والاعتدال في التمسك بالدين والبعد عن الغلو والتشدد ، وتجنب التقصير والتساهل . وفى الحديث : " هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً " ( رواه مسلم ). قال النووي : المتنطعون: المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد " وفى الحديث أيضاً : " إن الدين يسر فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " ( رواه البخاري ). قال ابن المنير : " في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع ، وليس المراد منه طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ". وفى الحديث الذي رواه ابن ماجة : " يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم ".
7.الرجوع في حكم المسائل المستجدة إلى أهل العلم والاختصاص ؛ لتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، قال تعالى : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) وفى الحديث : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً ، اتخذ الناس رؤوسا جهالاً ، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " ( متفق عليه ).
الأصل في العبادة التوقيف
وبعد هذا العرض السريع نذكر أنفسنا والمسلمين جميعاً بأن الأصل في العبادات التوقيف - أي إنها تؤخذ دون زيادة ودون نقصان - ومن سمات هذه الدعوة التطور لا الرجوع إلى الوراء ولكن هذا فيما يقبل التطور والتحضر والتقدم ، والمعاملات عموماً الأصل فيها الإباحة إذا روعيت ضوابطها الكلية وطالما أنها لم تصطدم بنصوص الشريعة. وأن الخير كله في الاتباع لا في الابتداع ثم الحكم على الأمور بحق أو باطل وحسن أو قبح لا يعتبر فيه القدم لذاته ولا الحداثة لذاتها وإنما هو في موافقة الحق ، والتمسك بالأصول من جهة وفى مراعاة الظروف والأحوال ، وتغير الأزمنة والأمكنة في ضوء تلك الأصول من جهة أخرى ولا يجوز إنزال بعض الدعاة لأقوال وسلوك أصحاب دعوتهم ، ومؤسسي جماعتهم ورؤساء تنظيماتهم منزلة الأصول الثابتة والحجة القاطعة على الرغم من ثبوت خطئها أحياناً أو ظهور عدم صلاحيتها في حال من الأحوال أو ظرف من الظروف. ولا يجوز أن نركن إلى أصحاب المنكرات فليست هذه معاصرة كما لا يصلح أن نعتزل ونهجر العصاة في مثل ظروفنا هذه فليست هذه أصالة وما شرع الهجر إلا لجلب مصلحة ولدفع مفسدة وهو أسلوب للعلاج لا للبتر ولا للإهلاك ، وما نفع الهجر في الماضي إلا يوم أن غلب على المجتمعات الصلاح ، وقد كان من مذهب عمر وأبي الدرداء وإبراهيم النخعي أنك لا تهجر أخاك عند المعصية فإن الأخ يعوج مرة ويستقيم أخرى وفى الحديث : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " ( رواه أحمد والترمذي ).
الابتكار والتجديد(5/29)
وعلى الدعاة ألا يكتفوا بالوسائل المتوارثة ويهملوا وسائل حديثة متطورة تمكنهم من الوصول لأهدافهم وتعينهم على تحقيق غاياتهم فكلما وجد الداعية وسيلة شرعية أجدى وسبيلاً أقصر كان حريا به أن يستفيد منها وأن يستخدمها في سبيل الوصول إلى هدفه. والكل مطالب أن ينتبه للأخطاء التي تحدث باسم الأصالة والمعاصرة فكم مِن شباب الدعوة اليوم مَن لا يتميز سلوكه عن سلوك عامة الناس فيقع في المحرمات والمخالفات في طريق الدعوة متوهماً أنه يحقق بذلك نوعاً من المعاصرة اللازمة كحالة من يصافح النساء أو يحلق لحيته أو يتساهل في حجاب زوجته أو بنته أو يألف أنغام الموسيقى المحرمة. وفى الوقت ذاته كم من شباب الدعوة من يصاب بنوع من التحجر والجمود فيتشدد في أمور ينفر بها الناس من حوله متوهماً أنه يحقق نوعاً من الأصالة المطلوبة وهو يقع في الإفراط والتفريط. ومن هذه الصور أن يحجر على المرأة في بيتها وتمنع من الخروج ولو للزيارات المباحة مع تأدبها بالآداب الشرعية ومع وجود الحاجة لذلك أو يمنع من لباس دون لباس مع انطباق المواصفات الشرعية على هذا وذاك وليس هو شعاراً لغير المسلمين ولاسيما إذا دعت إلى استعماله مصلحة زمنية أو حاجة علمية.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يهتدون بهدى كتابه ويقتفون سنة نبيه صلى الله علية وسلم ، ومن الذين قال في حقهم :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) [الأحزاب 23].
==============
المرأة المسلمة وهمُّ الدعوة إلى الله
لا شك أن للمرأة دوراً هاماً في إصلاح المجتمع وتوجيهه، ولذا فإن الإسلام أكد على أهمية إصلاح المرأة وتأهيلها لهذا الدور العظيم ، ثم بث فيها هذه الروح الطيبة التي تدفعها إلى العمل، وذلك في عدة نصوص مثل قوله صلى الله عليه وسلم" النساء شقائق الرجال" وغير ذلك من النصوص التي تبين أن للمرأة دورا في المجتمع لا بد أن تؤديه وتحرص عليه.
والدعوة إلى الله جل وعلا من أعظم الأمور التي يجب على المرأة العناية بها ورعايتها، خاصة في هذا العصر الذي طغت فيه الفتن وتجاوزت الحد وابتعد كثير من الناس عن الدين الصحيح وانفتحوا على الغرب بما فيه من انحرافات وفساد في العقيدة والأخلاق والقيم وغيرها.
في لقائنا معه يحدثنا الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد قاسم (الأستاذ بكليات البنات بالدمام) فيقول: إن دور المرأة في الدعوة دور عظيم وجدير بالمرأة المسلمة العناية به والحرص عليه، إذ أن المرأة أدرى وأعرف بنفسيات النساء من الرجال، وبالتالي تستطيع الوصول إليهم بسهولة ويسر ويكون عادة تأثيرها أنفع من تأثير الرجل إذا استخدمت الوسائل المعينة على ذلك.
ثم إن مجال الدعوة بالنسبة لها رحب وواسع ذلك أن تواجدها مع بنات جنسها واختلاطها بهن بشكل مباشر لا شك أنه يسهل عملية الدعوة ويضفي عليها نوعا من المحبة والإخاء ، ولذا كان ضروريا على المرأة المسلمة أن لا تحتقر نفسها ولا تضيع مثل هذه الفرص.
المرأة المسلمة وأماكن الدعوة
وإذا كان من الملاحظ أن مجتمعات النساء لا تخلو عادة من اللغط والقيل والقال، وخاصة في المناسبات والأفراح وغيرها حيث تكثير المحاذير ا لشرعية، فإنه يدور في أذهان الكثيرات سؤال هام وهو كيف يمكن للمرأة الداعية أن تقوم بالدعوة في ظل هذه الظروف؟ وهل الأفضل أن تتجنب حضور مثل هذه اللقاءات وتعتزلها ، أو أن يكون لها دور في تغيير هذه المنكرات وتبصير النساء بأمور دينهن ونصحهن وتوجيههن؟
وبعد التأمل يتضح أن مما يقف حائلاً أمام الأخوات الداعيات في حضور بعض تلك المجالس أمران أساسيان هما:
أولا : قلة العلم الشرعي الذي يعينهن على مواجهة المنكرات بالحجج والأدلة الشرعية
ثانيا : حياء مذموم وخوف من المواجهة وشعور بالنقص يمنع المرأة الداعية من أداء مهمتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح الآخرين.
وربما يكون هناك سبب ثالث وهو اليأس واعتقاد عدم جدوى حضور مثل هذه اللقاءات ومحالة التأثير فيها.
وتجاه هذه التساؤلات والأسباب يبين الدكتور إبراهيم قاسم أن دور المرأة الداعية لا يقتصر على إلقاء الكلمات وإنكار المنكر في المناسبات العامة فقط بل بإمكانها القيام بالعمل الدعوي تجاه قريباتها وصويحباتها وجيرانها قدر المستطاع، فلا تقتصر على صنف دون آخر وإن كان للقريبات حق أعظم بسبب القرابة، ولتكن الدعوة مستمرة في المدرسة والمناسبة والسوق والمستشفى وغير ذلك كلما دعت الحاجة لذلك، وتستخدم في كل حالة الأسلوب الذي تراه مناسباً.
ومن جهة أخرى فإن عدم حضور الداعيات لمثل هذه المناسبات يعطي فرصة أكبر لأصحاب الأهواء والانحرافات لبث سمومهم بين نساء جاهلات غافلات، وكثيرا ما تكون المرأة ا لداعية سببا في انتشار بعض هذه الأمور نتيجة لإعراضها عن حضور هذه المناسبات والتجرؤ فيها على الكلام والنصح والتوجيه.
والحقيقة أن حضور مثل هذه المناسبات فرصة حقيقية للمرأة الداعية ينبغي عدم تضييعها ذلك أنه قد لا يتيسر لها مثل هذا العدد مجتمعا في مكان واحد، والمرأة في هذه المناسبات تتصل وتتعرف على مجموعة من النساء ربما لا تستطيع الوصول إليهن أو التعرف عليهن إلا في مثل هذه المناسبات.
وأمر آخر وهو أن غالب هذه النوعيات من النساء لا يحضرن إلا مثل هذه اللقاءات، أما لقاءات الدعوة والمذاكرة ومجالس العلم فهن في الغالب بعيدات عنها، لا يتحمسن لحضورها ، وبعضهن لا يطلعن على مثل هذه المجالس لذا كانت هذه اللقاءات فرصة سانحة للوصول إلى قلوب النساء اللاتي لا يعرفن عن مجالس الخير شيئاً.(5/30)
وعلى المرأة الداعية أن تفكر في الأسلوب المناسب للدعوة في مثل هذه ا لمناسبات، فليكن كلامها عاما ولائقا وبعيدا عن تفصيلات قد تثير أمورا لا داعي لها، ولتحرص في مثل هذه المناسبات على أن تتكلم في الأمور والقواعد العامة دون الفرعيات.
وأما خجل بعض ا لنساء من الدعوة خاصة في مثل هذه المناسبات فإن الإسلام يستنكر مثل هذا الخجل السلبي المذموم الذي لا يعود على صاحبه بخير، بل ربما عاد عليه بالشر، والمرأة إذا علمت واستشعرت قيمة ما تحمله من معاني الإسلام ومبادئه السامية، وتذكرت ما وعد الله به عباده الصالحين الداعين إليه من الثواب الجزيل يوم القيامة دعاها ذلك إلى التخلص من هذا الحياء المرذول، ودفعها ذلك إلى الانطلاق في الدعوة بجرأة وشجاعة.
ومع ذلك فإن الدكتور إبراهيم يحذر النساء المسلمات من حضور المناسبات التي تشتمل على منكرات واضحة، إذا كانت المرأة تعلم أنها لن تستطيع تغيير المنكرات الحاصلة، حتى لا تقع في الإثم ولكي تكون قدوة صالحة لغيرها من النساء.
المرأة الداعية وأسس الدعوة إلى الله
وعندما تمضي المرأة المسلمة في الدعوة إلى الله فإنها لا بد أن تتعرف على بعض الأسس الهامة والعامة في دعوتها لتكون دعوتها على منوال الشرع .
الدكتور خالد بن عبد الرحمن القريشي (الأستاذ المشارك بكلية الدعوة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ) يقول: إن من أهم الأسس في الدعوة إلى الله جل وعلا الدعوة إليه بالقرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى قد أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وأمره أن يدعو به ، ويعتمد عليه، فهو حبله المتين، وصراطه المستقيم ، جعله الله هدىً للناس، وحجة عليهم، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فلذا جاءت النصوص الشرعية الكثيرة التي تأمر بالدعوة بالقرآن الكريم ، وتحثُّ عليه، فمن القرآن الكريم :
أولاً - قول الله سبحانه وتعالى: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)، فالله سبحانه وتعالى يخبر أن هذا القرآن أوحي لمنفعة الناس ومصلحتهم ، إذ فيه النذارة لكم ، أيها المخاطبون ، وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة ، ولذا sp;كان مجاهد - رحمه الله تعالى - يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داعٍ ، وهو نذير، ثم قرأ: (لأنذركم به ومن بلغ) ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: (كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين). فهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لينذر الكافرين بالقرآن، ويذكر به المؤمنين، لأنه حوى كل ما يحتاج إليه العباد ، وجميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية.
وعندما يقوم الداعية إلى الله سبحانه وتعالى بذلك الأمر - أي الدعوة بالقرآن للقرآن - فعليه أن لا يكون في صدره حرج، أي ضيق وشك واشتباه ، لأنه كتاب الله سبحانه وتعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلينشرح به صدره، ولتطمئن به نفسه، وليصدع بأوامره ونواهيه، ولا يخش لائماً أو معارضاً.
ويبن الدكتور القريشي أن الدعوة بالقرآن الكريم هي الميزان الذي يعرف به صلاح الداعية وصدقه وسلامة منهجه ، قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله تعالى: (عندما يختلف عليك الدعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن - ومثله ما صح من السنة، لأنها تفسيره وبيانه - فاتبعه؛ لأنه هو المتبع للنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده بالقرآن، والمتمثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن.
السنة النبوية والعلم الشرعي ركيزتان أساسيتان في الدعوة
ويضيف الدكتور إبراهيم قاسم بأن على المرأة الداعية إلى الله أن تحرص على تعلم العلم الشرعي وخاصة السنة النبوية، وليكن لها تركيز خاص على ما يتعلق بأمور النساء وما يخصهن من أحكام ، فالعلم الشرعي من الأسباب المعينة على الدعوة إلى الله ، وهو يعطي ثقة في النفس وقدرة على ربط الدعوة بمسائل الشرع مما يكون له وقع في نفوس السامعات .
أضف إلى ذلك أن المرأة تستطيع أن تبلغ الأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء إليهن دون حرج أو حياء بخلاف غيرها من الرجال.
فإذا أضافت إلى ذلك اطلاعها على السيرة النبوية وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم لكان في ذلك خير عظيم ، فالسيرة النبوية وسيرة السلف ما هي إلا تطبيق عملي لما جاء به الإسلام ويستطيع المرء من خلالها أن يتطلع على أحوال ومشاكل وأمور واقعية لا يستطيع الوصول إليها عن طريق النصوص المجردة.
هذا مع قراءتها المستمرة لكتب الدعوة وما فيها من أفكار وطرق ووسائل فإن ذلك يفتح لها أفاقا كثيرة للدعوة إلى الله مع ضرورة الإلمام بواقعها الذي تعيشه.
التقيد بالشرع(5/31)
ومن الأسس التي ينبغي على المرأة الداعية مراعاتها ضرورة التقيد بمنهج الإسلام في الدعوة إلى الله وعدم الحيد والميل عنه أو الاستعاضة عنه بغيره، فإن الخير كل الخير في شرع الله وطريقته، يقول الشيخ محمد بن عبد الله الدويش "إن البشر مهما علا شأنهم وارتفع قدرهم ، ومهما بلغوا المنازل العالية من الصلاح والتقى فلن تكون أعمالهم حجة مطلقة، بل لا بد من عرضها على هدي النبي صلى الله عليه و سلم; كما يروي بعضهم في مقام الصبر أن شيخاً قام يرقص على قبر ابنه حين توفي رضًى بقدر الله على حد زعمه, وخير من ذلك هدي النبي صلى الله عليه و سلم الذي تدمع عينه ويحزن قلبه, ولا يقول إلا ما يرضي ربه, وهديه صلى الله عليه وسلم القولي والعملي في النوم والقيام خير مما يروى عن بعضهم أنه صلى الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا من السنوات, وهديه في تلاوة القرآن خير مما يروى عن بعضهم أنه يختم القرآن كل ليلة, مع التماسنا العذر لمن كان له اجتهاد من سلف الأمة في ذلك.
وسائل ومقترحات للدعوة
وإذا كانت تلك هي أسس الدعوة إلى الله عز وجل فإن من المشكلات التي يعاني منها الدعاة في خطابهم الدعوي كما يقول الشيخ محمد بن عبدالله الدويش ( عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود سابقا) هي سيطرة أساليب محددة ، وغياب الإبداع والابتكار.
وأكثر ما يبدو فيه هذا النمط من العمل النشاط الموجه للمرأة من المرأة بل حتى من قبل الرجال، وحين يتحدث أحد الدعاة أمام النساء فالغالب أن هناك مجالات محدودة لا يتجاوزها ، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة الداعية مع النساء.
والجميع رجالاً ونساءً بحاجة ماسة إلى إحداث نقلة وتطوير في خطابنا الدعوي وإلى أن نتخلى عن الاقتصار على أساليب محدودة ولغة واحدة.
ومن الوسائل المناسبة التي يمكنك أن تسلكها المرأة الداعية إلى الله ما يلي:
- محاولة التأثير على الصديقات في المدرسة أو من الجيران والأقارب بالكلمة الطيبة والخلق الحسن.
- إقامة بعض البرامج المشتركة بين مجموعة من زميلاتك كإقامة درس يقرأ فيه بعض الكتب في أساسيات الدين كتعليم العقيدة وأحكام الصلاة ونحو ذلك.
- إعداد بعض المسابقات الثقافية ونشرها في أوساط الطالبات أو حتى بين الأقارب والجيران في البيوت.
- كتابة بعض النصائح والرسائل التوجيهية سواء للبنات المقصرات في نصحهن وتوجيههن أو للبنات الصالحات في حثهن للقيام بواجبهن.
- التفاعل والمشاركة مع المواقع في الشبكة العالمية والبرامج الإذاعية المتميزة الخاصة بالنساء بالكتابة فيها والتواصل معها ومحاولة تطويرها ونشر عناوينها بين الفتيات وتبقى هذه مجرد أمثلة ليست للحصر.
ويؤكد الشيخ محمد الدويش على ضرورة استخدام القصة في الدعوة إلى الله فإن هذا من أساليب القرآن في الدعوة، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بشأن القصص لما لها من تأثر ووقع في نفوس الناس، وحفظت لنا دواوين السنة طائفة من قصه صلى الله عليه وسلم عليهم من قصص الأمم الماضية وأخبارهم ، ولم تكن قصص القرآن أو السنة قاصرة على أنباء الصالحين وأخبارهم, بل شملت مع ذلك قصص المعرضين والفجار للاعتبار بما أصابهم. وليكن هذا الاستخدام بالقدر المعقول فلا تكون هي اللغة الوحيدة أو تكون على حساب غيرها وبالضرورة لا بد أن يكتفى بالقصص الصحيح عن غيره.
أمور تهم المرأة الداعية
ولعلنا نختم حديثنا هذا بذكر بعض الأمور التي يجب على المرأة الداعية مراعاتها حتى يكون لها تأثير حقيقي في الدعوة إلى الله ونتبع ذلك بذكر بعض صفات الداعية الناجحة.
فنقول يجب على ا لمرأة الداعية تقوية إيمانها بكثرة التقرب إلى الله بالصيام والقيام وقراءة القرآن والتصدق وغير ذلك فإن هذا من أسباب إعانتها على الدعوة إلى الله ومن أسباب احتساب الأجر فيها.
ثانيا : ضرورة اطلاعها بالإضافة إلى العلم الشرعي على بعض القراءات التربوية والتي تساعدها على الدعوة بثبات ووضوح وحكمة وقوة في العرض والاستدلال.
ثالثا : عليها الاهتمام بأولادها وتعليمهم وتربيتهم فإنهم سيصبحون قدوة في يوم من الأيام ، ولا يؤدي بها دعوة الأخريات إلى إهمال أهل بيتها وأولادها.
رابعا : لتبذل وتعرض مساعدتها لمن تقدر عليه وتحاول الوقوف مع قريباتها في أزماتهن، وتقدم لهن يد العون والمساعدة فإن ذلك مما يحببها لهن، وبالتالي يجعل لها أثرا واضحا في توجيههن.
صفات الداعية الناجحة
ومما تجد الإشارة إليه أن للداعية الناجحة صفات ومميزات وعلى المرأة المسلمة أن تتطلع على تلك الصفات لتتحلى بها وتمسك بها.
- فهي تلك التي تعرف فضل الله عليها بالهداية والتوفيق وبالتالي فهي في تواضع وخفض جناح مع المحافظة على العزة والكرامة، ولمعرفتها بنعمة الله عليها لا تحتقر امرأة عاصية أو متبرجة أو نحو ذلك بل ترجو لها الهداية والتوفيق وتحاول فيما بينها وبين نفسها أن تفكر في تقصيرها وضرورة إصلاح نفسها ويكون لسان حالها دائما "اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"
- الداعية الناجحة هي التي توفق بين بيتها وزوجها وأولادها وتعلم أن ممارسة الدعوة إلى الله لا يتعارض مع ذلك كله ، لكن فقط يحتاج إلى تنظيم وحسن تدبير واستغلال الفرص والأوقات في النافع المفيد
- ومن صفات الداعية الناجحة حرصها على متابعة من هداهم الله على يدها وبث روح الدعوة في نفوسهن وتشجيعهن على المضي في هذا الطريق وتفقد أحوالهن بحيث لا يتقاعسن عن العمل شيئا فشيئا ويؤدي ذلك إلى ضياعهن.(5/32)
ثم هي أيضا لا تكتفي بوعظ ا لناس وتذكيرهن، بل إنها تسعى ليكون حالها وواقعها وتصرفاتها كلها نابعة من شريعة الله فهي في كلامها داعية وفي صمتها داعية وفي حضورها داعية وفي غيابها داعية يصدق قولها فعلها.
- والداعية الناجحة هي التي تحاول ابتكار الأساليب الشرعية والطرق الحكيمة لدعوة غيرها وتحاول التفكير في كيفية ا لوصول إليهن، هذا مع إبداعها في مشاريع الخير التي تنفع الناس وتوجههم.
- الداعية ا لناجحة هي التي تسخر إمكاناتها لخدمة هذا الدين سواء كان ذلك عن طريق الدروس أو المحاضرات أو المسابقات أو ا لمشاركة في الصحف والمجلات ونحو ذلك مما هو مضبوط بالشرع المطهر.
- الداعية الناجحة لا تخلو أبدا من محاسبة نفسها ومعرفة جوانب القصور فيها ثم هي تنقد منهجها في الدعوة نقدا بناء لتتعرف على مواطن الضعف والخلل فتحاول إصلاحها وتعرف مواطن القوة والفائدة فتكثر منها وتطورها ، محتسبة في ذلك كله الأجر عند الله غير آبهة ولا مبالية بمدح أحد من الناس فهي ترجو الأجر والثواب من الله وحده.
- إن الداعية الناجحة هي التي تتخذ من الوسطية منهاجا لها في كل أمورها وجميع أحوالها في ملبسها ومسكنها ومأكلها وحياتها كلها فلا إسراف ولا تبذير وفي نفس الوقت لا تقتير وتضييق فهي تخرج بلباس لائق بها كداعية غير متبرجة ولا مغالية فيها وفي نفس الوقت لا تكون متبذلة مهملة.
تلك أمور سريعة متعلقة بالمرأة المسلمة الداعية إلى الله فهل يعي نساؤنا قيمة هذا الأمر ويحرصن عليه؟!!
===============
دور الشباب في الحركات الإسلامية
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الأولين والآخرين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
فإن الله سبحانه وتعالى ، قد جعل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الشرائع الإسلامية ، ورضي الإسلام دينا لخير أمة أخرجت للناس ، كما بعث الرسل بدين الإسلام وجعله المرضي له ، دون غيره من الأديان ، قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } وقال سبحانه وبحمده : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وقال عز وجل : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }.
فالكمال الذي من الله به في الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم موجود في أوامرها ونواهيها وسائر أحكامها ، من تحقيق لكل ما تحتاجه النفوس وتتطلبه المجتمعات مهما جد في حياتها من مؤثرات أو ظهر من اختراعات .
وذلك أن بعض ديانات الأرض اليوم المخالفة للإسلام لا يجد المتمعن في معتقداتها ما يتلاءم فكرا وعملا مع متطلبات ومظاهر حياة هذا العصر ، ولا ما يريح النفوس من المؤثرات المحيطة ، فنشأ لديهم رغبة بفصل الدين عن الدولة في مثل قولهم : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله .
لكن الموضوع في الإسلام يختلف؛ لأن النفوس عندما تشعر بالأزمات تنتابها ، وبالمشكلات تحل قريبا منها ، تجد في دين الإسلام وتشريعاته الراحة والمخرج . وكلما بعدت عن دين الإسلام وضعف وازع الإيمان فيها كثرت الهموم في النفوس وتعددت المشكلات في المجتمع . وهذا ما يسمونه في العصر الحاضر : القلق النفسي .
وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره وشرائعه النفوس ، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان .
حماس الشباب وحكمة الشيوخ
والشباب في أي أمة من الأمم ، هم العمود الفقري الذي يشكل عنصر الحركة والحيوية إذ لديهم الطاقة المنتجة ، والعطاء المتجدد ، ولم تنهض أمة من الأمم غالبا إلا على أكتاف شبابها الواعي وحماسته المتجددة .
إلا أن اندفاع الشباب لابد أن تسايره حكمة من الشيوخ ، ونظرة من تجاربهم وأفكارهم ولا يستغني أحد الطرفين عن الآخر . وإن أمة الإسلام ، وهي أمة الرسالة الباقية ، وذات الصدارة بين الأمم عندما أكرمها الله بهذا الدين ، وببعثة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، كان للشباب فيها مكان بارز في ركب الدعوة المباركة ، كما كان للشيوخ مكان الصدارة في التوجيه والمؤازرة . وانطلق الجميع بقيادة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، يؤسسون دولة الإسلام الأولى والتي امتدت إلى آفاق بعيدة ، ورفرفت راية الإسلام عالية فوق غالب المعمورة ، في عصور الإسلام المختلفة التي كان الشباب في الطليعة يذودون عن حياض الإسلام ، ويدافعون عن ديار المسلمين ، باليد واللسان ، علما وعملا . ففي الوقت الذي كانوا يتقدمون فيه صفوف الجهاد لإعلاء كلمة الله كانوا أيضا يتزاحمون بالمناكب في حلقات العلماء وجلسات الشيوخ ، يلتقطون الحكمة من أفواههم ، ويستنيرون بما عندهم من علوم ، ويتلقون منهم النصح والإرشاد ، ويستفيدون من ثمرة جهودهم وتجربتهم لمناهج الحياة المقرونة بالتطبيق العملي للإسلام وشرائعه .
وكان من الشباب القادة لألوية الجهاد ، والمندفعون لتبليغ دين الله ، والذين سارت الجيوش الإسلامية تحت ألويتهم ، وحقق الله النصر المؤزر على أيديهم . وتاريخنا الإسلامي حافل بالشباب المجاهد العامل والشيوخ المجربين المجاهدين رحمهم الله .
استمرار العطاء(5/33)
ولقد استمر الشباب المسلم في عطاء الخير المتجدد في الحروب الصليبية في الشام والأندلس وغيرها من المواقف التي يتصادم فيها الحق بالباطل حتى اليوم ، فغاظت تلك الحماسة أعداء الإسلام ، حيث سعوا إلى وضع العراقيل في طريقهم ، أو تغيير اتجاههم ، إما بفصلهم عن دينهم أو إيجاد هوة سحيقة بينهم وبين أولي العلم ، والرأي الصائب في أمتهم ، أو بإلصاق الألقاب المنفرة منهم ، أو وصفهم بصفات ونعوت غير صحيحة ، وتشويه سمعة من أنار الله بصائرهم في مجتمعاتهم ، أو بتأليب بعض الحكومات عليهم .
كل هذا قد يؤدي بالتالي إلى ظهور حركات تتسم بطابع الوقوف من المجتمع والقيادات ، موقفا قاسيا ومضادا ، قد يصل إلى نوع من المواجهة في بعض الأحيان ، أو العمل السري الذي قد يخالطه ما يشينه ، أو يغير من مجراه الطبيعي . وإلى جانب هذا يرى في العالم بأسره حركات إسلامية ، قد ظهرت على السطح ، وبعضها في أمريكا وأوروبا ، تتفهم الإسلام ، وتدعو إليه ، وترى فيه العلاج لما في العالم من قلق ومشكلات أهمها جنوح الشباب ، والمؤثرات فيهم .
هذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير ، وأفعال مؤثرة ، تدعو للتبصير والمؤازرة ، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة . وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادي به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم ، ولا يسير وفق منهج الإسلام .
وقد كان لهذا النوع ، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب ، وإقامة كثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى ، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي والمنبر ، والمحاضرات ، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها من عدة أقطار ، فيتذكرون علوم دينهم ، ومشكلات مجتمعهم ، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }.
ثم يحرصون على تنظيم أوقات الفراغ في العمل المثمر وقد استغل الغربيون والشرقيون هذا الفراغ في أعمال مختلفة ، فلم تحقق النتيجة المرغوبة لامتصاص طاقة الشباب ، وتوجيههم .
الشباب المنضبط
إن دور الشباب المسلم الذي يسير وفق تعاليم الإسلام ، دور عظيم في إصلاح النفوس وتوجيه المجتمع والمحافظة على سلامته وأمنه ، لا ينكره إلا أعداء الإسلام، الذين يدركون مكانة الإسلام ، وسموه في استجلاب من يرغب ، منصفا في طريق العدالة ، والأخلاق الكريمة والاستقامة والتوازن في البيئة ، والأمن والاستقرار في المجتمع .
وإن من أهم ما يجب ملاحظته ، ونحن نتحدث عن دور الشباب في الحركات الإسلامية قديما وحديثا ما يلي :
1- العناية بالشباب منذ نعومة أظفارهم ، وذلك بتوجيههم الوجهة الإسلامية ، والاهتمام بمناهجهم التعليمية ، وإبعاد المؤثرات الضارة بأخلاقهم ، والعمل على ربطهم بدينهم وبكتاب ربهم ، وسنة نبيهم ، وأن يعنى العلماء ورجال الفكر الإسلامي باحتضانهم وتقبل آرائهم واستفساراتهم ، وإرشادهم إلى طريق الحق والصواب ، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن لاستعدادهم لتقبل التوجيه ، من منطلق الرأي الصائب ، الذي يحدده الإسلام ، ويحث عليه .
2- الحرص على إيجاد القدوة الحسنة في المدرسة والبيت ، والنادي والشارع وفي أسلوب التعامل ، وعدم وجود المظاهر المنافية للإسلام ، والتي قد تحدث لديهم شيئا من الشك والريبة أو التردد في القبول ، أو اعتزال المجتمع ، والشكوك فيه ، بدعوى أنه مجتمع غير مطبق للإسلام يقول أبناؤه بخلاف ما يعملون . وبهذا كله يحصل الانفصال ، وتحدث التصرفات المتسرعة غير المنضبطة ، والتي تكون نتائجها غير سليمة على الفرد والمجتمع ، وعلى العمل الإسلامي . ولا تعود بالفائدة المرجوة على الشباب أنفسهم .
3- عقد لقاءات مستمرة مع الشباب ، يلتقي فيها ولاة الأمر والعلماء والمسئولون في البلاد الإسلامية بالشباب تطرح فيها الآراء والأفكار ، وتدرس المشكلات دراسة متأنية وتعالج فيها القضايا والمسائل التي تحتاج إلى جواب فاصل فيما عرض ، حتى لا تتسرب الظنون الخاطئة وتتباعد الأفكار ، وينحرف العمل الإسلامي الذي يتحمس له هؤلاء الشباب ، لغير الدرب الحقيقي ، والمنطلق الذي رسمته تعاليمه . وتتم هذه اللقاءات في جو من الانفتاح لإبداء الرأي المتسم بالأخوة والمحبة والثقة المتبادلة بعيدا عن التعصب للرأي ، أو التسفيه للآراء ، أو تجهيل الآخرين .
إن الشباب بتوجيههم ورعايتهم ، مثل النبتة إذا أحسن الزارع رعايتها نمت وأثمرت ، وإذا أهملت تعثر نموها وفقد الثمر منها مستقبلا . والشباب فيه طاقة حيوية ، يحسن الاستفادة منها وتنميتها ، وأسلم منهج في الحياة يربط الشباب بدينه وعلمائه وأمته وبلاده ، هو منهج الإسلام . فكلما ابتعد الشباب عن منهج دينهم الواضح ، وسلكوا طريق الغلو أو الجفاء ، أو التشدد والانعزال فإن النتائج ستكون وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وإن مسئولية ولاة الأمور : من قادة وعلماء ومفكرين ، مسئولية عظيمة ، في الأخذ بأيديهم ورعايتهم وتوجيههم نحو منهج الإسلام ، وتوضيحه لهم ، ليأخذوه ، منهجا وسلوكا ، وليسيروا وفق تعاليم شريعته ، قدوة وتطبيقا .
وهذا من أوجب الأمور وأكمل العلاج ، وهو من باب النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم الذي به يكتمل الإيمان ، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .(5/34)
كما أن ترك الشباب عرضة للأفكار الهدامة ، والتصورات الخاطئة وعدم الأخذ بيده ، وتفهم آرائه وأفكاره ، والإجابة عن كل تساؤلاته ، وإيضاح الرأي الصحيح أمامه قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه . فالواجب الأخذ بيده ليتجنب كل ما يضر ويسلك ما ينفع ، كما فعل سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وفي عصور التاريخ المختلفة حيث لم يحدث ردود فعل ذات خطر على الفرد والجماعة . فليتعاون ولاة الأمور كبارا وصغارا ، علماء ومتعلمين ، مفكرين ومسئولين ، مع الشباب في البيوت والمدارس ، وفي المجتمعات والجامعات ، كل هؤلاء يتعاونون على إرشاد الشباب وتوجيهه ، وتهيئة الأجواء السليمة له ليبدع فيها ، في ظل العقيدة الإسلامية السمحة منهج الإسلام الحكيم . والله نسأل أن يوفق أمة الإسلام شيبا وشبابا ، قادة وشعوبا ، إلى العمل بما يرضي الله توجيها وتبصيرا وعملا واقتداء ، وأن يصلح القلوب والأعمال ، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ــــــــــــــــ
كتاب: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة
الشيخ: عبد العزير بن باز
==============
الدعوة الفردية آمال ونصائح 1ـ2
إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى سمة من سمات المسلم لمحض كونه مسلما، وهي ضرورة من ضريات هذا الدين ، ونحن هنا نريد أن نفعّل دور المسلم في البنيان الدعوي، لنجعل مصير الدعوة هما مشتركا بين جميع المسلمين، فالمتصور أن الصراع بين الحضارات الآن يأخذ طابع الصراع المصيري الذي هو أشبه ما يكون بميدان حرب تستخدم فيه كل الأسلحة، ومثل هذا الصراع المصيري الذي يكون شعاره : نكون أو لا نكون، لا بد أن يتحمل كل فرد منتمٍ لحضارة ما مسؤوليته في الدفاع عن مصيره بل وجوده، ولم يعد الأمر مجرد دفاعات جماعية حول الحصون المغْزُوَّة من كل جانب. وعصرنا الذي نعيشه الآن يحمل هذه السمات، لذا كان لزاما أن تتفاعل جهود كل المسلمين للذب عن دينهم والقيام بأمره. ونحن لا ننتظر من مسلمي البطاقات شيئا، ولكننا ننظر بعين الأمل، ونرقب بهاجس الاستبشار إلى من خالط الإيمان بشاشة قلبه، واحترق ألما لما يراه من مكر الليل والنهار، والكيد العظيم الذي يكاد للمسلمين في كل بقاع الأرض .
إلى مثل هذا الغيور نمد أيدينا وننادي عليه أن هلم إلى القافلة، وبادر إلى تسجيل نفسك في كتيبة المدافعين عن حياض الدين، ولا تكن كالمخلفين الذي فرحوا بمقعدهم خلاف ركب الإيمان، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، ذرهم في ريبهم يترددون وانهض بهمة المجاهد إلى منادي الفلاح، واجعل الإيمان من خير العتاد .
مشروع العمر
إننا نتصور أن كل ذي همة يستطيع أن يقيم للإسلام صرحا لو أنه ساهم بجهد قليل في الدعوة إلى الله، ونحن نضع بين يديك ـ أيها الغيور على دين الله ـ هذه الطريقة وهذه الأفكار لنقطع عليك المعاذير، ونلجم إرادتك بلجام العزيمة القوية، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين .
المسلم موجود في كل مكان على هذه الأرض، من صحارى إفريقيا إلى ثلوج سيبيريا لا يكاد يخلو منه مكان.. ونريد من ذلك المسلم أن يقوم بوظيفة واحدة، سهلة يسيرة، نريده أن يتبنى قضية من القضايا يحسنها ويتقنها، تكون محور دعوته، يحمل همها يجول بها ويصول، ويفكر لها ويدبر ويخطط، يجوب بها البلاد، ويدعو إليها العباد ويحدد على ضوئها أهدافه ويصيغ حسبها طرقة حياته فهي وحدها محور دعوته.
عالم خصيب ويسير
إن الدعوة الفردية عالم خصب من الجهود والأفكار والأعمال، وأكثر ما يمتع فيه أنه سهل التنفيذ سريع الأثر . وهذان هما المقصدان الأساسان في الدعوة الفردية .
إن الدعوة الفردية ليست تربية عميقة الأثر، ولكنها رسالة متنقلة يحملها الداعية الميداني إلى كل مكان، إنه لن يعاني كما يعاني المربي، لأنه ليس مخاطبا بالنتيجة ومحاسبا عليها كذاك، ولكنه يحمل قضية الإسلام كدين يجوب بها في كل مكان، إنه يخاطب كل البشر، يدعو كل الطوائف، ينصح كل الناس، يحاور كل الأجناس، يتداخل مع كل الأنواع والأصناف . عدته ما تعمله من العلم ولو كان قليلا، فهو ينصح من يراه لا يصلي لأنه يعرف أن ترك الصلاة من كبائر الذنوب، ويزجر شارب الدخان لأنه علم دليل حرمته، ويحارب المخدرات ومن يتاجر فيها لأنه تبين له وجه الخطر والشر على المجتمع منها، يواجه التبرج والسفور باعتباره رذيلة تهدد عفة المجتمع ومثله، يجابه الانحلال في أجهزة الإعلام لأنه يعلم خطر ذلك على البناء الخلقي للمجتمع .
إن مثل هذه القضايا يحملها كل مسلم أينما حل أو ارتحل، ونحن نطالب كل مسلم ألا يقف موقف المتفرج، بل يبادر إلى الصدع بالحق في كل ميدان، ليحاور زملاءه: في العمل، ليحاور المدرس تلاميذه، ليحاور طالب الجامعة أصدقاءه، ليحاور الراكب في المواصلات من معه من الركاب، ليحاور المسلم أقرباءه في كل زيارة أو مناسبة اجتماعية، ليحاور المسلم كل من حوله من الناس .
إن هذه الدعوة الدؤوب هي التي ستجعل الإسلام قضية المجتمع، وهي التي ستحيي في الناس عاطفة التدين، وتصرف اهتماماتهم إلى المعالي، ومثل هؤلاء الدعاة في كل ميدان هم الذين يحددون للمجتمع أولويات اهتماماته، وهم الذي يصوغون الرأي العام إن جاز التعبير .
إياك واليأس
إن المطلوب من المسلم الذي يمارس الدعوة الفردية ألا ييأس من النتائج، وألا يقنط من التخاذل، فهو لا يدعو ليهدي، ولكنه يدعو لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى .(5/35)
إن المتصور في هذه الطريقة أن نستثير اهتمامات الناس بالدين، لا أن نصل بهم إلى نقطة معينة في الالتزام بالدين، فالعملية الدعوية التي تفرز إنسانا ملتزما بالدين عملية معقدة، وهي أشبه بالدورة التي يلتقط فيها المدعو من كل بستان زهرة حتى تتكون لديه باقة من الأزهار إن أعجبته جمعها وزين بها بيته، فيعلم الداخل أن ذلك المدعو قد أعجب بتلك الأزهار، إذ لو لم تعجبه لما زين بها بيته، وقضايانا التي ندعو الناس إليها أشبه بتلك الأزهار، فيتلقى المدعو زهرة في مكان عمله، حتى إذا ركب وسيلة المواصلات وجد من يقدم له زهرة أخرى، فإذا أفضى إلى الشارع الذي يسكن فيه وجد من جيرانه من يقدمه له أخرى، ثم إذا عرج على دكان ليشتري شيئا وجد داعية في الدكان يهديه زهرة رابعة، ثم إذا دخل البيت قد يجد ابنه الملتزم يبادر إليه بزهرة خامسة، ثم تتوالى الأزهار على ذلك المدعو حتى تتم الهداية بتوفيق الله تعالى .
إن هذه الصورة التي رسمتها لك - أيها الأريب - هي أقرب ما تكون للواقع الذي نعيشه ونحياه، فالناس من حولنا يرون بساتين الصحوة في كل مكان، منهم من يجفل ويخاف، فيرقب من بعيد، فهذا يحتاج إلى تشجيع، ومنهم من يشك ويظن الظنون، فهذا يحتاج إلى إقناع، ومنهم من اقتنع ولكنه واهن العزيمة فهذا يحتاج إلى دفعة، ومنهم من اقتنع واندفع ولكنه انتكس وملّ، فهذا يحتاج إلى شحنة.. وكلما تعمقت في فهم أسرار الحركة الاجتماعية الدعوية ستعلم أن الدعوة الفردية من أكثر طرق الدعوة تأثيرا في المجتمع.
ــــــــــــــ
"30 طريقة لخدمة الدين"
===================
الدعوة الفردية آمال ونصائح 2ـ2
في كتابه "صناعة الحياة" ذكر الشيخ الراشد أنه: "في أواخر القرن السابع عشر تقريبا دفع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بمحام يسمى هيوستن إلى مقاطعة من المقاطعات المجاورة للولايات المتحدة ، وقال له : إن أمريكا تحتاج إلى تلك المقاطعة ، وليس عندي من مال ولا عتاد ما أمدك به لتأتي إلي بهذه المقاطعة ، فجمع هيوستن ثيابه وذهب إلى تلك المقاطعة واستأجر مكتبا للمحاماة ، وفي بضع السنين عبر محاوراته ومقالاته في الصحف ومداولاته مع الوجهاء أقنع شعب تلك المقاطعة أن يطالب الانضمام إلى الولايات المتحدة ، وقد حدث المتوقع وتم الاستفتاء ، وضمت تلك الولاية التي سموها بولاية هيوستن امتنانا لجهود ذلك المحامي الذي لم يطلق رصاصة واحدة في سبيل ضم مقاطعة تعادل مساحتها مساحة نصف مساحة فلسطين تقريبا". فهل من مدكر ؟!!.
من خلال هذا الحدث تعلم قيمة الدعوة الفردية ومدى ما يمكن تحقيقه من خلالها ، وأنها يمكن أن تكون من أكثر طرق الدعوة تأثيرا في المجتمع .
ومن أراد أن يتصدى لهذا النوع من طرق الدعوة أو أن يحترف هذا السبيل وأن يتصدى لهذا الباب أن يتسلح بعدته، والتي أهمها الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
والحكمة وضع الأمور في نصابها ، والموعظة الحسنة هي التي لا غلظة فيها، والجدال بالتي هي أحسن هو ما كان مثمرا، لا الجدال العقيم الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه وحذر منه بقوله: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا) وحمله العلماء على الجدال غير المثمر .
وصايا هامة
وهذه بعض الوصايا نسوقها إليك لاعتقادنا الفائدة فيها، وأنها من الأهمية بمكان حتى تستطيع ممارسة دعوتك بصورة أفضل :
أولا : اقتنع بالقضية واعتبر نفسك الجندي الوحيد في الميدان ، وأن معركتك مع شيطان الهوى سيحسم بمجهودك .
ثانيا : تبرأ من حولك وطولك واستيقن أن الهداية بيد الله عز وجل .
ثالثا : اختر الزمان والمكان المناسب ، إلا في بعض الحالات التي تقتضي الصدع بالحق خوف فوات الفرصة
رابعا : الأصل في سمتك الهدوء والابتسام ، فإذا احتجت إلى التجهم لصرامة الموضوع فلا بأس ، شريطة ألا يؤول ذلك إلى التنفير ، وأنت خبير بردود أفعال من أمامك .
خامسا : تكلم في المنكر الحالّ ، وتجنب النصح في أمور لا تعلم عن حال المدعو فيها شيئا ( إلا إذا كنت تعلم من المدعو أمرا بعينه يحتاج إلى النصح فيه ) ، فإذا رأيته يدخن فلتكن نصيحتك عن حرمة التدخين ، ولا تكلمه عن غض البصر مثلا حال كونك لا تدري : هل هو ممن يغض البصر عن المحرمات أم لا ؟
سادسا : الدعاة يتكلمون بلسان الشرع ، فلا بد من النطق بأحكام الشرع لا أحكام العرف ، فلا يناسب أن تنصح متبرجة قائلا إن السفور عيب ، بل يجب أن تعلم حكم الشرع فإن جهلته بينتَه لها .
سابعا : التنويع بين الترغيب والترهيب: فإن التخويف بالنار قد لا يصادف محلا عند البعض فلا بأس أن تميل بهم إلى الحديث عن البشارة ، وما أعد الله للطائعين ، ثم تردف ذلك بلفحة من نار جهنم .
ثامنا : البساطة والرشاقة : كن بسيطا في حديثك ، وتجنب التفيهق والتقعر واستخدام غريب الألفاظ والمعاني ، ومن لوازم الدعوة الناجحة رشاقة العرض ، ويكون ذلك بالتناسق بين تعبير الوجه ومعاني الكلمات وحسن المنطق وعدم التكلف في حركة الشفتين ولفظ الحروف ، وكذا التناسق بين تعبير الوجه ومعاني الكلمات مع حركة اليد ، ولتحرص على تناسب إشارة اليد مع حركة اليد لتكون معبرة عن ثقة في المتحدث وجدية في الحديث ، ويناسب عند الحديث عن الأمور الصارمة مثلا أن يشير بقبضة اليد ، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد على هذا المعنى .
تاسعا : ركز نظرك في وجه من تحدثه ، فللعين جزالة في التأثير وتعبير عن الصدق يفوق ما في فصيح الكلام .(5/36)
عاشرا : لا تهجر نصوص الوحي المطهر عندما تحدث الناس ، فإنهم مخاطبون بكلام ربهم بالأصالة ، وليس بكلامك ، فاستيقن إذا أن في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من البركة في التأثير أكثر مما في كلامك .
الحادي عشر : لا تكثر من الكلام عن نفسك وعن غيرك ، فتقول أنا وفلان ، وفلان وأنا ، بل حاول أن تجعل من تحدثه في محل اهتمامك نظرا وحديثا ، فحاول إذا أن تستغل خصلة فيه محمودة فتمدحه عليها مكتسبا وده وإعجابه .
الثاني عشر : حاول أن ترطب الحوار ببعض الفكاهة إن اقتضى المقام ، وخاصة إلى احتدم الحوار، وذلك للإبقاء على ركن المودة الذي هو بابك إلى قلبه .
الثالث عشر : لا تجعل القيادة للحوار بيد أحد غيرك ، فإذا حاول أن يصول بك ويجول فالزم نقطة الحوار ولا تتشتت في أودية الحديث ، حيث لا جدوى من جراء ذلك إلا الجدال العقيم ، وقد علمت حكمه .
الرابع عشر : حاول أن تركز في موضوعك ، وأن تسوق له من الأدلة والشواهد الشرعية والمنطقية ما تغزو به ضميره ، فإذا احتللت مكانا في القلب فحافظ على هذا المكان ثم ابدأ هجومك الكاسح من ذلك الموقع (لا تتراجع أو تتأخر إلى مواقع سابقة).
الخامس عشر : حاول أن تستخلص من كلام من تحاوره ما يفسده ، مع التلطف في بيان وجه الاستدلال ، مبتعدًا في كل ما سبق عن حب الظهور والرياء والاستعلاء .
السادس عشر : ألا فاعلم أنك تتكلم بلسان الحق ، فاجعل له هيبة ووقارا ، وأحسن عرض ما عندك من الحق ، يزهد الناس في ما في أيديهم من الباطل ، واصبر على أذى لاحق من عنت من تدعوه فهذا ثمن الهداية ( لعلك باخع نفسك على آثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) .
كما ينبغي أن تعطي الاحترام المناسب بمقام وعمر من تحدثه ، فلا يناسب أن ينصح الصغير الكبير دون أن يضمن نصيحته بالغ التوقير وفائق الاحترام .
آثار مرجوة
وبعد قراءتك لهذه الوصايا ستحصل ما يلي - إن شاء الله - :
(1) الثقة بالنفس ، والثقة في الله .
(2) الاستعداد وعدم الارتجال .
(3) الهدوء والروية وعدم الاستعجال .
(4) التركيز وعدم التشتت وراء الموضوعات الفرعية .
(5) تلخيص نتائج دعوتك للخروج بفائدة واضحة .
وبعد أيها الداعية الأريب .. فإن للدعوة الفردية حديثا ذا شجون، وإنما ذكرنا هنا رؤوس الأقلام ، واختصرنا المقاصد لتكون منها على ذكر.. والله المستعان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف من كتاب "30طريقة لخدمة الدين"
================
أترضاه لنفسك ؟.. ومعالم في التربية
كان محمد بن واسع يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه .
هذه الحادثة قمة في المعاملة التي تكون بين الإخوان وخاصة الدعاة إلى الله - سبحانه وتعالى-، وهذه إشارة من محمد بن واسع إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضاه لنفسه.. وكذا المعاملة، فبعض الناس يحب أن يعامله الناس بأحسن الأخلاق وأجلها، وأن يتلطفوا معه في المعاملة وأن يضعوه في مكانه اللائق به، وفي المقابل تجده لا يهتم في معاملته لإخوانه بالحسنى كما يهتم في أن تكون معاملة غيره له على أحسن حال وأفضل مقال.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: "إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون ما أعلم" .
ولقد جاء معنى ما أشرنا إليه من عنوان هذا المقال في حديث عن النبي في أن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
فالمتأمل في هذا الحديث، يجده قاعدة عظيمة تنبع من خلالها كثير من الأخلاق، ولذلك كان كلام النبي - صلى الله عليه وسلم- من جوامع الكلم.
إن من يعامل لناس على أساس أن يحب لهم ما يحب لنفسه تماماً فإنه سيعاملهم حتماً بكل خلق رفيع، لأن هذا هو ما يجب أن يعامله الناس به إذ يحبه لنفسه. ومن هنا يجد نفسه مثلاً مدفوعاً إلى الصبر على أخيه المسلم كلما دعت ظروف التعامل إلى الصبر، لأنه يحب من الناس أن يصبروا عليه، كلما بدر منه ما لا يقبله الناس إلا بصبر.
ويجد المسلم نفسه مدفوعاً إلى العفو والصفح والمسامحة والإغضاء عن الهفوات والسيئات، كلما وجد من إخوانه ما يسوؤه من تصرفاتهم معه، لأنه يحب من الناس أن يعاملوه بالصفح والعفو والمسامحة والإغضاء عن الهفوات والسيئات، كلما بدر منه من تصرفات تسوء إخوانه. وكذلك أنواع المعاملة من ستر العيوب والنصح سراً وكره الغيبة فهو يحب أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به.
ارتباط الحديث بالإيمان :
فالإيمان لا يبلغ حقيقته ونهايته وكماله إلا بعد أن يتحقق مثل هذا الحديث في المسلم، فالإيمان قد ينتفي لانتفاء بعض أركانه .
ففي رواية خرّجها الإمام أحمد -رحمه الله-: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير". وهي تدل على أن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان وحلاوته ولذته حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الأخلاق والمعاملة الحسنة. وفي تطبيق هذا الحديث ما يبشر بدخول الجنة والبعد عن النار كما في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله عز وجل ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه" . فحري بالمسلم الداعية إلى الله أن يستنفره مثل هذا الحديث لأن تكون معاملته حسنة مع إخوانه كما يحب ذلك منهم.
الأسباب التي تمنع من هذا الخلق :
أولاً: الحسد :(5/37)
يقول ابن رجب - رحمه الله-: وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد عنهم، ورحم الله ابن عباس - رضي الله عنهما- حيث يقول: إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون ما أعلم منها . وقال الشافعي: وددت أن الناس تعلموا هذا الدين ولم ينسب إلي منه شيء .
فالحاسد تجده يحب أن يعامله الناس بأحسن المعاملات فيريد منهم خلقاً رفيعاً، وتذللاً، وانبساطاً وعدم تتبع لزلاته على الرغم من أنه قد أشهر سيف المعاملة السيئة، والتكبر، والأنانية، وأخذ بعد فترة يكتب ويدون زلات إخوانه.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكنَّ عين السخط تبدي المساويا.
والإيمان يقتضي خلاف ذلك وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء. والحاسد ليس يحسدك على عيب فيك، ولا على خيانة ظهرت منك، ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء.
قال العتبي:
أفكر ما ذنبي إليك فلا أرى ... لنفسي جرماً، غير أنك حاسدُ .
فنعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد.
ثانياً:الكبر :
قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً). فبطر الحق وغمط الناس واحتقارهم وازدراؤهم يجعل المسلم يعامل إخوانه المعاملة السيئة مما يدعو إلى المعاملة بالمثل.
"فمن تواضع لله رفعه" وهذا من سنن الله في عباده، كما أن من استكبر وتعالى على خلق الله أذله الله. فالمستكبر يرفع نفسه فوق مستوى جلسائه، فيعيش وحده في جوه النفسي المتعاظم، ولا يحب أن يفوقه أحد، وربما يكون ترفعه إلى مكانة ليس هو في الحقيقة أهلاً لها.
وأخيراً إن الناقد البصير قد يجد في واقع الدعاة إلى الله -عز وجل- وما يحدث بينهم من الهجران والقطيعة والمعاملة التي لا تليق بأمثالهم - ولعل مرجع ذلك إلى عدم التدبر لمثل هذه الأحاديث النبوية التربوية التي تجعل القلوب صافية، والمحبة وافرة، وتجد التعاون بين الدعاة إلى الله -عز وجل- على أحسن حال.
=============
المصلحون يصنعون الفرص
من مسؤولية الإنسان في الحياة أن يأخذ بأسباب النجاح، ويتعرف على سنن الله في خلقه، ويسعى للأخذ بها. والمصلحون المتقون من أولى الناس بمعرفة سنن الخالق تبارك وتعالى؛ فهم أعلم الناس به، وهم الذين يدلونهم على طريقه.
إن ضخامة متطلبات التغيير لن تُواجه ببذل المزيد من الجهد البدني فحسب، ولا بزيادة رصيدنا ممن يتحدثون ويخطبون؛ إنما تواجه بعقول تعيش تحديات عصرها؛ فلن ينجح في زحمة هذا العصر ومتغيراته إلا من يملك الروح الإيجابية المنتجة، والقطار لن ينتظر الذين يسيرون ببط، ويتطلعون أن يُفتح لهم الطريق.
وبقدر ما تتسارع المتغيرات وتتعقد عناصر الحياة تزداد الفرص؛ فالحياة أوسع من أن يتحكم بها حفنة من البشر، والميدان لم يعد ذلك الذي يسيطر عليه فئة دون أخرى، ولن يكون بمقدور كائن من البشر أن يرسم الخطوط والحدود للناس فيما يأتون ويذرون.
فالمصلح الإيجابي هو من يسعى لاغتنام الفرص حين تتاح أمامه، وله أسوة بإمام المصلحين صلى الله عليه وسلم، فقد كان هذا شأنه وديدنه. فحين جاءت امرأة من السبي تحتضن صبيها ذكّر صلى الله عليه وسلم أصحابه برحمة الله لعباده.
وحين يكون مع أحد أصحابه يعلمه ويوصيه، وحين يكون الموقف مؤثرًا يعظ أصحابه كما في حديث البراء بن عازب المشهور.
إن الذين يثمِّنون الفرص لا يقف الأمر لديهم عند مجرد اغتنامها حين تتاح، بل هم يبادرون؛ لأنهم يدركون أنها لا تدوم.
وقد أوصى صلى الله عليه وسلم أمته بذلك فقال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".
وهاهو يوسف عليه السلام حين عبّر رؤيا السلطان وأخبر أنهم أمام سبع سنين من الرخاء، وسبعٍ من الشدة أمرهم أن يغتنموا فرصة الرخاء ليدخروا لسني الجفاف.
والمصلح الإيجابي يتجاوز مجرد اغتنام الفرص التي تتاح له ليبحث عنها ويفتش، وهاهو صلى الله عليه وسلم في سيرته يغتنم فرص اجتماع قومه ليدعوهم، ويبحث عن فرص أخرى ليدعو غيرهم، فقد كان يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنَّة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة.
وحين لا يجد المصلح فرصة سانحة أمامه، ويفتش يمنة ويسرة؛ فإنه يسعى لأن يوجد الفرصة؛ فالحاجة أم الاختراع، ولن تعجز عقول المصلحين عن أن تهيئ الفرص وتوجدها، فها هم صناع السلاح والمتاجرون به حين تكسد سوقه يفتعلون المعارك والحروب ويؤججون نارها ليروجوا بضاعتهم، وهاهم أصحاب رؤوس الأموال يُغرقون الناس بالدعاية لمنتجاتهم حتى يوجدوا فرص تسويقها.
وقديمًا كان الصياد حين لا تتاح له فرصة اجتماع الطير يلقي له طُعمًا حتى يجتمع فيصيده.
والمصلحون الإيجابيون لا يقف جهدهم عند ذلك فحسب، بل هم يبحثون في المواقف السيئة، ومن بين الصور المظلمة يبحثون عن النور والضياء، إنهم حين تحل المحن والنكبات، وحين يتشاءم الناس مما أمامهم يتلمسون الصور المشرقة، ويبحثون عن الثغرات ليستثمروا الواقع الجديد.
حين يقع الابن في معصية أو مصيبة؛ يستثمرها والده العاقل لتكون منطلقًا لنصحه وإصلاحه.
ومهما كانت الأحوال سيئة ومظلمة؛ فالأوضاع الجديدة تحمل في طياتها العديد من الفرص التي يمكن أن يستثمرها العقلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد بن عبد الله الدويش
==============
التعليم والتذكير(5/38)
الاهتداء إلى الحق نعمة جزيلة ، وانشراح الصدر به خير عزيز ، وأول ما يجب على أصحاب الحق - وقد عرفوه - أن يفتحوا عيون الآخرين على ضوئه ، وأن يعرفوا الجاهلين به ، وأن يجعلوه في الحياة واضحًا كشعاع الشمس ، شائعًا كأمواج الهواء ، ذاك ما يفرضه الحق على أصحابه . ألا يجعلوه عليهم حكرًا ، وألا يحرموا من نفعه أحدًا ، وألاَّ يدعوا نفسًا تعيش بعيدة عن هداه ، وليس ذلك - بداهة - عن طريق القسر ، بل عن طريق لفت الأنظار وإيضاح الخلفي وشرح المبهم ، فإن فتك الجهل بالناس ذريع ، وغلبة الأوهام على أفكارهم تذهب بهم ، بددًا في كل فج ، وتخيل إليهم أنهم على صواب ، والواقع أنهم موغلون في الضلال ، والسر هو الجهل ، الجهل بأقسامه كلها ، من بسيط ، إلى مركب ، إلى جهالة الطيش والهوى ، والعالم بحاجة ملحة إلى أن ينشط أهل الإيمان الصحيح لشرح أصوله وإبداء صفحته ، ودحض الشبه المثارة حوله ، واستخراج الجهال من الكهوف المطروحين بها لتمتلئ صدورهم بأنفاس الحقيقة الرحبة .
لقد تدبرت أفكارًا وسيرًا شتى لجمهور من العصاة والأراذل ، فوجدت أن الجهل الفاضح ينسج حولهم غلالة قاتمة ، ويذرهم أشبه بقطعان الدواب في قصور الإدارك ، وعوج العمل ، وشدة الغفلة ، وانظر ما يفعل الله لنبيه إذ بعثه في العرب الأولين : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )( يس :6 - 9 ) ، هذه صورة مجتمع محبوس وراء جدران معتمة لا يتسرب منها بصيص نور ، ومن ثم نرى أصحابه صرعى الذهول والجمود ، وعلاجهم - ولو لينقطع العذر - أن تزاح تلك السدود ، وتذوب هاتيك القيود ، ويسلط على عقول هؤلاء وقلوبهم فيض من الوحي ، ينقلهم من حال إلى حال .
إن حاجة البشر إلى العلم الكثير كحاجة الأرض المجدبة إلى الغيث الهاطل ، ولابد أن يُسَخِّرَ الدعاة جميع وسائل التعليم والإيقاظ ، كي ينصفوا الحق ، ويوصلوه إلى الخلق .
وأمر آخر ، إن العالم نفسه قد ينسى ، وتشغله فتن العيش وصوارف اللغو عن القيام بما ينبغي منه ، وهنا يجيء دور التذكير في إبعاد سنة الغفلة عنه ، وكم من مبتعد عن الجادة تكفيه في العودة إليها همسة ناصح أو صيحة زاجر ، فإذا هو راجع إلى رشاده مستقيم على الصراط ، قال تعالى : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ )( الذريات:55 ) .
وعمل الواعظين - في أغلب الأحيان - هو ذلك التذكير النافع ، وهو تذكير لا يستغني عنه الناس يومًا ، إذ طالما يعصف النسيان بأفكارهم، ويبعثهم على السير في الحياة دون وعي أو هدف، أليست تلك طبيعة البشر؟ قال تعالى: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )( الأنبياء : 1 - 3 ) .
وإسناد اللهو والهوى إلى القلوب يومئ إلى تغلغل الصوارف عن الجد ، واستحواذها على صميم الإنسان ، والنسيان بهذه الصفة مساو للجهل، فإن نتائج " فقدان الذاكرة " هي - نفسها - نتائج عدم العلم ، ولذلك يقول الله جل شأنه: ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )( الحشر:19).
وقد تتساءل : كيف ينسى المرء نفسه لأن نسى ربه ؟ أو تقول : إنما نسى ربه لأنه ذكر نفسه ! والجواب أن المنافقين المندفعين وراء شهواتهم المستغرقين في إشباع مطامعهم ورغائبهم لا يذكرون شيئا من مصالحهم الحقيقية ، ولا يستفتحون طريقًا يصون لهم معاشًا أو معادًا .
إنهم يرتعون في الدنايا رتع الدواب في الربيع حتى تهلك بشمًا واعتلالاً ، والشخص الذي تصرعه أهواؤه لا يدري شيئًا عن حاضره ولا مستقبله ، ولذلك يعتبر ناسيًا نفسه ، إنما جاء نسيانه لنفسه من نسيانه لربه ، ولو ذكر حقوق الله وانتصب لأدائها لآتاه الله رشده ، وبصَّره بما ينفعه ، ويرفعه ومَسَّكه بما يضمن العافية له في دينه ودنياه .
التذكير المستمر ضرورة إذن للناس جميعًا، ما بقوا بشرًا مطبوعين على النسيان ، وما اختلف عليهم الليل والنهار ؛ ذلك أن اختلاف النهار والليل ينسى ، كما قال الشاعر : وتزداد الحاجة إلى التذكير في بيئة عن بيئة ، فالبيئة الساذجة الخشنة ليست خطرًا على العفة كالبيئة المشحونة بالمغريات المستثيرة للكوامن ، ومن ثم فنحن نرى العصر الحاضر يوجب على حملة الإيمان حراسًا أضعافًا مضاعفة من اليقظة والحماسة لحماية الدين وأخذ الناس به ، وردهم كلما طاش لب أو أفلت قياد .(5/39)
الدعوة إلى الحق واجبة في كل حين ، وهي في هذه الأيام أوجب ، والدفاع عن الحياة مطلوب ، وهو عند تحرش الذئاب ، وإحاطة الأخطار أحفز للحس وأدعى للاستعداد والانقضاض ، والسبيل إلى الله مهددة الآن بجحافل من الملحدين والفساق تجر العامة جرًا إلى الجريمة وتصرفهم صرفًا عن العبادة ، وتزين لهم بألف وسيلة ، أن يهجروا الإيمان والعمل الصالح ، وتلك حال تنفي النوم ، وتقض المضجع ، وهي حال تذكرنا بالخصائص الاصيلة في هذا الدين العظيم ، دين الإسلام ، إنه دين حريص على تجلية الحق ومقاومة الباطل ، يجأر بالدعوة ويصرخ بتوحيد الله ، ويهيب بالناس أن يقبلوا على الصلاة والفلاح بكرة وأصيلا ، دين ، ما إن يرى المنكر حتى يشتبك معه ، وينفر منه ، ويطوي الأفئدة على كرهه ، إنه دين لا يهادن الضلال لحظة . إن استطاع تغييره فعل ، وإلا ترك في القلوب فيه تغييره عند ما تسنح فرصة ، لقد زود الله هذا الدين بأسباب البقاء التي أعوزت ديانات سابقة ، فتلاشت تحت ضغط الوثنيات الجاهلة حينًا ، أو تحت ضغط الجبروت الحاكم حينًا آخر ، مصارع الديانات السماوية القديمة - لا مصارع بعض النبيين - هي التي جعلت العناية العليا تزوده بكتاب " لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظان " بعد أن بادت كتب وطمس التحريف والإفك معالمها ، وبعد أن لانت أحكامها وتعاليمها للوّضاعين وعبّاد الهوى .
وهذه التجارب القديمة نفسها هي التي جعلت الإسلام يغالي بقاعدة الأمر والنهي ، فليس الصلاح أن تعبد الله وتحيا مسالمًا لمجتمع عاهر ، هذه عبادة مزيفة ، لا تنسب صاحبها إلى تقوى ، العبادة الصحيحة هي التي تدفع صاحبها إلى إنكار المنكر على درجة ماء ، جهد الطاعة ، والإسلام دين يتحرك بالحق ، ولا يسكن به ، إن الحركة سر الحياة ، والركود طريق الموت ، ومن هنا وصفت أمة الإسلام بالخاصة الأولى في دينها ، وهي الغيرة على الحق ، وطبع الحياة الخاصة والعامة به ، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)( آل عمران:110 ) .
ومهما ساء الأمر وأظلمت الدنيا ( فلا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
===============
الدعوة إلى الله عبر الفضائيات.. بين الضوابط والمحاذير
لعل من نافلة القول أن العالم أضحى قرية صغيرة عقب ظهور وسائل الاتصال والثورة التقنية المدهشة التي باتت نتائجها واضحة على كافة أنحاء البسيطة، والحق أنه ما إن ظهرت القنوات الفضائية وانتشرت حتى بدأ يكثر الجدل حول إمكانية ظهور العلماء والدعاة من خلالها لتوجيه النصح والدعوة لعامة الناس، وعدم ترك المجال مفتوحا أما المفسدين لينشروا أفكارهم الهدامة متى شاءوا ، لاسيما وأن أغلب هذه القنوات أخذت تذيع ما شاءت دون ضوابط شرعية وأخلاقية.
ومع مرور الوقت تحول الأمر من مجرد جدل فرضي إلى مناقشات وخلافات ونزاعات قائمة في العديد من المنابر الفقهية ومراكز الفتوى وغيرها ، بناء على الظهور الفعلي لعدد من الدعاة في هذه القنوات، وأصبح طلاب العلم ما بين مؤيد ومعارض وكل له وجهة نظره.
وفي محاولة لوضع النقاط على الحروف التقت " الشبكة الإسلامية" عددًا من العلماء لعرض آرائهم حول قضية استغلال الدعاة القنوات الفضائية لنشر الدعوة إلى الله .
رسول لكافة البشر!!
قبل الخوض في الموضوع يذكرنا الأستاذ الدكتور جعفر إدريس (رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة): "بأن وسائل الاتصال الحديثة تعتبر آية دالة على صدق النبوة المحمدية، ذلك أنها جعلت بلدان العالم كلها بمثابة البلد الواحد بعد أن كانت عدة بلدان في الماضي، ويرسل لكل أمة رسول، وفي هذا دلالة ناصعة أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد أرسل رسولاً للناس كافة لا لقومه خاصة".
ويرى الدكتور جعفر أن في هذه الوسائل فرصة لنشر الرسالة المحمدية، إلا أنها في الوقت نفسه تعتبر أكبر تحدٍّ يواجه الدعاة إلى هذه الرسالة ؛ لأنها ـ كما يقول ـ " إذا كانت قد يسرت لنا إيصال دعوة الإسلام إلى غير المسلمين، فقد سهلت لغير المسلمين ـ ولا سيما الغربيين ـ إيصال دعوتهم إلينا، بل إنهم وعبر هذه القنوات وغيرها استطاعوا أن يوجدوا لهم عملاء في بلادنا، هم من بني جلدتنا ويعربون بألسنتنا، ويكتبون في صحفنا، ويتكلمون في إذاعاتنا ويظهرون في قنواتنا، ولا همَّ لهم إلا دعوتنا للسير في ركاب الغرب، وأن نستنبط من أوروبا وأمريكا نظمنا السياسية، وأوضاعنا الاقتصادية، وقيمنا الخلقية، ونظرياتنا التربوية، وأساليبنا الأدبية، ونظرتنا التاريخية، بل وتصوراتنا الدينية. وهذا كله يتطلب من الدعاة مواجهة حقيقية لمحاولة صد تلك الهجمات من جهة وإيضاح الحق للناس من جهة أخرى".
قضية شائكة!!
هذا الوضع الذي تحدث عنه الدكتور جعفر، هل يعني بالضرورة ظهور العلماء والدعاة في هذه القنوات لإيصال رسالة الحق للناس، أم أن ذلك الأمر يعد من الممنوعات نظرًا لما تشتمل عليه غالب هذه القنوات من فساد عريض وتحلل واضح وبعد عن الأخلاق والقيم بل ومحاربة الدين والتدين؟
الدكتور عبد الله اللحيدان (الأستاذ المشارك بكلية الدعوة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) يرى أن قضية خروج العلماء والدعاة في القنوات الفضائية من الأمور الشائكة التي تحتاج إلى تريث وتأمل قبل الحكم بالمشاركة فيها أو عدمها، وذلك لما تشتمل عليه هذه القنوات من مخالفات واضحة للشريعة الإسلامية.(5/40)
ويعرض الدكتور عبد الله لعدة إشكاليات تجعل مثل هذا الحكم أكثر صعوبة، فكثير من الناس يرى في خروج العلماء والدعاء في مثل هذه القنوات مبررا لمشاهدتها ومتابعتها معتبرين أن خروجهم يعني إقرارًا ضمنيا لما فيها.
والمشكلة الأخرى التي يعرضها الدكتور عبد الله هي: ما مدى استطاعة العلماء والدعاة إظهار دين الله على حقيقته في هذه القنوات، بمعنى هل بإمكانهم حقيقة بيان ما عليه هذه القنوات من مخالفات شرعية لا يقرها الدين، وبالتالي يرفضها أمثال هؤلاء العلماء، أم أن برامجهم تكون مسيّسة بحيث لا يتعرضون لمثل هذه القضايا، وهل يستطيع العلماء منع المحاذير الشرعية في البرامج التي يقدمونها، سواء ما كان يصاحب هذه البرامج من موسيقى في بداية البرنامج أو نهايته ، أو إعلانات تتخلل البرنامج قد اشتملت على ما ينافي الآداب والأخلاق، أو اختلاط يحدث .. أو غير ذلك من المحاذير الشرعية .
ثم -والكلام ما زال للدكتور اللحيدان- هل يبقى العلماء والدعاة على وقارهم ومكانتهم التي شرفهم الله بها أثناء خروجهم في مثل هذه البرامج، أم أن هذه الفضائيات تؤدي شيئا فشيئا إلى النيل من العلماء وإذهاب وقارهم وهيبتهم ، وبالتالي إلى الاستهانة بأحكام الله وشريعته.
كل هذه الأمور في نظر الدكتور اللحيدان توجب التريث التام قبل إبداء رؤية معينة تجاه هذه القضية، على أن الأمر في جملته راجع إلى تقدير المصالح والمفاسد تقديرًا صحيحًا مبنيّا على الأدلة والواقع بعيدًا عن العواطف والاندفاع والحماس.
وسيلة وليست غاية!!
أما الدكتور خالد القريشي (الأستاذ بكلية الدعوة) فيقرر أن القنوات الفضائية من الوسائل التي أنعم الله بها على عباده، فإن استغلت في الخير كان خيرها عظيما، وإن استغلت في الشر ظهر غير ذلك، وهذا هو ما يدعونا إلى القول بضرورة استغلال الدعاة لها وعدم إهمالها والبعد عنها.
ويفرق الدكتور القريشي بين نوعين من القنوات:
1- القنوات التي يغلب عليها الشر ، والمعروفة بمحاربة الإسلام والخروج على قواعده وأصوله وأحكامه، أو تلك المعروفة بترويج البدع والمنكرات.
2- تلك التي تشتمل على الخير والشر والتي ليس من أهدافها محاربة الإسلام والخروج عليه ولا نشر البدع والخرافات. فالأولى لا ينبغي للعلماء والدعاة الخروج فيها، أما تلك الثانية فيرى أهمية المشاركة فيها بما ينفع الناس ويبين لهم أمور دينهم.
ومع ما سبق، فإن الدكتور القريشي يرى أن العلماء الكبار الذين هم محل القدوة عند الناس ولهم المنزلة الرفيعة بينهم لا ينبغي لهم الخروج في مثل هذه القنوات ـ أيا كانت ـ إلا بعد أن تتوجه هذه القنوات التوجه الصحيح الموافق للشريعة الإسلامية، إذ إن خروج أمثال هؤلاء قد يوحي لبعض الناس بأن ما تشتمل عليه هذه القنوات من مخالفات ـ ولو يسيرة ـ أنه لا ضرر منها ولا إشكال فيها، بخلاف سائر طلاب العلم والدعاة فإن نظرة الناس لهم عادة على أن هذا اجتهاد شخصي منهم.
ومما يدعو إلى هذه الرؤية هو الآثار الإيجابية التي تستفاد من خروج طلبة العلم لبث علمهم بين الناس عبر هذه القنوات، والتي يأتي في مقدمتها بحسب الدكتور القريشي التجاوب الكبير من الجمهور، سواء عن طريق الأسئلة أو الاستفسارات أو غيرها، مما يعني وصول الخطاب الدعوي لفئة كبيرة من الناس وتفاعلهم معه، وهذا له أثر طيب على القريب والبعيد، هذا بالإضافة إلى تمكن بعض الدعاة من بيان كثير من الأخطاء التي تقع فيها هذه القنوات والمخالفات الشرعية التي تحتوي عليها برامجها.
أضف إلى ذلك - والكلام ما زال للدكتور القريشي الذي يتكلم من منطلق تجربته الشخصية - الآثار الإيجابية العديدة العائدة على بعض هذه القنوات والمتمثلة في زيادة البرامج الدينية ، وتغيير بعض البرامج الشديدة المخالفة ، وبث الروح الإسلامية بينهم ، ودفعهم لتقديم رسالة هادفة لجمهورهم، وهذا أمر ملموس ومشاهد ، وأثره إن لم يكن على المدى القريب فهو على المدى البعيد يؤتي ثمارا يانعة .
فسحة تأمل
وبعد هذه الجولة التي من خلالها عرضنا بعض وجهات النظر حول الدعوة عبر القنوات الفضائية، نعرض رأي الدكتور عبد الوهاب الطريري، والذي يتناول الموضوع من زاوية أخرى، حيث يعزو استنكار بعض الأخيار لظهور بعض الدعاة أو العلماء في الفضائيات إلى أسباب ومبررات نفسية غالبا، ويبين أن منطلقها النفرة من العفن المنتشر المندلق من أحشاء هذه القنوات الفضائية - على حد تعبيره - مبينا أن أمثال هؤلاء يخشون أن تعطي مشاركة هؤلاء الأفاضل شرعية لهذه القنوات.
ويدعو الدكتور الطريري الجميع إلى إعطاء فسحة للتأمل، وهو بذلك يقف وقفات تحليلية، تجاه هذا الأمر خاصة وتجاه هذه القضية بشكل عام، فيذكر أولا بعض المسلّمات التي ينبغي التنبه لها قبل الخوض في مثل هذه القضية، من ذلك كما يقول:
"إن هذه القنوات منطلقة منذ سنين لم تأخذ شرعيتها من مشاركة العلماء، وإنما فرضت نفسها مستغلة السآمة والإملال التي كانت وسائل الإعلام المحلية تغشيها لمستمعيها ومشاهديها".
ويؤكد الدكتور الطريري على أن مقاطعة هذه القنوات من قبل العلماء والدعاة لن تقلل فضلاً عن أن توقف ما تبثه هذه القنوات من تماجن وتفحش ولهو غير بريء، وعلى العكس من ذلك فإن المشاركة سوف تزاحم هذا الإلهاء، وتوقظ بعض الغافلين.
ويتساءل بعد ذلك ماذا كنا سنقول لو خرج في هذه الفضائيات صاحب بدعة يروج لبدعته، أو محرف للدين يزين انحرافه، أو ضال يدعو إلى ضلالته، ألسنا سنصيح صياح من تشتعل النار في ثيابه؛ لأن هناك من فتن الناس وأضلّهم، فما بالنا نرى الناس يقبلون الضلال ولا يقبلون الحق.(5/41)
ويضيف أيضا : هل ستظل مشاريعنا ومشاركاتنا مؤجلة بانتظار الكمال الذي سيأتي لاحقاً، فنتوقف بانتظار قناة فضائية فيها كل ميزات القنوات الموجودة وتخلو في الوقت ذاته من سلبياتها. إنه انتظار- ولا شك- طويل.
ثم من لهؤلاء اللاهين الذين استلبتهم هذه القنوات فخدرت مشاعرهم واستثارت شهواتهم، من لهم إذا لم نقتحم نحن عالمهم، ونحرك مشاعرهم ونُسمعهم الكلام الذي يجب أن يسمعوه؟
ويذكر هؤلاء الشباب بحقيقة هامة فيقول: عندما كانت بعض هذه القنوات تقدم نماذج منفرة على أنهم يمثلون الإسلام كنا نشعر بمضاضة الألم لهذا الطرح المشوَّه، ونرى أن هذه القنوات قد كسبت من وجهين: تقديم صورة مشوهة عن الإسلام من خلال فكر هؤلاء وطرحهم المتوتر. والوجه الثاني : الاستفادة من الإثارة الإعلامية التي يقدمها هؤلاء بالمجان لهذه القنوات.
لذا فإن الدكتور الطريري يرى أنه قد آن الأوان لتقديم البديل الصحيح من خلال الطرح العلمي المؤصل، والدعوة الخيَّرة المؤثرة على علم وبصيرة.
ويعود فيؤكد على أن الرفض - في أحيان ليست قليلة -قد يكون مرده نفسيا ً (سيكولوجيا) وليس استدلالا شرعياً مؤصّلاً بنصوص الوحي ومقاصد الشرع، والنفوس تحتاج إلى أن تُرَاض للانقياد لمدلولات النصوص ، ولو خالف ذلك رأيها المسبق، واجتهادها حيناً من الدهر.
وردًّا على الذين يقولون : إن هذه القنوات تستغل العلماء والدعاة وتحقق من خلالهم انتشارًا وشهرة ونفوذًا ، يقول الدكتور الطريري: وهم أيضا - أي العلماء والدعاة - يستغلونها ويصلون من خلالها إلى قطاعات وشرائح اجتماعية لم يتم التواصل معها بعد، فكم رأينا الأثر الخيَر لمشاركة بعض الأفاضل، وتحقق - من خلال ذلك - وصول الكلمة الطيبة الهادية إلى من لم يتعود سماعها ولم يناد بها يوماً من الدهر.
أسواق الجاهلية!
وما إن ينتهي الدكتور الطريري من عرض وجهة نظره - الداعية لاستغلال القنوات الفضائية من قبل طلبة العلم للوصول إلى الناس وإيصال الحق لهم- حتى يعرض بعض الأدلة التي تؤيد ما ذهب إليه، فيذكر ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح (16020-16027) عن ربيعة بن عباد الديلي قال:"رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: "يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" ويدخل فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول:" أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"... الحديث.
ويقول معقبًا على ذلك : فها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يغشى أسواق الجاهلية التي كانت فيها الأصنام، وزقاق الخمور، وكان فيها الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب والاستقسام بالأزلام. ولم يجعل له - صلى الله عليه وسلم - سوقاً خاصاً ليأتيه الناس فيه، ولكن أتاهم حيث هم ودعاهم -صلى الله عليه وسلم-.
ثم يذكر الدكتور الطريري أيضا ما أخرجه أحمد (6/25)، وابن حبان (7162) بسند صحيح عن عوف ابن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيدهم، وكرهوا دخولنا عليهم فقال - صلى الله عليه وسلم - " يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليهم"...الحديث.
ويعقب على ذلك بقوله فها هو - صلى الله عليه وسلم - يدخل على اليهود في كنيستهم ليدعوهم بدعوة الإسلام، وكما دخل - صلى الله عليه وسلم - كنيستهم التي يتعبدون فيها، دخل عليهم بيت مدراسهم الذي يتعلمون فيه، ومما يدل على ذلك أيضا ما أخرجه البخاري في صحيحه (6944) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداهم "يا معشر يهود أسلموا تسلموا، فقالوا: بلغت يا أبا القاسم، فقال: ذلك أريد، ثم قالها الثانية ثم الثالثة.."الحديث. (بيت المدراس: هوالبيت الذي تقرأ فيه التوراة على الأحبار).
ويتساءل الدكتور الطريري: ما الذي يمكن أن يقال في كنيسة اليهود وفي بيت مدارسهم أليس قولهم: يد الله مغلولة، وعزير ابن الله، والله فقير ونحن أغنياء، تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا.ً
ويخلص بعد ذلك إلى أن هذه القنوات ليست شراً من كنيسة اليهود ولا بيت مدارسهم.
إني دعوت قومي!!
لكن الدكتور اللحيدان يرى أن الحوادث العينية لا يقاس عليها الأمور العامة، ويبين أن هناك فرقا بين الخروج في فضائيات المسلمين ليوجه خطابا دعويا للمسلمين وبين الخروج في قنوات الكفار ليوجه خطابه الدعوي لهم، فإذا ساغ الخروج في قنوات الكفار باعتبار أنه لا ذنب بعد الكفر، وأنه لا طريق لدعوتهم إلا غشيانهم في أماكن تواجدهم وتجمعاتهم، فإن الأمر يختلف بالنسبة لما يتعلق بالمسلمين، فإن الأمر يحتاج إلى نظرة أبعد من ذلك مع النظر في عمومات الأدلة والتأمل في المصالح والمفاسد المترتبة على ذلك.(5/42)
وبخلاف ما سبق من الأدلة يعرض الدكتور الطريري أدلة أخرى والتي تتبين في نظره جواز المشاركة في هذه القنوات فمن ذلك - كما يقول حفظه الله - قوله تعالى- :"وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، وقوله :"وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" .. فنَهَت الآيتان عن الجلوس معهم حال إعلانهم بالكفر والاستهزاء، ولم تمنع من ذلك مطلقاً "حتى يخوضوا في حديث غيره" وكذلك المشارك في هذه القنوات هو بمشاركته يرفع الخوض واللهو واللغو ليُحِلَّ محله الدعوة للخير والحق .
قال الشيخ ابن سعدي في تفسير آية الأنعام " أمر الله بالإعراض عنهم حال خوضهم بالباطل حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره زال النهي المذكور، وهذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله؛ لأنه كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، فإن استعمل تقوى الله بأن كان يأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، ويترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم " انتهى مختصراً .
وما أروع قوله - رحمه الله - زوال الشر أو تخفيفه، فإن تخفيف الشر أو مكاثرته بقدر من الخير مكسب لا يستهان بالظفر به .
وقال تعالى عن نوح عليه السلام :"رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً.....* ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً". ويعلق على ذلك الدكتور الطريري بقوله: إن هذا الجهد الدؤوب الذي لا ينقطع، ولا يكل ولا يمل، ولا يفتر ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً لا يكون إلا بإصرار على المواجهة لهم، ومتابعتهم حيث ذهبوا، والجلوس إليهم حيث اجتمعوا، ولو كان ذلك عند آلهتهم ودّاً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونَسْراً.
الضوابط الشرعية للخروج في القنوات
أما الشيخ صالح المنجد فيقول: إن في القنوات الفضائية باطلا كثيرًا لا بد من التصدي له، وشر لا بد من مزاحمته، ورؤوس فتنة وأئمة مضلين لابد من التصدي لهم لبيان زيف مقالتهم وبطلان فتاواهم على الملأ من الناس من خلال الوسائل التي يصلون إليهم عبرها.
ويبين الشيخ المنجد أن هناك الملايين ممن لا يصل إليهم صوت الحق عبر الكتاب والشريط وإنما يصل عبر البث التلفزيوني.
ومع تأكيده على ضرورة اقتحام هذه الوسائل والمشاركة فيها منوها بالآثار الطيبة التي أثبتت نجاحًا واعدًا - كما يقول - فإن الشيخ المنجد يرى أن هناك ضوابط شرعية لا بد من توافرها حتى يجوز خروج الدعاة في مثل هذه القنوات، فأهمها أن يقول الداعية الحق ما أمكنه ولا يداهن، وليحذر من قول الباطل وإقراره، وإذا كان الساكت عن الحق شيطانا أخرس فإن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
ومن الضوابط ألا تكون القناة التي يخرج فيها متخصصة لأهل البدع، بحيث يعرفون بها ويشتهرون فيها.
ومنها كذلك ألا يوجد منكر ومحرم في الاستوديو أثناء عرض البرنامج كامرأة أو نساء متبرجات أو موسيقى تصدح في استوديو التصوير.
ثم إن على الداعية أن ينتهز ما أمكن من الفرص أو من خلال إجابة بعض الأسئلة ليبين للناس أن خروجه في هذه ا لقنوات المشتملة على أمور باطلة لا يعني إقرارا لها ولا تزكية لها، بل يبين حكمها الشرعي، ويدعو القائمين على القناة لتصفيتها من المنكرات.
وينبه الشيخ المنجد أنه إذا وجدت قناة إسلامية لها تأثير وانتشار فنستغني عن القنوات المختلطة.
كريزما مؤثرة
و لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى فتوى عن المشاركة في وسائل الإعلام ونصها: [ أنجح الطرق في هذا العصر وأنفعها استعمال وسائل الإعلام، لأنها ناجحة وهي سلاح ذو حدين، فإذا استعملت هذه الوسائل في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من طريق الإذاعة والصحافة والتلفاز فهذا شيء كبير ينفع الله به الأمة أينما كانت، وينفع الله به غير المسلمين أيضا حتى يفهموا الإسلام، وحتى يعقلوه ويعرفوا محاسنه، ويعرفوا أنه طريق النجاح في الدنيا والآخرة.
والواجب على الدعاة وعلى حكام المسلمين أن يساهموا في هذا بكل ما يستطيعون، من طريق الإذاعة، ومن طريق الصحافة، ومن طريق التلفاز ومن طريق الخطابة في المحافل، ومن طريق الخطابة في الجمعة وغير الجمعة، وغير ذلك من الطرق التي يمكن إيصال الحق بها إلى الناس، وبجميع اللغات المستعملة حتى تصل الدعوة والنصيحة إلى جميع العالم بلغاتهم.
وأخيرا يؤكد الدكتور الطريري على أن المكروبين من المشاركة في الفضائيات ليسوا الأخيار البررة الذين يتوقون إلى منابر إعلامية نقية لا لوثَ فيها، ولكن - أيضاً- هناك من كُرِب لذلك، وهم الممتعضون من بلوغ دعوة العلماء والدعاة إلى فضاء الفضائيات، ومثالنا على ذلك، ما كتبه أحدهم في إحدى الصحف يشنع على المشايخ الذين يسميهم بالشباب، وينقم عليهم ما يتمتعون به من "كاريزما مؤثرة"، ولا ندري كيف نناقش من لم يجد ما يتهم به إلا هذه الكاريزما
==============
الوسائل النبوية في الدعوة إلى الله
أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمره بالبلاغ والبيان، وإيصال الدعوة إلى كل من يمكنه إيصالها إليه ، فقام النبي بهذا الأمر حق القيام، ولم يدع صلى الله عليه وسلم سبيلا يمكن من خلاله أن يدعو إلى الله إلا سلكه ، ولا طريقاً إلا ولجه، فأرشد الدعاة بعده إلى استعمال كل وسيلة مهما تيسرت أسبابها وكانت مشروعة ، ومن الوسائل التي استخدمها المصطفى عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله :
أولا: الدعوة الفردية(5/43)
فكان في بداية الدعوة يتلمس أصحاب العقول الوافرة والأنفس الزاكية والأخلاق الحميدة فيعرض عليهم دعوته ، ويشرح لهم أصولها، ويدعوهم للإيمان بالله، فاستجاب له البعض الذين كانوا نواة أمة الإسلام : كأبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب وأمنا البرة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
وكان غالب استخدام هذا النوع من الدعوة في بداياتها في مكة كما حدث مع الطفيل الدوسي ، وأبي ذر الغفاري ، وغيرهما .. ولم ينقطع هذا الأسلوب في الدعوة بالهجرة، ولكنه بقي طريقاً من طرق الدعوة إليه سبحانه لا ينقطع أبدًا، ويمكن التمثيل له بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجاره اليهودي عند عيادته في مرضه فعرض عليه الإسلام فأسلم .
ثانيا : الدعوة الجماعية
وكانت نواتها أيضا في مكة حيث كان يدعو الرهط من قريش ، ثم كانت مع وفد الأنصار في العقبتين الأولى والثانية ، ثم استمر ذلك بعد دخول عدد من المدعوين في الإسلام ، فكان يلقاهم النبي في دار الأرقم .. وفي المدينة أخذت هذه الوسيلة من وسائل الدعوة صورًا عدة ، منها الخطابة ، والمواعظ ، وغيرها.
ثالثا : الوعظ والتذكير
وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة والملل ، وكان ينتهز كل فرصة مواتية تجمع المسلين ليوجه إليهم رسائل وعظية وتذكيرية نافعة، منها ما رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وزرفت منها العيون فقلنا كأنها موعظة مودع فأوصنا ، فقال : أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". رواه الترمذي وقال حسن صحيح
رابعا: القصص والأمثال
وهذه وسيلة من أنفع الوسائل وأيسرها على قلب المدعو وسمعه ، وهي وسيلة محببة للكبار والصغار وأثرها يبقى في القلب أكبر وقت ، واستخراج الفوائد منها والمقاصد من ورائها أمر يسير لذلك استخدمها القرآن الكريم للتعليم وتثبيت قلوب المؤمنين كما قال تعالى : " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين "، وقال سبحانه : " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين".
وكما ملأت قصص الأنبياء السابقين والأمم السالفة كتاب الله ، كذلك ذخرت سنة المصطفى بهذهالوسيلة من وسائل الدعوة كما في حديث الثلاثة أصحاب الغار ، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى ، وقصة صاحبي جرة الذهب ، وقصة المتداينين من بني إسرائيل .. وغيرها من القصص المليئة بالعبر والعظات والتي تعلم منها الصحابة وما زلنا نتعلم نحن أيضا منها.
خامسا : إرسال الرسل
فكان صلى الله عليه وسلم يرسل من علماء الصحابة رسلا إلى البلاد ليعلموهم دين الله عز وجل ، وكان هذا الأمر مبكراً فأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة، ولم يمنعه ماحصل لأصحابه في بئر معونة وبعث الرجيع من أن يستمر في هذا النهج الصالح والطريق النافع ، فأرسل معاذاً إلى اليمن ، وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب كذلك إلى اليمن ، وغيرهم إلى بلدان أخرى.
سادسا : الكتابة
فكاتب النبي صلى الله عليه وسلم الملوك والرؤساء ، داعياً إياهم إلى الدخول في دين الله ، والنجاة بأنفسهم وأقوامهم فأرسل إلى هرقل عظيم الروم ، وإلى كسرى ملك الفرس ، وإلى النجاشي ملك مصر ، وإلى أكثر الملوك في عهده، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: "أن نبي الله (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار ، يدعوهم إلى الله تعالى .."
سابعا : تأليف الناس ببذل المال
ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : "ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئاً قط فقال : لا" .
وفيه عن أنس عن مالك رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام شيئاً إلا أعطاه قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً من لايخشى الفاقة فقال أنس: إن الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" .
وروى مسلم أيضا: "أنه عليه الصلاة والسلام أعطى صفوان بن أمية - يوم حنين - مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ".
ثامنا: الجهاد في سبيل الله عز وجل
قال الشيخ ابن باز يرحمه الله : وهو أعظم الوسائل التي استخدمها (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو من أعظم وسائل الدعوة الباقية إلى يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي) [أحمد في المسند عن ابن عمر 2/29 /50]، فالمقصود من الجهاد إقامة دين الله على وجه الأرض ونفي الفتنة والشرك عنها واقتلاع جذور الطواغيت الذين يحولون بين الحق والناس: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ...][البقرة: 193]، وقال تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .. [[الأنفال: 39 ].(5/44)
وقد كان قتاله (صلى الله عليه وسلم) كله جهاداً لإعلاء كلمة الله ودعوة للخير، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوماً حتى يدعوهم" [المسند 1/231]، وفي رواية: " ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوماً قط إلا دعاهم". وقال لعلي رضي الله عنه عندما بعثه في غزوة خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ...." [البخاري ح: 3701 ]، وفي حديث بريدة: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أمر أحداً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولاتغلوا، ولاتغدروا، ولاتمثلوا ولاتقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.." [مسلم ح 1731 ]،
"فالجهاد ضرورة للدعوة سواءً أكانت دار الإسلام آمنة أم مهددة من جيرانها، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد حالة السلم التي يكون الدين فيها كله لله، أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله..
وقد كانت هناك أساليب أخرى استخدمها رسول الله صلىالله عليه وسلم في دعوته ولكن فيما ذكرناه غنية نستدل بها على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستخدم كل ما أتيح له من أسباب وهيئ إليه من وسائل في دعوته إلى ربه تبارك وتعالى ، وفي هذا تعليم للدعاة بعده ليسلكوا سبيله ويسيروا على دربه " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركبن
============
الترغيب
هو الحث على فعل الخير وأداء الطاعات والاستقامة على أمر الله تعالى ، وقد جاء في الكتاب والسنة مقرونًا ببشريات مشهورة وحكم مذكورة .
والدعاة عندما يُغرون العامة والخاصة باتباع الدين لا يسأمون من تكرار هذه الجوائز المضروبة والعلل الباعثة ، ونستطيع أن نذكر أمثلة لهذا الأسلوب من النصح الشائع في الإسلام :
1) قد تُطلب الطاعة من الإنسان ؛ لأن أمر الله تعالى يجب أن يُلبَّى ، فالله سبحانه ولي الأمر ، وولي النعمة ، الخالق من عدم ، المطعم من جوع ، الكاسي عن عري ، الساتر من فضْح ، فحقه إذا أمر ، أن نسارع إلى إجابته ، وأن يرانا عند إرادته ، من يُطاع إذا جُحد أمره وأُهمل شرعه ؟ كيف نخلع طاعته من أعناقنا، وهو أولى مَن يُهرع إلى ساحته ، ومن يُقال له : سمعنا وأطعنا ؟ قال الله تعالى : ( قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )( الشعراء: 75 - 82 ) .
وتعليل الطاعات المطلوبة بهذه العلة يحتوي على قدر من الحق لا شك فيه.
2) وقد نطلب من الناس التحلي بمكارم الأخلاق ، والتزام العدالة في المكارم والارتقاء بالسلوك العام إلى مستوى يليق بأمجاد الإنسان ، خليفة الله تعالى في أرضه، وتغرينهم على ذلك بأن هذه أشياء حسنة أمرنا الله تعالى بها ، وهو لا يأمر إلا بالحسن . قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ )( النساء: 58).
أجل .. نِعمَ ما يعظنا الله تعالى به .
وفي بيان أسرار ذلك الحسن المنوه به يمكن أن نوضح طرفًا من معنى الخير ، في الصدق ، والعفة ، أو الصلاة ، والصوم ، كاشفين حقيقة الوصايا الإلهية ، وأنها لا يمكن أن تنطوي أبدًا على شر مرذول . قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(الأعراف:28 ، 29) .
والترغيب في الخير بهذه العلة يحتوي على قدر من الحق لا ريب فيه .
3) وقد تحض الناس على تقوى الله تعالى والمبادرة إلى إقامة حقوقه ورعاية حدوده ، وتحرِّي مرضاته في كل ما طلب .. لماذا ؟ لأن الضمير البشري الزكي لا يمكن أن يتألق بين حنايا الإنسان ويختص به بين متاهات الحياة ، ودسائس الأهواء ، وفتن الشياطين إلا إذا كان موصولاً بالله تعالى يستلهمه الرشد ويستمد منه العون ويستدره التوفيق . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِه )( الحديد: 28 ) ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ )( الأنفال: 29 ) .
والفرقان المجعول ، هو البصيرة التي يستهدي بها المؤمن ، فلا يخلط بين حق وباطل، وهو النور الذي يمشي به فلا يزل ولا يحار ، وكل إنسان في الدنيا بحاجة إلى هذه البصيرة الهادية لتنقذه من المشكلات وتنجو به من الملمات .(5/45)
والترغيب في تقوى الله تعالى - لهذه العلة - يتضمن جزءًا من الحق لا شك فيه.
4) وقد نرغب في الإيمان والعمل الصالح ؛ لأنهما سبيل العيش والرغد وضمان الحياة السعيدة .
والمرء بطبيعته يحب النفع العاجل ، ويؤثر أن يجني ثمار استقامته وفرةً وأمنًا وسترًا ، ونحن نرى الإطماع بسعة العيش ويسر الرزق ينتقل في شتى الرسالات ، ألا ترى نوحًا - عليه السلام - يقول لقومه : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ) ( نوح:10 - 12 ) ، ثم يجيء على لسان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - : ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ )( هود: 3 ) .
ثم هو يعد الجماعة المؤمنة بالنصر والتمكين ، وانقضاء أيام الفزع والرهبة ، وطلوع فجر السيادة في الأرض ، والطمأنينة عليها . قال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً )( النور:55 ).
وهذه العِدةُ الجميلة من أسباب البقاء على الإيمان وتحمل مشاق الرسالة ، والترغيب في الخير بهذا الأسلوب يتضمن قدرًا من الحق كذلك لا مرية فيه .
5) وقد ندفع الناس إلى الرضا بمكاره الحق ، واحتمال تكاليف الإيمان بما قد ينتظرهم هناك في الدار الآخرة من نعيم مقيم ومنزل كريم .
ألا ترى الفارس المسلم " جعفر الطيار " يخوض غمرات الموت ويواجه حر الكفاح ولفحه المظمئ وهو يرتجز :
يا حبَّذا الجنَّة واقترابها طيِّبة وباردًا شرابها
إن الدنيا منقضية لا محالة ، إذ من الذي خُلِّد فيها قبلنا ؟ فكيف يمهد الإنسان لنفسه حياة بعدها ؟
إن الألوان الزاهية التي اصطبغت بها أوصاف الجنة تغري بالزاد المقرب إليها ، وتجعل العاقل يستكثر منه ويدخر . قال تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً )( الإنسان:20 - 22 ) ، وقد اطرد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نعت الجنة بما يجعلها أمنية المتقين ، ومستقر الركب المرتحل بعد سفر طويل .
والترغيب في الصالحات بهذا الأسلوب مستقيم مع الحق ، ولا شيء فيه
=============
الترهيب
كما تُقاد النفس عن طريق الرغبة تُقاد عن طريق الرهبة ، فتكف عن الرذيلة وَجلا مما يعقبها من منغصات ، أو تندفع إلى الفضيلة خوفًا من مغبة التراخي والتفريط .
1- فالذي يشتهي لذة محرمة قد تقمع سورتها في نفسه بذكر الله ذي الجلال ، والذي يستهين بالحقوق ويغير بقوته فيجتاحها دون مبالاة ، قد تخوفه بذي الجبروت ، الذي إذا سخط عليه خسف به ، والله سبحانه وتعالى قوي متين، وعزيز ذو انتقام ، وديَّان لا يموت . والتخويف به حق.
وأثر الخوف بعيد المدى ، إنه في الدنيا يصنع الكثير ، فالطالب الذي يخشى السقوط يُحصِّل علومه ، والتاجر الذي يخاف الإفلاس يضاعف نشاطه ، والموظف الذي يكره التخلف يثابر في عمله ، ولذلك قال يحيى بن معاد:" مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة " .
وترك المعاصي تهيبًا لله واتقاء سخطه دين ، ومن حق الله أن يهاب ويخشى، وفي حكم الصالحين : " لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت "، وقال علي - كرم الله وجهه - : " إذا استعظمت الذنب فقد عظمت حق الله ، وإذا استصغرته فقد صغّرت حق الله ، وما من ذنب استعظمته إلا صغر عند الله ، وما من ذنب استصغرته إلا عظم عند الله ... " .
والخوف الذي يتحدث الشارع عنه ليس شعور قلق تهتز به النفس ، ويذهب فيه اتزانها ، ويكوِّن ما يُسمى الآن عقدة .. كلا ، إنه إحساس فطريٌّ يؤدي نتائجه في سهولة ، فالنظيف - مثلاً - يتقي الأقذار ، ويخاف دنسها ، ويحتاط أن يعلق ببدنه أو ثوبه شيء منها ، وهذا الخوف كمال نفسي ، وليس مرضًا ولا شبه مرض .
2- والترهيب من الآثام قد يعمد إلى إبراز ما فيها من قذارة لا تليق بالإنسان العالي الشأن ؛ فالإسلام يسمي المعاصي قاذورات ، وينأى بالفطرة السليمة أن تتدلي إليها ، فضلاً عن تألُّف مواطنها ، والحقيقة أن المتأمل في أحوال المجرمين يرى مسخًا غريبًا في أنفسهم ، حتى لكأنهم يتحولون إلى أنواع من السباع والدواب ، وإن ظلوا في إهاب البشر ، ولا عجب ، فالمرء الذي يُمرَّن على الرذيلة ويستمرئها يصل إلى درك من السوء لا أمل بعده في سلامة، وهذا معنى قول الحسن : " إن بين العبد وبين الله حدًّا من المعاصي معلومًا ، إذا بلغه العبد طُبع على قلبه فلم يوفق بعدها إلى خير " ، وهذا هو المسخ الذي وقع مثله لبني إسرائيل لما عتَوْا عن أمر الله .
والمغالاة بكرامة الإنسان ، وإفهامه أن المعاصي لا تليق بمنزله هي التي أوحت إلى " ابن القيم " أن يقول :
فحي على جنات عدْن فإنها منازلك الأولىَ وفيها المخيَّمُ(5/46)
إن سوط الإرهاب تحوّل هنا إلى صوت عذب وحداء رقيق والمعنى واحد ، ولعل من ذلك قول عمر - رضي الله عنه - : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه .. " .
والكشف عمَّا في الرذيلة من قبح ، شائع في الكتاب والسنة ، انظر كيف نصح الله أولياء اليتامى : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً )( النساء:9 ) .
وانظر إلى نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي يحب الزنا ، كيف قال له : %(أتحب أن يكون لكذا ، وكذا ؟ )% من محارمه .
إن هذا النصح يبين خاصة من خواص البشر ، تحدَّث عنها علماء الأخلاق ، وهي أنه شذوذ لا يمكن أن يتحوّل بين الناس قانونًا عامًا .
3- وقد نخوف من الذنوب ومواقعتها ، ببيان خطرها على الإيمان نفسه ، فالمعاصي بريد الكفر ، واقترافها - دون حذر - فجور يدل على موت القلب .
وفي الحديث : ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا .. فطار)) ، ذلك أن الإيمان هو الصانع الأوحد للضمير الذي يوثق به ، فإن مراقبة الله جل شأنه أساس مكين في توقي الشرور والتحرز من الدنايا .
ولأمر ما أقسم الله بالنفس اللَّوامة ، والنفس اللوامة هي التي تترفع عن الإثم ، وتنفر عن مقارفته ومن مؤالفته ، وتدفع صاحبها أبدًا إلى حال أزكى ودرجة أرقى ، كأنها لا ترضى بما هي فيه حتى تنتقل إلى مرحلة أطيب ، فإذا بلغتها تكشف لها ما هو أعلى فتنشده ، وهكذا دواليك حتى تلقى الله .
ولأمر ما طُلبت منا التوبة النصوح ، والتوبة النصوح هي التي يتولد منها إحساس يقظ كأنه ديدبان حارس ، كلما دلف الشيطان ليزل الإنسان إلى معصية ، نبه إلى الخطر ، وحمي من السوء .
والنفس اللوامة والتوبة النصوح تسميتان تشيران إلى ذلكم الضمير الديني الوازع عن الشرور والباعث على الطاعات .
4- وقد يكون الإرهاب عن المعصية ببيان شؤمها في العاجلة وضررها الذريع في جسم الإنسان وأهله وولده ومكانته .
وبذلك ينزجر الإنسان عن مواقعتها خشية ما يصيبه من بلائها كأنه طائر أبصر الحب في الفخ فعلم أن حتفه فيه لو وقع عليه ، فهو يتركه نجاة بنفسه ، وطلبًا للسلامة .
والواقع أن المعاصي مفتاح لمصائب فادحة وكرب جسام ، والرتع فيها يجر الويلات على الأفراد والجماعات ، قال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )( الشورى:30 ) ، ولولا أن الله يهب للخلائق فسحة ليستفيقوا ويقالوا لكان المحق هو الجزاء السريع لمخازيهم ، وتلك رحمة من الله، فهل يستغلها العصاة ؟ قال الله تعالى : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً )( فاطر:45 ) ، وهذا التأخير لا يعني إرجاء العذاب إلى يوم القيامة ، فإن لكل سيرة رديئة أجلاً موقوفًا تستحق عنده العقوبة ، ثم تنزل بالفرد أو الجماعة في هذه الدنيا قبل الآخرة ، قال تعالى : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)( السجدة:21 ) ، وقد انتشرت في الكتاب والسنة النذر بتلك العقوبات العاجلة .
روى البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : %(يا معشر المهاجرين ، خصال خمس ، إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ :
1- لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون وظهرت الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم .
2- ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان .
3- ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يُمطروا.
4- ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم .
5- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم شديد ..)) %%.
وفي الحديث : %(خمس تُعجّل عقوبتهن : البغي ، والغدر ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، ومعروف لا يُشكر)%% .
وفي القرآن الكريم بيان لعقوبات نزلت بأمم تمردت على الله وجارت عن الطريق، فسلبت النعمة التي طالما مرحت فيها ، وحل بها ما لم تكن تتوقع ، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ )( سبأ: 15 - 17) ، وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (النحل:112 ) .(5/47)
على أن عقوبات الآحاد والأمم تخضع لسنن عليا ، وتضبطها آماد ليس إلا الله يعلم موعدها ، وقد كان الأنبياء من نوح إلى محمد - صلى الله عليهم وسلم - يوجلون من تحديد هذا الموعد ، ويجيبون المستهزئين والمستعجلين بأن ذلك ليس إليهم، قال الله تعالى : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (هود:33 ) ، ويجري الله على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا القول: (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) ( الأنعام: 57 ) .
وقد نرى أفرادًا وأممًا تُستدرج إلى مصيرها الفاجع بكثرة النعم - على ما فيهم من معاصٍ - وفي هذا يقول الله عز وجل: ( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة:85 )
( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ( آل عمران: 196 ، 197) .
وقد نرى آحادًا من الناس يرتكبون الذنب أيسر مما يصنع أولئك الفجرة ، فيعاقبهم الله بشيء من الحرمان كما جاء في الحديث : %(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)%% ، وذلك منه سبحانه تأديب لمن يريد تقويمهم في الدنيا ليلقوه في الآخرة مطهرين .
6- وقد نحض الناس على أنواع الخير ، ونحجزهم عن ضروب الشر ، بذكر الآخرة وما في جهنم من عذاب شديد ، ومهانة بالغة ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) ( المزمل:18 ) ، فخوف من الكفر بعذاب يوم القيامة ، وقال تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (الإنسان:8 - 11 ) .
وفي الحديث : %(اتقوا النار ولو بشق تمرة )%% ، وفي الحديث أيضًا : %(دخلت امرأة النار في هرة حسبتها ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )%%.
والتخويف بالنار ، ووصف صنوف العذاب المعد فيها يستغرق جزءًا كبيرًا من الكتاب والسنة ، وما دامت النار حقًا ، وما دامت معدة للسفلة يقينًا ، فلِمَ يكون التخويف بها عيبًا ؟؟
فعلى الدعاة أن يستخدموا هذا الأسلوب الذي بينه لهم القرآن ، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )
=================
الكتابة.. أسلوب دعوي ناجح
الخطابة من شعائر الإسلام ، ودلائل بالحياة وسعيه إلى الامتداد ، وربما كان تأثيرها الروحي نفاذًا أخاذًا ، خصوصًا إذا كان الخطيب صاحب عقيدة تزحم أقطار نفسه ، وتضطرم بها مشاعره . إنه حينئذٍ يشعل الجماهير حوله كما تشمل النار الهشيم .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلاً أعلى في صدق اللهجة وعمق التأثير ، وكان إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشند غضبه ، كأنه منذر جيش يقول : ((صبحكم ومساكم )) ، ويقول : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ، ويقرن بين إصبعيه للسبابة والوسطى ، ويقول : ((أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ...)) .
ولما كانت نفس الخطيب المؤمن تشبه مولدًا للكهرباء ، فإن الإيمان ينسكب من نفسه مع ألفاظه يشق طريقه إلى القلوب شفًا . ومن ثم كان الجيل الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الأجيال ، لعظم ما أفاد منه وانتفع به وأفاد الدنيا ونفع .
ومع هذه المنزلة للخطابة فإن لها قسمًا لا يقل عنها جدوى ، ولا تستغني الدعوة عنه أبدًا ، وهو الكتَابة ، بل إن ما ارتبط بالخطابة من أجواء عاطفية يجعل مجالها متجهًا إلى المشاهدة قبل كل شيء ، وإن اعتمدت على سلامة المنطق بداهة ، لكن الكتَابة على العكس ، تتجه إلى العقل وتقوم على الاستعراض المنظم المتأني للأدلة المؤيدة والمفندة ، ولا بأس أن ينضم إلى ذلك أسلوب جيد وسياق جذاب .
ثم إن الخطابة موقوتة الفرص ، منتهية بانتهاء مجالسها ، وانفضاض مجامعها ، أما الكتابة فهي أخلد على الزمن وأعصى على الفناء ، والواقع أن الخطب النفيسة ، تتحوّل إلى أدب مكتوب ، فإن كانت حافلة بعلم نافع أو وعظ بليغ كان بقاؤها في الصحائف امتدادًا في إمكان النفع بها ، وإن كانت صاحبها قد مات ، وضاع الأثر المقترن بسماعها منه وهي تنبض بالحياة من فمه ، وتخرج مفعمة بخصائص نفسه !(5/48)
والكتابة المؤلفة في خدمة الرسالات المختلفة كثيرة ، ومداها في نشر الدعوات بعيد ، وحسبنا أن الإسلام يعتمد في خلوده ، ونضارة رسالته ، وتجدد دعوته على كتاب فَذّ هو معجزة الدهر ، وصوت السماء الصدوق المبين ، قال تعالى: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )( فصلت:42 ) ، ومنذ بدأ الإسلام والمؤلفون دائبون على مدرواته بالقلم ، حتى لقد رُوي في الأثر - مبينًا لهذا الجهد - (يُوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة) .
والكتابة العلمية تزحم تراثنا الثقافي ، وتدفع به إلى الطليعة في المواريث الأدبية لأهل الأرض ، بل نستطيع الجزم بأن دينًا من الأديان ، أو مبدأ من المبادئ لم يصنع الحركة العقلية الجبارة التي صنعها الإسلام في العالم ، والتي أنشأ بها حضارة مازالت فيها كل الغنى بأسباب القوة والازدهار ، والمنقبون الآن في مخلفات الفكر الإسلامي كأنما ينقبون في أرض مليئة بآبار البترول أو مناجم الذهب والحديد ، كلما بحثوا عثروا على كنوز مدفونة ، وخير خبيء ، وعظمة غطاها التراب !!
ولا عجب ، فإن الفجر الذي طلع به القرآن الكريم على الوجود ، أنعش العقل الإنساني إنعاشًا لا نظير له ، وأطلقه ينشط ويجوب ويكدح .
وإذا كان هناك مأخذ على هذا النشاط ، فهو أنه بلغ أحيانًا حد الإسراف الذي يجهد ولا يغني .
وطبيعي أننا في تلك الأوراق المحدودة لا نؤرخ ولا نتابع الكتابة العلمية لنشر الدعوة الإسلامية وإيضاح أصولها وفروعها ، فذاك مبحث تفرد له مجلدات ، وإنما نريد هنا إثبات ملاحظتين صغيرتين تتعلقان بموضوعنا :
أولاهما : أن الكتابة الأدبية في خدمة الإسلام ليس لها اتساع الكتابة الفنية وانتظامها، وأعني بالكتابة الأدبية ما يذكي العاطفة الإنسانية بعد ربطها بالإسلام ، وأخذها بتعاليمه وعباداته ، وقد تكون للصوفية كتابات ، وأخطاؤهم الكثيرة تشوب هذا اللون من الأدب وتجعل الاستفادة منه عسرة أو خطرة .
وفي عصرنا هذا ارتقت الكتابة الأدبية التي أنوِّه بها في آثار رجلين جليلين هما: الشاعر الهندي محمد إقبال، والأديب العربي مصطفى صادق الرافعي في كتابه ( وحي القلم ) ، والذي أريده ، لون من الأدب الديني يرسم معالم الإسلام كما يرسم الشاعر المفتون بالطبيعة الحدائق الناضرة ، والسماء الضاحية ، والنجوم الزهر ، والليل الساجي . نحن فقراء في هذا الضرب من الكتابة الراقية ، مع شدة الحاجة إليها في تربية العواطف وصقلها باسم الله .
والملاحظة الأخرى: أن الكتابة العلمية - التي استبحرت قديمًا ثم جمدت أيام الانحلال والتخلف وهجوم الاستعمار ـ لا تزال دون تقدم الوعي الإنساني في هذا العصر ، ودون اتساع دائرة التعلم والتعليم ، وانكماش الأمية الفكرية في كل قطر .
إن المحدثين مازالوا عالة على القدامى ، ولولا صلاحية القرآن لشتى الأعصار لكان تخلف المسلمين العلمي سببًا في زوالهم ، والمطلوب أن ينتفض الجيل المعاصر انتفاضة الحياة ، ويشرع في خدمة الإسلام ، الخدمة العلمية المناسبة لهذا العصر .
وإني لأذكر - محزونًا مكروبًا - أن العلماء المجددين لأمر الإسلام يكافحون في وجه عنت هائل ، ويبذلون جهود الجبابرة ثم يطويهم الجهل والغمط والنكران ، فما يكاد ينتفع بآثارهم إلا الأقل الأقل .
لقد مات محمد فريد وجدي بعد حياة مليئة بالمجد العلمي ، وها هو ذا قد مرت بضع سنين على موته ، فما ذكره أحد بكلمة رثاء ، ولا طبع له كتاب نقد ، ويوشك أن يطويه ومؤلفاته النسيان ، فما هذا ؟ والحال كذلك بالنسبة إلى الشيخ محمد رشيد رضا ، العالم الأديب الجليل الشأن ، وأعرف غيرهم من أصحاب الأسماء التي لم تحظ بالشهرة ، وإن أسدت للإسلام أعظم المنافع ، فالشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ، رتّب " مسند ابن حنبل " وفق الأحكام الفقهية في خمسة وعشرين مجلدًا ، ومع ذلك فقد ترك الدنيا وكأنه رجل أمي لم يخط حرفًا ، فضلاً عن أن ينشئ هذا العمل الضخم ، وإن قليلاً جدًا هم الذين أحسُّوا فقده ، ولسنا نأسى على الموتى ، فقد أفضوا على الله تعالى الذي يضاعف الحسنات ، وإنما نأسى على الأحياء الذين لا يحسنون الانتفاع بثمرات المجددين الذين عاشوا مع الزمن يدفعون عن الإسلام ، ويحرسون أركانه ، ويجلون بريقه .
إن الكتابة العلمية الواجبة في هذا العصر يجب أن تتسع وتطرد ، وهناك أمور ذات بال نحب أن نلفت إليها حتى يؤدي القلم حق الإسلام عليه في ذكاء وحصافة ومقدرة ، وفق مقتضيات الأزمات
==========
برنامج عملي للدعوة بين الأقارب
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: أنه %[لما نزل قول الله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، أتى النبي الصفا، فصعد، ثم نادى: (يا صباحاه!) فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، ورجل يبعث رسوله، فقال رسول الله : (يا بني عبد المطلب! يا بني فهر! يا بني لؤي! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟) قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد].
فها هو محمد المبعوث للناس كافة، يوجه نداء خاصّاً إلى الأهل والقرابة والعشيرة استجابة لأمر الله جل وعلا.
ودعوة الأقارب والأهل والأرحام من الصلة والبر، بل إن الدلالة على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبر البر والإحسان، والدعاة في جانب الدعوة العائلية على ثلاثة أحوال إلا من رحم الله:(5/49)
1- رجل أغلق على نفسه مع مجموعة من الأقارب، انتقاهم بعناية على أساس التوافق والانسجام أو الاستجابة، وترك البقية بحجة عدم الاستجابة؛ حيث حاول دعوتهم مرة أو مرتين، وظن أنه معذور بذلك، وهذا ليس أسلوب أهل الجهد والجهاد في الدعوة.
2- رجل مشغول بأمور دعوية خارج نطاق العائلة، وقد حصل له كثير من البرود في مواقفه وعلاقته مع الأقارب من الناحية الدعوية، وهذا نسي حقّاً مهمّاً من حقوق أرحامه عليه، وقصّر كثيراً في دعوتهم.
3- رجل له نشاط دعوي في عائلته، ولكنه نشاط يتم بطريقة عشوائية، بدون أن يكون هناك تخطيط ومتابعة، ولا شك أن العمل المدروس أكثر ثمرة من العمل غير المنظم.
مميزات الدعوة العائلية :
إن للدعوة العائلية سمات تتميز بها عن الدعوة العامة، وهذه المميزات تختلف من عائلة إلى أخرى، ولكنها تجتمع في كونها عوناً للدعاة للقيام بهذا العمل واستمراره، ومن هذه المميزات:
1- أن عدد الأفراد الذين يتم الاحتكاك بهم في الدعوة العائلية يعتبر عدداً كبيراً، مهما صغرت العائلة التي ينتمي إليها الداعية؛ فإذا نظرنا إلى أي شخص نجد أن لديه مجموعة كبيرة من الأقارب، يتواصل معهم وتربطه بهم روابط المودة والرحمة.
2- سهولة الاحتكاك بأولئك الأقارب والوصول إليهم: يزورهم ويزورونه، ويقابلهم في المناسبات، بل قد يشترك معهم في السكن.
3- الدعوة العائلية تعتبر وسيلة دعوية، يمكن أن تستمر ولا تنقطع لأي سبب إذا طبقت بطريقة جيدة.
4- الدعوة العائلية إذا أديرت بشكل جيد، فإنها تفيد في شحذ الهمم وتحريك الطاقات الخاملة عند بعض الصالحين في الأسرة، وتدفعهم للدعوة، وتكون وسيلة ناجحة بإذن الله للتأثير عليهم.
5- إن الدعوة العائلية تؤدي إلى استقامة الأقارب، والتخلص من المنكرات؛ مما يكون له مردود إيجابي على بيت الداعية وأطفاله.
6- تُيسر الدعوة العائلية التأثير على النساء في المجتمع، وخاصة أن النساء أقل احتكاكاً بالدعوة ووسائلها، وأيضاً: توفر هذه الدعوة الاحتكاك والتأثير على الأطفال.
7- من خلال الدعوة العائلية يتم الوصول إلى جميع أفراد المجتمع، حيث إن المجتمع هو مجموع هذه الأسر.
من الوسائل الدعوية العائلية
وسائل الدعوة العائلية كثيرة ومتنوعة، وسنشير هنا إلى نماذج منها فقط، ولا بد أن لكل عائلة ما يناسبها، ثم إن البدء والاستمرار في هذه الدعوة ينتج أفكاراً وبرامج جديدة ومؤثرة.
1- أهم وسيلة أو خطوة في الدعوة العائلية، هي: التنسيق، والتخطيط، وتحديد الأهداف المرحلية، مع بيان الوسائل والطرق، ويبدأ ذلك بالتنسيق بين مجموعة من الأخيار في العائلة، وإقناعهم بفكرة الدعوة العائلية، ومن ثم: تنظيم الأفكار ووضع الخطط الدعوية، ويتبع ذلك: التقييم الدوري المستمر لجميع الأنشطة والبرامج الدعوية لتصحيح الأداء واكتساب مزيد من الخبرة، ولا بد من التكاتف والتعاون في هذا المجال؛ فاليد الواحدة لا تصفق!.
2- تمثيل القدوة الحسنة في أمور الدنيا والدين؛ فلن يتقبل الناس الدعوة من شخص فاشل في حياته العملية أو العلمية، أو من شخص لديه قصور ظاهر في التزامه الشرعي. ولكي يكون الداعية قدوة حسنة مؤثرة: عليه أن يتخذ من الرسول قدوة له {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: 21].
3- توثيق الصلة مع الأقارب، وكسب مودتهم، وإتقان فن التعامل معهم، حتى يشعر كل فرد بأن له علاقة خاصة بالداعية، وهذا لا يعني النفاق والابتذال، ولكن علاقة صادقة، ومودة خالصة، ومبادئ ثابتة.
4- إقامة لقاء دوري للعائلة (شهريّاً مثلاً)، وذلك لزيادة الألفة والمحبة، وتوطيد أواصر المودة، وتحقيق صلة الرحم، كما أن مثل هذه اللقاءات توفر وقت الداعية، حيث يمكنه القيام بواجب صلة الرحم والدعوة في وقت واحد.
5- الاستفادة من التجمعات العائلية، سواء اللقاء الدوري أو المناسبات الطارئة مع الحذر من المبالغة المنفرة.
ويكون ذلك بعدد من الوسائل، منها:
أ - مساعدة صاحب المناسبة بالسعي في إجراءات ترتيب اللقاء، ودعوة الضيوف، وكل ما يمكن القيام به من خدمة.
ب- توزيع أي جهد دعوي صالح وموثق، سواء أكان شريطاً، أو كتيباً، أو ورقة مفيدة، أو فتوى مهمة... أثناء اللقاء، والحرص على ذلك، والاستمرار عليه في كل مناسبة.
ج - دعوة بعض العلماء أو طلبة العلم في ا لمناسبات العائلية؛ لإفادة الحاضرين فيما يهمهم في أمور دينهم ودنياهم ، ويتم التركيز على المواضيع التي تهم عموم الأسرة.
د - إعداد المسابقات الثقافية المناسبة لجميع فئات العائلة؛ لاستغلال الوقت بالنافع والمفيد لرفع المستوى الثقافي لأفراد العائلة.
هـ- الحديث عن أحوال المسلمين وأخبار العالم الإسلامي، كما يمكن عرض بعض أفلام الفيديو التي تظهر هذا الواقع؛ لزرع الإحساس بمآسي المسلمين وحثهم على دعمهم والدعاء لهم.
و- التذكير والحث على مجالات الخير، وهي كثيرة ومنتشرة (والحمد لله): كالمحاضرات، والخطب، والندوات.. والإعلان عنها، والتعريف بالأشرطة الجيدة وأماكن وجودها.
ز- طبع أسماء وهواتف أفراد العائلة بشكل جذاب وتوزيعها؛ للمساهمة في صلة الرحم.
ح- استخدام القصص والحكايات الواقعية المؤثرة للدعوة، وقد لوحظ أن هذا الأسلوب من أقوى أساليب التأثير على الناس وأيسرها، ويمكن الاستفادة من بعض الكتب التي تحكي هذه القصص، ومن ثم سردها في هذه اللقاءات.(5/50)
ط- توقير الكبار وأصحاب الوجاهة في العائلة، وبيان الثمار التي تجنى من خلال تلك اللقاءات؛ لكسب تأييدهم لمشاريع الدعوة العائلية من بدايتها، وذلك لكي يُستفاد من مكانتهم في تقوية الدعوة العائلية، أو على الأقل حتى لا يكونوا معارضين لها.
6- الإحسان إلى أفراد العائلة، ومشاركتهم في أفراحهم وأحزانهم، ومساعدتهم فيما يحتاجون إليه، وإحياء معالم التكافل الأسري، ويجب على الداعية أن يُعرَف بالمواقف المشرفة وعلاج الأزمات، وليس فقط بالوعظ والإرشاد، ويحسن أن يقوم الداعية بتلمس احتياجات أفراد العائلة، والمبادرة بمساعدتهم قبل أن يُطلب منه ذلك، مع الحذر من التطفل عليهم في أمورهم الخاصة.
7- حصر المخالفات الشرعية الموجودة في العائلة، وذلك للتركيز عليها وإصلاحها تدريجيّاً بالحكمة والأساليب المناسبة، ويحسن هنا محاولة معرفة أسباب الانحراف ليسهل العلاج.
8- الاهتمام بالأطفال والمراهقين، فقد قال أحد الحكماء: (أكرم صغارهم؛ يكرمك كبارهم، وينشأ على محبتك صغارهم)، ويكون ذلك بإعداد أنشطة خاصة بالصغار والمراهقين، يُراعى فيها سنهم وميولهم، ويمكن القيام بالرحلات وتنظيم ذلك للخروج بأكبر فائدة.
9- الزيارات المنزلية لأفراد العائلة، وذلك لما فيها من محبة ورفع الكلفة وتعميق الروابط؛ وهذا مما يغفل عنه كثير من الدعاة لكثرة الأشغال وعدم التفرغ، مما ينتج عنه وجود حاجز بين الداعية وأفراد عائلته.
10- تقديم الهدايا لأفراد العائلة والتودد إليهم، لما للهدية من أثر عجيب؛ فهي تقرب البعيد، وتؤلف القلوب، وتروض النفوس المستعصية، وتحبب الداعية إلى الناس، يقول الرسول : %[… وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء]( مالك في الموطأ، ص 1642).
11- الاستفادة من بعض العادات والتقاليد الموروثة ـ غير المخالفة للشرع ـ لدى بعض الأسر واستثمارها في المجال الدعوي، نحو ما ينتشر بين النساء خاصة من قيامهن بزيارة المرأة التي رزقت بمولود، أو المتزوجة حديثاً، أو القادمة من سفر بعيد ... أو غير ذلك، وتقدم هدية عينية لهذه المرأة، فحبذا لو أضيف لهذه الهدية المادية مجموعة من الأشرطة والكتيبات والنشرات الدعوية الصالحة... وغيرها مما ينفع المهدى إليه في دينه(92 وسيلة دعوية، إبراهيم الفارس).
12- الاهتمام بتأمين الدعم المادي لإنجاح المشروع الدعوي العائلي، فبدون ذلك لا يمكن الاستمرار في إيجاد الحوافز: كالهدايا، وجوائز المسابقات، والتوزيع الدوري للأشرطة والكتيبات، وهذا الدعم المادي يجب أن يكون مستمرًّا وغير منقطع طوال العام.
13- شكر كل من أسهم في التواصل في العائلة، أو ساعد في الدعوة تشجيعاً له للمواصلة وبذل المزيد، وحثًّا لغيره للقيام بدوره.
14- الحرص على إيجاد صندوق للتكافل العائلي، يكون الاشتراك فيه ضمن أسس متفق عليها، وتكون مهمة القائمين على هذا الصندوق متابعة أوضاع العائلة واحتياجاتها، مثل:
أ - الشاب الذي يريد الزواج، ومساعدته.
ب - الفقراء في العائلة أو من تحمّل ديناً، ومساعدته بأسلوب يحفظ له كرامته.
15- الدعاء والتوجه إلى الله وطلب عونه (جل وعلا)، والدعاء لأفراد العائلة بالصلاح والهدى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : %[دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل]%%(رواه مسلم).
أسباب نجاح الدعوة العائلية
هناك بعض الأسباب المؤثرة على تطبيق برنامج الدعوة، يجب أن يأخذ بها كل من يتصدى للدعوة العائلية، ونورد هنا بعض الأسباب العامة التي يجب أن يضعها الداعية ضمن خطته الدعوية:
1- الإخلاص لله (تعالى)، وإيمان الداعية بما يدعو إليه؛ فالدعوة النابعة عن إخلاص مع القوة والعزيمة والإيمان والاعتماد على الله: لا بد أن تؤثر وتؤتي أكلها، فالإخلاص أمرٌ مهمّ لنجاح الدعوة واستمرارها.
2- أن يعمل الداعية بما يدعو إليه، ويبتعد عما ينهى عنه، فليس معقولاً أن يؤثر في الناس من يقول ولا يفعل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2، 3] . وقد ورد في الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: [يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه (يعني أمعاءه) في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟! أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه](متفق عليه).
3- دراسة أي نشاط مقترح للتطبيق على الدعوة العائلية دراسة مستفيضة لمعرفة إمكانية تنفيذ هذا النشاط؛ إذ لا يكفي أن تكون الفكرة ممتازة وهادفة، بل لا بد من معرفة إمكانية تنفيذها واستمرارها، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام حينما [سُئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: (أدومها وإن قلّ](رواه البخاري)؛ لأن التذبذب وبدء النشاط ثم إيقافه، أو عدم إخراجه إخراجاً جيداً ومشوقاً: يقلل من استجابة المدعوين، إن لم يفقدهم الثقة والاحترام للبرنامج الدعوي.(5/51)
4- عدم اليأس أو استعجال النتائج، وضرورة التأني وبعد النظر، وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الدعاة؛ فنجد أحدهم يتعجل النتائج، ويستغرب بطء استجابة الناس، وينسى قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: 106] .. فيجب على الداعية أن يكون حكيماً، ولا يغفل عما أحدثته وسائل الهدم في عقول الناس وأفكارهم، وأن ذلك قد استغرق وقتاً طويلاً، فلا نستغرب أن نحتاج إلى وقت مناسب لإعادتهم إلى طريق الهداية.
5- الانتباه إلى أن الانفتاح مع العائلة ودعوتها يجب ألا يؤدي إلى مداهنة الداعية، فيشارك أو يحضر بعض المنكرات التي لا يجوز حضورها، أو يسكت عن بعض المنكرات التي لا ينبغي له التأخر في إنكارها.
6- أن يعلم الداعية حال من يدعوهم؛ لأن الناس يختلفون في مدى تقبلهم للدعوة، فمنهم من يرضى بها، ويقبل عليها، ويتفاعل معها، ومنهم من يغلق قلبه أمامها، ويصم أذنيه عن سماعها، ويرفض أن يتفاعل معها. وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى معاملة خاصة. وأيضاً: يجب أن يعلم الداعية أن النفس البشرية لشخص واحد تختلف من وقت إلى آخر، فيجب مراعاة ذلك.
7- أن يعلم الداعية حال المتعاونين معه من الأخيار في العائلة، وأن يكون خبيراً بهم وبقدراتهم، فيضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن يوجه كل شخص إلى ما يمكن أن يبدع فيه.
8- التركيز على بناء العقيدة وتثبيت الإيمان، لأنها الأساس والأهم، والخطوة الأولى في الدعوة، وذلك عن طريق التركيز على:
أ - مواضيع العقيدة والإيمان، مثل: تعليم التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، والتحذير مما يضاد ذلك، ومثل: اليوم الآخر، والجنة، والنار، والخوف من الله، ومحبته، وترسيخ التوحيد بمعانيه الشاملة.
ب - بناء الحصانات الفكرية ضد الشبهات الموجهة للإسلام وبناء الحصانة ضد الفرق الضالة.
ج - تصحيح المفاهيم في القضايا التي شوهها أعداء الإسلام، وطرح المفاهيم الغائبة التي يحتاج إليها المسلم.
9- العناية بجانب الوعظ والرقائق، والترغيب والترهيب، وتعظيم الله في القلوب، وربط المدعوين بالقدوات الصالحة من السلف، وبيان محاسن الإسلام وجوانب الإعجاز في تشريعه.
10- عدم التعالي أو الظهور بمظهر العالم أو الأستاذ، لكي لا يثير المدعوين، وخصوصاً كبار السن منهم، وليحرص الداعية دائماً على عدم إثارة غيرة الآخرين منه.
11- الحرص على المظهر الحسن، فليس من الدين في شيء أن يكون الداعية رث الثياب، بل إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يُرى أثر نعمته على عبده، كما في الحديث: %[إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده]%%(الترمذي بسند حسن).
12- استخدام التوجيه غير المباشر، وعدم المواجهة بالعتاب، بحيث يقوم الداعية بالتوجيه دون أن يعلم المدعوون من هو المقصود بهذا التوجيه، وهذا منهج نبوي، حيث كان حين ينكر على أصحابه بعض الأعمال يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. وبهذا الأسلوب يتفادى الداعية التصادم أو إثارة الرفض والاستعلاء لدى المدعو.
13- الصبر وسعة الصدر واحتمال الأذى؛ لأن من يتصدى للدعوة إلى الله لا بد أن يناله أذى وابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وهذا هو طريق الأنبياء والرسل وكل من قام بهذه المهمة العظيمة، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34] .
فيجب على الداعية أن يستوعب ذلك، ويصبر، ويتسم بطول النفس وبعد النظر، حتى تتحقق له الغاية المنشودة.
14- الانتباه إلى وسائل الهدم في العائلة، سواء أكانت هذه الوسائل أشخاصاً أو أجهزة أو غير ذلك، ومن ثم: مقاومتها بالحكمة؛ لأنه بغير ذلك نجد أن ما يبنيه الداعية في وقت طويل يهدم في لحظات (وليس الذي يبني كمن هو يهدم).
كلمة أخيرة
وصية مهمة لك أيها الأخ المبارك حين تختار من يعينك على هذا المشروع من الأخيار الصالحين في عائلتك، فعليك بمن تتوسم فيهم الشجاعة والكرم، فلا يستطيع أن يقوم بهذا المشروع إلا من كان لديه إقدام وشجاعة، ولا يستطيع أن يستمر في هذا المشروع إلا من يكون كريماً، ليس في بذل أمواله فقط في سبيل الدعوة، ولكن في بذل الأوقات، وهذا قد يكون أهم من الأموال التي يمكن الحصول عليها من مصادر أخرى، فالبخيل بوقته لا يمكن أن يقوم بعمل قوي ولا بنشاط دائم مستمر، وهما أصل هذا المشروع الدعوي.
وفي الختام: اعلم أنك من خلال هذا المشروع الدعوي العائلي المبارك لن تخسر شيئاً قط، بل سوف تستمتع بذلك، وسوف تجد السرور والطمأنينة في قلبك، وهما عاجل بشرى المؤمن، وسوف يهبك الله تعالى من السعادة والتوفيق - حتى في أمورك الدنيوية- ما لا تحتسب، ومع ذلك: فإنه يجب عليك أن تعلم أن الدنيا ليست هي دار الجزاء، وإنما هي دار الكد، والكدح، والعمل، أما جزاؤك: فتنتظره في الدار الآخرة عند الله.
ولا يعني هذا أن المهمة سهلة، وأن الطريق معبدة.. لا؛ فإن المهمة صعبة، والطريق وعرة شائكة، والمعركة على أشدها في زمن سادت فيه الشهوات، وانحرفت الأخلاق، وسيطر على الناس حب الدنيا حتى شغلتهم عن الآخرة وأنستهم إياها.(5/52)
ولكن مما يشد العزم ويقوي الهمة للقيام بهذا المشروع: استحضارنا لمعية الله الخاصة بعباده المؤمنين {وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: 69]، وإيماننا أن الثواب على قدر المشقة، وكلما كان الجهد أكبر، كان الثواب أعظم، أضف إلى ذلك: ما يحصله الإنسان من سعادة حين يشعر أنه قد تخطى الصعاب والعقبات وكان له سهم في خدمة هذا الدين.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المصلحين العاملين الموفقين.
===============
عالمية الدعوة و قضية اللغة
تعتبر قضية اللغة من القضايا الهامة التي مازالت تحتمل المزيد من التأمل والتحرير والضبط ، إذ تتكرر الإشارات و التنبيهات على أهمية معرفة العربية و أهمية إتقانها لفهم الشريعة و مصادرها ، واعتبارها عاملاً أساسياً جامعاً عند الحديث عن أيّ محاولة جادة للوحدة الثقافية بين المسلمين . و في هذا السياق تبرز مسألةٌ خطيرة لا بد من معالجتها بجرأة و أناة لما يترتب عليها من واجبات و مسؤوليات مضيّعة في حياتنا الفكرية و العملية .وتتمثل هذا المسألة في أنه لابد من التنبيه على قضية الدعوة و البيان و إقامة الحجة على الناس تحقيقاً للعدل الذي كتبه الله سبحانه على نفسه {و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} .
خاتم النبيين
فمن الحقائق الدينية المعلومة لدى الخاصة و العامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس كافة ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده ، و أنه أرسل رحمةً للعالمين . ومن الحقائق الدينية المعلومة بالضرورة أن القرآن الكريم عربي ، وأنه نزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمعرفة معاني القرآن و لمعرفة مراد الله سبحانه من آياته وأحكامه ، لابد من معرفة لسان العرب و معرفة تصاريف استعمالاتهم للعبارات والتراكيب ، حتى أن الإمام الشاطبي يقرر أن كل ما لا تفهمه العرب من القرآن فليس من الشريعة ، و يفوت المرء من معرفة القرآن بقدر ما فاته من معرفة كلام العرب .
وضوح الحجة
ومن الحقائق الدينية المعلومة كذلك أن الله تعالى أراد أن تقع الحجة على الناس ببيان يفهمونه وهديٍ يدركون معانيه {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة} ، {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}. وقد امتنّ الله سبحانه على العرب أنه أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يعرف طباعهم ويفهم طبيعتهم ومواضع حساسياتهم فوصفه الله تعالى بأنه {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
ومن جهةٍ أُخرى ، فإن من الحقائق المعلومة أن نسبة من يفهمون العربية من سكان الأرض لا تعدو واحداً في المائة على أحسن تقدير . و هنا لا بد من سؤال : ما هي الوسائل التي يجب على المسلمين في كل جيل وفي كل عصر اتباعها ليؤدوا مهمة البلاغ المبين ؟
إن طرح هذا السؤال لا يأتي من قبيل الترف و السفسطة وإنما يأتي في إطار الاستجابة الواعية للمسؤولية التي حمّلها الله سبحانه لأمة القرآن بقوله تعالى : {وإنه لذكرٌ لك و لقومك وسوف تسألون} . و لعل من البداهة أن ننظر في الوسائل التي اتبعها المسلمون لتحقيق البلاغ المبين بين الأمم و الشعوب التي أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لا يفهم لغته و لا يدرك من معاني قرآنه شيئاً ؟
والجواب على هذا السؤال على بساطته لا بد له من تحرير وضبط ، رغم أن المرء يحسبُ أن الأمر كان على درجةٍ من البداهة بحيث لم يجد من رواة الأخبار اهتماماً كافياً . فرغم أن النبي e أرسل بكتبه ورسله إلى أربعة من ملوك عصره ممن لا يتكلمون العربية وهم هرقل و كسرى و المقوقس و النجاشي ، إلا أنه لم ترد تفاصيل الحديث عن الترجمة و الترجمان إلا في حديث هرقل مع أبي سفيان . والمهم في الموضوع أن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل هذه الكتب بالعربية إلى من يتحدث بغير لسانها ثقةً و معرفةً بوجود الترجمة والمترجمين . فكتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره تشهد أن الحجة تُقام برسالةٍ مترجمةٍ و بيانٍ مترجم .
روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش و كانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد فيها أبا سفيان و كفار قريش . فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه و حوله عظماء الروم ثم دعاهم و دعا بترجمانه (إلى آخر الحديث) ..
و أفرد البخاري في صحيحه باباً لما يجوز من تفسير التوراة و غيرها من كتب الله بالعربية و غيرها ، لقوله تعالى )فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين(. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا بترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه و سلم فقرأه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ..} الآية .
وذكر البخاري في كتاب الأحكام عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود "حتى كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه" . وروى البخاري في كتاب الجزية و الموادعة عن جبير بن حية قال : ندبنا عمر و استعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو و خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً ، فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم ، فقال المغيرة سل عما شئت… الحديث .
تغير اللسان آية ومنة(5/53)
ومن المعلوم أن الله سبحانه و تعالى لا يمتن على عباده في كتابه وعلى لسان أنبيائه بما يطالبون بإلغائه والبعد عنه والتحرج منه، فإذا اعتبر الله سبحانه اختلاف الألسنة و الألوان من آياته الدالة على تمام الحكمة و تمام القدرة كان في ذلك دلالة واضحة على أنه لابد من التعامل مع ظاهرة التعددية اللغوية و قبولها و التعايش معها في إطار ثقافي يعترف بهذه التعددية و يبني عليها ليؤصل التعارف و ينفي الحرج والعنت عن الناس و هو يدعوهم إلى شريعة الرحمة . ولقد كان الجيل الاول من المجاهدين الذين ضربوا في الأرض لنشر الهدى و العلم مثالاً لابد من دراسته و كشف آليات الاتصال عنده، إذ لما اتسع سلطان المسلمين و مكن الله لهم في الأرض و اختلط المسلمون بشعوب و أمم مختلفة ، كانت الترجمة والمعايشة هي وسيلة الدعوة لفتح العقول والقلوب لحقائق الإيمان و قيم الإسلام و لم تكن قضية جواز الترجمة مطروحة أصلاً إلا من جهة خصوصية بيان القرآن الكريم ، أما أداء بعض الشعائر كالأذان و الصلاة و الخطبة بغير العربية لمن لا يستطيعها فتحدث فيه الأئمة لينفوا الحرج. ولقد كانت العربية هي لغة الثقافة ولغة الحضارة ، ولم يجد المسلمون حرجاً و لم يضيقوا بوجود اللغات الأُخرى من فارسية و تركية و هندية وغيرها تعايشت في ظل التسامح و التعارف و نقلت معاني أساسيات العقيدة والقيم والأحكام إلى كل لغات الشعوب الإسلامية .
ثغرة ينبغي أن تسد
إنه لابد للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يبحثوا هذه القضية بما تستحقه من جهد و تحليل وبحث لوضع و تأصيل خطة ومعيار للترجمة و كيفيّتها و ما يكتنفها من أمور لتكون البيان المبين الذي يقيم الحجة على الناس و يقطع أعذارهم . و لا يغنيهم في هذا أن يشيدوا بفصاحة القرآن و إعجاز القرآن و جمال تعابيره و صوره وتشبيهاته و استعاراته و إشراق بيانه ليعلنوا في نشوة الاستمتاع بلغة القرآن شعار " أن الترجمات لا تغني شيئاً ". وراجع إن شئت في هذا الباب كتاب كيف نتعامل مع القرآن للشيخ الغزالي رحمه الله
إنه لابد من الإشارة إلى وجود هذه الثغرة في حياتنا الثقافية و من ثم لابد من فتح ملف هذه القضية الكبيرة التي تتصل بصلب عقيدة المسلم و تصوره عن مهمته و دوره في المجتمع الذي يعيش فيه . و على سبيل المثال يشتكى بعض إخوتنا من المسلمين الأمريكيين أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالانكليزية لا تستحضر ثقافة وروح أساليب ومصطلحات المخاطب ولا تستعمل لغته التي يفهمها أو النموذج العقلي الذي يألفه و يرتاح إليه ، فتغدو هذه الكتب غير مفهومة ومحدثة لبعض التشويش و الاضطراب ، بالإضافة إلى أن هذه الكتب تتحدث عن أمور و مشكلات مستوردة لا تتعلق بحقيقة ما يعانيه أو يهتم به إخوتنا الأمريكيون . و يؤرق هؤلاء الاخوة أن الأمر يُعرض عليهم بصورة أن الفهم للإسلام لا يمكن إلا بتعلم العربية و إتقانها ، بكل ما يحمله هذا الاقتراح من عبء وجهد و وقت لا يملكونه .
وما يزيد المشكلة تعقيداً أنه ليس هناك جهد على مستوى خطورة المهمة لتطوير تعليم اللغة العربية ، و ليس هناك كتب مناسبة أو أدوات متخصصة لأداء هذه الأمانة. و يكاد المرء يذهل من غياب هذا الأمر و محدودية الجهود المبذولة فيه لدعوةٍ عالميةٍ حمَل الله أتباعها مهمة القيام بالبلاغ المبين والشهادة على العالمين .
كما يزيد الأمر خطورةً زهد العاملين و من يُصنّفون في زمرة الدعاة بقضية اللغة ، فيكاد الواحد منهم يمضي السنوات الطويلة في بعض البلاد غير العربية دون جهد حقيقي لتطوير لغته و فهم منطق وثقافة القوم الذين يعيش بينهم ليتمكن من تحرير معاني الإسلام ورسالته العالمية الخالدة بلُغةٍ سهلة قريبة بعيداً عن العبء الثقيل لخصوصيات التاريخ و الثقافة العربية و الشرقية على وجه العموم .
وفيما يأتي نطرح بعض الاقتراحات في هذا الباب عسى أن تكون على الأقل فاتحةً ومقدمةً للحوار الجدّي التفصيلي في هذا الأمر الحسّاس:
• لابد من فتح ملف هذا الموضوع الخطير ليتم البيان المبين و تقوم الحجة على العالمين .
إعادة صياغة الحقائق
لابد من البدء بإعادة صياغة حقائق العقيدة الاسلامية بشكل بسيط مباشر يربط حقائق العقيدة بالتغيير المطلوب على مستوى النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية والتفاعلات مع الكون والحياة . وقد يكون في ما ذكره الإمام الشاطبي بعض العون على تحرير هذه القضية و خدمتها . فقد ذكر الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" أن في اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالّة على معان نظران أحدهما : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مطلقة دالّة على معان مطلقة و هي الدلالة الأصلية . و الثاني : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مقيدة دالة على معانٍ خادمة و هي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين و لا تختص بأمة دون أُخرى . ويقرر الإمام أن أهل الإسلام اتفقوا على جواز ترجمة و تفسير معاني القرآن على جهة الدلالة الأصلية ، أما الوجه الثاني من الدلالة فهو كالتكملة والتتميم و لا يمكن ترجمة الكلام باعتبار هذا الوجه .
. لابد من تحرير حقائق العقيدة و تخليصها من العبء التاريخي لواقع المسلمين و المعارك الكلامية و الخلافيات و الجدل بين الفرق عبر العصور .
• لابد من تحرير قيم الشريعة وتخليصها من مؤثرات الواقع المعاصر للمسلمين و مشكلاتهم الداخلية و الخارجية.
• لابد من استيعاب الدراسات اللغوية ومنهجية تعليم اللغات وارتباطها بالثقافات و عادات التفكير عند مختلف الأمم .(5/54)
• لابد من تطوير طرائق تعليم العربية و إخراج المحاولات المتقدمة في مخاطبة جميع شرائح المجتمع يشكل يتناسب مع طبيعة كلٍّ منها.
=============
من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم
هذه وقفات يسيرة مع هديه - صلى الله عليه وسلم - في التعليم ، ولا شك أن هذا الباب واسع ويحتاج لاستقصاء وجمع لا يتيسر لأمثالي ، لكن هذا غاية ما توصلت إليه في بحثي القاصر ، ورحم الله من أفادنا بملاحظة ، أو إضافة ، أو توجيه .
عنايته بتعليم المنهج العلمي
ففي تربيته العلمية لأصحابه ما كان يقتصر على تعليم أصحابه مسائل علمية فقط، بل ربى علماء ومجتهدين ، وحملة العلم للبشرية . ولقد ظهرت آثار هذه التربية على صحابته في مواقفهم بعد وفاته من حادثة الردة ، وجمع القرآن ، وشرب الخمر ، واتخاذ السجون ، والخراج وغير ذلك من المسائل التي اجتهد فيها صحابته -رضوان الله عليهم- ، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام النوازل التي واجهتهم ، واستطاعوا أن يتوصلوا فيها للحكم الشرعي ، كل ذلك كان نتاج التربية التعليمية التي رباهم عليها - صلى الله عليه وسلم - ومن معالم تعاليمه المنهج العلمي :
1- تعويدهم على معرفة العلة ومناط الحكم
فلما سئل عن بيع الرطب بالتمر ، قال : ["أينقص الرطب إذا جف ؟" ، قالوا نعم ، فنهى عن ذلك](رواه الخمسة) .. وحين نهاهم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها قال لهم : ["أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟"](البخاري ومسلم) . وحين قال : ["وفي بضع أحدكم صدقة" ، قالوا له : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ، قال : "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر" ، قالوا نعم ، قال : "فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجراً"](مسلم) .
ففي هذه النصوص علم أصحابه علة الحكم ومناطه ، ولم يقتصر على الحكم وحده .
2- تعويدهم على منهج السؤال وأدبه
ففي موضع يقول : [إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم من أجل مسألته]البخاري ومسلم) ، و : [إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ، وإضاعة المال](متفق عليه) . فها هنا يذم السؤال ، لكنه في موضع آخر يأمر بالسؤال ، أو يثني عليه : [ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال](أبو داود) ، [لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث]البخاري) .
3- الإجابة بالقواعد العامة
سأله رجل : إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء فإذا توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فلم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - في إجابته على قوله نعم ، وإلا كان الحكم قاصراً على الحالة موضع السؤال وحدها ، إنما أعطاه حكم ماء البحر وزاده فائدة أخرى يحتاج إليها حين قال :[هو الطهور ماؤه الحل ميتته](الترمذي وصححه) ، ويعني هذا أن ماء البحر له سائر أحكام الماء الطهور ، وليس فقط يجوز الوضوء به في هذه الحالة . وسئل : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ ، فقال : [لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين](الشيخان) ، فلم يعدد له ما يجوز للمحرم لبسه بل أعطاه قاعدة عامة فيما يحل وما لا يحل للمحرم لبسه .
4- تربيته لأصحابه على منهج التلقي
[عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال : وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، فقال : "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجد](الترمذي وقال حسن صحيح) ، وقال في وصف الطائفة الناجية : [من كانوا على ما مثل أنا عليه اليوم وأصحابي](أبو داود) . وحين رأى مع عمر صحيفة من التوراة غضب ، ونهاه عن ذلك ، وقال : [لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي](أحمد) .
5- تربيتهم على منهج التعامل مع النصوص
خرج على أصحابه وهم يتمارون في القدر ، هذا ينزع آية ، وهذا ينزع آية فغضب حتى كأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب . وقال : [بهذا أمرتم ، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟! ، انظروا إلى ما أمرتكم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فاجتنبوه](أحمد) .
6- تعويدهم على الاستنباط
سأل أصحابه يوماً : "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم ، فحدثوني ما هي" . قال ابن عمر - راوي الحديث - فوقع الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت . ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال : "هي النخلة"(الشيخان) .
7ـ تربيتهم على القيام بواجب العلم
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"(أحمد) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : "بلغوا عني ولو آية"(البخاري) . وقال - صلى الله عليه وسلم - : "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع". وقد روى هذا الحديث (24) من أصحابه مما يشعر أنه قاله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مناسبة .
وانظر إلى أثر هذه التربية في قول أبي ذر -رضي الله عنه- : "لو وضعتم الصمصامة - السيف - على هذه - وأشار إلى رقبته - واستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قبل أن تجهزوا علي لأنفذتها"(البخاري) .
8ـ ترغيبه أصحابه في العلم(5/55)
ولا شك أن لذلك الترغيب دوراً كبيراً في إيجاد الحماسة لدى طالب العلم للتعلم ، والاستزادة من ينابيعه. فحين جاء ثلاثة نفر وهو جالس مع أصحابه فجلس أحدهم خلف الحلقة ، والآخر رأى فرجة فجلس فيها ، وأما الثالث فأعرض ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك : "أما الأول فآوى فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض ، فأعرض الله عنه"(البخاري) .
9ـ تشجيع الطالب والثناء عليه
سأله أبو هريرة -رضي الله عنه- يوماً : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث"(البخاري) ،
فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي هريرة ، وهو يسمع هذا الثناء وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة ، وشيخ المشايخ - صلى الله عليه وسلم - ، بحرصه على العلم بل وتفوقه على الكثير من أقرانه ، وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص أو الاجتهاد .
وحين سأل أبي بن كعب : "أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم ؟" ، فقال أبي : "آية الكرسي" ، قال له : "ليهنك العلم أبا المنذر"(مسلم) .
10ـ الجمع بين التعليم الفردي والجماعي
في كثير من النصوص نقرأ : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً مع أصحابه ، بينما كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا نموذج للتعليم الجماعي . وأما التعليم الفردي فنماذجه كثيرة ، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه"(متفق عليه) . ومن ذلك ما ورد من غير واحد من أصحابه : أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن ذلك حديث معاذ : "كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال : يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله.."(الشيخان) .
11ـ معرفة قدرات تلامذته وإدراكهم العقلي
فهو يقول لأبي هريرة حين سأله عن الشفاعة لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما أعلم من حرصك على الحديث(البخاري) .
12ـ التوجيه للتخصص المناسب
روى البخاري تعليقاً والترمذي عن زيد بن ثابت : أن قومه قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ها هنا غلام من بني النجار حفظ بضع عشرة سورة ، فاستقرأني فقرأت سورة ق ، فقال إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا ، فتعلم السريانية . فتعلمها - رضي الله عنه - في سبعة عشر يوماً
13ـ العناية بتعليم المرأة
فحين صلى العيد - صلى الله عليه وسلم - اتجه إلى النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة(البخاري) ، بل تجاوز الأمر مجرد استغلال اللقاءات العابرة ، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النساء قلن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوماً من نفسك" ، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن : "ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار" ، فقالت امرأة : واثنين ؟ فقال : "واثنين"(البخاري) .
14ـ استغلال المواقف في التعليم
قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي ، فإذا امرأة من السبي تحلَّبَ ثديها تسقي ؛ إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها ، وأرضعته ، فقال : "أترون هذه طارحة ولدها في النار" ، قالوا : لا ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، قال : "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(متفق عليه) .
15ـ التشويق والتنويع في العرض
فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً : "أتدرون ما الغيبة"(مسلم) ، "أتدرون من المفلس"(أحمد) ، "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي"(متفق عليه) . ولا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وتنميته ، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب مما يكون أرسخ في الذهن .
وأحياناً يغير نبرات صوته : "كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم"(مسلم) .
وأحياناً يغير جلسته كما في حديث أكبر الكبائر : "وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور"(الشيخان) .
16ـ استعمال الوسائل التعليمية
أ- فهو يشير تارة بقوله : "أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بأصبعه السبابة والوسطى"(البخاري) ، وقوله : "الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان" وأشار بيده إلى المشرق. (متفق عليه) .
ب- وتارة يضرب المثل ، أو يفترض قصة : "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا ، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً"(البخاري) . وكما في قوله : "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على دابته وقد أضلها في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فنام تحت شجرة ينتظر الموت ، فقام فإذا هي عند رأسه"(متفق عليه) .
جـ- وتارة يستعمل الرسم للتوضيح فقد خط خطاً مستقيماً وإلى جانبه خطوط ، وقال هذا الصراط وهذه السبل . ورسم مربعاً وقال هذه الإنسان..(البخاري) .
د- وأحياناً يحكي قصة واقعية من الأمم السابقة ، كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدعوا الله بصالح أعمالهم(متفق عليه) . وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا.(متفق عليه) ، وأمثالها كثير .
17ـ مراعاة الفروق الفردية(5/56)
كما ورد أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب فدخل رجل فقال : يا رسول الله رجل غريب يسأل عن دينه ، فترك خطبته ودعا بكرسي فجلس يعلمه ثم عاد لخطبته(متفق عليه) .
18ـ العناية بالتعليم
كما في الحديث السابق ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه فجاء رجل فسأل عن الساعة فمضى في حديثه . فقال قوم : سمع ما قال فكره ما قال ، وقال قوم : لم يسمع . ثم سأل مرة أخرى : متى الساعة ؟ فمضى في حديثه ، فلما انتهى من حديثه قال : أين أراه السائل عن الساعة ، فقال : أنا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال : وما إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة(مسلم) ، فهو - صلى الله عليه وسلم - رغم أنه لم يقطع حديثه لم ينسَ هذا السائل ولم يهمله .
وحين خطب في حجة الوداع قال أبو شاه : اكتبوا لي : فقال : اكتبوا لأبي شاه.(البخاري) .
19ـ تأكيد ما يحتاج التأكيد
فقد حلف على مسائل كثيرة تزيد على الثمانين : "والله لا يؤمن.. والذي نفسي بيده.. وأيم الله.." وغيرها كثير .
20ـ مراجعة العلم والحفظ
فقد أوصى حفاظ القرآن بتعاهده والعناية به : "تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها"(الشيخان) ، وكان جبريل يدارسه القرآن. (البخاري) .
وحين علم - صلى الله عليه وسلم - البراء دعاء النوم قال أعده علي فقال : وبرسولك -الذي أرسلت فقال - صلى الله عليه وسلم - بل وبنبيك الذي أرسلت](الشيخان) .
............
محمد بن عبد الله الدويش
===============
بصائر دعوية في جانب العقيدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تناولت في الحلقة السابقة ثلاثاً من البصائر الدعوية في جانب العقيدة، وسألحق بها اليوم إن شاء الله أربع بصائر أخرى، وهي:
1- البصيرة الأولى:
أن لا يبدأ من يريد تعليم العقيدة الصحيحة ونشرها بين الناس، بأسلوب رد الشبهات المثارة حولها، ومناقشة الخلافات الواردة فيها.. بل يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وإبراز أهميتها، والأدلة عليها، ومحاسنها على وجه تتلاشى أمامه الشبهات القائمة أو المتوقعة تلقائياً.. وذلك حتى لا تتداخل الشبهات مع أصل العقيدة، فتعكر من صفائها، أو تعقّد من فهمها.. أولاً وتمشياً مع ملامح المنهج الرباني الذي يبدأ بتقرير العقيدة الصحيحة، وتثبيتها في النفوس البشرية وتحصينها، قبل أن يبدأ بإبطال العقائد الفاسدة السائدة، ومناقشة شبهاتها .. ثانياً. وانسجاماً مع الفطرة البشرية السليمة التي تتقبل الحق وتقبل عليه، وترفض الباطل وتنفر منه.. ثالثاً>
2- البصيرة الثانية:
أن تُتجنب في تقرير العقيدة وتعليمها للناس الأساليب الكلامية، والمناهج الفلسفية التي صيغت بها كثير من كتب العقائد في عصور سابقة.. وأن تقدم العقيدة إلى الناس من خلال النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي عرضت بها في الصدر الأول..
فكثيراً ما يعود بعد الناس اليوم عن كتب العقيدة خاصة، وإعراضهم عنها، إلى أسلوب صياغتها واعتمادها على أساليب علم الكلام والمنطق، التي كانت سائدة في بعض العصور السابقة، ومقبولة سائغة من قبل أهل تلك العصور.. حتى أصبحت مادة العقيدة الإسلامية عند كثير من الدارسين لها في المعاهد والجامعات من أصعب المواد التعليمية، وأعقد الدراسات الشرعية!!
فلا بد من العمل على صياغة المسائل العقدية في كتب العقيدة، ولا سيما للمبتدئين بأسلوب سهل واضح يناسب لغة العصر، وفهم أهله، وأن تؤخذ الأمثلة الناطقة بها من واقع الناس ومشاهداتهم وأن تربط مسائل العقيدة اليوم، بواقع الناس وسلوكهم، بدلاً من أن يمثل لها بأمثلة تاريخية قديمة، ومواقف تاريخية سابقة!!
ولا تعني هذه البصيرة التشطيب على الكتب العلمية القديمة، وتجاهل بعض المسائل العقدية الهامة، وإنما تترك للمتخصصين في علم العقيدة والباحثين فيها، الذين وضح لهم الحق من الضلال، وتميز لديهم الصحيح من الفاسد من جهة، والذين تجب عليهم الإفادة من تراث السابقين وأساليبهم في معالجة مشكلات عصرهم من جهة أخرى، فإن في مثل هذه الكتب من الفوائد مالا يستغني عنه أمثال هؤلاء..
3- البصيرة الثالثة:
أن ترتكز الكتابات العقدية الحديثة على كل من العقل والعاطفة في وقت واحد، فلا تصاغ المسائل العقدية على شكل تصورات عقلية، أو محاكماتٍ فكرية مجردة.. أو تكون عبارة عن لمسات عاطفية، ومشاعر وجدانية بعيدة عن العقل والتفكر.. بل لا بد أن من أن تلامس هذه الكتابات والمقالات روح الإنسان كما تلامس عقله، وتخاطب الفكر كما تخاطب الوجدان.. وأن يُتحدث عن خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها في النفس البشرية بالتفصيل، كما تقرر أحكامها ومسائلها بالتفصيل، وإلا كانت عقيدة نظرية مجردة، أكثر منها عقيدة عملية مؤثرة. فإنه بقدر المزج بين العقل والعاطفة في الكتابات العقدية من جهة، وبقدر الجمع بين الأحكام والآثار، وتوثيق ربطها بها من جهة أخرى، تفعل العقيدة الإسلامية فعلها في النفوس، وتتجلى آثارها العملية في حياة الناس.. وبقدر الفصل والبعد في كتب العقيدة بين العقل والعاطفة، والحكم والأثر، تصبح العقيدة في النفوس البشرية مجرد مشاعر وجدانية، أو محاكمات فكرية جافة، أو نظريات مجردة بعيدة عن التطبيق..(5/57)
فعندما يتناول الداعية الحديث عن صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى مثلاً، لا يصح له أن يقصر حديثه على إثبات تلك الأسماء والصفات فحسب، لتحفظ وتكرر دون استشعار لمدلولاتها، ووقوف على آثارها.. فمن المعلوم أن لكل اسم من أسماء الله الحسنى، ولكل صفة من صفاته العلى أثراً في هذا الإنسان وفي الكون من حوله، فمن البصيرة في الدعوة إلى العقيدة، أن تربط تلك الأسماء والصفات الجليلة بآثارها العظيمة النافعة..
فمن أثر الرحمن الرحيم، رحمة الله البالغة بالعباد والمخلوقات..
ومن أثر الخالق البارئ المصور، الخلق والتصوير..
ومن أثر القابض الباسط، الرزق وقبضه وبسطه..
ومن أثر المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الهيمنة المطلقة على هذا الكون، والخضوع المطلق له سبحانه، واللجوء إليه..
ومن أثر الهادي النافع، والمعطي المانع، الاهتداء بهديه والرغبة بنفعه وعطائه، والرهبة والخوف من ضره ومنعه..
وقل مثل هذا في كل اسم من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي أمرنا أن ندعو الله بها ونناجيه سبحانه.. قال تعالى: } وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { /180/ الأعراف.
والتي جاء الترغيب بإحصائها وحفظها، ليكون العبد دائماً على صلة بها، وتفكر في معانيها، فقد جاء في الحديث الشريف: ( إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة ) متفق عليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي r بعث رجلاً على سريَّة، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ: ( قل هو الله أحد ). فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك). فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه).
4- البصيرة الرابعة:
ينبغي أن يُغلب على أسلوبه في دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، ونهيهم عن العقيدة الفاسدة، أسلوب الموعظة الحسنة على أسلوب المجادلة، وأسلوب الإشفاق والرحمة بالمدعوين على أسلوب الإنكار والتشنيع عليهم.. فيختار لذلك الأسلوب المحبب، واللفظ المؤدب..
فلا ينادى الكافر عند دعوته إلى الإسلام بلقب الكافر، ولا يخاطب الضال والمبتدع بلقب الضال والمبتدع، وما إلى ذلك من ألقاب اعتاد بعض الناس أن يوزعها على المدعوين والمخالفين، فيقابلهم الناس بمثلها أو أسوأ منها! وإنما ينبغي عليه أن يخاطبهم - إن كان داعية بصيراً - بروح الإخوة والمودة والمحبة، فيختار الألفاظ والألقاب المحببة إلى النفوس، والمؤثرة فيها، والجاذبة لها.. وإلا كان منفراً فتّاناً قبل أن يكون ميسراً مبشراً، وهادياً مهدياً..
وما أكثر ما يغفل بعض دعاتنا عن مثل هذه البصيرة، ويصور لهم شياطين الإنس والجن أن أفعالهم وأساليبهم الخاطئة هذه، بأنها جرأة في الحق، وصدعٌ به، وأنهم يكونون بذلك من الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فيسيئون من حيث يريدون الإحسان!!
أسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل، وأن يقينا الزلل في القول والعمل، وأن يغفر لنا ما قدمنا وأخرنا.
(((((((((((((((((((((((
الفهرس العام
الباب الخامس - دراسات في الدعو ة
علو الهمة ـ علامة كمال العقل
العقبات الخارجية في الدعوة وكيفية مواجهتها
الفتور.. مظاهره وأسبابه، وطرق العلاج
الحركة الإسلامية .. هموم وآمال
الداعية في مواجهة الآخر.. الانطلاق من النقطة الخطأ
رؤية مستقبلية للدعوة النسائية
مناهضة الفكر الاستشراقي
الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة
المال.. دور حيوي وأثر فعال في إحياء الدعوات
صراع الهويات.. وخصائص الهوية الإسلامية
القدوة الحسنة
اكتساب مهارات الدعوة
كيف نخاطب الجماهير..؟!
الأصالة والمعاصرة
المرأة المسلمة وهمُّ الدعوة إلى الله
دور الشباب في الحركات الإسلامية
الدعوة الفردية آمال ونصائح 1ـ2
الدعوة الفردية آمال ونصائح 2ـ2
أترضاه لنفسك ؟.. ومعالم في التربية
المصلحون يصنعون الفرص
التعليم والتذكير
الدعوة إلى الله عبر الفضائيات.. بين الضوابط والمحاذير
الوسائل النبوية في الدعوة إلى الله
الترغيب
الترهيب
الكتابة.. أسلوب دعوي ناجح
برنامج عملي للدعوة بين الأقارب
عالمية الدعوة و قضية اللغة
من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعليم
بصائر دعوية في جانب العقيدة(5/58)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (6)
الباب السادس - منوعات
جمعها وأعدها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السادس - منوعات
مراتب دعوة غير المسلمين (1- 2 )
بقلم : د.فاطمة بنت صالح الجارد
تعريف المراتب لغة واصطلاحًا:
مراتب جمع مرتبة والمرتبة هي : المَنْزِلةُ. وفي الحديث: من مات على مَرْبَتةٍ من هذه المَراتِب، بُعِثَ عليها؛ المَرْتَبة : المَنْزِلةُ الرَّفِيعةُ؛ أراد بها الغَزْوَ والحجَّ،ونحوهما من العبادات الشاقة (1).
المراتب في الاصطلاح هي : الدرجات (2).
ومراتب دعوة غير المسلمين هي الدرجات التي يتبعها الداعي في دعوته لغير المسلمين بحسب ما تقضيه الأحوال.
وقد أطلق ابن القيم مراتب الدعوة على كيفيتها(3) وامتداد مكانها (4) وعلى هذا فالدعوة لابد أن تكون مرتبة بأسلوبها وبانتشارها كما أن الإعلام بالدعوة قد يكون سريا وقد تكون جهريا وهذه مرتبتي الإعلام ، وكذلك طريقة الاتصال قد يكون اتصال مباشر وغير مباشر ، وقد تتوالى هذه بحسب أو تختلف بحسب حاجتها ، وكذلك قد يكون الاتصال فرديا وقد يكون جماعياً ، فقد تتوالى تلك المرتبتين أو تختلف حسب الحاجة .
فمراتب الدعوة لغير المسلمين تكون كالتالي :
أولاً : الترتيب الكيفي ( الأساليب ) :
وهو مايتعلق بأسلوب الدعوة فلا بد من مراعاة هذا الجانب لتأليف قلوبهم إلى الإسلام وتحبيبهم له والأصل في ذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (5) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : جعل الله مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريقة الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب والمعاند يجادل بالتي هي أحسن(6).
والمتبع لسيرة المصطفى يجد أنه اتبع هذه الأساليب مع المسلمين وغيرهم كما سيأتي بيانه, وهناك مراتب أخرى خاصة بغير المسلمين وهي أسلوب المباهلة والأساليب الفعلية كالقتال والإجلاء فمراتب الأسلوب لغير المسلمين تكون كما يلي :
1 ـ القول اللين :
فقد أمر الله موسى ـ عليه السلام ـ عندما أرسله إلى فرعون بأن يقول له قولا ليناً قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (7) "والقول اللين هو الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلم للمخاطب أن له من سداد الرأي ما يتقبل به الحق ويميز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله ………. ومن اللين في دعوة موسى عليه السلام ـ لفرعون قوله تعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (8) وقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (9)
وكذلك في دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويظهر ذلك في دعوته لأبيه في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} . (10)
قال الشيخ الفخر الرازي : واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمر باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لاينبغي ثم أنه ـ عليه السلام ـ أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام :{ يَا أَبَتِ } دليل على شدة تعلق قلبه بمصالحه.(11) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق العلم والحكمة ، واللين والسهولة ، والانتقال من رتبة إلى رتبة ، والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق ، بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك بالصفح ، والعفو ، بل بالإحسان القولى والفعلى .(12)
2 ـ الوعظ والنصح :
يقصد بالوعظ : الأمر بفعل الخير وترك الشرّ بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال، (13) وأما النصح فهو : الدعاء إلى ما فيه الإصلاح والنهي عما فيه الإفساد. (14)
وقد أمر الله بأن تكون الدعوة بالوعظ ، والمتأمل لدعوة الرسل كان يغلب عليها جانب الوعظ , وقد اشتملت الكتب السماوية جميعها على الموعظة ، ودل القرآن على ذلك بآيات كثيرة. (15)(6/1)
ويرى بعض العلماء أن الوعظ خاص بالإنكار على المسلمين ، منهم الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث قال : الوعظ يكون لمن أقدم على الأمر ،وهو عالم بكونه منكراً ، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً ، كالذي يواظب على الشرب ، أو على الظلم ، أو على اغتياب المسلمين. (16)
قلت : من خلال الأمثلة التي ذكرها الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يفهم أنه قصر الوعظ على الإنكار على المسلمين ، والصحيح عدم قصره عليهم فقط بل يعم الكافرين ، وذلك لعدة أوجه:
الوجه الأول : أن الله سبحانه وتعالى سمى القرآن موعظة وهو مليء بالمواعظ ، وقد أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قريش وقد كانت أمة كافرة تعبد الأصنام قال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } (17) قال الزمخشري: أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، شفاء أي: دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم.(18)
قالت الباحثة : فإذا كان الخطاب موجهاً للناس جميعاً ومنهم الكافرون أو كان لقريش خاصة ، وقد سمي موعظة فدليل أن الكافرين يدعون بالوعظ ، كما أن الوعظ هنا في التوحيد ، والتوحيد يخاطب به أيضاً الكافرون .
والوجه الثاني : أن الله تعالى قد خص سورة هود في أن فيها موعظة للكافرين وتذكره لللمؤمنين ، لشمولها على أحوال الأمم السابقة المكذبة لرسلهم ، فعندما قص قصصهم قال تعالى : - في آخر السورة - {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (19) قال الطبري : وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله وتبين لهم عِبره ممن كفر به وكذّب رسله. وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم. (20) وقال القرطبي : الموعظة ما يُتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السّورة؛ لأن غيرها من السّور قد جاء فيها الحقّ والموعظة والذّكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التّخصيص. (21)
والوجه الثالث : خطاب الله سبحانه وتعالى للكافرين بالوعظ في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (22) فالله سبحانه وتعالى أطلق على هذا الخطاب وعظاً وهو موجه لكفار قريش وفي هذا الخطاب يطالبهم بالتفكر والتأمل ليثبت لهم عكس ما ادعوه .
والوجه الرابع : إسلام عثمان بن مظعون عندما سمع أجمع آية في القرآن في الوعظ ، وقد أطلق الله سبحانه وتعالى عليها وعظاً وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (23) عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قال : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم- بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( ألَا تَجْلِسُ ) قال : {بَلَى } قال : فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقال : لَهُ وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقال لَهُ ، شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى قال :{ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ }قال :( وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ ؟ ) قال : رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقال لَكَ قال : وَفَطِنْتَ لِذَاكَ قال عُثْمَان ُ : نَعَمْ ، قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ) أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ( قال : رَسُولُ اللَّهِ ؟ قال : ) نَعَمْ (قال : {فَمَا قال لَكَ ؟ }قال : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (24) قال عُثْمَانُ : فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا ) (25) (26)(6/2)
ومن الوعظ الحسن الترغيب بتعريفهم بفضل إيمانهم فالأجر لهم مضاعف عن أبي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.....الحديث ).(27 )
3- المجادلة :
هي دفع القول على طريق الحجة بالقوة ..... وتكون حقا في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل.(28)
والأصل فيها قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(29)والأمر هنا لم يخصص لذا فتكون المجادلة للمسلمين وغير المسلمين ، ولكن تختلف لغيرالمسلمين باختلاف المدعوين .
أ : مجادلة مدعي الربوبية:
كما جادل إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام - ، النمرود بن كنعان وفرعون مصر ففي جدال إبراهيم قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (30)
وفي جدال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. (31)
والهدف من هذه المجادلة هو قطع حجتهم وإفحامهم وإثبات عجزهم .
ب : مجادلة منكري الربوبية:
ويكون الجدال معهم لإثبات قدرة الله على الخلق والتدبير والملك والإحياء والإماتة ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (32)
جـ : مجادلة أهل الكتاب:
وقد استطر القرآن الكريم في هذه المجادلة ومن ذلك الدعوة إلى كلمة سواء وهي لا إله إلا الله قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. (33)
4 ـ الغلظة :
وتكون الغلظة بالقول وبالفعل وهذا الأسلوب يستخدم مع من دعي بالأساليب السابقة وعاند وجحد ومن هذه الأساليب .
1 ـ المباهلة :
المُبَاهَلَةُ الملاعنة و الابْتِهَالُ الاسترسال في الدعاء والتضرع فيه .(34)
وقد بين القرآن والسنة كيفية المباهلة مع اليهود والنصارى كما يلي :
أ : مباهلة اليهود:(6/3)
لقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم وحدهم الفائزون بمغفرة الله ورضوانه ، وأنهم ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب ، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (35) وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (36) وقد نقض الله تعالى تلك الدعاوى الباطلة بقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (37) (38) فكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت . (39) فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. (40)
ب : مباهلة النصارى:
وقد جاءت دعوة النصارى إلى المباهلة عندما قدم وفد من نجران فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (41)
في صحيح مسلم ، َلَمَّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ. دَعَا رَسُولُ اللّهِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هؤلاء أَهْلِي». (42)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (43)
................
(1) لسان العرب ، باب : الراء ، مادة رتب . مكتبة الحديث الشريف ، شركة العريس الإصدار الثامن .
(2) فيض القدير ، 1 / 105 .
(3) انظر مفتاح دار السعادة ، ابن القيم ، ، 1 / 474. انظر المعجم الوسيط ، مرجع سابق ، 2/ 1050، حرف الواو ، مادة وضع . موسوعة أخلاق القرآن ، مرجع سابق ، 1 / 68.
(4) انظر زاد المعاد ، ابن القيم ، 1 / 86 .
(5) سورة النحل ، آية رقم : 125.
(6) فيض القدير ، 1 / 105 .
(7) سورة طه ، آية رقم : 43، 44.
(8) سورة النازعات ، آية رقم : 18ـ 19
(9) سورة طه ، آية رقم : 47.
(10) سورة مريم ، آية رقم : 41 ـ 45 .
(11) التفسير الكبير ، الإمام فخر الدين الرازي ، ت 606، ط بدون رقم [ بيروت ، دار إحياء التراث ، 1415هـ/ 1995م] ، 21/ 545.
(12) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي [ بيروت مؤسسة الرسالة ، الطبعة السادسة ، 1417هـ / 1997م ]، ص 444.
(13) التحرير والتنوير ، ابن عاشور ، 5 / 108.
(14) تعريفات سيد شريف ط بدون رقم [ استنابول ، مطبعة أحمد كامل ، 1327هـ] ، ص : 16 ، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، قام باخراج هذه الطبعة ابراهيم انيس وآخرون ، ط بدون رقم و تاريخ[ استانبول ، المكتبة الاسلامية] ، 2 / 925 .
(15) انظر الاحتساب باللسان ، فاطمة بنت صالح الجارد ، رسالة ماجستير مطبوعة تحت النشر ، [ ط 1 ، 1426هـ / 2005 م ، الرياض ، دار المؤيد ، ] ص : 138 .
(16) إحياء علوم الدين ، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ، ط[ بيروت ، المكتبة العصرية للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية ، 1417هـ /1996م ] ، 2 / 444.
(17) سورة هود ، آية رقم : 57.
(18) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، للإمام محمود بن عمر الزمخشري، ت 528هـ ، رتبه وضبطه وصححه مصطفى حسين أحمد ، د . ط ، د . ت ، د . م [دار الكتاب العربي] ، 2 / 241.
(19) سورة هود ، آية رقم : 120.
(20) جامع البيان في تأويل القرآن ، الطبري ، 12/ 87.
(21) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، 9/ 116.
(22) سورة سبأ ، آية رقم : 46.
(23) سورة النحل ، آية رقم : 90.
(24) سورة النحل ، آية رقم : 90.
(25) أخرجه أحمد ، وصححه المحقق أحمد شاكر ، حاشية المسند ، 3 / 285 ، ح : 2922وقال : ابن كثير : إسناد جيد متصل حسن .
(26) انظر الاحتساب باللسان ، المرجع السابق ، ص : 191 ـ 194 .(6/4)
(27) أخرجه البخاري ، ك : العلم ، ب : تعليم الرجل أمته وأهله ،1 / 48 ، ح : 97 ، ومسلم ، ك : الإيمان ، ب : وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم 1 /134 ، ح : 154.
(28) الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن أحمد الانصاري القرطبي، ط بدون رقم [ بيروت ، دار إحياء التراث ، ، 1405هـ / 1985م ] ، 7 / 77.
(29) سورة النحل ، آية رقم : 125.
(30) سورة البقرة ، آية رقم : 258
(31) سورة الشعراء ، آية رقم : 23ـ 29 .
(32) سورة الجاثية ، آية رقم : 24 ـ 28 .
(33) سورة آل عمرآن ، آية رقم : 64 .
(34) المفرادت في غريب القرآن ، ابو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني ، تحقيق ، محمد سيد كيلاني ، د. ت ، د . ت ، [ بيروت ، دار المعرفة ] ، ص : 63، مادة : بهل .
(35) سورة البقرة ، آية رقم : 111 .
(36) سورة البقرة ، آية رقم : 80 .
(37) سورة البقرة ، آية رقم : 94 ـ 96 .
(38) انظر أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم ، د . حمود بن أحمد الرحيلي ، [ ط 1 ، 1414هـ الرياض ، دار العاصمة ] ص : 44 ـ 45 .
(39) تفسير الفرآن العظيم ، ابن كثير القرشي الدمشقي ، د.ط ، د.ت[ الرياض ، مكتبة الرياض الحديثة ] 1 / 220.
(40) جامع البيان في تفسير القرآن ، 1/ 336 .
(41) سورة آل عمران ، آية رقم : 61 .
(42) صحيح مسلم ، ك : فضائل الصحابة ، ب : فضائل علي رضي الله عنه ، 15 / 147 ، ح : 6173 .
(43) صحيح البخاري ، ك : المغازي ، ب : قصة أهل نجران ، 8 / 427 ، ح : =================
مراتب دعوة غير المسلمين (2-2)
بقلم : د.فاطمة بنت صالح الجارد
2 ـ التهديد :
يكون التهديد إما بالقول أو بالفعل :
أ ـ التهديد بالقول:
إما بالوعيد بجزاء الفعل في الآخرة كقوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (1) وكما في تهديد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهرقل الروم : ( فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ) (2) الأريسيين جمع الأريس . قال ابن ححر : الأريس قيل معناها الأكار ـ أي الفلاح ـ وقيل معناها الأمين، أي تقال للتابع والمتبوع ، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين ، فإن كان المراد التابع فالمعنى أن عليك مثل إثم التابع لك ترك الدخول في الإسلام ، وإن كان المتبوع فكأنه قال فإن عليك إثم المتبوعين ، وإثم المتبوعين يضاعف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحق من إضلال أتباعهم .(3)
أو تهديد بفعل كتهديد إبراهيم ـ عليه السلام ـ قومه بتكسيرأصنامهم في قوله تعالى : ( وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (4)
ب ـ الغلظة بالقتال :
ويكون هذا مع أهل الحرب من الكفار . قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ). ( 5) قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة" ( 6) وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (7)
قال القرطبي : أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلْظة وإقامة الحجة، وأن يعرّفهم أحوالهم في الآخرة. (8)
ويكون القتال بالترتيب الأقرب فالأقرب . قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (9). قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة" (10) وقال ابن كثير:أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن،غليظًا على عدوه الكافر (11) أي ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. (12) ، وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى. (13)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً : الترتيب المضموني ( الموضوعي ):
والمقصود به موضوع الدعوة ، فلا بد أن يخضع هذا الترتيب لحال عقيدة المدعوين كما يلي :
1 ـ تقرير عقيدة الربوبية :(6/5)
لقد فطر الله الناس على الفطرة عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (14) " (15) . والفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق ، لكن الإنسان تحيط به مؤثرات تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق . (16) وتزداد المؤثرات على الإنسان فيعتقد بإيجاد الدهر له وللكون قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (17) فأول مرتبة يبتدأ بها المدعو عند هؤلاء تقرير عقيدة الربوبية ودعوتهم إلى إفراد الله بالخلق والملك والتدبير وإيقاظ تلك فطرة التي خلقهم الله عليها ودعوتهم إلى التدبر بأنه لا بد لكل مخلوق إلى خالق، والتأمل في خلق الكون ومايحويه من مخلوقات من مد الأرض، ورفع السماء، وإيلاج الليل والنهار، وتكوير الكواكب، وتسخير الفلك، وتسيح الرعد، وإنزال الماء، وإرسال الرياح، وخلق الإنسان وتطور ذلك الخلق، وتصويره في الأرحام وتسخير الكون كله له، ووصف البعث، والجزاء وجميع الدلائل على قدرته، والدلالة على أنها الخالق والمالك لها ومدبرها واحد. والآيات على ذلك كثيرة .
2 ـ تقرير عقيدة الألوهية:
و الذين يخاطبون في هذا التقرير كثير وقد استطرد فيه القرآن كثيراَ سواء في دعوة أهل الكتاب أو مشركي العرب فقد ورد على ألسنة عدد من الرسل وهم نوح وهود و صالح وشعيب قوله تعالى:( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (18) وعلى لسان موسى كما ورد على لسان موسى لقومه في قوله تعالى: ( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (19) وعلى لسان عيسى عليه السلام قال تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (20) وفي دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كثير من ذلك منها قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) (21) كما أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا المضمون أثناء بعث معاذ إلى اليمن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم ). (22)
ب : تقرير عمومية رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). (23)
ج : تعليمهم الفرائض والعبادات:
كما اتضح ذلك في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الحديث السابق .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثاً : الترتيب المكاني:
وهذا المقام الثاني الذي أطلق عليه ابن القيم مراتب الدعوة وأشرنا إليه في أول المبحث وذكر أنها خمس مراتب حيث ذكر الأولى النبوة ، والصحيح أنها أربعة مراتب كمايلي :(6/6)
المرتبة الأولى " إنذار عشيرته الأقربين " فعندما أمره الله بالقراءة في الآيات السابقة ، وأثبت له ربوبيته نهاه ألا يدع معه إله آخر وأن ينذر عشيرته الأقربين قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (24) عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـُ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ). (25)
المرتبة الثانية: " إنذار قومه " وبدأت هذه المرتبة بنزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (26) أي فاجهر به أظهر ما تؤمر به وبلغه علناً على رؤوس الأشهاد ،أو فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. (27) فأعلن الدعوة وجهر بها تنفيذاً لهذا الأمر من الله سبجانه وتعالى .
المرتبة الثالثة " إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة " قال تعالى: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) (28) فكان صلى الله عليه وسلم يستثمر تجمعات العرب في الحج فيعرض عليهم الإسلام .
المرتبة الرابعة: "إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر " وفي هذه المرتبة كانت الدعوة عن طريق إرسال الرسائل والرسل إلى الملوك ، وكذلك عن طريق الجهاد. (29)
رابعاً : الترتيب الإعلامي:
السرية:
فقد بدأت دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في مكة، من أول نبوته سرا، بقوله تعالى: ( قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (30) واستمرت مدة الدعوة ثلاث سنين. (31)
الجهرية:
وهي المرحلة التي أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنًا، مبتدأ بالأقربين كما قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (32) فبدأ بالأقربين ثم من حوله ثم الناس أجمعين كما بينا في الترتيب المكاني . فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام، وإلى المواسم الأخرى في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة. (33)
قلت : وهذا خاص بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أما غيرها ، فتكون سرية الدعوة وجهريتها بحسب مايستدعيه الحال وما تحيط به من ظروف .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خامساً : ترتيب الاتصال( الوسائل ):
1 ـ الاتصال المباشر:
أ : الاتصال الفردي:
قد تحتاج الدعوة إلى أن تكون فرديه ، وهذا يعد لعدة أسباب ،أما متعلقة بالمدعو كأن يكون صاحب سلطة ، ويكون له متبوعين كما في قصة موسى مع فرعون ، أو يكون له مكانة من الداعي كما في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب . فعن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قال : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي طَالِب : ( ٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ... ) الحديث. (34)
ب : الاتصال الجماعي :
وهو دعوة الناس أو فئة منهم . عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ..... ) الحديث (35)
2- الاتصال بالمراسلات ( الغير مباشر ):
ويكون بإرسال الرسائل والرسل والوفود .
والاتصال لايكون بالترتيب بل يكون حسب الظروف المحيطة بالدعوة . وكذلك التراتيب الأخرى ليست على إطلاقها ، فقد تسبق مرتبة أخرى ، ماعدا مايتعلق بالترتيب الموضوعي فلابد من البدء بالعقيدة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران ، آية رقم : 63
(2) أخرجه البخاري ، ك : بدء الوحي ، ب : بدء الوحي ،1 / 9 ، ومسلم ، ك : الجهاد والسير ، ب : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل 3 / 1396 .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ابن حجر 8 / 178.
(4) سورة الأنبياء ، آية رقم : 57.
(5) سورة التوبة ، آية رقم : 57 .
(6) تفسير القرآن العظيم ، 4 / 69 .
(7) سورة التوبة ، آية رقم : 73 .
(8) الجامع لأحكام القرآن ، 18 / 201 .
(9) سورة التوبة ، آية رقم : 123 .
(10) الجامع لأحكام القرآن ، 8 / 297 .(6/7)
(11) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، 2 / 41 .
(12) جامع البيان في تفسير القرآن ، 11 / 52 .
(13) الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي ، 8/ 297 .
(14) سورة الروم ، آ ية رقم : 30.
(15) صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري د . ط ، د . ت [ بيروت ، دار إحياء التراث العربي] ك : الجنائز ، ب : إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه ، 1 / 456، ح : 1292، ورواه مسلم ، صحيح مسلم ، أبو الحسن مسلم بن الحجاج ، ط بدون رقم [ بيروت ، دار ابن حزم ، 1416هـ ] ك القدر ، ب : معنى كل مولود على الفطرة ، 4 / 2047 ، ح : 2658.
(16) العقيدة في الله ، عمر الأشقر ،[ عمان ، دار النفائس ، الطبعة العاشرة ، 1415هـ / 1995م ] ص 69 .
(17) سورة الجاثية ، آية رقم : 24.
(18) سورة هود ، آية رقم : 50 .
(19) سورة طه ، آية رقم : 98.
(20) سور ة المائدة ، آية رقم : 72.
(21) سورة الجن ، آية رقم : 20.
(22) أخرجه البخاري ، ك : الزكاة ، ب : أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا ،2 / 544 ، ح : 1425. ، ومسلم ، ك : الإيمان ، 1 / 50 ، ح : 19
(23) سورة سبأ ، آية : 28 .
(24) سورة الشعراء ، آية رقم : 213_214.
(25) أخرجه البخاري ، ك : الوصايا ، ب : هل يدخل الولد والنساء من الاقارب ، 3 / 1013 ، ح : 2602. ومسلم ، ك : الإيمان ، ب : قوله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ، 1 / 193، ح : 204.
(26) سورة الحجر ، آية رقم : 94.
(27) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، محمد الأمين الشنقيطي ، [ بيروت ، دار احياء التراث العربي ، الطبعة الأولى ، 1417هـ / 1996م ] ، 2/ 105.
(28) سورة القصص ، آية رقم : 46.
(29) انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ،ابن قيم الجوزية ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ،عبد القادر الأرنؤوط ، ط [ بيروت ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الرابعة عشر ، 1407هـ / 1986م ]، 1 / 86 .
(30) سورة المدثر ، آية رقم : 2 ـ 3 .
(31) أثر الهجرة على تطور الدعوة الإسلامية وانتشارها في أنحاء العالم، للدكتور محي الدين الألواني ، www.iu.edu.sa/Magazine ، وانظر الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ، رؤوف شلبي [ط 3 ،1403 هـ / 1983م ، الكويت ، دار القلم ] ص : 293 .
(32) سورة الشعراء ، آية رقم : 213_214.
(33) الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي ، 8/ 297 .
(34) أخرجه البخاري ، ك : تفسير القرآن ، ب : قوله تعالى:( إنك لا تهدي من أحببت) ، 4 / 1788 ، ح : 4494 ، ومسلم ، ك: الإيمان ، ب : الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ، 1/ 54،ح : 24.
(35) أخرجه أحمد ، 4/ 341 ، ح : 19026 . وصححه المحقق أحمد شاكر ، انظر حاشية المسند ، 12 / 419 ، ح : 15965.
================
الهجرة النبوية والدروس التربوية والدعوية
لا جدال في أن الهجرة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأكمل تسليم ـ تمثل مرحلة من أهم مراحل الدولة الإسلامية وأخطرها. فهي مرحلة انتقالية لإثبات وجودها سياسياً وعقائدياً؛ فالمرحلة المكية على مسار ثلاثة عشر عاماً، كانت لإثبات العقيدة.. بل وتثبيتها في أذهان أتباعها، من ناحية ـ ومن ناحية أخرى ـ لتعرية عقيدة الجاهلية ـ وبضدها تُعرف الأشياء ـ كما يقولون.
أضف إلى ذلك أن المرحلة المكية، كان لا بد منها، لصقل إيمان أتباعها، ليكونوا نواة المستقبل للدولة الإسلامية، وكانت توجيهات القرآن، وتوجيهات الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه- للنواة الأولى من أتباع الدعوة، تقوم على أساس الثقة في الله ـ عز وجل ـ والنصيحة في مواجهة ما يلحقهم من أذى بالغ من الضراوة والشراسة، ولعلنا نلمس ذلك من موقف لا نكاد نذَّكره. حيث كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على آل ياسر وهم يُعذّبون، فيقول لهم: "صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة"، واستجابوا، وكانت أم عمار أول شهيدة في الإسلام. وفي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: "شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ـ فقلنا: "ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟." فقال: "قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفرون له في الأرض، فيُجعل فيها.. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"!
إن إرادة الله ـ عز وجل ـ اقتضت أن يكون الإسلام ديناً، يصحح مسار العقول التي حادت عن الطريق السويّ، ويصحح مسار الحياة البشرية التي شملتها الفوضى، بعد أن تحوّلت إلى غابة شاسعة، يفترس القوي فيها الضعيف، وأن يكون الإسلام دولة، تقيم العدل بعد أن اختلت موازينه، وتؤازر الحق، بعد أن أصبح مضغة في أفواه الباطل، فالعالم يومئذ تحكمه إمبراطوريتان، إحداهما صليبية تنكبت مبادئ المسيحية، والأخرى وثنية تمتهن العقل، أعني إمبراطوريتي: فارس والروم، وبذلك يكون الإسلام بدولته ضرورة لإنقاذ البشرية من الوحل، وكانت الهجرة البشرية هي البداية لإقامة دولته.(6/8)
يرى الشيخ محمود شلتوت ـ شيخ الأزهر الأسبق ـ في دراسته:"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين" العدد الثالث من "سلسلة الثقافة الإسلامية" التي كنت أصدرتها (1958 ـ 1965 )! أن حادثة الهجرة، كانت نقطة تحوّل في تاريخ البناء الإسلامي، لتقوم فوق الأرض الجديدة ـ يثرب ـ دولة ذات منهج ونظام وهدف، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة، وبذلك أصبحت (الهجرة) من الأحداث الإسلامية الكبرى التي يجب أن تحمل العظمة في نفس كل مسلم.
ويضيف الشيخ: "وقد عُني المؤرخون كثيراً ـ وهم يتكلمون على هذا الحدث ـ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تتصل بالرسول وأصحابه الذين لبّوا دعوته، ومن هنا ألبسه أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة (النبي العربي) ـ ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورّعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يلصقوا كلمة (النبي الفار) وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلعوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه، والتي لم تلبث ـ بعد الوصول إلى المدينة، أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب، عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعقائد وتقاليد، كان لها في هدم الإنسانية، ما ليس للمعاول القوية في تقويض البناء الشامخ العنيد".
وأقول: إن الهجرة كانت لتأكيد عالمية الإسلام، وهي حقيقة حاول بعض المستشرقين ذوي الأهواء أن يطمسوها، متجاهلين ما أقره القرآن ـ كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ـ وقد تصدى عملاق الأدب الأستاذ العقاد لقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...).[الشورى: 7] لتنذر أم القرى ومن حولها، يقول:"وأياً كان القول في اللغة التي تكلم بها النبي، وفي صلاح هذه اللغة للدعوة العالمية، فإن النوع الإنساني يشمل أم القرى (مكة) وما حولها، ولا تعتبر هداية أهلها عزلاً لهم عمن عداهم من الناس؛ إذ كان خطاب الناس كافة يمنع أن يكون الخطاب مقصوراً على (أم القرى) ومن حولها، ولكن خطابه (أم القرى) ومن حولها، لا يمنع أن يعم الناس أجمعين..
فكيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمدية ـ خاتم النبيين ـ إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل نذير؟! إن طائفة من المستشرقين تسيغ ما لا يسيغه العقل في أمر القرآن وأمر الإسلام".
ظهر حديثاً للشيخ عبد الجواد أحمد عبد المولى-الإمام والخطيب والمدرس بالأوقاف ـ كتاب يحمل عنوان "الدروس التربوية الدعوية من الهجرة النبوية" في زهاء مائتي صفحة من القطع الكبير، أشار في المقدمة إلى أن ما أراده من كتابه: دعوة للتفكر والتدبر، لبعض صفحات التاريخ الإسلامي، وبخاصة تاريخ الرسول وجهاده في هجرته، لنتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه في أرضه، وسنن الله الثابتة لا تقبل تبديلاً ولا تحويلاً، والهجرة تبين لنا كيف أخذ المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالأسباب الأرضية، وتوكل ـ في نفس الوقت ـ على الله، ولا تضادّ بينهما ـ وقد تعامل سلف هذه الأمة مع السنن الكونية، فسادوا العالم، ولم يع الخلف هذا المعنى، مما جعل الأمة اليوم في حال يُرثى لها..
وما عرض له المؤلف:
ـ الهجرة النبوية المحمدية لم تكن بدعة، بل سنة قديمة، فقد هاجر من أنبياء الله: إبراهيم ولوط وموسى عليهم السلام.
ـ أسباب الهجرة: ذكر المؤلف الأسباب التقليدية التي سجلتها كتب السيرة، وكنت أود أن يهتم بمسألة ذات أهمية خاصة، وهي أن الهجرة كانت استجابة لأمر الله، ولم تكن مجرد خاطرة خطرت على بال الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فراراً من الأذى، فالله ـ عز جل ـ هو الذي قدر بعد أن حققت الدعوة أهدافها في مكة التي لم تكن تصلح لإقامة دولة.
ـ عوامل نجاح الهجرة: وضوح الهدف، المعرفة، اختيار الوقت المناسب، ولعامل التوقيت أهمية متنامية في عملية التخطيط، القدرة على مواجهة الظروف المتغيرة، إخلاص القائمين على التنفيذ، التهيئة والإعداد النفسي، ونسي المؤلف: عناية الله، وهي الأساس وفوق كل شيء.
ـ مظاهر نجاح الهجرة: خسرت قريش موازين القوى التي توارثتها على مدى قرون وزال عنها سلطانها، لم تعد قريش حاجزا في وجه الدعوة الإسلامية، إذا أسقطت الهجرة هيبتها من نفوس المستضعفين الخائفين..
ذكر المؤلف في شجاعة أن الكتاب: جمع وإعداد، وليس تأليفاً، وهذا يعفيه من النقد، ويُحمد له، أن قدم لنا معاني كانت في حاجة إلى التحليل، الذي خلت منه بعض كتب التراث التي اهتمت بسرد الأحداث، لكنها حفظت لنا أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. إن الهجرة حفلت بالكثير من المؤلفات عدا ما دونته كتب السيرة قديماً وحديثاً، وهذا ما جعل مهمة من يكتب عن الهجرة شاقة؛ إذ لا بد من أن يضيف جديداً، ونجح المؤلف جهد استطاعته.(6/9)
ويُؤخذ على هذه الدراسة: أن المؤلف خرج على الموضوع الأساسي أحياناً، صحيح أن ما زاده تضمن معاني جديرة بالاهتمام، كذلك كنا نود أن يربط الهجرة النبوية بالواقع المعاصر، وقد أصبحت الأمة المسلمة التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس ـ عاجزة حتى عن الدفاع في مواجهة التحديات الشرسة، وذلك بعد أن كانت رأساً، و أصبحت تابعاً بعد أن كانت متبوعاً، وبقي أن نقول: إن المؤلف بذل جهداً كبيراً وشاقاً، وقدم لنا دراسة معاصرة يحتاجها الشباب قبل الشيوخ.
وبقي سؤال يطرح نفسه، وفي أسى مرير: أين اليوم من الهجرة التي لم تكن نقطة تحول في تاريخ دعوة المسلمين ـ وحسب ـ بل كذلك أرادها الله ـ عز وجل ـ منهجاً ومعنى وبرنامج عمل للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودرساً يجب أن يعيه المسلم في كل زمان ومكان.. فهل يليق بنا ألاّ نذكر الهجرة إلا أياماً معدودات في كل عام: أحاديث ومقالات يغلب عليها التكرار شبه الممل، ثم ننساها بعد ذلك؟
وحسبنا هنا أن نتوقف عند قضية لها أهميتها، أعني قضية ـ أو محنة ـ الأقليات المسلمة في شتى بقاع المعمورة، والعديد من هذه الأقليات تُشن عليها حروب إبادة شرسة، كما في الفلبين وبورما وتايلاند، وغيرها، إن كتاب الله تعالى كتب علينا الجهاد من أجل إخوة لنا في العقيدة مستضعفين في الأرض، وفي سورة النساء ـ :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً). [النساء:75]. ولا جدال في أن الجهاد هنا فرض عين لا فرض كفاية، وإذا كان عقد الأمة الإسلامية اليوم قد انفرط، ولم يكن للدولة الإسلامية وجود.. نملك السلاح لا لنقاتل به الأعداء، بل ليقاتل به المسلم أخاه المسلم. دونما اعتبار لتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم لنا في خطبة الوداع:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقوله في الصحيح المتفق عليه: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
أقول إذا كنا عاجزين عن الجهاد المسلح، فلماذا لا نلجأ إلى سلاح آخر: جهاد المقاطعة، وهو سلاح له خطورته، وإذا كان هذا السلاح تقرر بالنسبة للثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم مسلمون، فمن باب أولى المعتدون على إخواننا من غير المسلمين، والمفاجأة التي ترتجّ لها السماوات السبع. هي أننا أصبحنا أصدقاء لأعدائنا، نمنحهم الولاء، ضاربين عرض الحائط بقوله تعالى محذراً في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). [المائدة:51-52]. وأخيراً.. وليس آخراً: فليتنا نعي اليوم كلمات الشيخ شلتوت ـ رحمه الله-: "كانت الهجرة من بين الأحداث كلها جديرة أن تتجه إليها الأنظار، ويُتّخذ منها مبدأ للتاريخ الإسلامي، ليكون للمسلمين من ذكراها في كل عام، ومن التوقيت بها في مكاتباتهم وعقودهم وأحداثهم العامة والخاصة درس متصل الحلقات، يساير حياتهم كلها". ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الأستاذ : محمد عبد الله السمان.
المصدر : موقع إلا رسول الله
===============
صفات وأخلاق الدعاة
أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة، في أماكن متعددة من كتابه الكريم.
(أولا) منها: الإخلاص، فيجب على الداعية أن يكون مخلصًا لله - عز وجل- ، لا يريد رياء ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه - عز وجل - ، كما قال سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) (108) سورة يوسف، وقال عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) (33) سورة فصلت، فعليك أن تخلص لله - عز وجل - ، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة.
(ثانيا) أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (108) سورة يوسف. فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بد من بصيرة وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية، أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة. .(6/10)
(ثالثا) من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية، أن تكون حليمًا في دعوتك، رفيقًا فيها، متحملا صبورًا، كما فعل الرسل -عليهم الصلاة والسلام - ، إياك والعجلة، إياك والعنف والشدة، عليك بالصبر، عليك بالحلم، عليك بالرفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك كقوله - جل وعلا - : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (125) سورة النحل، وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (159) سورة آل عمران، وقوله - جل وعلا - في قصة موسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (44) سورة طه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه " أخرجه مسلم في الصحيح، فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك، ولا تشق على الناس، ولا تنفرهم من الدين، ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك، ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار، عليك أن تكون حليمًا صبورًا، سلس القياد لين الكلام، طيب الكلام حتى تؤثر في قلب أخيك، وحتى تؤثر في قلب المدعو، وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها، ويتأثر بها، ويثني عليك بها ويشكرك عليها، أما العنف فهو منفر لا مقرب، ومفرق لا جامع..
ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس من يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا- : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (3) سورة الصف، وقال سبحانه موبخًا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (44) سورة البقرة .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك .
فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته، واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس، وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة، أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو هداك الله، وفقك الله لقبول الحق، أعانك الله على قبول الحق، تدعوه وترشده وتصبر على الأذى، ومع ذلك تدعو له بالهداية، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لما قيل عن (دوس) إنهم عصوا، قال: " اللهم اهد دوسا وأت بهم " . تدعو له بالهداية والتوفيق لقبول الحق، وتصبر وتصابر في ذلك، ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيرًا، لا تعنف ولا تقل كلامًا سيئا ينفر من الحق، ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر، كما قال الله - جل وعلا - : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (46) سورة العنكبوت، فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى، له حكم آخر، في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم، لكن ما دام كافا عن الأذى، فعليك أن تصبر عليه، وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن، وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى، كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه، ويجعلنا من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الشيخ : عبد العزيز ابن باز – رحمه الله -.
المصدر: موقع روح الإسلام.
=================
ملامح المنهج الدعوي في دعوة نصارى العرب إلى الإسلام
بقلم : أ. سارة بنت عبد الرحمن الفارس
* أن تكون أمور الدعوة مستمدةً من الكتاب والسنة الصحيحة :
إن الدعوة إلى الله دعوة إلى دينه وشرعه ، فلابد أن تستقى من مصدر التشريع وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة ، فخير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن اعتصم بهما هُدي، ومن تركها ضل قال الرسول - صلى الله عليه وسلم- : ( إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه ) (1).(6/11)
وجميع أصول الدعوة (موضوعها وطرق تبليغها ومبلغها) من جملة ما ورد في الكتاب والسنة ، فمن اتبعها كان مهتدياً في طريقه ناجحاً في دعوته ، ومن أعرض عن هذا المنهاج كان إعراضه سبباً في ضلاله، ومن الضلال تفرق الجهود ، وضياع الأوقات ، بل ربما رُد العمل على صاحبه كما في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها- : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (2).
وهكذا منهج صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سار على هديهم قال صلى الله عليه وسلم : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) (3) ، وقال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه- : (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)(4) .
* البدء ببيان مبادئ الإسلام الكبرى ومحاسنه :
على الداعي أن يبدأ ببيان مبادئ الإسلام الكبرى ومحاسنه , وأنه قائم على التوحيد والعدل (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (5) ، والسماحة في الأحكام (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) (6) ، وبيان مدى مرونة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان ، ووضوحه لا تعقيد في أصوله فهو خالي من تعقيد التثليث وشبة الثنوية وشطحات الفلاسفة قال الله تعالى : ( أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ) (7) وهو الدين الذي يعترف ويقر بجميع النبوات بما فيهم عيسى عليه السلام وغيره من الأنبياء قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ) (8) وهو دين قائم على تكريم الإنسان واحترامه قال الله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (9) والمساواة بين الأمم والشعوب وإعلان ميثاق حقوق الإنسان : (إن دمائكم وأموالكم ، وأعراضكم عليكم حرام ) (10) وغير ذلك من محاسن الإسلام في أصول العقيدة ، ونظام الاجتماع والسياسة ، والاقتصاد، وأصول التعامل، فإن عَرضْ مبادئ الإسلام ومحاسنه على النصارى العرب وغيرهم سيكون لذلك أثراً - بإذن الله - عظيماً في قبول هذا الدين العظيم(11).
وهكذا كان نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم- في عرض الإسلام على غير المسلمين، كما فعل ذلك جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه- حينما عرض مبادئ الإسلام ومحاسنه من نبذ الأوثان وعبادة الله وصدق الحديث والأمانة وصلة الرحم..... على النجاشي وأوضح أن الإسلام يؤمن ويقر بجميع الأنبياء ومنهم عيسى عليه السلام وتلا عليه القرآن فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته وبكى أساقفته ثم قال هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة فقبل الدين وأسلم (12) .
* الشمول :
إن المنهج الإسلامي منهج شامل كامل لجميع مجالات العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات، سواءً كانت علاقة الإنسان بربه، أو علاقته بنفسه، أو علاقته بغيره ( في داخل الأسرة أو داخل المجتمع أو فيما بين المسلمين وغيرهم)(13).
فيكون شاملاً كاملاً لمراحل العمر ونواحي الحياة قادراً على استيعاب شؤون الحياة ومشكلاتها المتجددة في كل زمان ومكان .
فلابد للداعي أن يراعي هذا الشمول في دعوته (14) للنصارى العرب وغيرهم ، فلا يدعوهم فقط إلى مسائل الاعتقاد ، أو يقتصر على مجال العبادات، أو يغفل عن مجال المعاملات ، بل لابد أن يعلم هؤلاء النصارى أن الإسلام دين شامل كامل لجميع نواحي الدين والدنيا، وأنه قادر على أن يلبي جميع احتياجاتهم ومتطلباتهم الدينية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليكون ذلك أدنى لقبولهم واستجابتهم لهذا الدين العظيم .
* التدرج في الدعوة إلى الله :
إن شمول هذا الدين بعقائده وشرائعه ومعاملاته لابد أن يقدّم للمدعو تدريجاً ليسهل تقبله وتطبيقه.
إن المتأمل في رسالة الإسلام من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يتضح له أن التدرج كان السمة البارزة في منهج الدعوة إلى الله .
ونقصد بالتدرج في الدعوة ،تدرجه عليه السلام في تبليغ الإسلام والدعوة إليه، مبتدئاً بالأهم فالمهم ، فنبدأ بالتوحيد التي هي غاية بعثة الرسل عليهم السلام جميعاً، فكل واحد منهم كان يستفتح دعوته إليهم بقوله: ( اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(15) وبقى صلى الله عليه وسلم على ذلك ما يقارب نصف عمره بعد الرسالة يدعو للتوحيد.
وبعد أن رسّخ جوانب التوحيد بدأ بتشريع الأحكام والدعوة إليها متدرجاً معهم على وجه لا يشق عليهم، مراعياً البدء بالأهم فالمهم كالصلاة ثم الزكاة وهكذا بقية أركان الإسلام، ومما يدل على هذا حديث ابن عباس - رضي الله عنه - حيث يقول : لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه- إلى أهل اليمن ، قال له : ( إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم أن يوحدوا الله تعالى ، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ، فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم (16)......الحديث .(6/12)
ومما يدل على تدرجه صلى الله عليه وسلم مع المدعوين ومراعاة أحوالهم موافقته على شرط الداخل في الإسلام على أن لا يصلي إلا صلاتين(17) كما روى الإمام أحمد عن نصير بن عاصم رضي الله عنه عن رجل منهم أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فأسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه ذلك (18).
وقد اشترطت ثقيف لدخولهم الإسلام أن لا صدقة ولا جهاد فقبل منهم وقال : (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) (19) .
كذلك تدرج عليه السلام في دعوته إلى أخلاق الإسلام حيث ابتدأ بالدعوة إلى أصول الأخلاق من الصدق والعدل وأداء الأمانة والعفة .
وهكذا في استخدامه صلى الله عليه وسلم للوسائل والأساليب لتبليغ دعوة الإسلام كان متدرجاً في ذلك ، فبدأ بوسيلة القول في العهد المكي وبعد الهجرة إلى المدينة اتخذ وسيلة الحماية لجماعة المسلمين بالسرايا والغزوات ثم بعد أن هادن العدو في الحديبية أتخذ وسيلة بلاغية وهي الكتب والرسائل ثم البعوث لتبليغ الدعوة إلى العالم الخارجي .
والحكمة من هذا التدرج تهيئة النفوس للسماع ومن ثم قبولها للحق ليسهل الدخول في دين الله .
ولقد كان لتدرجه صلى الله عليه وسلم في الدعوة هذا الأثر العظيم الذي ظهر واضحاً في نفوس كثير من المدعوين بقبولهم الحق، وسرعة استجابتهم له .
وهذا التدرج في الدعوة لا يخص فقط عصر النبي صلى الله عليه وسلم بل إن هذا المنهج للدعاة جميعاً
يقول الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - : ( إذا كنا نريد أن ندعو كفاراً فلابد أن ندعوهم كما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث معاذ - رضي الله عنه- . فندعوهم إلى أصل الإسلام ، ثم بعد ذلك نأمرهم بالصلاة ثم بالزكاة ثم بالصوم ثم بالحج ....) .
ولوا اشترط هذا الصنف من المدعوين، ارتكاب بعض المخالفات الشرعية مقابل إسلامه ، مثل شرب الخمر مثلاً، فإنه يتعامل معه وفق القاعدة ( إذا تزاحمت المفاسد واضطر إلى واحدة منها، قُدم الأخف منها ) فيُقبل إسلامه ويقبل شرطه .
ويقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز- رحمه الله- : ( لا أعلم مانعاً لأن شرب الخمر أسهل من بقائه على الكفر) .
وعلى هذا لابد أن يسير الداعي على هذا المنهج بأن يبدأ بدعوة النصارى العرب وغيرهم بأصول الدين قبل فروعه ، فإن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد (20) .
* الوسطية والتوازن :
الوسطية من مبادئ الدين الحنيف ومن أبرز خصائص الإسلام ومن مميزات أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- ، وبها استحقت أن تكون شاهدة على الناس يوم القيامة قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(21) والوسط العدل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أبرز مظاهر هذا المنهج الاعتدال و التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي ، فالنفس مجبولة على الاعتدال والتوازن بين حقوق الجسد ومتطلبات الروح .
فإن نفور النصارى من الكنيسة وجفائها كان لعدم توازنها بين حقوق الجسد ومتطلبات الروح.
فاتباع الداعي للمنهج الوسط والتوازن في دعوته للنصارى العرب وغيرهم من الأمور المهمة للإقبال على هذا الدين وتطبيقه لان النفس مجبولة على الاعتدال والتوازن فعلى الداعي أن يراعي هذا المنهج في دعوته . مثلاً عليه أن يوازن بين الدعوة إلى الإيمان بالقدر والتوكل على الله والأخذ بالأسباب (22) وأن يوازن عند عرض دعوته بين الخوف والرجاء، وهكذا في أمور العبادات وإلقاء المواعظ فلا يطغي جانب على أخر، فبعض الدعاة قد يأخذه الحماس والرغبة في الدعوة فيكثر على المدعوين بالموعظة فيملوا، أو يطيل عليهم في الدروس فينفروا، ويلح عليهم بالاجتهاد وتكثيف العبادات فينقطعوا ثم يرمى هذا الدين بالتشدد والتزمت والمشقة . والحق أن ابرز ملامح الوسطية هو اليسر ورفع الحرج عن الناس .
كما أن التقصير أيضاً والتفريط والتساهل نوع من أنواع البعد عن الوسطية والتوازن ومدعاة بأن ينشأ المدعوين على ذلك ، فعلى الداعي أن لا يتهاون في شيء من أمور العقائد والأحكام فيمّيع كثيراً من مبادئه بحجة تقريبه للمدعوين .بل إن عظمة الإسلام وكماله بأن يقدم للمدعوين كما هو، وهذا كفيل بأن يقبل عليه غير المسلمين من النصارى العرب وغيرهم .
-----------
(1) المستدرك على الصحيحين ,كتاب العلم، رقم 318 (1171) . انظر:المستدرك على الصحيحين ، محمد الحاكم ، تحقيق : مصطفى عطا، ط1 (دار الكتب العلمية : بيروت ،1411هـ).
(2) البخاري ، باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ ، رقم 6918(62675) .
(3) المستدرك على الصحيحين , كتاب العلم ، رقم 392 (1174).
(4) تهذيب جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تهذيب : ابو عماد السخاوي ، ط1 (دار الفتح : الشارقة ، 1418هـ) ص (226) .
(5) (90) سورة النحل .
( 6) (286) سورة البقرة .
(7) (36) سورة النحل .
(8) (285) سورة البقرة
(9) (70) سورة الإسراء
(10) البخاري ، باب رب مبلغ أوعى من سامع ، رقم 67( 1 27) .
(11) انظر: الموجز في معاملة غير المسلمين في الإسلام، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ،(مؤسسة آل البيت: عمان، 1994م ) ص (19) .
(12) كيف تدعوا نصرانياً ، ص (96) .
(13) انظر : ركائز الإيمان ، محمد قطب ، طا (دار أشبيليا: الرياض 1417ه) ص (436) .
(14) الدعوة إلى الله في السجون ، (279-280) .
(15) (59) سورة الأعراف.
(16) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب ماجاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- أمته إلا توحيد الله ، رقم 6937 (62685) .
(17) انظر مراعاة أحوال المخاطبين ، د.فضل إلهي ، ط1 (الفرقان : الرياض ، 1417هـ)(6/13)
(18) جامع العلوم والحكم ،عبدالرحمن بغدادي ، تحقيق :شعيب الأرناؤوط ، ط7 (مؤسسة الرسالة ، بدون دار نشر ، 1417هـ) ( 184).
(19) سنن أبي داوود ، باب ماجاء في خبر الطائف ، رقم 35025 (3163) . انظر : سنن أبي داوود ، سليمان السجستاني ، تحقيق : محمد عبدالحميد، بدون طبعة (دار الفكر: بدون مكان النشر، بدون تاريخ) .
(20) انظر التدرج في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ص (144,140,124,72,55,49,35,27,15,6).
(21) (143) سورة البقرة .
(22) ركائز الإيمان ، (441) .
-================
حكم الدعوة إلى الله وفضلها
أما حكمها : فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل، وأنها من الفرائض، والأدلة في ذلك كثيرة، منها قوله سبحانه: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (104) سورة آل عمران، ومنها قوله جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (125) سورة النحل، ومنها قوله عز وجل: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (87) سورة القصص ،ومنها قوله سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (108) سورة يوسف، فبين سبحانه أن أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم- هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر، والواجب كما هو معلوم هو اتباعه، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) سورة الأحزاب، وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية، بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة، فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب، وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة، وعملا صالحا جليلا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم، أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام، صار الإثم عاما، وصار الواجب على الجميع، وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد، فالواجب: أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة، تبلغ رسالات الله، وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعث الدعاة، وأرسل الكتب إلى الناس، وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله - عز وجل -.
وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر، من طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة: عن طريق الإذاعة، وعن طريق التلفزة، وعن طريق الصحافة، ومن طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشوا في الله لومة لائم، ولا يحابوا في ذلك كبيرًا ولا صغيرًا ولا غنيًا ولا فقيرًا، بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله، كما أنزل الله، وكما شرع الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فرض عين، ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر، ويبلغ أمر الله سواك، فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ، والأمر والنهي غيرك، فإنه يكون حينئذ في حقك سنة، وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات، وسابقًا إلى الطاعات، ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (104) سورة آل عمران ، قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم، تدعو إلى الله، وتنشر دينه، وتبلغ أمره سبحانه وتعالى، ومعلوم أيضا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - دعا إلى الله، وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته، وقام الصحابة كذلك - رضي الله عنهم - وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم، ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم، كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه، فعند قلة الدعاة، وعند كثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك، ووجد فيها من تولى هذا الأمر، وقام به وبلغ أمر الله، كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة، لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه.
ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله، وإلى بقية الناس، يجب على العلماء حسب طاقتهم، وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم، أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة.
وبهذا يعلم أن كونها فرض عين، وكونها فرض كفاية، أمر نسبي يختلف، فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام، لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم.(6/14)
أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار، حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها، فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق، كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله - عز وجل - ، وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم، وحسب علمهم، ونظرًا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما، وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا، وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، أو يتكلوا على زيد أو عمرو، فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك، والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل، ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة، للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي، وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.
فضل الدعوة :
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة، كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم، ومن ذلك قوله جل وعلا: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (33) سورة فصلت، فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم، وأنه لا أحد أحسن قولا منهم، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم أتباعهم على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل، فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل، ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (33) سورة فصلت، المعنى: لا أحد أحسن قولا منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه، يعني: دعا إلى الحق وعمل به، وأنكر الباطل وحذر منه، وتركه، ومع ذلك صرح بما هو عليه، لم يخجل بل قال: إنني من المسلمين، مغتبطا وفرحا بما من الله به عليه، وليس كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم، أو بأنه يدعو إلى الإسلام، لمراعاة فلان أو مجاملة فلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان، البصير بأمر الله يصرح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه، ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال عز وجل:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (58) سورة يونس، فالفرح برحمة الله وفضله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر، والفرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون:(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(76) سورة القصص.
هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم، وهذا هو الذي ينهى عنه..(6/15)
أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله، والفرح بهداية الله، والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم، فأمر مشروع وممدوح ومحمود، فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة، وأنها من أهم القربات، ومن أفضل الطاعات، وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة، وعلى رأسهم الرسل عليه الصلاة والسلام، وأكملهم في ذلك خاتمهم وإمامهم وسيدهم نبينا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله جل وعلا: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (108) سورة يوسف، فبين سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على بصيرة، وأن اتباعه كذلك، فهذا فيه فضل الدعوة، وأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة، والبصيرة هي العلم بما يدعو إليه وما ينهى عنه، وفي هذا شرف لهم وتفضيل، وقال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " رواه مسلم في الصحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " أخرجه مسلم أيضًا، وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي - رضي الله عنه وأرضاه - : " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " متفق على صحته، وهذا أيضًا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم، وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطى مثل أجور من هداه الله على يديه، ولو كانوا آلاف الملايين، وتعطى أيها الداعية مثل أجورهم، فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم، وبهذا يتضح أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطى مثل أجور أتباعه، فيا لها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة، لأنه بلغهم رسالة الله، ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام، وهكذا الرسل يعطون مثل أجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام، وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك، فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.
الشيخ: عبد العزيز بن باز – رحمه الله - .
المصدر: موقع روح الإسلام .
================
الداعي ومؤهلاته العلمية والخلقية
بقلم : أ. سارة بنت عبدالرحمن الفارس
إن من العوامل الهامة في نجاح الدعوة اختيار الداعي لما له من مكانة هامة في تبليغ الدعوة ونجاحها بل هو حجر الزاوية فيها، لذا لابد أن يختار اختياراً دقيقا بعناية خاصة، فلو نظرنا في اختيار الله لرسله وأنبيائه عليهم السلام لوجدنا عناية ظاهرة في اختيارهم ثم تربيتهم.
ولما كانت الدعوة هي وظيفة الرسل كان لزاماً علينا أن نهتم باختيار حملتها ونركز على تربيتهم لأنهم خلفاء الرسل والأنبياء في هذه الوظيفة العظيمة (1).
لذا كان لابد من تأهيل الداعي علمياً وخلقياً قبل أن يتولى أمر هذه الدعوة كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( تعلموا قبل أن تسودوا) (2).
لذا لابد للداعي قبل أن يتولى مهمة الدعوة أن يؤهل تأهيلاً علمياً وخلقياً.
مؤهلات الداعي العلمية :
مؤهلاته العلمية : وتشمل أمرين علمه بالأحكام الشرعية ومعرفته بأحوال المخاطبين .
أ-علمه بالأحكام الشرعية :
إذا كان العلم الشرعي ضرورياً لكل مسلم، فالداعي إلى الله أكثر الناس ضرورة وحاجة إلى هذا العلم ، لكن لابد أن يكون هذا العلم متفق مع ما أنزله الله في كتابه وما بينه رسوله في سنته ، وليس نابع من الأهواء والأفكار التي لم تقم على أساس وأصل شرعي ومنهج رباني سليم (3) وذلك بالقدر الذي يؤهله ويعينه على تبليغ الدعوة إلى المدعوين أي بأن يكون لديه قدر من العلوم الشرعية التي تمكنه من أداءه لواجبه على الوجه الصحيح ,لكن لا يشترط أن يكون عالماً ملماً بمعظم العلوم الشرعية إنما يكون لديه علم بالمسألة التي يدعوا إليها، فيكون عالماً بما يأمر به وعالماً بما ينهى عنه.
ب- معرفته بأحوال المخاطبين :
لا شك أن المدعوين على أصناف وأنواع عدة، سواء أكان من حيث الدين، أواللغة، أو الثقافة والحضارة، أو الغنى والفقر، أو الرفعة والسؤدد، أو الظروف الزمانية والمكانية المحيطة بالمدعو.
لذا يجب على الداعي أن يتعرف على كل من يدعوهم من جميع النواحي، وأن يأخذ العدة اللازمة التي تعينه في دعوته وتسهل له مهمته .
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الوفود ، وعن أصلهم كما حدث ذلك مع وفد عبد القيس بقوله: ( من القوم ؟ أو من الوفد ؟ ) وقد كان استفساراته ليتمكن من التعرف على من قدم عليه صلى الله عليه وسلم ليراعي أحوالهم وينزلهم منازلهم .
إن معرفة الداعي بأحوال المدعوين والوقوف على حقائق دياناتهم من لوازم إعداد الداعي حتى ينطلق منها لدعوتهم ويقيم عليهم الحجة بها، فيكون لذلك أثراً عظيماً في استجابتهم وقبولهم.
مؤهلات الداعي الخلقية :
إن من أهم ما يجب على الداعي المسلم أن يتحلى بحسن الخلق في شخصيته وفي دعوته ومعاملته مع المدعوين؛ لأن حسن الخلق ذو تأثير فعّال في الناس فهو أبلغ من القول- فقط - ومن أهم ما يجب أن يتحلى به الداعي ما يلي :
1-الإخلاص والتقوى :
إن من أهم ما يجب على الداعي أن يتحلى في دعوته بالإخلاص حتى يقبل عمله و تثمر دعوته فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (4) , فإذا كانت دعوته من أجل الله والحصول على رضاه نال بذلك الأجر، وكان ذلك أدعى لقبول دعوته.(6/16)
والتقوى أيضاً من الأمور الهامة التي يجب على الداعي أن يتصف بها لأن دعوته توقيع عن رب العالمين فإذا كان تقياً ورعاً تثبت من النقل وتحرى الصواب وتورع من الفتوى على الله بغير علم.
2- الصدق والأمانة :
الصدق من الصفات الجليلة التي يدعو إليها الداعي ، فلابد أن يمتثل بها ويتحرى الصدق في أقواله وأعماله ، لأن الصدق مصدر ثقة المدعوين به والالتفات حوله ومتابعته، كما أن الأمانة صفه مهمة لا تنفصل عن كيان الداعي لأن الناس في العادة تأمن الداعي على الأموال والأعراض والأسرار ، والداعي بحكم وظيفته ملتقى لودائع مادية وأدبية ، فلابد أن يكون عند حسن الظن (5) .
3- الرفق والحكمة :
الرفق والحكمة من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعي فمتى كان الداعي رفيقاً حكيماً عرف كيف يتصرف في المواقف ويعالجها بما يناسبها (6) ، فيكون رفيقاً فيما يأمر به ، رفيقاً فيما ينهى عنه، كما كان ذلك هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه مع الأعراب ، وحديثي العهد بالإسلام ، فالله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق مالا يعطي على سواه (7).
والحكمة من الصفات الهامة التي يحتاجها الداعي في جميع أموره، و بها يزن الأمور، والمواقف ، ويعرف متى يدعو ومتى يحجم في الوقت غير المناسب ، وكيف يتدرج مع المدعو فالدعوة كلها في موضوعها وأساليبها ووسائلها مفتقرة إلى حكمة الداعي قال تعالى : (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ) (8) .
4- التواضع :
التواضع سلوك لابد منه للداعي ؛ لأن الداعي بحاجه أن يكون على صلة مستمرة بالناس وقريباً من قلوبهم (9) ، فالمدعوين فيهم الغني والفقير، والشريف والوضيع ، والكبير والصغير، ولن يستطيع أن يتعامل مع هؤلاء الأصناف إلا إذا كان متواضعاً ولن يستجيبوا له ويحبوه إلا إذا كان كذلك لأن من طبيعة الناس التي جبلهم الله عليها أنهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبر عليهم ، وإن كان ما يقوله حقاً وصدقاً ، هكذا جبلت طبائع الناس فإنهم ينفرون عن المتكبر ويغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده فلا يصل إليها من قوله شيء بل قد يكون ذلك سبباً إلى كرههم الحق منه ومن غيره (10).
ومهما بلغ الداعي من الفضل والعلم والمنصب لابد له من التواضع فهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - سيد الخلق أجمعين ومعلم الدعاة كان يتواضع مع عامة الناس يخالطهم ويجلس جلستهم ، ويأكل من طعامهم، ويقضي حوائجهم، لذا على الداعي أن يتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يتجنب شتى مظاهر الكبر(11) ويوطن نفسه على التواضع ولين الجانب .
5- الصبر :
الدعوة إلى الله وظيفة عظيمة وأمانة كبيرة وحملها يحتاج إلى صبر ومجاهدة وتضحية، لذا اختار الله لها أعظم الخلق صبراً وتحملاً وتضحية والداعي إلى الله يواجه الناس ويعارض شهواتهم ورغباتهم فهو يصادم ما يريدون فلابد أن يجد معاناة الرفض والأذى و الإهانة، لذا لابد أن يتحلى الداعي بهذه الصفة حتى يصمد ويستمر في دعوته حتى يلقى الله، قال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (12),يقول سيد قطب - رحمه الله - : ( وذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها والصبر عليها ...) (13) .
فلابد أن يدرب الداعي نفسه على تحمل أذى أهل الكتاب من النصارى وغيرهم ويتعلم كيف يحلم عليهم وهو يدعوهم إلى الحق (14).
6- موافقة العمل للقول :
إن هذه الأخلاق الحميدة وغيرها مما يدعو إليه الداعي من سائر العبادات والأحكام الشرعية , لابد أن يطبقها عملياً في واقع دعوته ومع نفسه ، ويجتهد بالتحلي والإنصاف بها ؛لأن حسن الخلق ، والتخلق بمكارم الأخلاق سبب رئيس لمحبة الداعي والتأثر به والالتفات حوله ثم أن هذه الأخلاق الحميدة هي موضوع دعوته التي يدعو إليها فلابد أن يفعل ما يقول وأن يطبق ما يدعو إليه؛ لأن المدعوين يريدون أن يروا في الداعي هذا المعنى السامي الذي يدعوا إليه فيكون ذلك تصديقاً لما يقول ، وفي الغالب أن عامة الناس يتأثرون بأفعال الدعاة أكثر من أقوالهم ، والمدعوين لا يستجيبوا لمن يقول لهم خذوا قولي واتركوا فعلي (15) .
وقد عاتب الله سبحانه هؤلاء بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ )(16) ، وروى البخاري في صحيحه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه ) (17).
لكن مع ذلك لا يتوقف الداعي عن الدعوة بحجة أنه لم تتوفر فيه كل المؤهلات العلمية والخلقية ولكن عليه أن يجتهد في تحصيلها قدر ما يستطيع لأن التقصير في أمر العبادات والأخلاق وارد على المسلمين جميعاً ولا عصمة لأحد من ذلك إلا من عصمه الله ، فلو قصرنا الدعوة على العلماء والأتقياء فقط ، لحدث في جوانب الدعوة نقص كبير ولم نجد المعصوم .
ولكن معرفة الأمور التي ينبغي أن يتصف بها الداعي مطلب تربوي يسعى إليه الدعاة.
.....................
(1) انظر الدعوة إلى الله في السجون،(158) .(6/17)
(2) فتح الباري، باب الاغتباط في العلم والحكمة ، رقم (129) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، للإمام ابن حجر العسقلاني ، بدون طبعة ، (دار المعرفة :بيروت ،بدون تاريخ).
(3) انظر : منهج الداعية في دعوته لغير المسلمين ، ص (19).
(4) البخاري، باب بدء الوحي ، رقم 1(12).
(5) مؤهلات الداعية المسلم العلمية والخلقية، أحمد العدناني ، ط1 (دار لينة : القاهرة ، 1418هـ) ص (135).
(6) صفات الداعية ، صالح العليوي ، ط1 (دار القاسم ) الرياض ، 1416هـ ) ص(34) .
(7) مسلم ، باب فضل الرفق ،رقم 2592(42003) .
(8) سورة النحل : (125) .
(9) صفات الداعية الناجح ص (45) .
(10) أصول الدعوة ، ص (363) .
(11) مؤهلات الداعية المسلم ، ص (113) .
(12) سورة آل عمران : (186) .
(13) ظلال القرآن ، سيد قطب، ط8 (دار الشروق :القاهرة ، 1399م) (1539) .
(14) انظر: المصفى من صفات الدعاة ، عبدالحميد البلالي، ط6 (دار الدعوة :الكويت ، 1412هـ) ص (57) .
(15) المصفى من صفات الداعية ، ص(29) .
(16) سورة الصف: (2) .
(17) مسلم ، التكلم بالكلمة يهوى بها في النار ، رقم 2989(42290)
=================
أفق الداعية بين الضيق والسعة
الأفق الدعوي الرحب هو تلك المساحة التي تمتد أمام كل داعية إلى الله، ليمنحه بصيرة غير محدودة تدفعه لسبر أغوار الحقيقة، والنفاذ إلى عمق الأمور في شتى شئون الدين والحياة عامة، وفي مسائل الدعوة المباركة و قضاياها بصفة خاصة.
لكن الأفق لا يكون دائما واسعا ورحبا، بل تعتريه في أحايين كثيرة أعراض الضيق مما يفضي بالداعية إلى مجانبة التقدير الصحيح وعدم وضع الأمور في نصابها.
فما مظاهر الضيق في أفق الداعية إلى الله؟ وأين تكمن الأسباب المؤدية إلى هذه الحالة؟ و هل من مخرج يضمن عودة الداعية إلى جادة دعوته بأفق واسع رحب؟
أسباب تؤدي لضيق الأفق :
لعل من أهم الدواعي التي تؤدي إلى تشكل أفق ضيق عند الداعية إلى الله عز وجل:
1/ التهاون في طلب العلم ، وعدم تتبع مسائل العلم في مختلف مناحيه،والنهل من معينه الذي لا ينضب؛ فالجهل لا يفضي في نهاية المطاف إلا إلى نوع من العجز عن قراءة الواقع واستشراف المستقبل، من خلال هذه القراءة الواقعية للمجتمع وما يختلج فيه.
2/ محدودية قدرة الداعية على التأمل والنظر والتفكر والتدبر، وهي محددات أساسية لبلوغ الداعية سقف الاطلاع والرحابة في التفكير والتعبير، ومن ثَم التواصل مع الغير من أفراد المجتمع.
3/ وقوف الداعية عند حروف الألفاظ ، وعدم نفاذه إلى معانيها وحمولاتها، فيكون الفهم قاصرا عن إدراك الضروري إدراكه، فيستخلص الداعية عن هذا الفهم القاصر للنص أحكامًا اجتهادية قاصرة المعنى أيضًا؛ لأن المنطلق الأصلي كان خاطئًا، فكيف لا يؤثر على النتائج؟.قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ( رُب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين).
4/ التبعية العمياء للشيخ ؛ إذ تجد الداعية أو طالب العلم لا ينظر إلا من خلال نافذة شيخه، فإن كانت نافذة الشيخ نافذة واسعة يدخلها الضوء والهواء الكافيان لتنفس شرعي واضح المعالم والحدود دون إفراط ولا تفريط، كانت نافذة الداعية أيضا على مقياس وشاكلة نافذة الشيخ، وإلا فلا، والتقيد الحرفي الصارم بنظرة الشيخ لا شك أنه يخلق عند الداعية ذهنية خمولة بليدة، غير قادرة على النقاش والاجتهاد، بعيدة عن ملَكة الإبداع وتقديم الدعوة في لباس عصري جذاب يثير المدعوين خاصة فئة الشباب منهم.
5/ الخلل في ترتيب الأولويات عند الداعية إلى الله ، وهذا مرده الجهل بفقه الأولويات ، فينبغي وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأَوْلى فالأوْلى بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل، فيوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا خسران، مصداقًا لقول الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاج وعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ (19) الذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة عِندَ اللهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ ) (التوبة:20 ) ، والداعية الذي لا يمتلك ميزان فقه الأولويات يسقط في فخ المصلحة الآنية إن عاجلا أم آجلا؛ الأمر الذي يضر بالداعية نفسه وبالدعوة برمتها.
6/ الغلظة والتشديد في الدعوة ، فنجد الداعية الذي لا يمتلك نواصي الأفق الرحب يؤاخذ الناس حتى على تقصيرهم في بعض الأمور المستحبة، فيدعوهم بشيء من الغلظة والجفاء كأنهم تركوا أمرًا واجبًا، أو فرضًا لا يجوز تركه بحال من الأحوال .
السبيل إلى سعة الأفق :
يستطيع الداعية إلى الله تعالى أن يوجه طاقاته وجهوده إلى أهداف محددة، على ضوء القرآن والسنة، بالفهم الصحيح والدقيق لحقيقة الإسلام وقواعده، ذلك أن الدين الإسلامي مليء بالحقائق والقواعد والمفاهيم التي تساعد على سعة الأفق، ويجب فهم هذه الحقائق فهمًا سليمًا وصحيحًا، كما أن تواضع الداعية، وتدريب نفسه على التعلم مهما بلغ في مجال الدعوة من شأن، يفتح الآفاق الواسعة والبصائر النافذة، ويطرد الكبرياء والغرور الذي يصيب كل داعية في صلب عطائه وإخلاصه.(6/18)
ثم إن الدعاة سعاة، فينبغي على الداعية أن يذهب إلى المدعو؛ ففي تحرك الداعية نحو الآخر، واحتكاكه به ومعرفة واقعه وطريقة عيشه، والاطلاع على آماله وآلامه، تتسع مدارك الداعية إلى الله، ويتسع أفقه ليشمل الغير دون تهميش لهذا أو ذاك، ودون إقصاء لفلان أو علان، أو تكبر على هذا الشخص أو ذاك، والداعية مطالب بأن يتسع أفقه لعموم الناس،الموافقين والمخالفين على السواء.
ولكي يُبعد الداعية إلى الله عن نفسه داء ضيق الأفق، عليه أن يدربها على النفور من ادعاء امتلاك الحقيقة، وأن يمزق شعار: قولي صوابٌ لا يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ يجب على الداعية أن يتربى على الاستعداد الصادق لسماع ما عند الآخر، وأن يترك الفرصة له للتعبير عن بنات أفكاره وآرائه، بدون إشعاره أن ما يقوله تافه أو غير مجد أو خاطئ حتمًا .
يقول الأستاذ عبد الله بن العيد، الباحث في الدراسات الإسلامية : ( إنه من المؤسف حقًا أن نجد الداعية لا يمتلك القدرة على سماع الغير وتقدير ما عندهم من أفكار وآراء، بل يمكن أن تعرض على الداعية أحيانا الآراء المخالفة وذهنه مغلق خارج التغطية، متيقنا -عن سابق إصرار وترصد- بأن ما سيقال له مجرد ترهات وأباطيل لا أصل لها من الحقيقة؛ فعنده الحكم على الأمور والأشياء بمقياس: إما أبيض أو أسود! والواجب أن يلزم نفسه بسماع ما عند المدعو وغير المدعو ثم يحكم بقبوله أو رده بالدليل الشرعي، مع إيجاد العذر للمخالف، لا الرفض من أجل الرفض انطلاقا من هواه الشخصي )، فالتجرد للحق معين عظيم على سعة الأفق ولا شك.
وليأخذ الداعية المصاب بداء ضيق الأفق الحكمة والموعظة من قصة الفقيه إسحاق بن راهويه الذي التقى بالإمام الشافعي في مكة، فتناظرا حول مسائل عديدة، والعجيب أنهما في بعض المسائل رجع الشافعي إلى قول إسحاق، ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، كل واحد منهما أعجبته حجة الآخر ودليله، فقال بها، وهذا نموذج الانتصار للحق فقط والتجرد له، بعيدا عن الهوى أو الغرور أو الكبر بما عند الداعية من علم أو شهرة.
كما أنه من المعينات على سعة الأفق عند الداعية ضرورة نهجه لخطة واضحة الوسائل والأهداف، بغية الانفتاح على ثقافات الغير وواقعهم، وتعلم ممارسة فنون الدعوة العملية من خطابة ومحاضرة، ودرس، وحوار، ومناظرة ووسائل أخرى، والاعتناء باللغات الأخرى غير العربية؛ وهو ما يمنح الداعية اطلاعًا واسعًا ينفي عنه سمة الضيق في أفقه وطريقة تفكيره .
وقبل هذا وذاك، الداعية الحريص على أن يكون أفق دعوته ممتدًا أمامه لا يحده حاجز، يجدر به أن يكون خلقه حاميًا لعلمه ومعرفته الشرعية من أخطار الانزلاق في سراديب الشهوات ومتاهات النزوات، ومن هذه الأخلاق الحامية له أن يكون أمينًا على شئون الدعوة المباركة، بالتواضع أمام من هو أعلم منه وأفقه، ورد الأمر له، الشيء الذي يكسر جذوة الرغبة في احتكار المعرفة المفضية إلى ضيق الأفق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه الترمذي وحسنه.
أ . حسن الأشرف
إسلام أون لاين
====================
وقفات من عزل الدعاة
منذ قرون عديدة يتعرض المجتمع الإسلامي لأصناف من التضييق الدعوي، يختلف باختلاف الزمان والمكان، وما ذاك إلا من أجل وأد مسلمات هذا الدين، ومزجه بالشهوات والشبهات على حسب الأهواء، وقد يتبنى حدوث الأزمات في حياة الدعاة جملة من الأديان والفرق والمذاهب والجماعات، حيث يكون لها النصيب الأكبر في إيقاد فتنة عميقة في البلد، حتى يكون نتاج ذلك فجوة بين الدعاة أنفسهم، وبين الدعاة والمجتمع.
وبين يدي هذا المقال أضع بين يدي الداعية بعض الخواطر التي أرجوا أن تكون بلسمًا ناجعًا لكل الدعاة، وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.
الرموز الدعوية :
الله عز وجل يهيء للناس دعاة إلى الله عز وجل بدءًا بالأنبياء والرسل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وانتهاء بأتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
والصف النفاقي، وعشاق الحسد، لا يألون جهدًا في إطفاء المعالم التي ينطلق من خلالها الدعاة، سواء كان ذلك من الجانب الاجتماعي أو من الجانب النفسي، أو من أي جانب يسقط مكانة الداعية، أو يقلل من جهوده وطاقاته.
ومن الأمثلة على ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أوجد الصف النفاقي وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، أسلوبًا في إسقاط مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك باتهام عرض أمنا عائشة رضي الله عنها، وقد خابوا وخسروا في استغلال ذلك، فهذا هو أسلوبهم، فهم مثل الذباب لا يقعون إلا على المستقذر، يحاولون جاهدين في النيل من الرموز الدعوية، ولو كان ذلك على حساب الأعراض.
وعشاق الحسد، وأساطين النفاق، يقودهم الغيظ، حينما يرون أن لمثل هذه الرموز واجهة فعلية لهذا المجتمع، مما يقودهم ذلك إلى إثارة البلبلة في الصف الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسلمين وذلك من خلال الانسياق في بحر الأزمات، مما يولدُ حالة من عدم الثقة بين المسلمين، فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدق، ويكون صراع داخلي، وهذا الصراع يزيد من الفرقة بين الأمة، مما يسهل تسلط الأعداء، والابتعاد عن القيادة الدعوية، وذلك يولدُ حالة من الإحباط النفسي بين الصفوف، والضعف والاستكانة أمام العدو.(6/19)
وكذلك صرف اهتمامات القيادة الدعوية، من أمور الدعوة إلى الفتن والأزمات الداخلية يشعل الأزمة في أي مجتمع، فتتعطل حركة التنمية، ومسيرة العطاء مدة من الزمن، تطول أو تقصر بحسب حجم هذه الأزمة وآثارها، ما لم يتم العمل بحسب الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الأزمة، والمجتمع الإسلامي حالهُ حال أي مجتمع في ذلك؛ فالأزماتُ تعطل عجلة العطاء، وتهدر الكثير من الطاقات والوقت، ويفقد الصف الإسلامي بسببها الكثير من الإنجازات التي تم تحقيقها؛ فبعد انتصاراتٍ عظيمة حققها المجتمع الإسلامي، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على الجبهات العسكرية، أو على جبهة بناء المجتمع المسلم، أو على الصعيد الدعوي، نجد الصف النفاقي يُحدث مثل هذه الفتنة، لكي يصرف اهتمامات القيادة الدعوية، من إرساء دعائم المجتمع المسلم إلى إشغاله بمعالجة آثار هذه الفتن، والعمل على إخماد نارها.
تهويل أخطاء الدعاة :
بني الإنسان معرض للخطأ، ولاشك بأن الأخطاء تتفاوت بحسب حجم العمل، مما يجعلنا أن نربي أنفسنا على النظرة الواقعية للعمل سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأعمال المؤسسية.
فمن الإجحاف أن نجعل الخطأ خطيئة لا تغتفر، والزلَّة في مرتبة العزل والمنع،ولا شك بأن تعميم الخطأ هو شهوة العاجزين والحاسدين، وفي مخيلة الإنسان مواقف كثيرة تثبت بأن أسلوب التعميم في الخطأ أسلوبًا جرى عليه الكثيرمن المؤسسات الحكومية والمسئولة، وأصبح لديهم عشقا لخبر أي زلة أو خطأ يصدر من الدعاة أو من أي عمل مؤسسي.
حيث أن أداة تفعيل المكر وإشاعة الخطأ فنٌ يجيده صغارهم، مع أن أبواب التحكم لديهم مهيأة لديهم وذلك من خلال الصوت الإعلامي، والسلطة والمكانة، مما يجعل ذلك فرصة لهم في أخذ الحرية في إكمال السير، وتحقيق الهدف.
وعلينا كأفراد ومؤسسات أن نعالج الأخطاء التي تصدر من أفرادنا ومؤسساتنا بشكل إيجابي، مع إظهار الأطر الإيجابية للمجتمع عند إظهار خلاف ذلك، ونحن لا نبرئ الرمز الدعوي من عدم الوقوع في الخطأ، فهو يبحث عن معالجة الأخطاء التي بدرت منه سواء كان ذلك من خلال الكلام أو السلوك، أو يبحث عن المعالم التي تزج به عن الوقوع في تهمة تُثار عليه في دعوته.
الرموز الدعوية وفقد التوازن :
لما تهب عاصفة قوية على الرموز الدعوية، فإن ذلك يشكل ثلما واضحًا في صفوف الدعاة والمجتمع ككل، بل قد يؤدي إلى حدوث إبادة كلية لأي عمل دعوي، وهذا أمر طبيعي عند حدوثه مباشرة، والمطلوب من الصف الدعوي أن يصنعوا التوازن عند حدوث الحدث، وكذلك التعامل معه في قالب يشكل الاستمرار في العمل الدعوي، وعدم الإنحناء أو الفتور.
ومن الطبيعي أن يشكل المجتمع الذين يبجلون هؤلاء الرموز نوعًا من الحماس، وذلك للمكانة التي يحملونها في نفوسهم لهؤلاء، ولكن من الحكمة أن يفعل هذا الحماس تفعيلا إيجابيًا، من أجل أن ينصر الحدث، أو يقلل من استمراره، لأنه في حال فقد التوازن في التعامل مع أي حدث دعوي، يجعل هناك خسائر دعوية على جميع الأصعدة، سواء كان ذلك من النشء الدعوي، أو من الأعمال والترتيبات الدعوية، أو ذهاب فترة زمنية لم تحقق فيها مصالح دعوية، أو تبدد المكاسب والإنجازات من ذي قبل، أو حدوث الفجوات بين الرموز الدعوية باختلاف أعمالهم، وشخصياتهم.
ومن الأهمية أن لا يفقد التوازن مهما استمر التيار المقاوم، وأن يستمر سلم العمل الدعوي باختلاف أساليبه - سد الثغور - .
لا شك بأن عزل الدعاة عن المنابر الدعوية ثلمة واضحة في تاريخ المجتمعات، وأسلوب بارد لتجميد منابع الخير، ومنحة سانحة إذا استغلت استغلالا جيدًا؛ لأننا نخشى من أصحاب الفكر السيء، ومريدي الانفتاح والشر، أن يشمروا لسد ثغور أهل الدعوة والخير.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفا دقيقا كما فى حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال :(سيأتي على الناس سنواتُ خدَّاعاتُ، يُصدّق فيها الكاذبُ ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمُن فيها الخائنُ، ويُخوّنُ فيها الأميُن، وينطقُ فيها الرُويبَضة قيل : وما الرُويبَضة ؟ قال : الرجل التافهُ يتكلمُ فى أمر العامَّةِ ) حديث صحيح رواه أحمد وابن ماجة والحاكم ( صحيح الجامع 1/ 681 ).
صبرًا أيها الدعاة :
يقول السيد قطب : ( إن موكب الدعوة إلى الله، الموغل فى القدم، الضارب فى شعاب الزمان، ماض من الطريق اللاحب، ماض فى الخط الواصب، مستقيم الخطى ثابت الأقدام، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء، والموكب فى طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد، والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين ).
يأمر الله جلًّ وعلا بالصبر فى عشرين موضعًا من القرآن الكريم، مرة بصيغة ( اصبر ) وهى ثماني عشر، واثنتان بصيغة ( اصطبر )، أما ( الصبر ) فقد ورد فى نحو تسعين موضعًا فى القرآن الكريم، فهو أكثر خُلق تكرر ذكره فى كتاب الله عز وجل.
ولنقرأ معًا بعض هذه الآيات الكريمة :
قال تعالى - ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (35) سورة الأحقاف.
قال تعالى - ( وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) (109) سورة يونس.
قال تعالى - ( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (49) سورة هود.
قال تعالى - ( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (115) سورة هود.(6/20)
قال تعالى - ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (127) سورة النحل.
قال تعالى - ( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (7) سورة المدثر.
قال تعالى - ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (10) سورة المزمل.
قال تعالى - ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (55) سورة غافر.
قال تعالى - ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) (48) سورة الطور.
قال تعالى - ( فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ) (5) سورة المعارج.
ثم يأتي الأمر بالصبر بعد النبي إلى الأمة فى آيات كثيرة أيضاً :
يقول الله عز وجل :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران.
كلمة للظالمين:
وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب فما هم أبدًا بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش ومهما زاد ظلمهم وانتعش فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سنة جارية ليميز الخبيث من الطيب فقد جعل أخذ الظالمين أيضًا سنة لا تتبدَّل ولا تتخلف فكل هذه القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ومن وسائل الإبادة والتدمير مثلها :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (41) سورة العنكبوت.
نعم فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة ؟!
أين فرعون الذى قال لقومه: ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (24) سورة النازعات,واستخفهم بقوله:( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) (51) سورة الزخرف.
فأجراها الله من فوقه !!!
أين نمرود بن كنعان الذى قال لإبراهيم – عليه السلام - : ( قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ) (258) سورة البقرة.
أين قارون الذين قال فى خيلاء وكبر واستعلاء: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ) (78) سورة القصص
وأين عاد وأين ثمود ؟ وأين أبو جهل وأبو لهب ؟
( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (40) سورة العنكبوت.
فيا أيها الظالمون:
يا أيها المجرمون:
محال أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون فاعملوا ما شئتم فإنا عاملون وجوروا فإنَّا إلى الله مستجيرون واظلموا فإنَّا إلى الله متظلمون: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (227) سورة الشعراء.
أيها الظالمون:
اتقوا دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب فإن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: ( وعزتى وجلالى لأنصرنك ولو بعد حين ).
بشرى للدعاة :
قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(173) سورة الصافات .
فلئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج، وإن كنوز الغيب تخفى طلائعاً صابرة رغم المكائد تخرج، إن الدعاة الصادقين من تم عزلهم وإيقافهم ، لكن نور علمهم ودعوتهم السابقة تسد مكانها، وتحذو حذوها، حتى وإن لامس جو الدعوة شيء من الفتور، إلا أن نور الفجر سيسطع ويشع ضوءه، كقدوم النهار على الليل.
قال الله : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (21) سورة يوسف.
ولتكن مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع البلاء في مخيلة كل داعية، حتى يهون الأمور، ويعظم الأجر، وتتحرك الهمم، وتستمر الدعوة.
أ.عبد الله القحطاني.
صيد الفوائد( بتصرف).
===============
الدعوة إلى الله في مجال العقيدة (1-2)
أصل كلمة العقيدة في اللغة مأخوذة من عَقَدَ, وجاءت بعدة معان مختلفة تدور كلها حول التصديق، والتوثيق، والتأكيد، والثبات، والصلابة، والشدة.
وفي الاصطلاح: ( الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين، وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليمُ لله - تعالى- في الحكم والأمر والقدر والشرع ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتحكيم والاتباع ).(1)
والدعوة إلى العقيدة الإسلامية هي فاتحة دعوة الرسل جميعًا, فلم يكونوا يبدؤون بشيء قبلها، وكل رسول يقول لقومه أول ما يدعوهم: ( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) (2)، كما قالها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وسائر الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين -.(6/21)
فالدعوة إلى هذه العقيدة هي الأساس والمنطلق؛ فلا يُدعى إلى شيء قبلها من فعل الواجبات وترك المحرمات حتى تقوم هذه العقيدة وتتحقق؛ لأنها هي الأساس المصحح لجميع الأعمال, وبدونها لا تصح الأعمال ولا تقبل ولا يثاب عليها, ومن المعلوم بداهة أن أي بناء لا يقوم ولا يستقيم إلا بعد إقامة أساسه.
ولهذا كان الرسل يهتمون بها قبل كل شيء, وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يبعث الدعاة يوصيهم بالبداءة بالدعوة إلى تصحيح العقيدة , فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن؛ قال له: ( إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).(3)
فمن هذا الحديث الشريف, ومن استقراء دعوة الرسل في القرآن, ومن استقراء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم, يؤخذ منهج الدعوة إلى الله, وأن أول ما يدعى الناس إليه هو العقيدة المتمثلة بعبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه, كما هو معنى لا إله إلا الله.
وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، قبل أن يأمر الناس بالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وترك المحرمات من الربا والزنى والخمر والميسر.(4)
أبرز ما دعا إليه الرسل - عليهم السلام- في مجال العقيدة:
أولاً: الدعوة إلى توحيد الله, والنهي عن الشرك :
وتوحيد الله هو: ( نفي الكفء والمثل عن ذات الله تعالى، وصفاته, وأفعاله, ونفي الشريك في ربوبيته, وعبادته - عز وجلّ- ).(5)
وهي أول دعوة الرسل, وأول منازل الطريق, وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله - عز وجل -, وهو أول ما يدخل به في الإسلام, وآخر ما يخرج به من الدنيا, فهو أول واجب وآخر واجب.
وهو يتضمن ثلاثة أنواع :
الأول: الكلام في الصفات.
الثاني: توحيد الربوبية, وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.
الثالث: توحيد الإلوهية, وهو استحقاقه - سبحانه- أن يُعبد وحده لا شريك له.
والتوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلوهية المتضمن توحيد الربوبية, وهو عبادة الله وحده لا شريك له, فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية, وأن خالق السماوات والأرض واحد, ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم, بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم, باتخاذهم التماثيل شفعاء يتوسلون بهم إلى الله.(6)
ولا يتحقق التوحيد الكامل إلا بأمرين:
أ- العلم اليقيني بأن الله وحده هو المعبود, فلا يعبد غيره سواء كان إنساناً أو حجرًا أو شجرًا أو هوىً أو أي شيء آخر.
ب- ألا يعبد الله إلا بما شرع .(7)
أما الشرك فأفضل ما عُرف به في الاصطلاح، قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل: أي الذنب أعظم عند الله ؟ فقال: ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ).(8)
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله -: ( أن يجعل لله نداً، أي: مثلاً في عبادته، أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ).(9)
والشرك من أعظم مفسدات العقيدة, وأشد الذنوب خطرًا على العبد.
وهو على نوعين :
النوع الأول: شرك أكبر مخرج عن الملة، وهو: كل شرك أطلقه الشارع، وهو منافٍ للتوحيد منافاة مطلقة، مثل أن يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله؛ بأن يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله, أو ينذر لغير الله.
النوع الثاني: الشرك الأصغر، وهو: كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشارع وصف الشرك لكنه لا ينافي التوحيد منافاة مطلقة، مثل الحلف بغير الله, و الرياء.(10)
والدعوة إلى الله لابد أن تبنى على أساس متين بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك؛ فإن أعظم ما أمر الله به التوحيد, وهو إفراد الله بالعبادة, وأعظم ما نهى الله عنه الشرك, وهو دعوة غيره معه.(11)
وإنما كان التوحيد أعظم ما أمر الله به؛ لأنه الأصل الذي يبنى عليه الدين كله, ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله, وأمر من أرسله للدعوة أن يبدأ به.
وكان الشرك أعظم ما نهى الله عنه؛ لأن أعظم الحقوق هو حق الله-عز وجل-، فإذا فرط فيه الإنسان فقد فرط في أعظم الحقوق وهو توحيد الله عز وجل.(12)
وغالب سور القرآن متضمنة للتوحيد, بل كل سورة في القرآن, فإن القرآن:
- إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله, وهذا هو التوحيد العلمي الخبري.
- وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له, وخلع ما يعبد من دونه, وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي .
- وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته, فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
- وإما خبرعن إكرامه لأهل توحيده, وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده .
- وإما خبر عن أهل الشرك, وما فعل بهم في الدنيا من النكال, وما يحل بهم في العقبى من العذاب, فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه, وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.(13)(6/22)
وجاءت الدعوة إلى الإيمان بالله وحده وترك عبادة ما سواه في آيات الله بطرق مختلفة؛ وذلك إما في دعوةٍ صريحةٍ إلى الإيمان بالله وحده ونهي عن الإشراك به, وإما بسوق الأدلة والبراهين العقلية على وحدانيته – سبحانه– ، أو بضرب الأمثلة على بطلان ألوهية غيره، ويجب أن تكون الحنيفية أول موضوع يدعو إليه الداعي في دعوته, فإنه لا صلاح لأمر العبد إلا بصلاح إيمانه بربه, وهو ما يجب الاهتمام به لما له من أثر عميق في حياة الفرد والمجتمع, فإن التوحيد الخالص لله - سبحانه وتعالى- يمنح العبد راحة وطمأنينة وأمناً واستقرارًا, لأنه يعبد إلهاً واحداً, يذكره في الرخاء ويفزع إليه في الشدة, يذنب فيستغفر ربه فيغفر له, يرجو ثوابه ويخشى عقابه, يدفعه إيمانه به إلى طاعته للفوز برضاه, وهو في هذا واحد في مجتمع لا يصلح إلا بصلاحه, فالمجتمعات المؤمنة هي أسعد المجتمعات حالاً, وأكثرها استقرارًا، بخلاف المجتمعات ذات العقائد الفاسدة التي تنتشر فيها الخرافات والأفكار الباطلة، ويعيش الفرد فيها في حيرة وتخبط، ويعاني من التأخر والتعثر؛ لهذا فنعمة التوحيد نعمة لا تقدر, ومنحة إلهية لا تعوض, أمرنا المولى بحمده عليها، فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ). (14)
__________________
(1) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها /(ص9)، د. ناصر بن عبد الكريم العقل.
(2) سورة هود، الآية (50).
(3) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا، ح (1395)، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، وشرائع الإسلام، ح (30)، انظر: موسوعة الحديث الشريف(الكتب الستة)/(ص118 ، 684).
(4) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد /(ص 19) وما بعدها، لمعالي الشيخ الدكتور: صالح بن فوزان بن عبدالله الفوزان.
(5) عقيدة المؤمن/(ص 87)، لفضيلة الشيخ: أبو بكر جابر الجزائري.
(6) انظر: شرح العقيدة الطحاوية /( ص21 – 29)، للإمام القاضي: علي بن علي ابن محمد بن أبي العز الدمشقي, تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، شعيب الأرنؤوط .
(7) انظر: عقيدة المسلم وما يتصل بها /(ص 22)، تأليف: عبد الحميد السائح .
(8) أخرجه الإمام البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله-تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة:22]، ح (7520)، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب، وبيان أعظمها بعده،ح(141). انظر: موسوعة الحديث الشريف(الكتب الستة)/( ص627 ، 693).
(9) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية /(1/91)، جمع وترتيب الشيخ: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، وساعده ابنه: محمد .
(10) انظر: شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة /(ص 147 ، 148)، لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين, إعداد الشيخ: فهد بن ناصر السليمان .
(11) انظر: الأصول الثلاثة وأدلتها/(ص 6)، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، علَّق عليها وصحح أصولها: محمد منير الدمشقي .
(12) انظر: شرح ثلاثة الأصول /(ص 41)، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين, إعداد الشيخ : فهد بن ناصر السليمان .
(13) انظر: شرح العقيدة الطحاوية /(ص 42 ، 43).
(14) سورة الزمر، الآية (29).
=================
الدعوة إلى الله في مجال العقيدة (2- 2)
ثانياً : الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر :
وهو: ( أن تصدق بكل ما بعد الموت من عذاب في القبر ونعيمه, وبالبعث بعد ذلك, والحساب والميزان, والثواب والعقاب, وبالجنَّة والنار, وبكل ما وصف الله به يوم القيامة ). (1)
واليوم الآخر: هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده, حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم, وأهل النار في منازلهم. (2)
والإيمان باليوم الآخر فريضة واجبة, وهو أحد أركان الإيمان الستة. (3)
ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ( أن تؤمن بالله، وملائكته, وكتبه، ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره). (4)
ويتضمن الإيمان باليوم الآخر ثلاثة أمور ، وهي كما يلي:
الأول : الإيمان بالبعث :
وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية, فيقوم الناس لرب العالمين, حفاة غير منتعلين, عراة غير مستترين, غرلاً غير مختتنين.
والبعث: حق ثابت دلَّ عليه الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين. (5)
قال سبحانه وتعالى : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). (6)
الثاني : الإيمان بالحساب والجزاء :
وهو أن الله سبحانه وتعالى يحاسب العبد على عمله, ويجازيه عليه.
وقد دل على ذلك الكتاب, والسنة, وإجماع المسلمين. (7)
قال تعالى: ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ). (8)
الثالث : الإيمان بالجنة والنار:(6/23)
وأنهما المآل الأبدي للخلق, وجزاؤهم على ما قدموه في دنياهم ، فالجنة دار النعيم التي أعدَّها الله تعالى للمؤمنين المتقين, الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به, وقاموا بطاعة الله ورسوله, مخلصين لله متبعين لرسوله. (9)
قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير). (10)
والنار دار العذاب التي أعدَّها الله تعالى للكافرين المكذبين بآياته، المعرضين عما جاء به الرسل من الحق المبين, وفيها من العذاب والنكال ما تقشعر له الأبدان.
قال تعالى : ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ?20? وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ?21? كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ). (11)
وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة ، منها :
1- الرغبة في فعل الطاعة، والحرص عليها، رجاء ثواب ذلك اليوم.
2- الرهبة عند فعل المعصية والرضا بها، خوفًا من عقاب ذلك اليوم.
3- تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من ثواب الآخرة ونعيمها.
4- استدامة المراقبة, واستحضار اليوم الذي ينصب فيه ميزان العدل وتنشر فيه صحف الأعمال.
5- التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة, فلا يركن العبد إلى الدنيا ومغرياتها ولا يزهد فيها فيقعده ذلك عن العمل، بل يبقى وسطاً كما قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار). (12)
6- تعميق الإيمان بعدل الله؛ لأن المؤمن باليوم الآخر يعتقد أن هذه الدنيا دار ممر, لا دار جزاء ومستقر, وتعتريها النقائص والمنغصات, أما الدار الآخرة فهي دار الجزاء العادل, والقسطاس المستقيم, يقيمه الإله العدل سبحانه, الذي لا يظلم أبدًا, ولا يجور حكمه على أحد. (13)
________________________
(1) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد /(ص 290).
(2) انظر: شرح ثلاثة الأصول /(ص 100).
(3) انظر: شرح العقيدة الواسطية /(ص 472)، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين, إعداد الشيخ: فهد بن ناصر السليمان .
(4) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله -سبحانه وتعالى-، وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه، ح (1)، وأخرجه الإمام البخاري بنحو هذا اللفظ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، ح (50). انظر: موسوعة الحديث الشريف(الكتب الستة)/(ص 681 ، 6).
(5) انظر: شرح ثلاثة الأصول /(ص 100).
(6) سورة الحج، الآية (7).
(7) انظر: شرح ثلاثة الأصول /(ص 101).
(8) سورة الحج، الآية (10).
(9) شرح ثلاثة الأصول /(ص 102).
(10) سورة الحج، الآية (23)
(11) سورة الحج، الآيات (19- 22).
(12) سورة البقرة، الآية (201).
(13) انظر: شرح ثلاثة الأصول /(ص 105), العقيدة الإسلامية /(ص456 – 458)، د.مصطفى بن سعيد الخن, محيى الدين ديب مستو.
===============
من مواقف قريش المضادة للدعوة الإسلامية في مكة المكرمة
تحتاج الأمة، وهي تتلمس طريقها نحو النهضة إلى ما يسمى: ( بالحس التاريخي )، تعي فيه ذاتها وتحقق أصالتها، وأي أمة خلت من هذا الحس التاريخي؛ هي أمة تابعة مقلدة لاهثة، لا تعي ذاتها وبالتالي لا تملك ذاتها، ومصيرها يكون إلى زوال.
ودراسة الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى طريق إلى إيجاد الحس التاريخي في هذه الأمة، وإنعاشه وبلورته إلى عمل فعّال في استثارة كوامن الطاقات الإسلامية وتجميعها وتوجيهها نحو الخير والعطاء.
وقد واجهت الدعوة الإسلامية من اللحظة الأولى لظهورها الوثنية وتزعمتها قريش، وبشكل خاص بعد أن اعتَنق الدعوة كثير من أهل الفضل منهم، ووقفوا في سبيلها بمختلف الوسائل، ومن هذه الوسائل:
1- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بمختلف التهم ليبعدوا الناس عنه :
فكانوا يقولون : هذا أساطير الأولين, قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } ( 5 ) سورة الفرقان.
ونعتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكاهن حيناً، والكاذب المفتري حيناً، والمتعلم المقتبس من غيره حيناً, وظلوا يكرّرون ذلك حتى آخر العهد المكي, قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ( 4 ) سورة ص، وقال سبحانه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} ( 4 ) سورة الفرقان.
ووصفوا القرآن بالسحر، قال تعالى: {...وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ( 43 ) سورة سبأ.
2- اتبعوا أسلوب الحِجاج :(6/24)
فكانوا يحاجّون الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أسلوب أهل الكتاب، ومن قوله سبحانه وتعالى يبيّن أسلوبهم في الحجاج: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ( 148 ) سورة الأنعام.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [24] وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (25) سورة الجاثية.
3- مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعجزات وتحدّيه :
فقد طالبوه بالمعجزات والآيات برهانًا على صدق دعواه، قال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90 ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ( 91 ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ( 93 ) } سورة الإسراء.
4- محاولة استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإقناعه بالعدول عن الدعوة :
فقد عرض عليه زعماء قريش الملك والمال والنساء، أرسلوا إليه عتبة ابن ربيعة سيد قومه، فذهب إليه وهو يصلي في المسجد فقال له: ( يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت، من خيارنا حسبًا ونسبًا، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسَفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفًا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطبيب, وبذلنا فيه أحوالنا حتى نبرئك منه...) إلخ القصة.
فهكذا كان زعماء قريش يحاولون إقناع محمد صلى الله عليه وسلم بالعدول عن الدعوة، أو التنازل عن شيء منها مقابل تنازلهم عن أشياء، فكان قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } ( 9 ) سورة القلم، فثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الموقف الذي لا يحتمل مساومة، ولا تعددًا.
5- أسلوب التعذيب :
لما رأى زعماء قريش إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام؛ توجهوا إلى مقاومة الإسلام عن طريق تعذيب العبيد والضعفاء من المسلمين؛ ليعودوا إلى الشرك، وليحولوا دون إسلام المزيد، فكان من صور هذا التعذيب: أن يُعرّى صدر المسلم، ويطرح فوق الرمال المتوهجة من شدة حرارة الشمس، ويوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام، وتقيّد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد، ويجلدون بالسياط جلدًا شديدًا، فزهقت أرواح بعضهم.
ومن بين الذين تعرضوا لمثل هذا العذاب: ياسر وزوجته سمية، وابنهما عمار، وبلال بن رباح, وخباب بن الأرت، فكان المشركون يخرجون ياسرًا وزوٍجه وابنه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء ويعذبونهم بحرّها، فيمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: ( صَبْرًا آَلَ يَاسِرٍ فَإنَّ مَوْعِدَكُمْ الجَنَّةُ ) رواه الحاكم والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في شعب الإيمان، وقد مات ياسر وهو يُعذب، وأما زوجه فقد طعنها أبو جهل بحربة فقتلها.
وقد ضرب المسلمون مثلاً خالدًا للتمسّك بالعقيدة، وتحمّل أنواع الأذى، والتضحية بالنفس، وكان بعضُ المسلمين الأغنياء - وخاصة أبا بكر- يشترون الأرقاء المضطهدين من مالكيهم وينقذونهم.
ثم خطا المشركون خطوة أخرى في التعذيب: فأخذوا يعتدون على المسلمين جميعًا ودون تمييز، حتى شمل الاعتداء ذوي الثراء والوجاهة والقوة: كأبي بكر، وعثمان، والزبير، وطلحة، وأبي عبيدة، وعثمان بن مظعون، فقد شدّ نوفل بن خويلد وكان يسمى ( أسد قريش ) أبا بكر وطلحة القرشيين بحبل واحد، فسميا القرينين, وعذب أبو أحيحة ابنه خالد بن سعيد بن العاص، فكان يضربه بقراعة في يده حتى يكسرها على رأسه، ثم يأمر بحبسه ويضيّق عليه، ويجيعه ويعطشه، حتى لقد مكث في حر مكة ثلاثًا ما ذاق ماءً.
ونتيجة لتعرض المسلمين جميعًا للعذاب أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثته.
6- تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكف عن دعواه، والعدوان عليه :(6/25)
حين باءت أساليب مقاومة كفار قريش بالفشل؛ لجئوا إلى عمه أبي طالب، وقال زعماؤهم: ( يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفه أحلامنا، فإما أن تكفه عنّا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه )، فردّهم أبو طالب ردًا جميلا دون أن يتوقف صلى الله عليه وسلم عن نشاطه، أو يتهاون في الدعوة، فعاودوا الكرة، وخاطبوا أبا طالب بلهجة المتوعد المهدد، وأنهم لن يصبروا على هذا الحال، وخيّروه بين أن يمنعه عمّا يقول، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الطرفين، فعظم الأمر على أبي طالب فكلّم محمدًا صلى الله عليه وسلم بما جاء به إليه قومه وقال له:
( يا ابن أخي، إن قومك جاءوني وقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ).
فكان ردّ المبلّغ الداعية إلى الحقّ، الذي يحمل نفسًا أبيّة لا تعرف الذل، ولا تنحنى للوهن، ينظر إلى خصمه من علٍ؛ لأنه يستمد القوة من عزيز حكيم، ينظر إلى زخارف الدنيا وكأنها أوراق الخريف تتطاير في الهواء، ويحتقر أبهة المشرك وعظمته، يستعلي على الدنيا بإيمانه، فهو على الحق وإن لقي العنت الشديد, قال صلى الله عليه وسلم: ( مَا أَنَا بِأَقدِرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذلِكَ عَلَى أَنَ تُشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً - يَعْنِي الشَّمْسَ- ) رواه أبو يعلى وابن عساكر، فطمأنه أبو طالب ووعده الاستمرار في حمايته.
فعاد زعماء قريش إلى أبي طالب يعرضون عليه عمارة بن الوليد أوسم شباب قريش؛ ليسلموه إليه على أن يسلمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فردهم ساخرًا بقوله: ( بئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه )، فاتجه بعضهم إلى إنزال الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة.
ومن الذين اشتدوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وأبو لهب عمه، وأم جميل زوجة أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، ولكنّ إسلام حمزة، ثم عمر بن الخطاب كفّ القرشيين عن بعض ما كانوا ينالون به الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى خوفًا منهما.
وفي أثناء ذلك استمر القرآن الكريم يردّد مشاهد الشدة والعنف مع المشركين ويندّد بهم، وينذرهم بسوء المصير، ويصبّر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويعدهم بالنصر والتأييد، وحسن العاقبة.
7- أسلوب المقاطعة :
ازداد حنق المشركين من قريش إزاء صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى والتعذيب وإصرارهم في المضي بالدعوة، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، فاجتمعوا وائتمروا، وقرروا مقاطعة المسلمين وبني هاشم دون أبي لهب، فلا يتزوجون منهم ولا يزوّجونهم، ولا يبيعون لهم شيئًا، ولا يشترون منهم، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، وعلقوا صحيفة المقاطعة بالكعبة، فاضطر بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى النزوح إلى شعب أبي طالب شرقي مكة، وقطعت عنهم قريش كل أنواع المؤن، ولم يكن يتاح لهم الاختلاط بغيرهم من الناس إلا في الأشهر الحرم حين يفد العرب إلى مكة لزيارة البيت الحرام, وبلغ بهم الجهد حدًا لا يطاق، فذاقوا الجوع والحرمان حوالي ثلاث سنوات لا يصل إليهم القوت إلا خفية.
وأخيرًا أخذت الحمية والرأفة نفرًا من القرشيين، منهم: هشام بن عمرو ابن الحارث العامري, وزهير بن أمية بن المغيرة المخزومي, والمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف, وأبو البختري بن هشام, والأسود بن عبد المطلب بن أسد, وتعاهدوا على نقض الصحيفة رغم اعتراض أبي جهل, وخرجوا إلى بني هاشم، وبني عبد المطلب، وطلبوا منهم العودة إلى منازلهم، وشقوا الصحيفة، فوجدوا الأرض قد أكلتها إلا ما كان من: ( باسمك اللهم )، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش.
8- القتل أو الحبس أو النفي :
اجتمع مشركوا قريش في دار الندوة، فتشاوروا في أمر الدعوة الإسلامية، ففكروا في ثلاث وسائل، وهي: حبسه صلى الله عليه وسلم، أو اغتياله، أو نفيه، قال تعالى: { وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ( 30 ) سورة الأنفال، واتفق رأيهم أخيرًا على قتله شريطة اشتراك شبان من مختلف بيوتات قريش؛ حتى يتوزع دمه فلا يستطيع آله المطالبة بدمه.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج من داره ليلا بعد أن ترك عليًا ليقوم بتأدية الأمانات، وشق طريقه مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة، لتتشرف باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبدأ الدعوة مرحلة جديدة مليئة بالكفاح والنضال والجهاد.
كاتب المقال: د. جميل بن عبد الله المصري .
المصدر: مفكرة الإسلام.
==============
ضرورة الدعوة إلى الله
حاجة الإنسانية إلى الرسل ماسة، وضرورة الدعوة إلى الله مُلحّة، والدعوة في صدر الإسلام أدت مهمتها وحققت غايتها، فأخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وجعلت من الحفاة العراة أئمة ودعاة، وفي غزوة تبوك لما تأخر عليهم - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه لصلاة الصبح وكان من عادته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أن يبعد وكان معه المغيرة بن شعبة، ولما استبطؤا عودته - صلى الله عليه وسلم - وخافوا خروج الوقت قدموا ابن عوف فصلى بهم، وقد وصل - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاتهم بركعة، فَهَمَّ المغيرة أن يشعرهم ليتأخر إمامهم فمنعه - صلى الله عليه وسلم - وقام في الصف مع المصلين، ولما أنهوا صلاتهم قام فأتى بالركعة التي سبقوه بها، فرأى منهم تحسرًا وأسفًا فقال: ( إن الله لم يقبض نبيًا حتى يصلي خلف رجل من أصحابه)، ففيه إشعار أن دعوته قد أثمرت وأصبح أصحابه مؤهلين لإمامة العالم وقد كان.(6/26)
وواصلت الدعوة إلى الله مسيرتها إلى العالم، فمن استقبلها وقبلها بقبول حسن فقد فاز وسعد، ومن عارضها ووقف في طريقها أزيل وأبعد حتى طبقت بتعاليمها المشرق والمغرب، واستوى فيها العرب والعجم، وتوحد تحت لوائها سائر الأمم، وأصبحوا بنعمة الله إخوانًا متعاطفين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، متعاونين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ولما طال الزمن وتعددت أساليب الحياة، وخالطت عادات الشعوب مع تعاليم الإسلام، وبَعُدَ الناس عن مشارق نور الهداية ومرضت النفوس بالأهواء، وأحضرت الأنفس الشح، ودب في الناس الوهن، وتغلبت الشهوات، وتألهت الرغبات، كما جاء في الأثر: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فدبت العصبية وظهرت الحزبية، وتعددت الطائفية، مزقتهم السياسة دويلات وتقسمت الدول جماعات، وصارت الحزبية مبدأ، والتعصب لها وفاء، يكيد بعضها لبعض، فأصبحوا غثاءً كغثاء السيل، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتهم.
وكذلك الحال في الأفراد؛ فقد غرهم شيطان الحضارة وإبليس المدنية، وزينوا لهم ما ليس بحسن حتى رأوه حسنًا، فاعتبروا تقليد العدو حضارة وتطورًا، والحفاظ على الدين جمودًا وتعصبًا، فأخرجوا المرأة من خِدرها، وأسقطوا عنها حجابها.
اعتبروا الربا تطورًا اقتصاديًا، والزنا وشرب الخمر حرية شخصية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدًّا من الحريات وتدخلاً في شؤون الآخرين، فالتبس الحق بالباطل، واستبدل الهدى بالهوى، حتى تكاد بعض بلاد المسلمين تنعزل فيها الدنيا عن الدين، ونادى فيها دعاة السوء "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وقد عادت بعض البلاد في حافرتها، فاستبدلت بوحي السماء قوانين الأرض، وبتحكيم الشرع موازين العقول، فما أشبه الليلة بالبارحة، حتى قيل جاهلية القرن العشرين.
وبناءً على هذا كله فإن ضرورة الدعوة اليوم أشد وألزم من أي يوم كان؛ لأن الباطل ألبس ثوب الحق، والفساد زين بما يشبه الإصلاح، والبدع زاحمت السنن، والتقاليد أفسدت المعتقدات.
وهذا يكفي لإطلاق صرخة تملأ الآفاق..أين الدعاة إلى الله ؟ فضلاً عما دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من القيام بالدعوة.
ضرورة الدعوة إلى الله في الكتاب والسنة:
أولاً: الإشارة لذلك في الأمم قبلنا:
لقد نبهت الكتب السابقة قبل نزول القرآن الكريم على أن شعار هذه الأمة وميزتها إنما هي الدعوة إلى الله، كما جاء في قوله - تعالى -عن مؤمني أهل الكتاب: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} الأعراف: 157.
فقد وصف الله لهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم المنزلة على رسلهم موسى وعيسى، بأنه - صلى الله عليه وسلم - النبي الأمي، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى آخره، ونلحظ تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقدمًا على تشريع الحلال والحرام، مما يفيد أنه الأصل في دعوات الرسل؛ لأنه يتضمن إصلاح العقائد، وتوحيد المولى - سبحانه -، وترسيخ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو ما كان من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أول أمره: مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يشرع فيها حلالا ولا حرامًا من أركان الإسلام إلا الصلاة ليلة الإسراء في أواخر العهد المكي، مما يدل دلالة قاطعة على ضرورة الدعوة وشدة حاجة الإنسانية إليها.
وهذا لقمان الحكيم؛ قال ابن كثير: وكان قاضيًا على بني إسرائيل زمن داود - عليه السلام -، يقول الله تعالى عنه في وصاياه لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} لقمان: 17.
وقد كانت بقية باقية من أهل الكتاب قائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال - تعالى -عنهم: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} آل عمران: 113، 114.
إذا كان هذا النص يعطينا تاريخًا سابقًا لقيام أمة من أهل الكتاب قائمة تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، فإنا نأخذ منه أيضًا ما يُسمى بمقومات الآمر الناهي: تلاوة القرآن والصلاة به، والمسارعة في الخيرات، ومعلوم أن قيام الليل من أقوى وسائل الإعانة على أمور الدين والدنيا، ونلحظ ذلك من خلال خطاب الله - تعالى -في أول سورة المزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} المزمل: 1-6.
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل وترتيل القرآن، وأُعلم بأن ناشئة الليل هي التي تعين وتساعد على تلقي وتنفيذ وأداء القول الثقيل الذي هو الوحي بالتكاليف، فيكون هذا المنهج متحدًا للدعاة إلى الله قديمًا وحديثًا.(6/27)
ونظير تلك الأمة من أهل الكتاب ما جاء التكليف به لهذه الأمة في قوله - تعالى -: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران: 104.
ثانيًا: ضرورة الدعوة في هذه الأمة:
جاء في حق الأمم السابقة قوله - تعالى -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء: 164، 165.
ونظير إقامة تلك الحجة قوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء: 15.
وقد جاء في حق إمام الدعاة وقدوتهم وقائدهم صلوات الله وسلامه عليه قوله - تعالى -في سبيل الدعوة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} الأحزاب: 45، 46.
وفي هذا النص نجده - صلى الله عليه وسلم - قد شارك الرسل قبله في البشارة والنذارة، وزاد عليهم أنه كان شاهدًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما الشهادة فقد بينها - سبحانه وتعالى - في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} النساء: 41.
أما كونه داعيًا إلى الله فكما جاءت النصوص: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} النحل: 125، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يوسف: 108.
ثم يأتي الخطاب إليه من الله - تعالى -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} النحل: 125-128.
إنه تكليف وتوجيه، تكليف بصيغة الأمر(ادع) ومنهج بالخطوات التي يسلكها مع من يدعوهم، والتنويه على أن هذا العمل سيلقى معارضين وقد يناله منهم ما يستلزم عقوبة فاعله، وكيف يكون التعامل مع هذا الصنف من الناس، وأن الصبر عليهم هو سبيل الإحسان والله يحب المحسنين.
وفي موضع آخر: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت: 33-34.
ثم جاء ما يشبه ترسيم الدعوة إلى الله في قوله - تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران: 104.
قال ابن كثير: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الضحاك: "هم خاصة الصحابة" إلى قوله: والمقصود من هذه الآية الكريمة أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن مع عموم قوله - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران: 110.
والنظر في هذا النص يكون من عدة جهات:
أ - التعبير عن القائمين بالدعوة إلى الخير "بأمة" بدلاً من جماعة مثلاً، مما يشعر بنوعية أولئك الدعاة من أن كل واحد منهم يصلح للإمامة: على حد قوله - تعالى -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} النحل: 120.
وقول ابن مسعود: إن معاذا كان أمة، فقيل له: هذا في إبراهيم - عليه السلام -؛ فقال ابن مسعود: إن الأمة معلم الناس الخير، وهكذا كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه -.
ويؤيد ذلك ما جاء في الآية الأخرى في حق الذين ينفرون لطلب العلم في قوله - تعالى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} التوبة: 122، فسماهم طائفة لأنهم لم يتفقهوا بعد، فلم يستوجبوا الوصف بالأمة.
ب - وفي قوله - تعالى -: (وَلْتَكُنْ) أمر مؤكد باللام، التعبير هنا: ولتكن فيه معنى التكوين بدلاً من ولتقم من القيام، لأن معنى التكوين يشعر بما يسمى تشكيل الجماعة، والتشكيل يكون عن طريق جهة مسؤولة، وهو ما سميناه (الترسيم)، بتخصيص وتفريغ أولئك الأشخاص، وهذا من شدة ضرورة الدعوة إلى الله.(6/28)
ج - الجمع بين: (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مشعر بتلازمهما، وقد يُدعى بأن أحدهما أعم من الآخر، وأعتقد أن الدعوة إلى الخير أعم؛ لأن الخير أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا، كما قيل: خير وشر، والخير عام، كما قال - سبحانه وتعالى -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} الزلزلة: 7، وقد اعتمدت ذلك في هذا المبحث من أن كل أمر بمعروف ونهي عن منكر من منهج الدعوة إلى الله؛ لأن مؤداها الإرشاد إلى الصراط المستقيم.
د - وهناك جهة قلَّما يراعيها الكثيرون من الكُتاب والدارسين في تسلسل الآيات الكريمات في المصحف الشريف، مع شدة أهميتها، وهي ربط النص بما قبله وبعده؛ لأنه هنا يشعر بأثر الدعوة؛ فقبله قوله - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} آل عمران: 103، وبعده قوله - تعالى -: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} آل عمران: 105.
وهكذا السياق: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) ثم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ) ثم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا).
ونأخذ من هذا النسق: أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبقي على عصمة الله للأمة بكتاب الله ووحدة كلمتها وتوحيد صفها، وأن تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تفرقة الأمة واختلافها.
كاتب المقال: الشيخ عطية محمد سالم.
المصدر: مفكرة الدعاة .
===============
أهمية الاحتساب باللسان
أ. فاطمة بنت صالح الجارد.
أهمية الاحتساب باللسان
للاحتساب باللسان أهمية عظيمة من جملة أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تحدث عنه كثير من العلماء المتقدمين والمعاصرين، ومن خلال استقراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين أهمية هذه الشعيرة العظيمة وما قال العلماء فيها نجد أن أهميته تنحصر فيما يلي:
1ـ أن الاحتساب باللسان أحسن القول:
قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سورة فصلت آية : 33
يقول الشيخ القاسمي ـ رحمه الله ـ : أي لا أحد أحسن مقالاً ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى. (1)
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ : فكل من دعا الناس إلى الخير على وجه العموم، أو على وجه الخصوص، أو قام بنصيحة عامة أو خاصة، فإنه داخل في هذه الآية الكريمة. (2)
2ـ أن الاحتساب باللسان أحد الأعمال الثلاثة التي استثناها الله ـ سبحانه وتعالى ـ عندما نفى الخير عن كثير من النجوى التي يتناجى الناس ويتخاطبون بها قال تعالى: ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) سورة النساء آية: 114.
يقول الشيخ القاسمي ـ رحمه الله ـ : نجواهم أي مساررتهم. ثم يقول: والمراد لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث. (3)
والاحتساب باللسان هو الأمر بالمعروف المقصود في قوله تعالى: (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) في الآية السابقة، ولا يقتصرعلى الأمر بالمعروف فقط بل يدخل فيه النهي عن المنكر.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ : وإذا أطلق الأمر بالمعروف، من غير أن يقرن بالنهي، دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف. وأيضا لا يتم فعل الخير، إلا بترك الشر، وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المعروف، والمنكر بترك المنهي. (4)
وهذه الآية تؤيد الحديث الذي روته أم حبيبة ـ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ ) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم.
3ـ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعد المحتسب بلسانه بالأجر العظيم الذي لا حد له إذا ابتغى بذلك وجه الله:
قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) سورة النساء آية: 114
يقول الخازن ـ رحمه الله ـ : في تفسير قوله تعالى: (أَجْرًا عَظِيمًا) لا حد له لأن الله سماه عظيما، وإذا كان كذلك فلا يعلم قدره إلا الله. (5)
ويقول الشيخ محمد جمال الدين القاسمي ـ رحمه الله ـ : وقد دلت الآية على الترغيب في الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، وقد أكد تعالى الترغيب بقوله: (عَظِيمًا) وأن النية فيها شرط لنيل الثواب. (6)
وهذا وعد من الله فهو متحقق الوقوع بإذنه سبحانه قال تعالى: ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ) سورة التوبة ، آية رقم :111
4ـ أن المحتسب بلسانه من الذين يؤذن لهم يوم القيامة بالكلام حينما يمنع الناس من الكلام:(6/29)
ففي الحديث الذي رواه ابن مردويه، بسنده إلى محمد بن يزيد خنيس قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده، فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري: الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده عليّ فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة، عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْه، لَا لَه،ُ إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ عز وجل، أو أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَر )، فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) سورة النساء آية: 114 فهو هذا بعينه الحديث. (7)
فالقول الصواب المقصود في هذه الآية على ما قاله الثوري هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله.
قال الضحاك و مجاهد ـ رحمهما الله ـ : صوابا يعني حقا، وأصل الصواب السداد من القول والفعل. (8)
5ـ إن المحتسب باللسان من الذين استثناهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ من دائرة الخسران عندما حكم على البشرية جميعا بالخسران، ومما يدل على ذلك تتمة الحديث السابق.
أما سمعت الله يقول: ( وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) سورة العصر 1-3، فهو هذا بعينه.
فمقصود سفيان الثوري أن المتواصين بالحق ممن يكون كلامهم لهم لا عليهم، والتواصي بالحق "وهو أداء الطاعات وترك المحرمات". (9)
وقد أشار العلماء إلى أهمية التواصي عند تفسيرهم لسورة العصر، قال الشيخ الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ : هذه الآية فيها وعيد شديد، وذلك لأنه تعالى حكم على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور، منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه. (10)
6ـ الاحتساب باللسان من دلائل الإيمان:
أ ـ أنه من قول الخير الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه شرط على دلالة الإيمان: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ… ) الحديث أخرجه البخاري.
والاحتساب باللسان من الأقوال التي قد تكون فرضاً وقد تكون ندباً حسب أحوال المحتسب والمحتسب عليه والمحتسب فيه.
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ : وهذا من جوامع الكلم، لأن القول كله إما خير وإما شر، وإما آيل إلى أحدهما فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها فأذن فيه على اختلاف أنواعه ودخل فيه ما يؤول إليه وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت، ثم قال: واشتمل هذا الحديث على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية و القولية حاصلة من كان حامل الإيمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلاً لما ينفع أو تركاً لما يضر. (11)
ب ـ قيام اللسان بأركان الإيمان عند قيامه بالاحتساب لأن الإيمان " قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح ". (12)
فاللسان جارحة الكلام وقيامه بالاحتساب عمل وقول ولا يقوم بهذا إلا مؤمن كما جاء في الحديث السابق، وقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) سورة التوبة ، آية رقم :70، وبهذا تكتمل قيام هذه الجارحة بهذه الأركان.
7ـ الاحتساب باللسان يحمي المسلم من آفات وشرور اللسان لأن اشتغاله بالطاعة يحميه من اشتغاله بالمعصية:
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : إن اللسان لا يسكت البتة، فإما لسان ذاكر، وإما لسان لاغ، ولابد من أحدهما، فهي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله عز وجل، سكنه محبة المخلوقين، فلا بد وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد، فاختر لنفسك إحدى الخطتين، وأنزلها في إحدى المنزلتين. (13)
8ـ المحتسب بلسانه من الذين يوفقهم الله إلى الطاعات وفعل الخيرات فينال سعادة الدنيا والآخرة:
عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ …. ) الحديث. أخرجه الترمذي.
قال الطيبي ـ رحمه الله ـ : ومعنى كَتْبِه رضوانه توفيقه لما يرضى الله من الطاعات والمسارعات إلى الخير فيعيش في الدنيا حميداً وفي البرزخ يصان من عذاب القبر، و يفسح له قبره ويحشر يوم القيامة سعيداً، ويظله الله تعالى في ظله، ثم يلقى بعد ذلك من الكرامة والنعيم المقيم في الجنة. (14)
9ـ المحتسب بلسانه من الذين يرفعهم الله أعلى الدرجات:(6/30)
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) أخرجه البخاري.
قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ : والكلمة التي ترفع بها الدرجات ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة أو يفرج بها عنه كربة أو ينصر بها مظلوما. (15)
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية الكلمة الطيبة وشبهها بالشجرة الطيبة قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)، سورة إبراهيم ، آية 24ـ 25.
وفسر العلماء الكلمة الطيبة بعدة معان منها الدعوة إلى الله. (16)
وقال مجاهد و ابن جريج ـ رحمهما الله ـ : الكلمة الطيبة الإيمان. (17)
وأما تشبيه الإيمان بالشجرة الطيبة "لأن الشجرة لاتستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ وأصل قائم وأغصان عالية، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء، معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان". (18)؛ فالمحتسب بلسانه عمله قول فهو مؤمن لا يقول إلا كلاما طيبا لأنه كلام حق ثابت لا يتزعزع، وله أثار حميدة على نفسه وعلى المحتسب عليهم وهذه الآثار لا ترتبط في وقت محدد بل في كل وقت: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أي ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أوصيفاُ. (19)
10ـ الاحتساب باللسان من أسباب استقامة أعضاء الجسم كلها:
لأن الاحتساب باللسان من أعمال النطق التعبدية فإذا استقام اللسان استقامت الأعضاء كلها.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قال صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَان َفَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا ) أخرجه الترمذي، ومعنى تكفر تذل وتخضع له. (20)
والتوفيق بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) أخرجه البخاري ومسلم، لأن اللسان ترجمان القلب وخليفته في ظاهر البدن. (21)
11ـ الاحتساب باللسان أحد مراتب الجهاد في سبيل الله:
فإما أن يجاهد الكفار والمشركين والمنافقين، وإما أن يجاهد أهل المنكرات والبدع من المسلمين، وإما أن يجاهد أهل السلطان الجائرين.
فأما جهاد الكفار والمشركين فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) سورة الفرقان ، آية رقم : 52، أي بالقرآن .
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ تعليقا على هذه الآية: فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً؛ فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) سورة التوبة ، آية رقم : 73 ، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. (22)
ومن السنة عَنْ أَنَس ـ رضي الله عنه ـ ٍعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: )جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ) أخرجه النسائي، وأحمد وصححه الألباني.
وأما جهاد أهل المنكرات من المسلمين فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) أخرجه مسلم.
وأما جهاد أهل الجور من السلاطين فلم يكن جهاداً فقط بل وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أفضل الجهاد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ) أخرجه الترمذي.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات. (23)
12ـ القيام بالاحتساب باللسان فيه تأديته لحق الولاية والأخوة على اللسان بالنطق فإن المؤمن ولي المؤمن قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) سورة التوبة، آية رقم: 71(6/31)
وجعل المؤمن ولي المؤمن "للإيذان بأن نسبة هؤلاء بطريق القرابة المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك" (24)
ونصرة المؤمن لأخيه المؤمن تكون بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، "والموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية". (25)
فعند قيامه بالاحتساب باللسان فإنه يقوم بحق الولاية التي على اللسان بالنطق، ويقوم بحق الأخوة قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات ، آية :10
وقد بين الشيخ أبو حامد الغزالي - رحمه الله - هذه الحقوق وذكر أن حقوق الأخوة ثمانية حقوق منها حق على اللسان بالنطق حيث يقول ـ رحمه الله ـ : فإن الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضا النطق بالمحاب، بل هو أخص بالأخوة لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور. وبعد أن ذكر ما يجب أن ينطق به قال: …وكذا جملة أحواله التي يكرهها ينبغي أن يظهر بلسانه وأفعاله كراهتها. (26)
13ـ الاحتساب باللسان غنيمة يغتنمها الإنسان في حياته لأنه من قول الخير:
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُولوا خَيْراً تَغْنَموا وَاسْكُتوا عَنْ شَرّ تَسْلَموا ). ( (27
14ـ الاحتساب باللسان من أسباب نزول الرحمة على العبد لقوله صلى الله عليه وسلم: ( رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً قال خَيْرَاً فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ سُوءٍ فَسَلِمَ ) ذكره الألباني في صحيح الجامع؛ فالاحتساب باللسان كما أسلفنا من قول الخير "وقول الخير خير من السكوت لأن قول الخير غنيمة ينتفع به من يسمعه والصمت لايتعدى صاحبه" (28)
فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم غنيمة لما فيه من الأجر والثواب كما سمى الصوم في الشتاء فقال: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ (أخرجه الترمذي، وأحمد.
قال ابن الأثير ـ رحمه الله ـ : إنما سماه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب. (29)
15ـ الاحتساب باللسان من أعمال اللسان التي يتعدى نفعها فيتضاعف الأجر:
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مضاعفة الأجر لمن كان سبباً في هداية الناس: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذالِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً) صحيح مسلم.
قال الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ : فإذا كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في مثل ذلك ـ يقصد الإنكار على مسيء الصلاة ، أو انحراف عن القبلة، وكل ما يقدح في الصلاة ـ ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به، فإن هذا أفضل له من تطوعه، لأن هذا فرض تتعدى فائدته، فهو أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها. (30)
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ تعليقاً على الحديث : أخبر صلى الله عليه وسلم أن المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل أجر من اهتدى به، والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به، لأن هذا بذل قدرته في هداية الناس، وهذا بذل قدرته في ضلالتهم، فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام، هذه قاعدة الشريعة كما هو مذكور في غير الموضع. (31)
16ـ القيام بالاحتساب شكر لله على نعمة البيان واللسان اللتين أنعمهما الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عبده:
فأنعم الله عليه بنعمة البيان قال تعالى: ( الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) سورة الرحمن، الآيات رقم 1ـ 4 .
والبيان هو ( إيراد المعنى الواحد بأساليب متفاوتة في القوة والوضوح ) أخرجه ابن ماجة واللفظ له، والبيهقي.
فبالبيان يستطيع أن يعبر الإنسان عما يجول في نفسه، والدعوة إلى الله من أفضل ما يقوم به الإنسان وما يعبر به، وقيامه بهذه المهمة شكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة.
17ـ القيام بالاحتساب باللسان إعذار إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ :
وسبب يفعله المحتسب لتوبة المحتسب عليهم وتقواهم والانتفاع بما يقال لهم قال تعالى: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) سورة الأعراف ،آية : 164، فهؤلاء أمة من قوم موسى وعظوا أمة منهم والموعظة لا تكون إلا باللسان.
قال الشيخ الفخر الرازي ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى : (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ): ( أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى، فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر، قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين، وقوله: (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب ) (32).
18ـ المحتسبون بألسنتهم بنهي الناس عن السوء من الذين ينجيهم الله مع من استجابوا لهم عندما يرسل العذاب على العاصين:
فأما نجاة الناهين عن السوء ففي قوله تعالى بتكملة الآيات السابقات قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) سورة الأعراف ، آية: 165 .
وأما نجاة الناهين والمؤمنين بهم والمستجيبين فقد نجى الله هوداً ـ عليه السلام ـ مع من آمن به ففي قوله تعالى ( وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) سورة هود ، آية: 58(6/32)
وكذلك نجى صالحاً عليه السلام ـ مع من آمن به قال تعالى: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) سورة هود ، آية: 66
ونجا شعيباً - عليه السلام- مع من آمن به قال تعالى: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) سورة هود ، آية: 94.
19ـ طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من عدم السكوت على فعل المنكرات أوترك المعروف:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ).
فهذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله قال تعالى: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) سورة النساء ، آية: 80.
20 ـ الفوز بالجنة وضمانها من رسول الله:
فأما الفوز بالجنة فلطاعة الله ورسوله قال تعالى:( ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) سورة النساء ، آية: 13
وأما ضمانها فأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن الجنة لمن ضمن ما بين لحييه إذا كان ضامنا لفرجه، عَنْ سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ ) أخرجه البخاري والترمذي وأحمد.
وضمان اللسان هو أداء الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه والصمت عما لا يعنيه...). (33)
21ـ السكوت عن الاحتساب باللسان حقران للنفس وخشية للناس دون خشية الله:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقالا ثُمَّ لَا يَقُولُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ فَيَقُولُ : وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى ) أخرجه ابن ماجه واللفظ له، و البيهقي.
وخشية الناس معصية لله ولرسوله فالله سبحانه وتعالى أحق بالخشية من الناس قال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) سورة الأحزاب، آية: 37 .
وخشية الناس مثل خشية الله أو أشد من صفات المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) سورة النساء، آية: 77.
وخشية الله من صفات المؤمنين الذين قال الله فيهم : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) سورة الزمر آية:23 .
وقد وعدهم الله بالمغفرة والأجر الكبير من عنده في قوله تعالى: ( إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) سورة الملك، آية: 12.
22 ـ تأنيب الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم البدء بالاحتساب باللسان :
عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قال : قَدِمْتُ مَعَ عُمُومَتِي الْمَدِينَةَ فَدَخَلْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَفَرَكْتُ مِنْ سُنْبُلِهِ فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَأَخَذَ كِسَائِي وَضَرَبَنِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْتَعْدِي عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَجَاءُوا بِهِ فَقال: ( مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ ) فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ دَخَلَ حَائِطِي فَأَخَذَ مِنْ سُنْبُلِهِ فَفَرَكَهُ، فَقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا ، وَلَا أَطْعَمْتَهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا ارْدُدْ عَلَيْهِ كِسَاءَهُ ) وَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَسْقٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ. أخرجه النسائي، وأحمد .
_______________________
1- محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي . 14/373
2 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. ص 112
3 - محاسن التأويل ، القاسمي . 5/454
4- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. ص 156
5- تفسير الخازن المسمى بـ"لباب التأويل في معاني التنزيل". 1/403
6- محاسن التأويل، القاسمي. 5/454
7- محاسن التأويل، القاسمي. 5/545
8- فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني. 5/370
9- تفسير القرآن العظيم ،لابن كثير. 4/548
10- التفسير الكبير، الفخر فخر الدين الرازي. 11/282
11- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر. 10/366
12- الإيمان، ابن تيمية. ص 163
13- صحيح الوابل الطيب، محمد بن قيم الجوزية. تحقيق سليم بن عيد الهلالي. ص 150(6/33)
14- شرح الطيبي. شهاب الدين الحسين بن عبدالله بن محمد الطيبي 10/ 3122،3121
15- فتح الباري، ابن حجر. 11/ 261
16- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي البغدادي. 7/202
17- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي . 9/359
18- التفسير الكبير، للفخر الرازي. 7/92
19- التفسير الكبير، للفخر الرازي. 7/92
20- شرح الطيبي. 10/3124
21- فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي. 1/287
22- مفتاح دار السعادة، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية. 1/271
23- زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية. 3/9،11
24- تفسير أبو السعود، العمادي. 4/82
25- التفسير الكبير، الإمام الفخر الرازي. 6/100
26- إحياء علوم الدين، الغزالي. 2/243
27- جزء من حديث طويل أخرجه الحاكم ( محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري )، المستدرك على الصحيحين. 4/319
28- فيض القدير، المناوي. 4/24
29- النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ابن الأثير. 3/390
30- إحياء علوم الدين، الغزالي. 2/451
31- مفتاح دار السعادة. 1/62
32- التفسير الكبير، الفخر الرازي. 5/392
33- فتح الباري، ابن حجر. 11/259
===============
الخطاب الدعوي أمام التحديات
الشيخ الدكتور / أحمد بن عبد الرحمن القاضي.
الخطاب الدعوي أمام التحديات
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
فإن الرجال والنساء عنصرا البشرية، وشقَّا الإنسانية، بازدواجهما تنشأ الحياة، وتتحقق حكمة الخلق والاستخلاف، لا يُتصور أحدهما دون الآخر، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه، تجمعهما قواسم مشتركة؛ خَلقاً، وخُلُقاً، ديناً، ودنياً، وتفصلهما فوارق متباينة؛ خَلقاً، وخُلُقاً، ديناً، ودنياً، كذلك!
1- فيتفقان في أصل الخِلقة :
فالنساء شقائق الرجال ، كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء، وقال : {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (46) سورة النجم .
2- ويتفقان في حكمة الخلق، والتكليف، وترتب الثواب والعقاب :
قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات، وقال : {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (124) سورة النساء.
3- ويتفاضلان في القوى والاستعدادات الخِلقية والطبعية والكسبية :
قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (34) سورة النساء، وقال : {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (282) سورة البقرة.
4- ويتفاوتان ، تبعاً لذلك ، في بعض الحقوق والواجبات :
قال تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (32) سورة النساء.
هذا، وإن من القضايا المشتركة بين الرجال والنساء، في أصل مشروعيتها، المتفاوتة في تطبيقاتها ومجالاتها : الدعوة إلى الله تعالى.
التأصيل الشرعي للدعوة النسائية :
من القواعد الفقهية المحررة : ( ما ثبت في حق الرجال ، ثبت في حق النساء ، إلا بدليل مخصص )، وبناءً عليه فإن النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الخير، وتعلم العلم وتعليمه، شاملة للرجال والنساء، مثل :
- {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران.
- {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء.
- {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.
- {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت.
- ( فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) متفق عليه.
- ( إن الدال على الخير كفاعله ) رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح.
- ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم.(6/34)
وأشرك الرجال والنساء في هذه المهمة، نصاً، ثم أشركهم في الثواب، فقال:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة.
وخص النساء، من خلال نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن، فقال:
{وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (32) سورة الأحزاب، قال ابن زيد: ( قولاً جميلاً حسناً معروفاً في الخير) تفسير الطبري: 22/3
وقد رافقت المرأةُ الرجلَ في مدارج الدعوة الأولى، ولم تغب عن ساحتها طوال القرون المتعاقبة من تاريخ الإسلام.
ومن أبلغ الشواهد على ذلك ما جاء في حديث بدء الوحي، حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً إلى بيته، ترجف بوادره، قائلاً: ( زملوني، زملوني ) فلما سكن عنه الروع قال لخديجة: ( أي خديجة، ما لي، لقد خشيت على نفسي ). فأخبرها الخبر، قالت خديجة: ( كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق؛ فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ) الحديث.. رواه البخاري.
ويتأكد دور المرأة الدعوي في هذه الأوقات لأسباب متنوعة ، منها :
أولاً : الانفتاح الإعلامي والاجتماعي، الذي أحال العالم إلى قرية كبيرة، يختلط فيها الحابل بالنابل، والطيب بالخبيث ، ويصل تأثيره كل بيت، ويقرع كل أذن، ويغشى كل عين، فلم تعد الخَفِرات العواتق ذوات الخدور بمنأى وعافية من طائلته، وذلك يستدعي، بالضرورة، تطوير خطاب دعوي مواكب للحاجات المستجدة، مواجه للشبهات الطارئة .
ثانياً : الهجمة الشرسة على المرأة خاصة، من قِبَل أدعياء التنور والتحرر، ودهاقنة الرذيلة، وتجار الأعراض والأبعاض، متذرعين بمختلف وسائل الإفساد، وآلات الفجور بغرض تحطيم البناء الاجتماعي المتين للمسلمين، وإذابته في مجاري اليهود والنصارى والذين لا يعلمون .
ثالثاً : محاولة مسخ عقل الطفل المسلم؛ ربيب المرأة المسلمة، وإعادة تشكيله وفق أهواء الكفار، ومنازعة المرأة وظيفةً من أخص وظائفها .
رابعاً : ما تشهده المنطقة؛ محلياً، وإقليمياً، في العقدين المنصرمين ، من دفع متسارع للمرأة المتعلمنة، لتسييد منظومة اجتماعية، دخيلة على أهل الإسلام، مما يستدعي الحضور الفاعل للمرأة الراشدة، ضمن ضوابط الشريعة.
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله، عن المرأة والدعوة إلى الله، فأجاب بما نصه : ( هي كالرجل؛ عليها الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة تدل على ذلك، وكلام أهل العلم صريح في ذلك، فعليها أن تدعو إلى الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر بالآداب الشرعية التي تطلب من الرجل، وعليها مع ذلك ألا يثنيها عن الدعوة إلى الله الجزع، وقلة الصبر، لاحتقار بعض الناس لها، وسبهم لها، أو سخريتهم بها، بل عليها أن تتحمل وتصبر، ولو رأت من الناس ما يعتبر نوعاً من السخرية والاستهزاء. ثم عليها أن تراعي أمراً آخر؛ وهو أن تكون مثالاً للعفة والحجاب عن الرجال الأجانب، وتبتعد عن الاختلاط ، بل تكون دعوتها مع العناية بالتحفظ من كل ما ينكر عليها، فإن دعت الرجال، دعتهم وهي محتجبة، دون خلوة بأحد منهم، وإن دعت النساء دعتهن بحكمة، وأن تكون نزيهة في أخلاقها وسيرتها، حتى لا يعترضن عليها؛ ويقلن: لماذا ما بدأت بنفسها ؟! وعليها أن تبتعد عن اللباس الذي قد تفتن الناس به، وأن تكون بعيدة عن كل أسباب الفتنة؛ من إظهار المحاسن، وخضوع في الكلام، مما ينكر عليها، بل تكون عندها العناية بالدعوة إلى الله على وجه لا يضر دينها، ولا يضر سمعتها ). مجموع فتاوى ابن باز : 3/240
وثم حاجة ماسة إلى الحديث عن ( الدعوة النسائية ) وتأصيلها، وضبط مسارها، حتى لا تنحرف إلى اجتهادات دخيلة على الشريعة، وممارسات أجنبية على المجتمعات الإسلامية، ويبرر هذا الحذر أمران :
أحدهما : شيوع كثير من صور النشاط النسوي الوافد من المجتمعات الغربية، في البلاد الإسلامية، دون تمحيص، وقد تم استيراد، ونقل، وتوطين، وتأنيس، هذه الممارسات على متن الحركات العلمانية التي سادت لحقبة من الزمن، ولا تزال، في كثير من الدول الإسلامية، وجرى تناولها، وتعاطيها، والتأثر ببعض أفكارها، من قِبَل بعض الحركات، والجمعيات الإسلامية ؛ إما جهلاً، وإما مجاراةً للأمر الواقع.
ثانياً : حداثة الدعوة النسائية، نسبياً، مقارنةً بالدعوة الرجالية، وافتقار النساء إلى القيادات النسائية المؤهلة، وصعوبة تواصلهن مع العلماء، أحياناً، لاعتبارات شتى، مما أدى إلى حصول اجتهادات تفتقر إلى القاعدة الشرعية، والخبرة التاريخية .
وكل ذلك يؤكد على ضرورة إثراء هذا الموضوع بالبحوث والمناقشات المطمئنة، لارتياد أرضٍ يجد فيها الدعاة، والداعيات، بتوفيق الله، مُراغَماً كثيراً وسعة.
التنويع في الخطاب الدعوي :
يتنوع الخطاب الدعوي النسائي، بحسب تنوع الفئة المستهدفة من النساء :
1- فئة العامة، الباقيات على الفطرة الأصلية : يغلب في الخطاب أسلوب الموعظة، والذكرى، وتوجيههن إلى البرامج البناءة؛ من حفظ للقرآن، وشهود حلق العلم، ومناشط اجتماعية مناسبة.
2- المتعلمات: يخاطبن بما يناسب مستواهن العلمي، ويدعين للتفقه في الدين، والمشاركة الاجتماعية في مجالات الدعوة، والنفع العام.(6/35)
3- المنحرفات فكرياً : ويخاطبن خطاباً علمياً، عقلياً، يفند الشبهات، ويجلي مقاصد الشرع، وتكون المجادلة بالتي هي أحسن.
كما تتنوع طرائق الدعوة، ومجالاتها، بتنوع التغيرات الاجتماعية، والزمانية ؛ فما يصلح لمجتمع محافظ، قد لا ينطبق شرطه على مجتمع لهوٍ وغفلة، وما يستعمل في زمان، كرمضان، ليس كما يطرح في مواسم السياحة، والنزهات، والعطلات، والزواجات.
ومن مجالات الدعوة في الأوساط النسائية المعاصرة، ما يلي :
1- اللقاءات الأسرية: العارضة، والدورية.
2- مجالس الجيران.
3- عقد الدروس في المنازل، والمدارس، والمساجد.
4- الجمعيات الاجتماعية: البر، المعاقين، رعاية أسر المساجين.
5- الجمعيات النسائية.
6- جمعيات تحفيظ القرآن الكريم.
7- مراكز الدعوة، وتوعية الجاليات.
8- الجمعيات المدرسية، والنوادي الصيفية.
9- مراكز الأحياء.
10- برامج التنشيط السياحي.
11- مراكز التدريب النسائي.
12- مراكز الاستشارات التربوية، والتعليمية، والأسرية.
13- الكتابة الصحفية.
14- مواقع ومنتديات الإنترنت.
15- تأليف الكتب.
تطوير أسلوب الحوار الدعوي :
الحوار في اللغة : قال ابن منظور: ( الحور: الرجوع عن الشيء وإلى شيء … والمحاورة : المجاوبة، والتحاور : التجاوب ) لسان العرب (3/383) .
وقال الراغب : ( والمحاورة والحوار: المرادّة في الكلام، ومنه التحاور، قال تعالى : {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (1) سورة المجادلة، مفردات القرءان (135).
الحوار في الاصطلاح : لفظ ( الحوار ) مصطلح حادث، لا يحمل حقيقة شرعية تزيد على حقيقته اللغوية.
حقيقة الحوار: الحوار هو وسيلة الدعوة، وأداة البيان، وإقامة الحجة، ومن صوره المطابقة لحقيقته، التي تحمل معنى المفاعلة من طرفين في القرآن الكريم: (المجادلة) و (المحاجة) انظر : الحوار في الكتاب والسنة : أسسه وأهدافه، د. أحمد القاضي.
وتطوير أسلوب الحوار، لا يعني الخروج عن المضامين الموضوعية، ولا التحلحل من الآداب الشرعية، والقيم المرعية، وإلا لكان ضرباً من الردة، والتناقض، بل المراد صياغة خطاب مبنيٍ على فقه الواقع الاجتماعي، وحسن تقدير المستوى العقلي والعلمي، واستعمال أدوات ملائمة، مواكبة، للتطور التقني، وأوعية المعلومات.
فالخطاب الذي كان سائداً في المجتمعات الإسلامية المحافظة، التي استقر فيها تعظيم النصوص، وتوقير أهل العلم ، لم يعد مناسباً لمجتمعات مفتوحة، تختلط فيها المفاهيم، ويجهر فيها كل أحد، بكل شيء، باسم ( حرية الرأي ) و ( احترام الآخر )، ويتصدر الجهال في الفضائيات المكشوفة لينازع في المعلوم من الدين بالضرورة، ويناظر كبار العلماء، دون مواربة، أو حياء، إن هذه المتغيرات المفروضة تتطلب لغةً سهلة، وسعة صدر، وحسن خلق، وقدرةٍ على الاحتمال واستيعاب الآخرين، ويحسن في هذا الصدد الاستفادة من برامج تطوير القدرات الشخصية في التواصل والحوار.
فقه الأولويات الدعوي :
لا أجد في باب ترتيب الأوليات الدعوية النسائية أولى من موعظة الله لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن، في سورة الأحزاب، باعتبارهن المثل النسائي الأعلى لنساء المؤمنين، وما تضمنته تلك التوجيهات من مقاصد عظيمة تحتاج إليها النساء خصوصاً :
أولاً : الدعوة إلى التسامي عن زخرف الحياة الدنيا، والتعلق بالآخرة :
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} سورة الأحزاب.
ثانياً : الدعوة إلى العفة والتحذير من الفواحش :
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (30) سورة الأحزاب.
ثالثاً : الدعوة إلى طول العبادة والاشتغال بالأعمال الصالحة :
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} (31) سورة الأحزاب.
كما أمر بذلك مريم، رضي الله عنها، فقال: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة آل عمران.
رابعاً : الدعوة إلى التقوى، واجتناب الفتنة والإغراء في المنطق :
{يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (32) سورة الأحزاب.
خامساً : الدعوة إلى القرار في البيوت، وعدم التبرج، وتزكية النفس :
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (33) سورة الأحزاب.
سادساً : الدعوة إلى العلم والتعلم :
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34) سورة الأحزاب.
سابعاً : الدعوة إلى صالح الأعمال ، ومكارم الأخلاق :(6/36)
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (35) سورة الأحزاب.
منهجية الخطاب الدعوي النسائي :
1- تأصيل مبدأ التسليم :
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.
وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (51) سورة النور.
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب.
إن أصل الدينونة لله عز وجل قائم على الخضوع والانقياد والرضا والتسليم، ولا بد من التذكير المستمر بهذا المبدأ الأصيل، حتى لا تنقلب العبادات إلى عادات، أو قناعات فكرية مجردة من روح العبودية، وينبغي أن يكون الخطاب الدعوي النسوي، مفعماً، دوماً، بهذه الروح، لسببين :
أحدهما : تمييز الشرع المطهر في بعض الأحكام بين الرجال والنساء، كما في الميراث، والدية، والعقيقة، والشهادة، والعتق، وعطية الأولاد، والصلاة؛ حيث تكون المرأة على النصف من الرجل، وكما تشترط الذكورية في كثير من أحكام الولايات؛ كالإمامة العظمى، والقضاء، والنكاح ، وإمامة الصلاة، إلا بالنساء.
فربما مس طائفٌ من الشيطان في قلب أنثى، فتمنت ما فضَّل الله به الرجال على النساء، فضلاً عن أن تسخط حكم الله، فكان لا بد التعويل على مبدأ التسليم، قال تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (32) سورة النساء.
الثاني : حملة الشبهات المسعورة التي يطلقها اليهود، والنصارى، والذين لا يعلمون، تجاه الشريعة الإسلامية الغراء، باسم (حقوق المرأة) مما قد يصادف قلوباً مريضة، تشهق بها، وتتشرب فتنتها؛ فكان لا بد في الحالين من تعميق عقيدة الاستسلام المطلق لله.
2- الاعتماد على المنهج العلمي :
يلاحظ على الخطاب الدعوي النسوي، في كثير من الحالات غلبة العاطفة، واستجاشة المشاعر، وذلك أمر طبيعي إلى حد ما، لا سيما عند النساء؛ فالموعظة، التي هي ترقيق القلوب، بالترغيب، أو الترهيب، جزءٌ من خطابنا الدعوي العام، لكن القدر الذي ينكر هو الانسياق في هذا المضمار، دون ضوابط ، ويتضح ذلك من خلال المظاهر التالية بين النساء :
- فشو الأحاديث الضعيفة، والموضوعة، بين النساء، لما فيها من دهشة وزخرف.
- مسارعة بعض النساء إلى نشر الحكايات، والموضوعات في رسائل الجوال، وغيرها.
- قلة طالبات العلم المتخصصات، وإن كثر عدد الأكاديميات.
وينبغي أن يكتسي الخطاب الدعوي بكساء العلم، والتوثيق، والدليل، وأن تعود النساء على الاتباع الواعي، لا التقليد و التماهي، وأن يتم إرساء قواعد أصولية، وآلية علمية، تضبط الخطاب في معادلة دقيقة بين دقة العلم، ودفء الموعظة.
3- الاعتناء بالضوابط الشرعية والحذر من تجاوزها :
أولاً : عدم المساس بالوظيفة الأساسية للمرأة المسلمة؛ وهو : كونها زوجةً، وأماً، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21) سورة الروم.
ثانياً : المحافظة على ( صبغة الله ) للمرأة، وعدم الانسياق خلف عجلة التغريب، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ} (34) سورة النساء، والتربية على الخفر، والحياء، وغض البصر، قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور.(6/37)
ثالثاًً : عدم التأثر بالأنماط الغربية في وسائل التعبير، والظهور العام، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (33) سورة الأحزاب، والبعد عن سائر صور التشبه بالكفار في هيئاتهم، وعاداتهم، وسلوكهم الذي يختصون به ، والتميز عنهم، قال صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين ) متفق عليه، وقال: ( خالفوا المجوس ) رواه مسلم، وقال: ( خالفوا اليهود ) رواه أبو داود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
رابعاً : البعد عن الاسترجال: لحديث: ( لعن الله المترجلات من النساء) رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وحديث: ( لعن الرَّجُلة من النساء )، قال ابن الأثير: ( امرأة رجُلة؛ إذا تشبهت بالرجال في الرأي والمعرفة ) النهاية في غريب الحديث: 2/203، وقيل بكسر الجيم.
وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة ) رواه النسائي، والبزار، واللفظ له، بإسنادين جيدين، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني ، وعنده: أن امرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوساً، فقال: ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ) وفي رواية البخاري: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء ).
وعن ابن أبي مليكة قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن امرأة تلبس النعل ، فقالت: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّجلة من النساء ) ( بكسر الجيم يقال: امرأة رجلة: إذا تشبهت بالرجال في زيهم وهيئاتهم ) رواه أبو داود بسند صحيح.
نوازل معاصرة :
طرأ في العقود الأخيرة نوازل في شأن الدعوة النسائية، اختلفت فيها الاجتهادات، بين الدعاة.
ومثل هذه النوازل، تحتاج إلى بحث تفصيلي، وعلاج موضعي، لاستجلاء الحكم الشرعي، وتقدير المصالح والمفاسد، ومن أمثلتها :
1- المشاركة الإعلامية الفضائية: حدودها، وضوابطها.
2- المشاركة السياسية (البرلمانية): مشروعيتها، وحدودها.
3- المشاركة في مجالس الجمعيات، والغرف التجارية.
وقصارى القول، أن هذه المجالات، على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا يسوغ الخوض فيه، لمخالفته للشرع، والطبيعة الأنثوية: كالمشاركة السياسية، على وجه الولاية، لا مجرد التصويت.
الثاني : ما ينبغي المشاركة فيه، والسعي في توجيهه وإصلاحه: مثل كثير من المناشط الاجتماعية، والتربوية، والتعليمية، والخِدمية، المناسبة لطبيعة المرأة.
الثالث : ما تسوغ المشاركة فيه بقدر معين، في حدود ضيقة، ضمن ضوابط خاصة، وذلك لدفع مفسدة محققة، وسد ثغرة قد يشغلها من لا يحسن: كبعض المشاركات الإعلامية، والعضويات في مجالس ليست في الأصل من الأعمال النسوية.
هذا، والله المسؤول وحده، أن يسدد الخطى، ويبارك في الجهود، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
==============
كونوا أنصار الله
يتوقف الناظر في القرآن عند خواتيم سورة الصف التي اشتملت على النداء المبارك الذي صدرت به هذه الأحرف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ } (14) سورة الصف، وهو دعوة صريحة للمؤمنين من هذه الأمة خاصة أن يجعلوا شعارهم نصرة الله، بنصرة دينه وشريعته وأمته، وأن يكون ذلك همهم ووكدهم، وليس نصرة شخص أو طائفة أو جماعة أو أسرة أو دولة أو نحلة...
ثم ذكرهم بقول عيسى عليه السلام للحواريين: { مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (52) سورة آل عمران.
والملاحظ هو اختلاف الصيغة والتركيب، فعيسى عليه السلام قال: (من أنصاري إلى الله)؟ فأضاف النصرة إليه، لكنها ليست نصرةً لشخصه لأنه فلان؛ ولكن لأنه يدعوهم إلى الله، والفارق واضح بين الصيغتين، فالصيغة العيسوية تناسب بني إسرائيل، بل النخبة المختارة منهم: الحواريين، والذين التزموا بالنصرة، ومع ذلك وجد من بعضهم التردد والتساؤل.
أو أن تلك الصيغة تناسب بعثة عيسى إليهم خاصة في زمان محدود، فكان وجود النبي بينهم من أهم ضمانات الاستمرار على الحق وعدم النكوص، وكأن الحواريين بقولهم: (نحن أنصار الله)؛ أظهروا تجردًا تامًّا وديمومةً على النصرة أكثر مما في إمكاناتهم وطاقتهم، والله أعلم.
أما (كونوا أنصار الله)؛ فلهذه الأمة التي يقوم وجودها أصلاً على الارتباط بمنهج الله وحده سواءً وجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينهم أم لم يوجد، فهي أمة خاتمة وليست مؤقتة؛ ولهذا خوطبت بمثل قوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (144) سورة آل عمران.(6/38)
كما أن دعوته عليه السلام لم تكن خاصةً محصورةً في فريق أو قبيل أو جنس بل هي دعوة للعالمين؛ ولذا فالإيمان والجهاد ماضيان إلى قيام الساعة، كما في قوله عليه الصلاة و السلام في الحديث المتفق عليه: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد و نية...".
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أيضاً: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم".
ومثله حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة.."،والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
لذا نوديت الأمة أن تربط نصرتها بالله لا بغيره، علمًا بأن نصرة الرسول عليه السلام هي نصرة لله، ونصرة للمؤمنين كذلك، ولكن الملمح المهم هو عدم ربط النصرة بوضع معين، بل هي نصرة باقية ما بقي الليل والنهار، وأنها في حال القوة والضعف والغنى والفقر والكثرة والقلة والعزة والذلة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين، ألاَّ يربطوا نصرتهم لربهم ودعوتهم بنصرة شخص بعينه، وأن يضعوا الأشخاص عند قدرهم بلا غلو ولا جفاءٍ، وأن يحفظوا دعوتهم وملتهم من أن يتسرب إليها شوب من انحراف الأمم الكتابية في منح رهبانهم وأحبارهم من التقديس و الدينونة لهم بما لم يأذن به الله، وأن يكون ولاؤهم للمنهج وللطريق وللشريعة وللكتاب والسنة وليس لفلان أو فلان...
ولكل قوم أئمة وسادة، ولكن هؤلاء الأئمة إنما يستحقون هذا اللقب الشريف بالتزامهم المنهج، وصدقهم مع الله ورسوله؛ فإذا فرطوا أو قصروا حرموا منه واستبدل بهم غيرهم، وهذا لا يحدث إلا في أمة واعية يقظة حية، لا تبني دينها على التقليد والتبعية والهوى الأعمى، وإنما تبني دينها على العلم والهدى والنص والدليل، فهي ليست قطيعًا يساق دون وعي، لا يدري من أمره شيئًا إلا الثقة العمياء بمن ينعق به، كلا إنها الأمة التي نوديت بأن تنصر الله وحده، ونصرتها لمن دونه إنما هي مشروطة بأن يكونوا من أنصار الله فمتى أخلوا بهذه النصرة لم يكونوا جديرين بأن يُتبعوا أو يُقتدى بهم.
فأين هذا الهدى الواضح مما تجده اليوم في الأمة، في جماهيرها، وفي جماعاتها الداعية إلى الله وفي طلبة علمها، من الانجفال وراء الأشخاص.. أشخاص الدعاة، وأشخاص العلماء، وأشخاص القادة، بلا وعي ولا تبصر ولا مناقشة ولا مراجعة ولا تصويب ولا تثريب؟!
إن الله تعالى حين قرر قانون الانتصار الراسخ العظيم، أبرز فيه هذا المعنى بقوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40) سورة الحج، وكل أحد من فرد أو جماعة أو حزب قد يدّعى نصرة الله ونصرة دينه، وأنه ما قام غضبًا لنفس، ولا طمعًا في دنيا، ولا منافسة في سلطان، ولذلك كان التعقيب الرباني لتحديد من هم الذين ينصرون الله؟
هل هم المدّعون؟
كلا.. إنهم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج.
وأنت تلاحظ جيدًا أن الله تعالى أعطاهم صفات لا تبين إلا في المستقبل (إنْ مكناهم في الأرض أقاموا).
وكم من مدّعٍ ينكث وعده، ويتخلى عن عهده، وينهمك في دنياه.
إن الكثيرين ينساقون مع الأحلام الوردية الجميلة، ويرسمون المستقبل بريشة مبدعة خيالية خالية من المآخذ، لكن حين يصبح المستقبل واقعًا مشهودًا، وليس حلمًا منشوداً، تتغير المعالم وتختلف القلوب وتتحرك المطامع، ويصبح الجمع شتيتًا، وتبدأ التهم.
إن الصيغة لم تربط النصر بالذين يعدون أنهم سيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، لكن بالذين علم الله من حالهم المستقبلي أنهم إن مُكنوا في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر.
إن الوقوع في أسر التشخيص، ونسيان المبدأ، أو تماهي المبدأ في الفرد أو المجموع يشكل منعطفًا خطيرًا في تاريخ الدعوات والأمم، ولا شيء كالقرآن يعيد إلى الناس توازنهم، ويحفظ لهم المبادئ التي وُجدوا من أجلها، ولهذا جاء هذا النداء المصاحب لحركة الجهاد والدعوة، مذكَّرًا بأن الولاء للدين ولله ورسوله فوق الولاء للأشخاص والجماعات والتكوينات.. فهل من مدّكر؟!
كاتب المقال: الشيخ سلمان بن فهد العودة.
المصدر: الإسلام اليوم.
==============
التعريف بأركان الدعوة إلى الله .
الركن هو: « ما يقوم به ذلك الشيء , من التقُّوم, إذ قوام الشيء بركنه , لا من القيام ».(1)
و أركان الدعوة :« هي الأجزاء التي تمثل حقيقة الدعوة , ولا تقوم الدعوة إلا بها ».(2)
وهي أربعة أركان :
1- موضوع الدعوة إلى الله.
2- الداعية إلى الله.
3- المدعو إلى الله.
4- وسائل الدعوة إلى الله وأساليبها وميادينها.
الركن الأول : موضوع الدعوة إلى الله :
موضوع الدعوة إلى الله هو الإسلام وهو الدين الذي يُدعى إليه الناس.
قال -تعالى- : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ?19? ) (3)(6/39)
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز – رحمه الله – : « أما الشيء الذي يُدعى إليه , ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس , كما أوضحه الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم , وهو الإسلام , وهو دين الله الحق ». (4)
وهو ما عرَّفه رسول - الله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عمر - رضي الله عنه -، لما سأله جبريل - عليه السلام- عن الإسلام ، فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان , وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ). (5)
الركن الثاني : الداعي إلى الله :
و الداعي: «اسم فاعل من دعا , ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين , أدخلت الهاء فيه للمبالغة ». (6)
والنبي -صلى الله عليه وسلم- داعي الله , وكل من حمل فكرة ودعا إليها ونادى به مطلقاً , سواء كانت هذه الفكرة شراً أو كانت هذه الفكرة خيراً ، وسواء كانت هذه الفكرة مما يحمد عليها شرعاً ، أو ما يذم عليها شرعاً , فهو داعية لغة ً. (7)
ومما عُرِّف به الداعي إلى الله في الاصطلاح ، ما يلي:
1- « المبلِّغ للإسلام ، والمعلِّم له ، والساعي إلى تطبيقه ». (8)
2- « المسلم المكلف شرعاً بالدعوة إلى الله-تعالى-». (9)
وهذا التعريف يشمل الداعية النبي المؤيد من الله -تعالى- ، والداعية العالم المؤيد بالحجة والبرهان ، والداعية السلطان المؤيد بالقوة ، ويشمل كذلك المسلم العادي الذي ليس مختصاً بعلم من علوم الشريعة ، فهو مكلف بالدعوة إلى الله ؛ بمقدار ما عنده من علم . (10)
ولا تضاد بين التعريفين؛ فإن هذا التعريف باعتبار نوع الداعية، والتعريف الأول باعتبار أداء وظيفته.
الركن الثالث : المدعو إلى الله:
المدعو : « اسم مفعول من دعاه يدعوه ، فهو : مدعو » . (11)
والمدعو إلى الله في الاصطلاح : هو من توجه له الدعوة من أهل الإسلام ، أومن غيرهم .
الركن الرابع : وسائل الدعوة إلى الله ، وأساليبها ، وميادينها :
أولاً: وسائل الدعوة إلى الله :
الوسيلة : هي ما يتقرب به المرء إلى غيره (12). وهي ما يتوصل به إلى الشيء. (13)
والوسيلة إلى الله -تعالى- : «مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة ». (14)
قال –تعالى- : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ?57? ) (15)
وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة ). (16)
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله - عند شرح الحديث: « الوسيلة هي ما يتقرب به إلى الكبير ، يقال توسلت : أي تقربت ، وتطلق على المنزلة العلية ». (17)
أما وسائل الدعوة إلى الله في الاصطلاح :
فهي:« ما يتوصل به الداعية إلى تطبيق مناهج الدعوة من أمور معنوية أو مادية ». (18)
ثانياً: أساليب الدعوة إلى الله :
الأسلوب بضم الهمزة : الطريق والفن , وهو على أسلوب من أساليب القوم أي: على طريق من طرقهم ». (19)
أما أساليب الدعوة خاصة فَتُعَرَّف بأنها :
« مجموعة الطرق العملية المتبعة في عرض الأفكار ، والتي يتعلمها الداعية ويطبقها أثناء تبليغ الدعوة إلى الناس ». (20)
ثالثاً: ميادين الدعوة إلى الله :
الميدان مصدر , والجمع ميادين.
والميدان : فسحة من الأرض متسعة معدة للسباق ، أو للرياضة ونحوهما . يقال : ميدان السباق , وميدان الكرة , وميدان الحرب.
أما في الاصطلاح : فهي الأماكن التي يقوم فيها الداعي إلى الله بإيصال الدعوة للمدعو بأساليب ووسائل مخصوصة . (21)
ومن ذلك ميدان البيت ، والمسجد ، والمدرسة ، والسجن ، والمستشفى ، والجيش ... ونحو ذلك.
________________
(1) التعريفات /(ص124) ، للعلامة : علي بن محمد الشريف الجرجاني , ضبط وفهرسة : محمد بن عبدالحكيم القاضي.
(2) المدخل إلى علم الدعوة /(ص 152).
(3) سورة آل عمران ، الآية (19).
(4) الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة /(ص 30) ، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله - .
(5) أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله –سبحانه وتعالى-، وبيان الدليل على التبروء ممن لا يؤمن بالقدر ، وإغلاظ القول في حقه ، ح(1) ، وأخرجه الإمام البخاري بنحو هذا اللفظ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب الإيمان ، باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ، ح (50) . انظر: موسوعة الحديث الشريف(الكتب الستة)/(ص 681 ، 6).
(6) لسان العرب /(14/259) ، المعجم الوسيط /(1/287).
(7) انظر: مرشد الدعاة /(ص 105) ، محمد نمر الخطيب .
(8) المدخل إلى علم الدعوة /(ص 40) .
(9) مرشد الدعاة /(ص 106).
(10) انظر : مرشد الدعاة /( ص 105) ومابعدها.
(11) المدخل إلى علم الدعوة /(ص 41).
(12) انظر : التعريفات /(ص 263).
(13)انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر /(ص972) .
(14) مفردات ألفاظ القرآن /(ص871) ، للعلاًّمة أبو القاسم الحسين بن محمد ، المعروف بالراغب الأصفهاني , تحقيق: صفوان بن عدنان داوودي.
(15) سورة الإسراء ، الآية (57).(6/40)
(16) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الآذان , باب الدعاء عند النداء ، ح (614) ، وأخرجه الإمام مسلم بنحو هذا اللفظ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص في كتاب الصلاة ، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل الله له الوسيلة ، ح(11). انظر: موسوعة الحديث الشريف (الكتب الستة)/(ص 50 ، 738).
(17) فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري /(2/113) ، للإمام الحافظ أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني، تقديم وتحقيق وتعليق : عبدالقادر بن شيبة الحمد.
(18) المدخل إلى علم الدعوة /(ص 49) .
(19) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي/(3/385 ، 386).
(20) أسس في الدعوة ووسائل نشرها /(ص80).
(21) انظر: المعجم الوسيط /(ص893) .
===============
ضوابط الدعوة إلى الله
الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم ومسلمة،وهي المهمة التي كلف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلف بها هذه الأمة كما قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [110 ] سورة آل عمران ،فقد خلق الله تعالى الجن والإنس لعبادته فقال سبحانه : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (56) سورة الذاريات ، وهذه العبادة تحتاج إلى بشر يبلغون عن الله جل وعلا، و الدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله أمة الإسلام ، فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين .
وبما أن هذا الدين خاتم الأديان ، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ؛ لذلك فلابد من المتابعة في نشر هذا الدين، والدعوة إليه، تنفيذاً لأمر الله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (104) سورة آل عمران،وخطاب التكليف في هذه الآية الكريمة شامل للرجال والنساء،وهنا مساواة بين المرأة والرجل في أصل التكليف دون التصدر للميادين العامة؛ لأن ذلك من شأن الرجال دون النساء ، والأصل أن قيام المرأة بالدعوة بين بنات جنسها ،ونتيجة لذلك تعين بيان ضوابط العمل الدعوي بشكل عام،وبيان الضوابط التي تخص المرأة،فعلى المسلم سواءً كان رجلاً أو امرأة أن يلتزم بعدة ضوابط حتى يثمر عمله ويصل إلى الهدف الأساس الذي من أجله تم القيام بهذا العمل.
الضوابط العامة للعمل الدعوي:
- الاهتمام بالتأهيل العلمي :وذلك بتحصيل العلم الشرعي ، والتفقه في الدين ؛ ليكون ما يقوم به الداعية من نشاط دعوي مثمراً وعلى بصيرة ،لقوله تعالى{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي..}أي على علم.
- الاعتماد على القرآن الكريم،والتمسك بالسنة النبوية المطهرة:إن الداعية يحتاج على الدوام إلى الرجوع لكتاب الله تعالى،وسنة نبيه الكريم ؛ ليعمل ما يرضي الله من خلال شرعه المطهر من خلال جميع الأقوال والأفعال ليتم دفع الشبهات والابتعاد عن الشهوات ، فما يوافق الكتاب والسنة يأخذ به ويدعو إليه وما يخالفهما يبتعد عنه ويُحَذِّر منه.
- سلامة الوسيلة وضمان مشروعيتها:وذلك بأن تكون موافقة للشرع المطهر وخالية من أي انحراف قد يخل بالهدف المنشود من استخدامها.
- التركيز على المحكمات:وذلك بالعودة إلى الأمور البينة الواضحة التي لا التباس فيها،وترك ما فيه اشتباه على كثير من الناس تجنباً للاختلاف والفتنة وحرصاً على تبليغ الدعوة للمدعوين في قالب بيِّن واضح.
- التدرج في الدعوة: وهذا إتباع لما جاء في حديث معاذ بن جبل عندما بعثه عليه الصلاة والسلام إلى اليمن وأوصاه بأهلها خيراً ؛ فقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله أفترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" ، وهذا ما يسمى بسلم الأولويات ، حيث لا نبدأ بالفروع الفقهية الخلافية ونترك أمر العقيدة على سبيل المثال.
- التيسير المبني على الدليل إتباعاً لما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
- الحكمة:وهي القيام بالعمل في الوقت المناسب ، ومراعاة المكان المناسب أيضاً، ومراعاة الجوانب الأخرى للعمل الدعوي من طبيعة المدعوين وظروفهم واحتياجاتهم وفئاتهم العمرية.
- البعد عن التعصب:وذلك بتجنب الانحياز لمذهب دون مذهب،أو عالم دون آخر،فيجب أن يكون الهدف إظهار الحق وتبليغه للناس وإن كان مخالفاً لرأي آخرين،فالتعصب والتطرف من خطوات الشيطان،والأئمة الأربعة جميعهم أئمة هدى ودعاة حق,وإن وقع ما وقع من خلاف في الفروع بينهم.
- إنزال الناس منازلهم:وهي من الأمور المهمة التي يجب مراعاتها والتنبه لها،فالتعامل مع الناس يكون وفق أقدارهم،فالكبير يكون له قدر من التقدير والاحترام،والصغير يتم التعامل معه بالرحمة،والعلماء لهم قدرهم الخاص ويكون التعامل معهم بالإجلال والتوقير.
- القدوة الحسنة:وذلك بأن يكون الداعية قدوة في نفسه،وفي أسلوب تعامله،وسلوكه،وأن يتخذ الجميع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لهم،قال تعالى{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب.(6/41)
- مراعاة المصالح والمفاسد : فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح،وهذه قاعدة شرعية لا بد من مراعاتها، وعند تعارض المصلحتين ينظر في أعلاهما، وعند تعارض المفسدتين يتجنب أعظمهما ضررا.
أما الضوابط الخاصة بالمرأة فهي:
1- قرار المرأة في البيت وهذا هو الأصل ، وعدم خروجها إلا للحاجة،مع عدم الخروج إلا بإذن الزوج، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] وقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع".
2- التزام الحجاب الشرعي لأنه وسيلة التقوى،قال تعالى {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (31) سورة النور.
3- تحريم سفرها دون محرم، قال صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".
4- الموازنة بين الواجبات الأصلية والواجبات الدعوية ، بحيث لا تؤثر الاهتمامات الدعوية على المسؤوليات الأسرية الواجبة عليها ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها " .
5- مخالطة النساء بالقدر المناسب؛لدعوتهن ولتلمس حاجاتهن للنصح والإرشاد،والتعرف على طبيعتهن.
6- مراعاة الضوابط الشرعية في التعامل مع الرجال وهي :
- تحريم خلوتها بالأجانب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" وفي رواية: "إلا كان الشيطان ثالثهما" ، وقال صلى الله عليه وسلم" إياكم والدخول على النساء" .
- البعد عن الاختلاط بالرجال الأجانب مهما كانت ظروفه وأحواله، فقد قال صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
- من الأفضل عدم التحدث إلى الرجال إلا للحاجة ، مع عدم اللين في القول ، وضمان عدم الفتنة.
===============
الدعوة
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أجل الأفعال، وأعظم الأعمال التي يؤديها المسلم في دنياه، و يحتسبها لآخرته، ويضعها في ميزان حسناته، بل هي من الهموم التي تقعده وتقيمه ويفكر فيها ليل نهار، يبحث عن نوافذ للأمل، ومخرج من الضيق، فالدعاة إلى الله يقومون بمهمة بالغة الشأن، عظيمة الأهمية، لا يعلم قدرها إلا من تعلق قلبه بها، وجعلها محور حياته، كيف لا وهي مهمة الأنبياء والمرسلين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم من المصلحين [ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ] ( يوسف 108)
فالدعاة إلى الله هم الشموع ، التي تحترق لتضيء للناس طريق الهدى والحق الضياء، وهم وعي الأمة المستنير و فكر الأمة الحر، وهم قلب الأمة النابض، وأطباء القلوب المريضة والنفوس الجريحة، بل هم قادة سفينة النجاة في وسط الرياح الهوجاء، والأمواج المتلاطمة . فالدعاة إلى الله لا يعيشون لأنفسهم، ولا لملذاتهم، ولا لشهواتهم، لأن الذي يعيش لنفسه ، يعيش صغيراً، ويموت صغيراً [ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ](الأنعام 162)
أما الدعاة الصادقون المخلصون، فإنهم يعيشون لدعوتهم، لأمتهم، لمجتمعهم، فدعوتهم همهم بالليل والنهار وهي فكرهم في النوم واليقظة، و شغلهم الشاغل في السر والعلن، يؤثرون من أجلها التعب والنصب، ويضحون في سبيلها بالوقت والجهد والمال، بل وبالمهج والأرواح، ويستعذبون في سبيل نشرها وإبلاغها، البلاء الشديد والعذاب الأليم .
مناي من الدنيا علوم أبثها .. وأنشرها في كل باد وحاضر
دعاء إلى القرآن والسنن التي .. تناسى رجال ذكرها في المحاضر
قال تعالى : [ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ] ( فصلت 33)
أخي الكريم : إن من يحمل رسالة الأنبياء، عليه أن يتحرى سلامة المنهج ، وحسن السير على الطريق، فيتأمل الماضي القريب ، ويعيش المستقبل المأمول، ويساير الواقع الحاضر بحكمة وروية، يرى سير الدعوة بين قوتها وضعفها، بين مدها وجزرها، وما تموج به الساحة من الآراء، والمنازع ، ومن الخلل الذي قد يأتي من الجمود على مفاهيم خاطئة، وعدم المراجعة بين كل فترة وأخرى ، أو من ضعف شبكة العلاقات الاجتماعية ، الناتج عن ضعف التربية، وقلة الفقه بخفايا النفس البشرية، أو من الغفلة عن أصحاب المطامع والأهواء .
أيها الأحباب الكرام : لقد كاد معين الدعاة الصادقين في كثير من البلاد ينضب، فشاعت نتيجة لذلك المنكرات وكثرت الجرائم، وتجرأ الكثير من الناس على المجاهرة بها في وضح النهار، وعم الجهل وفشا، وغُزي المسلمون في عقر دارهم بجحافل من المضللين والمشككين والمفسدين . فتعين علينا حمل الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة، والمساهمة في كشف الغمة ، لندخل بذلك تحت (فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي ) رواه الترمذي .(6/42)
أيها الأخ الحبيب : والدعوة إلى الله عز وجل التي أهملها المسلمون اليوم، فريضة حملها رسل الله عليهم الصلاة والسلام، كما حملها أتباعهم الصادقون ، الذين اقتفوا آثرهم من بعدهم واقتدوا بهم في منهجهم، وسلكوا سبيلهم، ولم يقعد بهم عن السير في هذا السبيل ما يعرفونه من المخاطر والمكاره التي تحيط بهم ، ولكنه الواجب الذي لا خيار فيه ، وصدق الإيمان الذي يهون معه كل بلاء، والأمانة التي حملوها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحملوا تبعاتها، وأصبحوا مسؤولين عنها أمام الله عز وجل، وهي بلا شك مسؤولية لها ضخامتها وجسامتها . [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ] (الأحزاب 72)
والدعوة إلى الله عز وجل التي نعنيها، والتي يجب على المسلمين القيام بها، أفراداً وجماعات هي الشاملة لـ:
1. تأسيس مجتمع إسلامي، كدعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، التي كانت تبدأ - في المجتمع الجاهلي - من دعوة الناس إلى دين الله سبحانه ، وتبليغهم وحيه ، وتحذيرهم من الإشراك به .
2. دعوة الإصلاح في المجتمعات المسلمة، التي أصيبت بشيء من الانحراف، وظهر فيها بعض المنكرات، وضيعت فيها بعض الواجبات .
3. استمرار الدعوة في المجتمعات القائمة بالحق، للحفاظ على سلامتها، بالموعظة الدائمة، والتذكير المستمر، والتربية والتعليم .
أخي الكريم : اعلم أن الناس متباينون في طبائعهم ، مختلفون في مداركهم، في العلم والفهم ، في الأمزجة والمشاعر، مختلفون في الميول والاتجاهات ، مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل … بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة، والعقول المتباينة .
نعم، إن فيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، وفيهم الوجيه ومن هو دونه، فعلى الداعية الحصيف أن يراعي هذه الفروقات فينزل الناس منازلهم ، ويخاطب الناس بما يعقلون، بل إن ثمت كلمة رائعة لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، يصف فيها القلوب، كل القلوب بأنها وحشية تحتاج إلى تأليف وترويض فيقول: القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، ويقصد في شيء من العطف على أخطائهم وغفلاتهم ، مقروناً ذلك ببعض العناية بهمومهم واهتماماتهم، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخير في نفوسهم، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم ، فـ" لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"( رواه البخاري )
أيها الأخ المبارك : قبل أن أودعك أحب أن أذكرك بمسألة مهمة، وهي أن الكثير من الناس يظن أن الداعية لا يأمر إلا بالمعروف الذي يفعله، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي يجتنبه، وهذا غلط بين، بل الصحيح الذي دلت عليه نصوص لكتاب والسنة، أن الإنسان يجب عليه أن يأمر بالمعروف ويدعوا إليه، ولو كان مقصراً فيه، وأن ينهى عن المنكر ويحذر منه ولو كان واقعاً فيه .
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب..فمن يعظ العاصين بعد محمد
أخي العزيز : اعلم _ يرعاك الله - إننا جميعاً دعاة إلى الله سبحانه وتعالى ، كل بحسبه وقدرته، كل بطاقته، وإمكاناته، وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته معه بالدعوة إلى سبيله بالحكمة، ومراعاة أحوال المدعوين ، ووعظهم بالتي هي أحسن ، وإن احتاجت الدعوة إلى مناظرة علمية، أو مناقشة جدلية، أو خصومة فكرية، فعليه أن يناقش بهدوء، ويجادل بالحسنى ،فلا يغضب، ولا يتعجل، حتى يكسب الخصم ، حيث يقول سبحانه وتعالى[ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ] ( النحل 122 )
كاتب المقال: الشيخ / إبراهيم الفارس
==============
أهداف الدعوة إلى الله
الدعوة إلى الله هي المهمة التي كلف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم،وكلف الله بها أيضاً هذه الأمة كما قال تعالى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) 110 سورة آل عمران،والمسلم مكلف بالدعوة وفق أصولها وضوابطها وأهدافها ؛ لتكون دعوته إلى الله على بصيرة كما قال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) 108 سورة يوسف .
وللدعوة إلى الله تعالى أهداف كثيرة تتوجه في مجملها إلى تحقيق الخير للإنسان عن طريق نشر الدين الإسلامي ومبادئه والعمل بموجب كتاب الله عز وجل وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وتحقيق هذا الخير منوط بتحقيق السعادة والسلام للجنس البشري وذلك بتوفير الضرورات الخمس(المال،والنفس،والنسل،والعقل،والدين)، والتي لا غنى للإنسان عنها حيث يحتاجها لقيام مصالح الدنيا والآخرة.
ويتم تحقيق هذه الضرورات بتحديد أهداف الدعوة إلى الله والتي من فوائدها:
• السلامة من الانحراف عن طريق الدعوة.
• الوضوح في أسلوب العمل.
• الاستمرارية في الدعوة.(6/43)
فعدم تحديد الداعية لأهدافه الدعوية التي يجب أن يصل إليها ويحققها من خلال أعماله قد يوقعه في الانحرافات ، أو يجعله يتخذ في دعوته أساليبَ ارتجالية غير موزونة ، أو يكون عدم التحديد عائقاً له عن الاستمرار في دعوته.
وأهداف الدعوة إلى الله تعالى:
1- تحقيق العبودية لله عز وجل ، ويتضح هذا الهدف من خلال قوله تعالى{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات .
2- إيصال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كل من أمكن إيصال الدعوة إليه، فدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة إلى جميع البشر ولم تقتصر على العرب وحدهم ، قال تعالى{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (28) سورة سبأ.
3- إخراج الكفَّار من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام،وإخراج العاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة،قال تعالى:{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (257) سورة البقرة.
4- إحقاق الحق وإبطال الباطل،قال تعالى{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (8) سورة الأنفال.
5- القضاء على الفساد في الأرض والنهي عنه:فكل ما نهى الله تعالى عنه فهو فساد ، قال تعالى {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل.
6- تحقيق السعادة والطمأنينة والحياة الطيبة وذلك عند قيام الناس بالعمل الصالح،قال تعالى{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل.
7- عمارة الأرض بالخير، والعمل الصالح ، قال تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ )( 104 ) سورة آل عمران . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ( 77 ) سورة الحج .
8- إيجاد الأمة الصالحة ، الداعية إلى الله والمجاهدة في سبيله ، من خلال تفقيه الناس في الدين وتعليمهم أحكام الشريعة ؛ ليعبدوا الله على بصيرة،وليكون قدوتهم في ذلك نبي الرحمة ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم،قال تعالى{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب.
9- إيجاد المؤمن الصالح : لقوله صلى الله عليه وسلم : [ … لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ] رواه البخاري ، و مسلم.
10- بناء الشخصية المسلمة والمجتمع المسلم،قال تعالى{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (2) سورة الجمعة.
11- إقامة الحجة لله على الكفار والجاحدين يوم القيامة :لقوله تعالى {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } (165) سورة النساء
ــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
المدخل إلى علم الدعوة/محمد أبو الفتح البيانوني.
الدعوة الإسلامية،أصولها ووسائلها/د.أحمد غلوش
==============
كلنا دعاة
عبادة الله سبحانه وتعالى غاية الغايات (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )والدعوة لهذه الغاية أشرف الدعوات، من أجلها بعث الله رسله، وفي سبيلها أفنى المرسلون أعمارهم، قضى فيها نوح عليه السلام ألف عام إلا خمسين [قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا … ثم إني دعوتهم جهارا ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ] .
ويوسف عليه السلام لم يتركها حتى وهو في السجن [ ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون أم الله الواحد القهار ] ، وختم الله الرسل بالمصطفى محمد فانتدب ليله ونهاره للدعوة إلى الله ، وارتبط بها فرحه وحزنه، يتنكب الكافرون طريق الحق فيحزن حتى تكاد نفسه تتقطع [فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ]، و تدخل الهداية قلب المهتدين فيطير بشرا وفرحا إيا ما كان هذه المهتدي.
روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ ) ، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته حتى نزل به مرض الموت فبقي خمسة أيام لا يصلي بالناس من شدة الحمى ، و أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، فلما كان اليوم الذي مات فيه اطلع عليهم يصلون خلف أبي بكر ففرح ورضي .(6/44)
روى البخاري بسنده عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ ( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ ) ، فرح صلى الله عليه وسلم حين رآهم مطيعين أمره في الائتمام خلف أبي بكر رضي الله عنه ، و مطيعين أمر الله في الصلاة التى كانت وصيته في مرضه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ).
ومات صلى الله عليه وسلم وترك تبعة تبليغ هذا الدين ، وحمل الرسالة إلى أمته التي نادى فيها بقوله : ( بلغوا عني ولو آية ) ، فأحسن الصحابة رضوان الله عليهم حملها و قدموا أمرها على كل شيء حتى بلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار بفضل الله ثم بفضل أولئك الحملة والدعاة من الصحابة والتابعين لهم من سلف هذه الأمة ، الذين حملوا هذا الدين إلى الدنيا مرة على صهوات الجياد ، و مرات عبر الكلمات الصادقة والأخلاق الفاضلة التي تحلت بها قوافل الدعاة والتجار وعمار الأرض من المسلمين ، ووصل الإسلام إلينا نحن مسلمي هذا الزمان بمآثره و مفاخره ، بصفحاته التي سطرت بالنور ، ونجاحاته التي أقر بها المنصفون ، فماذا نحن صانعون ؟
ونحن نعيش في عصر تقارب الاتصال ، وتصارع الثقافات ، في عصر انكشاف عمل كل أمة لمبادئها ، نعم لقد تبارت الأمم في نصرة دياناتها الباطلة، ونفرت الفرق لنشر مذاهبها الهدامة، وتحزبت الأحزاب وتداعت و تحالفت لتصطف صفا واحدا في وجه دعوة هذا الدين دعوة الحق ، وجندت لهذه الغاية الألسن والأقلام والسياسة والاقتصاد ومصانع السلاح و الجيوش، وذاقت البشرية من جراء ذلك ويلات الانحراف عن دين الله . وليس لها من مخرج إلا أن تُهدى إلى هذا الدين ،ومهمة الهداية واجب كبير وعمل عريض طويل يستوعب المسلمين جميعا ، كل بحسب قدراته ، وكل حسب موقعه ، و إن أشكال الدعوة إليه من الكثرة بعدد أنفاسنا .
إن واجب الدعوة ليتوجه إلى كل مسلم يحفظ آية من كتاب الله ، أو يعرف صورة من جمال هذا الدين ، وإن من الخطأ الفادح التعلل بحصر الدعوة في فئة معينة من العلماء أو أصحاب مراكز وظيفية معينة ، كما أن من الخطأ حصر الدعوة في أعمال محدودة من المحاضرات والأعمال الجماهيرية التي يحسنها فريق خاص ، فينحصر دور بقية المسلمين في التلقي دون أن تكون لهم مشاركة .
إن الدعوة لهذا الدين محاولة لصياغة الحياة وفق منهج الله ، إنها صناعة للحياة التي تحتاج إلى جهد العالم واللغوي والخبير والتقني والتاجر والصانع وغيرهم و غيرهم ، فمن أحسن شيئا من مناحي صناعة الحياة فينبغي أن يدلي بدلوة، ويضم جهده مع إخوانه الدعاة ، حتى لو كان عنده تقصير في التزامه بالإسلام ، إن أصحاب الأخطاء والمعاصي مدعوون إلى المشاركة في الدعوة إلى الله بالجهد الذي يستطيعون وفي الفن الذي يتقنون ، ولا ينبغي أن يضيفوا إلى تقصيرهم في العبادة والالتزام بسنن الإسلام تقصيرا في الدعوة ، ولا ينبغي أن يضيف المذنبون إلى ذنوبهم تقهقرا عن نصرة هذا الدين .
ولنا في قصة أبي محجن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة ؛ فقد كان رضي الله عنه مع حبه لله ورسوله ودينه ، كان مع ذلك مبتلى بشرب الخمر، فلم يمنعه ذلك من المشاركة في الجهاد فخرج مع سعد بن أبي وقاص في القادسية ، فشرب وأتي به سكران إلى سعد فقيّده، وكان بسعد جراح فلم يستطع نزول الميدان وصعد فوق البيت لينظر ما يصنع الناس ، فجعل أبو محجن يتألم ألا يشارك في الجهاد ويتمثل
كفى حزنا أن ترتدى الخيل بالقنا وأترك مشدودا عليّ وثاقيا
ثم قال لامرأة سعد فكي أسري فلك علي إن سلمت أجيء حتى أضع رجلي في القيد ، فخلته و وثب على فرس لسعد يقال لها البلقاء ، ثم أخذ الرمح وانطلق فجعل لا ياتي على ناحية إلا هزمهم الله ، فجعل الناس يقولون هذا مَلَك ، وسعد ينظر ويتعجب ويقول : الضبر ضبر البلقاء ، والطفر طفر أبي محجن ، وأبو محجن في القيد ، فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد ، و لما علم سعد بأمره خلى سبيله ، فقال أبو محجن : والله لا أشربها أبدا، وأنشد :
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تهلك الرجل الحليم
فلا والله لا أشربها حياتي و لا أشفي بها أبدا سقيما
فهل نعي هذا الواجب ؟ وهل نتحرك له ؟ هل نفتش في قدراتنا وما يمكن أن تشارك به ؟ إننا لا بدّ ظافرون بباب أو أكثر [وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون] [قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني]
كاتب المقال: الشيخ / محمد العمير
============
وقفات مع الداعي إلى الله(6/45)
إن هذا الدين العظيم بحاجة إلى دعاة مخلصين .. عالمين بشرعهم .. مبلغين عن ربهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم .. متصفين بمكارم الأخلاق ،وهم إزاء الدعوة ينقسمون إلى فئتين رئيستين :
1) فئة غير متخصصة وهي فئة العوام ، وهؤلاء يبلغون ما يعلمونه من شرع الله ولو كان شيئاً يسيراً ، قال عليه الصلاة والسلام :
( بلغوا عني ولو آية ) رواه البخاري ، ولا يشترط لأصحاب هذه الفئة توفر المؤهلات الدقيقة ،وإنما يكفي توفر العلم الصحيح للقيام
بالدعوة ، ومما يمكن لهذه الفئة القيام به :
• لفت الأنظار إلى وحدانية الله ــ سبحانه وتعالى ــ واستحقاقه للعبادة بعرض دلائل ربوبيته وألوهيته والتفكر في عظيم ملكوته والنظر في دقة إعجازه في خلق مخلوقاته .
• تعليم سورة من القرآن الكريم أو آية منه ، أو حديث نبوي كريم عن المصطفى عليه الصلاة والسلام
• عرض بعضاً من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أو غزوة من غزواته ، أو سرد قصة من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أو السلف الصالح رحمهم الله .
• إنكار ما يُعلم حكمه من المنكرات الظاهرة .
• إسماع شريط مسجل يحتوي على محاضرة لأحد العلماء المتخصصين .
وغير ذلك من الوسائل والأساليب التي يسهل على العوام القيام بها .
2) فئة متخصصة ، وهؤلاء يجب أن تتوفر فيهم مؤهلات علمية دقيقة ، ومؤهلات بيانية ، وقدرات نفسية وخلقية ، ومهارات فكرية ، تمكنهم من إلقاء المحاضرات والندوات أو تأليف الكتب أو كتابة المقالات أو تعليم الناس في حلقات العلم أو غير ذلك من مجالات الدعوة إلى الله .
وكلا الفئتين ينبغي لهما التحلي بأمرين متلازمين لا غنى لأي داعية عنهما ، وهما العلم والخلق .
فأهل العلم هم الذين يستطيعون القيام بحق الدعوة حق القيام ، وذلك بما أوتوا من ميراث رسول الله ، ومن بصيرة بدينهم ، ولا يفهم من ذلك إسقاط واجب الدعوة عن العوام لعدم العلم فالإنسان لا يخلو من أن يكون عالماً ولو بمسألة من المسائل أو حكم من الأحكام ، فالعلم ليس شيئاً واحداً لا يتجزأ ولا يتبعض وإنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض ، فمن علم بمسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية ، ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الأولى وبالتالي يجب عليه الدعوة إلى ما علم دون ما جهل .
ولا ينبغي لمن شك في مسألة أو لم يحط بموضوع دعوته أن يقوم بالتبليغ ، فما أكثر ما يسيء الجاهل إلى دعوته من حيث لا يشعر، وإنما ينبغي التيقن من صحة العلم الذي يحمله ثم يقوم بتبليغه ، قال تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) سورة الزمر الآية 9 .
أما الخلق فله تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه ، فصلاح الأفعال إنما هو بصلاح الأخلاق ، والداعية أحوج ما يكون إلى مكارم الأخلاق لاتصاله بجانب المدعوين، ويمكن للداعية بشيء من صدق العزم تقويم الأخلاق واكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها وذلك من الأمور المقدور عليها ،لأن الشرع أمر بذلك ولا يأمر الشرع بشيء مستحيل ، فقد أخرج البخاري أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني ، قال : لا تغضب . فردد مرارا، قال : لا تغضب، ولكن قد يتفاوت الناس في مقدرتهم واستعدادهم لاكتساب الأخلاق أو تعديلها ، ولكن متى ما أدرك الداعية أن الخلق الحسن ذا أثر كبير في قبول الناس لدعوته كان ذلك أجدى في زيادة عزمه على التحلي بالأخلاق الفاضلة بإذن الله .
وقد كفي الداعية مؤنة البحث والاستنباط عن الخلق الحسن لأن الشريعة الإسلامية جاءت داعية لكل فضيلة وزاجرة عن كل رذيلة ، وللداعية في كل زمان ومكان أسوة حسنة في الداعي الأول صلى الله عليه وسلم فقد وصفه الله سبحانه بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) سورة القلم الآية 4 .
فإذا ما توفر للداعية العلم الصحيح والخلق الكريم بقي أن يتزود بالعدة التي تكون زاداً لا غنى له عنه في أداء مهمته ووظيفته وعلى رأس ذلك يأتي الاتصال الوثيق بمن يدعو إليه وهو الله عز وجل فيخلص النية له سبحانه في دعوته فلا يرجو من ورائها إلا رضاه ، ويكثر من عبادته وذكره لأن الداعية الوثيق الصلة بالله يحرص على طاعته ويركن إليه في شأنه كله لتيقنه بأن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى فهو المنفرد بالخلق والتدبير، والخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً ، وهذا مما يساعده على المضي في مهمته بطمأنينة وإيمان .
ثم يأتي الإيمان العميق بما يدعو إليه فإنه بقدر إيمان الداعية بدعوته وتفهمه لضرورتها وحاجة الناس إليها ينجح في دعوته ، وبقدر ضعف هذا الإيمان والنظر إليها بأنها مهمة ثانوية يتهاون فيها ويتكل فيها على غيره ، فإنه يتعثر في طريقه ويفشل في تحقيق الهدف، وقد كان تصميم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المضي في الدعوة تصميماً قوياً يقطع جميع أنواع التردد والمساومات .
ومما ينبغي للداعية التزود به أيضاً الوعي الكامل بما يحيط به من واقع الدعوة ، ومشكلاتها وعقباتها ، وحال المدعوين وأصنافهم ، فهذا يجنبه التخبط في دعوته بإذن الله، وقد لا يتوفر ذلك للعوام من الناس ممن علم مسألة وأراد تبليغها ، فيقتصر على ما كان في حدود علمه فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ولكن يتعين علم ذلك على طلاب العلم ممن لهم اطلاع على واقع الدعوة ولديهم قدرة على الاستفادة من هذه المعرفة، وبالفهم الدقيق لضرورة هذه الأمور تكتمل بصيرة الداعي فيحسن التخطيط وترتيب الأولويات ، ويكون قادراً بإذن الله على المضي في أداء رسالته وتحقيق هدفه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
أصول الدعوة / عبد الكريم زيدان(6/46)
فقه الدعوة إلى الله / عبد الرحمن الميداني
المدخل إلى علم الدعوة / محمد البيانوني
=============
أصناف المدعوين(1/2)
يسعى الداعية إلى الله سعياً حثيثاً نحو إخراج الناس من ظلمات الجهل ودركاته إلى نور الهدى ودرجاته ، وهو في مسيرته المباركة يواجه أصنافاً عدة من المدعوين، وينبغي له أن يدعو كل صنف بالأسلوب الذي يناسبه كي تؤتي جهوده الثمار المنشودة منها ، ويمكن تصنيف المدعوين باعتبار معتقد المدعو أو باعتبار عمره وهما التصنيفان الأبرزان .
فأصناف المدعوين بحسب ما يعتنقونه من دين كما يلي :
1) المسلمون ..
ولهم خاصية منفردة تتضمن سلامة الفطرة وسرعة الاستجابة للحق غالباً ، والاستعداد للبذل والتضحية بحكم ما فطرهم الله ــ تعالى ــ عليه من فطرة سليمة لم تلوثها أغراض ولا منافع ، وهم في التزامهم بالإسلام على درجات متفاوتة ، ويمكن دعوة العاصي منهم بإيقاظه من غفلاته وسكراته بتذكيره بما هو مؤمن به وبتحريك محوري الطمع والخوف في نفسه بالترغيب فيما عند الله من أجر عظيم وبالترهيب مما عند الله من جزاء بعذاب أليم ، كما يمكن استصحابه إلى مجالس العلم والذكر والعبادة وغمسه في البيئات الصالحات ، وترقيق قلبه بالمواعظ النافعة ، وبإخراجه مما هو فيه من لذات دنيوية إلى بدائل تكون في حدود طاعة الله ، وسيأتي بيان ذلك ــ بمشيئة الله ــ بشكل أخص عند الحديث عن المدعو باعتبار عمره .
2) أهل الكتاب ..
وهم اليهود والنصارى وسموا بذلك لأنهم أهل كتاب سماوي منزل من الله وهو التوراة لليهود والإنجيل للنصارى ، وقد أصاب هذه الكتب التحريف والتبديل ثم نسخت بنزول القرآن الكريم الذي وجه الدعوة إلى أهل الكتاب صريحة وواضحة من اجل دخولهم في الإسلام .
ومن أهم الطرق والأساليب في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام والتي استعملها القرآن الكريم ما يلي :
أ ) إقامة الأدلة لأهل الكتاب على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بتنبيههم إلى ما يجدونه في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأن علماءهم يعرفون أمره معرفة تامة كما يعرف أحدهم ولده ، وبتنبيههم إلى أن محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعوهم للإسلام إنما هو الذي بشر به آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم عليه السلام .
ب ) دعوتهم وإرشادهم إلى أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم موافقة في الأصول إلى ما دعا إليه الأنبياء السابقين ، قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ..) الشورى 13
ج ) أسلوب الترغيب ، وذلك بترغيبهم في أنهم لو حققوا منهج الله في التوراة والإنجيل بدون تحريف ولا تبديل ثم آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لصلحت حياتهم في الدنيا ولأدخلهم الله جنات النعيم في الآخرة ، قال تعالى : ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) المائدة 65 ــ 66
د) أسلوب التهديد والإنذار بالعقوبة ، ومن ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً ) النساء 47
3) المشركون ..
كلما انحطت البشرية فكرياً مالت إلى الماديات والمحسوسات وهنا يكون التخبط العقلي ، فتارة تتصور معبودها في صورة شمس ، وتارة في صورة حيوان ، وتارة في صورة حجر ومرة في صورة شجرة أو جن أو قبر .. وهكذا .
وأشهر المشركين هم مشركي مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أساليب دعوة الله سبحانه ودعوة نبيه صلى الله عليه وسلم لهم للتوحيد يجد الداعية مرجعاً دقيقاً يتبعه في الدعوة إلى الله مع أصحاب هذا الصنف ، ومن ذلك :
أ ) طرح الأسئلة لإفحامهم ، واستجوابهم عن أمور لا يمكنهم إنكارها ، كالرزق والحواس ، وأحوال الموت والحياة وشئون التدبير ، قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والإبصار ومن يخرج الحي من الميت ومن يخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمرفسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) يونس 31
ب) الاحتجاج عليهم باعترافهم بتوحيد الربوبية وإقرارهم بتوحيد الألوهية عند الشدائد ، قال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) العنكبوت 66
ج) ضرب البراهين العقلية على وحدانية الله ، ومن ذلك قوله تعالى : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) يوسف 39
د ) الاستدلال بالمتقابلات ، ومن ذلك قوله تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) النحل 17
هـ) ضرب الأمثال ، ومن ذلك قوله تعالى : ( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجل سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمدلله بل أكثرهم لا يعلمون ) الزمر 29
4) الملحدون ..
وهم المنكرون لوجود رب خالق لهذا الكون ، وقد انتشر الإلحاد في الناس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين ، وليس له أي سند من العلم ولا دليل عليه من العقل مهما ادعى أصحابه ، ولدعوة أصحاب هذا الصنف أساليب منها ما يلي :
أ ) الاستدلال بالأدلة الفطرية ، فكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به فلا يوجد أحد إلا وهو يقر بأن له صانعاً ولو أشرك في عبادته معه غيره .(6/47)
ب) ضرب البراهين والأدلة العقلية ، فيقال أن المخلوقات إما أن توجد بنفسها صدفة من غير محدث ولا خالق يخلقها !! وهذا محال !! أو أن تكون هذه المخلوقات هي الخالقة لنفسها وهذا أيضاً محال لضرورة العقل لأن العدم لا يخلق شيئاً وهذه المخلوقات كانت عدماً قبل وجودها ، كما أن الطبيعة الصماء لا تملك قدرة وفاقد الشيء لا يعطيه ، والصدفة العمياء لا تملك حياة فلا يمكن لعاقل أن يصدق أن يكون هذا الكون بكل ما فيه من دقة وتنظيم قد نشأ صدفة بدون تدبير خالق !! وذوي العقول السليمة تشهد أن الإنسان منذ أن فتح عينيه في هذا الحياة لم يرى حادثاً دون مسبب أو شيئاً قد وجد من غير موجد حتى أصبحت هذه الحقيقة قاعدة لا يتصور العقل خلافها
ج) الاستدلال على وجود الله ــ تعالى ــ بالأدلة الحسية التي يشاهدها الناس ويلمسونها بأنفسهم كإجابة الدعوات في جميع الأوقات وكمعجزات الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه .
د) الاستدلال بالأدلة الشرعية ، فطريق الهداية الكاملة هو ما جاء عن الله ــ تعالى ــ أو عن رسله صلوات الله وسلامه عليهم ، وهي تجمع الأدلة النقلية والعقلية وهي من أعظم الأدلة التي تهدي إلى معرفة الله والإيمان به سبحانه .
وللحديث بقية ــ بإذن الله ــ
__________________________
المراجع:
أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم / حمود الرحيلي .
فقه الدعوة إلى الله / عبد الرحمن الميداني .
=============
أصناف المدعوين(2/2)
اتضح من مقال سابق أصناف المدعوين باعتبار المعتقد ، وفيما يلي التصنيف الثاني للمدعوين وهو ما كان باعتبار العمر :
1) الأطفال ..
يتجاهل بعض الناس دعوة صغار السن والاحتساب عليهم بحجة صغر سنهم وعدم تكليفهم بأمور الشرع ، ونتيجة لذلك ينشأ بعض الأطفال على حب الشر ونفور من الخير ، ومن ثم يصبح من الصعب توجيههم بعد بلوغهم ،و لا يخفى على ذوي العقول السليمة أن التوجيه في الصغر أسهل وأعمق تأثيراً في النفس ، ولهذا ينبغي للدعاة والمربين الحرص على توجيه الدعوة لهم ، وقد ورد في كتاب الله ما يدل على توجيه الله ــ تعالى ــ الأمر للأطفال في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ...) النور 58 ، كما قام المصطفى صلى الله عليه وسلم بدعوة الأطفال مرات عدة منها ما رواه الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبيصلى الله عليه وسلم ، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده ، فقعد عند رأسه فقال له : (أسلم ) فنظر إلى أبيه ، وهو عنده فقال له : أطع أبا القاسم . فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه من النار ) وفي هذا الحديث أيضاً دليل على صحة إسلام الصبي فلولا صحته منه ما عرضه عليه .
ولدعوة الأطفال أساليب خاصة تناسب طبيعتهم وغالباً ما ترتكز على العاطفة والحس ، فيمكن غرس المعتقدات والفضائل ونبذ المنكرات والرذائل عن طريق ما يلي :
أ ) التطبيق العملي ، فإن التطبيق العملي للعبادات والأخلاق الفاضلة أمام الطفل يجعلها أكثر ثباتاً ورسوخاً في نفسه لاعتمادها على الحواس .
ب) الحوار والنقاش ، فالحوار يكشف الكثير مما يعتقده الطفل ويغير في الوقت نفسه الكثير من قناعاته التي اكتسبها ممن حوله ، وخاصة إذا صدر هذا الحوار ممن يثق به من والديه أومن يقوم مقامهما أو من معلميه ..ونحوهم .
ج) الدعم الإيجابي بعد صدور السلوك المراد تعلمه ، وهذا الدعم قد يكون دعماً مادياً أو معنوياً بحسب حاجة الطفل ، فإن من الأطفال من يؤثر فيه الثناء الحسن أكثر مما تؤثر فيه المادة .
د) العقاب ، ويكون إما عقاباً معنوياً بالتأنيب واللوم والهجر أو حسياً بالضرب ويشترط فيه أن لا يكون مبرحاً ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) رواه أبو داود ، كما ينبغي أن لا يكثر المربي من استخدام الضرب حتى لا يفقد تأثيره ، أو يؤدي بالصبي إلى الاضطرابات النفسية .
هـ) سرد القصص ، والأصل فيها أن تكون صحيحة ، ومشتملة على ما يريد المربي إكسابه للطفل ، وللقصة أثر كبير في غرس المفاهيم وتكوين المعتقدات، لذا يجدر بالداعية اغتنام ذلك بالتوجيه وتعويد النشء على معالي الأمور .
و) الألعاب والألغاز ، إن الحاجة للعب من أبرز حاجات الطفل لذا لا ينبغي تجاهلها أو إهمالها بل يجب توجيهها إلى ما ينفعه ، فيمكن للداعية المربي أن يختار الألعاب والألغاز التي تقرب الطفل إلى ما يرمي إليه من المعاني والأفكار ، كما يمكنه في الوقت ذاته مناقشته أثناء اللعب فيما بين يديه ، واغتنام ذلك في الكشف عن إبعاد تفكيره ، ومن ثم تقويمها عند الحاجة .
2) المراهقون ..
المراهقة مرحلة عمريه معقدة تحتاج إلى فهم دقيق ، فإن التغيرات التي تطرأ على المراهق في جسده ونفسيته وأفكاره وتوجهاته وانفعالاته تستلزم من الداعية المربي مقابلتها بأساليب تتفق معها وتؤدي الدور المنشود منها ، ولعل من أبرز أساليب دعوة المراهق ما يلي :
أ ) الحفز الأخروي ، فإن المراهق تغلب عليه الطبيعة الانفعالية لذا يحسن بالداعية توجيهها نحو الله سبحانه وتعالى في شأنه كله لا سيما عند الشدائد والكرب ، ويكون ذلك بالترغيب فيما أعده الله لعباده المؤمنين والترهيب من عقابه وعذابه سبحانه وببيان حقارة الدنيا وعظم أهوال يوم القيامة ...ونحو ذلك .(6/48)
ب) التفاعل مع المراهق في مشاكله الخاصة والتفهم لحاجاته وانفعالاته والتغيرات التي تطرأ عليه تجعله يثق بالداعي ويسلم له أفكاره ويتقبل منه توجيهاته وآراؤه .
ج) المدح والثناء والتشجيع من الأساليب التي كثيراً ما تلاقي القبول عند المراهق لأنها تعتمد على أبرز حاجاته النفسية وهي الحاجة للقبول من الآخرين .
د) أسلوب الإشارة والتعريض ، أو النقد غير المباشر ، فغالباً ما يرفض المراهق أن توجه إليه الأوامر ،ولكن من الممكن أن يتقبلها إذا عرضت بأسلوب غير مباشر ، كما أنه يرفض أن يوجه إليه النقد فيما يفعله لذا فمن المستحسن جداً اتباع أسلوب تشويه المنكر وذلك بتوجيه التشويه للسلوك الخاطئ عامة دون التعرض للشخص نفسه.
هـ) تأليف القلوب بالمادة ، فالمكافأة والهدية لها أثر كبير إذا أحسن توجيهها ، ولا ينبغي أن يتجاوز التشجيع بالمال حده فيؤدي بالمراهق إلى الانفلات ، فإن المال والفراغ إذا اجتمعا له يؤديان به غالباً للانحراف .
3) الراشدون ..
وهم الغالبية الكبرى من المجتمع ودعوة هؤلاء تختلف باختلاف أجناسهم وأوضاعهم وطبائعهم وحاجاتهم ومجتمعاتهم ، فمن هؤلاء الرجال والنساء والمرضى والأصحاء والفقراء والأغنياء والعوام وذوي التخصصات العلمية ...الخ ، لذا فأفضل ضابط لدعوة هؤلاء معرفة المناهج الدعوية الملائمة لكل صنف واتباع الأساليب التي تنتمي إليها .
فالنساء والمرضى والمساكين والمصابين بأزمات والضعفاء ونحوهم يستعمل معهم المنهج العاطفي والذي من أبرز أساليبه الموعظة الحسنة والترغيب والترهيب وقضاء الحاجات وأسلوب إظهار الرحمة والرأفة بالكلمة الطيبة أو بالمساعدة ونحو ذلك مما يعتمد على العاطفة .
أما المعتدين بعقولهم وأصحاب الشبه فيتبع معهم المنهج العقلي الذي يعتمد في أساليبه على الإقناع وإقامة الحجة ، ويتبع المنهج الحسي في دعوة المتخصصين في العلوم التجريبية لقيامه على الحس والتجربة أو لدعوة المتجاهلين المعاندين ونحوهم .
4) كبار السن ..
يلازم كبر السن غالباً ضعف في الجسد ، مع اعتداد بالرأي بحجة خبرة السنين ، وقد يرفض المدعو في هذه المرحلة النصح ممن هو أصغر منه لأنه يرى فيه انتقاصاً له ، لذا ينبغي للداعية اختيار الأساليب التي ترتكز على العاطفة ، فمع إظهار الاحترام والتوقير و المخاطبة بالكلمات الطيبة يستطيع أن يباشر الداعي دعوته بالأساليب الأخرى بعد أن مهد طريق القبول لها ، كما أن من الأساليب التي لا تسبب حرجاً للمدعو في هذا السن اتباع أسلوب التعريض والإشارة .
أسأل الله جل شأنه أن يبارك جهود دعاة هذه الأمة ويسدد خطاهم لما يحبه ويرضاه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
==============
الدعوة ضوابط وأساليب
لم يكن موضع التدين والالتزام من الداعية إلا بالمكان القريب، والتمسك بالشريعة.. تحتم على الداعية التقيد بالضوابط الشرعية التي ترافق الدعوة وتسير حذوها بل قد ينقص من أجر الداعية التي لا تلتزم بها وتتحلى بأخلاقها..
ضوابط دعوة المرأة:
قيام المرأة المسلمة بالدعوة إلى الله تعالى ينبغي ألا يخرجها عن فطرتها وأنوثتها، وهناك ضوابط مهمة في هذا الباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الأصل: قرار المرأة في البيت، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] وقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع".
2- للمرأة أحكام خاصة، لا بد من مراعاتها في أي نشاط دعوي تقوم به، ومن ذلك:
أ- التزام الحجاب الشرعي بشروط مع تغطية الوجه والكفين، فالوجه موضع الزينة، ومكان المعرفة، والأدلة على وجوب ستره كثيرة.
ب- تحريم سفرها دون محرم، قال صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".
ج- تحريم خلوتها بالأجانب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" وفي رواية: "إلا كان الشيطان ثالثهما".
د- تحريم اختلاطها بالرجال الأجانب، فقد قال صلى الله عليه وسلم للنساء: "استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق"، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
هـ ـ تحريم خروجها من بيتها إلا بإذن وليها.. إلى غير ذلك من الضوابط الشرعية التي لا يجوز الإخلال بها.
3- يضرب أعداء الإسلام على هذا الوتر الحساس، ويجعلون مثل هذه الأحكام مدخلاً لوصفهم الإسلام بإهانته المرأة، وتأثر بذلك بعض دعاة الإسلام، فحصل لديهم تفلت في هذا الباب، فيتأكد في حق دعاة أهل السنة: ضرورة الانضباط في ذلك، وعدم التأثر والانصياع لشهوات المجتمع ورغباته.
4- الأصل في الدعوة والتصدر للميادين العامة: أنها للرجال، كما كان الحال عليه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة، وما رواه التاريخ من النماذج النسائية الفذة لا يقارن أبداً بما روي عن الرجال، وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولا يكمل من النساء إلا: آسية: امرأة فرعون، ومريم: بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، فطلب مساواة المرأة بالرجل في أمور الدعوة ينافي روح الدعوة أصلاً.
5- ولا يعني هذا الكلام إلغاء دور المرأة وتهميشه وإهماله، بل دورها لا ينكر، وشأنها له أهميته، بل إن هذا البحث ما كتب إلا لبيان هذا الدور، ولكن مع التزام ما سبق من ضوابط.
6- الأصل أن قيام المرأة بالدعوة بين بنات جنسها، فتعمل الأساليب والوسائل المفيدة في ذلك، ولا تخرج عن هذا الأصل إلا بالضوابط الشرعية.(6/49)
الأساليب المثلى في الدعوة:
من أهم ما ينبغي أن تتنبه له الداعية الموفقة التي تريد أن يثمر قولها وعملها في بيتها ومجتمعها وأمتها، هي الأساليب الناجحة التي تكون عوناً لها بعد الله سبحانه وتعالى على وصولها إلى النتائج المطلوبة.
ومن ذلك ـ بإجمال ـ ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ففي هذه الآية مجمل الأساليب الناجحة وهي:-
• الحكمة:
ويقصد بها وضع الشيء في موضعه، ومنها: ضبط النفس والحلم والأناة والتعامل بعقلانية، ومن الحكمة في الدعوة:
- اختيار الوقت المناسب في الدعوة.
- اختيار المكان المناسب، فله أثر على القبول.
- اختيار الموضوع المناسب، وكل ما كان الموضوع في واقع المتحدث معهن كان أولى وأفضل وأقرب إلى القبول.
- اتباع قاعدة: التيسير المنضبط بضوابط الشرع والمبني على الدليل إتباعاً لما ورد مثل قوله صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا".
- التدرج والمرحلية في الدعوة والتبليغ: فالنفوس تحتاج إلى تمرين وعسفها شيئاً فشيئا، وهذا إتباع لما جاء في حديث معاذ عندما بعثه عليه الصلاة والسلام إلى اليمن فقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله أفترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتدرج بعرض التكاليف عليهم، وهكذا الداعي الموفق والداعية الموفقة.
وينبني على التدرج مراعاة الأولويات في الدعوة والأهم فالمهم.
- ومن الحكمة: مراعاة المصالح والمفاسد فدفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعند تعارض المصلحتين ينظر في أعلاهما، وعند تعارض المفسدتين يتجنب أعظمهما ضررا، وهكذا، والداعية الموفقة هي التي تزن بهذا الميزان.
• الموعظة الحسنة:
ويقصد بها إتباع أحسن القول في عرضه على المدعوين، واللطف فيه، والتودد إلى صاحبه، وانتقاء العبارات المناسبة للشخص المدعو وللمقام الذي هو فيه.
ويدخل في الموعظة الحسنة الربط بالدليل في الترغيب والترهيب.
ومن الموعظة الحسنة القصة فقد تكرر ذكر القصص في القرآن والسنة كثيراً وذلك لما فيها من العظة والعبرة بشرط أن تكون صحيحة، فإن ما وقع فيه القصاص من محاذير كان بسبب اعتمادهم على القصص والحكايات التي لم ترد في القرآن والسنة.
ومنها مخاطبة الناس بما يحبون أن يخاطبوا كأن تقول الداعية لفلانة من الناس: يا أم فلان، يا أختي، يا أيتها المؤمنة الصادقة.. ولعامة الناس: أيتها الأخوات العزيزات، أيتها المؤمنات بالله، وهكذا.
ومنها استعمال الأساليب المقنعة كالتوكيد بالقسم أو تكرار الكلام عند الحاجة إليه ونحو ذلك.
• المجادلة بالتي هي أحسن.
والمجادلة هي مقارعة الحجة بالحجة، أو هي المخاصمة في البيان والكلام لإلزام الخصم، وهكذا.. ويمكن استعمال المجادلة في مجالات عدة منها:
- مع المخالف في الرأي، بحسب هذا المخالف، فإن كان مؤمناً بالله فينطلق معه بالمجادلة من الملتقى وهو الإيمان، وإن كان عقلانياً فبالحجج العقلانية.
- مع الناس بما يفهمونه ويدخل في ذلك حال الحديث معهم كأن يقول: لو قال قائل كذا لقيل كذا.
- مع الطلاب والطالبات لتعويدهم أسلوب المجادلة والمناظرة وهكذا..
ويجب أن تراعى الآداب في ذلك، ومنها:
• الربط بالدليل.
• عدم التعدي بالقول أو الفعل على الشخص المجادل.
• عدم تحميل الكلام ما لا يحتمل.
• عدم الكذب.
• الهدوء وعدم الغضب.
• التسليم للحق.
• عدم الخروج عن الموضوع.
• إحسان الظن.
• مراعاة تقوى الله وأنه سيحاسب العبد على كلامه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
كاتب المقال: د. فالح الصغير
============
إشكاليات العمل الدعوي
من المعروف أن العمل الإسلامي لا ينقصه الإخلاص في معظم الحالات، ولكن قد ينقصه الصواب الذي يعد شرطاً لازماً للنجاح، كما يعاني العمل الدعوي من عدة إشكاليات تتمثل في:
1.جمود آليات العمل الدعوي وأساليبه، وتحولها إلى أشكال مقدسة، جعلت الهوة بينها وبين الواقع تزداد اتساعاً مع تسارع أحداث العصر ووقائعه وتطور معطياته.
2. ضعف الخطاب الديني وسطحيته في كثير من الأحيان وبعده عن مناقشة القضايا المطروحة، مما أفقده القدرة على التأثير في حياة الناس، وتعميق هذه السطحية لدى الملتقى.
3. الانغلاق على الذات، وتجنب العمل الجماعي المفتوح المتعدد الأطراف والمشارب.
4. إشكالية وجود الرأي وفقدان الموقف.. فعلى الرغم من كثرة الآراء السديدة والأطروحات المهمة إلا أن العجز عن اتخاذ موقف عملي جاد هو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العالم الإسلامي.
5. العجز عن ترجمة المبادئ والآراء إلى برامج عمل وآليات فعل، ومواقف واضحة.
6. فقدان الحسابات الدقيقة والأمنية، وعدم ربط الأسباب بالنتائج، ودراسة الاحتمالات.
7. إدراك أننا نعاني من أزمة نخبة لا أزمة أمة، وإشكالية جيل، لا إشكالية مصير.
آليات تفعيل العمل الدعوي:
أولاً: العامة:
- ضرورة تحديد الوسائل المشروعة والمجدية، واختيار الموقع الفاعل المؤثر وفق الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، مع عدم الإخلال بالتوازن، وضبط النسب، والاحتفاظ بالرؤية الشمولية للإسلام.(6/50)
- الانتقال بالعمل الدعوي من مرحلة المبادئ المبنية على المواعظ، والخطب، والدروس، إلى مرحلة البرامج الواضحة والخطط المرحلية المدروسة، والحسابات الدقيقة للواقع المعاصر، والظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة.
- تصويب المسار، وتجديد عملية الانتماء لهذا الدين.
- تجديد وسائل العمل الإسلامي وطرائقه وأساليبه وهياكله وميادينه، التي تحولت عند البعض إلى دين يحرم تجاوزه، ذلك أن الاستمرار عليها إنما هو حرب بغير معركة، وانتصار بغير عدو.
- ضرورة المراجعة وإعادة النظر وفق المستجدات على الساحة المحلية والإسلامية والدولية، ومتابعة مجريات الأحداث العالمية وتحليلها وفهم أبعادها؛ لتحسين التعامل معها.
- العمل على جمع الشمل ووحدة الصف بين الجهات المختلفة العاملة في مجال العمل الدعوي، وفتح باب الحوار والمفاهمة بينها وتبادل الخبرات والاستفادة من الطاقات في عمل جماعي مشترك.
- نبذ كل أشكال التحزب والتقوقع والانعزال، والاعتقاد بأن العمل الإسلامي حكر على جماعة بعينها.
- الالتزام بالأدب الإسلامي في الحوار والخلاف في وجهات النظر، والجدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
- الانتقال من موقف الدفاع الفكري والنظري عن الإشكالات والقضايا الجزئية المطروحة التي تكون في غالبها متوهمة أو مفتعلة والتي لا تنتهي أبداً، والمقصود بها استفزاز الطاقات الفكرية واستهلاك النشاطات الذهنية والجهود العلمية والعملية، وحصرها في إطار الأدب الدفاعي، أو الفكر الوقائي، والمواقع الدفاعية التي لا تراوح محلها وإنما تدور في فلك الانفعال لا الفعل والإثارة لا الإصلاح.فيكون الزمام بيد أعداء الإٍسلام الذين يتحكمون بالمعركة لصالحهم في زمانها ومكانها وأدواتها ومضامينها، إلى امتلاك زمام المبادرة في الطرح، والمواجهة وفق المشكلات الحقيقية والقضايا الواقعية التي تمس كيان هذه الأمة.
- العمل على تحقيق التحكم الثقافي من خلال المؤسسات، والمراكز البحثية والدراسات الجادة، وغيرها من الوسائل والآليات لمواجهة سلطة العولمة والهيمنة بأبعادها المختلفة الساعية إلى تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة وفقدان البصر والبصيرة.
- تفعيل التعامل الجاد الواعي المدروس مع وسائل الاتصال المختلفة، والإسلامية منها على وجه الخصوص؛ للعمل على توجيه المسلمين وتثقيفهم بقضاياهم الحقيقية وتعبئتهم، وتوحيد جهودهم، وحشد قواهم، لمواجهة التحديات المصيرية، وعدم الانخداع بالأطروحات المروّج لها إعلامياً من قبل أعداء هذه الأمة.
- العمل الجاد على تكوين جيل من الدعاة والإعلاميين الإسلاميين المؤهلين شرعياً وتقنياً وتخصصياً، القادرين على التعامل مع أبعاد هذا الواقع الخطير الذي يلعب فيه الإعلام الدور الأكبر والأخطر في التوجيه، والتغيير وتحديد المسارات.
- تحقيق التوازن المطلوب والتلازم الغائب بين الإخلاص لله، وإتقان العمل للوصول إلى الصواب.
ثانياً: الخاصة بالمرأة:
* أن تعي المرأة أهمية دورها وفعاليته في بناء المجتمع والأمة.
* معرفة حدود الطاقات النسائية وتجميعها والعمل على تفعيلها.
* تصحيح المفهومات المنحرفة في المجتمع وبيان حقيقة الأطروحات المروج لها،
وبخاصة بين النساء، وتنمية الاستعلاء الإيماني.
* تأهيل أكبر عدد من المثقفات المسلمات لقيادة المجتمع ومواجهة تيارات التغريب والتغيير والتخريب.
* وضع مناهج تربوية نسائية تراعي خصوصية المرأة، وتتوافق مع معطيات الواقع.
* العمل على تحريك المسلمات للقيام بدورهن في أي مجال أو مكان أو زمان، مهما صغر هذا الدور.
* الاهتمام بفئة الفتيات الشابات واحتضانهن.
* تحديد طبيعة العلاقة بين التنظيمات النسوية، وتنظيمات الرجال من حيث التبعية والاستقلال، لمواجهة الظروف المستجدة.
* تفعيل دور المؤسسات الإسلامية المعنية بالمرأة لمتابعة الصحوة، وتوحيد الصفوف، وتنظيم العمل، والانتقال من العمل التطوعي الفردي إلى العمل الجماعي المنظم، والتصدي للحرب المعلنة من قبل الهيئات الدولية والمؤسسات العالمية.
* التحرك البصير بين جميع شرائح المجتمع، مع التركيز على الشرائح والنخب المثقفة المتميزة واستقطابها، ومحاولة تحطيم الحواجز القائمة والمفتعلة بين العمل الإسلامي وعامة أفراد المجتمع.
* المشاركة الفعالة في جميع الأنشطة والفعاليات الثقافية المتنوعة، الإسلامي منها وغير الإسلامي للتأثير وإثبات الوجود.
والخلاصة:
أنه لا بد للعمل الإسلامي أن يسعى بشكل جاد ليعمل عبر جميع شرائح المجتمع وطبقاته، وذلك بتغذية الصحوة الإسلامية العامة، فلا تدع ركنا في المجتمع إلا وصلت إليه وبلغته الرسالة، وكان لها فيه أبناء وبنات جنود وجنديات، من خلال عمل دعوي وإعلامي، يمتاز بتخطيط دقيق، وتنظيم واضح، يتعامل مع معطيات العصر، وتقنيات العلم وفق المفهوم الإسلامي الصحيح.
كاتب المقال: أ.د. سارة بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود.
المصدر: المصدر: الشبكة النسائية العالمية .
==========
الدعوة إلى الله طريقها وآدابها
يقول الله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) .
علمنا الله تعالى في القرآن أن طريقة رسله في نشر الدين إنما هي الدعوة إليه، وعلمنا بسننه في شؤون الإنسان الاجتماعية أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لنشر المذاهب والأديان لا يضل سالكها عن مقصده مهما عرف منارها وأعلامها، وراعى آدابها وأحكامها، وسدّد إلى الأغراض سهامها.(6/51)
فخاطب العقل بالبرهان، وحرك سواكن الوجدان، وأشرف على النفوس من شرفات التأثير، وبصرها بحسن العاقبة أو سوء المصير.
و الأديان والمذاهب لا تنتشر إلا بالدعوة، ولا تطوى إلا بتركها، وإن الشرط في انتشارها هو كون الدعوة صحيحة لا كونها هي صحيحة في نفسها، ولا بد من بيان شروط الدعوة وآدابها خدمة لمن يوفقه الله تعالى من فضلاء المسلمين وعلمائهم وأهل الغيرة والحمية منهم، لإقامة هذا الركن الأعظم، والقيام بهذا الفرض الاجتماعي المحتم، والتصدي لإرشاد هؤلاء الملايين الذين يتشدقون بكلمة (الإسلام) ولا يعلمون مسماها، ويتمسكون بلفظها ولا يفقهون حقيقة معناها، فقد قام فيهم دعاة يهتفون باسم المهدية، ومرشدون يدعون سلوك الطريقة الصوفية، ولكن أحدا منهم لم يرع الدعوة حق رعايتها، ويقف من الطريق على جادتها، فطاشت سهامهم،وخسرت أيامهم وزادوا شمل الأمة تفريقا، وأديم الدين تمزيقا، على أن منهم من دعا إلى حق ولكن بغير حكمة، ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة، وأمر بمعروف ولكن على غير المنهج المعروف، ونهى عن منكر ولكن على غير الوجه المألوف.
علمتنا الآية الكريمة التي افتتحنا بها هذه المقالة أن للدعوة طريقتين: الحكمة والموعظة الحسنة:
فأما الحكمة فهي لخطاب العقل بالبرهان وأما الموعظة فهي للتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان، فالأولى للخواص والثانية للعوام والمقصد واحد، ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق موافق لمصلحة الناس الحقيقية، ولذلك قام أكثر الدعاة في العالم على الطريقة الثانية ووقفوا على منبر الخطابة ابتغاء إقناع النفوس بالمسلمات وجذبهم بزمام الوجدان حيث السلطان الأعلى للقياسات الخطابية والشعرية، لا للحجج البرهانية، وإذا نجح هؤلاء في كل عصر مضى فلا يدوم نجاحهم في هذا العصر لأن العلم الحقيقي الرائجة سوقه فيه خصم لهم، وهو الخصم الذي لا يغالب، والقرن الذي لا يناهز، والناطق الذي لا تدحض حجته، والسالك الذي لا تنطمس محجته.
ذكر الله الطريقتين ثم ذكر كيفية السلوك فيهما، والسير عليهما، وهي المجادلة بالتي هي أحسن، الهادية للتي هي أقوم، ويشترط في هذه المجادلة بل وفي أصل الدعوة شروط:
1- العلم بلغة من يراد دعوتهم ومجادلتهم، ولهذا ترى دعاة النصرانية يتعلمون جميع اللغات وينقلون إليها كتبهم الدينية، وأما رجال الدين من المسلمين فيرون في تعلم اللغات إعراضا عن الدين الذي لا وظيفة لهم إلا القيام بحفظه ونصرته، ونشره وتعميم دعوته، وقد علمنا أن الداعي الذي في الهند عارف باللغات المنتشرة هنالك كالأوردية والفارسية والإنكليزية كما هو عارف بالعربية، والشاهد لهذا الشرط من الكتاب العزيز قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(.
2- العلم بأخلاق الناس وعاداتهم، ومواقع أهوائهم ورغباتهم، ليخاطبهم بما يعقلون ويجادلهم بما يفهمون وأكثر المشتغلين عندنا بعلم الدين يرون البحث في الأخلاق والعادات من تضييع الأوقات والتنقيب عن شؤون الدهماء لا يليق بمقام العلماء.
3- الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية والعلوم والفنون الدنيوية، ما يتعلق منها بالدعوة، ويصلح أن يكون شبهة، ومن جهل هذا القدر كان عاجزا عن إزالة الشبهات، وحل عقد المشكلات، ومن فاته هذا الشرط وما قبله لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام، كما كان شأن سادة الدعاة إلى الله عليهم الصلاة والسلام.
ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها، وتحكيمهم الدين فيها، مؤذن باضمحلالها ومفض إلى زوالها، فأخذوا بزمامها، وقادوها بخطامها، وقربوا بين عالمي الملك والملكوت، وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت، وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين وإعلاء كلمته بين العالمين، وديننا هو الذي ربط بين العالمين ولكنا نقطع الروابط، وجميع العلمين ولكننا نهدم الجوامع، ولهذا جهلنا وتعلموا، وسكتنا وتكلموا، وتأخرنا وتقدموا، ونقصنا وزادوا، واستعبدنا وسادوا.
4- إلقاء الدعوة بصوت ينبه العقول والفكر، وصيحة تستلفتها إلى البحث والنظر، وتشوق النفوس إلى غايتها، وتخيفها من مغبة مخالفتها، هذا الشرط قد نطق به المتكلمون ونص بعضهم على أن من لم تبلغه الدعوة على وجه يستلفت إلى النظر يكون معذورا إذا بقي على كفره، ولا يمكن تحديد هذا الشرط إلا ببيان ما يدعو إليه الداعون، ويرشد إليه المصلحون، ومن نظر في تاريخ الملل، وأخبار دعاة المذاهب والنحل، يعلم أنه لم ينشر مذهب ولا دين، إلا وكان هذا الشرط ركنه الركين. ومن شواهده في القرآن العزيز قوله تعالى : ( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا).(6/52)
5- التلطف في القول، والرفق في المعاملة، وهذا أول ما يتبادر إلى الفهم من قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، والقرآن يبين هذا في مواطن كثيرة وآيات متعددة، اقرأ إن شئت قوله عز وجل: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون)، فما بعد هذا التلطف فج يسار فيه، ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها، والسر فيه أن النفوس جبلت على حب الكرامة، وتربت في الغالب على الرعونة، ونشأت على التقيد بالعادة، فمن رام الخروج بها عن عادتها، وصرفها عن غيها إلى رشادها، ولم يمزج مرارة الحق بحلاوة الرفق، ولم يصقل خشونة التكليف بصقال القول اللين اللطيف كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول، ودعوته أجدر بالرفض من القبول، وإن أردت الدليل الصريح من القرآن، على تأييد هذا البيان فاتل قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)، فهو ينبئك بأن لين القول محل رجا التذكر، والمعد للنفوس للخشية والتبصر.
ومن هنا تفهم السر في حماية الأنبياء عليهم السلام من العاهات المنفرة، وجعلهم أكمل الناس آداباً وأخلاقاً: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وقد اهتدى لهذا دعاة المذاهب الناجحة والأديان المنتشرة، حتى أن دعاة النصرانية في الصين يلبسون لباس البوذيين ويحملون أصنامهم أو يبيعونها منهم توسلا إلى عقيدة يلقونها، وتوصلا إلى كلمة يقولونها أو نفثة ينفثونها، غلوا بازاء غلو، وضعة في مقابلة كبر وعتو، فان الصينيين يغلون في الدين، ويحتقرون من دونهم من العالمين، وكأين من داع أفسد العنف دعوته وأسفل كلمته، أولئك الذين فرقوا الدين الواحد بالخلاف، وألقوا العداوة بين الإخوة بقلة الإنصاف.
6- تلبس القائم بالدعوة بما يدعو إليه بأن يكون موقنا أو مقتنعا به إن كان اعتقادا، ومتخلقاً به أن كان خلقاً، وعاملا به إن كان من الأعمال. فمن لم يكن موقناً ولا مقتنعا فقلما يقدر على إقناع غيره لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن حث على التحلي بفضيلة وهو عاطل منها أو أمر بالتزكي من رذيلة هو متلوث بها، لا يقابل قوله إلا بالرد، ولا يعامل إلا بالإعراض والصد. وينشده لسان الحال، إذا سكت لسان المقال:
يا أيها الرجل المعلم غيـ** رههلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي العنا ** كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تجذب للرشاد نفوسنا ** أبدا وأنت من الرشاد عديم
فابدأ بنفسك فانهما عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويقتدي ** بالقول منك وينفع التعليم.
وما كان من الدعوة متعلقاً بالأخلاق و الأعمال فهو تربية، والتربية النافعة إنما تكون بالفعل لأنها مبنية على القدوة وحسن الأسوة، لا بمجرد القول. ألم يبلغك حديث الحلق في الحديبية وكيف لم يمتثل الصحابة عليهم الرضوان أمر النبي صلى الله عليه وسلم به حتى حلق هو فاقتدوا بفعله أجمعين ومن هاتفهم السر في عصمة الأنبياء عليهم السلام.
7- الصبر وسعة الصدر، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، ومن ضاق صدره مل والملل آفة العمل، وقد جعلنا هذين الشرطين واحداً لتلازمهما وجودا وعدماً، وحسبك من دليل اشتراطهما في الكتاب قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)، وقوله عز وجل: ( فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به)، وقوله تبارك اسمه: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)، ولا يختص الصبر بعدم استعجال الفائدة قبل وقتها بل الصبرعلى الإيذاء الذي يبتلى به الدعاة دائماً آكد وألزم، وفضله أكبر وأعظم، وهو الذي جعله الله تعالى دليل الإيمان والمميز لأهله عن المنافقين: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله).
ولم يعر دعاة النصرانية من هذه المزية السامية والمنقبة الشريفة، فإن الجرائد والبرقيات تحدثنا آناً بعد آن بما يقاسون من الإهانة والإيذاء والمشقة والبلاء، لا سيما في أحشاء أفريقيا والصين، ولكن علماءنا يشترطون أن يكافؤوا على الدعوة بالتعظيم، والأجر العاجل الكريم، وأن يكفل لهم كافل بأنهم يقابلون بالقبول، وحصول المأمول، حتى أن منهم من كتب ذلك في جريدة، وصرح بأنه مبني على أصول العقيدة.
ومما يحسن ذكره ههنا ما بلغني من كيفية امتحان الدعاة وإليك حديث امتحان منها، درس بعض المستعدين للدعوة علم اللاهوت والعلوم الاجتماعية والتهذيبية والرياضية والطبيعية واخذ الشهادات بها، ثم طلب امتحان الدعوة من إحدى الجمعيات الدينية فأحالته الجمعية على رجل في بلد غير الذي هو فيه، فلما جاءه استأذن عليه معرفاً بقصده، فأجابه خادمه أن انتظره ساعة في هذا المكان من بيته، فمرت الساعة واليوم وخرج الرجل من البيت وعاد إليه ولم يقابله، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه بعد الظهر وأكلا، وبعد الأكل كتب له الشهادة من غير أن يسأله عن شيء وإنما كتب حكايته معه، وقال: إنه أكل معي من غير انفعال ولا تأثر، ولم أر على وجهه شيئاً من ملامح الامتعاض لسوء المعاملة التي عاملته بها فليقبل.(6/53)
8- الأمل بالنجاح والرجاء بالفلاح، مهما عظمت المصاعب وانتابت النوائب فان اليأس أدوأ الأدواء، الذي لا ينجع مع وجوده دواء، وناهيك أن القرآن جمعه مع الكفر في قرن، وجعله مع الضلال كفن، والآيات في هذا طوافة في الأذهان فائضة على كل لسان، واذكر من تلبس دعاة النصرانية بهذا الشرط ما كنت قرأته في جريدة لهم قالت ما مثاله: أن أول بعثة أرسلت إلى الصين بعد الاستعداد بتعلم اللغة الصينية وطبع الكتاب المقدس بها مكثت بضع سنين (وأظنها حددتها بثمان) لم يجب دعوتها أحد فاستأذنت من الجمعية الكبرى بمغادرة الصين لليأس من تنصر أحد من أهله، فأجابتهم الجمعية بأنكم لم ترسلوا لتنصير الناس أو إلزامهم بالنصرانية فترجعوا لعدم حصول المقصود، وإنما وظيفتكم الدعوة إلى آخر الحياة سواء أجابكم الناس أم لم يجيبوكم فثبتوا حتى صار الناس يدخلون في دينهم بالتدريج، وإنما هدى هؤلاء للقيام بهذا الشرط كغيره الصدق في خدمة دينهم والحرص على نشره، وقد فقدنا نحن هذا من عهد بعيد فصرنا نقرأ القرآن ( الذي لم يغادر شرطاً من شروط الدعوة إلا بينه) للتبرك وشفاء الأمراض الجسدية، وهم الذين قاموا بالعمل به، هل تفكرت يا أخي المسلم بقوله تعالى: ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، وقوله: ( وما أنت عليهم بوكيل، وقوله: ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)، وهل أطلت الفكرة يا أخي فيمن قام بحقوق هذه الآيات وأمثالها ولم تكتف عند قراءتها وسماعها بقول (الله الله) سبحان من هذا كلامه كما تلقيت عن عامة الناس؟؟؟.
هذا ما تيسر إيراده من آداب وطرق الدعوة إلى الله نسأل الله جل وعلا أن ينفع بها.
كاتب المقال: الشيخ العلامة محمد رشيد رضا (رحمه الله)
=============
المساواة بين المرأة والرجل في أصل التكليف
إن الله تعالى خلق الجن والإنس لعبادته من غير حاجة إليهم في رزق ولا طعام فقال سبحانه : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين(58)) سورة الذاريات.
ولما كانت هذه العبادة تحتاج إلى بشر يبلغون عن الله جل وعلا، فقد اصطفى الله جل شأنه عدداً من الرسل، يوحي إليهم بأمر العبادة كي يبلغوا عنه سبحانه أممهم، قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36) ) سورة النحل.
وكانت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسالات وأعمها للبشرية، قال تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ) (40) سورة الأحزاب.
و لما كان هذا الدين خاتم الأديان فلابد إذا من المتابعة في نشره، والدعوة إليه، تنفيذاً لأمر الله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) (104) سورة آل عمران.
ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله تعالى أمة الإسلام ويكلفها بأن تعمل على تكوين جماعة منها، تقوم بالدعوة إلى الله سبحانه، دعوة إلى الخير بعامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخاصة، ومن المعلوم أن كل أمة، تتكون من الرجال والنساء، فالخطاب للجميع.
وهنا يرد سؤال حول الأمر بالدعوة وهو:
هذا الأمر وخطاب التكليف، هل يكفي فيه قيام فئة من الرجال فقط، أم لابد أن تقوم فئة من النساء بالدعوة في محيطها الأسري، وذوي أرحامها، وبنات جنسها؟
والجواب:
أن خطاب التكليف هذا في أصله شامل للرجال والنساء، ومجيئه بضمير المذكر للتغليب، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، وفي الاستعمال القرآني والسني.
فكلمة أمة في قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة ) تعني في هذا الخطاب جماعة الرجال والنساء.
كما أنه بالنظر إلى كلمة ( من ) في قول الله تعالى آمراً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (108) سورة يوسف.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) صحيح البخاري، الذي لم يعين فيه جنس المخاطب، دل ذلك على وجوب قيام فئة من النساء بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في حدود مسؤوليتها، مثل محيط الأبناء والبنات، وعموم النساء .
والقرآن الكريم بين قدرة النساء إذا كن مؤمنات على الدعوة إلى الإيمان بالله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما في قوله تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (71) سورة التوبة.
كما أن القرآن بين قدرة النساء إذا كن منافقات على الدعوة إلى الكفر، والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، كما قال تعالى : ( المنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ) (67) سورة التوبة.
فالآيتان السابقتان تؤكدان قدرة المرأة على الدعوة سواء للحق أم للباطل.(6/54)
ولم يقتصر القرآن الكريم على البيان النظري على قدرة المرأة على الدعوة، بل إنه ضرب مثلاً عملياً لجهود المرأة الدعوية، سواء كان ذلك في حزب الشيطان أم كان في حزب الرحمن، قال تعالى : ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النارمع الداخلين ) (10) سورة التحريم.
إن الخطاب الشرعي جاء بالأمر بالدعوة إلى الله عاماً لجميع الأمة يشمل الجنسين رجالاً ونساءً، لأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطاباً للنساء أيضاً، إلا موضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيه ، والقاعدة في واجبات المرأة كالقاعدة في حقوقها، فإن للمرأة حقوق وعليها واجبات مثل الرجل إلا فيما يختلفان فيه من القدرة والكفاية مما هو مناط التكليف، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما النساء شقائق الرجال )، وعلى ذلك فالدعوة إلى الله واجبة في حق النساء كما هي واجبة في حق الرجال كل حسب قدرته وعلمه .
و من الأدلة التي جاءت آمرة بالدعوة إلى الله قوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (108) سورة يوسف.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية : ( ( ومن اتبعني ) أي : ويدعو إليها من اتبعني واهتدى بهديي، وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله، أي الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده، والعمل بما شرعه لعباده).
و غيرها من النصوص التي تدل على وجوب القيام بالدعوة إلى الله، والأمر بذلك عام على جميع المسلمين رجالاً ونساءً، ولكن للدعوة مجالات وميادين مختلفة، منها ما يكون مناسبا للجميع، ومنها ما يكون مناسباً لفئة دون أخرى.
أما السنة فقد أثبتت أثر المرأة في الدعوة إلى أي عقيدة في أحاديث كثيرة، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه ) صحيح مسلم – كتاب القدر – الجزء الرابع ص 2048
وكما في حديث المسؤولية، في الحديث المروي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) صحيح البخاري كتاب الأحكام .
وإذا ما انتقلنا إلى السنة العملية في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر نجد أن تاريخ الإسلام حافل بجهود المرأة الدعوية، ومشاركتها في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سواء كان ذلك بين الأبناء والبنات، أو بين النساء الأخريات في المجتمع الإسلامي .
وتاريخ أمهات المؤمنين وعدد كبير من الصحابيات – رضي الله عنهن – خير شاهد على ما قدمته المرأة المسلمة من جهود دعوية، سواء كان ذلك في معارك الجهاد، أو ما روينه من أحاديث المصطفى الكريم عليه الصلاة والسلام، أو الدعوة بالقدوة، والكلمة، والموعظة الحسنة، وبذل النصيحة .
يقول الحافظ بن حجر في فضل خديجة – رضي الله عنها - : ( إنها أول من أجاب الإسلام، ودعا إليه – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم –، وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله ) فتح الباري، كتاب فضائل الصحابة ج 7 ص 109
وكما ورد عن أنس رضي الله عنه قال : ( لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهن تنقزان القرب، وقال غيره – تنقلان القرب – على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتحملانها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم ) صحيح البخاري مع الفتح كتاب الجهاد ج 6 ص 78
فلقد ضرب لنا نساء الأمة في جيلهن الأول أروع المواقف الدعوية مع الزوج والأبناء والأهل وفي أوساط النساء، كأمثال أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من نساء الصحابة، كأسماء ذات النطاقين وأم سليم، ونسيبة بنت كعب، وصفية بنت عبد المطلب، وأم شريك وغيرهن رضوان الله عليهن لا يتسع المقام لذكر مواقفهن الجليلة .
على ضوء ما ذكر آنفاً يتبين لنا المساواة في أصل التكليف، وأن من قضايا الإسلام ما لا يقتصر تبليغه على الرجل فحسب، بل إن المرأة المسلمة تتحمل قسطاً كبيراً من هذا التكليف .
................
المراجع:
1- كتاب المرأة المسلمة المعاصرة – إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة، للدكتور أحمد بن محمد بن عبدالله أبا بطين.
2- كتاب مسؤولية المرأة في الدعوة إلى الله، أسماء بنت راشد الرويشد.
كاتب المقال: أسماء النجار .
==============
ضيق أفق الداعية
ضيق أفق الداعي هو تضييق للدعوة وسعته سعة لها.(6/55)
والمقصود بضيق أفقه أن يقتصر مثلا بالدعوة على المسجد فقط لأنه أطهر بقاع الأرض، أو على الخطب والمواعظ والكلمات لأن الخطباء يفعلونها، أو أن يبدأ دائما الدعوة بالحديث عن الصلاة لأنها عماد الدين، أو أن يستخدم الترهيب أكثر من الترغيب أو التيئيس أكثر من التشجيع أو الشدة أكثر من الشفقة؛ لأنه يرى أن المدعوين لا يستحقون إلا ذلك! أو يتعجل ولا يصبر أكثر مما يتدرج، أو يقاطعهم أكثر مما يخالطهم لأنهم فسقة.. أو لا يتحاور معهم بل يملي عليهم أوامره؛ فهو الأعلى وهم الأدنى.. أو يحتكر الدعوة ويقصرها عليه وعلى العلماء ولا يحمّلهم إياها بما يناسبهم؛ فهم ليسوا أهلا لها.. أو يقتصر على دعوة الرجال دون النساء بضوابطها، أو الشباب دون الشيوخ والأطفال، أو رواد المسجد دون سائر أهل الحي ودون الجيران والأقارب والزملاء والأصحاب.. أو يتصلب ويأخذ برأي واحد وهو الصواب وما دونه من آراء سواء فقهية أو حتى خبرات حياتية صحيحة فهو وضعي من عند البشر خاطئ.. أو يتقوقع وينعزل ويتجنب مَن حوله لأن طعامهم شبهة وأعمالهم بدعة وأزياؤهم تشبُّه بالكفار.. أو يقدّم سنّة على فرض، أو الفرض الذي على التراخي على فرض الوقت، دون مراعاة لترتيب الأولويات، أو يتشنّج ويتوتر ويتجهّم عند التعامل مع الآخرين؛ لأن في تعاملاتهم انزلاقا وتنازلا وتهاونا...
أو ما شابه ذلك من تصرفات بعض الدعاة الصلبة غير المرنة، والتي غالبا ما تنفر أكثر مما تحبب، وتضر أكثر مما تنفع، وتتعس الداعي والمدعوين بإسلامهم أكثر مما تسعدهم به...
إن أهم أسباب هذا الداء ما يلي:
العقل:
فهو يخشى من كل آخر؛ خوفا أن يكون سببا في تفريطه في الدين.
البيت:
فلا رأي فيه إلا للأب أو للأم أو حتى لهما معا، لكن لا رأي للأبناء.. فينشؤون غالبا بل بكل تأكيد لا رأي لهم.
المدرسة:
فلا رأي في الفصل إلا للمدرس إن كان له رأي هو الآخر غير رأي المدير، الذي بدوره يكون رأيه هو رأي الوزارة في الغالب.
الجامعة:
فلا رأي في المدرج إلا للأستاذ إن كان له رأي غير رأي رئيس الجامعة، والذي رأيه كثيرا ما يكون هو رأي الوزير.
العمل:
فلا رأي إلا للمدير.. والمبتكر متهور، والمتسائل غبي، والمفكر عنيد.. فرأي المسؤول إذن هو دائما الصواب.
المجتمع:
غالبه سلبي مستسلم لا رأي له، و المسؤول هو وحده المحرك الذي يعرف الحق وعليه يسير على الدوام، والمتمسك فيه بدينه حتى ولو في نفسه فقط يعدّ غريبا متعصبا.. وإن أراد أن يكون في موقع مسئولية يديرها بقوانين وأخلاق الإسلام التي تربى عليها منذ صغره فهو إرهابي لا بد من محاكمته..
فما ظنك بمجتمع كهذا؟! إنه -ولا بد- سيفرز جيلا غالبه ضيق الأفق.
الدعاة:
فهم يربّون عموم الناس ودعاة المستقبل من بعدهم، وينصحونهم بمثل ما هم فيه وعليه.
فكر واحد، وإلا يكون الانحراف عن الصراط المستقيم.
الخوف:
من الغير أن يفتنوه ويبعدوه عن دينه.. فكلهم أو معظمهم غير آمنين لا ثقة فيهم.
الحرص:
على الإسلام أن يصيبه أي تحريف بسبب أي تجديد في أسلوب عرضه لا فيه.
الراحة:
فالانعزال خاصة عن غير روّاد المساجد أكثر راحة وأمانا في الدعوة.
الخبرة:
فلا احتكاك بآخرين حتي لا يصاب بأمراضهم !.. فالوقاية خير من العلاج كما هو معروف.
العلم:
فعلم الشرع وحده يكفي لإدارة الحياة دون العلوم الدنيوية.
العشوائية:
فالتخطيط معوّق، والبركة ستجبر أي تقصير.
والدواء هو إتيان عكس ما سبق:
الفهم:
فهم أنّ الدعوة ليست في المسجد فقط، وإنما في كل مكان ممكن : في البيت، ومع الأهل والجيران والأقارب والأصحاب وأهل الحي وزملاء العمل على مسار الحياة كلها كما يقول تعالى : (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس).
وأنها ليست بالخطب والمواعظ فقط بل بالقدوة والموقف والخدمة والزيارة والمشاركة في الأفراح والأحزان، كما كان يفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.. وباستخدام الأشرطة والكتيبات والمجلات والمحمول والإنترنت والفضائيات وكل ما يستحدث وينفع..
وأنها ليست حكرا على العلماء وحدهم، وإنما كل فرد بما يستطيعه كما وسعها ربنا في قوله : ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله).
وأنها للجميع رجالهم ونسائهم كما يفهم من قوله: "يا قومنا" بمراعاة الضوابط الشرعية كغض البصر وعدم الخلوة واختيار الكلام المناسب..
وأنها ليست بالضرورة أن تبدأ بالكلام عن الصلاة رغم أهميتها، ولكن كما علمنا أسلوب القرآن بتحليل شخصيات المدعوين، والتعرف عليهم، ومعرفة أهم المداخل للتأثير في قلوبهم، وزرع الحب والثقة بينهم وبين داعيهم، وربطهم بربهم، ومخاطبة ومعاملة كل منهم على حسب أحواله وظروفه وإمكاناته ومفاهيمه وثقافاته وبيئته المحيطة به..
وأنها بالتشجيع أفضل من التيئيس، وبالترغيب أقوى من الترهيب، وبالرفق أعظم من الغلظة، وبالتدرج أنسب من التعجل، وبالحوار ألطف من الأوامر، وبالصبر أجمل من الانفعال، وبالمخالطة المنضبطة أشد من المقاطعة السلبية، وبالأمل والتفاؤل أنفع من التشاؤم..
وأنّ الإسلام كله يحتمل أكثر من رأي -إلا الحرام فليس فيه إلا رأي واحد- كما يقول تعالى مثلا سامحا بالحجاب أو النقاب : ( وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) حتى يأخذ كل فرد بما يناسبه، ويناسب ظروفه وأحواله وبيئته فيسعد..(6/56)
وأنّ ليس كل جديد بدعة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : (الحكمة ضالة المؤمن) ، وليس كل تشبه بالخير الذي عند الغير ولا كلّ تصرّف شبهة أو حراما كما رهن الرسول -صلى الله عليه وسلم- درعه عند يهودي في مقابل شعير يأكله، وهو يعلم أنّ ماله فيه شبهة يختلط حلاله بحرامه؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)، والاستثناء هو المنع لما يضر ويتعس..
وأنّ التخطيط وترتيب الأولويات هو أصل دعوي لا تسير الدعوة بدونه كما هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام الذين خططوا للتربية وللتخصص ليقودوا الدنيا بقوانين الإسلام ليَسعدوا ويُسعدوا، وحققوا بالفعل ما أرادوا..
وهذا الفهم الصحيح يتأتّى بالقراءة والاطلاع، ومعايشة الفاهمين الواعين وسؤالهم، ومتابعة الواقع ؛ وهو ما يعين على تغيير كثير من المفاهيم وأساليب التفكير.
القدوة:
قدوة الوالدين مع أبنائهم في البيوت، والمدرسين مع تلامذتهم في المدارس، والأساتذة مع طلابهم في الجامعات، والمسؤولين مع مرؤوسيهم، وكل داع مع مدعويه.. يكون كل هؤلاء قدوة فيما سبق ذكره في بند الفهم.. فإذا ما كانوا كذلك، فلا بد أن ينشأ نشؤهم أيضا كذلك، كما كان الصحابة مثل الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- وكان حديث عهد بالإسلام قال: (بينا نحن نصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه.. ما شأنكم تنظرون إلي ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمّتوني سكتّ، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، والله ما قهرني، ولا شتمني، ولا ضربني، وإنما قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن...) (جزء من حديث أخرجه أحمد).. فلقد تعلموا منه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف وحده الحوار، وسعة الصدر، والصبر، والرفق، وعدم التوتر عند حل المشكلات؛ بل حلها ببساطة، والتدرج في الأخذ بيد المخطئ حتى ينصلح، والتيسير لا التعسير، والتفاؤل في تحقيق النتائج لا التشاؤم.
العلم:
فكلما ازداد العلم، وتعددت الآراء.. كان هناك أكثر من رأي في التعامل مع كل موقف، وكلما اتسع الأفق.. ازداد عدد المتعاملين بهذا الإسلام المرن الشامل، وانتشر وساد.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: (أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) (أخرجه البخاري)، وقد قاله لبعض الصحابة لما تحرّج بعضهم أن يأكل من غنم كانت أجرا لأحدهم، قام برقية ملدوغ والدعاء له بقراءة الفاتحة فقال لهم: (.. وما يدريك أنها رقية .. قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهما).. وضحك (أخرجه البخاري)
فقد تعلموا منه -صلى الله عليه وسلم- هنا أنه أحيانا يظن الداعي أنّ الأمر شبهة وهو ليس هكذا، بل حلال.. كأن يأكل مثلا عند جاره أو صديقه أو زميله أو مضيفه، وليس عليه أن يسأل عن مصدر ماله إلا ما يظهر له، ويتأكد دون أي شك أنه حرام.
الخبرة:
فخبرات الحياة تضيف بكل تأكيد سعة في التصرف وقدرة على إحسانه، يقول تعالى على لسان هارون مبررا هدفه من انتظار عودة موسى -عليهما السلام- رغم ارتداد بعض قومه عن بعض دينهم : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه: 94).. قال الإمام القرطبي: (أي خشيت أن أخرج وأتركهم، وقد أمرتني أن أخرج معهم، فلو خرجت لاتبعني قوم ولتخلف مع العجل قوم، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال..)؛ فخبرة هارون -عليه السلام- بأحوال قومه وواقعهم جعلته يحسن التصرف معهم.
التدريب:
من خلال الدورات التدريبية التي لا بد أن يتبعها ممارسات عملية.. فلقد جمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الصحابة على صلاة القيام في رمضان ليدرّبهم ويشجعهم عليها، رغم أنهم لم يتجمعوا لها في أثناء حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاجلهم بقوله : ( نعم البدعة هذه) توسيعا لفقههم وأفقهم وأسلوب تفكيرهم.. فإن كنتم تظنون أني مبتدع بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذن فهي بدعة، ولكنها حسنة.
التخطيط :
فمعرفة وتحديد الأهداف المراد الوصول إليها، ووسائلها، ومن سيقوم بها، ومواقيتها، وميزانياتها.. كل ذلك -ولا شك- يوسّع الأفق، ويدفع للتعاون مع الآخرين لإنجازها.. ولعل في قصة هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودقة تخطيطه لها واستعانته بغير مسلم لدلالته على طريق آمن خير دليل على ذلك.
الانفتاح:
بالتواصل مع الجميع، والحوار معهم، والاستفادة من آرائهم واقتراحاتهم وخبراتهم.
يقول -صلى الله عليه وسلم- منبها لهذا عند حديثه عن (حلف الفضول)الذي كان قبل الإسلام، وكان أعضاؤه من الفضلاء، وكانت مبادئه كلها إسلامية حيث نصرة الضعفاء والمظلومين: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت) (راجع سيرة ابن إسحاق) فكل ما ينفع من مسلمين أو غيرهم يسعى إليه المسلم، لينتفع ويسعد به، وينفع ويسعد من حوله.. ولا شك أن استخدام وسائل الاتصال الحديثة يعين كثيرا في هذا.
الصحبة:
فهي بصلاحها ووعيها تعين على كل ما سبق؛ إذ هي تؤثر بخيرها في غيرها، وتتأثر بخيرهم، وتغيّر شرهم.
بهذا كله يتسع الأفق، وينجح الداعي، وتنتشر الدعوة، ويكثر الخير، وتعم السعادة، ويزداد الثواب.
كاتب المقال: د.محمد متولي منصور .
المصدر: إسلام أون لاين .(6/57)
============
الدعوة إلى الله في مجال الأخلاق
الأخلاق فعال الظاهر بحركة الباطن وإرادته، وتظهر أهمية الأخلاق بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وذلك لأن الأخلاق هي الجانب التطبيقي للمسلم في سائر علاقاته، والسمو بهذه العلاقات هو الهدف الأساس للدين، والعبادات المشروعة في دين الله أعمال مكررة من أجل أن يعتادها الفرد المسلم فيعتاد من خلالها على الأخلاق الحميدة.
وللأخلاق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك الإنسان وما يصدر عنه، وقد كان النهج السديد في إصلاح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون بإصلاح النفوس وتزكيتها وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها.
فللأخلاق مكانة كبيرة في الإسلام تظهر من خلال مدح الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بحسن الخلق في كتابه الكريم بقوله تعالى:(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4) سورة القلم، ومن خلال دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لربه بأن يحسن خلقه، فقد كان يقول:(اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي).
الملامح العامة لمناهج الدعوة في جانب الأخلاق:
- بيان الأخلاق الكريمة والنص على أصولها: كالصدق، والعدل، والأمانة.
- بيان الأخلاق الذميمة والنص على أصولها: كالكذب، والجور، والخيانة.
-وضع ضوابط ومعايير ثابتة تُعرف بها الأخلاق الحميدة من غيرها، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
- الدعوة إلى تحسين الأخلاق ومجاهدة الطباع لقوله صلى الله عليه وسلم:(وخالق الناس بخلق حسن).
ولم يكتف الإسلام بالدعوة العامة إلى الأخلاق الفاضلة، والنهي عن الأخلاق الذميمة، بل فصَّل القول في كل منهما في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فمن أمثلة الدعوة إلى الأخلاق الحسنة في القرآن الكريم ما يأتي:
- الوفاء بالعهد، قال الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (34) سورة الإسراء.
- الأمر بالعدل، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (152) سورة الأنعام.
- الحث على التعاون، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2) سورة المائدة.
- الصبر، لقوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (60) سورة الروم.
- الصدق، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (119) سورة التوبة.
- الأمانة، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (8) سورة المؤمنون.
ومن الأمثلة على الأخلاق الذميمة التي نهانا عنها ديننا الحنيف:
- الكذب، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (28) سورة غافر.
- الظلم، لقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (21) سورة الأنعام.
- النهي عن الإسراف والتبذير والبخل والتقتير، لقوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (29) سورة الإسراء.
- الكبر والخيلاء، قال الله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (18) سورة لقمان.
- الغل والحقد، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (10) سورة الحشر.
- السخرية والاستهزاء: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (11) سورة الحجرات.
وسائل تقويم الأخلاق:
قد يسأل المرء عن الأخلاق عموماً، فيسأل نفسه: هل بإمكانه تقويمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة؟
ونجيب على ذلك بنعم، حيث يمكن اكتساب الجيد منها والتخلي عن السيئ وذلك من خلال عدة وسائل أهمها:
-العلم وذلك بمعرفة الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام والالتزام بها، ومعرفة الأخلاق السيئة التي نهى الإسلام عنها وتجنبها.
-تقوية معاني العقيدة الإسلامية في النفس، وإدراك أن المسلم سيجازى على أعماله والتي منها أخلاقه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(6/58)
- الحرص على القيام بأنواع العبادات والطاعات المفروضة والمندوبة؛ لأنها تزكي النفس وتسهل عليها اكتساب الأخلاق الحميدة وطرد الأخلاق الذميمة، فمثلا نأخذ الصلاة، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (45) سورة العنكبوت، ونحو الزكاة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (103) سورة التوبة، والصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183) سورة البقرة، والحج: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (197) سورة البقرة.
- الارتباط برفقة صالحة، ومجالستهم، والاستماع إليهم، واتخاذ القدوة الحسنة، وخير قدوة رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) سورة الأحزاب.
- الابتعاد قدر الإمكان عن البيئة الفاسدة وأصحابها، ومحاولة العيش في بيئة نقية صالحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
أصول الدعوة، للدكتور عبدالكريم زيدان.
الدعوة الإسلامية، للدكتور أحمد غلوش.
المدخل إلى علم الدعوة، للأستاذ محمد أبو الفتوح البيانوني.
كاتب المقال: أ. هيا الرشيد .
==============
الكتمان والخصوصية في الدعوة
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت: ما حبسك؟ (أي ما أخرك؟) فقلتك: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا.
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر بن الخطاب) يقدمك على الأشياخ (يعني كبار الصحابة) فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة.
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كان، أجدادنا الأوائل يعلمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها.
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يطلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده (رجال مخابراته) قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس.
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع صلوات الله وسلامه عليه أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه.
كذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها.
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد لأن الأمة تتكون من أفراد.
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء استعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر.
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (ق 18) فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)،
ويقول الله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (إبراهيم 24- 26).
والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل دعوة الإسلام، وقيل: كل كلمة حسنة.. والمراد بالكلمة الخبيثة: كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنه ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه).
وعن شعبان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم) قال: قلت يا رسول الله، وأخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا).(6/59)
كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)، وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن) فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الأمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) (الأنفال 27).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة)، وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره)، وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع).
الصمت:
والصمت من أكبر أسباب الواقية من إفشاء الأسرار (الوقاية خير من العلاج)، والإسلام يرشد إلى الصمت ويدعو المسلمين إليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله). وغير ذلك من الأحاديث التي تدعو إلى التمسك بهذه القيم الإسلامية.
دروس علمية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم :
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى، فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سرا، ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: يا محمد ما هذا؟ قال: ( دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى ) فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب (أي أباه)، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره فقال له: ( يا علي إذا لم تسلم فاكتم ). فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه ولم يظهره.
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: (ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته).
وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى ).
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة- أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعا في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان.
وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني (وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريش للقضاء على المسلمين) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)،
فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين (قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة)، وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية، لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم إسلام نعيم، وكتم نعيم إسلامه، فلم يعرف قومه ولا بنو قريظة ولا قريش عن إسلامه شيئا، فلو لم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ السرية والأمن، ولو لم يطبقه نعيم، فهل كان بإمكان نعيم أن يقوم بهذا الدور الحاسم في تفرقة صفوف الأحزاب ونزع الثقة من نفوسهم..
وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم (الرسالة المكتومة) مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة (مكتومة) تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان، إن أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من أمن به، كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه
(فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قالوا: إنما نعنى من الرجال، قال: أبوها) ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا. ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال.
كاتب المقال: محمد بن جمال الدين محفوظ .المصدر: شبكة الدعوة الإسلامية .
==============
حتى لايتوقف عطاء الدعاة(6/60)
يشاهد المطلع على أحوال الدعاة إلى الله تعالى ممن يعانون من الفقر وقلة ذات اليد وهم كثر في عالمنا الإسلامي ظاهرة انتكاس بعضهم عن الطريق ووجود فتور كبير لدى عدد ليس بالقليل منهم.
ونظراً لخطورة هذه الظاهرة على مسيرة العمل الدعوي ، وما تدل عليه من ضعف الثقة بالله عز وجل ، وعدم الرضا بالقضاء والقدر ، بالإضافة إلى الجهل بسنن الله عز وجل في المنع والإعطاء... بادرت مستعيناً بالله تعالى في كتابة هذه السطور محاولاً إلقاء الضوء عليها ، راجياً أن تتضح الرؤية لأولئك فيعود من ضاع منه الطريق ، ويقوى على السير من لبث في مكانه وفتر عزمه ولم يواصل المضي ، عسى أن تكون كلماتي عامل تقوية وتثبيت لبعض من تتحرش بهم شياطين الجن والإنس ، وتكاد ضغوط المعاناة وشدة الواقع أن تأتي عليهم ، فتقعدهم عن مواصلة المسير في سبيل الدعوة إلى الله.
وسيكون الحديث بالأصالة متجهاً إلى من يعيش الأزمة ويكتوي بنارها كما أن جزءاً منه سيكون موجهاً لإخوانهم الموسرين الذين يشاطرونهم حمل هم هذا الدين ، وهم على معرفة بأحوالهم وشدة معاناتهم.
من تلك حاله كيف يصنع؟
وبما أن الأمر في ذلك وارد على كل داعية إلى الله ، فلابد أن يوطن الداعية نفسه على الآتي:
1- أن يتذكر أن الله يبتلي عباده بالغنى والفقر ، فيوسع على بعضهم في الرزق ، ويهبهم من عظيم خيراته الشيء الكثير ؛ لكي يقوموا بواجب الحمد والشكر له ، ويمنع سبحانه بعضهم من تلك السعة ، ويقدر عليهم رزقه؛ لكي يقوموا بواجب الصبر وكمال الرضا ، فيوفق للحمد والشكر من الأغنياء فريق ، ويتجبر الفريق الآخر منهم ويطغى كما قال تعالى: ((كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى))[العلق: 56] كذلك حال الفقراء حيث يوفق للصبر والتسليم والرضى بالقضاء طائفة منهم ، وتتجه الأخرى إلى التسخط والجزع ، بل وربما إلى ممارسة كسب المال من طرق غير مشروعة.
2- معرفة أن الله عز وجل قد تكفّل برزق الخلائق كما قال تعالى: ((وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)) [ هود: 6] ، وما تكفل الله به فلا خوف من تأخره أو ضياعه وعدم وصوله؛ ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الذين تعرضوا له بالمسألة رجاء التوسعة عليهم: (... فو الله ما الفقر أخشى عليكم... ) ، وهذا راجع إلى كمال اطمئنانه وعظيم ثقته بموعود ربه ، ويقينه التام بأن ما قدره الله للعبد من رزق فهو آتيه لا محالة.
3- العلم بأن لهذا الابتلاء فوائد جَمة متى استطاع المرء تحقيقها تحول الأمر في حقه من محنة إلى منحة ، ومن نقمة إلى نعمة ، ومن تلك الفوائد:
*أن العبد بصبره على الابتلاء ينال ما ذكره تعالى في سورة البقرة في قوله: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون))[ البقرة: 155-157].
*أن العبد المبتلى بذلك يتقلب بين مقامات العبودية المختلفة من صبر وتسليم ورضا وتوكل ورجاء وورع ولجوء وتضرع وسكينة وثقة... إلى غير ذلك من المقامات العالية لذلك التي قد يحرمها لو لم يُصَب بذلك.
بالإضافة إلى المقامات الأخرى من حمد وشكر وإحسان إلى الآخرين... إلى غير ذلك مما يناسب النعم التي أعطيها العبد كنعم الإيمان والصحة والأخلاق الحميدة والاشتغال بما ينفع في الآخرة... إلخ.
*أن من ابتلي بذلك من الدعاة وصبر يصلب عوده ويقوى ويصبح أكثر قدرة على الثبات في مواجهة المحن والأزمات ، وبخاصة إذا كان السبب المباشر لمعاناته من الفقر وقلة ذات اليد تَمَسّكُه بدينه وثباته على دعوته وقيامه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
*أن المصيبة والابتلاء في الدنيا لا في الدين ، ومن عرف حقيقة الدنيا والدين وابتلي وكانت مصيبته في دنياه ، عرف أنه قد سلم وعوفي وأن واجبه الشكر والثناء لا السخط وعدم الرضا.
*أن كل مصيبة سببها المعاصي والذنوب كما قال تعالى: ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم))[الشورى: 30] ، والمصائب والبلايا تُكَفّر الذنوب ، ولولا رحمة الله تعالى بإيقاعها عليه في الدنيا لأجلت عقوبة ما اقترف من ذنوب إلى الآخرة ، وعقوبة الآخرة ليست كعقوبة الدنيا مهما عظمت وجلّت ، وعند ذلك يجب في حق العبد الشكر والثناء على الله تعالى.
*أن المصيبة واقعة لا محالة لكونها مكتوبة على العبد ، قال صلى الله عليه وسلم: (وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) وكونها قد وقعت فقد استراح منها إن انتهت ومن بعضها إن بقيت وهذه نعمة وتوفيق وفضل من الباري سبحانه.
4- استشعار حقيقة الدنيا والآخرة والنظر في النصوص الكثيرة من قرآن وسنة التي تزهد في الدنيا ، وتخبر بمصيرها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها وشدة فتنتها من جهة ، وتُرغّب في الآخرة وتخبر بشرفها ودوامها ومن ذلك قوله تعالى: ((قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى)) [النساء: 77] ، وقوله عز وجل: ((بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى))[ الأعلى: 16،17] ، وقوله سبحانه: ((ما عندكم ينفذ وما عند الله باق))[النحل: 96] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم).(6/61)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام له جميل حول هذا الموضوع: (... فإذا أراد الله بعبد خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة ، ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار)
5- إدراك أن الدنيا لا يقوم عليها ميزان التفاضل في الدار الآخرة ، بل ذلك يقوم على التقوى فمن أكرمه الله وفقه لطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والدعوة إليه وتحمل الأذى في سبيله، ومن أهانه سلبه ذلك قال يحيى بن معاذ رحمه الله : (لا يوزن غداً الفقر والغنى وإنما يوزن الصبر والشكر) ، وقال ابن القيم رحمه الله ناقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى ، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة).
وبالتالي فلا غضاضة على العبد أن يكون فقيراً في هذه الدنيا إذا كان الفقر لا يعني دناءة المنزلة عند الله عز وجل ، بل إن لله أولياء من خلقه شعثاً غبراً مدفوعين في الأبواب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث مدفوعاً في الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، وكما قال -صلى الله عليه وسلم- للصحابة حين مر رجل من أشراف الناس فقالوا: هذا والله حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، ومر رجل من فقراء المسلمين فقالوا هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال صلى الله عليه وسلم : (هذا خير من ملء الأرض من هذا).
6- حتى تكون راضياً مطمئناً:
من أجل أن يخفف الداعية عن نفسه القلق الناتج عن المعاناة من قلة ذات اليد، وينقلب توتره وضجره إن كان موجوداً إلى هدوء واطمئنان ورضا، عليه التأمل فيما يأتي:
*النظر في حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في سيرته حيث توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير، وكان يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه، وتوفي وما شبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز حنطة، وكانت تمر عليه ثلاثة أهلّة في شهرين دون أن يوقد في بيته نار، إنما طعامهم الأسودان التمر والماء، وكان -صلى الله عليه وسلم- يأكل ومن معه في صدر الإسلام ورق الشجر كما قال عتبة بن غزوان: (لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما طعامنا إلا ورق الحُبْلَة حتى قرحت أشداقنا) ، إلى غير ذلك من الصور الكثيرة التي نقلها لنا مَنْ دَوّنَ سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسير صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، على الداعية الحق أن ينظر في ذلك، ويتذكر أنه ليس الوحيد الذي يسير في قافلة الدعوة، ويعاني من قلة ذات اليد، فهذا قائدها -صلى الله عليه وسلم- وكبار أعلامها قد عانوا ما يعاني وله بهم أسوة كما قال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ))[الأحزاب: 21].
*عليه أن ينظر إلى من حوله من إخوانه ، الذين هم أكثر فاقة وأشد معاناة ويرى عظم مصيبتهم وضخامة حاجتهم ، فيواسي نفسه بمقارنة مصيبته بمصيبتهم، وخفة حاجته عند عظيم فاقتهم ، فيحمد الله على التخفيف والرحمة بأن لم يبتله كما ابتلاهم، ولم يمتحنه كما امتحنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه) وفي رواية (فهو أجدر ألا تزدروا نعمة من الله عليكم).
*وعليه أن ينظر إلى نفسه بشمول في وقته السابق واللاحق، وسيجد عند ذلك عظم نعم الله تعالى عليه في سائر أحواله الماضية والحاضرة، وأن الله عز وجل إن كان قد منعه في وقت فقد أعطاه في أوقات، وإن كان قد حرمه في جانب فقد منحه الشيء الكثير في جوانب أخرى، وعليه أن يقوم بتعداد نعم الله، وسيجد أن لا قدرة له على حصرها وتقصيها ليعلم عند ذلك مدى كفرانه بنعم الله، وجحوده بها من جهة، وواسع رحمة الله ولطفه وعظم تجاوزه عنه ومغفرته من جهة أخرى، قال تعالى: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)) [إبراهيم: 34] وقال عز وجل: ((وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم)) [النحل: 18]، مع أنه ليس للعبد من ذاته في الحقيقة سوى العدم وكل ما فيه وله من خير فهو محض جود الله تعالى وإحسانه.
*عليه التأمل في حال أصحاب الأموال الذين لم يرد الله لهم خيراً، وجعل ما آتاهم من رزق سبب شقاوتهم في الدنيا، فلا هم يهنؤن بعيش ولا يشعرون بطمأنينة واستقرار أو بسكينة وهدوء بال، بل قد يُودي ببعضهم إلى قتل النفس والانتحار، وسبب شقاوة بعضهم في الآخرة حيث قادهم إلى الكفر بالله والجحود، وبالتالي قادهم إلى النار كقارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فطغى وتجبر وجحد وقال إنما أوتيته على علم عندي ، فكانت عاقبته كما قال تعالى: ((فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)) [القصص: 81].
7- العلم بأن الفقر بلاء عام بين الخلق يبلتي به الله تعالى من شاء من عباده الدعاة وغيرهم ولا علاقة لوجوده بالاشتغال بالدعوة إلى الله تعالى والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبالتالي فإن التذرع عن ترك الاشتغال بالدعوة وحمل هم هذا الدين بطلب الرزق والسعي إلى كسب المال خطأ فاحش إذ لا علاقة لهذا العمل الجليل بوجود الفقر ، بل إن الأمر على العكس من ذلك ، فإن القيام بطاعة الله تعالى وتقواه من خلال نشر هذا الدين بين الناس ومحاربة الكفر والبدع والمعاصي في الأمة ، من أعظم أسباب جلب الرزق كما قال تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجاْ * ويرزقه من حيث لا يحتسب)) [الطلاق: 23].(6/62)
مع أن تارك السير في قافلة الدعوة لأجل ذلك أضاف إلى معاناته من الفقر وعدم سلوك الأسباب الجالبة للرزق حرمان نفسه من الأجر والثواب عند الله تعالى وما عنده خير وأبقى وقيامه بتعريضها للعقوبة لعدم قيامه بزكاة العلم الذي آتاه الله إياه ، وتتمثل بنشره بين الناس وتعليمهم إياه.
8- أن يعلم أن الخير له فيما اختاره الله عز وجل ، وأن الفقر قد يكون هو الخير له لأن من عباد الله أناساً من لو أغناهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان والكفر بالرحمن والتجبر على الخلان أشراً منهم وبطراً ، كما قال تعالى: ((ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير)) [الشورى: 27] ، قال العلامة ابن سعدي مفسراً لهذه الآية: ((ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض)) أي لغفلوا عن طاعته وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا ، فأوجبت لهم الانكباب على ما تشتهيه نفوسهم ولو كان معصية وظلماً (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته (إنه بعباده خبير بصير) ، كما في بعض الآثار أن الله تعالى يقول: (إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك...).
9- الحذر من القيام بالتعرض للآخرين للحاجة والتنبه إلى عدم طرق أبواب المسألة ، والعلم بأن ذلك وإن جاز لأناس رخص لهم الشارع بذلك ، فإنه مما لا ينبغي للدعاة سلوكه بحال لأن سبيلهم التعفف والتجمل وعدم إظهار الشكوى والفقر ، بل ستره وكتمانه اتصافاً بقوله تعالى: ((يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)) [البقرة: 273] ، ورجاء تحقيق الامتثال لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله).
10- ليعلم الداعية الذي هذا حاله أن ما سبق بيانه ليست بدعوة إلى ترك العمل ، وتعطيل أسباب تحصيل الرزق ، فإن ذلك في الحقيقة نقص في العقل وجهل بالشرع ومخالفة له ، كما قال تعالى آمراً بالأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها: ((فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)) [الملك: 15].
بل إن تعريض الإنسان نفسه للفقر حتى يضطر إلى الآخرين مع قدرته على الكسب غير اقتراف الإثم له آفات ومفاسد كثيرة منها:
*تعلق القلب بما يقيم أوده ويعيشه وما هو محتاج إليه في هذه الدنيا ، فيبقى في تفكير عميق ومجاهدة شديدة مع نفسه لترك حظه منها وهذا من قلة الفقه وعدم الرشد ، والعاقل في تعامله مع نفسه من يقوم بإعطائها حقها ويطالبها بما عليها ، وهذه هي طريقة وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء والذي صدّقه فيه صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً فاعط كل ذي حق حقه).
وعلى العبد القادر على الكسب أن يستبدل مجاهدته لنفسه في شهوة مباحة مجاهدته لأعداء الله وشرعه من شياطين الجن والإنس ، وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله على بصيرة.
*تطلع النفس إلى ما في أيدي الناس ، وتعريضها للحاجة والسؤال إذا مسته الحاجة إلى المال. ولا شك أن استدامة طلب الرزق الحلال لمن هذه حاله أنفع له من ترك ذلك.
*مع التسليم جدلاً بأن من هذه حالته سيقطع تعلق قلبه بحاجات نفسه ويقوم بمنع نفسه من المسألة، فإنه يخشى عليه أن يداخله من الكبر والعجب والزهو والغرور ما يفسد عليه قلبه ويمرضه إن لم يميته ، وتلك والله القاصمة.
كما أن هذه الأسطر ليست دعوة إلى الإعراض عن نعم الله المتيسرة من الحلال ونبذها وإضاعتها ، لأن تلك النعم في نظر الأخيار عوناً على الإيمان والعمل الصالح ، ولكنها نداء إلى استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب ، والسعي إلى عدم تعلقه بها وحرصه عليها واشتغاله بأجمعه بها حتى يصل إلى مرحلة عدم الفرح بموجود فيها وعدم الأسف على مفقود منها كما قال تعالى: ((لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)) [الحديد: 23].
إنها دعوة إلى أن يربي العبد نفسه على غنى النفس ، وأن يكبح جماحها ويقوم بتهذيبها حتى تصل إلى مرحلة القناعة بأنه لن يفوتها شيء من الرزق قسمه الله تعالى لها في الأزل ، وأن يقوم بتوطينها على الرضا باليسير حتى يصل بها إلى درجة الاستغناء عن الخلق ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس).
11- ومع الدعوة إلى طرق أسباب الرزق الحلال من تجارة وزراعة وصناعة... إلخ ، فإنه لابد من التذكير بأن العبد لا ينبغي له ترك ما بيّنَه الشرع من أمور جالبة للرزق ومنها:
*التقوى كما في قوله تعالى: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجاْ * ويرزقه من حيث لا يحتسب)).
*الاستغفار كما في قوله تعالى: ((فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراْ * يرسل السماء عليكم مدراراْ * ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراْ))
[نوح: 10-12].
*الإنفاق والصدقة كما في قوله تعالى: ((وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين)) [سبأ: 39] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال) ، وقوله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم أنفق ينفق عليك).
*الشكر للنعم وعدم كفرانها كما قال تعالى: ((لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)) [إبراهيم: 7].
*الاستغناء عن الخلق والتعفف عما في أيديهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله).
*صلة الرحم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في عمره فليصل رحمه) .(6/63)
*الدعاء كما قال تعالى: ((وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)) [ غافر: 60] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء).
نداء إلى الأغنياء:
1- لابد للأغنياء من إدراك خطورة الفقر حيث إنه كما قيل قرين الكفر، وأن خطورته تزداد على الدعاة إلى الله عز وجل ، والعلم بأنه من شدة خطورته كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله تعالى بأن يغنيه منه ويستعيذ بالله من فتنته كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) ، وقوله: (اللهم فإني أعوذ بك... ومن شر فتنة الفقر).
ولذا كان لابد لمن يسر الله تعالى عليه من الدعاة وكذلك الموسرين الصالحين أن يتفقدوا حال إخوانهم فإن لهم عليهم حقاً ، وما لم يصل الأمر إلى ذلك فإن الأخوة لن تنعقد في الحقيقة والموجود منها مجرد مخالطة ليس إلا ، لا حقيقة لها في العقل والدين ، وليعلم الموسرون بأن لهم بالأنصار من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة حيث واسوا إخوانهم من المهاجرين وقاسموهم الأموال.
2- وأن يتذكروا أيضاً ما جاء من نصوص في الأمر بالإنفاق وبيان فضله والتحذير من عدمه ، ومن ذلك قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)) [البقرة: 254] ، وقوله سبحانه: ((الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) [البقرة: 262] ، وقوله عز وجل: ((وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [البقرة: 272] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟) ، وفي رواية (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فُلوَه أو فصيله).
ولا شك أن الصدقة على الإخوان أفضل من الصدقة على الفقراء كما قال علي رضي الله عنه (لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إليّ من أن أتصدق مئة درهم على المساكين).
3 -ولا يكفي تفقد الإخوان والإنفاق على المحتاج منهم فحسب ، بل لابد من سلوك أفضل السبل لإيصال ذلك إليهم بما يحفظ لهم ماء وجوههم ويصونهم من الذل والمهانة أمام إخوانهم المنفقين ، وبما يمنع من تسليط الآخرين ألسنتهم الحداد عليهم أو غيبتهم أو سوء الظن بهم ، وبما لا يساعد المعوزين على ترك الحياء أو التشجع على طرق أبواب المسألة والخروج عن هيئة التعفف والاستغناء عن الآخرين .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
...................................................
كاتب المقال: فيصل البعداني.
==============
لماذا تذبل مواهب الدعاة ؟
تواجه الدعوة الإسلامية في عصرنا الحالي حالة من الذبول في المواهب والضمور في القدرات، سواء في نفس الداعية، أو على مستوى الدعوة نفسها، أو في قدرة الدعاة والدعوة على استيعاب ذوي المواهب المتميزة، ودمجهم في صفها، والاستفادة من مواهبهم وتنميتها ووضعها في الطريق الصحيح، والتعامل معها بالأسلوب الأمثل، سواء في الاكتشاف أو التوظيف أو التنمية أو الاستيعاب والتوجيه.
فالمواهب هي منح إلهية ينطبق عليها قوله تعالى: "يزيد في الخلق ما يشاء" يتميز بها بعض الخلق عن بقيتهم، كما أن بعض هذه المواهب أشبه بالبذور القابلة للإنبات في نفوس بعض الناس إذا توافرت لها الظروف المناسبة، وقوبلت بالرعاية المطلوبة، ومن ثم فإن البعض يمتلك مواهب لم يكشف عنها؛ فهي كالمناجم التي لم يهتدِ إليها الباحثون.
نعمة ربانية تحتاج إلى الرعاية :
والموهبة باعتبارها زيادة في الخَلق لا يتمتع بها إلا القليل من الناس، ولها وجهان: أحدهما أنها عطية من الله تعالى، اختص بها بعض خلقه، أما الوجه الآخر فإن وجود العطية الإلهية لا يعني الاستغلال، وإنما تحتاج إلى صقل وجهد حتى تصفو، ويلمع بريقها، وإلا علاها الصدأ وغطاها الغبار؛ فالذهب الخام عند استخراجه من مناجمه لا يذهب بريقه بالأبصار، ولكن صهره وصقله جيدا وتخليصه من الشوائب يحقق له هذا البريق، فالموهبة أداة لتوصيل الفكرة وتدعيم الدعوة، والانطلاق بها من حيز الانفعال الخطابي الوعظي إلى حيز الانفعال الذي يتغلغل في أعماق النفس، ويوجه السلوك اعتمادا على خلق التصورات البعيدة التي لا يقوى على الوصول إليها إلا النادر من الناس.
وإن أخطر ما يواجه المواهب والقدرات في الحقل الدعوي أن تواجَه بنوعين من الأفكار، سماهما الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي: "الأفكار الميتة" التي لا تنتج أفعالا؛ أي الأفكار التي لا تفرق بين الحصى والذهب، و"الأفكار المميتة" التي تنتج أفعالا وتصورات ضد ما يتطلبه الواقع، وتخلق قيما مضادة للقيم الأصيلة، وتضفي هيبة وقداسة على أفكار بالية تفسد أكثر مما تصلح.
النبي صلى الله عليه وسلم راعي المواهب :(6/64)
المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية في بدايتها الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظ اهتماما نبويا بتوظيف المواهب والقدرات في مكانها الصحيح، بعد امتلاك القدرة على استيعابها وامتصاصها إلى محيط الدعوة الرحب وإطارها الفسيح، مهما كان جنوح هذه الموهبة أو شراستها أو حتى تفوقها وتفردها النادر؛ فكان الداعي الأول محمد صلى الله عليه وسلم يضبط توجيه الموهبة مع إضفاء البعد العقدي الإيماني على حركتها؛ حتى يستفيد المجتمع المسلم من موهبته، وليس من وجوده في الإطار الإسلامي فقط، مع إعطاء صاحب الموهبة أبعادا رسالية في إبرازه لموهبته في خدمة الإسلام ونصرته؛ فكانت المواهب تجد متنفسا صحيا لها في ظلال الإسلام، فتنتج إبداعا قل نظيره.
ومن المواهب التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم موهبة الأدب والشعر، وكان الشعر في الجاهلية هو الأداة الأقوى في التأثير على الرأي العام، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة التي تميز بها بعض أصحابه استعمالا كثيرا، فلم يُبقِ شاعرا إلا وقد استخرج كل ما عنده في نصرة الإسلام والرد على خصومه والإشادة بانتصاراته.
ومن هؤلاء حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي عُرف بشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كان يمتلك موهبة نادرة وقريحة حاضرة، تستطيع أن تخرج من أحرج المواقف بأقوى الكلمات.
هذه الموهبة الفذة تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بها، ووظفها في مكانها الصحيح؛ فكانت الموهبة إبداعا؛ ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اهجُ قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل" ، فقال حسان: "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه" (يقصد لسانه)، ثم قال: "والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم"، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله" ، وفي رواية أخرى للبخاري: "اهجهم -أو هاجهم - وجبريل معك".
المواهب تتكامل:
ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة التكامل بين المواهب لنصرة الإسلام، فأمر حسان الشاعر أن يجلس مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه النسابة حتى لا يخلط الشاعر الأنساب في هجائه، فيصيب النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه في شعره، فقال حسان: "والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين".
أما المواهب والقدرات العنيفة والظريفة والماكرة فتعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم بحكمة بالغة، ووظفها في المجال اللائق بها ولم يهدرها، ومن نماذج ذلك: الصحابي عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه الذي كان فتاكا في الجاهلية؛ فأصبح بعد إسلامه رجل المهام الخاصة والعمليات الخطرة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في سرية بمفرده، بل تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من قدرته على النجاة من المواقف المهلكة، وأخبره أنه ما أرسله مع جماعة إلا قُتلوا وعاد هو إليه.
أما الصحابي نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه الذي أسلم أثناء غزوة الخندق وفي ظروف عصيبة على المسلمين، والذي لا شك أنه كان يمتلك دهاء ومكرا قل نظيره، واستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الموهبة في شق التحالف بين اليهود ومشركي مكة، واقترب هذا الرجل بالدهاء من أن يكون جيشا؛ لأن توظيف الموهبة في مكانها الصحيح وتوقيتها المناسب قوة لا يستهان بها.
أما الموهبة الظريفة التي تحمل النبي صلى الله عليه وسلم بعض تجاوزاتها؛ فهي موهبة الصحابي نعيمان رضي الله عنه الذي كان يدخل السرور على نفس النبي صلى الله عليه وسلم بمواقفه الطريفة، والتي وصلت إلى حد بيع أحد الأحرار من المسلمين على أنه عبد، وذبْح جمل وتفريق لحمه، فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ولم ينكر عليه.
الدعوة بين النمو والتكاثر:
إن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى النمو بقدر حاجتها إلى التكاثر، تحتاج أن تبلغ مراحل متقدمة من النضج، وأن تكون مَعْلما في الحياة، وتعلو فوق التيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية المنافسة؛ لأن امتلاك الحق لا يعني بالضرورة امتلاك القدرة على جعله واقعا في الحياة.
وما دمنا نعيش حياة الانفتاح الثقافي والحضاري فإن الدعوة تحتاج إلى ثقافة حضارية شاملة مع امتلاك الوسائل التي يمكن من خلالها توصيل مبادئ الحق والخير على الناس على اختلاف مشاربهم وأفكارهم، وهو ما يفرض على الدعوة الإسلامية أن تكون مجالا رحبا لإفراغ الطاقات واستيعاب المواهب، وأن تمتلك فقه الصعود للمعالي من خلال خطة معرفية ذات أبعاد حضارية.
وإذا كانت الفضائيات والمسرح والفنون والسينما والرياضة.. إلخ قد أصبحت حواس جديدة للبشرية تتلمس بها الأفكار، وتسترشد بها في حياتها؛ فإن الدعاة يحتاجون إلى أن يكون لهم نصيب وافر منها؛ لأن الداعية الذي يمتلك موهبة الكلام والقدرة على التعامل مع وسائل الإعلام يتجاوز تأثيره الحدود، ويخترق بما يمتلكه من الحق والمفاتيح (المواهب) القدرة على وضع هذا الحق في القلوب والسلوك بعد تحطيم هذه الأقفال التي عليها.
لماذا تذبل المواهب؟
إن المواهب والقدرات مثل الجذور الجيدة، تحتاج إلى رعاية وعناية حتى لا تصاب بالضمور والتقزم، وربما تنقلب إلى مواهب ضارة في الحقل الدعوي.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى ذبول المواهب في الدعوة وبين الدعاة:
ليست خطابة فقط :
وجود بعض الأفكار التي تقصر المواهب على الوعظ والخطابة فقط؛ فالموهبة عندهم لا تعدو أن تكون صوتا جهوريا، وقدرة على الانفعال والتأثير.
اجتهادات تحتاج لمراجعات:(6/65)
وجود بعض الأفكار الطاردة للمواهب، استنادا إلى مقولات وأحكام اجتهادية تحتاج إلى مراجعة أو اجتهاد جديد يراعي متطلبات العصر، ومن ذلك الموقف من التمثيل والفنون المختلفة.
مفاهيم تربوية خاطئة :
وجود بعض الرؤى غير المنصفة لذوي المواهب في الحقل الدعوي، وفي التعامل معهم؛ فيرى البعض أن من حسن تربية بعض ذوي المواهب منع موهبته من الظهور، وعدم إعطائه الفرصة للتعبير عنها؛ حتى لا تصيبه أمراض النفوس من حب الشهرة والرياء!!
ويتناسى هؤلاء أن كبت المواهب بهذا الأسلوب هو كالعلاج الخاطئ الذي يصفه الطبيب للمريض؛ فضرره أكثر من نفعه.
الجهل بطبائع النفوس:
عدم إدراك بعض الدعاة لطبيعة النفس البشرية، وحاجتها إلى أن تتلقى الأفكار والتوجيه بغير الأسلوب التقليدي الوعظي، وحاجتها أيضا إلى الترويح والاستمتاع والتعبير عن نفسها وملكاتها من خلال الفنون والرياضة، سواء بالممارسة أو التذوق؛ وهو ما يؤدي إلى عدم وجود مساحات من الدعوة في بعض المناطق للمواهب.
النظرة الخاطئة للداعية :
إصرار الخطاب الثقافي المجتمعي العام على النظر إلى الداعية الإسلامي من خلال تصور جامد؛ فهو عندهم رجل مهيب، في ثياب بيضاء، صوته كالرعد، وكلامه كالجمر، يسوق الناس بصوته ومواعظه الملتهبة نحو الإيمان؛ وهو ما يخلق إطارا إجباريا لحركة الداعية؛ حتى لا يصطدم بتصورات الناس، وربما كبت بعض مواهبه وقصرها على حالة لا تتعداها.
عدم التعهد والرعاية:
قلة رعاية المواهب في الحقل الدعوي وعدم توفير مستلزمات صقل المواهب وتنميتها، من توفير احتياجاتها من أدوات أو تفرغ أو دعم مالي ومعنوي، والنظر إلى تكلفة رعاية الموهبة على أنه إنفاق بلا عائد!!
تطليق المواهب:
وجود بعض الإدراكات غير الصحيحة في أذهان بعض الموهوبين؛ إذ يظن البعض منهم أن دخولهم في حقل الدعوة الإسلامية يفرض عليهم إيقاع طلاق بائن بينهم وبين مواهبهم.
الاحتكار الإعلامي:
هناك بعض العناصر الخارجية التي تعيق نمو المواهب في الحقل الدعوي؛ أهمها إصرار أعداء الدعوة في الداخل والخارج على أن تكون عملية بزوغ المواهب ونموها وفرضها على الجميع احتكارا لهم لا يشاركهم فيها الدعاة المسلمون، ومن ذلك الإصرار على أن يكون التدفق الإعلامي من جانب واحد، وأن يكون المسلمون مستهلكين فقط وليسوا منتجين، وأن تركز الفنون المختلفة على العنف والشهوة، وليس المبادئ والأخلاق والقيم.
واجباتنا تجاه المواهب:
1- ضرورة وجود خطة إستراتيجية لرعاية المواهب، وجذبها إلى صفوف الإسلام، وهذا يتطلب عدم استنزاف الموهبة في مجالات خارج نطاق الموهبة؛ لأن هذا التوظيف الخاطئ يخلق مشكلة ذات وجهين، هما: ضمور الموهبة، وضعف الإنتاج في المجال الدعوي؛ فيصبح الداعية كَلا على دعوته.
2- ضرورة وجود خطة لاكتشاف المواهب والتنقيب عنها بين الصفوف، من خلال ما يسمى بـ"التربية من خلال الورطة"، أو "الاكتشاف من خلال الأزمة"؛ أي وضع بعض الأفراد على محكات مختلفة لاكتشاف المواهب الدفينة، وهذه المحكات المختلفة والمواقف المتعددة تكسر حواجز الحياء غير الحق في نفس الشاب المسلم، وتتيح له الفرص للتعبير عن مكنونات نفسه.
3- ضرورة التعامل في الإطار الدعوي مع بعض أصحاب المواهب من خلال الهدف، وليس من خلال أجندة عمل واجبة التنفيذ؛ لأن أصحاب المواهب قلما يحبون التقيد، ولديهم بعض الشطحات التي تحتاج إلى حكمة في التعامل معها وقبول وجودها، والقارئ لتاريخ العباقرة في الإنسانية يجد ذلك جليا؛ لأن الطاقة الموهوبة تفوق في بعض الأحيان القدرة على كبح جماحها؛ فتصدر بعض الأفعال والتصرفات غير المألوفة التي قد ينظر لها البعض نظرة غير منصفة.
كاتب المقال: الأستاذ مصطفى عاشور.
المصدر: منتدى الرائد للدعاة المتميزين – ناصح .
================
المحنة في حياة الدعوة والداعية
تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام دعوة على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها .. وهذه الخاصة التي يمتاز بها الإسلام، جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضًا للمحن، وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية.
المحنة تربية وتمحيص:
فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام .. وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء. والإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة؛ لسبر غوره وإدراك مداه، فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسرة . أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11) { [سورة العنكبوت] .
صور من محن الأولين :(6/66)
قضت سنة الله .. أن يكون الحق في صراع أبدي مع الباطل:} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19) { [سورة الجن] ... } يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8) {[سورة الصف] . ومنذ ولد الخير ووجد الشر، والصراع عنيف ومخيف بينهما، والحقيقة التي تتكرر باستمرار هي أن الحق دائمًا في انتصار، وأن الباطل دائمًا في انتحار :} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173) {[سورة الصافات].
المحنة في حياة إبراهيم عليه السلام :
لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع، الممتدة عبر القرون .. والتي تؤكد على الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل.
نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي، وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار، والانسياق مع الرأي العام، وصمم إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التصدي للجاهلية.
وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد.. فرد يمتطي صهوة الحق وحيدًا .. ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه .. } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) {[سورة الشعراء].
ويجدر بالداعية أن يقف هنا مليًا، يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتمر به قلب إبراهيم .. إنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار، ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين .
وتشتد المحنة على إبراهيم، ويلقى في النار .. والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله، وهو في حمأة اللهب المستعر:} يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ(70)وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71) {[سورة الأنبياء].
وتمضي قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صورًا شتى من صور الرجولة والبطولة.
المحنة في حياة موسى عليه السلام :
وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام، بل إن المحنة رافقت موسى رضيعًا تتقاذفه الأمواج، وشبت معه فتى يانعًا هاربًا من بطش فرعون .. وزاد حياته محنة على محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.. ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات .. وفي فترة من فترات الضعف البشري يُحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة .. ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد:} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) {[سورة طه] ويخرج موسى من هذه التجارب أصلب عودًا وأشد صمودًا.
المحنة في حياة عيسى عليه السلام :
مما لا ريب فيه أن عيسى عليه السلام كان يتمتع بطاقة ضخمة من الصبر والاحتمال .. ومما زاد في قسوة الظروف التي أحاطت به وبنشأته، أنه واجه في ماضي مولده ألوان الشكوك .. كما واجه في حاضر دعوته ضروب العنت والتمرد .. ويكفي لكي نقدر مدى ما وصل إليه العنف والتمرد أن نعرف أن المعجزات التي بلغت على يدي عيسى حدًا كبيرًا لم يكن لها ذلك الأثر المنتظر في استمالة النفوس وتأليف القلوب.. ولكن عيسى عليه السلام .. كان يؤمن بأنه رسول .. وأن عليه البلاغ المبين. وكان طيب النفس حليمًا .
حاول اليهود أن يخففوا من أثر دعوته وأن يخفوا عن الناس أمره .. ولما أعيت الحيلة أهل الباطل .. ائتمروا به ليقتلوه .. أما عيسى روح الله .. فقد كانت عين الله تحرسه وترعاه .. فلما همّ القوم بما دفعهم إليه حقدهم الأسود..
وقع تحت أيديهم رجل شديد الشبه به، فقتلوه وهم يحسبون أنهم قتلوا عيسى:} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158) {[سورة النساء].
محنة الإسلام في عهد النبوة :
كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم .. ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء .. هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها. وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.(6/67)
حرب الأعصاب : تفنن أهل الجاهلية في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية، فعمدوا أولاً: إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على روحه المعنوية العالية، وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ...(93) {[سورة الإسراء].
وعندما فشلت هذه الأساليب الرخيصة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله، وبثوها في كل الأوساط؛ ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله:} وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) {[سورة إبراهيم]. وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا صلابة وتصميمًا ..
تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال : ولما يئسوا من الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات .. لجأوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام..
ويجتمع سادة قريش يومًا في (الحجر) ويذكرون محمدًا وتحديه السافر لمقدساتهم .. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ - فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز- فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ]رواه أحمد. يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. لقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه .. وأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كادوا يجهزون عليه .. فانبرى يدافع عنه ويقول:"أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ".. ولما أوقع في أيدي المشركين، وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة. ولما وضعوا خطتهم، وحزبوا أمرهم؛ كشف الله مكرهم ورد كيدهم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30) {[سورة الأنفال].
المحنة في حياة الصحابة :
وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لأبشع صنوف الإيذاء والتعذيب، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع: النساء والرجال، الصغار والكبار، العبيد والأحرار.
محنة بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزى، وكان بلال رضي الله عنه يردد:"أَحَدٌ أَحَدٌ".
محنة آل ياسر : وكان بنو مخزوم يخرجون "آل ياسر" جميعًا يعذبونهم برمضاء مكة. أما ياسر- الأب- فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية – الأم- فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .. } وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) {[سورة آل عمران].
نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة :
لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ويكفي أن نختار منهم:خبيب بن عدي؛ لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء: اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى عضل والقارة؛ ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه لحجر بن أبي إهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى.(6/68)
وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم:" إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا " قالوا: دونك فاركع .. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم، فقال:" أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من الموت لاستكثرت من الصلاة". وعندما رُفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك. فقال:" لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا.. إن قتلي في الله لقليل .. اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت السلام".. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة ثم قال:[هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ الَسَلَامَ] رواه الطبراني في معجمه الكبير-بنحوه-.
واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين، بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر. فقال خبيب:" اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك .. فأبلغه الغداة ما يُصنع بنا".
وعندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة وقال:" الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين".. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لايفتر يردد:"لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى .
المحنة في عصر التابعين :
ويأتي عصر التابعين .. ويطالعنا التاريخ بألوان شتى من محن الإسلام .. ففي هذه المرحلة تتكاتف لهدم الإسلام معاول الأبناء والأعداء، ففي عام 75 هـ يتولى الحجاج بن يوسف الحكم في العراق. ويشهد هذا البلد الإسلامي في عهده أيامًا سوداء . ومن سنة الله في خلقه أنه يهيء للطغاة رجالاً لا يهابون الطغيان .. يصنعهم على عينه . ويهبهم الجرأة فيه، وكان سعيد بن جبير أحد هؤلاء الذين خلصوا من حظ أنفسهم..
وعندما صمم الحجاج على قتله والخلاص منه أرسل جنودًا بطلبه فجاءوا به، وأدخلوه عليه، ثم ذبحوه على النطع ـ رحمه الله ـ، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ثم مات .
المحنة بين الأمس واليوم :
هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ، إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة .. تتغير فيها الأزمان، والأشخاص وتبقى الحقيقة هي هي .. إنه استعلاء الإيمان في كل زمان .. واعتزاز الحق في كل عصر.
أصحاب العقيدة يدفعون الثمن : وتشتد المحنة في حياة الدعوة .. وتئول قيادة الأمة إلى حكام طغاة، يسومون المؤمنين سوء العذاب .. وحق على دعوة الإسلام أن تدفع الثمن . وتدفعه بسخاء: دماء وضحايا وشهداء .
كيف نواجه المحن ؟
إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط ينبغي أن:
تنطلق على هدي: فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تميد بها العواطف والطفرات.
مدعوة لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله: بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها .
أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام .
إن الحركة الإسلامية مدعوة: لتضع في تقديرها وحسابها في مجالات التربية والتكوين ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها؛ فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح .. وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض ويعودهم حياة الدعة والخنوع .
كاتب المقال: الأستاذ فتحي يكن
============
حكم الإنكار في مسائل الاجتهاد
تمهيد:
جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات صفيه من خلقه صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه حيث قال : ((الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباْ عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر))[الأعراف:157]، وهذا الوصف أيضاً من أخص أوصاف من اصطفاهم من سائر البشر ليكونوا أتباعه ورسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله)) [التوبة:71] وبين جل جلاله أوصاف المؤمنين: ((التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر))[التوبة:112] وجعل الله تعالى مناط خيرية أمتنا الإسلامية بهذا الوصف ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)) [آل عمران: 110].
وهذا الوصف له آداب وضوابط يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر معرفتها والالتزام بها، من هذه الآداب مسألة هامة وهي : حكم الإنكار في مسائل الاجتهاد :
أهمية هذه المسألة:
الكلام في هذه المسألة يعتبر من أهم ما ينبغي معرفته في هذا الباب، وذلك لسببين رئيسين:
الأول منهما: كثرة وقوع اللبس والخلط في هذا الجانب.. فإن الكثيرين ممن يتكلمون عن هذه المسألة يعبرون عنها بـ »الإنكار في مسائل الخلاف« فيطلقون القول بـ »عدم الإنكار في مسائل الخلاف«.
ولو جعلنا عبارتهم هذه قاعدة وأردنا تطبيقها لتعطل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تماماً.. لأن الخلاف واقع في أصول الدين وفروعه في القديم والحديث، فما هو الضابط في ذلك؟ الحق كما قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً .. إلا خلاف له حظ من النظر
السبب الثاني: هو استغلال كثير من أهل التلبيس والتدليس والخلط، ذكر بعض أهل العلم مثل هذه العبارة في كتبهم..!! فأصبحت مُعَوّلاً لأولئك لتثبيت جذور التمييع لمسائل الشريعة العلمية والعملية..!(6/69)
وإن من عادة أهل البدع إطلاق العبارات المجملة .. والموهومة، ليصلوا منها إلى معان باطلة!! والحق في خلاف مسلكهم هذا.. قال ابن القيم -رحمه الله- في نونيته:
فعليك بالتفصيل والتمييز فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأذهان والآراء كل زمان
وقال:
فعليك بالتفصيل إن هم أطلقوا أو أجملوا فعليك بالتبيان
وقد علمت مما سبق أنه لا يحكم على الشيء أو الفعل بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع المسلمين.. وعليه فإنه إذا وُجد النص فلا عبرة بخلاف المخالف كائناً من كان..!
فالقول بأن (مثل هذا من المختلف فيه الذي لا ينكر) قول باطل.. وإنما العبارة الصحيحة (لا إنكار في مسائل الاجتهاد).
فإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي لم يرد فيها دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، أو وقع عليها الإجماع.. أو كانت مما تضاربت فيها الأدلة - ظاهراً - في نظر المجتهد أو خفي المأخذ، أو غير ذلك من الأمور المعروفة، فهذا مسلم، وبه تعلم أن هناك فرقاً بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد، فالأولى أعم من الثانية كما هو ظاهر.
والحاصل أنه كلما قوى الخلاف كلما كان العذر أقرب.. والعكس يقال في حال ضعفه.
جاء في نصاب الاحتساب: (.. ومن لم يستر الركبة ينكر عليه برفق لأن في كونها عورة اختلافاً مشهوراً، ومن لم يستر الفخذ يعنف عليه ويضرب لأن في كونه عورة خلافاً عند بعض أهل الحديث).
ومما يُستدل به على بطلان القول بعدم الإنكار في مسائل الخلاف: إنكار الصحابة ومن بعدهم على المخالف للسنة الثابتة كائناً من كان، والأمة مأمورة بإتباع نبيها-صلى الله عليه وسلم- وكل من أتى بما يخالف هديه الثابت وسنته فهو مخطئ قطعاً وينكر عليه.
وقد أنكر الصحابة على من منع من التمتع بالعمرة، وعلى من أتم في السفر، وعلى من حرق الغالية بالنار، علماً بأن القائلين بهذه الأقوال آنفة الذكر هم من أفاضل الأمة وخيارها بعد نبيها-صلى الله عليه وسلم-، ولا يدانيهم من كان بعدهم لا في علم ولا في تُقىً..!!
وإن مما ينبغي أن يُعلم أنه ليس كل مجتهد مصيب، وإنما المصيب واحد لأن الحق لا يتعدد، وإن كان المجتهد المخطئ مأموراً بالعمل بما وصل إليه اجتهاده حتى يتبين له خطؤه، وهو مأجور أجراً واحداً في حال الخطأ، وله أجران في حال الإصابة.
وكثير ممن غلط في مسألتنا تلك إنما دخل عليه اللبس بسبب عدم وضوح هذه المسألة الأخيرة..!!
ونحن في هذا المقام أردنا الإشارة إلى هذه النقطة للتنبيه عليها دون الخوض في تفاصيلها، لأن هذا محله كتب الأصول.. وقد أطنب في شرحها وبيانها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فراجعه إن شئت.
وبهذا تكون قد عرفت أن الصواب إنما هو القول بعدم الإنكار في مسائل الاجتهاد.. وضابط هذا ما تقدم.. وأنه لا التفات إلى الخلاف الشاذ، كما أن مثله لا يجعلها مسائل اجتهاد، والواجب في مثل هذه الأمور الاجتهادية لزوم المناصحة والبيان من قبل من تبين له وجه الحق في شيء من تلك المسائل.
وقفات:
الوقفة الأولى: هذا الكلام يقال في حق المجتهد أو المتأول الذي له فيما ذهب إليه تعلق بالنصوص الشرعية، أما المقلد فلا، لأنه ينكر عليه، وقد نقل ابن مفلح رحمه الله رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- تدل على أنه لا ينكر على المجتهد بل على المقلد، قال إسحاق بن إبراهيم: عن الإمام أحمد أنه سُئل عن الصلاة في جلود الثعالب. قال: ( إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى..) .
الوقفة الثانية: لا يتنافى عدم الإنكار على المخالف في مثل هذه المسائل مع دراستها ومناقشتها بين أهل العلم، ليعرف كل منهم مأخذ الآخر ليهتدي الجميع للوصول إلى الحق، شريطة أن لا يؤدي هذا إلى فتنة أو مفسدة كبيرة، وبشرط أن لا يكون التشاغل بها على حساب ما هو أهم منها.
الوقفة الثالثة: يندب المخاطب إلى العمل بالأحوط والخروج من الخلاف في هذه المسائل جرياً على وفق القواعد الشرعية.
الوقفة الرابعة: تجنب الخلاف والحرص على تفاديه قدر الاستطاعة، مع التماس الأعذار للمخالفين، بالإضافة إلى عدم جعل هذه الخلافات الاجتهادية مجالاً للتفرق والانقسام واستباحة الأعراض.
الوقفة الخامسة: ينبغي حسن المحاورة والمناظرة في هذه المسائل وغيرها، مع التجرد للحق متى ظهر دليله، وترك المراء والجدال العقيم والمخاصمة.
وقد قرر ابن القيم -رحمه الله- مسألتنا هذه أحسن تقرير في كتابه العظيم( إعلام الموقعين) فقال: (وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه »لا إنكار في المسائل المختلف فيها« والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا كان خالف كتاباً أو سنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء!
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.(6/70)
والصواب ما عليه الأئمة: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل بها وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها - إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به - الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: »إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد« طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار..«.
==============
فقه الدعوة إلى الله
فضيلة الشيخ الدكتور خالد القريشي (الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعودالإسلامية).
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فحديث هذه المقالة هو ما رواه الإمامان البخاري ومسلم – رحمهما الله - عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رسول الله كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
وفي رواية أخرى للبخاري: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ قَالَ: (كُلُّ ذاكَ يَأْتِينِي الْمَلَكُ أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ وَيَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ أَحْيَانًا رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُول).
وهذا الحديث فيه من الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى شرح وبيان ما يأتي:
لفظة(صلصلة) وهي: صوت الأشياء الصلبة إذا وقع بعضها على بعض، وقيل هو الصوت المتدارك الذي لا يفهم أول وهلة.
ولفظة (الجرس)وهي: الجلجل الذي يعلق في رأس الدواب، أو صطل في داخله قطعة نحاس معلق منكوساً.
و أما جملة (فيفصم عني):أي يُقلع.
وجملة (ليتفصد عرقاً)أي جرى عرقه كما يجري الدم من الفصاد.
أخي القارئ: ومن هذا الحديث نخرج بمجموعة من الفوائد والدروس الدعوية، نلخصها في الآتي:
أولاً: اهتمام السلف الصالح بتعليم أقاربهم وأهل بيتهم:
لقد كان سلفنا الصالح مثالاً عظيماً في الدعوة إلى الله تعالى، ونشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس وخاصة بين أقاربهم وأهل بيتهم، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تحدث بهذا الحديث وغيره لابن أختها عروة بن الزبير رضي الله عنهما، فقد كان ملازماً لها، يقول الإمام الذهبي - رحمه الله -: (حدث - عروة بن الزبير - عن خالته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولازمها وتفقه بها).
و أيضاً نجد في هذا الحديث أن عروة –رحمه الله– وعى هذا الدرس جيداً، وهو الاهتمام بالأقارب والأهل بالدعوة والتعليم، فحرص على تعليم ابنه هشام -رحمه الله- هذا الحديث.
لذا ننبه كل مسلم إلى الاهتمام والعناية بالأهل والأقارب في الدعوة والتعليم، فالله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام : {وأنذر عشيرتك الأقربين}. الذين هم أقرب الناس إليك، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس.
كما إذا أُمِرَ الإنسان بعموم الإحسان، ثم قيل له: أحسن إلى قرابتك. فيكون هذا الخصوص، دالاً على التأكيد، وزيادة الحث.
فامتثل صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الإلهي، فدعا سائر بطون قريش، فعمم وخصص، وذكرهم ووعظهم، ولم يُبقِ عليه الصلاة والسلام من مقدوره شيئاً من نصحهم و هدايتهم، إلا فعله، فاهتدى من اهتدى، وأعرض من أعرض.
الأمر الثاني الذي نستفيده من هذا الحديث:
أهمية أسلوب السؤال والجواب في تحصيل العلم ونشره:
يقول العلامة العيني - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (فيه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألونه عن كثير من المعاني وكان عليه الصلاة والسلام يجمعهم ويعلمهم، وكانت طائفة تسأل وأخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى أكمل الله تعالى دينه) أهـ.
و من هنا يظهر أهمية هذا الأسلوب في الكشف عن كثير من المعاني والعلوم وذلك عن طريق تسليط الضوء عليها بالسؤال عنها.
و من السؤال للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نخرج بفوائد تتعلق بهذا الأسلوب، منها:
أولاً - أنه ينبغي للداعية إجابة من سأله عن أمر من أمور الدين.
ثانياً - جواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره مما يخفى.
ثالثاً - أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين.(6/71)
رابعاً - أن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل وذلك يستفاد من قوله : (أَحْيَانًا فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ).
الفائدة الثالثة التي نستفيدها من هذا الحديث:
أسلوب ضرب المثل لتقريب المعاني و إيصالها للذهن:
لقد ضرب الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام الأمثال للناس، وذلك لما للمثل في الكلام من مكانة هامة ووظيفة لا تنكر، إذ أنه له تأثير عجيب في الآذان، وتقرير غريب لمعانيها في الأذهان.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- عن ضرب الأمثال إنها: (لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به، فقد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير. ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق، أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد، ومزكية له، فهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته) أ هـ.
وفي هذا الحديث يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب، الذي قال عنه العلامة الكرماني –رحمه الله-: (إنه عليه الصلاة والسلام كان معتنياً بالبلاغة مكاشفاً بالعلوم الغيبية وكان يوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا بما شاهدوه ما لم يشاهدوه، فلما سأله الصحابي رضي الله عنه عن كيفية الوحي، وكان ذلك من المسائل العويصة ضرب لها في الشاهد مثلاً بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء تنبيهاً على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلوب، ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك، فإذا كشف عنه وجد القول المنزل بيناً فيُلقى في الروع واقعاً موقع المسموع وهذا معنى قوله: - فيفصم عني وقد وعيت .. - ) أهـ.
الرابع من الفقه الدعوي الذي نستفيده من هذا الحديث:
ضرورة تحلي الداعية بالصبر:
إن الصبر من أعظم صفات الداعية التي لا يستغني عنها في دعوته للناس واختلاطه بهم، فهو لابد أن يلاقي من بعضهم الصدود والإعراض، إن لم يلاق الأذى والعذاب والاضطهاد، فبالصبر يمضي في دعوته ولا يبالي بما يلاقيه في سبيلها من مشقة وصعاب.
يقول الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (وجملة الأمر فيما كان يناله من الكرب عند نزول الوحي هي شدة الامتحان له ليبلو صبره ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة، وحسن الاضطلاع للنهوض به إن شاء الله تعالى) أهـ.
فالداعية العالم - وريث الأنبياء في أخلاقهم وعلمهم ودعوتهم - لزاماً عليه أن يتحلى بالصبر ويتخلق به لكي تنجح دعوته، وتسير في مواجهة الصعاب والأعباء التي لا بد أن تلاقي كل من سار في هذا الطريق ومشى فيه.
الخامس من الفقه الدعوي في هذا الحديث:
أهمية كون الداعية من جنس المدعوين ويشابهم في اللغة واللباس وغيرها من الأمور:
إن مما يساعد على تقبل المدعوين للداعية، والأنس به، وما يأتي به، أن يكون منهم، ويتكلم بلغتهم، ويلبس لباسهم، ويمارس عاداتهم - بشرط أن لا تخالف أيٌّ من هذه الأمور الشريعةَ، يقول الله تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليُبيِّن لهم}.
وفي هذا الحديث ما يدل على أهمية هذا الأمر، حيث يقول الإمام الكرماني -رحمه الله- عن أنواع الوحي في هذا الحديث : ( النوع الأول أشد عليه من النوع الثاني، وذلك لأن الفهم من كلام مثل صلصلة الجرس أشكل من الفهم من كلام الرجل المتكلم على الطريقة المعهودة عند التخاطب، أو لأن سنة الله تعالى لما جرت من أنه لابد من مناسبة بين القائل والسامع حتى يصح بينهما التحاور والتعليم والتعلم، فتلك المناسبة إما باتصاف السامع بوصف القائل لغلبة الروحانية عليه، وهو النوع الأول، أو باتصاف القائل بوصف السامع، وهو النوع الثاني، والدليل عليه تمثله رجلاً كما أن الدليل على الأول كونه قسيماً له، ثم لاشك أن الأول أشد، وقد تبين وجه الحصر فيهما من هذا التقدير ) أهـ .
لذا ينبغي للمسؤولين عن الدعوة وإعداد الدعاة، أن يهتموا بكون الدعاة من أهل البلاد التي تكون فيها الدعوة،حتى لا ينفروا منهم، ويبتعدوا عنهم، أو على أقل تقدير لا يأنسوا بهم مما يُضعف نتائج الدعوة المرجوة فيهم.
السادس من الفقه الدعوي في هذا الحديث :
أهمية تفريغ المدعو من الشواغل قبل البدء بدعوته:
يقول الإمام النووي - رحمه الله تعالى- عند شرحه لهذا الحديث: (قال العلماء: والحكمة في ذلك -أي شدة الوحي وقوة صوته- أن يتفرغ سمعه صلى الله عله وسلم ولا يبقى فيه، ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك) أهـ .
فمن هنا ينبغي التأكيد على أهمية احتياط الداعية بتنبيه المدعوين وإحضار قلوبهم وصرف الشواغل عنها، وذلك يكون برفع الصوت، أو إسكات الناس، أو صرف الشواغل الأخرى – كزخرفة المساجد وغيره من الشواغل - فإن هذا الأمر مما يساعد الداعية بشكل كبير على التأثير في المدعوين، وإيصال الرسالة إليهم.
السابع من الفقه الدعوي في هذا الحديث :-
هو اهتمام أم المؤمنين عائشة بملاحظة أحوال النبي وبيانها للأمة:(6/72)
فإنه يظهر من خلال هذا الحديث مكانة أمِّ المؤمنين عائشة َرضي الله عنها - في ملاحظتها لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثَمَّ نَقلُ هذه الأحوال والعلوم إلى الأمة - إذ تقول في هذا الحديث : ( وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ) .
هذا وقد روت عائشة رضي الله عنها، أحاديث كثيرة حتى عُدت من المكثرين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،وذلك كله منها طلباً للفائدة منه، ولتسير على هديه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لتُفيد الآخرين وتفوز بشرف الدعوة لهذا الدين.
فما أحرى وأجدى بالنساء المسلمات إلى أن يقتدين بهذه السيدة الجليلة في الاهتمام بالدعوة والتعليم ، وأن يشغلن أوقاتهن بما ينفع في الدنيا والآخرة، وأن يصبحن شموعاً تضيء البيوت، وكل مكان يحللن فيه .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
كاتب المقال: فضيلة الشيخ الدكتور خالد القريشي .
المصدر: شبكة الدعوة الإسلامية.
===============
إحدى عشرة وسيلة للتأثير على القلوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ثم أما بعد:
فهذه وقفة مع حكاية الله _عز وجل_ طرفاً مما دار بين يوسف _عليه السلام_ وبين صاحبي السجن، أخبر الله _تعالى _ عن يوسف عندما سأله صاحباه تأويل الرؤية أنه قال للسجينين: "لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا"(يوسف: من الآية37) من المفسرين من ذكر أن يوسف يقول للسجينين: لا يأتيكما طعام إلا أخبركما بنوع الطعام الذي سيأتي كما قال عيسى _عليه السلام_: "وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" (آل عمران: من الآية49) والقول الآخر: إن يوسف يقول لهما بلسان الحال سأعبّر لكم الرؤيا، ولكن ليس الآن، سأؤخرها إلى وقت حضور الطعام، وهم يعرفون متى يحضر الطعام، فقوله: "إلاّ نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما"، معناه: سأنبئكم قبل حضور الطعام، أي لن أؤخر تعبير الرؤيا تأخيراً كثيراً، ولكن عندي موضوع أهم وهو الدعوة إلى الله _جل وعلا_، وهذا هو المعنى الراجح والمعنى الأقوى .. ثم بدأ في دعوتهم إلى الله _جل وعلا_ فلما انتهى من بيان الدعوة قال لهما: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً" (يوسف: من الآية41).
وهذا الأسلوب من يوسف _عليه السلام_ من باب التشويق؛ لأنه لو أخبرهما بتعبير الرؤيا قبل أن يدعوهما إلى الله لانشغل كل واحد منهما بتعبير رؤيته، فالذي قيل له: إنه سيخرج وسيسقي ربه خمراً سينشغل باله بالخروج والاستعداد له، والذي قيل له: ستصلب سينشغل باله بالقتل ومآله، فإذا حدّثهما عن الدعوة لم يكونا قد هيِّئا لهذا الأمر، فقال لهما: سأؤجل تعبير الرؤيا؛ لأنه يعلم ماذا في الرؤيا، وبدأ يدعوهما والذهن صافٍ وبعيد عن الشواغل
وهذا أسلوب رائع من يوسف _عليه السلام_ وفيه دروس أهمها:
أن الداعية لا يحول بينه وبين تبليغ دعوته أي شيء ما دام على قيد الحياة، العالم الصادق لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يمنعه من تبليغ دعوته ما دامت عينه تطرف وقلبه ينبض ولسانه معه، وهكذا كان يوسف، فمع أنه سُجن غير أنه لم يترك الدعوة إلى الله _جل وعلا_ بل تستطيع إذا ابتليت –وأسأل الله أن يعفيك- أن تدعو إلى الله ولو مع السجان حتى لو حيل بينك وبين الناس وعزلت وحدك، فلا بد أن يأتيك السجان عند أكلك وشربك فتستطيع أن تدعوه.
والدعوة في السجن لها أساليب ووسائل عدة فقد لا تكون بالكلام بل بالخلق وبالمعاملة، فمن عامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، اطرد في حياته، وكان لفعله وقوله تأثير، وهناك خلل يقع فيه البعض حيث تتناقض أخلاقه تبعاً لأخلاق الناس، فلو لم يكن مع المسجون إلا أن يتعامل مع السجان بالخلق الصحيح لكان دعوة له كيف إذا أتيحت له الفرصة في الكلام معه ووعظه.
إن الوسائل تختلف، وكذلك الأساليب تتنوع وبعض الأساليب والوسائل أقوى من بعض حتى في السجن فلا عذر لأحد.
وإذا كان الأمر كذلك فما هو عذر هؤلاء الذين لا يبلغون رسالة الله وهم في بيوتهم ومع أهلهم ومع أزواجهم بحجج واهية هم يعرفون عدم صدقها أكثر من غيرهم "بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ" (القيامة:15).
في صحيح البخاري أن شاباً جاء يعود عمر _رضي الله عنه_ في مرض موته بعد أن طعن، فأثنى عليه خيراً ثم انصرف، فلما أدبر رأى عمر إزاره يمس الأرض، فقال: ردوه علي، ثم قال له: ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
فانظر إلى الخليفة الراشد _رضوان الله عليه_ على أي حال وفي أي وقت يحرص على الدعوة؟ وفي مسألة قد يراها بعض من ينتسب إلى الطيبين اليوم ثانوية!!
أخا الإسلام إن الناس لن يحاسبوك ولكن سيحاسبك الله _جل وعلا_ وهو يعلم هل أنت معذور أو لا فإذا كان يوسف وهو في السجن يبلغ رسالة ربه ومثله فعل عدد من العلماء والمصلحين على مدار التاريخ، فما هي حجتك؟ لماذا لم تُقِم الدعوة بين أهلك وبنيك وأمك وأبيك وأختك وأخيك؟ إن الأقربين أولى بالمعروف.
إننا لم نسمع بنبي جاء بدعوة التوحيد فهيئ له قومه اللاقطات والمنابر وحشدوا له الجموع والطلاب من أجل الاستفادة من علمه بل قال الله _تعالى_: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون".(6/73)
إن الصادق يبلّغ رسالات ربه على أي حال، وفي أي وضع في السجن وفي خارج السجن، بالعبارة المسموعة وبالمقالة المقروءة وبالإشارة المرئية، بل بالسكوت حيث يحسن السكوت وبالمعاملة الطيبة، ولن يملك مخلوق أن يحجر على الناس الدعوة إلاّ في نطاق ضيق مخصوص، فالعاقل من نظر ببصره إلى ميادين الدعوة الأخرى الرحيبة الفسيحة، وأعمل فكره كيف يبلغ رسالات الله فيها واضعاً نصب عينيه قول الله _تعالى_: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين".
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته ومن اتبع أثرهم إلى يوم الدين.
كاتب المقال: إبراهيم بن عبدالله الدويش
المصدر: موقع طريق الإسلام
=============
الدعوة ميدان واسع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ثم أما بعد:
فهذه وقفة مع حكاية الله _عز وجل_ طرفاً مما دار بين يوسف _عليه السلام_ وبين صاحبي السجن، أخبر الله _تعالى _ عن يوسف عندما سأله صاحباه تأويل الرؤية أنه قال للسجينين: "لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا"(يوسف: من الآية37) من المفسرين من ذكر أن يوسف يقول للسجينين: لا يأتيكما طعام إلا أخبركما بنوع الطعام الذي سيأتي كما قال عيسى _عليه السلام_: "وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" (آل عمران: من الآية49) والقول الآخر: إن يوسف يقول لهما بلسان الحال سأعبّر لكم الرؤيا، ولكن ليس الآن، سأؤخرها إلى وقت حضور الطعام، وهم يعرفون متى يحضر الطعام، فقوله: "إلاّ نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما"، معناه: سأنبئكم قبل حضور الطعام، أي لن أؤخر تعبير الرؤيا تأخيراً كثيراً، ولكن عندي موضوع أهم وهو الدعوة إلى الله _جل وعلا_، وهذا هو المعنى الراجح والمعنى الأقوى .. ثم بدأ في دعوتهم إلى الله _جل وعلا_ فلما انتهى من بيان الدعوة قال لهما: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً" (يوسف: من الآية41).
وهذا الأسلوب من يوسف _عليه السلام_ من باب التشويق؛ لأنه لو أخبرهما بتعبير الرؤيا قبل أن يدعوهما إلى الله لانشغل كل واحد منهما بتعبير رؤيته، فالذي قيل له: إنه سيخرج وسيسقي ربه خمراً سينشغل باله بالخروج والاستعداد له، والذي قيل له: ستصلب سينشغل باله بالقتل ومآله، فإذا حدّثهما عن الدعوة لم يكونا قد هيِّئا لهذا الأمر، فقال لهما: سأؤجل تعبير الرؤيا؛ لأنه يعلم ماذا في الرؤيا، وبدأ يدعوهما والذهن صافٍ وبعيد عن الشواغل، وهذا أسلوب رائع من يوسف _عليه السلام_ وفيه دروس أهمها:
أن الداعية لا يحول بينه وبين تبليغ دعوته أي شيء ما دام على قيد الحياة، العالم الصادق لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يمنعه من تبليغ دعوته ما دامت عينه تطرف وقلبه ينبض ولسانه معه، وهكذا كان يوسف، فمع أنه سُجن غير أنه لم يترك الدعوة إلى الله _جل وعلا_ بل تستطيع إذا ابتليت –وأسأل الله أن يعفيك- أن تدعو إلى الله ولو مع السجان حتى لو حيل بينك وبين الناس وعزلت وحدك، فلا بد أن يأتيك السجان عند أكلك وشربك فتستطيع أن تدعوه.
والدعوة في السجن لها أساليب ووسائل عدة فقد لا تكون بالكلام بل بالخلق وبالمعاملة، فمن عامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، اطرد في حياته، وكان لفعله وقوله تأثير، وهناك خلل يقع فيه البعض حيث تتناقض أخلاقه تبعاً لأخلاق الناس، فلو لم يكن مع المسجون إلا أن يتعامل مع السجان بالخلق الصحيح لكان دعوة له كيف إذا أتيحت له الفرصة في الكلام معه ووعظه.
إن الوسائل تختلف، وكذلك الأساليب تتنوع وبعض الأساليب والوسائل أقوى من بعض حتى في السجن فلا عذر لأحد.
وإذا كان الأمر كذلك فما هو عذر هؤلاء الذين لا يبلغون رسالة الله وهم في بيوتهم ومع أهلهم ومع أزواجهم بحجج واهية هم يعرفون عدم صدقها أكثر من غيرهم "بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ" (القيامة:15).
في صحيح البخاري أن شاباً جاء يعود عمر _رضي الله عنه_ في مرض موته بعد أن طعن، فأثنى عليه خيراً ثم انصرف، فلما أدبر رأى عمر إزاره يمس الأرض، فقال: ردوه علي، ثم قال له: ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
فانظر إلى الخليفة الراشد _رضوان الله عليه_ على أي حال وفي أي وقت يحرص على الدعوة؟ وفي مسألة قد يراها بعض من ينتسب إلى الطيبين اليوم ثانوية!!
أخا الإسلام إن الناس لن يحاسبوك ولكن سيحاسبك الله _جل وعلا_ وهو يعلم هل أنت معذور أو لا فإذا كان يوسف وهو في السجن يبلغ رسالة ربه ومثله فعل عدد من العلماء والمصلحين على مدار التاريخ، فما هي حجتك؟ لماذا لم تُقِم الدعوة بين أهلك وبنيك وأمك وأبيك وأختك وأخيك؟ إن الأقربين أولى بالمعروف.
إننا لم نسمع بنبي جاء بدعوة التوحيد فهيئ له قومه اللاقطات والمنابر وحشدوا له الجموع والطلاب من أجل الاستفادة من علمه بل قال الله _تعالى_: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون".(6/74)
إن الصادق يبلّغ رسالات ربه على أي حال، وفي أي وضع في السجن وفي خارج السجن، بالعبارة المسموعة وبالمقالة المقروءة وبالإشارة المرئية، بل بالسكوت حيث يحسن السكوت وبالمعاملة الطيبة، ولن يملك مخلوق أن يحجر على الناس الدعوة إلاّ في نطاق ضيق مخصوص، فالعاقل من نظر ببصره إلى ميادين الدعوة الأخرى الرحيبة الفسيحة، وأعمل فكره كيف يبلغ رسالات الله فيها واضعاً نصب عينيه قول الله _تعالى_: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين".
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته ومن اتبع أثرهم إلى يوم الدين.
كاتب المقال: أ.د. ناصر بن سليمان العمر
المصدر: موقع أنا المسلم
=============
ادع إلى سبيل ربك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. و بعد:
رأيت رجلا فلبيني الجنسية، كان قسيسا ومنصرا، ومن? الله – عز وجل – عليه بالهداية! فيا ترى كيف عمل بعد أن شرح الله صدره للإسلام؟ بدأ يدعو بني جلدته حتى أسلم على يديه أربعة آلاف شخص! وذلك خلال سنوات معدودة! يا ترى كم من شخص سوف يسلم على يد أربعة الآلاف هؤلاء الآن، ويتدرج الخير إلى يوم القيامة! فهنيئا له.
قال صلى الله عليه وسلم: « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » [ رواه مسلم ] قال النووي – رحمه الله - : "دل بالقول، واللسان، والإشارة، والكتابة".
أخي المسلم: الدعوة إلى الله – عز وجل – من أجل? الطاعات وأعظم القربات، وتحتاج من الجميع إلى التفاني والإخلاص والجد والمثابرة لتبليغ هذا الدين والدفاع عنه والذب عن حياضه: { يا أيها المدثر . قم فأنذر } [ المدثر: ? ?] وإذا لم نقم نحن – أبناء الإسلام – بهذا الدين فيا ترى من سيقوم به؟!
لقد أكرمك الله – عز وجل – بنعمة الإسلام، ويسر لك الأمور وسهل لك الطريق حتى تسلك أعظم طريق، قال ابن القيم: "فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم".
أخي المسلم: من قدم كتابا فهو داعية، ومن أهدى شريطا فهو داعية، ومن علم جاهلا فهو داعية، ومن دل على خير فهو داعية، ومن ألقى كلمة فهو داعية... أبواب واسعة وطريق سهلة ميسرة، فلله الحمد والمنة
وكلما فترت الهمة وانتابك الضعف تذكر الأجور والثمرات العظيمة، لمن قام بأمر الدعوة إلى الله، ومنها:
أولا: متابعة الأنبياء والاقتداء بهم: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف:108].
قال الفراء: " حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة".
ثانيا: المسارعة إلى الخيرات والرغبة في نيل الأجور حيث أثني الله – عز وجل- على أهل الدعوة: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } [فصلت:33 ].
قال الشوكاني: " فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقه، ولا أكثر ثوابا من عمله".
ثالثا: السعي لنيل الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة مع العمل القليل، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » [ رواه مسلم ]، فإذا دللت رجلا على الإسلام كان لك مثل أجر إسلامه وعمله وصلاته وصيامه ولا ينقص ذلك من أجره شيئا، وإن دللت رجلا على الحج فلك مثل أجر حجه، وهذا باب عظيم واسع يدخله من وفقه الله – عز وجل -.
رابعا: التسديد والتوفيق: أنه من ثمار الدعوة الواضحة قال تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [يوسف:69]
قال البغوي: "الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا".
خامسا: رجاء صلاح الذرية: فإن في ذلك قرة عين في الدنيا والآخرة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا قال تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } [ النساء:9 ]، ومن أعظم القول السديد الدعوة إلى الله.
سادسا: من ثمار الدعوة أننا نثقل موازين حسناتنا يوم العرض، قال صلى الله عليه وسلم: « من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئا » [ رواه مسلم ].
قال النووي: ".. وأن من سن سنة حسنة، كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة".
سابعا: القيام بالدعوة إلى الله من أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { والعصر . إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر].
ثامنا: الدعوة إلى الله من الأسباب الجالبة للنصر على الأعداء، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } [محمد:7]. لأنه بالدعوة يعبد الله –عز وجل – بما شرع، وتزال المنكرات، ويبث في الأمة معاني العزة والكرامة لتسير في طريق النصر والتمكين.
تاسعا: بالدعوة إلى الله تنال المراتب العلا، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -: "وهذه المرتبة – أي مرتبة الدعوة – تمامها للصديقين، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل".
عاشرا: من ثمار الدعوة: صلاة الله وملائكته وأهل السموات والأرض على معلم الناس الخير، لأن ما يبلغه إنما هو العلم الموروث من قول الله تعالى وقول رسوله الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: « إن الله، وملائكته،وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير » [ رواه الترمذي ] .
الحادي عشر: الدعوة إلى الله رفعة في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم: "إن أفضل منازل الخلق عند الله، منزلة الرسالة والنبوة، فالله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس".(6/75)
الثاني عشر: من ثمار الدعوة استمرار ثواب الداعي بعد موته، قال صلى الله عليه وسلم: « من سن سنة حسنة، فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك » [ رواه الطبراني ]. و قال صلى الله عليه وسلم: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث » ، وذكر منها: « أو علم ينتفع به » .
الثالث عشر: محبة الله – عز وجل – لمن قام بدينه وبلغ رسالته، قال الحسن عند قوله تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } [فصلت:??]
قال: " هو المؤمن، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله".
الرابع عشر: من ثمار الدعوة المحبوبة التي تسر النفس وتشرح الصدر، وتعين على الاستمرار ومجابهة الشدائد، دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة لمبلغ مقالته: « نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلغها » [ رواه ابن ماجة ] . فهنيئا لمن أدركه هذا الدعاء، ونال منه نصيبا.
الخامس عشر: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمبلغ حديثه من أعظم ما يعين على السير قدما: « رحم الله امرءا سمع مني حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره.. » [ رواه أحمد ]. واليوم توفرت شروط التبليغ، فالكتاب والشريط الإسلامي يحوي كل ذلك؛ ليبلغ المدعو على أكمل وجه وأحسن حال، وأذكر أن رجلا أسلم وذكر أنه أتى إلى هذه البلاد وأقام سنوات ثم غادر إلى بلده ولم يدعه إلى دين الله أحد من الناس، حتى تيسرت له فرصة عمل أخرى، ورجع بعد سنة مع شركة تعمل في صيانة الشقق المفروشة. قال: فوجدت يوما مطوية صغيرة وضعت على طاولة المطبخ بعد خروج المستأجر، فإذا بها معلومات عن الإسلام، فكانت نقطة البحث عن الإسلام والسؤال عنه، حتى أسلمت و أسلم أبي وأمي وزوجتي، وأحاول أن تسلم بقية العائلة الآن، فكيف هي فرحة الداعية الذي وضع هذه المطوية يوم القيامة، إذا أقبلت هذه العائلة وغيرها وكانت في صحائفه وحسناته؟
السادس عشر: الدعوة إلى الله صدقة من الصدقات، قال تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [البقرة:3].
قال الحسن: " من أعظم النفقة نفقة العلم".
أسأل الله – عز وجل – أن يجعلنا من الدعاة إلى دينه، وأن يرزقنا جميعا الإخلاص في القول والعمل.
كاتب المقال: عبد الملك القاسم
المصدر: شبكة الأمة الإسلامية
================
قاعدة / لا إنكار على مجتهد ولا مختلف فيه.
وهو لون من ألوان الجهل، تجعله أي الداعية يتعصب لرأيه في مسألة خلافية، فينكر على كل مخالف للرأي الذي تبناه، معرضا بذلك من قول جمهور العلماء بان الإنكار لا يكون إلا في ما اتفق على كونه منكرا.
فهذا ابن قدامة يقول ((ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوما كونه منكرا بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد. فلا حسبة فيه)) وروى أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قوله ((إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه)).
وروى الخطيب البغدادي عنه قوله ((ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به)).
ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية عن الإمام أحمد رضي الله عنه تحت عنوان ((لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع )) ما نصه: ((وقد قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم ...)).
ويستثني القاضي أبو يعلى من ذلك، إذا كان الخلاف ضعيفا في مسألة من المسائل، وقد يؤدي عدم الإنكار إلى محظور متفق عليه، إذ يقول ((ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد.. فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته)) وهذا الذي يكون فيه الحق واضحا والأدلة بينة من الكتاب والسنة والإجماع، أما إذا خلت المسألة من ذلك كله، فلا إنكار على مجتهد.
وقال النووي في الروضة ((ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا)).
==============
التقويم الدعوي
عتبر هذا الموضوع من أهم المواضيع التي لم أر من تحدث عنه وتطرق لمهماته ، حتى كتاب (( التقويم الدعوي )) - الذي طبع ضمن سلسلة رسائل العين - لم يتعرض للتقويم من الناحية الحركية الدعوية الواقعية على الساحة الدعوية إلا بعض الإشارات .
ويأتي حديثي عن ( التقويم الدعوي ) نظراً لما نراه من التهاون بموضوعه وقلة الطروحات التي تعرضت له ولجزئياته ؛ أملا في الانتباه لهذا الطرح وأخذ موضوعه بمأخذ الجد نظرا لخطورته البالغة وآثاره المترتبة عليه .ولقد طرح (فرضا) موضوع ( التقويم ) على الدعاة في الساحة الدعوية لتقييم الأفراد ولم يطرح معه قواعده التي تضبطه من الانفراط وأصوله التي تحكمه من الانفلات فأصبح يتناوشه الدعاة هنا وهناك من غير قاعدة ولا أصل ولا ضابط يسير عليه ؛ ليعطي ثماره بصورة صحيحة ويجتنب مخاطره وسلبياته .وكان الأولى بفقهاء الدعوة وكبار دعاتها القيام بتعميم جملة من قواعد هذا التقويم على أفرادها على الساحة يضبطوا به هذا الموضوع الذي كثيرا ما يلامسوه .
وسيكون حديثي عن ( التقويم الدعوي ) منطلقاً من الواقع الذي يعيشه الكثير من الدعاة في التعامل مع هذا الموضوع وسأجمله في النقاط التالية :
1- المقصود بالتقويم الدعوي .
2- خطورة التقويم الدعوي .
3- سلبيات القائمين على عملية التقويم .
4- قواعد عامة في التقويم الدعوي .(6/76)
أولاً : المقصود بالتقويم الدعوي
المقصود به في العمل الدعوي الحركي : معرفة أوصاف الإنسان بشكل متكامل مما يترتب عليه إسناد وظيفة معينة له أو اتخاذ موقف تجاهه سلبا أو إيجاباً .
ثانياً : خطورة التقويم الدعوي
تكمن خطورة التقويم الدعوي ووجوب الدقة والتحري فيه في :
1- أن التقويم قد يكون جرحا أو تعديلاً .
2- ما يترتب عليه من اثر ( إسناد المهمات والتكاليف ) .
3- ما يترتب عليه من توليه الغير أكفاء أو إقصاء الكفاءات حال اختلاله .
4- الوقوع في ذات الشخص بما هو منه براء كوصفه بصفات هو بعيد منها وإبعاده عن صفات هو قريب منها أو مواقعها .
5- أن الإنسان أهم أركان الخطط وأكثرها تأثيرا في عوامل النجاح والفشل .
ثالثاً : سلبيات القائمين على عملية التقويم
الأولى : عدم التحري وسرعة المجازفة
وتعتبر هذه من أبرز السلبيات فإذا طلب تقييم شخص من الأشخاص اكتفى المقيمون بالتقديرات والتخمينات والحوادث الشاذة والأفعال النادرة التي قد ربما تصدر من الشخص مرة واحدة في حياته ثم يبنى عليها .
الثانية : غياب الإنصاف
فإذا طلب من المقيمين لفرد من الأفراد جرحه أو تعديله تحدث البعض عن مواقف تعرض لها معه إما مواقف يحمده عليها فيكون التعديل بمثابة الجزاء على صنيعه معه ، أو مواقف يذمه عليها فيكون التجريح بمثابة العقاب على فعله ذلك معه فينقلب الأمر عداء شخصيا أو علاقة شخصية وقد وعد أحد الأفراد صديقه أن يجتهد في تزكيته ليترقى إلى رتبة أعلى !!
وهذه السلبية نشأت عندما لم يلتفت لقول الله تعالى :{وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } .
وقد سئل علي بن المديني عن أبيه ؟ فقال: اسألوا غيري فأعادوا عليه فقال: إنه الدين . أبي ضعيف .
وسئل الإمام أحمد عن ابنه عبد الله ؟ فقال: كذاب ؟
وهذا من تحري العدل والإنصاف والتجرد عند علي بن المديني وابن حنبل وغيابه عندنا .
فلا بد من التجرد عن القرابة الشخصية أو العداء الشخصي إن حدث معه موقف يوما ما أخذه في نفسه وبقي ينظر إليه بعين ذلك الموقف والكمال عزيز .
قال أسامة بن منقذ : العدل في الشيء صورة واحدة والجور صور كثيرة وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها ؛فإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعهد والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك .
الثالثة : غياب النصح للشخص المجروح
فإذا اكتشف في فرد من الأفراد خطأ أو ملاحظة يسكت عليها ويبقى على ذلك أزمان دون الالتفات إلى عيبه والجلوس معه ونصحه ، بل يسكت عليه ويبقى في نفوس المقيمين ذلك دون إبداءه له ومحاولة نصحه وإصلاحه واستكمال نقصه .
وقد شكى لي أحدهم قِدَم الانتساب في هذه الدعوة إلا أنه خوطب أخيرا بأن فيه كذا وكذا وبأنه لا يمكن أن يرقى إلى رتبة أخرى أو توكل إليه مسؤولية وحين سألهم متى كان فيَّ ذلك ؟ قيل له: من سنين ؟ فعجب لما لم ينصح ويوجه ويؤهل منذ ذلك الحين ؟؟
الرابعة : التقويم بما اقلع عنه ( الحكم عليه بما تاب منه )
آفة خطيرة لدى لجنة التقويم أو لدى بعض أفرادها وهو الحكم على الشخص بحوادث ماضية ربما مضى عليها سنين وقد تاب منها وأقلع والتوبة تجب ما قبلها والتبدل سنة القلوب .
قال الإمام السخاوي : وكذا يجتنب التعرض للوقائع المنقصة الصادرة في شبوبية من صيره الله تعالى بعد ذلك مقتدى به فمن ذا سلم ؟؟والاعتبار لحالة الآن .
والأصل ستر المعاصي ، كيف وقد مضت .
الخامسة : الحكم عليه بالصفات الطارئة
فيقوم بما حدث منه طارئ أو بحادثة لا تتكرر وهذا من لخطأ ؛ فإن التوثيق يبنى على صفة لازمة لا على صفة طارئة أو منفردة لأنها لا تتكرر .
السادسة : عيب في لجنة التقويم
ومن السلبيات المشهورة خلل يحدث للجنة المقومة للفرد وهو أنها بعد جرحه يبقى هذا الجرح في نفوس أفرادها وتبقى تلك الأخطاء في أذهانها وينظر دائما إلى هذا الفرد بتلك النظارة .
وعليه فان الجرح لا ينافي الصحبة والاخوة والولاء والبراء كما قرر ذلك شيخ الاسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى .
السابعة : الإسراف في الجرح
وهذه سلبية أيضا فالتمادي في جرح الشخص وكثرة التنقيب عن أخطاءه وإبرازها من الظلم الذي لا يجوز أن نقترفه .
قال الإمام السخاوي : وإذا أمكنه الجرح بالإشارة المبهمة أو بأدنى تصريح لا تجوز له الزيادة على ذلك فالأمور المرخص فيها للحاجة لا يرتقى فيها إلى زائد على ما يحصل الغرض .
رابعا : قواعد عامة في التقويم الدعوي
هذه القواعد ستساعد بإذن الله تعالى على تلافي الكثير من السلبيات وتجعل موضوع التقويم الدعوي أكثر حزما وانضباطا والتزاما .
القاعدة الأولى : الموازنة بين الجرح والتعديل
وذلك بعدم الاكتفاء بطرق جانب على آخر فتطرح محاسن القوم ومساويهم ويوازن بينها وعند تساوي الجرح والتعديل في شخص يقبل الجرح إذا كان مفسرا بينا واضحا , ذلك لما لذلك من خطورة قبول هذا الشخص وترقيت على وحدة الصف وعلى المهمات الموكلة إليه .
القاعدة الثانية : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث
استخدموها في فقه الطهارة ونحن نستخدمها أيضا في فقه الدعوة : بمعنى إذا زادت حسنات الشخص على سيئاته فيقبل ولا يعتد ببعض النقد الموجه إليه .
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا تحدث عن شخص وفيه كذا وكذا . قال له سيئات غرقت في بحور حسناته .
فمن ذا سلم ، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه ، ومن الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط .
القاعدة الثالثة : عدم الوصف بما لا يعلمه إلا الله
وذلك كالجزم بالنفاق وسوء الظن والكبر أو دخول الجنة فإن ذاك أمره إلى الله تعالى وإنا كما قرر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في قاعدته الذهبية : لنا حكم الظاهر والله يتولى السرائر .(6/77)
القاعدة الرابعة :الصدق المبني على العلم
فشرط في التقويم صحة المعلومة التي يبنى عليها الجرح والتعديل ولا مكان فيها للتقديرات أو التوقعات أو الظنون أو الاحتمالات أو الكذب .
أخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) .
خذ ما رأيت ودع شيئا سمعت به في طلعت الشمس ما يغنيك عن زحل .
القاعدة الخامسة :إذا كثر المعدلون قبل قولهم
وقد عرفوا الشاذ بأنه ما رواه الثقة مخالفا للأوثق منه والأوثق منه هو من كثر معدلوه واشتهرت روايته أكثر من ذاك الثقة .. فإذا اختلف في قضية احتيج إلى القول الفصل فيها فما قاله الأكثرون وأفتى به جمهور المعدلون .
القاعدة السادسة :لا يقبل جرح الأقران في بعضهم
أفتى بهذا أهل العلم واجمعوا عليه إلا بدليل صريح صحيح وخاصة عند الفتن ومن التسرع أن يبادر إلى سؤال قرين عن صاحبه أو زميل دراسة أو وظيفة قد حدثت بينهما من الاحتكاكات وبعض المشاحنات والحسد ما حدث فيعتد قوله وليس بمعتمد عند فقهاء هذه الدعوة وعلماء الجرح والتعديل .
القاعدة السابعة :أن يبنى التوثيق على صفة ملازمة لا طارئة
فلكل عالم هفوة ،ولكل جواد كبوه ، والنادر لا حكم له ، ولا يعمل بالشاذ ولا بالطارئ إلا إذا تكرر ، ووقائع الأعيان لا عموم لها .
وقد قرر الإمام الذهبي في مقدمة (سير أعلام النبلاء ) أنه ترجم للمئات من العلماء قال : ولو أخذت كل واحد بزلته أو نادرته لما بقي لي أحد في هذا الكتاب ؟
القاعدة الثامنة :أكس ألفاظك أحسنها
لابد أن يستخدم الجارح أجمل الألفاظ ما وجد إلى ذلك سبيلا قال تعالى : { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } .
قال المزني : دخل عليا الشافعي وأنا أقول فلان كذاب .
قال يا إبراهيم : أكس ألفاظك أحسنها لا تقل كذاب ، بل قل ردوا حديثة وما أشبهه .
القاعدة التاسعة :تحديد الصفة التي يضعف من أجلها الشخص
والهدف من التحديد مصلحة العمل الذي سيتولاه فربما كانت فيه صفة لا مانع من وجودها مع العمل الذي سيتولاه وربما عكس ذلك .
القاعدة العاشرة :لكل داء دواء يستطب به
فإذا تم تحديد مكامن الضعف لدى فرد من الأفراد فلا يترك لهذه الأمراض تنال منه ويخشى من انتشارها وتمكنها منه وتبقى الدعوة مفتقرة إلى هذا الفرد وما أعطاه الله من مواهب وقدرات ، فكل ميسر لما خلق له ، بل تبادر إلى علاج ذاك المرض وتطبيب المريض وإنقاذه مما هو مصاب به . وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء . وإذا حدث أن لم يعالج ويستكمل نقصه ويقوى ضعفه فاللائمة تكون على لجنة التقويم التي أهملت ذلك.
إذا رمت الجراح على فساد تبين فيه تفريط الطبيب .
هذه قواعد عشر تساعد على تخطي الكثير من السلبيات في التقويم الدعوي وربما كانت به إلى الصواب أقرب منه إلى الخطأ.
ومهما يكن من شيء : فإني أرجو أن يتسع صدر القائمين على العمل التربوي الدعوي الحركي لهذا الموضوع وينظروا إليه بعين الجد والاهتمام والسعي لتقديم هذه القواعد وأمثالها على القائمين على العمل في الساحة الإسلامية ليقدموا أحسن ما عندهم ويحرزوا النجاح لخططهم ويحققوا النصر الذي يريدون بعين البصيرة الشرعية { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } [ الأنعام :161- 163] .
جرى القلم بما تقدم سدد الله خطى الجميع
كاتب المقال: لخضر سالم بن حليس اليافعي
المصدر: " ناصح –منتدى الرائد "
=============
قاعدة التجسس في عملية الأنكار
روى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) [رواه أحمد وصححه الألباني]
وتتبع العورات والتجسس يفسد الناس وذلك إنه ينزع الثقة فيما بينهم وينشر ظن السوء، مما يجعل الطرف المتجسس عليه إذا علم بذلك أن يحمل حقدا وكراهية للطرف المتجسس وهنا تنقطع الأواصر ويفسد الناس. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم)) [رواه أبو داود وصححه الألباني]
فمبدأ التجسس مرفوض في عملية الإنكار، ما دام المنكر مستورا وحتى على من بيده السلطة وذلك لما يؤدي من الفساد بين الرعية، لذلك ليس غريبا أن نسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله ((إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم)) [رواه أحمد وصححه الألباني] يقول الإمام المناوي ((أي طلب الريبة أي التهمة في الناس بنية فضائحهم أفسدهم وما أمهلهم وجاهرهم بسوء الظن فيهم فيؤديهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن بهم ورموا به ففسدوا. ومقصود الحديث حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات، فإن ذلك يقوم النظام ويحصل الانتظام والإنسان قل ما يسلم من عيبه فلو عاملهم بكل ما قالوه أو فعلوه اشتدت عليهم الأوجاع واتسع المجال بل يستر عيوبهم ويتغافل ويصفح ولا يتبع عوراتهم ولا يتجسس عليهم. وعن ابن مسعود أنه قيل له هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال: ((إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن ظهر لنا شيء نأخذ به)). فليس التجسس من أصول الإنكار على ما ستر، وإنما أمرهم بالإنكار على ما رئي فقال (( من رأى منكم منكرا ..) .))
عذر غير مقبول(6/78)
((ونص أحمد رضي الله عنه فيمن رأى إناء يرى إن فيه مسكرا، أن يدعه – يعني لا يفتشه)) ((قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله أن أبا الربيع الصوفي قال: دخلت على سفيان بالبصرة فقلت يا أبا عبد الله إني أكون مع هؤلاء المحتسبة فندخل على هؤلاء – يقصد المخنثين – ونتسلق على الحيطان، فقال: أليس لهم أبواب؟ قلت بلى. ولكن ندخل عليهم لئلا يفروا فأنكره إنكارا شديدا وعاب علينا فعلنا))
ويقول الإمام ابن الجوزي ((لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار ولا يتعر للشم ليدرك رائحة الخمر، ولا يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبر بما جرى بل لو أخبره عدلان ابتداء إن فلانا يشرب الخمر فله إذ ذاك أن يدخل وينكر)). وهذا في المحتسب وهو المخول بالإنكار من الدولة وله سلطة في ذلك وليس لمن لا يملك السلطة تغيير المنكر بيده.
أبو يعلى يوضح الاستثناء
وذكر القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية إن غلب على الظن استسرار قوم المعصية لإمارة دلت وآثار ظهرت فإن كان في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها جاز أن يتجسس ويقدم على البحث والكشف – هذا في المحتسب – وإن كان دون ذلك في الريبة لم يجز التجسس عليه. ولا كشف الأستار عنه))
فالأصل أن الحرمات مصونة ليس لأحد أن يهتكها. ويستثنى من ذلك ما بينه القاضي من حالات لا بد أن تتوفر فيها الشروط التالية
غلبة الظن اجتماع قوم على معصية
ظهور الامارات والآثار الدالة على تلك المعصية
غلبة الظن على تضرر الآخرين كإزهاق روح أو زنى إذا لم تنتهك الحرمة
إخبار العدل الثقة بذلكوبغير هذه الشروط يكون التجسس مرفوضا لمن أراد إنكار المنكر.
المصدر: المصدر : " شبكة الدعوة الإسلامية "
==============
هل وسائل الدعوة توقيفية
مسألة :- المراد : ( بالتوقف- الاجتهاد – وسيلة – غاية )
مقدمة: -فطرية الوسائل في ميدان الدعوة ومذهب يتفق عليه العقلاء.
1 مسألة: مراد التوقف ومعانية ؟
2مسألة :هل المباشرين لهذه الوسائل يقصدون التعبد بها فتكون من العبادات والعبادات توقيفية؟؟
3 مسألة: الأدلة أن وسائل الدعوة الحديثة تلحق بوسائل الدعوة المعتبرة شرعاً؟
4 مسألة : ضوابط وسائل الدعوة الحديثة ؟
5 مسألة: نظرية : ( الغاية تبرر الوسيلة ) والفرق بين إباحة الوسيلة الممنوعة في حال الضرورة ونظرية الغاية تبرر الوسيلة ؟
مراد التوقف ومعانية
1- وسائل الدعوة توقيفية: أي حكم الوسائل يؤخذ من الشرع ولا مدخل للعقل والرأي المجرد في حكمها فهذا حق لان التشريع حق لله : (إن الحكم إلا لله)- (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ).
2- وإن كان المراد أن المكلف لا يجوز له مباشرة وسيلة دعوية حتى يعرف حكمها الشرعي المأخوذ من النصوص الخاصة أو النصوص العامة أو القواعد الشرعية فهذا حق لان ممارسة العمل دون معرفة حكمه الشرعي اتباع للهوى وعمل بالجهل (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لا يعلمون).
3- وإن كان المراد أن جميع وسائل الدعوة لابد أن تكون منضبطة بحكم الشرع ولا يجوز الخروج على أحكام الشرع كما لايجوز الخروج عليها في المناهج والمقاصد فهذا حق
4- أما إن كان المراد أن وسائل الدعوة لاتكون مشروعة إلا إذا دل عليها نص خاص فهذا لايصح على عمومه والتفصيل :
- الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل بخلافه: حتى لا ندخل في: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله).
- والأصل في العادات الإباحة حتى يرد الدليل بخلافه حتى لا ندخل في قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا)ً.
الخلاصة:
أن وسائل الدعوة كالكتابة والإذاعة والمخيمات ونحوها من باب الوسائل العادية التي ترجع للعادات والمعاملات وليست في ذاتها من باب العبادات.
مسألة :هل المباشرين لهذه الوسائل يقصدون التعبد بها فتكون من العبادات والعبادات توقيفية؟؟
قصد التعبد بالوسائل معنى مجمل يضم تحته معنيين :
1- مباشرة الوسيلة مع الاعتقاد أن هذا العمل في ذاته عبادة يتقرب بها كالصلاة والزكاة فهذا باطل (الاعتقاد).
2- مباشرة الوسائل العادية ولايعتقد أنها عبادة كالصلاة ولكنة يقصد بها التوصل إلى معنى مشروع كتأليف القلوب أو التقوي على الطاعة ونحوه فهذا توسل صحيح لانه غير منهي عنه بل هو المطلوب ويؤدي إلى تحقيق مقاصد الشرع ويثاب المكلف عند ذلك على قصده ونيته .
والأصل في هذا حديث )مسلم) (..وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)
والوسائل من حيث اعتبار الشرع وعدمه ثلاثة أقسام: (وسائل معتبرة- ملغاة) لابد من إتباع الدليل بلا نزاع متفق عله أما الثالث:-مسكوت عنها كالوسائل الحديثة :مختلف فيه
مسألة : لايجوز إستعمال الوسائل الممنوعة للدعوة ؟
ومن استعملها إما جاهل أو عاجز
وسائل الدعوة الحديثة تلحق بوسائل الدعوة المعتبرة شرعاً؟
والدليل :
أولاً: النصوص العامة :
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) النحل
(وادع إلى ربك)القصص
(وافعلو الخير لعلكم تفلحون ) الحج
(إحرص على ماينفعك ) مسلم
(..وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)الدار قطني والبيهقي
ثانياً: الأجماع
أخذ الصحابة بوسائل مصلحية ليس لها دليل خاص ومعين وانما اعتبروها لمجرد مافيها من المصالح الراجحة : مثل: جمع القرآن في مصحف واحد-
ثالثاً :القياس(6/79)
إباحة الشارع الحكيم لبعض الوسائل الملغاة لتضمنها مصلحة راجحة :كالكذب للإصلاح بين الزوجين –الغيبة للمقاضاة –والكذب للإصلاح بين المتخاصمين .
رابعاً :الاستصلاح (المصلحة المرسلة )
قاعدة شرعية صحيحة كل فعل عادي فيه مصلحة راجحة ولم تعارض نصاً شرعيا ولا قاعدة شرعية يكون مشروعا .
خامساً :الاستصحاب
من جهتين :
أ-أن الأصل في المصالح الاعتبار وأما الإلغاء فهو عارض لابد له من دليل معين (كل وسيلة مصلحية فالأصل إعتبارها ومن أبطلها يطالب بالدليل
ب- الأصل في العادات والمعاملات الإباحة حتى يرد الدليل بخلافه .
سادساً :دلالة اللزوم
حاجة الدعوة – حتى لا تضعف وتتقوقع وتضيق عليها – الوسائل الحديثة المنتشرة
ضوابط وسائل الدعوة الحديثة
1- عدم مخالفة الشرع : لا لنص ولا لقاعدة شرعية .
2- أن يكون المقصود من الوسيلة مشروعا كالنظر للأجنبية في الخطبة فإن كان ممنوعا شرعا فلا يتوسل إليه بأي وسيلة .
3- أن تؤدي الوسيلة إلى المقصد المشروع إما على سبيل القطع أو الظن أو الاحتمال المساوي .
وأداء الوسيلة إلى مقصودها له حالات
1 - أن يكون الأداء إلى المقصود ثابتا قطعا فلا إشكال في مشروعيته كالرسائل .
2 - أن يكون الأداء إلى المقصود منتفيا قطعا كما في وعظ المجنون فتسقط اعتبار الوسيلة لعدم تحقق مقصدها وحتى لاتكون عبثا .
3- أن يكون الأداء إلى المقصود مظنونا حصوله أو مظنونا انتفاؤه فهذه من مواضع الاجتهاد والخلاف فيها سائغ- كما أشار لها الشاطبي والأظهر أن أداء الوسيلة إلى المقصود إن كان مظنونا حصوله فالوسيلة باقية على أصل المشروعية وأما إن كان مظنونا انتفاؤه وعدم حصوله فيسقط اعتبار الوسيلة لان الظن المستند على القرائن والأمارات حجة معمول به في الشرع ولذا وجب العمل بالقياس وشهادة الشهود .
4 - أن يكون الأداء إلى المقصود وعدمه محتملاً احتمالاً متساوي الطرفين فالوسيلة في هذه الحالة على أصل المشروعية لعدم الناقل .
5- ألا يترتب على الأخذ بتلك الوسيلة مفسدة أكبر من المصلحة المقصودة منها فإن كانت تؤدي لمفسدة أكبر فلا يشرع التوسل بها لأن در المفسدة الراجحة أولى من جلب المصلحة المرجوحة .
6- ألا يعلق بالوسيلة وصف ممنوع شرعا: فالوسيلة قد لا تكون في ذاتها مخالفة للشرع ولكنها تتعلق بها بوصف خارجي ممنوع شرعا مثل كونها شعارا للكفار فتمتنع مباشرتها لأجل هذا الوصف. ولهذا ترك الرسول وسيلة: الضرب بالناقوس والنفخ بالبوق وإيقاد النار للدعوة للصلاة لا نها من شعائر اليهود والنصار والمجوس .
*الفرق بين إباحة الوسيلة الممنوعة في حال الضرورة
ونظرية الغاية تبرر الوسيلة :
1- أن المحرم والمبيح في الإسلام هو الشارع الحكيم نفسه أما التبرير في لنظرية فأساسه الأهواء والمصالح الشخصية .
2- أن الغاية التي تبيح الوسيلة الممنوعة في حال الضرورة غاية محمودة ومصلحة حقيقية بخلاف الغاية في النظرية فإنها قد تكون مذمومة أو متوهمة كغاية الإحتلال والشهرة .
3- أن الترخيص في الإسلام مقيد بقيود تجعل دائرة الضرورة ضيقة وليست عامة في كل شيء فالقتل وخيانة العهود والزنا ونحوه لا يتوسل بها مطلقاً بخلاف الاستباحة في النظرية فإنها عامة ومطلقة عن القيود في القتل والغدر والفواحش .
والله أعلم وصلى الله وسلم على خير الأنبياء والمرسلين.
كاتب المقال: خالد الرفاعي
=============
المرأة الداعية .. والمرحلة الصعبة
في ظل المستجدات المعاصرة، أدرك المهتمون بأمر الإسلام والمسلمين ضرورة القيام بتوعية المجتمع وتثقيفه الثقافة الدينية الصحيحة، وحماية قناعاته وبذل الجهد في إنشاء البنية الإيمانية الصلبة لمواجهة التيارات التي تهدف لإبعاد المسلمين عن دينهم وتشويه صورة التدين والاستقامة في أذهان المسلمين ولا سيما الشباب والناشئة، وكذلك التحذير من الدور الإفسادي المركز على كيان الأسرة والمرأة بشكل خاص، لإقصائها عن أداء رسالتها، وغرس بذور التمرد على دينها.
فلذلك كان من المهم توجيه الاهتمام إلى تفعيل وتنشيط العمل الدعوي النسائي؛ لأن المرأة أكثر إدراكاً لخصوصيات المجتمع النسائي ومشكلاته؛ حيث يجمعها معهن نفس الخصائص، كما يجمعها معهن فرص كبيرة وواسعة تمكنها من الاتصال بهن والتأثير عليهن؛ فهي أقدر في التأثير على بنات جنسها، وأكثر إلماماً بما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الدعوي النسائي.
ومع أننا أمام مرحلة صعبة جداً نرى فيها ما يسمى «بالتغيير» و «التجديد» و «التطوير» يزحف على شعائر الدين وثوابته، وينال منه ما ينال حتى أصبح الدين من متغيرات هذا العصر؛ فإننا لا نزال نرى تقاعس الكثيرات من ذوات الطاقات الفاعلة التي تشكل إمكانات دعوية مهدرة وقدرات علمية معطلة في وقت يستلزم تجنيد جميع الطاقات والإمكانات العلمية والدعوية ما يساندها لمواجهة غزو التغيير، كما أنه يتحتم علينا جميعاً في ظل هذه الظروف التواصي فيما بيننا بالحق والتواصي بالصبر فما هو إلا الابتلاء الذي ذكره الله ـ - عز وجل - ـ: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4] مع الاستبشار بوعد الله حتى ينجلي الأمر ويأذن الله القدير بنصرنا.
فإلى الأخوات الداعيات أوجه هذه الوصايا:
1 - لا بد للداعية من استيعاب مستجدات هذه المرحلة وفهم مشاريع التغريب وإدراك أن هناك مؤامرة ضد المرأة تجاوزت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التفعيل والتنفيذ.
2 - أن تحرص على رفع مستوى الوعي والتثقيف لديها بتكثيف ساعات الاطلاع والقراءة مع مراعاة تنوع المضمون.(6/80)
3 - أن تدرك أننا نعيش مرحلة تحتاج منا إلى زيادة مساحة الانتشار، وتجاوز دائرة الصالحات، واختراق صفوف مجتمعنا النسائي بإيجاد الفرص واستغلال المتاح منها.
4 - أن مجتمعاتنا تنفتح مع الوقت وبشكل مطَّرد على ثقافات وأفكار مختلفة؛ فعلى الداعية أن تركِّز في الخطاب الدعوي على الجانب العقدي والإيماني بشكل خاص مع الاعتناء بلغة الإقناع والحوار الموضوعي.
5 - تذكري أن المنهج الإسلامي يجمع بين المثالية مع مراعاة واقع البشرية؛ وذلك لاختلاف طبائع الناس واستعداداتهم الفطرية وقدراتهم الفردية؛ ففرقي بين ما تطلبينه لنفسك ولأهلك من مستوى الكمال والمثالية وبين ما تسعين لإصلاحه في واقع المجتمع مع اتساع المنهج لذلك؛ فلا بد من الواقعية في تصور حلول المشكلات وتصحيح الأخطاء.
6 - العمل على ترسيخ القيم والقناعات الصحيحة خاصة لدى الفتيات لكي لا تتحول الأخطاء من مستوى الممارسة والسلوك إلى مستوى القناعات والقيم.
7 - أختي الداعية: استفيدي من الفرص، وأوجدي لنفسك المناسبات للحديث الإيجابي المفيد، وأمسكي بناصية الحديث بذكر قصة أو موقف ذي عبرة وفائدة.
8 - من أرادت نصرة هذا الدين والدعوة إليه فلا بد لها من أن تضحي بشيء من حظوظ نفسها وراحتها ومالها، وأن تنال الدعوة مساحة كبيرة من اهتمامها، وأن تجتهد في تحويل الوصايا والكلمات إلى واقع في حياتها.
9 - صدق العزيمة هو أساس النجاح والتوفيق مع ربط القلب بالله ـ - تعالى - ـ والاستعانة والافتقار إلى توفيقه وتسديده والإكثار من الاستغفار والتوبة. والله ولي التوفيق.
كاتب المقال: اسماء الرويشد
=============
من فقه الدعوة
-عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِه ِفَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنُوهُ فَو َاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ 0رواه البخاري
القرطبي : فجعل له حُرمة الأخوة؛ وهذا يوجب الشفقة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ
بيان ..
هذان النصان الجليلان الصحيحان من مشكاة النبوة فيهما توجيهات عظيمة لمعشر الدعاة الذين أخذوا على أنفسهم الدعوة إلى الله على المنهج النبوي الصحيح ومن ذلك :
***- أن على الداعية أن يتقي الله في المدعو فلا يجانب العدل في تقويمه وينظر إلى الجانب السيئ في ذلك المدعو فحسب بل يجب عليه أن يحفظ حقوقه ولا يغمطها ويظهر الحسن الذي فيه ويذكره به مهما بلغ تقصيره فالموازنة بين الحسنات والسيئات عين العدل
***- ينبغي على الداعية أن تكون بينه وبين المدعو المقصر مساحة قرب وتلاطف تجعل المدعو يتفيأ ظلال ذلك الداعية من هجير المعصية والغفلة ويستعين بحنوه وعطفه واحتواءه له حتى لا يستفرد به الشيطان الرجيم فيوغل به في الضلالة والغي، فلقد كان ذلك الصحابي رضي الله عنه وأرضاه على ما فيه من تقصير يجلس مع النبي عليه الصلاة والسلام جلسة الحبيب مع حبيبه يؤانسه ويضاحكه0
***- على الداعية أن يحذر جموح العاطفة وغلوها في الحكم على المدعويين وأن يحكم بالحق لا غيره ، وحماسته للحق وغيرته على الدين لا تبيح له الجور وتجاوز الحق في حكمه على الآخرين
***- من منطلقات الدعية وأدبياته في الدعوة إلى الله الشفقة والرحمة بالمدعو فهو يحرص على هدايته وإرشاده للخير ويجتهد في ذلك
***- على الداعية أن يحرص في أساليبه الدعوية على المصلحة وتكميلها وينأى عن حصول المفسدة أو تقليلها حتى يحقق سمو الهدف من دعوته
***- من الحكمة في الدعوة إلى الله تشجيع المدعو بإظهار الجوانب الإيجابية فيه وتذكيره بها واستغلالها للرجوع بالمدعو إلى جادة الحق والصواب ,,
المصدر: منتدى الرائد الدعوي للدعاة المتميزيين(موقع ناصح)
===========
قاعدة التدرج بالإنكار
ويكفينا لتبيين هذه القاعدة أن نذهب بجولة مع مؤمن آل فرعون، لنرى كيف تدرج بالإنكار على قومه درجة درجة؛ حتى يفصح لهم بالنهاية عن إيمانه الذي يكتمه، كل هذا بأسلوب يمتلئ بالذكاء، ودقة متناهية بالتدرج بالإنكار
جولة مع مؤمن آل فرعون..
وبعد قرار فرعون بقتل موسى عليه السلام بقوله (ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنه أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) [غافر 26]
ورد موسى عليه السلام (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) [غافر 27]. هنا قام رجل من آل فرعون يكتم إيمانه، ليدافع عن موسى وليرد كيدهم عنه بأسلوب ذكي، وبتدرج مدروس متقن. وبفقه الإنكار عميق، في جولة مع أصحاب القرار مع الطغاة، بحوار قد قسمه إلى أقسام، ودرجات وأخذهم معه درجة درجة، لكي يستوعبوا ما يريد، ويقروا ما يريد إنكاره عليهم
الدرجة الأولى : تضخيم المنكر(6/81)
يقول سيد رحمه الله ((إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) [غافر 28] فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة))
فلا بد للداعية المنكر للمنكر أن يبدأ بتضخيم المنكر! وتبيين قبحه، بمقارنته بالمعروف، حتى يكون ذلك داعيا لأن تعافه النفس. ومثال ذلك في القرآن الكريم، تقبيح صورة المرابي بأنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وغيرها في القرآن كثير. ومن أمثلة هذا الأسلوب في السنة، قول الرسول صلى الله عليه وسلم في من يعطي العطية ثم يرجع فيها ((مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء يعود إلى قيئه فيأكله)) رواه مسلم
يقول الإمام ابن حجر ((ولعل هذا أبلغ في الزجر عن ذلك وأدل على التحريم ما لو قال مثلا: لا تعودوا في الهبة)) ومثال ذلك في الحديث كثير
الدرجة الثانية : تبيين أدلة الإنكار
ثم يخطو بهم خطوة أخرى. فالذي يقول هذه الكلمة البريئة ((ربي الله)).. يقولها ومعه حجته وفي يده برهانه: (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) [غافر 28].. يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى – عليه السلام – ورأوها، وهم فيما بينهم وبعيدا عن الجماهير – يصعب أن يماروا فيها
فلا بد للداعية عندما يقوم بعملية الإنكار أن يصطحب معه أدلة تثبت أن ما يقوله هو الحق، وأن ما ينكره هو المنكر، لأن الناس لم يعتادوا الرضوخ والابتعاد عن مناكرهم بمجرد النهي الحاد المتشنج الخالي من الأدلة والبيانات
الدرجة الثالثة : افتراض أسوأ الفروض
((ثم يفرض لهم أسوأ الفروض، ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية تمشيا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: (وإن يك كاذبا فعليه كذبه).. وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته، وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال))
الدرجة الرابعة : احتمال صدق الداعية
ومهما ألبس الطغاة أصحاب الحق من الاتهامات الباطلة، ومهما كثر تصديق الناس للطغاة فيما يدعون إله، وعلى افتراض أن يكون ذلك الداعية كاذبا، يبقى احتمال، وإن كان ضئيلا أن بعض ما يدعو إليه صاحب الحق صوابا. يقول سيد ((وهناك الاحتمال الآخر. وهو أن يكون صادقا، فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه: (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) [غفر 28]. وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمالا في القضية فهو لا يطلب إليهم أكثر منه. وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام))
الدرجة الخامسة : التهديد العام غير المخصص
ثم يهدد في طرف خفي، وهو يقول كلاما ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم. (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) [غافر 28]. فإن كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه فدعوه له يلاقي منه جزاءه. واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون. فيصيبكم هذا المآل)). وأجمل شيء في هذا الأسلوب أنه تهديد غير مباشر، فالنفوس تأنف التهديد المباشر، ولا تحب أن تلتقي حول من يهددها. أو يرغمها على شيء معين خاصة إذا كان بشرا مثلهم. لذلك ربط هذا التهديد العام بالله، وليس بشخصه كإنسان، مما يخفف وطئة النفور، ويجعل ذلك التهديد مستساغا ومؤثرا لأنهم كانوا يعتقدون بالآلهة وبما تقوم به من نفع وضرر، ولكنهم ما كانوا يوحدون
الدرجة السادسة : التذكير بنعم الله والتحذير من نقمته
((وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفا بعقاب الله، محذرا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هو فيه من ملك وسلطان، مذكرا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) [غافر 29] إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض، فهم أحق الناس بأن يحذروه. ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله (فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) ليشعرهم أن أمرهم يهمه. فهو واحد منهم ينتظر مصيره معهم وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص)). ومن أسوأ الأخطاء التي يقع بها كثير من الدعاة في طريق نهيهم عن المنكر، أنهم يشعرون من يخاطبونهم بأنهم أطهر منهم. وأنهم مستثنون من العذاب والانتقام الإلهي. ومثال ذلك قولهم ((أنتم كذا وكذا)) وقولهم ((سينتقم الله منكم)) وقولهم ((سيعذبكم الله في ناره))، هذه التحذيرات المباشرة دون أن يشرك الداعية نفسه معهم، من شأنها أن تكون مدعاة للتنفير، وجالبة للنقم على ذلك الداعية مما يصعب عليه مهمته في الإنكار وكسب الأنصار
الدرجة السابعة : إظهار خوفه على قومه وتذكيره لهم بمصارع من قبلهم
وذلك في قوله تعالى على لسانه (وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد) [غافر 30 – 31] وذلك مثل ما يقوله بعض الدعاة لمن يريدون الإنكار عليهم ((لولا حبنا لكم ما نصحناكم)) أو قولهم ((لولا خوفي عليك وحرصي على ابتعادك عن النار لما نصحتك)) وغيرها من العبارات التي تترك في نفس صاحب المنكر شيئا من الطمأنينة والثقة بمن ينكر عليه، تجعله أكثر قبولا للنصيحة والإنكار مما لو كانت خالية من تلك العبارات
الدرجة الثامنة : التخويف بيوم القيامة
وذلك في قوله تعالى على لسانه (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) [غافر 32 – 33](6/82)
يقول سيد رحمه الله ((وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف، وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.. فالتنادي واقع في صور شتى وتسميته ((يوم التناد)) تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام. وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن (يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار))
والكلام عن الغيب محبب للنفوس، لأن النفوس تحب أن تتعرف على ذلك الغيب بطبيعتها وحبها للاستطلاع، وحرصها على معرفة الذي سيحدث لها بالمستقبل، ولهذا السبب يذهب الكثير من الناس من الذين لا يعرفون حرمة تصديق من يدعي معرفة الغيب، يذهبون إلى العرافين وقارئي الكفوف والفناجين ليخبروهم كذبا عما سيحدث لهم بالمستقبل. ولعل هذا سبب من الأسباب التي جعلت القرآن والسنة تسهبان في تفصيل مواضيع الغيب من الجن والملائكة والقبر، وما يجري فيه من نعيم وعذاب والقيامة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وعذابها وغيرها من أمور الغيب وذلك ليكون منهجا ومنبعا للدعاة ليغترفوا من هذه البضاعة المحببة للنفوس لعلها تهتدي حينما تسمعها وتاريخ الدعوة يخبرنا أن كثيرا من المهتدين كان سبب هدايتهم سماعهم عن امر من أمور الغيب خاصة إذا أحسن الداعية عرضه لهذه المواضيع واختار لها وقتا مناسبا
الدرجة التاسعة : التذكير بالحوادث المماثلة في زمانهم
وذلك قول الله تعالى على لسانه (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) [غافر 34]
فينتقي صورا من التاريخ القريب لأذهان قومه، تتماثل مع معصيتهم التي يريد إنكارها، ولا يوفق لهذا الفن من الإنكار إلا من أكثر من قراءة كتب التاريخ، وقصص القرآن الكريم، وعرف كيف ينتقي الوقت المناسب ليقارن بين منكر يراه ماثلا أمامه لا يدري مقترفه ماذا سيحدث له وبين منكر قديم يماثله. في قالب قصة حدثت لفرد أو جماعة في التاريخ القديم أو القريب وماذا فعل الله بهم من عقاب، ويكون الحدث أوقع في للقلب كلما كان قريبا من زمانه
ختام المحاورة
وأمام هذه المراوغة، وهذا الاستهتار وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة بعدما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله وهو طريق الرشاد وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة، وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذرهم عذاب الآخرة، وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان))
(وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد. يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار. من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار. لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) [غافر 38 – 44]
كسب القلوب..
هناك درجة قبل هذه الدرجات كلها جعلت آل فرعون يستمعون لهذا الداعية، ويحظى هو بإنصاتهم إليه. ربما تكون هذه الدرجة هي القرابة وربما درجة قريبة منها، ولكن لا بد للداعية الذي لا تربطه مع صاحب المنكر هذه الصلة أن يكون هو صلة جديدة معه يكسب بها قلبه ثم يبدأ بعد ذلك بالإنكار بأسلوب المحب والمشفق على من يحب، ولقد صدق تلميذ الإمام البنا الوفي عبد البديع صقر، عندما طلب من الدعاة الذين أرادوا انتهاج هذا الطريق ألا ينسوا أن يضعوا في أول مفكرتهم ((إن أسلوب التحدي ولو بالحجة الدامغة، يبغض صاحبه للآخرين فيجب التلطف لأن كسب القلوب أولى من كسب المواقف))
وبعد كسب القلوب يبدأ التدرج المدروس، وهذا ما وضحته عائشة رضي الله عنها للتابعي الثقة يوسف بن ماهك عندما قالت له ((إنما نزل أو ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل ((لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. وإني لجارية ألعب (لقد نزل بمكة على محمد بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده)) رواه البخاري
وعائشة رضي الله عنه تبلين للدعاة هنا قاعدة جليلة في التدرج بالإنكار بما بدأ به القرآن من الترغيب والترهيب والرقائق حتى إذا ما صلبت الأعواد وقوت القلوب جاءت مرحلة البناء..
المصدر: شبكة الدعوة
=============
قاعدة / ترك الاستفزاز واستخدام الحجة.
قال تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) [الأنعام 108].(6/83)
يقول سيد رحمه الله ((إن الطبيعة التي خلف الله الناس بها، أن كل من عمل عملا، فإنه يستحسنه ويدافع عنه، فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنه. وإن كان على الهدى رآه حسنا، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرزاق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهة اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم!.. فليدعهم المؤمنون لما هم فيه: (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) وهو أدب يليق بالمؤمن المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور. فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا، فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟!)).
فليس من واجب الدعاة سب رموز الضلال، وخصوم الدعوة أو الاستهزاء بهم، ولئن كان هذا هو أسلوبهم فليس من اللائق أن يتشبه بهم الدعاة في هذه الأساليب الرخيصة وينزلوا إلى مستواهم والالتزام بهذا الخلق يؤدي إلى كسب الأنصار ويجعل المكابر المعاند يصغي إذا دعوناه للحق.
• محطم الأصنام..
والإسلام دين فيه قوة ذاتية، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى الإرهاب والقسر والسلاسل والحديد لإقناع الناس باتباعه، فمن طبيعته أنه دين حجة، ومنطق لا يخالف الفطرة أبدا ولا يصادمها، ومشهورة قصة محطم الأصنام إبراهيم عليه السلام مع قومه في شأن الأصنام، وكيف جادلهم عليها حتى ألجمهم فلم يستطيعوا أن يقاوموا حججه التي كان يرسلها عليهم كالقذائف، فما كان لهم إلا أن أمروا بتحريقه وإعدامه، وهذا هو شأن أصحاب المناهج العقيمة التي لا تملك الحجة، فتلجأ مضطرة إلى استخدام العنف لإقناع أتباعها بالمنهج العقيم المصادم للفطرة، ثم تتهم من عارضها بالعنف والتطرف.
ونرى إبراهيم عليه السلام مع النمرود الطاغية الذي أراد أن يكون إلها من دون الله، كيف يخاطبه، وكيف يعرض عليه الحجج دون أن يجرحه، أو يسبه أو يستهزئ بطريقة تفكيره. يقول تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ يقول إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) [البقرة 258].
كان من الممكن أن يكون جواب ذلك الملك الذي حاج إبراهيم في ربه مستفزا لإبراهيم عليه السلام، ومفقدا لأعصابه، وبذلك يتمكن عدو الله منه بسهولة، لكن إبراهيم عليه السلام، الداعية الحكيم تمالك أعصابه ولم يستفزه هذا الجواب من ذلك الملك الأحمق، ولم يرد أن يدخل معه في جدال عقيم وسباب ومشاتمة فينحرف عن الهدف الذي حدده مع ذلك الطاغية، وما أحب أن يدخل معه في نقاش طويل حول ما ادعاه من الإحياء والإماتة، لأن الملك ما كان يستوعب أو أنه كان مكابرا ويعتقد أنه يمكن أن يحيي بالعفو عن رجل حكم عليه بالإعدام، ويمكن أن يميت بقتل رجل بريء، وما دام هذا هو تفكيره بما فيه من سطحية، فلقد انتقل معه إلى حجة لا يمكن إنكارها. وهذا هو فن الدعوة، وفن الإنكار بالحجة.
يقول الشوكاني ((أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم، لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ ذي بدء، وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه، وإرسالا لعنان المناظرة فقال ((فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب)) لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة)).
إن الداعية الذي تستفزه كلمات أعداء الدعوة، فيفلت من لسانه ما يكون حجة عليه من خصومه، معتمدا على قاعدة ((السن بالسن والعين بالعين)) لا يعلم أنه يساهم في تأصيل المنكر، وتثبيته في نفوس أصحاب الضلال، ويفقده التأييد من جمهور المستمعين إلى الطرفين، ويجعل لأصحاب الضلال المبرر لسب دينه وقرآنه وكل ما هو مقدس وبسبب هذه النتائج الخطيرة نهى الله سبحانه وتعالى سب الآلهة المزيفة التي يعبدها أصحاب الباطل.
• نبغض الباطل ولا نبغض أهله.
الكثير يخلطون بين الباطل والقائم به، مما يجعلهم لا يتركون فراغا في قلوبهم وإن كان يسيرا فيه رحمة وشفقة تدعوهم للقيام بنصيحة ذلك العاصي، بل يتركونه مع الشيطان دون أن ينتزعوه منه أو يحاولوا الانتزاع، ويحرمونه حتى من بسمة حانية تعيد له الأمل بالرجوع إلى الجادة. وهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء يمر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم:
((لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا: بلى.
قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.
فقالوا: أفلا نبغضه؟
فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي))
• ما أنا عن نفسي براض..(6/84)
إن أبا الدرداء رضي الله عنه عندما قال لهم ((واحمدوا الله الذي عافاكم)) إنما أراد أن يذكرهم فضل الله عليهم إذ هداهم للإيمان، ولولا فضل الله عليهم لربما كانوا مثل ذلك الذي يسبونه أو أشد، وأراد أن يذكرهم بنعمة الهداية والتي أنعمها الله على من كان منهم في جاهلية معتمة، فهلا تذكرون الأيام الخوالي فيتنفسوا الصعداء، ويستشعروا نعمة الله عليهم ويقولوا (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ويكون ذلك دافعا لهم بأن يشفقوا على أصحاب المعاصي، ويكفوا عن سبهم، بل يفكروا كيف ينتشلوهم من الوحل الذي يتمرغون فيه، وبعد كل ذلك لا بد أن يفكروا دائما في تقصيرهم تجاه من هداهم للإيمان، ويحاولوا دائما إكمال نقصهم، فهذا هو التابعي الربيع بن خثيم الذي تكاملت صفاته حتى قال له ابن مسعود ((لو رآك رسول الله لأحبك)).
يغتاب في مجلس رجل، وكأن القوم أرادوا أن يشاركهم في ذم ذلك الرجل فقال ((ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب العباد وأمنوا على ذنوبهم)).
وكما أن القاعدة التي علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ..)) فكذلك الحال فيمن يقع في أعراض الناس، ويسبهم ويحتقرهم ويحقد عليهم إنما دعاه لذلك نسيانه لذنوبه وعيوبه وتقصيره.
• صلة يتفنن بالإنكار..
ويمر فتى يجر ثوبه بأصحاب التابعي المشهور صلة بن أشيم، ويهمون أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درسا عمليا بفن الإنكار فقال لهم ((دعوني أكفكم أمره، ثم قال:
يا ابن أخي أن لي إليك حاجة.
قال: ما هي؟
قال: أحب أن ترفع إزارك.
قال: نعم ونعمى عيني – أن أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك – فرفع إزاره.
فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم)).
فكم من شتيمة نسمعها من أصحاب الضلال بين الحين والآخر، بسبب تصرف كتصرف أصحاب صلة.
• متى تستخدمي الغلظة..
ومع أن الأصل في دعوة الناس هو الرفق والمداراة، إلا أن بعض أنواع الناس لا ينفع معه الرفق، بل إن الرفق يجعله يتمادى في منكره، ويجعله يتجرأ ويستخدم يده لضرب صاحب الإنكار، وربما أثر إلا أنه بمنكره على بعض الضعاف فيجعلهم يتشجعون لفعل المناكر جهارا أمام الناس، خاصة إذا كان منكره يحمل طعنا في العقيدة وفي مثل هذا الوضع لا بد لصاحب الإنكار أن يقوم بزجر صاحب المنكر، وأن يريه غضبه على ذلك، حتى يكون هذا سببا لردعه في التمادي في منكره، لهذا يقول الإمام أحمد:
((والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق، الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجل معلن بالفسق، فقد وجب عليك نهيه وإعلامه، لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة فهؤلاء لا حرمة لهم)).
=============
من صفات المرأة الداعية
ذا كنّا نتحدث عن الفتاة الملتزمة؛ فإنني لا أكاد أتصور فتاة أو رجلاً ملتزمًا يمكن أن يكون غير داع - في مثل هذه الظروف الواقعة الآن - لأن من الالتزام أن يدعو الإنسان.
ومعنى كون المرأة ملتزمة؛ أنها مطيعة لربها، والله ـ عز وجل ـ يقول: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [التوبة:71]. فأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ جزء من التزامها، وقيامها بالدعوة - أيضًا - جزء من التزامها؛ لأن الله تعالى يقول: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]،
ويقول تعالى أيضًا (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ( [البقرة: 143].
وقد أثبتت التجارب والأحداث الكثيرة، أن هذه الأمة -رجالاً ونساء - لديها قدرة على قبول الحق؛ بل لديها رغبة في إيجاد الحق والتزامه، فلا عبرة بقول إنسان إنه ملتزم لكنه غير داعية، لا يمكن هذا؛ لأن الملتزم -رجلاً كان أو امرأة- هو داعية إلى الله؛ إذ إنّ التزامه يعني أنه مطيع لله، والذي أمره بالصلاة هو الذي أمره بالدعوة، وهو الذي أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن أن نفرق بين هذا وذاك بحال من الأحوال، وينبغي أن نعلم بأن كل صفة نتصورها من الرجل الداعي؛ يجب أن تكون أيضًا في المرأة الداعية.
وسوف نتناول بعض الصفات المهمة التي تطلب من الفتاة والمرأة الداعية، كما هي مطلوبة أيضًا من الرجل الداعي:
*الصفة الأولى: العلم بما تدعو إليه:
يجب على المرأة الداعية أن تدعو إلى الله على بصيرة وعلى علم، فلا يمكن أن تدعو إلى شيء وهي لا تعلم هل هو من الشرع أم لا، هل هو من العبادات، أم من العادات، هل هو من الأمور الدينية، أم من التقاليد الاجتماعية الموروثة -مثلاً-؟!
والشرع واضح بحمد الله: إما آية محكمة، أوسنة ماضية، أو إجماع قائم، أو قول معروف مبني على اجتهاد صحيح واضح كالشمس. فلابد أن تعرف المرأة المسلمة الأمر الذي تدعو إليه بدليله، بحيث إذا قال لها أحد: ما الدليل؟ أو لماذا؟ استطاعت أن تجيبه عن ذلك.
*الصفة الثانية: القدوة الحسنة:(6/85)
قال الله تعالى على لسان نبيه شعيب – عليه السلام - : (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88]، وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتنْدَلِق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك، ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
إذاً من الخطورة بمكان، أن يتكلم الإنسان بلسانه، ويكذب ذلك بأفعاله.
يا واعظَ الناس قد أصبحتَ متَّهمًا
ذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها
أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهدًا
والموبقات- لَعَمري- أنت جانيها
فالتربية والدعوة بالسلوك أحيانًا أفضل من ألف محاضرة، وألف خطبة.. سلوك امرأة بين زميلاتها: في حسن خلقها وآدابها، ومظهرها ومخبرها، وطيب حديثها، والتزامها بشريعة ربها، وصلاحها؛ أعتقد أنه أفضل من كثير من الكلمات والمحاضرات.
*الصفة الثالثة: حسن الخلق والتواضع ولين الجانب:
ومن الصفات التي ينبغي أن تتصف بها الداعية: حسن الخلق، والتواضع، ولين الجانب؛ مما يحبب إليها الأخريات. ولعل غرس المحبة في نفوس المدعوات هو أول سبب لقبول الدعوة في حالات كثيرة، والأسلوب شديد التأثير في قبول الدعوة أو ردها، ولا يجوز لنا أبدًا أن نتجنى على الحق الذي نحمله حين نقدمه للناس بالأسلوب الغليظ الجاف؛ بل يجب أن نعطف على الآخرين، ونحتوي مشاعرهم، ونتلمس همومهم، ونشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، ولانستعلي عليهم أو نستكبر؛ فما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه.
وقد مدح الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم) [القلم:4] وقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]. فإذا كان هذا شأن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ فكيف بغيرهم من سائر الناس؟
*الصفة الرابعة : الاهتمام بالمظهر الخارجي:
ومن الصفات التي ينبغي أن تتحلَّى بها الأخت الداعية أيضًا: أن يكون عندها قدرٌ من الاهتمام بمظهرها.
أقول هذا لأنه قد يظن البعض أنني أدعو المرأة المتدينة الداعية أن تكون متبذلة، بعيدة عن الاهتمام بمظهرها.. كلا، فالمظهر هو البوابة الرئيسة التي لابد من عبورها إلى قلوب الأخريات.
ومن الطَبَعي أن تتحلى المرأة، أو تبحث عن الثوب الجميل، والله تعالى قال: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف: 18]. فكون الفتاة تنشأَ منذ طفولتها في الحلية هذا أمر طبعي، لا تلام عليه.
من الطبيعي أيضًا: أن تهتم المرأة بتسريح شعرها، والرسول – صلى الله عليه وسلم - أوصى بذلك الرجل، فقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بيده: أن اخرج، كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان"، فالمرأة مع بنات جنسها، من باب أولى يجب أن تعتني بمظهرها.
ونحن بطبيعة الحال، لا نقبل أبدًا أن تتبرج المرأة بزينة، ولا أن تتطيب لخروجها من بيتها، لكن هذا لا يعني بحالٍ التبذل، أو أن تذهب إلى المجتمعات النسائية في أثواب مهنتها، خاصة عندما تكون داعية يشار إليها بالبنان.
*الصفة الخامسة: الاعتدال:
من الصفات التي يجب أن تتحلى بها الداعية: الاعتدال في كل شيء. ومن الاعتدال: الاعتدال في المشاعر، بين الإفراط والتفريط.
فنحن نجد أن بعض الأخوات تكون جافة في عواطفها ومشاعرها تجاه الأخريات: لا تتجاوب معهنَّ، ولا تبادلهن شعورًا بشعور، وودًّا بود، ومحبة بمحبة، ولا تبتسم في وجوههنَّ، وترى أن جديَّة الدين، وجدية الدعوة، تتطلب قدرًا من الصرامة، والوضوح، والقسمات الحادة، وهذا أمر- بلا شك- غير مقبول. يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة"، ونقول للمرأة أيضًا: تبسمك في وجه أختك صدقة؛ فالحكم عام.
بالمقابل هناك من النساء ومن الأخوات، من تبالغ في إغراق الأخريات بمشاعر تصل أحيانًا إلى حد الإفراط، فتجد أن من الأخوات من لا تصبر عن فلانة ساعة من نهار، فإذا ذهبت إلى بيتها بدأت تتصل بها بالهاتف، وتكلمها الساعات الطوال، وربما خلت بها أوقاتًا طويلة، تبث إحداهنَّ إلى الأخرى مشاعرها، وهمومها، وشجونها؛ بل ربما تغار لو رأت أخرى تجالسها أو تحادثها؛ لأنها تريدها لنفسها فقط!!.
كاتب المقال: سلمان بن فهد العودة
المصدر: لها أون لاين
=============
الاختلاف والائتلاف(6/86)
الاختلاف من طبيعة البشر ؛ نظراً لاختلاف حظّهم من العلم ، وقدرتهم على الفهم ، وتنوع ميولهم ، وتباين بيئاتهم ، وقد ورد الاختلاف في المسائل الاجتهادية عن الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم من الأئمة المعتبرين ، لكن اختلافهم تميز بأن أساسه فهم طبيعة الاختلاف ، ورائده إصابة الحق والنصح للخلق ، ومادته الحجة والبرهان من السنة والقرآن ، وطريقته الرفق والحسنى ، ونهايته الموافقة مع الأجر ، أو عدمها مع التماس العذر ، فاختلافهم لم يمنع ائتلافهم .
فهذا يونس الصدفي يقول : " ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " ، ولم يكن الاختلاف عندهم سبباً في انتقص المخالف ، أو اتهامه والتعريض به ، أو بغضه والتحامل عليه ، ولله در الإمام أحمد بن حنبل حيث قال : " لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه ، وإن كان يخالفنا في أشياء ؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً " .
وكان السابقون أصحاب بصر وبصيرة ، فأدركوا أن الاختلاف – في غير الأصول الثابتة المعلومة من الدين بالضرورة - كثير الوقوع ، وينبغي أن لا يكون سبباً للشقاق ، ولا طريقاً للافتراق ، بل إذا وقع الاجتهاد من أهله وفي موضعه فكلٌ وما أداه إليه اجتهاده لا يلزم أحدهم الآخر بقوله ، بل ينكر أحدهم على الآخر فعله ، وهاهو الإمام سفيان الثوري يقول : " ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به " .
والإمام مالك كان من الفقه والورع بمكان عندما أراد الخليفة المنصور أن يعمل المسلمون بما في موطأ مالك ويدعو ما سواه ، فأبى وقال: " لا تفعل يا أمير المؤمنين ؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وعملوا به ، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وغيرهم ، وإن ردوهم عما اعتقدوا شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم " نعم ، فليس اجتهاد .
وإن كان النصح مطلوباً ، وبيان الحجة مرغوباً ، فقد سبقونا إليه ، فذكروه وطبقّوه وأصلوه ، وما أجمع وأمتع وأنفع مقالة النووي في ذلك حيث قال: " ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة ، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين:كل مجتهد مصلب ، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم ،وعلى المذهب الآخر المصيب واحد ،والمخطئ غير متعين لنا ،والإثم مرفوع عنه ،لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب إلى فعله برفق ،فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر " .
هذا الاختلاف لم ينقص أسباب الائتلاف بل زادها ، ولم يقوض معالم الحرية بل شادها ،غير أننا نرى في الساحة الإسلامية اليوم صوراً مناقضة فالبعض يريدون الاحتكار فلا صحة إلا لأقوالهم ،ولا صواب إلا في اجتهادهم ،ولا سداد إلا في آرائهم ،وتجدهم يضيقون بكل من يخالفهم الرأي ولا تجد عندهم روح التسامح ولا أدب الحوار ،فتراهم إذا وردت مسألة وكان فيها اختلاف معهم احمرت وجوههم وانتفخت أوداجهم وعلت أصواتهم ،وغلت قلوبهم وكأنهم في ميدان معركة لا في مجلس مناقشة ، وكأنما هم يحاربون الأعداء لا أنهم يحاورون الأصدقاء ،بينما كان ابن قدامه صاحب المغني - أحد أوسع كتب الخلاف الفقهي - "لا يناظر أحداً إلا وهو مبتسم " ، نعم لأنه محب مخلص لا مبغض متربص .
إنني ليستبد بي الحزن عندما أرى شباباً لا هم لهم إلا البحث عن الخلافيات ، ويعنون بقضايا فرعية هامشية ، ويطوّلون فيها الخلاف ، فتتبدد جهود كان الأولى أن تصرف في ميدان أجدى وأحرى ، وبعضها قضايا الخلاف فيها قديم ومشهور فيعيدون ويزيدون ويفضي الأمر – للأسف - إلى التنابز بالألقاب ، وتبادل التهم ، فهذا يصف أخاه بالتكبّر على الحق ، والثاني يصفه بأنه لا يتبع السنة ، وكل ينتقص قدر أخيه ، ويحط عليه ،بل وينفر الآخرين عنه ، ويرقي الأمر إلى التقاطع والتدابر والهجر ، وبذلك يكونون قد وقعوا فيما ثبت بلا نزاع النهي عنه في الكتاب والسنة من التباغض ونقص الأخوة ،والعجيب أن كثيرين من هؤلاء ليسوا من أهل العلم فضلاً عن أن يكونوا من أهل الاجتهاد ، فعلامَ إذن يخوضون فيمن يعرفون والأنفع لهم أن يشغلوا أنفسهم بالعمل الصالح ، والعلم النافع ، وأن يجتهدوا في تزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم ، والله المستعان.
كاتب المقال: د. علي بن عمر بادحدح
=============
مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
" الكثير ممن يشعرون بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته يحصرونها فكرياً وعملياً أو عملياً في دائرة الرجال دون النساء، يظن أولئك أنه ما على النساء تجاه هذه الفريضة من شيء.."
كان هذا هو الدافع الذي ذكره، الأستاذ في كلية الدعوة والإعلام، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: (فضل إلهي ظهير)، لإخراج كتابه (مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء النصوص وسير الصالحات) تبصرة وتذكيراً لعموم المسلمين والمسلمات، ضمن جملة كتب استمر في إخراجها قرابة العقد من الزمن، تمحورت حول هذا الأصل الإسلامي العظيم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بتفرعاته وما يندرج تحته، كالحسبة عموماً، والحسبة على الأطفال والوالدين، والدعوة إلى الله.. إلخ، لذا تبرز أهمية هذه الدراسة، من خلال اختصاص المؤلف في هذه القضية من جهة، وربطها بالدور النسائي المنوط بها، من جهة أخرى.(6/87)
كل ذلك من خلال دراسة النصوص الشرعية، وسير الصالحات، محدداً سبعة أسئلة تجيب عنها الدراسة، وهي كالتالي:
1- هل على النساء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
2- ما أهمية قيام النساء بالأمر بالمعروف والنهي عني المنكر؟
3- هل قامت المسلمات من سلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعامة الناس وللأقارب والمعارف؟
4- هل قامت المسلمات من سلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للعلماء وطلبة العلم؟
5- هل قامت المسلمات من سلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأصحاب السلطة؟
6- هل تُعيّن المرأة على حسبة السوق؟ وما أدلة منع تعيينها؟
7- ما حجج قائلي جواز تعيينها؟ وما حقيقة تلك الحجج؟
الدراسة حوت مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، كان الفصل الأول منها بعنوان: "مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته" الذي تتبين من خلاله أهمية الموضوع بالنسبة للمرأة، تتضح في المبحثين الذين اندرجا تحت هذا الفصل، حيث أتى المبحث الأول على إيراد النصوص الدالة على مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) مستشهداً بتفاسير الأئمة والعلماء وأقوالهم في هذه الآية وغيرها، كقول الإمام ابن النحاس الدمشقي: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجدت الاستطاعة".
أما المبحث الثاني فقد خصص للتحدث عن أهميته قيام النساء بالاحتساب لأسباب عدة منها:
أ- بقاء النساء مع الأولاد لفترة أطول من مكث الرجال معهم.
ب- كون الأولاد أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء.
ج- خوف ضياع جهود الرجل الاحتسابية عند عدم انسجام المرأة معه فكرياً.
د- لبعض الزوجات أثر عظيم على أزواجهن.
ه- للبنات رعاية كبيرة واهتمام بالغ من قبل بعض الآباء.
وقد تحدث المؤلف بالتفصيل عن كل من النقاط السابقة، ثم انتقل إلى الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان: "نماذج قيام المسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"؛ حيث نقل صور إدراك المسلمات من سلف هذه الأمة لمسؤوليتهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسعيهن الواضح للقيام بها؛ حيث سجلت كتب السنة والتراجم، والتاريخ نماذج قيامهن بالاحتساب على عامة الناس، والأقارب والمعارف، والعلماء وطلبة العلم، وأصحاب السلطة، مفرداً كل منها بمبحث مستقل، تندرج تحته عدة مطالب نقل فيها الشواهد التفصيلية لكل مبحث، من مصادرها الأصلية، أورد في المبحث الأول الخاص بالاحتساب على المعارف والأقارب، 38 شاهداً نقلة عن مجموعة من الصحابيات منها: أمر حفصة - رضي الله عنها - أخاها بالزواج، وإنكار عائشة رضي الله عنها - على المرأة المتشبهة بالرجال، وأمر معاذة العدوية من أرضعتها باجتناب أكل الحرام.. وغيرها من الصور والشواهد الثابتة في كتب السير.
أما المطلب الثاني فكان عن "احتساب المسلمات على مجموعات من عامة الناس والأقارب والمعارف" حيث كن يحتسبن على مجموعات أو على قضايا عامة تنتشر في وقت دون معرفة مصدرها، وذكر تحته 19 شاهداً وقصة من حياة الصحابيات رضي الله عنهن، كإنكار عائشة رضي الله عنها - على من أخروا ركعتي الطواف إلى وقت الكراهة، و إنكار أم سلمة على سكوت من سُبَّ عنده علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما، وأمر حفصة بنت سيرين للشباب باغتنام شبابهم.
أما المبحث الثاني من هذا الفصل، والذي جاء تحت عنوان: "احتساب المسلمات على العلماء وطلبة العلم"، ذكر فيه 17 شاهداً يدل على هذا المبحث، كإنكار عائشة - رضي الله عنها - على عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - فتواه بنقض رؤوسهن عند الغسل، وإنكار أم سلمة على سمرة بن جندب - رضي الله عنهما - فتواه بقضاء صلاة الحائض، واحتساب أم الدرداء على من أخطأ في فهم المراد بطلب الرزق من الله تعالى.
وفيما يخص "احتساب المسلمات على أصحاب السلطة" فقد أتى مفرداً في المبحث الثالث، وقد تضمن ست شواهد تدل على مسؤوليتهن في هذا المجال، كأمر عائشة - رضي الله عنها - أمير المدينة برد المطلقة إلى بيتها، وإنكار أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - على الحجاج قوله في أبيها رضي الله عنه، واحتساب امرأة قرشية على الفاروق - رضي الله عنه - بسبب منعه الزيادة في مهور النساء.
أما الفصل الثالث والأخير فكان عنوانه: "هل تعيَّن المرأة على حسبة السوق؟" حاول من خلاله بحث هذه المسألة التي تعد من مسائل الخلاف التي يختلف الحكم فيها باختلاف الزمان والمكان، بعد النظر لمآل العمل بها، وبحث الذرائع المانعة منها، فقد قدم المؤلف عرضاً لأدلة المنع، التي يرجحها، ومناقشاً حجج القائلين بجواز تعيين المرأة على حسبة السوق، وهو الرأي المرجوح بالنسبة للمؤلف، مستشهداً ببعض الإحصائيات والاقتباسات التي تعرض حالة المرأة الغربية لخروجها لمجالات العمل العامة، ومع خطورة هذه الإحصاءات التي تنقل صورة بائسة بالجملة، تبقى قضية عمل المرأة كمحتسبة في الأماكن العامة، من القضايا القابلة للنقاش والتطوير، حيث توفرت اليوم صور وأوضاع جديدة يمكن للمرأة أن تسمهم من خلالها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بطريقة مؤسسية تراعي الضوابط والحدود الشرعية، وتتوافق مع أعراف المجتمعات الإسلامية المتنوعة.(6/88)
في الخاتمة خرج المؤلف بعدة أمور تجلت من خلال هذا البحث، منها:
1- يجب على النساء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجب على الرجال.. ويدل على ذلك النصوص العامة الدالة على فرضية الاحتساب بصفة عامة، وبعض النصوص الواردة في شأن النساء بصفة خاصة.
2- إن للنساء كأمهات، وزوجات، وبنات، وأخوات، مكانة عظيمة ومنزلة كبيرة عند كثير من الأبناء، والأزواج، والآباء، والإخوان، فعليهن استغلال تلك المنزلة لأمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر.
3- قامت المسلمات من سلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعامة الناس، والأقارب، والمعارف، والعلماء وطلبة العلم، وأصحاب السلطة، كما قمن بالاحتساب على الرجال والنساء، والكبار والصغار.
4- قد قمن - رحمهن الله تعالى - بالاحتساب في مجالات كثيرة تشمل العقائد، والأحكام، والرقاق، والآداب، والتفسير والمناقب وغيرها.
5- قد كنّ - رحمهن الله تعالى - يستندن في احتسابهن إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
6- قد كنّ - رحمهن الله تعالى - يستخدمن درجات مختلفة من درجات الإنكار: من تعريف، ووعظ ونصح، وتخويف وتعنيف، وإزالة باليد، والتهديد، على حسب ما كان يقتضيه المقام.
7- جعل الله تعالى لاحتسابهن قبولاً وأثراً في أغلب الأحوال فتنبّه المخطئ، وتحقق المعروف، وزال المنكر بفضل الله تعالى.
هذا وقد تميزت الدراسة بدقة النقل والإحالة إلى المصادر والمراجع الأصيلة، مع حرصٍ على الاستفادة من تفاسير المفسرين، وشروح المحدّثين، عند الاستشهاد بالآيات والأحاديث، وشرحٍ للكلمات الغريبة الواردة في النصوص المنقولة، وذكر معلومات وافية عن المراجع تسهيلاً لمن أراد الرجوع إليها للاستفادة منها.
المصدر: لها أون لاين
==============
فقه مراتب الأعمال
الفقه استنباط للمعاني:
اتفقت نصوص الكتاب والسنة على أهمية الفقه بالنسبة للمسلم، وحثت على طلبه وإعلاء شأنه، ففي الصحيحين عن معاوية أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)(1)، والفقه: الفهم؛ فهم معاني الكلام ومراميه وإنزاله منازله.
وثبت في نصوص أخرى أن الفقه ليس هو حفظ النصوص واستعراضها، وإدراك ظواهر ألفاظها، فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أَرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، شربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه الله به فَعلم وعَلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) (2).
فالمستجيبون لما بعث الله به رسوله صنفان: صنف أول: تلقى الهدى والعلم فأنبت منه (الكلأ والعشب الكثير) علما وعملاً، إذ فَجّر من ذلك علماً وفقهاً كثيراً نفع الله به، وصنف ثان: نقل الهدى والعلم كما تلقاه، فهو بمثابة الأرض التي يستقر فيها الماء فينفع به الناس.. فالأولون فقهاء والأخيرون حفظة، ولكلٍ دوره ومكانته.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلّغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (3)، وهذا التأكيد نفسه على أن حمل النصوص وحفظها لايصنف وحده الإنسان في دائرة الفقهاء، بل هو في حاجة إلى شروط زائدة: فطرية ومكتسبة.
ولذلك لم يكن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلهم في مستوى واحد من الفقه أو الحفظ، بل كان منهم فقهاء عرفوا بعمق الاستنباط ودقة الفهم والقدرة على الغوص في عمق التشريع، من أمثال الخلفاء الراشدين وعبد الله بن عباس، وكان منهم قراء حفظوا القرآن وأتقنوا حروفه، وأحكموا آياته من أمثال زيد بن ثابت، وكان منهم محدثون انصرفت همتهم إلى حفظ الحديث وإتقانه مثل أبي هريرة وكان لكل منهم حظ معين في التخصصات الثلاثة كلها، إلا أن همته كانت مصروفة أكثر إلى الفقه أو القراءة أو حفظ الحديث. وهناك من اشتهر في الفقه والحفظ كليهما مثل عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنهم جميعاً).
وعندما دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقهه في الدين) (4) لم يكن المقصود أن يكثر حفظه للنصوص أو أن يدرك ظواهر ألفاظها فقط، بل المقصود من الدعاء: أن يبارك في فهمه واستنباطه، حتى يستخرج من النصوص كنوزها، ويدرك من الكلام معانيه ومراميه؛ لذلك كانت أرضه من أطيب الأراضي وأخصبها، قبلت الهدى والعلم النبويين، فأنبتت من كل زوج كريم.
يقول ابن تيمية وهو يعقد المقارنة بين حفظ أبي هريرة وفقه ابن عباس: (وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق: يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ماحفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها) (5).(6/89)
وهكذا فإن على شباب الصحوة الإسلامية أن يدركوا أن مجرد قراءة النصوص وحفظها ليس فقهاً، بل الفقه شيء زائد عن مجرد الألفاظ، وهذا أمر ورد واضحاً في قوله (تعالى): ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء: 82]: قال ابن كثير في تفسير الآية: (يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه)، فالكلام أن معنى يستنبط يستخرج، يقول: (ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقه الاستنباط، إذ إن موضوعات الألفاظ لاتنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه، وحمد من استنبط، من أولي العلم حقيقته ومعناه).
لذلك فإن معرفة فنون العلم والفقه الواردين في الشرع، وتتبع تقريرات علماء السلف في ذلك هو وحده العاصم من الخروج عن مراد الشرع نظراً وعملا، وهو الهادي للسداد والتوفيق ولخيري الدنيا والآخرة.
المقصود بفقه مراتب الأعمال:
هو من أنواع الفقه التي يجب أن يتعلمها المسلم ويهتم بها، وهو يعني: العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها، فإن كانت الأعمال طاعة علم أيّها أحب إلى الله وأكثرها أجراً وثواباً، وإن كانت معصية علم أيّها أبغض إلى الله وأكثرها وزراً وعقوبة، وإن كانت الأعمال وسيلة إلى أهداف معينة (المقاصد الشرعية مثلاً) علم أيّها أقدر على تحقيق هذه الأهداف، وأيّها أولى بذلك، وإن كان الإنسان أمام بدائل متعددة من خير أو شر، علم خير الخيرين وشر الشرين، وإذا جهل المسلم أي الأعمال أفضل وأولى لاشك أن ينفق وقته وجهده وماله في أجر أقل ويفوت ماهو أجل وأعظم، وأنه اختلطت لديه مراتب الأعمال واختل لديه توازنها قد يصل إلى عكس مقصود الشرع؛ فيأثم من حيث يريد أن يغنم، أو إلى عكس مقصوده في الواقع؛ فيفسد من حيث يريد أن يصلح.
القرآن الكريم ومراتب الأعمال:
وقد وردت آيات عديدة في كتاب الله (عز وجل) تبين أن الأعمال ليست كلها في درجة واحدة، بل تختلف درجاتها في الخير، كما تختلف دركاتها في الشر.
ومن ذلك قوله (تعالى): ((إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [البقرة: 271]. قال ابن كثير: (فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها)*.
ومن ذلك أيضا قوله (تعالى): ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [التوبة: 19] ففاضلت الآية بين أمرين كلاهما طاعة وقربة، وبينت أنهما لايستويان عند الله (تعالى).
وفي قوله (تعالى): ((لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) [القدر: 3] دليل على أن عبادة وقيام ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر.
كما بين القرآن الكريم في آيات أخرى: أن المحرمات منها الكبائر والصغائر، فقال (تعالى): ((إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً)) [النساء: 31]، وقال سبحانه مادحاً عباده المحسنين: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ)) [النجم: 32]. فدلت الآيتان على أن المنهيات قسمان: كبائر، وأخرى دونها سميت في الآية الأولى سيئات، وفي الثانية لمَماً. قال ابن كثير (لأن اللمَمَ من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال).
السنة النبوية ومراتب الأعمال:
والسنة النبوية زاخرة بالنماذج والأمثلة لتفاضل الأعمال والتكاليف الشرعية التي يجب على المسلم مراعاتها في عبادته وحركته في الحياة، وربما يكون أجمع حديث في ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الإيمان بضع وسبعون ـ أوبضع وستون ـ شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)(6).
وقد سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراراً عن: أي الإسلام أفضل، أو أيه خير فأجاب، وإنما المقصود أي أعمال المسلم أفضل أو أخير؛ ولذلك بوب الإمام النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من ذلك النوع، فقال: (باب بيان تفاضل الإسلام، أو أي أموره أفضل)(7).
وفي المقابل بينت أحاديث عديدة كون الذنوب أنواعاً ومراتب، فعن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يارسول الله. قال ـ ثلاثاً ـ: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) وكان متكئاً فجلس فقال: (ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور) (8). وعن عبد الله بن مسعود قال: قلت يارسول الله: أي الذنوب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك) (9).
أصول الفقه يضع القواعد:
وانطلاقاً مما مر، فقد اتفقت الأمة على أن الأحكام الشرعية التي كلف بها المسلم أنواع ومراتب، وليست على ميزان واحد، كما اتفق جمهور العلماء على انقسام مأمورات الشرع إلى واجبات ومستحبات، وانقسام منهياته إلى مكروهات ومحرمات. يقول مجد الدين ابن تيمية في المسودة: (اتفق الفقهاء والمتكلمون على أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم ومكروه ومباح) (10).(6/90)
ولأن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولايخلط بين أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق، فقد بين العلماء ـ والأصوليون منهم بالخصوص ـ تعريف كل نوع من الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، ووضعوا قواعد لكيفية استنباطها وأساليب التفريق بينها، كما قرروا أنه ـ لذلك ـ لايجوز أن يُسوّى بين الواجب والمندوب (لافي القول ولا في الفعل ولافي الاعتقاد)(11)، ولايسوى بين الحرام والمكروه(12)، ولابين المباح وبين المندوب والمكروه(13)، يقول الشاطبي: (الواجبات لاتستقر واجبات إلا إذا لم يُسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولايُسامح في تركها البتة، كما أن المحرمات لاتستقر كذلك إلا إذا لم يسوّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلاتفعل، ولايسامح في فعلها) (11).
والمصالح الشرعية مقسمة إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، وهي مرتبة هذا الترتيب، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضروية كما يقول الشاطبي: (ليست كالأوامر الشرعية المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الضروريات ليست في الطلب على وزان واحد، كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس، ولا النفس كالعقل إلى سائر أصناف الضروريات، والحاجيات كذلك..)(14).
إذاً لايكفي المسلم أن يعلم ما أَمَر به الشرع أو مانهى عنه، بل عليه أن يعلم أيضا درجة الأمر أو النهي، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولاتفريط.
فقه مراتب الأعمال خاصةُ العلماء بهذا الدين:
وقد وصف الإمام ابن تيمية فقه مراتب الأعمال بأنه حقيقة الدين، وحقيقة العمل بما جاءت به الرسل، وبأنه خاصة العلماء بهذا الدين. يقول: (فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيراً. فأما مراتب المنكر ومراتب الدليل، بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكرين: وترجح أقوى الدليلين، فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين) (15).
أما تلميذه ابن القيم فقد اعتبر انشغال الإنسان بالأعمال المفضولة عن الفاضلة من عقبات الشيطان التي لايتجاوزها المسلم إلا بفقه في الأعمال ومراتبها، إن الشيطان في هذه العقبة يأمر الإنسان ويُحَسّن له الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، ويريه مافيها من الفضل والربح؛ ليشغله بها عما هو أفضل وأعظم كسبا وربحاً، (لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب، طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له)، ثم قال ابن القيم: (فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها، وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيساً ومرؤوسا، وذروة وما دونها... ولايقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولي العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه) (16).
غياب حس الأولويات:
لقد كان لعدم الاهتمام بتعليم المسلم هذا الفقه الجليل آثار قد تكون بعيدة المدى وشديدة الضرر دنيا، وأخرى. ومن تلك النتائج:
1- ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة وتروي لنا السنة من ذلك أمثلة كثيرة فعن أنس قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الرّكَاب، فقال رسول الله (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) (17).
وقد يصل الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه، فعن أبي هريرة قال: قال رجل: يارسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال: (هي في النار) قال: يارسول الله فإن فلانة... يذكر من قلة صيامها، وصدقتها وصلاتها، وأنها تصدق بالأثوار من الأقط (أي بالقطع من اللبن المجفف) ولاتؤذي جيرانها، قال: (هي في الجنة) (18).
كما أن ابن الجوزي قد ذكر أمثلة متعددة لدى العبّاد بالخصوص، كلها ناتج عن قلة الفقه بمراتب الأعمال، قال مثلا: (وقد لبّس إبليس على جماعة من المتعبدين، فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض، ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة، أو يقوم فيتهيأ لها فتفوته الجماعة أو يصبح كسلاناً فلا يقدر على الكسب لعائلته) (19).
2- سوء فهم الشريعة: إن الجهل بمراتب الأعمال عندما يكون عاماً، يؤدي إلى فوضى فكرية عارمة، تشوه الشريعة وتخل بتوازنها، لقد أرسى الشرع بين المأمورات والمنهيات توازنا لايجوز الإخلال به، تماما كَنِسَب الدواء الواحد، قد يؤدي تغييرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه، إن لم ينقلب إلى سم قاتل، ومن ذلك أن المسلم اليوم مثلا قد أضحى عنده ترتيب جديد لأوامر الشرع، يجعل الشعائر التعبدية (فرائض ومستحبات) أعلى مرتبة من سائر الواجبات والفرائض الأخرى، وأوكد من ترك منهيات الشرع (محرمات ومكروهات).(6/91)
3- غياب حس الأولويات في الدعوة: فسوء فهم الشريعة واختلاط مراتب أحكامها يؤدي إلى عجز الدعاة عن البدء بما يجب البدء به. فإذا كان في أحكام الدين واجب ومستحب، وفاضل ومفضول، فإن الدعوة إلى الواجب والفاضل مقدم على الدعوة إلى مادونها، لكننا نرى من بين شباب الصحوة الإسلامية ودعاتها من ينشغل بالمسائل المرجوحة والأحكام الخلافية، وتُبدد الجهود والطاقات فيها، والأولى البدء بالدعوة إلى أصول العقيدة والشريعة، وبذل الجهد في معالجة القضايا المصيرية الكبرى للأمة. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد من اعتبار درجة المعروف ودرجة المنكر، حتى لايُفسد الإنسان بدل أن يصلح، وحتى لاينفّر بدل أن يبشر، ولذلك اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه: (إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لايفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر، أُمر به، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه، وإن استلزم ماهو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزِم للمنكر الزائد عليه، أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله) (20) إن هذا النص تطبيق رائع لفقه مراتب الأعمال وتقديم الراجح منها، وقد صاغ الأصوليون ذلك في قواعد تشريعية هادية مثل: دفع أشد المفسدتين بأخفهما. والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما، وتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، وعدم ترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة..
ولايستقيم عمل دعوي إلا بفقه هذه الأصول والقواعد والالتزام بها، فعسى أن يوفق أبناء الصحوة الإسلامية وشبابها إلى ذلك، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) البخاري ـ كتاب العلم ـ باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ومسلم ـ كتاب الزكاة ـ باب النهي عن المسألة.
(2) البخاري ـ كتاب العلم ـ باب فضل من علم وعلم، ومسلم ـ كتاب الفضائل ـ باب بيان مثل مابعث النبي -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والعلم.
(3) ابن ماجه في سننه ـ في المقدمة ـ باب من بلغ علماً، وأحمد في المسند. وورد بروايات عدة متقاربة عن زيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهما، انظر الألباني ـ صحيح الجامع الصغير (1/225).
(4) البخاري ـ كتاب الوضوء ـ باب وضع الماء عند الخلاء، وهو في مسند أحمد باللفظ نفسه. وروي في االصحيحين وفي السنن بألفاظ مختلفة، انظر: فتح الباري (1/204، 205).
(5) مجموع الفتاوى (4/93، 94).
(6) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، انظر صحيح الجامع الصغير للألباني (2/417).
(7) شرح النووي على مسلم (2/9).
(8) البخاري ـ كتاب الأدب ـ باب عقوق الوالدين من الكبائر، وأخرجه أيضا مسلم وأحمد والترمذي.
(9) البخاري ـ كتاب الأدب ـ باب قتل الولد خشية أن يأكل معه.
(10) المسودة في أصول الفقه (ص: 65)، وانظر باب الحكم الشرعي في كتب أصول الفقه.
(11) الموافقات (3/321) و (3/336).
(12) نفسه (3/331).
(13) نفسه (3/326)
(14) نفسه (3/206)
(15) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 28).
(16) مدارج السالكين(1/221).
(17) البخاري ـ كتاب الجهاد ـ باب فضل الخدمة في الغزو ومسلم ـ كتاب الصيام ـ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، والنسائي ـ كتاب الصيام فضل الإفطار في الصيام، واللفظ هنا لمسلم، الرّكاب: الرواحل وهي الإبل التي يسار عليها (البيان).
(18) أخرجه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد. كذا في الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (19/219).
(19) تلبيس إبليس (ص 141)
(20) الحسبة (ص 38 ـ 39)
• لكلام ابن كثير تتمة، معرفتها مهمة، وهي قوله: (لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية.
كاتب المقال: د. سعد الدين العثماني
=============
ضوابط المصلحة الدعوية (1)
شاع استخدام مصطلح "المصلحة الدعوية" في كثير من الأوساط الدعوية كدليل احتجاج وتأصيل , واستخدم أيضاً كدليل إدانة ضدها من بعض التيارات المضادة للصحوة كاتهام بتسييس الدين وأدلجته . ونظراً لأهمية هذا الموضوع والحاجة لإزالة اللبس والخلط حول هذا المفهوم ومستلزماته الشرعية ؛ أحببت أن أسلط الضوء على بعض تلك المسائل الأصولية وأجلي الموقف حول صحة الإستدلال بها في قضايا الدعوة والإصلاح .
فالمصلحة عند الأصوليين لها تعريفات مختلفة اللفظ متقاربة المعنى والمدلول ، فقد قال الإمام الغزالي رحمه الله في تعريفها: » هي جلب المنفعة ودفع المضرة « ( 1 ) ، وقال الإمام الفتوحي رحمه الله هي : » إثبات العلة بالمناسبة « ( 2) أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد قال في بيانها : » هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة « ( 3 )
فالمصلحة الشرعية هي ما تضمنته أحكام الشريعة من جلب للمنافع ودفع للمضار في العاجل والآجل ، وهذا النوع من المصالح قد جاء النص مقرراً لها بعينها أو نوعها ؛ كالأمر بجميع أنواع المعروف والنهي عن جميع أنواع المنكر وككتابة القرآن الكريم صيانة له من الضياع وكتعليم القراءة والكتابة وغيرها مما تضمنته النصوص الشرعية من مصالح ومنافع ، فالمصلحة هنا أصل ثابت ودليل قائم تبنى عليه الأحكام ، وذلك لاعتبار النص لها وشهوده عليها .(6/92)
أما إذا كانت المصلحة مرسلة وهي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشرع ولم يرد في الشرع نصٌ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ، ولا على استبعادها . (4 )
فهذا النوع من المصالح المرسلة معتبر في حقيقتة ضمن مقاصد الشريعة ، وجمهور العلماء قد اعتبروا حجية المصلحة المرسلة وإن أنكرها بعضهم كما هو منسوب للشافعية والحنفية إلا أن كتبهم واجتهاداتهم قائمة في كثير منها على اعتبار المصلحة المرسلة ( 5) .
فإنها وإن لم ينص دليل خاص على اعتبارها لكن الاستقراء التام لنصوص الشرع يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها ودرء المفاسد وإلغائها أوتخفيفها .
يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ : » والشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم « ( 6) .
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : » الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها « ( 7) .
والصحابة رضي الله عنهم جروا في اجتهادهم على رعاية المصالح وبناء الأحكام عليها فمن ذلك : جمع صحف القرآن في مصحف واحد ، وجمع المسلمين على مصحف واحد ، وتضمين الصُنّاع ، وقتل الجماعة بالواحد ، وتعريف الإبل الضالة ، ومنع صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم وغير ذلك .
يقول الآمدي رحمه الله : » فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها « ( 8) .
وبذلك تبقى الشريعة مرنة صالحة للناس لا تقف بهم وسط الطريق بل تحكم أفعالهم وترفع الحرج عنهم والله عز وجل قد جعلها رحمة للعالمين .
والدعوة إلى الله عز وجل نوع من أحكام الإسلام ؛ أمر الله عز وجل بها وحث عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم فأحكامها ووسائلها راجعة إلى قواعد الشرع وأدلته وأحكامه .
وبناء على ما تقدم نعرف أن المصلحة الدعوية إذ لم يشهد لها الشارع باعتبار أو بإلغاء فهي من قبيل المصلحة المرسلة شرعاً.واعتبارها حجة ؛ أمر مقرر عند العلماء وذلك لقيام الشريعة كلها على جلب المصالح ودفع المضار .
فما يراه الدعاة من أمور الدعوة وقضاياها فيه مصلحة كان حكمه الاعتبار وما رأوا فيه مفسدة كان حكمه الإلغاء والرد . ولكن العلماء خشيةً منهم في دخول الهوى وحظوظ النفس في اعتبار المصلحة أو إلغائها بالنسبة للعلماء أو الدعاة وخصوصاً ما يحدث ويستجد من أمور قد يختلط على الناظر تقدير المصلحة على وجهها الصحيح قرروا في ذلك ضوابط لا بد منها في الأخذ بالمصلحة واعتبارها دليل يحتج به في النوازل والحوادث والمستجدات وعند تغير الظروف والأحوال والأزمنة
وهذه بعض الضوابط الشرعية في المصلحة الدعوية :-
أولاً : اندراجها ضمن مقاصد الشريعة .
فالمصلحة التي لم ينصّ عليها لا بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة : حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة ، ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثلاث مراحل بحسب الأهمية وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم : الضروريات والحاجيات والتحسينيات ( 9 ) .
فكل حكم تشريعي في الإسلام لا يخرج عن هذه المقاصد نُص عيه أو لم ينص عليه؛ بمعنى دلت عليه الأدلة الأخرى ومنها المصلحة المرسلة وذلك لاندراجها تحت نوع من تلك المقاصد الشرعية المعتبرة
ثانياً : أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة .
ويدل على ذلك عقلاً : أن المصلحة ليست بذاتها دليل مستقل بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس ،فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أثبتنا حجيتها عن طريقه وذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهو باطل.
وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى : وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ (10 ) وقوله تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ( 11) وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ( 12) .
فاعتبار المصلحة ورد الكتاب والسنة من تحكيم الهوى وهو منازعة لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا تعتبر المصالح الموهومة الغير مستندة إلى نص وفيها معارضة للكتاب والسنة مثل مصلحة إيجاب الصيام في كفارة الجماع بدل عتق الرقبة في حق الغني كما أفتى بذلك القاضي يحيى بن يحيى الليثي ـ رحمه الله ـ لوالي الأندلس في عصره .
ومثال ذلك : تحليل الربا باعتباره مصلحة اقتصادية مهمة ، وإباحة الزنا وبيع الخمور تشجيعاً للسياحة واستقطاب الأموال .
ومثاله أيضاً : من ذهب إلى القول بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في البلاد الكافرة .
ومثاله أيضاً إلقاء الرخص الشرعية لعدم الحاجة إليها في عصرنا الحاضر كالقصر والفطر في السفر ، أو التسوية بين البنت والابن في الميراث بدعوى المصلحة ، وغيرها من الأمثلة الكثيرة . ( 13)
وقد خالف في ذلك الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ كما اشتهر عنه , حيث نادى بجواز تقديم المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتها لهما . ( 14)(6/93)
وهذا القول لا شك أنه يؤدي إلى تعطيل الشريعة بنظر اجتهادي عقلي محض يجعل المجتهد أو الناظر في النصوص يقبل ما شاء منها ويرد ما شاء بزعم أنها تخالف المصلحة التي يراها من خلال ظنه وهواه ، فالمصلحة إذا عارضت النص والإجماع تعتبر ملغاة ولا يعتد بها ، ولذلك قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله ضمن حديثه عن المصلحة المرسلة : » ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود والمقدرات الشرعية ، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها وما لا يجوز فيه الاجتهاد « ( 15) .
فالمصلحة إذا خالفت ما هو منصوص عليه أو مجمع عليه فهي فاسدة غير معتبرة .
ثالثاً : أن تكون المصلحة يقينية :
بمعنى أن يعلم المجتهد أو الناظر في اعتبارها قطعية وجودها لا أن يظن أو يتوهم أويشك وجود المصلحة المبحوثة في المسألة ثم يحكم باعتبارها من خلال هذا الظن الغير معتبر في الشرع .
وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله هذا الشرط وذكره من خلال أمثلة من ذلك ؛ ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم فقد قال رحمه الله : » لا يحل رمي الترس – أي هذا المسلم الذي تترسوا به – إذ لا ضرورة فبنا غُنية فنعدل عنها ، إذ لم نقطع بظفرنا بها ، لأنها ليست قطعية بل ظنية « ( 16) ، وقال في صدد منع قطع المضطر قطعة من فخذه ليأكلها إلى أن يجد الطعام : » لكن ربما يكون القطع سبباً ظاهراً في الهلاك يمنع منه ، لأنه ليس فيه تعيين الخلاص فلا تكون المصلحة قطعية« ( 17) .
أما إذا كان الظن بوجود المصلحة ظناً راجحاً ناشئاً عن الاجتهاد فإنه ينزّل منزلة اليقين ؛ لأن غلبة الظن معتبرة شرعاً إذا عدم القطع . ( 18)
ويكفي للتدليل على اعتبار الظن الغالب في المصلحة ما اعترض به الغزالي رحمه الله على نفسه حيث قال : » بأن استأصال الكفار للمسلمين أمر مظنون فكيف نجيز قتل الترس بهذا المظنون ،،؟ وأجاب : » إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كلياً وعظم الخطر منه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه « ( 19)
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : » كذب الظنون نادر وصدقها غالب – أي في المصالح والمفاسد – وكذلك يبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسده على ظنون غالبة متفاوتة في القوة و الضعف والتوسط بينهما، على قدرحرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة« ( 20) .
رابعاً : أن تكون المصلحة كلية .
بمعنى أن لا تقتصر على فئة وتضر أخرى ، وهذا الشرط ذكره الغزالي رحمه الله كذلك وضرب له أمثلة منها : » إذا كان جماعة في مخمصة ولو أكلوا واحداً منهم بالقرعة لنجوا « وقال : » لا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية ، ومثلها لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحداً منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم ، وقال إنها ليست مصلحة كلية ؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور « ( 21) .
ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن تعمَّ الأمة جمعاء ، بل المراد أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة لا ينبغي أن ينظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم ممن هم شهود على هذه المصلحة وهذا ما أكده الإمام الزركشي -رحمه الله- في بيانه لمعنى مثال الغزالي -رحمه الله- حيث قال : » وصورة الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليها الكفار ، لا جميع العالم . وهذا واضح « ( 22)
فالمصلحة الكلية هنا لا تنفي اعتبار المصلحة الجزئية ؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فلا ينظر حينئذٍ إلى المصلحة الجزئية في مقابل الكلية . ( 23)
خامساً : عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها .
وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما يقدم ، ولا شك أن الذي يقدم هو الأهم والأولى في الاعتبار،وميزان الأهمية يرجع إلى ثلاثة أمور ؛ كما ذكرها د.البوطي :
أولاً : النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد . فالضروريات لا تقدم عليها الحاجيات أو التحسينيات ، كما لا تقدم التحسينيات على الحاجيات وهكذا ، فإن كانت المصالح في درجة الأهمية في سلم المقاصد واحدة ؛ ينظر حينئذٍ في :
الثاني : وهو من حيث مقدار شمولها ، فالمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة فإن كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر :
ثالثاً : مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه . فتقدم الأكيدة على الظنية كما بينا سابقاً . ( 24)
وهناك بعض المعايير المعتبرة أيضاً في تقديم بعض المصالح على بعض عند التعارض منها :
ا- أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة ، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل )) متفق عليه ( 25)
ب- أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة ، مثل مصلحة العلم أولى من مصلحة العبادة .
ج- أن المصلحة الأطول نفعاً تقدم على المصلحة المحدودة ، مثل تقديم الصدقة الجارية على غيرها . ( 26)
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله : » والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزَّة لا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب « ( 27) .(6/94)
ويزيد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة توضيحاً بقوله : » فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خاصة أو راجحة ، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة ، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها ، فهذه أقسام خمسة : منها أربعة تأتي بها الشرائع ؛فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له ، وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه ، فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلهابحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان . فمدار الشرائع والديانات علىهذه الأقسام الأربعة « ( 28) .
وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحياناً باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر .
يقول الشنقيطي رحمه الله : » والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ غاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها ، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال « ( 29) .
-----------
(1) المستصفى 2/139 .
(2) شرح الكوكب المنير 4/432 .
(3) مجموع الفتاوى 11/ 342 .
(4) انظر : الاستصلاح والمصلحة المرسلة د. الزرقا ص 39 ، السياسة الشرعية د. القرضاوي ص82 .
(5) انظر : إرشاد الفحول 3/808و809 ، الوجيز د. زيدان ص240، رفع الحرج د. الباحسين ص270، وفي ذلك يقول الإمام القرافي رحمه الله :‘‘ وهي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ؛ ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك " تنقيح الفصول ص446
(6) انظر : الموافقات 2/9 .
(7) إعلام الموقعين 3/13 .
(8) الأحكام للآمدي 4/32 .
(9) انظر المستصفى 1/141، شرح تنقيح الفصول ص446، البحر المحيط6/78-79،تقريب الوصول ص412، شرح الكوكب المنير4/432، ضوابط المصلحة للبوطي ص110 ومابعدها.
(10) المائدة 49 .
(11) النساء 59 .
(12) المائدة 44 .
(13) انظر : الاجتهاد المعاصر د. القرضاوي ص 68-72، ضوابط المصلحة للبوطي ص120 .
(14) انظر تحيق الكلام في خلاف الطوفي : ضوابط المصلحة للبوطي ص178، والاسصلاح والمصلحة للزرقاص75، وبحث د. أحمد الريسوني في مجلة المسلم المعاصر العدد 13 بعنوان :( النص والمصلحة بين التطابق والتعارض ) .
(15) المصلحة المرسلة ص10 .
(16) المستصفى 1/ 296 .
(17) المرجع السابق 1/ 297 .
(18) انظر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام مادة ( 1004 ) .
(19) المستصفى 1/300 .
(20) مختصر الفوائد في أحكام المقاصد ص 133و 134 .
(21) المرجع السابق 1/296، وانظر أيضاً : إرشاد الفحول ص243 ، رفع الحرج للباحسين ص 265 .
(22) البحر المحيط 6/ 80 . ومثال الغزالي الذي أشار إليه الزركشي مسألة تترس الكفار بأسرى من المسلمين وهذا المثال يجري في هذا الضابط أيضاً لأن المصلحة ليست كلية بل تضرر بها أولئك الأسرى من المسلمين . انظر : ضوابط المصلحة للبوطي ص 341 ، نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص 454 ، رفع الحرج للباحسين ص 264 .
(23) انظر : مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص 141و142 .
(24) انظر: ضوابط المصلحة للبوطي ص217 وما بعدها .
(25) رواه البخاري في كتاب التهجد باب من نام عن السحر رقم(1132) ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب في صلاة الليل رقم (741 )
(26) انظر: مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص141و142، قواعد الأحكام 1/66 طبعة دار الكتب العلمية .
(27) قواعد الأحكام ص47 تحقيق الخنّ .
(28) مفتاح دار السعادة 2/14 مكتبة محمد علي صبيح .
(29) المصالح المرسلة للشنقيطي ص 21 نقلاً عن معالم أصول الفقه للجيزاني ص245 .
كاتب المقال: د. مسفر بن علي القحطاني
=============
ضوابط المصلحة الدعوية (2)
وإذا كان واقع الدعوة المعاصرة مع ثقل ما تحمله على كاهلها من واجبات وأعباء لا تعطي لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر . فإننا نجد كثيراً من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتماماً بالغاً جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م
ذُكر في الجزء الأول من المقال أهم الضوابط الشرعية للعمل بالمصلحة المرسلة سواء كان العمل بها في مجال الدعوة والإصلاح أو غيره ذلك , وأحب أن أقرر بعد التمهيد السابق بذكر بعض التنبيهات والإشارات في التطبيقات الدعوية للمصلحة في واقعنا المعاصر، أوجزها فيما يلي:
أولاً : إن اعتبار الأخذ بالمصلحة وبناء الأحكام عليها وجعلها ذريعة لمواقف ومنطلقات تقوم عليها الدعوة ينبغي أن يحتاط له ولا يكون مدخلاً لنوازع النفس والهوى أو باباً مفتوحاً للأدعياء وأنصاف العلماء، أو نوعاً من الإقرار بالمصالح الضعيفة أو الموهومة نتيجة لضغط الواقع ، أو بحجة فقة التيسير ، أو توسعاً في الانفتاح على المجتمعات والرقي في سلم الحضارات .
ومن وسائل الاحتياط والاهتمام في الأخذ بالمصلحة في قضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أن تكون منطلقة من أهل الاجتهاد من العلماء والباحثين من أهل الفقه والعلم لسعة اطلاعهم وشمول معرفتهم لأحكام الشريعة، وكلما كان النظر والاستدلال من خلال اجتهاد جماعي لا فردي كان أكثر دقة وأقرب إلى الصواب وأقل احتمالاً في الخطأ.(6/95)
يقول د. عبد المجيد الشرفي في أهمية الاجتهاد الجماعي : »أنه ضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة… ولكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها ، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى وأكثر إصابة للحق « (1) .
وكان هذا النهج في النظر هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا نزل بهم أمر وأرادوا الحكم فيه؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك إذا أعياه أن يجد حكم مسألة ما في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . (2)
ثانياً: إن النظر في المصلحة ينبغي أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها من دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان من دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص من دون اعتبار بقية الناس وخصوصاً في الفتاوى والأنظمة العامة مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة أو الوقوع في محظور ، مع اعتبار الأولى من المصالح فالأولى بتقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعاً والأطول بقاءً على غيرها من المصالح المرجوحة الأخرى.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن المجتهد : »لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجاب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه… فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جارٍ على مقاصد الشرع« (3) .
ومن أمثلة اعتبارات المآلات والذرائع في الشرع : قوله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ …) (4) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الألْبَابِ ) (5) .
ومنها: النهي عن بيع العينة لأنها ذريعة للربا، وعدم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين كي لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبرهيم لأن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر، ونهيه للصحابة عن إخراج الأعرابي الذي بال في المسجد لما يتريب على ذلك من ضرر عليه وأذى في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة والغلو فيها حتى لا يحدث للإنسان ملل أو إفراط في الغلو المحظور. (6)
وللإمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه -رحمه الله- : » والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام:
1- أن تكون وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر مفضٍ إلى مفسدة السكر ، والزنا مفضٍ إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه.
2- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، كعقد النكاح بقصد التحليل أو عقد البيع بقصد الربا، وهذا ممنوع .
3- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، مثل الصلاة في أوقات النهي ، وسب آلهة المشركين ، وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة. وهذا ممنوع .
4- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها، والصلاة ذات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند سلطان جائر ، وهذا مشروع في الجملة . « (7)
ثالثاً : إن قاعدة النظر في المآلات قاعدة معتبرة شرعاً كما بينا ذلك وأكده الإمام الشاطبي -حمه الله- بقوله : »النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة « (8)
واعتبار المآلات في النظر والاجتهاد أمر مهم للمجتهد يجعل نظره ممتداً إلى ما يؤول إليه حكمه أو ما يتوقع أن يحدث من المكلف أو ما ينتج عنه في المستقبل ليراعي ذلك كله في اجتهاده (9)
ولاشك أن هذه النظرة الاسستشرافية للمستقبل كما يحتاجها المجتهد والمفتي وأهل القضاء؛ فإن الداعية أحوج ما يكون إليها وهو يقرر أحكام الله -عز وجل- في الأرض ويضع الخطط الإصلاحية والأهداف والوسائل الدعوية لتنزيلها على مختلف أنواع المكلفين وأصناف المجتمعات وأحوال البيئات والأزمنة.
وكل ذلك يتطلب أن يتجاوز الدعاة واقعهم القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون لهم دراسات مستقبلية يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيّره، ثم وضع برامجهم الإصلاحية مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجاً آمناً من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان.
وليس في ذلك ادعاءٌ للغيب أو تجاوز للشرع؛ وحاش للدعاة أن يدّعوه؛ بل إن ذلك معتبر ضمن ما ذكرناه من قاعدة اعتبار المآلات، والنواميس التي وضعها الله -عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله -عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف الدعاة نظام هذه النواميس والسنن وساروا ضمن قانونها العام فإنهم لن يعدموا خيراً ، إذ قد بذلوا ما في جهدهم من أسبابٍ تحقق لهم العزة والنصر بإذن الله .(6/96)
وإذا كان واقع الدعوة المعاصرة مع ثقل ما تحمله على كاهلها من واجبات وأعباء لا تعطي لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر . فإننا نجد كثيراً من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتماماً بالغاً جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة المستقبل (10) ؛إلى غيرها من مؤسسات الاستشراف الكثيرة في الغرب والشرق الأسيوي في حين يفتقد عالمنا العربي والإسلامي إلى مثلها وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكلات المتجذرة التي تستلزم حلولاً بعيدة وعلاجات طويلة الأمد .
رابعاً : إن اعتبار حجيّة المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجوا بناءً عليها أحكاماً شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين والأنظمة ، كقوانين العمل والعمال وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة، وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم كتعاطي المخدرات والاتجار فيها ، إلى غيرها من الأنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم يرد بشأنها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا قررنا اعتبار المصلحة المرسلة في تنظيم شؤون المجتمع وإلزام الناس بها فما الذي يمنع من اعتبار المصلحة في تنظيم شؤون الدعوة وتنظيم أمور الدعاة وفق أنظمة وقوانين ولوائح لها قوة التطبيق والإلزام .
خامساً : يمارس بعض الدعاة إلى الله نوعاً من التلفيق الاجتهادي المذموم بغية الوصول إلى الهدف المطلوب والسيطرة المنشودة ومدّ النفوذ والعلو على كل موجه؛ تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة وإن كانت وسائلها ممنوعة؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت، والعبرة بإيجاد مصلحتهم المتوهمة ولو خالفت نصوص الشرع وقواعده الكلية .
إن هذا المبدأ الميكافيلي الذي سيطر على مناهج بعض الدعوات المغرضة حقق لهم انتصارات هامشية وامتداداً سرابياً بين الناس، ولكن على حساب المبادئ الشرعية والثوابت الخلقية في الإسلام .
يظهر هذا الانتهاك في عدة صور عملية واقعية كالطعن والثلب في العقائد والأعراض وتصيد الأخطاء والزلات لكل داعية يخالف منهجهم وتشويه المناهج الأخرى من أجل التصدر والاعتلاء على الساحة الدعوية.
وقد ترى تقلب المبادئ والمناهج بين الأخذ بالعزائم والتشدد في العقائد والعبادات وامتحان الناس بها وأخذ خواصهم بالرخص الملفقة وإسرارهم بها، يقول عمر بن عبد العزيز منبهاً على خطورة هذا المنهج البدعي الذي ظهر في زمانه : (( من جعل دينه للخصومات أكثر التنقل )) (11) كما نجد السعي الدؤوب في تبرير كل اجتهاد نَحَوْه مهما كان انحرافه وليّ أعناق الفتاوى فضلاً عن نصوص الشرع لتوافق أهواءهم وطموحاتهم الحزبية.
إن دعوة قامت على هذا الجرف الهار لا تلبث أن تنهار وتذهب ريحها ويتفرق جمعها (( إن الله لا يصلح عمل المفسدين )) (12) وسنن الحق سبحانه في أمثالهم جارية والزمن كفيل بإثبات الحق وإظهاره .
فالمصالح الدعوية إن لم تقم على ربانية صادقة مخلصة وتمييز للثوابت عن المتغيرات والمتغيرات عن الثوابت بفقه دقيق وتأصيل عميق، وإلا كانت بداية انحراف وزيغ وفتنة للدعاة تذكيها مع الأيام حركات فاتنة في صفقات غابنة لا مربح لأحد إلا أعداء الدعوة ودعاة السوء والفتنة.
المقال السابق : ضوابط المصلحة الدعوية (1)
-------------------
(1) الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي د. عبد المجيد الشرفي ص118 .
(2) انظر : الفكر السامي للحجوي 1/286 .
(3) الموافقات 5/177 .
(4) الأنعام : 108
(5) البقرة :179
(6) انظر: الموافقات 5/180و181 .
(7) إعلام الموقعين 3/109 بتصرف .
(8) الموافقات 5/177 .
(9) انظر : الموافقات 5/177و233 ، الأشباه والنظائرللسيوطي ص322-325 ، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي د. حسين حامد حسان ص193-199 .
(10) انظر : مدخل إلى التنمية المتكاملة د. عبد الكريم بكار ص 155 .
(11) الشرح والإبانة ص 143 نقلاً عن مناهج أهل الأهواء للعقل ص 90 .
(12) يونس: 81
كاتب المقال: د.مسفر بن علي القحطاني
===============
مراتب دعوة غير المسلمين (1-2)
بقلم : د.فاطمة بنت صالح الجارد
تعريف المراتب لغة واصطلاحًا:
مراتب جمع مرتبة والمرتبة هي : المَنْزِلةُ. وفي الحديث: من مات على مَرْبَتةٍ من هذه المَراتِب، بُعِثَ عليها؛ المَرْتَبة : المَنْزِلةُ الرَّفِيعةُ؛ أراد بها الغَزْوَ والحجَّ،ونحوهما من العبادات الشاقة (1).
المراتب في الاصطلاح هي : الدرجات (2).
ومراتب دعوة غير المسلمين هي الدرجات التي يتبعها الداعي في دعوته لغير المسلمين بحسب ما تقضيه الأحوال.
وقد أطلق ابن القيم مراتب الدعوة على كيفيتها(3) وامتداد مكانها (4) وعلى هذا فالدعوة لابد أن تكون مرتبة بأسلوبها وبانتشارها كما أن الإعلام بالدعوة قد يكون سريا وقد تكون جهريا وهذه مرتبتي الإعلام ، وكذلك طريقة الاتصال قد يكون اتصال مباشر وغير مباشر ، وقد تتوالى هذه بحسب أو تختلف بحسب حاجتها ، وكذلك قد يكون الاتصال فرديا وقد يكون جماعياً ، فقد تتوالى تلك المرتبتين أو تختلف حسب الحاجة .
فمراتب الدعوة لغير المسلمين تكون كالتالي :
أولاً : الترتيب الكيفي ( الأساليب ) :(6/97)
وهو مايتعلق بأسلوب الدعوة فلا بد من مراعاة هذا الجانب لتأليف قلوبهم إلى الإسلام وتحبيبهم له والأصل في ذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (5) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : جعل الله مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريقة الحكمة والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب والمعاند يجادل بالتي هي أحسن(6).
والمتبع لسيرة المصطفى يجد أنه اتبع هذه الأساليب مع المسلمين وغيرهم كما سيأتي بيانه, وهناك مراتب أخرى خاصة بغير المسلمين وهي أسلوب المباهلة والأساليب الفعلية كالقتال والإجلاء فمراتب الأسلوب لغير المسلمين تكون كما يلي :
1 ـ القول اللين :
فقد أمر الله موسى ـ عليه السلام ـ عندما أرسله إلى فرعون بأن يقول له قولا ليناً قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (7) "والقول اللين هو الكلام الدال على معاني الترغيب والعرض واستدعاء الامتثال ، بأن يظهر المتكلم للمخاطب أن له من سداد الرأي ما يتقبل به الحق ويميز به بين الحق والباطل مع تجنب أن يشتمل الكلام على تسفيه رأي المخاطب أو تجهيله ………. ومن اللين في دعوة موسى عليه السلام ـ لفرعون قوله تعالى: {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (8) وقوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (9)
وكذلك في دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويظهر ذلك في دعوته لأبيه في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} . (10)
قال الشيخ الفخر الرازي : واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمر باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لاينبغي ثم أنه ـ عليه السلام ـ أورد هذا الكلام الحسن مقرونا باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام :{ يَا أَبَتِ } دليل على شدة تعلق قلبه بمصالحه.(11) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي : وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق العلم والحكمة ، واللين والسهولة ، والانتقال من رتبة إلى رتبة ، والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق ، بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك بالصفح ، والعفو ، بل بالإحسان القولى والفعلى .(12)
2 ـ الوعظ والنصح :
يقصد بالوعظ : الأمر بفعل الخير وترك الشرّ بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال، (13) وأما النصح فهو : الدعاء إلى ما فيه الإصلاح والنهي عما فيه الإفساد. (14)
وقد أمر الله بأن تكون الدعوة بالوعظ ، والمتأمل لدعوة الرسل كان يغلب عليها جانب الوعظ , وقد اشتملت الكتب السماوية جميعها على الموعظة ، ودل القرآن على ذلك بآيات كثيرة. (15)
ويرى بعض العلماء أن الوعظ خاص بالإنكار على المسلمين ، منهم الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث قال : الوعظ يكون لمن أقدم على الأمر ،وهو عالم بكونه منكراً ، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً ، كالذي يواظب على الشرب ، أو على الظلم ، أو على اغتياب المسلمين. (16)
قلت : من خلال الأمثلة التي ذكرها الشيخ أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ يفهم أنه قصر الوعظ على الإنكار على المسلمين ، والصحيح عدم قصره عليهم فقط بل يعم الكافرين ، وذلك لعدة أوجه:
الوجه الأول : أن الله سبحانه وتعالى سمى القرآن موعظة وهو مليء بالمواعظ ، وقد أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قريش وقد كانت أمة كافرة تعبد الأصنام قال تعالى : {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } (17) قال الزمخشري: أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ، شفاء أي: دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم.(18)
قالت الباحثة : فإذا كان الخطاب موجهاً للناس جميعاً ومنهم الكافرون أو كان لقريش خاصة ، وقد سمي موعظة فدليل أن الكافرين يدعون بالوعظ ، كما أن الوعظ هنا في التوحيد ، والتوحيد يخاطب به أيضاً الكافرون .(6/98)
والوجه الثاني : أن الله تعالى قد خص سورة هود في أن فيها موعظة للكافرين وتذكره لللمؤمنين ، لشمولها على أحوال الأمم السابقة المكذبة لرسلهم ، فعندما قص قصصهم قال تعالى : - في آخر السورة - {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (19) قال الطبري : وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله وتبين لهم عِبره ممن كفر به وكذّب رسله. وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم. (20) وقال القرطبي : الموعظة ما يُتّعظ به من إهلاك الأمم الماضية، والقرون الخالية المكذبة؛ وهذا تشريف لهذه السّورة؛ لأن غيرها من السّور قد جاء فيها الحقّ والموعظة والذّكرى ولم يقل فيها كما قال في هذه على التّخصيص. (21)
والوجه الثالث : خطاب الله سبحانه وتعالى للكافرين بالوعظ في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (22) فالله سبحانه وتعالى أطلق على هذا الخطاب وعظاً وهو موجه لكفار قريش وفي هذا الخطاب يطالبهم بالتفكر والتأمل ليثبت لهم عكس ما ادعوه .
والوجه الرابع : إسلام عثمان بن مظعون عندما سمع أجمع آية في القرآن في الوعظ ، وقد أطلق الله سبحانه وتعالى عليها وعظاً وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (23) عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قال : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم- بِفِنَاءِ بَيْتِهِ بِمَكَّةَ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَكَشَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( ألَا تَجْلِسُ ) قال : {بَلَى } قال : فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ فَأَخَذَ يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ بَصَرَهُ وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ مَا يُقال : لَهُ وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقال لَهُ ، شَخَصَ بَصَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَى عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى قال :{ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ }قال :( وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ ؟ ) قال : رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ فَتَحَرَّفْتَ إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقال لَكَ قال : وَفَطِنْتَ لِذَاكَ قال عُثْمَان ُ : نَعَمْ ، قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ) أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا وَأَنْتَ جَالِسٌ( قال : رَسُولُ اللَّهِ ؟ قال : ) نَعَمْ (قال : {فَمَا قال لَكَ ؟ }قال : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (24) قال عُثْمَانُ : فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا ) (25) (26)
ومن الوعظ الحسن الترغيب بتعريفهم بفضل إيمانهم فالأجر لهم مضاعف عن أبي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.....الحديث ).(27 )
3- المجادلة :
هي دفع القول على طريق الحجة بالقوة ..... وتكون حقا في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل.(28)
والأصل فيها قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(29)والأمر هنا لم يخصص لذا فتكون المجادلة للمسلمين وغير المسلمين ، ولكن تختلف لغيرالمسلمين باختلاف المدعوين .
أ : مجادلة مدعي الربوبية:
كما جادل إبراهيم وموسى ـ عليهما السلام - ، النمرود بن كنعان وفرعون مصر ففي جدال إبراهيم قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (30)(6/99)
وفي جدال موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. (31)
والهدف من هذه المجادلة هو قطع حجتهم وإفحامهم وإثبات عجزهم .
ب : مجادلة منكري الربوبية:
ويكون الجدال معهم لإثبات قدرة الله على الخلق والتدبير والملك والإحياء والإماتة ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (32)
جـ : مجادلة أهل الكتاب:
وقد استطر القرآن الكريم في هذه المجادلة ومن ذلك الدعوة إلى كلمة سواء وهي لا إله إلا الله قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. (33)
4 ـ الغلظة :
وتكون الغلظة بالقول وبالفعل وهذا الأسلوب يستخدم مع من دعي بالأساليب السابقة وعاند وجحد ومن هذه الأساليب .
1 ـ المباهلة :
المُبَاهَلَةُ الملاعنة و الابْتِهَالُ الاسترسال في الدعاء والتضرع فيه .(34)
وقد بين القرآن والسنة كيفية المباهلة مع اليهود والنصارى كما يلي :
أ : مباهلة اليهود:
لقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم وحدهم الفائزون بمغفرة الله ورضوانه ، وأنهم ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب ، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (35) وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (36) وقد نقض الله تعالى تلك الدعاوى الباطلة بقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (37) (38) فكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت . (39) فامتنعت اليهود من إجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. (40)
ب : مباهلة النصارى:
وقد جاءت دعوة النصارى إلى المباهلة عندما قدم وفد من نجران فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (41)
في صحيح مسلم ، َلَمَّا نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ. دَعَا رَسُولُ اللّهِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هؤلاء أَهْلِي». (42)(6/100)
وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. (43)
................
(1) لسان العرب ، باب : الراء ، مادة رتب . مكتبة الحديث الشريف ، شركة العريس الإصدار الثامن .
(2) فيض القدير ، 1 / 105 .
(3) انظر مفتاح دار السعادة ، ابن القيم ، ، 1 / 474. انظر المعجم الوسيط ، مرجع سابق ، 2/ 1050، حرف الواو ، مادة وضع . موسوعة أخلاق القرآن ، مرجع سابق ، 1 / 68.
(4) انظر زاد المعاد ، ابن القيم ، 1 / 86 .
(5) سورة النحل ، آية رقم : 125.
(6) فيض القدير ، 1 / 105 .
(7) سورة طه ، آية رقم : 43، 44.
(8) سورة النازعات ، آية رقم : 18ـ 19
(9) سورة طه ، آية رقم : 47.
(10) سورة مريم ، آية رقم : 41 ـ 45 .
(11) التفسير الكبير ، الإمام فخر الدين الرازي ، ت 606، ط بدون رقم [ بيروت ، دار إحياء التراث ، 1415هـ/ 1995م] ، 21/ 545.
(12) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي [ بيروت مؤسسة الرسالة ، الطبعة السادسة ، 1417هـ / 1997م ]، ص 444.
(13) التحرير والتنوير ، ابن عاشور ، 5 / 108.
(14) تعريفات سيد شريف ط بدون رقم [ استنابول ، مطبعة أحمد كامل ، 1327هـ] ، ص : 16 ، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، قام باخراج هذه الطبعة ابراهيم انيس وآخرون ، ط بدون رقم و تاريخ[ استانبول ، المكتبة الاسلامية] ، 2 / 925 .
(15) انظر الاحتساب باللسان ، فاطمة بنت صالح الجارد ، رسالة ماجستير مطبوعة تحت النشر ، [ ط 1 ، 1426هـ / 2005 م ، الرياض ، دار المؤيد ، ] ص : 138 .
(16) إحياء علوم الدين ، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ، ط[ بيروت ، المكتبة العصرية للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية ، 1417هـ /1996م ] ، 2 / 444.
(17) سورة هود ، آية رقم : 57.
(18) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، للإمام محمود بن عمر الزمخشري، ت 528هـ ، رتبه وضبطه وصححه مصطفى حسين أحمد ، د . ط ، د . ت ، د . م [دار الكتاب العربي] ، 2 / 241.
(19) سورة هود ، آية رقم : 120.
(20) جامع البيان في تأويل القرآن ، الطبري ، 12/ 87.
(21) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، 9/ 116.
(22) سورة سبأ ، آية رقم : 46.
(23) سورة النحل ، آية رقم : 90.
(24) سورة النحل ، آية رقم : 90.
(25) أخرجه أحمد ، وصححه المحقق أحمد شاكر ، حاشية المسند ، 3 / 285 ، ح : 2922وقال : ابن كثير : إسناد جيد متصل حسن .
(26) انظر الاحتساب باللسان ، المرجع السابق ، ص : 191 ـ 194 .
(27) أخرجه البخاري ، ك : العلم ، ب : تعليم الرجل أمته وأهله ،1 / 48 ، ح : 97 ، ومسلم ، ك : الإيمان ، ب : وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم 1 /134 ، ح : 154.
(28) الجامع لأحكام القرآن ، محمد بن أحمد الانصاري القرطبي، ط بدون رقم [ بيروت ، دار إحياء التراث ، ، 1405هـ / 1985م ] ، 7 / 77.
(29) سورة النحل ، آية رقم : 125.
(30) سورة البقرة ، آية رقم : 258
(31) سورة الشعراء ، آية رقم : 23ـ 29 .
(32) سورة الجاثية ، آية رقم : 24 ـ 28 .
(33) سورة آل عمرآن ، آية رقم : 64 .
(34) المفردات في غريب القرآن ، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني ، تحقيق ، محمد سيد كيلاني ، د. ت ، د . ت ، [ بيروت ، دار المعرفة ] ، ص : 63، مادة : بهل .
(35) سورة البقرة ، آية رقم : 111 .
(36) سورة البقرة ، آية رقم : 80 .
(37) سورة البقرة ، آية رقم : 94 ـ 96 .
(38) انظر أصناف المدعوين وكيفية دعوتهم ، د . حمود بن أحمد الرحيلي ، [ ط 1 ، 1414هـ الرياض ، دار العاصمة ] ص : 44 ـ 45 .
(39) تفسير الفرآن العظيم ، ابن كثير القرشي الدمشقي ، د.ط ، د.ت[ الرياض ، مكتبة الرياض الحديثة ] 1 / 220.
(40) جامع البيان في تفسير القرآن ، 1/ 336 .
(41) سورة آل عمران ، آية رقم : 61 .
(42) صحيح مسلم ، ك : فضائل الصحابة ، ب : فضائل علي رضي الله عنه ، 15 / 147 ، ح : 6173 .
(43) صحيح البخاري ، ك : المغازي ، ب : قصة أهل نجران ، 8 / 427 ، ح : =================
مراتب دعوة غير المسلمين (2-2)
بقلم : د.فاطمة بنت صالح الجارد
2 ـ التهديد :
يكون التهديد إما بالقول أو بالفعل :
أ ـ التهديد بالقول:(6/101)
إما بالوعيد بجزاء الفعل في الآخرة كقوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (1) وكما في تهديد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهرقل الروم : ( فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ ) (2) الأريسيين جمع الأريس . قال ابن ححر : الأريس قيل معناها الأكار ـ أي الفلاح ـ وقيل معناها الأمين، أي تقال للتابع والمتبوع ، والمعنى في الحديث صالح على الرأيين ، فإن كان المراد التابع فالمعنى أن عليك مثل إثم التابع لك ترك الدخول في الإسلام ، وإن كان المتبوع فكأنه قال فإن عليك إثم المتبوعين ، وإثم المتبوعين يضاعف باعتبار ما وقع لهم من عدم الإذعان إلى الحق من إضلال أتباعهم .(3)
أو تهديد بفعل كتهديد إبراهيم ـ عليه السلام ـ قومه بتكسيرأصنامهم في قوله تعالى : ( وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (4)
ب ـ الغلظة بالقتال :
ويكون هذا مع أهل الحرب من الكفار . قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ). ( 5) قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة" ( 6) وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (7)
قال القرطبي : أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله. والمنافقين بالغلْظة وإقامة الحجة، وأن يعرّفهم أحوالهم في الآخرة. (8)
ويكون القتال بالترتيب الأقرب فالأقرب . قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (9). قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة" (10) وقال ابن كثير:أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن،غليظًا على عدوه الكافر (11) أي ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارا دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ الروم، لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية قتال من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. (12) ، وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى. (13)
ثانياً : الترتيب المضموني ( الموضوعي ):
والمقصود به موضوع الدعوة ، فلا بد أن يخضع هذا الترتيب لحال عقيدة المدعوين كما يلي :
1 ـ تقرير عقيدة الربوبية :
لقد فطر الله الناس على الفطرة عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (14) " (15) . والفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق ، لكن الإنسان تحيط به مؤثرات تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق . (16) وتزداد المؤثرات على الإنسان فيعتقد بإيجاد الدهر له وللكون قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (17) فأول مرتبة يبتدأ بها المدعو عند هؤلاء تقرير عقيدة الربوبية ودعوتهم إلى إفراد الله بالخلق والملك والتدبير وإيقاظ تلك فطرة التي خلقهم الله عليها ودعوتهم إلى التدبر بأنه لا بد لكل مخلوق إلى خالق، والتأمل في خلق الكون ومايحويه من مخلوقات من مد الأرض، ورفع السماء، وإيلاج الليل والنهار، وتكوير الكواكب، وتسخير الفلك، وتسيح الرعد، وإنزال الماء، وإرسال الرياح، وخلق الإنسان وتطور ذلك الخلق، وتصويره في الأرحام وتسخير الكون كله له، ووصف البعث، والجزاء وجميع الدلائل على قدرته، والدلالة على أنها الخالق والمالك لها ومدبرها واحد. والآيات على ذلك كثيرة .
2 ـ تقرير عقيدة الألوهية:(6/102)
و الذين يخاطبون في هذا التقرير كثير وقد استطرد فيه القرآن كثيراَ سواء في دعوة أهل الكتاب أو مشركي العرب فقد ورد على ألسنة عدد من الرسل وهم نوح وهود و صالح وشعيب قوله تعالى:( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ) (18) وعلى لسان موسى كما ورد على لسان موسى لقومه في قوله تعالى: ( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (19) وعلى لسان عيسى عليه السلام قال تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (20) وفي دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كثير من ذلك منها قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) (21) كما أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا المضمون أثناء بعث معاذ إلى اليمن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: ( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم ). (22)
ب : تقرير عمومية رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). (23)
ج : تعليمهم الفرائض والعبادات:
كما اتضح ذلك في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الحديث السابق .
ثالثاً : الترتيب المكاني:
وهذا المقام الثاني الذي أطلق عليه ابن القيم مراتب الدعوة وأشرنا إليه في أول المبحث وذكر أنها خمس مراتب حيث ذكر الأولى النبوة ، والصحيح أنها أربعة مراتب كمايلي :
المرتبة الأولى " إنذار عشيرته الأقربين " فعندما أمره الله بالقراءة في الآيات السابقة ، وأثبت له ربوبيته نهاه ألا يدع معه إله آخر وأن ينذر عشيرته الأقربين قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (24) عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـُ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَالَ : ( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ). (25)
المرتبة الثانية: " إنذار قومه " وبدأت هذه المرتبة بنزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (26) أي فاجهر به أظهر ما تؤمر به وبلغه علناً على رؤوس الأشهاد ،أو فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. (27) فأعلن الدعوة وجهر بها تنفيذاً لهذا الأمر من الله سبجانه وتعالى .
المرتبة الثالثة " إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة " قال تعالى: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) (28) فكان صلى الله عليه وسلم يستثمر تجمعات العرب في الحج فيعرض عليهم الإسلام .
المرتبة الرابعة: "إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر " وفي هذه المرتبة كانت الدعوة عن طريق إرسال الرسائل والرسل إلى الملوك ، وكذلك عن طريق الجهاد. (29)
رابعاً : الترتيب الإعلامي:
السرية:
فقد بدأت دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في مكة، من أول نبوته سرا، بقوله تعالى: ( قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (30) واستمرت مدة الدعوة ثلاث سنين. (31)
الجهرية:
وهي المرحلة التي أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنًا، مبتدأ بالأقربين كما قال تعالى: (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) (32) فبدأ بالأقربين ثم من حوله ثم الناس أجمعين كما بينا في الترتيب المكاني . فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام، وإلى المواسم الأخرى في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة. (33)
قلت : وهذا خاص بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أما غيرها ، فتكون سرية الدعوة وجهريتها بحسب مايستدعيه الحال وما تحيط به من ظروف .(6/103)
خامساً : ترتيب الاتصال( الوسائل ):
1 ـ الاتصال المباشر:
أ : الاتصال الفردي:
قد تحتاج الدعوة إلى أن تكون فرديه ، وهذا يعد لعدة أسباب ،أما متعلقة بالمدعو كأن يكون صاحب سلطة ، ويكون له متبوعين كما في قصة موسى مع فرعون ، أو يكون له مكانة من الداعي كما في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب . فعن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قال : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي طَالِب : ( ٍ يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ... ) الحديث. (34)
ب : الاتصال الجماعي :
وهو دعوة الناس أو فئة منهم . عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبَّادٍ الدِّيلِيِّ وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ..... ) الحديث (35)
2- الاتصال بالمراسلات ( الغير مباشر ):
ويكون بإرسال الرسائل والرسل والوفود .
والاتصال لايكون بالترتيب بل يكون حسب الظروف المحيطة بالدعوة . وكذلك التراتيب الأخرى ليست على إطلاقها ، فقد تسبق مرتبة أخرى ، ماعدا مايتعلق بالترتيب الموضوعي فلابد من البدء بالعقيدة .
-----------------
(1) سورة آل عمران ، آية رقم : 63
(2) أخرجه البخاري ، ك : بدء الوحي ، ب : بدء الوحي ،1 / 9 ، ومسلم ، ك : الجهاد والسير ، ب : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل 3 / 1396 .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ابن حجر 8 / 178.
(4) سورة الأنبياء ، آية رقم : 57.
(5) سورة التوبة ، آية رقم : 57 .
(6) تفسير القرآن العظيم ، 4 / 69 .
(7) سورة التوبة ، آية رقم : 73 .
(8) الجامع لأحكام القرآن ، 18 / 201 .
(9) سورة التوبة ، آية رقم : 123 .
(10) الجامع لأحكام القرآن ، 8 / 297 .
(11) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير ، 2 / 41 .
(12) جامع البيان في تفسير القرآن ، 11 / 52 .
(13) الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي ، 8/ 297 .
(14) سورة الروم ، آ ية رقم : 30.
(15) صحيح البخاري، محمد بن اسماعيل البخاري د . ط ، د . ت [ بيروت ، دار إحياء التراث العربي] ك : الجنائز ، ب : إذا أسلم الصبي ومات هل يصلى عليه ، 1 / 456، ح : 1292، ورواه مسلم ، صحيح مسلم ، أبو الحسن مسلم بن الحجاج ، ط بدون رقم [ بيروت ، دار ابن حزم ، 1416هـ ] ك القدر ، ب : معنى كل مولود على الفطرة ، 4 / 2047 ، ح : 2658.
(16) العقيدة في الله ، عمر الأشقر ،[ عمان ، دار النفائس ، الطبعة العاشرة ، 1415هـ / 1995م ] ص 69 .
(17) سورة الجاثية ، آية رقم : 24.
(18) سورة هود ، آية رقم : 50 .
(19) سورة طه ، آية رقم : 98.
(20) سور ة المائدة ، آية رقم : 72.
(21) سورة الجن ، آية رقم : 20.
(22) أخرجه البخاري ، ك : الزكاة ، ب : أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا ،2 / 544 ، ح : 1425. ، ومسلم ، ك : الإيمان ، 1 / 50 ، ح : 19
(23) سورة سبأ ، آية : 28 .
(24) سورة الشعراء ، آية رقم : 213_214.
(25) أخرجه البخاري ، ك : الوصايا ، ب : هل يدخل الولد والنساء من الاقارب ، 3 / 1013 ، ح : 2602. ومسلم ، ك : الإيمان ، ب : قوله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ، 1 / 193، ح : 204.
(26) سورة الحجر ، آية رقم : 94.
(27) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، محمد الأمين الشنقيطي ، [ بيروت ، دار احياء التراث العربي ، الطبعة الأولى ، 1417هـ / 1996م ] ، 2/ 105.
(28) سورة القصص ، آية رقم : 46.
(29) انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ،ابن قيم الجوزية ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ،عبد القادر الأرنؤوط ، ط [ بيروت ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الرابعة عشر ، 1407هـ / 1986م ]، 1 / 86 .
(30) سورة المدثر ، آية رقم : 2 ـ 3 .
(31) أثر الهجرة على تطور الدعوة الإسلامية وانتشارها في أنحاء العالم، للدكتور محي الدين الألواني ، www.iu.edu.sa/Magazine ، وانظر الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ، رؤوف شلبي [ط 3 ،1403 هـ / 1983م ، الكويت ، دار القلم ] ص : 293 .
(32) سورة الشعراء ، آية رقم : 213_214.
(33) الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي ، 8/ 297 .
(34) أخرجه البخاري ، ك : تفسير القرآن ، ب : قوله تعالى:( إنك لا تهدي من أحببت) ، 4 / 1788 ، ح : 4494 ، ومسلم ، ك: الإيمان ، ب : الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ، 1/ 54،ح : 24.
(35) أخرجه أحمد ، 4/ 341 ، ح : 19026 . وصححه المحقق أحمد شاكر ، انظر حاشية المسند ، 12 / 419 ، ح : 15965.
================
الهجرة النبوية والدروس التربوية والدعوية(6/104)
لا جدال في أن الهجرة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأكمل تسليم ـ تمثل مرحلة من أهم مراحل الدولة الإسلامية وأخطرها. فهي مرحلة انتقالية لإثبات وجودها سياسياً وعقائدياً؛ فالمرحلة المكية على مسار ثلاثة عشر عاماً، كانت لإثبات العقيدة.. بل وتثبيتها في أذهان أتباعها، من ناحية ـ ومن ناحية أخرى ـ لتعرية عقيدة الجاهلية ـ وبضدها تُعرف الأشياء ـ كما يقولون.
أضف إلى ذلك أن المرحلة المكية، كان لا بد منها، لصقل إيمان أتباعها، ليكونوا نواة المستقبل للدولة الإسلامية، وكانت توجيهات القرآن، وتوجيهات الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه- للنواة الأولى من أتباع الدعوة، تقوم على أساس الثقة في الله ـ عز وجل ـ والنصيحة في مواجهة ما يلحقهم من أذى بالغ من الضراوة والشراسة، ولعلنا نلمس ذلك من موقف لا نكاد نذَّكره. حيث كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على آل ياسر وهم يُعذّبون، فيقول لهم: "صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة"، واستجابوا، وكانت أم عمار أول شهيدة في الإسلام. وفي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: "شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ـ فقلنا: "ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟." فقال: "قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفرون له في الأرض، فيُجعل فيها.. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"!
إن إرادة الله ـ عز وجل ـ اقتضت أن يكون الإسلام ديناً، يصحح مسار العقول التي حادت عن الطريق السويّ، ويصحح مسار الحياة البشرية التي شملتها الفوضى، بعد أن تحوّلت إلى غابة شاسعة، يفترس القوي فيها الضعيف، وأن يكون الإسلام دولة، تقيم العدل بعد أن اختلت موازينه، وتؤازر الحق، بعد أن أصبح مضغة في أفواه الباطل، فالعالم يومئذ تحكمه إمبراطوريتان، إحداهما صليبية تنكبت مبادئ المسيحية، والأخرى وثنية تمتهن العقل، أعني إمبراطوريتي: فارس والروم، وبذلك يكون الإسلام بدولته ضرورة لإنقاذ البشرية من الوحل، وكانت الهجرة البشرية هي البداية لإقامة دولته.
يرى الشيخ محمود شلتوت ـ شيخ الأزهر الأسبق ـ في دراسته:"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين" العدد الثالث من "سلسلة الثقافة الإسلامية" التي كنت أصدرتها (1958 ـ 1965 )! أن حادثة الهجرة، كانت نقطة تحوّل في تاريخ البناء الإسلامي، لتقوم فوق الأرض الجديدة ـ يثرب ـ دولة ذات منهج ونظام وهدف، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة، وبذلك أصبحت (الهجرة) من الأحداث الإسلامية الكبرى التي يجب أن تحمل العظمة في نفس كل مسلم.
ويضيف الشيخ: "وقد عُني المؤرخون كثيراً ـ وهم يتكلمون على هذا الحدث ـ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تتصل بالرسول وأصحابه الذين لبّوا دعوته، ومن هنا ألبسه أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة (النبي العربي) ـ ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورّعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يلصقوا كلمة (النبي الفار) وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلعوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه، والتي لم تلبث ـ بعد الوصول إلى المدينة، أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب، عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعقائد وتقاليد، كان لها في هدم الإنسانية، ما ليس للمعاول القوية في تقويض البناء الشامخ العنيد".
وأقول: إن الهجرة كانت لتأكيد عالمية الإسلام، وهي حقيقة حاول بعض المستشرقين ذوي الأهواء أن يطمسوها، متجاهلين ما أقره القرآن ـ كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ـ وقد تصدى عملاق الأدب الأستاذ العقاد لقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...).[الشورى: 7] لتنذر أم القرى ومن حولها، يقول:"وأياً كان القول في اللغة التي تكلم بها النبي، وفي صلاح هذه اللغة للدعوة العالمية، فإن النوع الإنساني يشمل أم القرى (مكة) وما حولها، ولا تعتبر هداية أهلها عزلاً لهم عمن عداهم من الناس؛ إذ كان خطاب الناس كافة يمنع أن يكون الخطاب مقصوراً على (أم القرى) ومن حولها، ولكن خطابه (أم القرى) ومن حولها، لا يمنع أن يعم الناس أجمعين..
فكيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمدية ـ خاتم النبيين ـ إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل نذير؟! إن طائفة من المستشرقين تسيغ ما لا يسيغه العقل في أمر القرآن وأمر الإسلام".(6/105)
ظهر حديثاً للشيخ عبد الجواد أحمد عبد المولى-الإمام والخطيب والمدرس بالأوقاف ـ كتاب يحمل عنوان "الدروس التربوية الدعوية من الهجرة النبوية" في زهاء مائتي صفحة من القطع الكبير، أشار في المقدمة إلى أن ما أراده من كتابه: دعوة للتفكر والتدبر، لبعض صفحات التاريخ الإسلامي، وبخاصة تاريخ الرسول وجهاده في هجرته، لنتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه في أرضه، وسنن الله الثابتة لا تقبل تبديلاً ولا تحويلاً، والهجرة تبين لنا كيف أخذ المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالأسباب الأرضية، وتوكل ـ في نفس الوقت ـ على الله، ولا تضادّ بينهما ـ وقد تعامل سلف هذه الأمة مع السنن الكونية، فسادوا العالم، ولم يع الخلف هذا المعنى، مما جعل الأمة اليوم في حال يُرثى لها..
وما عرض له المؤلف:
ـ الهجرة النبوية المحمدية لم تكن بدعة، بل سنة قديمة، فقد هاجر من أنبياء الله: إبراهيم ولوط وموسى عليهم السلام.
ـ أسباب الهجرة: ذكر المؤلف الأسباب التقليدية التي سجلتها كتب السيرة، وكنت أود أن يهتم بمسألة ذات أهمية خاصة، وهي أن الهجرة كانت استجابة لأمر الله، ولم تكن مجرد خاطرة خطرت على بال الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فراراً من الأذى، فالله ـ عز جل ـ هو الذي قدر بعد أن حققت الدعوة أهدافها في مكة التي لم تكن تصلح لإقامة دولة.
ـ عوامل نجاح الهجرة: وضوح الهدف، المعرفة، اختيار الوقت المناسب، ولعامل التوقيت أهمية متنامية في عملية التخطيط، القدرة على مواجهة الظروف المتغيرة، إخلاص القائمين على التنفيذ، التهيئة والإعداد النفسي، ونسي المؤلف: عناية الله، وهي الأساس وفوق كل شيء.
ـ مظاهر نجاح الهجرة: خسرت قريش موازين القوى التي توارثتها على مدى قرون وزال عنها سلطانها، لم تعد قريش حاجزا في وجه الدعوة الإسلامية، إذا أسقطت الهجرة هيبتها من نفوس المستضعفين الخائفين..
ذكر المؤلف في شجاعة أن الكتاب: جمع وإعداد، وليس تأليفاً، وهذا يعفيه من النقد، ويُحمد له، أن قدم لنا معاني كانت في حاجة إلى التحليل، الذي خلت منه بعض كتب التراث التي اهتمت بسرد الأحداث، لكنها حفظت لنا أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. إن الهجرة حفلت بالكثير من المؤلفات عدا ما دونته كتب السيرة قديماً وحديثاً، وهذا ما جعل مهمة من يكتب عن الهجرة شاقة؛ إذ لا بد من أن يضيف جديداً، ونجح المؤلف جهد استطاعته.
ويُؤخذ على هذه الدراسة: أن المؤلف خرج على الموضوع الأساسي أحياناً، صحيح أن ما زاده تضمن معاني جديرة بالاهتمام، كذلك كنا نود أن يربط الهجرة النبوية بالواقع المعاصر، وقد أصبحت الأمة المسلمة التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس ـ عاجزة حتى عن الدفاع في مواجهة التحديات الشرسة، وذلك بعد أن كانت رأساً، و أصبحت تابعاً بعد أن كانت متبوعاً، وبقي أن نقول: إن المؤلف بذل جهداً كبيراً وشاقاً، وقدم لنا دراسة معاصرة يحتاجها الشباب قبل الشيوخ.
وبقي سؤال يطرح نفسه، وفي أسى مرير: أين اليوم من الهجرة التي لم تكن نقطة تحول في تاريخ دعوة المسلمين ـ وحسب ـ بل كذلك أرادها الله ـ عز وجل ـ منهجاً ومعنى وبرنامج عمل للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودرساً يجب أن يعيه المسلم في كل زمان ومكان.. فهل يليق بنا ألاّ نذكر الهجرة إلا أياماً معدودات في كل عام: أحاديث ومقالات يغلب عليها التكرار شبه الممل، ثم ننساها بعد ذلك؟
وحسبنا هنا أن نتوقف عند قضية لها أهميتها، أعني قضية ـ أو محنة ـ الأقليات المسلمة في شتى بقاع المعمورة، والعديد من هذه الأقليات تُشن عليها حروب إبادة شرسة، كما في الفلبين وبورما وتايلاند، وغيرها، إن كتاب الله تعالى كتب علينا الجهاد من أجل إخوة لنا في العقيدة مستضعفين في الأرض، وفي سورة النساء ـ :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً). [النساء:75]. ولا جدال في أن الجهاد هنا فرض عين لا فرض كفاية، وإذا كان عقد الأمة الإسلامية اليوم قد انفرط، ولم يكن للدولة الإسلامية وجود.. نملك السلاح لا لنقاتل به الأعداء، بل ليقاتل به المسلم أخاه المسلم. دونما اعتبار لتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم لنا في خطبة الوداع:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقوله في الصحيح المتفق عليه: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".(6/106)
أقول إذا كنا عاجزين عن الجهاد المسلح، فلماذا لا نلجأ إلى سلاح آخر: جهاد المقاطعة، وهو سلاح له خطورته، وإذا كان هذا السلاح تقرر بالنسبة للثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم مسلمون، فمن باب أولى المعتدون على إخواننا من غير المسلمين، والمفاجأة التي ترتجّ لها السماوات السبع. هي أننا أصبحنا أصدقاء لأعدائنا، نمنحهم الولاء، ضاربين عرض الحائط بقوله تعالى محذراً في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). [المائدة:51-52]. وأخيراً.. وليس آخراً: فليتنا نعي اليوم كلمات الشيخ شلتوت ـ رحمه الله-: "كانت الهجرة من بين الأحداث كلها جديرة أن تتجه إليها الأنظار، ويُتّخذ منها مبدأ للتاريخ الإسلامي، ليكون للمسلمين من ذكراها في كل عام، ومن التوقيت بها في مكاتباتهم وعقودهم وأحداثهم العامة والخاصة درس متصل الحلقات، يساير حياتهم كلها". ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الأستاذ : محمد عبد الله السمان.
المصدر : موقع إلا رسول الله
===============
صفات وأخلاق الدعاة
أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة، في أماكن متعددة من كتابه الكريم.
(أولا) منها: الإخلاص، فيجب على الداعية أن يكون مخلصًا لله - عز وجل- ، لا يريد رياء ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه - عز وجل - ، كما قال سبحانه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) (108) سورة يوسف، وقال عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) (33) سورة فصلت، فعليك أن تخلص لله - عز وجل - ، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة.
(ثانيا) أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم، لا تكن جاهلا بما تدعو إليه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (108) سورة يوسف. فلا بد من العلم، فالعلم فريضة، فإياك أن تدعو على جهالة، وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم، فالجاهل يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، فاتق الله يا عبد الله، إياك أن تقول على الله بغير علم، لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به، والبصيرة بما قاله الله ورسوله، فلا بد من بصيرة وهي العلم، فعلى طالب العلم وعلى الداعية، أن يتبصر فيما يدعو إليه، وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلا أو تركا، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة. .
(ثالثا) من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية، أن تكون حليمًا في دعوتك، رفيقًا فيها، متحملا صبورًا، كما فعل الرسل -عليهم الصلاة والسلام - ، إياك والعجلة، إياك والعنف والشدة، عليك بالصبر، عليك بالحلم، عليك بالرفق في دعوتك، وقد سبق لك بعض الدليل على ذلك كقوله - جل وعلا - : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (125) سورة النحل، وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (159) سورة آل عمران، وقوله - جل وعلا - في قصة موسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (44) سورة طه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه " أخرجه مسلم في الصحيح، فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك، ولا تشق على الناس، ولا تنفرهم من الدين، ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك، ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار، عليك أن تكون حليمًا صبورًا، سلس القياد لين الكلام، طيب الكلام حتى تؤثر في قلب أخيك، وحتى تؤثر في قلب المدعو، وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها، ويتأثر بها، ويثني عليك بها ويشكرك عليها، أما العنف فهو منفر لا مقرب، ومفرق لا جامع..
ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس من يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا- : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (3) سورة الصف، وقال سبحانه موبخًا اليهود على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (44) سورة البقرة .(6/107)
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك .
فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته، واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس، وفيما يبعدهم من الباطل، ومع ذلك يدعو لهم بالهداية، هذا من الأخلاق الفاضلة، أن يدعو لهم بالهداية ويقول للمدعو هداك الله، وفقك الله لقبول الحق، أعانك الله على قبول الحق، تدعوه وترشده وتصبر على الأذى، ومع ذلك تدعو له بالهداية، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لما قيل عن (دوس) إنهم عصوا، قال: " اللهم اهد دوسا وأت بهم " . تدعو له بالهداية والتوفيق لقبول الحق، وتصبر وتصابر في ذلك، ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيرًا، لا تعنف ولا تقل كلامًا سيئا ينفر من الحق، ولكن من ظلم وتعدى له شأن آخر، كما قال الله - جل وعلا - : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (46) سورة العنكبوت، فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى، له حكم آخر، في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره، ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم، لكن ما دام كافا عن الأذى، فعليك أن تصبر عليه، وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن، وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى، كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا جميعا لحسن الدعوة إليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه، ويجعلنا من الهداة المهتدين، والصالحين المصلحين، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الشيخ : عبد العزيز ابن باز – رحمه الله -.
المصدر: موقع روح الإسلام.
(((((((((((((((
الفهرس العام
الباب السادس – منوعات
مراتب دعوة غير المسلمين (1- 2 )
مراتب دعوة غير المسلمين (2-2)
الهجرة النبوية والدروس التربوية والدعوية
صفات وأخلاق الدعاة
ملامح المنهج الدعوي في دعوة نصارى العرب إلى الإسلام
حكم الدعوة إلى الله وفضلها
الداعي ومؤهلاته العلمية والخلقية
أفق الداعية بين الضيق والسعة
وقفات من عزل الدعاة
الدعوة إلى الله في مجال العقيدة (1-2)
الدعوة إلى الله في مجال العقيدة (2- 2)
من مواقف قريش المضادة للدعوة الإسلامية في مكة المكرمة
ضرورة الدعوة إلى الله
أهمية الاحتساب باللسان
الخطاب الدعوي أمام التحديات
كونوا أنصار الله
التعريف بأركان الدعوة إلى الله .
ضوابط الدعوة إلى الله
الدعوة
أهداف الدعوة إلى الله
كلنا دعاة
وقفات مع الداعي إلى الله
أصناف المدعوين(1/2)
أصناف المدعوين(2/2)
الدعوة ضوابط وأساليب
إشكاليات العمل الدعوي
الدعوة إلى الله طريقها وآدابها
المساواة بين المرأة والرجل في أصل التكليف
ضيق أفق الداعية
الدعوة إلى الله في مجال الأخلاق
الكتمان والخصوصية في الدعوة
حتى لايتوقف عطاء الدعاة
لماذا تذبل مواهب الدعاة ؟
المحنة في حياة الدعوة والداعية
حكم الإنكار في مسائل الاجتهاد
فقه الدعوة إلى الله
إحدى عشرة وسيلة للتأثير على القلوب
الدعوة ميدان واسع
ادع إلى سبيل ربك
قاعدة / لا إنكار على مجتهد ولا مختلف فيه.
التقويم الدعوي
قاعدة التجسس في عملية الأنكار
هل وسائل الدعوة توقيفية
المرأة الداعية .. والمرحلة الصعبة
من فقه الدعوة
قاعدة التدرج بالإنكار
قاعدة / ترك الاستفزاز واستخدام الحجة.
من صفات المرأة الداعية
الاختلاف والائتلاف
مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فقه مراتب الأعمال
ضوابط المصلحة الدعوية (1)
ضوابط المصلحة الدعوية (2)
مراتب دعوة غير المسلمين (1-2)
مراتب دعوة غير المسلمين (2-2)
الهجرة النبوية والدروس التربوية والدعوية
صفات وأخلاق الدعاة(6/108)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (7)
الباب السابع - هندسة الدعوة
جمعها وأعدها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السابع - هندسة الدعوة
السعوديات قابضات على الجمر!!!
بقلم : أ. فوزية منيع الخليوي.
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة.
أنى لأتساءل وحق لى هذا التساؤل فأنا امرأة سعودية تحمل بين جنباتها حباً لهذا الوطن الذي كان وسيبقى مهداً لنشر الدين الإسلامي .
وتساؤلي : هل حقوق المرأة السعودية صُمت عنها الآذان , وكُممت منها الأفواه, وأغلقت دونها القضبان !! فلامناص.... إلا أن تقف أحداهن على جسر الملك فهد على الحدود مع البحرين حاملة لوحة تطالب فيها بحقوقنا المهضومة!!
ولكن تساؤلي سمج وجه " حقوق المرأة" في عيني , وأثقل حديثها في مسمعي !! لأن الكاتبة المعنية (وجيهة الحويدر) وهي المعروفة بأطروحاتها الفجة من القهر الأنثوي لنسائنا , والقمع الذكورى لهنّ !!قد استمرأتها , واستعذبت طعمها , واستطابت مذاقها.. وهي في الحقيقة أطروحات لو كشفنا عنها لوجدناها خراباً وأسطراً يباباً ..لاتهب فيها ريح ولا يتحرك فيها شجر؟؟؟
معللةً ما يصيبنا بسبب التعصب الديني لمرجعياتنا الدينية السنية؟؟؟!!!واليك ما في أطروحاتها:
(1) اتهامها للمرأة السعودية :
• تقول عن المرأة السعودية :" أشباه نساء , مؤودات حتى النخاع ".
• " بداخل كل امرأة سعودية صنفين من الخوف داخلياً وخارجياً, أما الداخلي فمصدره سلطة الأسرة أو القبيلة وغالباً ما يتجسد ذلك الخوف في شخص ولى أمرها , السعوديات مستضعفات مهما علا شأنهن " مقال مالذي تخشاه المرأة السعودية.
• " لم أعرف أنها إنسان , لم يعلمني أحد أنها إنسان, الإنسان لايخلق من ضلع أعوج وليس نجساً بعض الأيام" مقال: هل المرأة إنسان؟
• " إذا كانت إنسانا لماذا لم ينصفها ربها في شيء مقال: هل المرأة إنسان؟
• المرأة حسب تفسيرات الذكور " عورة " طوال الوقت, و " نجسة " في بعض الأوقات, لكنها " حرث " للرجل يأتيها متى شاء , المرأة " ناقصة عقل ودين " مقال: من أين تبدأ الدائرة؟
• الوعود التي أعطيت لكن ياسعوديات كثيرة بينما حالكن ما زال مزري ومتردي منذ عقود؟ مقال: إلى متى ستنتظرن ياسعوديات؟
• لأن أرواح النساء السعوديات رخيصة برخص التراب , لذلك تزهق دون أن يلتفت إليها أحد؟ مقال: الى متى ستنتظرن ياسعوديات؟
• الأفارقة الأمريكيون عبيد وأيدي عاملة مجانية، حالهم كحال معظم النساء السعوديات لا يملكن حتى أجسادهن, مقال: فضوها سيرة.
(2) اتهامها لثوابتنا الدينية:
* السلطة الدينية هى التي تتحكم فى أكثر قضايا المرأة , وتشدد القبضة عليها,مقال: ماالذي تخشاه المرأة السعودية؟.
* وتقول "المرأة السعودية تصارع الويلات من ثلاث مؤسسات: الأسرية , الدينية,السياسية محاطة طوال حياتها بأسوار البيت والنقاب, ونقط التفتيش, والخطوط الحمراء, مجلة شعاع الإلكترونية, 2005-08-29
(3)دعوتها لتبنى المواثيق الدولية:
فقد قالت " إذا أرادت المرأة العربية أن تخرج من الدائرة المغلقة عليها أن تنطلق من المواثيق الدولية التى تعنى بحقوق المرأة " في كلمة لحفل جمعية المرأة البحرينية بتاريخ 10 مارس 2005.
وهذه المؤتمرات الدوليةهى التي نصت مؤخرا على ترسيخ مفهوم الجندر(Gender Identity) وهو مصطلح مضلل وقد ظهر لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان 1994 في (51) موضعاً، وفي وثيقة بكين 1995، حيث تكرر مصطلح الجندر (233) مرة.
ومن أهدافهم:
...............
1- إلغاء دور الأب في الأسرة من خلال رفض (السلطة الأبوية).
2- رفض الأسرة والزواج.
3- ملكية المرأة لجسدها.
4- رفض الأمومة والإنجاب.
5- إباحة الإجهاض.
6- الشذوذ الجنسي.
7- بناء الأسرة اللانمطية.
8- عولمة المرأة.
ولقد انعكس هذا المفهوم " للحرية " في المواثيق التي صدرت عن هذه اللجنة CEDAW يجعل معارضة الشذوذ الجنسي - حتى ولو برسم كاريكاتيري - عملا يعرض صاحبها للمساءلة القانونية، لكون هذه المعارضة مُعارضة لحقوق الإنسان؛ فالأطروحات في كتابات وجيهة الحويدر مما يطبل له هؤلاء ويزمرون للدلالة على سوء أوضاع المرأة السعودية!!!
قامت اليونيفم (صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة) بتدشين شبكة معلوماتية حديثة خاصة بالمرأة تدعى " شبكة المرأة العربية " , ويتكون الموقع من صفحات إلكترونية باللغتين العربية والإنجليزية تحتوى على أحدث الدراسات والأبحاث .
فماذا كان نصيب المرأة السعودية !!
لقد قاموا بنشر مجموعة قصصية لهيام المفلح " حروف مسروقة " بتاريخ 4/3/2003م ونشرتها أيضا الميدل ايست , فماذا تقول فيها الكاتبة: والتي ترينا أزمة المرأة العربية ـ في عيني الكاتبة - حيث يعاملها المجتمع على أنها " شيء " وليس إنسانا يشعر, ويحس, وله وجوده المتحقق والمختلف ..
حين ولدت ابنتي أخبرتني الوجوه المقطبة حولي أننى ولدت " شيء" غير مرغوب فيه..وحين تعي ابنتي ما حولها آمل ألا تكتشف أنها " شيء" غير مرغوب فيه .
زقزق الولد في صحراء بيتي ..
شهادات التقدير، وأوسمة الرضا، وبطاقات الحب تقاطرت عليَّ تهنئني بهذا الإنجاز الرائع .. أحاطوني برعاية ذوّبت جزءاً من إحساسي بالهامشية ..
فهذه محاولات مفضوحة من هذه المنظمات للانتقاص من السعوديات, وطرح ادعاءات خالية من الصحة ساهم فيها السعوديات أنفسهن للأسف, مع علمهن بما يكنه الغرب للسعوديات من عداء خاص متهماً الإسلام بأنه قمع حقوقها , وقهر إنسانيتها!! .(7/1)
• تقول أخرى " لم يريدون تغييب دورها في الحياة باعتبارها عار على مجتمعها وأن صوتها وصورتها عورة ولهذا يجب أن تقبر وهي على قيد الحياة حتى لا يراها الآخر ؟ مقال لنوال اليوسف :ماذا يريدون من المرأة السعودية؟
• شخصية المرأة السعودية، محصورة في نمطية تقليدية، منعتها منذ البداية من المشاركة الفعلية في القاعدة الأساسية لبناء المجتمع,يمكن القول أنه وبالرغم من التعليم الذي حظيت به المرأة السعودية، إلا أنها لم تقترب من مفهوم الوعي بمعناه الحضاري التطوري !!ثريا الشهري مقال : المرأة السعودية بين التنظير والتطبيق .
•أما هذه التي ترى أنها حققت بصمة في الساحة السعودية لمدة عشرين سنة زينب حفني برنامج إضاءات 29- ربيع الثاني 1427 فقالت:أنا أستخدم الجنس للوصول الى أغراض نبيلة, ويجب أن نعلم الجنس في المدارس من المرحلة الإعدادية؟؟ هذا شيء من أطروحات بعضهن الجادة!!! , والتي تساهم في احتواء بعضاً من جوانب أزمات المرأة كالبطالة, والفقر , والعنوسة , والطلاق ,.؟
وأنا لاأدعى الكمال للمرأة السعودية , نعم لديها نصيبها من المشكلات والهموم بل أن مشاكلها وهمومها لاتعدو أن تكون جزء لايتجزأ من مشاكل أخواتها العربيات منها:
العنوسة : أكدت دراسات صادرة عن وزارة التخطيط أن ظاهرة العنوسة امتدت لتشمل حوالي الثلث من الفتيات فى سن الزواج , وأن عدد اللواتي تجاوزن سن الثلاثين بلغ مليون و529 فتاة.
الطلاق : في السعودية صاحبة أكبر كثافة سكانية في الخليج فقد وصلت نسب الطلاق في الرياض وحدها إلي 35,3%.
قلة فرص العمل : ففي تقرير عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن هناك ثلاثة ملايين امرأة عاطلة عن العمل فى السعودية.
العنف المنزلي: فبحسب التقرير الصادر عن البنك الدولي أن 20% من النساء فى العالم تعرضن للعنف المنزلي؟؟فلا يمكن بحال من الأحوال تبرئة المرأة السعودية من هذا العنف والصادر دوماً عن فئة معينة من الرجال؟؟
وجميعها نسب قد تكون مألوفة إذا ما قورنت بما تعانيه أخواتها فى الدول المجاورة فهذه جرائم الشرف أكبر دليل !!
ففي باكستان وفقاً لهيئة حقوق الإنسان والدعم القانوني شهدت خمس السنوات الماضية مقتل (4770) فتاة باسم جرائم الشرف!
وإحراق (1570) امرأة!
وفي فلسطين: في تقرير لوزارة المرأة أن (71) جريمة قتل للنساء على خلفية جريمة الشرف!
وفي سوريا: في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة تُصنّف فيه سورية بين أكثر خمس دول في العالم تُرتكب فيها جرائم الشرف!.
ومع ذلك لانسمع من يكتب عنهن بالشكل المأساوي الذي نراه فى السعوديات؟!!
أما واقعها :
التعليم : حققت السعودية منذ الستينات تقدما كبيرا في مجال تعليم الإناث,وبلغ عدد الخريجات من الجامعات والمعاهد النسوية في البلاد ما يقل عن 78000 امرأة فى عام 2000, وفى التعليم بلغت المرتبة الثامنة بنسبة 62.8% تليها السورية في المرتبة التاسعة , والتونسية في المرتبة العاشرة , ومن ثم المصرية.
وقد اختار معهد العالم العربي بباريس الفيزيائية السعودية البروفيسور( ريم الطويرقي )أستاذة الفيزياء وقال رئيس الأبحاث بالمركز القومي للبحوث ورئيس المرصد الفلكي الفرنسي، المشرف العلمي على التظاهرة برينو عبدالحق كيدردوني : يأتي هذا التكريم للتأكيد على دور المرأة السعودية بالذات في هذا الحقل المعرفي الصعب.(جريدة الوطن 1805)
الاقتصاد: ووفقا لمنظمة العفو الدولية تمتلك النساء 390ر16 مصلحة تجارية، فيما تمتلك الإناث 40 %بالمائة من الثروة الخاصة في المملكة أكد تقرير للمؤسسة السعودية للاستثمار أن سيدات الأعمال فى الاقتصاد السعودي يقدرن بنحو 2500 ,وفى الانتخابات الأخيرة للغرفة التجارية فى جدة ترشحت امرأتان للعضوية فيها. .
التعليم الديني: تلاقى مدارس التحفيظ إقبالا كبيراً من النساء فقد بلغ إجمالي مدارس تحفيظ القرآن الكريم النسائية بمنطقة الرياض 226مدرسة يدرس بها 53.000طالبة ويدرسهم أكثر من (2269) معلمة وإدارية.
الأحزاب السياسية: ترى المرأة أن الخوض فى التجربة السياسية لاطائل منه مع قدم تجارب المرأة فى الدول العربية ففي مصر مثلاً لم تقبل الأحزاب على ترشيح السيدات في قوائمها في الانتخابات البرلمانية مع تزايد إقبال المرأة على الترشيح من 87 سيدة عام 1995 إلي 121 سيدة عام2000 ومع ذلك ظلت ترشيحات الأحزاب للسيدات أقرب إلى الصفر ؟؟؟, كما لم تسجل المرأة الكويتية أى نجاح فى الأيام الماضية ؟؟
ومع كل هذه الإنجازات ستبقى المرأة السعودية إنسانة كاملة الأهلية , ومحترمة كزوجة , ومربية صانعة للأبطال,صانت سمعتها عن الأغاليط ,وعفّت جسدها عن الأنظار, تخفق لها القلوب تقديراً وإجلالا, شامخة في وجه كل الصعوبات التي تواجهها من أعداءها في الخارج ,وبعض بنات جنسها في الداخل , أفلا نعتبرها بعد ذلك من القابضات على الجمر؟!!!
===========
( ** نحو تغيير حقيقي لنفوسنا ** )
كثيرا ما يحب الإنسان أن يبدأ حياته من جديد، فيقرن بدايته بصباح يتنفس بإشراقة نهار جديد، يحمل بين نسماته الهادئة الكثير من الأمل، أويقرنها بليل يلفظ اليأس والكسل الذي فيه.
يطرق التفكير طويلا، من أين يبدأ في إصلاح ذاته وتطويرها ؟ : عبادته، إيمانياته، ثقافته، عمله، دعوته، اجتماعياته.. يلملم همته وينفض عنه غبار التثاقل، يتوضأ بماء التفويض، ويعزم المضي في الميدان وسط معترك الحياة المزدحم بالعقبات.(7/2)