وختم الكاتب تقريره بهذه العبارات على لسان "هارون": "لقد صاح وهو يطل من النافذة ويشير إلى مزارع الفاكهة: هذا البلد ملك لنا، عندما وصلنا هنا لم تكن توجد إلا تلال وحجارة!! لقد خضَّرنا الصحراء، ولقد ساعدنا الله منذ ألفي عام ولن يمتنع عن ذلك فجأة، بل سوف يساعدنا على حل مشكلاتنا مع العرب"!!
أرأيت أيها الأخ فلسفة القادمين الجدد، وأحاديثهم السرَّية والعلنية؟ الله ومواعيده لشعبه المختار!! التوراة والحدود التي رسمتها!! حق التملك للأرض باسم الدين اليهودي، وجهود البناء والتعمير، ليكن العرب أبناء كنعان أو قحطان فليعيشوا بعيدًا عنا.
وما يقوله رجل الشارع العادي هو ما يردده رئيس الوزراء المسؤول. فكيف بربِّ الأرض والسماء يصرخ القوم بانتمائهم، وننسلخ نحن من هذا الانتماء مؤثرين عليه انتماء عرق لا يقدِّم ولا يؤخِّر؟!
وعندما يتكلم السياسي اليهودي رافعًا بيمينه كتابه المقدس، فهل يسكته سياسي عربي يستحي من كتابه، ولا يذكره لا في محراب ولا في ميدان؟!
من هو طيب الذكر كنعان؟
إن اليهود يعرفون كما نعرف أن فلسطين لم تكن خالية من سكانها يوم دخلوها فاتحين باسم التوراة. كان الكنعانيون يَحْيَون في هذه الربوع التي فاضت عليهم سمنًا وعسلاً، وكانوا أصحاب تفوّق مدني وعسكري أغراهم بالترف والعبث والجبروت، وكانوا مرهوبين يخشى الناس بطشهم، ويْوجَلون من التعرض لهم. فلما خرج موسى وقومه من مصر واحتوتهم سيناءُ قيل لهم: ادخلوا فلسطين فسيناء مَعْبَر إليها، ففزع اليهود من هذا التكليف وخشَوا مقاتلة أهلها يومئذ، وقالوا لموسى عليه السلام: (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)[لمائدة:22].. وهذا الرد يقطر جبنًا؛ فإن الكلاب والقطط تدخل بلدًا خرج منه أهله، أي شجاعة في هذا الموقف؟!
وحاول موسى – عليه السلام – وبعض الصالحين تشجيع بني إسرائيل على الهجوم فقالوا في إصرار: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[لمائدة:24]. وعمَّت الأقدار على بني إسرائيل أرض سيناء، فظلوا يتيهون فيها أربعين سنة، هلكت خلالها الأجيال الجبانة، ونبت جيل أنظف، ولكن بعدما مات موسى – عليه السلام – وقاد القوم يوشع الذي دخل فلسطين بعد قتال شديد مع جبابرتها الأولين.
ودخل اليهود فلسطين، وأقاموا لهم دولة مكثت قرابة قرنين.. فماذا فعلوا؟ أضحَوا شرًّا من سلفهم الذاهب، وملؤوا الأرجاء خبثًا وسفكًا وفتكًا، وقتلوا الأنبياء المختارين والأئمة الْمُقسطين، فحكم الله عليهم بالطرد والذل وتوارث الأقوياءُ نبذهم وتشريدهم.
وأشرق الإسلام في القدس:
فلما دخل المسلمون بيت المقدس في الشروق الإسلامي الأول كانت العاصمة العتيقة في أيدي الرومان، وكان دخولها محرَّمًا على اليهود، وأقبل أمير المؤمنين عمر من جوف الصحراء يتألَّق جبينه بشعاع الوحي الخاتم وتمشي في خطاه معالم التوحيد الحق.
قال التاريخ: كان التواضع المذهل يكسو موكبه الساذج، وكان الرجل الذي قوَّض صرح الدولتين العظيمتين في العالم يتحرَّك مطرق الطَّرْف خاشعًا لله فوق رَحْل رَثٍّ وبين حاشية مستكينة، يقول بصوت رهيب: كُنَّا ـ نحن العرب ـ أذل الناس حتى أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلَّنا الله.
ولم يقل عمر رضي الله عنه: الويل للمغلوب.. بل أمَّن النصارى على كنيستهم، وقرر حرية العبادة، ثم شرع يرسي قواعد الدولة الجديدة على التقوى والعدالة والمرحمة.. شرف العروبة في هذه الدولة ذوبانها في إعلاء كلمة الله.
مهزلة الفصل بين العروبة والإسلام:
حتى جاءت هذه الأيام النحسات، فإذا ناس من العرب ينسون عمر والإسلام والتاريخ كله، ويقولون: نحن أبناء كنعان!! مسحورين بالاستعمار العالمي الذي أَلغى الدين وجعل مكانه الوطنية أو القومية!! وبقي أن يقول العرب في جنوب الجزيرة: نحن أبناء عاد، وأن يقول العرب في شمال الجزيرة: ونحن أبناء ثمود!! وفي الوقت الذي يتعرَّى العرب فيه عن دينهم ويَحْيَون مكشوفي السوأة، يتسربل اليهود بعقيدتهم ويصرخون بحماس هائل: نحن أبناء التوراة وأولاد الأنبياء، نحن بنو إسرائيل!!
ونمضي في مهزلة فصل العروبة عن النسب الإسلامي في الميدان الدولي والتربوي على سواء، فنلحظ بقدر من الدهشة أن مسؤولين في المؤتمر الإسلامي أحزنهم بطش اليهود بالعرب داخل إسرائيل، ففزعوا إلى "بابا الفاتيكان" يسأَلونه النجدة لإخوانهم!! لقد سألوه باسم الإنسانية التي تجمع الكل، وما أحسبهم سألوه باسم "الوحي" الذي يشمل الأديان الثلاثة.
وجاء الجواب.. قالت الصحف: خطب البابا في مائة ألف مصل احتشدوا في الكنيسة لتحية ذكرى دخول المسيح القدس، فقال: "إنه لا يسعنا إلا أن نفكر في أرض المسيح أرض فلسطين!! حيث علَّم المسيح المحبة ومات كي تتصالح الإنسانية".
ثم أعرب عن أمله في مجيء اليوم الذي يوافق فيه شعبا هذه الأرض على وجود وحقيقة كل منهما، حتى يعيش الطرفان – يعني العرب واليهود – في سلام!!
وقال كلاما حمل كاتبا في صحيفة "الراية القطرية" أن يكتب في 5/4/1982م "تمخض الجبل.... "
وأقول: إن الذي يرتقب غير هذا الوعظ من بابا روما مخطئ ولا يعرف حقيقة النصرانية. وقد وقع في هذا الخطأ عرب آخرون استنجدوا بمجلس الكنائس العالمي، وعادوا من محاولتهم بخُفَّي حُنَين.(3/36)
إن النصرانية تؤيد قيام إسرائيل، وترى عودة اليهود إلى فلسطين معجزة للكتاب المقدَّس وآية تشهد بصدقه، وقد نبَّه "وايزمان" –أول رئيس لإسرائيل إلى ذلك فقال: "إن لورد بلفور وغيره من الوزراء الإنجليز كانوا يعبدون الله حين أصدروا إعلان الوطن القومي، وكانوا يمثلون الإيمان المسيحي"!!
هل أقول: إن العرب لا يقرؤون، وإنهم يجهلون ذلك حقًّا؟ ما أظن!!
الواقع أن العرب فتنهم الغزو الثقافي وحسبوا أن الوطنيات أو القوميات الحديثة تخلَّت عن عقائدها الأولى، فتزحزحوا عن قواعدهم، وفرَّطوا في دينهم على حين بقي خصومهم بمشاعر القرون الأولى. ولو حدث بالفعل أن غيرنا نسي دينه أو تناساه، فهل ذلك عذر للكفر والفسوق والعصيان؟
إن قضية فلسطين خاصة يستحيل تجريدها من طابعها الديني، والقول بأنه يجب طرد المستعمرين اليهود من بلادنا، كما يجب طرد المستعمرين البيض من جنوب إفريقية، وأن كلا النظامين يقوم على نزعة عنصرية، هذا الكلام تغطية سخيفة لحقائق مرة.
إن العدوان اليهودي المدعوم بقوى الصليبية العالمية له غاية مرسومة معلومة هي: إبادة أُمة وإزالة دين، هي الإجهاز على الأُمة العربية التي حملت الإسلام أربعة عشر قرنًا، وتريد أن تظل عليه شكلاً إن تركته موضوعًا.
والذين يبعدون الإسلام عن معركة فلسطين يشاركون في تحقيق هذه الغاية، لأن فلسطين من غير الدفع الإسلامي زائلة، والعرب من بعدها زائلون، والمسلمون بعد زوال العرب منتهون، وهذه هي الخطة!!
إن ذهابَ العرب بأنفسهم وشموخَهم بجنسهم وحديثهم عن حضارة كنعان وقحطان وعدنان – إن كانت لهم حضارة – إن ذلك يطعن الأخوة الإسلامية طعنة نافذة، فإذا انضم إلى هذا الغرور نسيان لفضل الإسلام وبعث لنشاط عصري جديد يقود العروبة فيه الشيوعيون والنصارى والمسلمون، فذاك هو الارتداد الذي ينتهي بالعرب إلى مصارعهم، ويحوِّلهم أجمعين إلى لاجئين لا وطن ولا دين!!
إن احتباس العرب في نطاق مآربهم الخاصة رذيلة منكورة، واهتمامهم بقضاياهم وحدها أنانية مرذولة.
في الحرب العالمية الأولى انضمَّت الثورة العربية الكبرى إلى الإنجليز وقاتلت الأتراك، وتسببت في هزيمتهم، فماذا جنى العرب؟ أعطى الإنجليز فلسطين وطنًا لليهود، وسقطت الخلافة التي رفضت أيام عبد الحميد بيع فلسطين بالقناطير المقنطرة من الذهب، ووقعت وحشة هائلة بين الترك والعرب انتهت بارتداد الحكم التركي عن الإسلام.
أما نتقي الله في ديننا ورسالتنا بعد هذه النتائج الرهيبة، ونستمسك بالإسلام الذي شرفنا الله به، ونجعل الولاء له بعد ما تبين شؤم ما عداه؟!
في حمّى اعتزاز العرب بقوميتهم وقع تزوير مثير في دراسة التاريخ، فسمِّي البطل الكردي المسلم "صلاح الدين الأيوبي" بحامي القومية العربية!! والرجل الضخم لم يكن يعرف قومية لا عربية ولا كردية، كان مسلمًا فقط.
إن إبعاد العرب عن الإسلام خيانة وطنية، إلى جانب أنها ردَّة دينية، والذين يمضون في هذا الطريق يخدمون الصهيونية والصليبية والشيوعية.. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب "هموم داعية" بتصرف.
===============
يحسب أن ماله أخلده
ما أشقى القيم عندما يصبح المال وحده لحمتها وسداها، وأتعس بالأمم إذا بات المال عندها معيار التفاضل ومنهاج التعامل! به ترفع وتضع، وفيه تقدم وتؤخر، وله تسعى وتحفد.
وكم تؤذي السمع، وتستدعي الازدراء قالة أقوام: (فلان رجل)، وإذا رحت تسائل هؤلاء الناس: فِيمَ استرجل فلان وجدّ؟ أجابوا - وبئس الجواب - بثروته المالية ومكانته الاقتصادية!
وحرصاً على إثراء رصيد المسلمين بالمعرفة التاريخية، وعمارة أرواحهم بأصل القيم،تعاقب القصص القرآني عن الأمم السالفة ليكون من الروافد الفكرية لمكونات الشخصية الإسلامية.
ولقد ثبت عن الإمام أحمد - رحمه الله- حبه لقصص موسى في القرآن الكريم، والتي توزعت فصولها هذه في كثير من آيات القرآن تحكي جهاد هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء - وكيف اصطدم بالطغيان السياسي الذي تمثله دولة فرعون ومواجهة لبذور وجذور الرأسمالية القارونية - التي كان قارون صنمها البارز ووثنها الشامخ.
وما ذكر في القرآن من قصة قارون مع قومه تتمثل في هذه الآيات من رقم 76 إلى رقم 82 من سورة القصص . قصة متكاملة العناصر؛ فزمن القصص - فترة رسالة موسى -صلى الله عليه وسلم-. والأماكن التي شهدت الدعوة مكانها. ووقائع القصة - وإن انتهت زمناً - فهي مستمرة حياة وإيحاءً، مادام النموذج الذي عرضت له القصة قائماً في عالم الناس . وقارون يقوم بدور البطولة بين شخصياتها المتمثلة بقومه عموماً، ثم يتحدد هذا العموم بفئتين:
الأولى: الدنيويون .
الثانية: أولو العلم .
وموضوع الصراع هو المال - مصدراً وهدفاً ومصرفاً - وتبدأ القصة معرّفة بقارون هذه الشخصية البائسة التي تعايش ربيع الزمن - وجود النبوة - ولكنها في شغل عنها بالمال جمعاً وكنزاً، ثم تفتح الآيات أعيننا على الأخطار التي تنتج عن رأسمالية فرد، فما تكون عليه هذه المخاطر إذا كانت هذه الرأسمالية نظام حياة وأسلوب حكم؟!:
وأولى هذه المخاطر الظلم: [فَبَغَى عَلَيْهِمْ] فالمُتيّم بالمال، والصبّ بجمعه لا يهتم إلا بما يزيد هذا المال رقماً دون مبالاة بظلم مؤلم أو بغي مؤذٍ. وفي ظل هذا الوضع تهان إنسانية الإنسان، ويكون التعامل معه كالتعامل مع الأشياء.(3/37)
والخطر الثاني: الفرح: [إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ]، ويبدو أنه قد لازمه حتى صار خُلقاً له أو كما يقول أهل النحو ( صفة مشبِّهة أو صيغة مبالغة) فبلغ به حد الأثرة والبطر، كما يقول القرطبي أو بلغ الحد الذي يُنسي المنعم بالمال كما يقول صاحب "الظلال".
والخطر الثالث: التوجه الكلي إلى الدنيا وحدها، وهذا ما يستنبط بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: [وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ] وكما لا يظن أن ذلك دعوة إلى مقاطعة الدنيا أتبع (والله أعلم) لقوله: [ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] وابتغاء وجه الله بالعمل محض الإيمان، فلا يذل المرء للمخلوقين أو يصبح تحت رحمة أهوائهم إذا اتخذ وجوههم قبلة تحقيقاً لتوحد حب الدنيا في قلبه .
وبعد إشباع شهوة التسلط القاروني بالبغي، وإتراعها بالفرح وما في ذلك من مكسب إعلامي يجعل من صاحبه حديث الصالونات ومحتكراً للصفحة الاجتماعية في الجرائد والمجلات - بعد ذلك تمضي بنا الآيات إلى الخطر الرابع وهو الفساد في الأرض: [وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ]، وكلمة الفساد ينطوي في أحشائها - وينضوي تحت راياتها - شرور شتى، وخبائث عدة ؛ لأن القارونية لا مكان في معجمها المادي للأخلاق، بل لا ترى بأساً أن يكون في مقتل الأخلاق دخل مدار الربح كما في عوائد الربا والفوائد كما في دخول الميسر والخمر والدخان ... إلخ.
والأخطار الأربعة السابقة نتيجة منطقية لرأسمالية قارون التي تدين بالحتمية المادية - وهذه نقطة تلاقٍ مع الشيوعية - التي تجحد قدرة الله في الإعطاء والمنع، والفقر والغنى، وترد ذلك إلى سلطان العقل وثمرة العمل، وتبجح قارون: [إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] يمثل الأبوة الروحية لكل منزع مادي، فهو كما قال أحد المفسرين: "تَنَفَّجَ بالعلم وتعظم به".
ومادام قارون يعتقد ألا فضل لله في إيجاد هذا المال فليس له - بالتالي - حكم في مصاريفه وإنفاقه. ولكن الآيات ردت على المادية القارونية بأن المادية التاريخية لم تعصم أهلها - بالرغم مما في يدها من علم ومال -: [أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وأَكْثَرُ جَمْعاً] وما على القوارين إلا التأمل في مصائر الثراء وفعائل المال بأصحابه؛ (إذ لو كان المال يدل على فضل لما أهلكهم) كما يقول القرطبي.
وكأن هذه القارونية قد أخذت على نفسها الميثاق ألا تُبقي عيباً من عيوب الثراء الذي لم يؤسس على تقوى إلا وكشفته، هاهي الآيات تعرض لنا المنظر الأخير للإفلاس القيمي عند قارون الذي لم يجد ما يدلل به على حضوره ثرياً إلا خروجه في زينته (كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد) التي لم يكن الحاضر فيها منه إلا مظاهرها المادية بعد أن فارقنا إنسانيته أو فارقتنا في سعير المظالم وسعار الشهوات وسكرة الفرح.
ولقد نقلت الآيات قارون من الجريمة الفردية إلى الجريمة الاجتماعية أو بلغة الأدب - من الشخص إلى المصطلح ومن الحدث إلى الرمز لتصبح القارونية عباءة لكل قارون معاصر أو ثري جَحود.
لم يكد قارون يفرغ من عرض ثروته، واستعراض زينته إلا وقد أشعل في قلوب الدنيويين مشاعر التلهف وشعائر التأسف ألا يكون لهم مثل هذه الثروة : [يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ]؛ فجاءت إغاثة اللهفان - شأنها في كل زمان ومكان - من أهل العلم الذين حذروا من خطورة النظرة السطحية للأمور، والتي تريد الدنيا للدنيا، ثم لفت أهل العلم الأنظار إلى [ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ]، فذلكما الأمران هما المطلوبان والمحبوبان ثواب الله والإيمان به . وفي ذلك تنبيه للدنيويين على مدار التاريخ - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - أن الثروة قد تدلف فجأة، ولكن ترويض النفس على الإيمان والعمل الصالح منزلة [وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ].
وما أن يُنهي أهل العلم كلامهم ؛ حتى تغيّب الأرض قارون في ظلماتها - والعطف بالفاء - ] فَخَسَفْنَا [ يدل على سرعة الأخذ، والعقوبة بالخسف مناسبة لسخف المعتقد . وهكذا أصبح هذا الثراء بالرشاء أجدر.
وفاجعة النهاية لا تقل في غناها المعنوي عن مأساة البداية، فهذه الثروة الهائلة تغور في أعماق البسيطة بثوانٍ كأن لم تكن: [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 29].
وإذا جاء أمر فإنه يترك كل القوى اللائذة بأهل المال رغبة أو رهبة - عاجزة عن أي دور: ]فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ومَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ[ وبقدر ما كان الانتقام فاجعاً لقارون كان مفاجئاً للدنيويين فقد انتزعتهم النهاية من زيف أحلامهم وسكرة مشاعرهم لتوقفهم على الأخذ الأليم؛ فيصرخون [وَيْ] لتبصر البصائر ما عجزت عنه النواظر، ويدركون ألا علاقة بين الهداية والثراء؛ فالله: [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ويَقْدِرُ]. كما يعترفون بفضل الله عليهم لتدارك رحمته - إياهم - بنصح أولي العلم:]لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [، كما يخرجون بتجربة ناجحة عن مستقبل الثراء الكافر: [وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ]، والتعبير بالمضارع [لا يُفْلِحُ] يفيد ديمومة الحكم ما وُجدت أطراف القضية.(3/38)
وإذا كان الفوز في الآخرة هو الفوز، فالطريق إليه يبدأ في الدنيا بتجنُّب التجبُّر: [لا يُرِيدُونَ عُلُواً]، ومجانبة الفساد بكل مضامينه: [وَلا فَسَاداً]، ولئن قُدر للمبطلين أن يهيمنوا بعض الوقت فلن يتأتى لهم ذلك دائماً أو انتهاءً؛ لأن [الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ][القصص:83].
================
أيها الدعاة: الحذرَ.. الحذرَ
يتفق علماء الحضارات على وجود "شاشة" في كل مجتمع لتفحص وتمحيص الموجات الثقافية والفكرية الوافدة، تقوم هذه الشاشة بفرز الأفكار الجديدة الوافدة قبل تغلغلها في العمق العقلي الثقافي لأفراد المجتمع، فتفرز هذه الشاشة ما تحمله هذه الموجات من غبار طلع ثقافي، فتأخذ منه ما يلائم ويوائم النسيج الثقافي المحلي، وتستبعد ما يتنافى مع هذا النسيج. هذه الشاشة عندما تكون بعافيتها بإمكانها رفض كل ما هو ضار من هذه العناصر الثقافية الوافدة، ولا تأخذ من هذه العناصر إلا المفيد الذي يلبي احتياجات نفسية وروحية وعلمية عجزت الثقافة المحلية عن تلبيتها.
وبلا شك فماهية هذه الشاشة تختلف من حضارة إلى أخرى، وشاشة المجتمع الإسلامي هي الدعاة على اختلاف صورهم، من الكاتب المفكر إلى الأستاذ الجامعي إلى خطيب المسجد وغيرهم، فمادام دعاتنا بخير وفي يقظة فأبشر، إذ تجد الأفراد معتصمين بآداب الدين الحنيف، فتظل بهم الأسرة طاهرة نقية، وتتكون من هذه الأسر الجماعة السليمة القوية، فالأمة العزيزة الأبية، فالدولة العظيمة المتحدة.
وعندما يكون الدعاة في ضعف، نفقد شاشتنا الثقافية، وعندئذ يحدث الاستلاب الحضاري، الذي يكرس هزيمة واندحار ثقافتنا أمام الثقافات الوافدة، ونرى الفرد المسلم يتهاون في تعاليم دينه وتقاليده، فيتطرق الفساد إلى الأمة بأسرها، وتضيع حريتها وكرامتها واستقلالها.
لقد أدرك أعداء الإسلام أهمية دور الدعاة في المجتمع الإسلامي، فحاولوا بكل السبل النيل منهم، وسلكوا في سبيل ذلك طرقًا شتى، نذكر منها على سبيل المثال طريقين:
الأول: إضرار العلاقة بين الدعاة وأفراد المجتمع الإسلامي.
والثاني: خداع الدعاة أنفسهم، ومحاولة إقناعهم بأن العمل الدعوي لا تستدعيه الضرورة.
ولكي يسير أعداء الإسلام في الطريق الأول، اتبعوا عدة وسائل أهمها:
1ـ تشويه صورة رجل الدعوة، وإبراز حياته للناس على أنه رجل لا يعرف شيئًا، وإشاعة جو من الافتراء عليه بالسخرية والاستهزاء في الأفلام والمسلسلات ومختلف وسائل الإعلام. ويهدف الأعداء من وراء ذلك إلى تهميش دور الشخصيات الدينية في المجتمع، ومحاولة عزل هذا الرمز وهذه القدوة، ومن ثم عزل اللون الفكري الذي يمثله هذا الرمز، وخلق قدوة أخرى ونماذج أخرى لتكون هي المثل الأعلى، ومع اشتداد الغزو الثقافي والهيمنة الإعلامية الغربية، تصاعدت هذه الظاهرة.
2 ـ عزل الدعاة عن الحياة العامة ومنعهم من تولي المناصب القيادية، وتضييق الحياة المعيشية عليهم، وهذا بلا شك عامل مؤثر في الدعاة كما في دعوتهم أيضا، فمن الطبيعي أن يكون الشغل الشاغل للدعاة في مثل هذه الظروف الجري وراء توفير لقمة العيش لهم ولأسرهم، وبالطبع أدى ذلك إلى ضعف تأثير الدعاة في أفراد المجتمع الإسلامي، مما أدى إلى نقص فعالية الشاشة الثقافية في عملية الفرز الثقافي للأفكار الوافدة علينا من الغرب.
أما الطريق الثاني، وهو طريق التغرير بالدعاة، فهو يبرز في أمور عدة، أبرزها مقولة "تدهور قوة الغرب وتنامي قوة الإسلام"، وكأن أصحاب هذه الفرية يقولون للدعاة: هونوا عليكم أيها الدعاة، إن مجتمعكم على ما يرام، وهذا في الواقع شَرَكٌ ينبغي على دعاة الإسلام ألا يقعوا فيها، لأنهم ينطلقون من موقع الضرورة، والضرورة القصوى، بل هو صراع الوجود الذي ينبغي على الشاشة الثقافية العمل فيه بكامل طاقتها وطوال الوقت.
وفي الواقع لا توجد فكرة يطرب لها المسلمون، ويتداولونها، وتهفو نفوسهم سريعًا إلى تصديقها، كالفكرة القائلة إن الغرب في حال انحطاط، فما إن يخرج مفكر غربي برأي ينتقد فيه الحضارة الغربية أو المجتمع الغربي الحديث ويتوقع انحطاطه، إلا وتجد أصداء هذا الرأي تنعكس بأسرع ما يكون، وبشتى التفسيرات والاجتهادات في لغة الضاد، وينام المسلمون مرتاحين ملء جفونهم على اعتقاد أن الغرب في حال انحطاط، وأنه من الانهيار قاب قوسين أو أدنى! وبهذا فقد سمع المسلمون عن انحطاط الغرب أكثر مما سمعوا عن نهضته وعلومه ومكتسباته الحضارية، فهذه كلها أمور ثقيلة على قلب المفكر المسلم وسمع المواطن المسلم، لا يتحدث عنها ذاك ولا يستمع إليها هذا، أما الانحطاط فحدث عنه ولا حرج.
ولننظر في موضوع يعد علامة على حال المجتمع الإسلامي، من حيث القوة أو الضعف، ويعد مقياسًا لحال الدعاة ولأثرهم في المجتمع الإسلامي، ألا وهو موضوع المرأة التي هي أساس الأسرة التي لابد من تطهيرها إذا أردنا السير في طريق تحرير الأمة، لأن الأسرة إذا شيدت على تعاليم الإسلام، شب أبناؤها أعزة أحرارًا، فكان لهم بإيمانهم القوي بالله تعالى، وبرجولتهم الموفورة وهمتهم الصادقة، ما يسمو بهم عن مواطن الذلة والصغار، ويدفع بهم إلى مواطن العزة والافتخار، وبمثل هؤلاء تعتز الأمم وتسود الشعوب.(3/39)
هل لنا أن نتساءل – على سبيل المثال – عن القدر الذي يسمح الدين الإسلامي بكشفه من جسد المرأة، وهل لنا أن ننظر إلى واقع المرأة في أغلب الدول الإسلامية في هذا الشأن، لقد تدرج المجتمع الإسلامي من مرحلة عدم الثقة بالمرأة كاشفة الوجه، إلى مرحلة استباحة العري وامتهان الجسد، وهي تعد نقلة غاية في الجنوح والتناقض، إلى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة النظر إلى الحجاب على أنه وصمة جهل وتخلف بعد أن كان شعار عفة وتكريم!
أهذه هي الصحوة؟! إنني أرد سبب هذه الفجيعة إلى غياب الدعاة، أو بالأحرى غياب أثر الدعاة، ففي غفلة من الشاشة الثقافية، وفي زمن عطبت فيه هذه الشاشة فقد المجتمع الإسلامي القدرة على فرز الأفكار الوافدة والتصدي للضار منها، فحدث هذا التغريب.
فإذا قلنا إن تطهير الأسرة من التحلل والفساد هو الطريق إلى تهيئة الأمة لاستعادة مجدها واستقلالها، فإننا نقصد بذلك بعث الرجولة التي اندثرت والعفة التي فقدت، وما أصدق كلمات محمد بن عبد الرحمن السحرتي:
"محال أن يضحي من أجل الوطن هؤلاء الذين رخصت عليهم كرامتهم الخاصة، فتركوا نساءهم وبناتهم وأخواتهم ومن هنَّ تحت رعايتهم، عاريات كاسيات، يكشفن عن الصدور والنحور، ويبدين الأذرع والسيقان، فالذي لا يحس بالغيرة على عرضه الخاص أضعف من أن يبالي بما يصيب عرض بلاده، وأذل من أن يكون محررًا لوطنه، عاملاً لمجده وسيادته، فمحال أن يلبي نداء الوطن، أو يلبي نداء الله، هؤلاء الغارقون في شهواتهم المتساهلون بحدود ربهم، المتجاهلون لتقاليد دينهم".
فيا أيها الدعاة: الحذر الحذر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الأسرة 136
================
هوى الخلاف أم خلاف الهوى؟
الخلاف سنة بشرية يعكس في حقيقته اختلاف الطبائع والنفسيات وتفاوت المدارك والتصورات؛ ومع ذلك فإن التعامل مع السنَّة البشرية يجب أن يكون بعيدًا عن التسليم المطلق أو المواجهة المطلقة؛ فالنفس مجبولة على خصال من الشر، كما أنها مجبولة على خصال من الخير.
والتسليم بهذه الحقيقة غير التسليم لها؛ فالتسليم لهذه الخصال بدعوى الواقعية مهلك ولا شك، كما أن إنكارها والتعالي على فهمها في اتجاهات الآخرين وتسويغ فعالهم هو جنوح إلى عالم الخيال أو المثال.
ويبقى بعد هذا وذاك أن المسؤولية الشرعية تقع على ما يملكه الإنسان من التجرد لله من شوائب الهوى، وحظوظ النفس، لا على ما لا يملكه من طبيعة التنشئة واختلاف المدارك، وفرق كبير بين الآمرين.
نعمة أم نقمة؟
الخلاف رحمة باعتبار، وبلاء ونقمة باعتبارات أخرى، ويبقى وجود الهوى أو عدمه العامل الأساس لقلبه من الرحمة إلى النقمة أو العكس؛ فانتفاء الهوى حتى مع بقاء الخلاف يلقي بظلال الود ويزيح معاني التطرف في التعامل مع المخالف، ويبقى الأمر في أشد الظروف في دائرة: "إخواننا بغوا علينا" كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والمتأمل في ساحة العمل الإسلامي يلاحظ بوضوح أن بلايا الخلاف الواقع ورزاياه في أحوال كثيرة ليست في ذات الخلاف الناشئ عن اختلاف المدارك والتصورات والخلفيات بقدر ما هي في شطحات الهوى المصاحبة لهذا الخلاف التي تخرج به عن دائرة العقل والدين!
إن جمع الأمة على عقل واحد يبقى أمنية مغرقة في الخيال، ولكن جمع الأمة على أدبيات واحدة يبقى غاية لابد من أن تنال بإذن الله تعالى.
والواقع المؤسف أن خلطًا واسعًا يجري بين الخلاف الذي تبقى ساحته هي الآراء والأفكار، بل والتطبيقات الفرعية القابلة للاجتهاد، وبين الاختلاف الذي لا يقتات إلا صفاء القلوب، وسلامة الصدور، وطهارة الألسن.
فالخطاب الإسلامي يجب أن يتوجه من نبذ الخلاف إلى نبذ الهوى في الخلاف أو خلاف الهوى، وهذا بدوره سوف يؤدي إلى توسيع دائرة المتفق عليه على حساب دائرة المختلف فيه، ثم بعد هذا يبقى أن هناك فرقًا بين الخلاف في الآراء والخلاف في الأداء.
فليس كل خلاف في التنظير يجب أن يتحول إلى خلاف في التطبيق؛ فساحة التنظير أوسع من ساحة التطبيق، ومرونة الآراء أرحب من مرونة الأداء، وتبقى قضايا التنوع والراجح والمرجوح والفاضل والمفضول، والحسن والأحسن، أيسر من أن تترجم إلى مفاصلة عملية بين حدين متضادين! فالتطاوع في الأعمال لا يعني التطابق في الأذهان، وإلا لما نِيلَ التطاوع وإن طال الزمان.
وعلى كل حال فستبقى هناك ثوابت لا تقبل التطاوع؛ لأن التطاوع فيها نوع من التنازل والتراجع، وليست المشكلة في خفاء هذا بقدر ما هي في التباس الثوابت بالمتغيرات؛ فالشريحة الكبرى من الصحوة لا تعاني من التنازل عن ثوابتها، بحجم المعاناة من المفاصلة على أمور ليست من الثوابت أو كبريات القضايا في شيء وفي كلٍّ شر.
ويبقى الجهل والهوى هو المحضن الخبيث لتفريخ بيض الخلاف في الأقوال اعتدادًا وغرورًا وخوضًا في الأعراض وتماديًا في الإعراض، وفي الأعمال هجرًا وصدودًا وإيقافًا لعجلة الخير، ودفعًا لعجلة الشر.
وأخيرًا فإن أحادية التفكير وتسطيح الأمور وإرجاع القضايا إلى بُعْدٍ واحد أمر مرفوض ولا شك؛ ولكن يبقى أن في الأمور تباينًا، ولكل أمر ثقله، ولكل رأسٍ أُسّه.
ـــــــــــــــــــــــــــ
البيان: 157
================
الهجرة والأخوة الإيمانية
سيبقى حدث الهجرة حدثا عظيما، ووقعا فريدا، نستلهم منه العبر ونأخذ الدروس ونتعلم كيف نقيم أمة كما أقامها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى طريقته..(3/40)
لقد كانت الهجرة هي التأريخ الصحيح لبداية عهد بناء الدولة الناشئة، والأمة الواعدة، وقبل ذلك كانت مجرد دعوة، وبحث عن مأوى تنطلق منه الدعوة إلى الله، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ضالته في المأوى في المدينة المنورة، وانتقل إليها مهاجرًا ـ بأمر الله تعالى له ـ ليقيم دعائم دولته، فما هي تلك الدعائم التي أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الدولة؟
إن أول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد هجرته هو بناء المسجد، وكانت الخطوة الثانية هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وأما الثالثة فكانت كتابة الوثيقة بينه وبين اليهود خاصة وبين سكان المدينة عامة.
فكانت الأولى والثالثة بيانًا لهوية الأمة ووجهتها، فهي دولة دينية أصلها الأول التوحيد (ذات إيدلوجية دينية)، توحيد الله تعالى، وشريعتها (أو ما يسميه أهل الزمان دستورها) هي أوامر الله ورسوله، وعلى هذا ستكون معاملات أبنائها مع بعضهم، وعليه أيضًا ستكون علاقاتها بدول الجوار وغير الجوار.
وأما الدعامة الثانية فهي الأخوة، وهي مقصد هذه الكلمة، فكانت هي الأساس والقاعدة التي سيقوم عليها البناء، فكانت المؤاخاة بيانًا على أن وحدة الصف وجمع الكلمة مطلب ضروري لا غنى عنه لأي أمة تريد الفلاح.
فصفة لازمة للأمة التي تريد التمكين في الأرض، والعزة في المعيشة، والنصر على أعدائها أن تحقق الوحدة والائتلاف وتنبذ الفرقة والاختلاف، فالأولى سبب القوة والنصر، والثانية سبب الفشل وذهاب الريح: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].
فآخى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر بين المهاجرين بعضهم وبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، أخوة العقيدة، أخوة الدين، أخوة الإيمان، وجعلها فوق أخوة النسب، فبها يتناصرون، وبها يتوادون ويتحابون، وبها أيضًا يتوارثون حتى نسخ الإرث بعد ذلك، وبقي التناصر والمحبة والمودة والولاء لله ولدينه.
فقامت على هذه الأخوة دولة الإسلام، وكانت هذه الرابطة مضرب الأمثال، وما زال التاريخ يذكر قول سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ـ حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ـ فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان؛ فانظر أعجبهما إليك فسمها لي فأطلقها؛ فإذا انقضت عدتُها فتزوجها. (فقابل هذا الكرمَ والجودَ وسخاءَ النفس من سعد عفةٌ وكرامةُ نفس وعلوُ همة من عبد الرحمن) فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلاَّ ومعه فضل من أقط وسمن.
مواقف ميمونة
لم تكن هذه حالةً فريدةً من الأنصار، ولكنها كانت علامةً ودلالةً على حال القوم، وعبيرًا فاح ليدل على شذى عطرهم.
لما قدم المهاجرون المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم. فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر. قالوا: نعم يا رسول الله.
وفي البخاري قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. فقال: لا. فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا.
فهل سمعت الدنيا بمثل ذلك ؟!! قوم الأرض أرضهم وهم الذين يعملون فيها ويوالونها ويقومون على أمرها.. فإذا أنتجت وأثمرت قاموا مقام الأجراء وقاسموا غيرهم الثمر والربح فأين يوجد مثل هذا؟
وفي البخاري عن أنس: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. فقال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة.
وقد أحس المهاجرون بفضائل الأنصار واعترفوا لهم بالإحسان حتى خافوا أن يذهبوا بكل الأجر؛ ففي المسند عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير؛ لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم.
وما أجمل الإحسان، وما أجمل الشكر عليه، وما أعظم وأحسن ما وصف به الفريقين؛ فالمهاجرون تركوا أموالهم وأولادهم وديارهم لله تعالى ولرسوله، فأثنى الله عليهم فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر:8]، والأنصار واسوهم بالمال وأحسنوا إليهم، وآثروهم على أنفسهم؛ فأثنى الله عليهم فقال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9].
إيثار بالنفس والمال
وهذا الإيثار الذي ذكر الله في الآية هو أعلى درجات الكرم والجود أن تؤثر أخاك مع شدة حاجتك؛ وهو قسمان: الأول إيثار بالمال، والثاني إيثار بالنفس. وسأضرب لكلٍّ مثلاً لحاجتنا لمعرفة ذلك. ـ خصوصا ونحن الآن نعيش في زمن الأثرة وحب النفس.(3/41)
الأول: رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئاً، فقال: "ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه اللّه؟". فقام رجل من الأنصار وقال: أنا يا رسول اللّه، فذهب به لامرأته، وقال: هذا ضيف رسول اللّه، لا تدخريه شيئاً، فقالت: واللّه ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئ السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: "لقد عجب اللّه - أو قال: لقد ضحك - من فلان وفلانة"، وأنزل اللّه تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). وقد سمى الإمام مسلم الأنصاري، وهو: أبو طلحة رضي الله عنه.
وذكر مالك الداري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره.. فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، وقال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا (فدفع) بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وأما الجود بالنفس فكان منه لمحة في معركة اليرموك حكاها حذيفة العدوي بقوله: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي - ومعي شيء من الماء - وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فاذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقد روى ابن الأعرابي مثل ذلك أيضا عن عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث ين هشام.. وهم من بين المغيرة فلما مر بهم خالد بن الوليد ورءاهم على ما هم عليه قال: بنفسي أنتم والله. ولا غرابة في تكرار ذلك فقد تشابهت قلوبهم فتشابهت فعالهم رضي الله عنهم أجمعين.
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها.. ... .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ما أحوج الأمة ـ أفرادا ودولا ـ أن تتعلم هذا الدرس من دروس هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تأخذ بهذا السبب من أسباب عودتها للسيادة والريادة والقيادة، فأمة مفترقة غير مجتمعة، ومختلفة غير مؤتلفة، ومتباغضة غير متحابة، ومتنازعة غير مصطلحة هي في الحقيقة أمة فاشلة ذاهبة الريح كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46).
=============
مولد سيدي فالنتين ..!!
لم يعد الغراب يحاكي الطاووس في مجرد المشية، بل تمادى في محاولة التقليد إلى ما هو أبعد، فهناك من أقنعه أن يجتهد في تغيير شكل منقاره، وإجراء عملية تجميل لساقيه، وزرع ريش جديد بدل ريشه الأسود، وتركيب زمّارة في حلقه لتغيير نغماته وطبقات صوته..
وبعد العملية ( زنّوا ) على أذنيه بإلحاح : شُفْتَ !! لست من فصيلة الغربان يا غوغو؛ أنت من الطواويس أو الحساسين أو الشحارير.. وصوتك أجمل من صوت آبائك الغربان المساكين البائسين.
ويصدق الغراب المسكين أنه صار عند ليبًا؛ لأنهم غيروا له ريشه، ناسيًا أن تكوينه لا يتحدد بالقشرة الخارجية، إنما هي الجينات، بل الشفرة المسجلة في الجينات، التي تعطيه هويته، وتمنحه خصائصه، ليبقى غرابًا وابن غراب، مهما تنكّر لأصله، ومهما غيّر من لون جلده، ومهما تشبه بغيره.
والغراب هنا هو أمتنا العظيمة التي تستورد الريش، وأجهزة تغيير شكل المناقير، وتحاول أن تغني غناءً أوبراليًّا يشبه نواح العجائز في المآتم، وتظن أنها -بذلك - ستصير متحضرة - ماديًّا على الأقل - تنافس الخواجات، وتسبقهم، وتتفوق عليهم !!
فما دمنا اشترينا الشوكولاته، والسجائر الأجنبية، والشامبوهات، والبامبرز، وجهاز الفيديو، وما دمنا نرطن بالإنجليزية الركيكة، ونحب المحروسة مادونا والأسبايس جيرلز، وما دمنا نشتري لأبنائنا دمىً على شكل ميني ماوس وبوكاهونتاس فنحن - بشهادة أنكل سامّ - نستحق دخول القرن الحادي والعشرين، ونحن محصنون عقليًّا، وإبداعيًّا، وحضاريًّا، ولا نحتاج لوصاية الدين، ولا آراء المتزفتين ( المتزمتين ) !
ظاهرة واضحة منذ أغروا شبابنا أوائل هذا القرن الغارب برقصات "الفالس" و"الشارلستون" و"الكاريوكا"، وبزجاجات المياه الغازية، مرورًا بانتفاضة محلات "التيك أواي" ( الوجبات السريعة ) التي تحاول - بأدائها وتصميمها وعروضها - تغيير شكل المجتمعات، وصولاً إلى آخر اسطوانات الليزر المعلبة بأفلام العنف وموسيقى "الهيفي ميتال".(3/42)
ما يفزعني هنا هو أن الموضوع يخرج - في كثير من الأحيان - لأبعد من مجرد تغيير لون ريش الغراب، إلى محاولات دؤوبٍ لاقتحام شفرته الوراثية، والعبث بتركيبته العقيدية والخلقية، ومصالحه في الحاضر، ومصالح أجياله في المستقبل، ومصلحة المجتمع في النتيجة النهائية أمام الله رب العالمين.
إنهم يحاولون وضع كروموسومات عقيدية وفكرية وأخلاقية، عن طريق زرع عقائد وأيديولوجيات، ليس عن طريق العنف الثوري ( والثوري هنا ليس نسبة إلى الثيران فهي بريئة من مثل هذا العنف )، لكن عن طريق التطبيع الهادئ الذي يؤدي إلى التطويع ( فالتنطيع ) فالخيانة وبيع الأوطان؛ ببلاش وعليها بوسة.
فالنتاين بين ضرب العقيدة وإذكاء الشهوة
إن زرع عيد ( الريس فالنتين ) في بلادنا ليس مجرد طقس فولكلوري أوروبي، ولا عادة بريئة؛ لأنه يتسلل إلى الكروموسومات والجينات؛ ليضرب على وترين، وتر إفساد العقيدة، ووتر إذكاء نيران الشهوة، وهذا في غاية الخطورة والعنف.
فأما وتر العقيدة فلأن طيب الذكر فالنتين بك يحمل رسميًّا لقب Saint أي قديس، الذي يشبه في الإسلام - إلى حدٍّ ما - لقب الولي الصالح ذي الكرامات والبركات، وما يحمله ذلك من إيحاءات وظلال عقيدية.
وسيرة فالنتين في خدمة النصرانية مدونة في المصادر التي تؤرخ للمقاومة النصرانية للجبروت الوثني الروماني - سواء كان هو القديس فالنتين الطلياني، أو سميّه فالنتين الروماني - وكل منهما كان يخدم عقيدته، ويحمي أبناء ملّته، ودفع -مقابل ذلك - رقبته على يد إمبراطور سفاح، سواءً كان دقلديانوس أو كلوديوس.
وشرٌّ من هذا التفسير، التفسير الآخر الذي يرى أن يوم 14 فبراير هو عيد جونو Juno كبير آلهة وإلهات الرومان، والتي اعتبروها - أيضًا - إلهة للنساء والزواج، ومن اسمها اشتق اسم شهير يونية June .
وأما وتر الشهوة الذي يعزفون عليه، فإنه منبثق من سيرة السينت فالنتين في عمله مندوبًا "لكيوبيد"، وسفيرًا للعشاق، ورمزًا للجمع بينهم، وصار من التقليد الأوروبي العلماني في عيد سي فالنتين، الدعوة لتقارب القلوب - كل قلوب الرجال وكل قلوب النساء، حتى بين طلاب المدارس، والمراهقين، والرومانسيين والأبيقوزيين الإباحيين !!
والسوق يشهد بذلك، فهو متخم ببطاقات عيد الحب، المليئة بالعبارات الملتهبة، وكذا بالكيكات التي على شكل قلوب، أو شفاه مذمومة تتهيأ للتقبيل، ومحلات الورود نشيطة، والمطبوعات المحتوية على النوتات الموسيقية، وكتب الرسائل الغرامية، وأشعار الغزل، ليبدأ التسرب لهذا المواد من يد جون وجورج وكريس، إلى يد حصة ونور وعلي، وليبدأ العدوان على الجينات، بل الكروموسومات في جسد الطائر..
ويتوالى مسلسل الاحتفاء بأعياد الميلاد، وأعياد الكريسماس، وبابا نويل، وبيع الصلبان في محلات الصاغة المسلمين الموحّدين، ثم التركيز على غسل المخ بمساحيق التبييض الفعالة من إنتاجB.B.C ، و M.B.C، وأوربت و A.R.T، ومن تمويل روبرت مردوخ، وتيد تيرنر، وبرلسكوني، ومندوبيهم، لتبييض وجه الرجل الأبيض ذي التاريخ الهباب، وتلطيخ وجه الإسلام، وتحويله إلى قرون من الزفت والسخام، ثم ذمّ وتقبيح عيد الفطر والأضحى، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إقناع الدنيا كلها بأن الإسلام دين إرهاب، في حين أن النصرانية الأصولية والصهيونية الدموية متسامحان بريئان نقيان، وأنهما دين فرح ومرح، وحب وفالنتين، وهابي كريسماس، وفيهما النَّجاة والتحضر والخلاص، ورضى الله تعالى والجِنّةَ والناس.
الغريب أن من الغربان الآلية المبرمجة - رغم أصولية الغرابية - من يضطلع بدوري التبشير والتنصير في وقت واحد :
التبشير بالخلاص للبشرية والحضارة - على يد مهندسي الهندسة الوراثية الأصولية - بنقلنا إلى آفاق العولمة ( أعني الأمركة، والأوربة، والصهينة )، والتنفير من الجينات الأصلية التي أمدت آباءنا بالحياة والحيوية والفاعلية الحضارية..
لا أريد التباكي على الحال، فالأخطر المستقبل والمآل، وأؤكد أن القضية ليست قضية الوجبات السريعة ( بأسمائها الكثيرة )، ولا الثياب الأوروبية، والتسريحات الشاذة التي تنتشر في صمت وسلاسة، ولا تصاميم المنازل، ونوعيات الأثاث، وقوائم الأطعمة والحلويات، ولا حتى مولد سيدي فالنتين، ولا سيدي باتريك، ولا عيد الشكر، بل القضية الخطرة والمفزعة، والتي ينبغي أن تشغل كل داعية وكل مثقف وكل غيور وكل وطني وكل مسؤول، هي سرقة هويتنا وتاريخنا وعوائدنا، وتحويلنا إلى كائنات غير طبيعية، عديمة الأصل، مقطوعة الجذور، ذائبة الملامح.
مع العلم أننا سنبقى - شئنا أم أبينا - في نظر الخواجات - والواقع خير شاهد - سنبقى ملونين أو زنوجًا، متخلفين فقراء، وكائنات من الدرجة الثالثة، لم نكسب إلا انسلاخ، والتنكر للدين والتاريخ والأجداد، مقابل أن نلبس الجينز وأن نذوق الشوكولاته، ونجلس ببلاهة أمام القنوات التي تجعل عقولنا أكثر بياضًا من عقل الرضيع.
وإن المسلمين الأوائل - رضي الله عنهم - كانوا أكبر من الانبهار والانبطاح أمام الحضارة المادية للفرس والروم، بل كان ما في قلوبهم أثمن من طنافس القائد رستم، وزرابيّه المبثوثة، وسيوفه المحلاة بالجوهر، وخدمه، وحشمه، ووزرائه، ومحاولته التأثير على ربعي بن عامر رضي الله عنه، الذي كلمه بمنتهى العزة والاستعلاء والثقة بالله تعالى وبالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه - فكانت النتائج أن نصرهم الله الكريم باستعلائهم، في حين صرنا نحن : من أضعف الأمم، وأفقر الأمم، وأجهل الأمم، وأذلّ الأمم !!!
فهل من مدكر ؟!
==============
وقفات في وداع العام الهجري(3/43)
الحمد لله خلق كل شيء فقدره تقديراً، وتبارك الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وألتجئ إليه في يوم كان شره مستطيراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه بين يدي الساعة مبشراً ونذيراً، وداعيًّا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً... وبعد:
فليس للتقوى زمن محدود ولا موسم مخصوص معدود، وإنما هي حق الله الدائم على العبيد، يعمرون بها أوقاتهم، ويستعملون فيها أبدانهم، ويقضون فيها أعمارهم. والمغبون من لم يعرف ربه إلا في أيام معلومة، أو ساعات معدودة، ثم يعود بعد ذلك إلى الغي والغفلة، وينتكس في المعاصي والشهوة، ويرتكس في الآثام والعصيان، نعوذ بالله من الخذلان.
اعلموا أن كل آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ. ومن كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر، فإن الليل والنهار مطيتان تقربان كل بعيد وتبليان كل جديد، وتأتيان بكل موعود. والله تعالى جعل الليالي والأيام والشهور والأعوام مواقيت للأعمال، ومقادير للآجال، فهي تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً، والذي أوجدها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول.
من ظن أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما بلا حكمة فقد افترى على الرحمن وكذّب القرآن (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) [الأنبياء:16]. ومن اعتقد أن الإنسان خلق لغير مهمة فقد جاء بزور وبهتان (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) [القيامة:36]، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].
وقفات عند الوداع
ونحن نودع عاماً هجريًّا مضى من أعمارنا، ونستقبل عاماً جديداً، يلزم الإنسان منا أن يقف وقفة تساؤل، وتأمل وتدبر، تعقبها وقفة طويلة يحاسب فيها الإنسان نفسه عما اقترفه خلال عام كامل من عمره، عام مضى وانقضى، لا ندري ما الله صانع فيه، ثم وقفة استعداد لانطلاقه إلى الله من خلال عام نستقبله لا ندري ما الله قاض فيه.
1 ـ وقفة تأمل وتدبر:
إن أول ما يجب أن يلفت انتباهنا السرعة العجيبة التي مرت بها هذه السنة، فبالأمس القريب كنا نستقبل هذا العام، وهانحن وبهذه السرعة نودعه، وفي هذا ما يدل أولي الألباب على سرعة انقضاء الأعمار، وسرعة فناء هذه الدار، كما قال العزيز القهار: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) [آل عمران:190].
ما بين الولادة والكهولة، والشباب والشيخوخة، والهرم ثم الموت، ينتهي شريط الحياة في عجالة، ويطوى سجل الإنسان وكأنها غمضة عين، أو ومضة برق، فياعجبا لهذه الحياة كيف خدع بها الناس، وغرهم طول الأمل فيها، وهي كما قال الله فيها: (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ) [الحديد:20]، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) [الكهف:45]. (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [يونس:24].
هذه هي الدنيا التي يستغرق فيها كثير من الناس ويضيعون من أجلها الآخرة لينالوا بعض متاعها ويتمتعوا ببعض ملذاتها وشهواتها، هي والله سراب خادع، وبريق لامع، ولكنها سيف قاطع، وصارم ساطع، كم أذاقت بوساً، وجرعت غصصاً، كم أحزنت فرحاً، وأبكت مرحاً، كم هرم فيها من صغير، وذل فيها من أمير، وارتفع فيها من حقير، وافتقر فيها من غني، واغتنى فيها من فقير، ومات فيها من صغير وكبير، وعظيم وحقير، وأمير ووزير، وغني وفقير.
فاعلموا رحمكم الله أن الدنيا أيام محدودة، وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، هي والله قصيرة، وإن طالت في عين المخدوعين بزخرفها، وحقيرة وإن جلت في قلوب المفتونين بشهواتها. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) [فاطر:5]، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".
وهذا الحديث العظيم أصل في قصر الأمل في هذه الحياة، وكأن الإنسان فيها على جناح سفر فهو يتأهب للرحيل.
روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها".
قال عيسى عليه السلام لأصحابه: "الدنيا قنطرة، اعبروها ولا تعمروها". وقال: "من ذا الذي يبني على موج البحر داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً".(3/44)
قال علي رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
وقال الإمام النووي:
إن لله عباداً فطناً .. .. .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا.. .. .. أنها ليست لحيٍ وطنا
جعلوها لجة واتخذوا .. .. .. صالح الأعمال فيها سفنا
وقيل لنوح عليه السلام: "يا أطول الناس عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر".
هذا وهو الذي عاش نحواً من ألف عام، فكيف بصاحب الستين أو السبعين؟
خطب عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد .. فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذّاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك مقرها. ووالله لتملأن.
خطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: "أيها الناس، إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فكم من عامر عما قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يظعن".
إنا لنفرح بالأيام نقطعها.. .. ..وكل يوم مضى يدني من الأجل
النفس تكلف بالدنيا وقد علمت.. .. ..أن السلامة فيها ترك ما فيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلف.. .. ..ولا الفرار من الأحداث ينجيها
وكل نفس لها دور يصبحها.. .. ..من المنية يوماً أو يمسيها
2 ـ وقفة محاسبة:
والأصل فيها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]. وقوله: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49]. وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة:6]. وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:6 - 8]. وقوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه) [آل عمران:30]. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة:235]. وقوله: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
فبهذه الآيات وأشباهها استدل أرباب البصائر على أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، فتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في أنفاسها وحركاتها ومحاسبتها من خطراتها ولحظاتها.
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن ترك لنفسه هواها، وسعى لها في تحقيق مناها وتركها من غير مؤاخذة ولا محاسبة، دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. فمن أراد أن يخف حسابه غدا بين يدي ربه فليحاسب نفسه الآن. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" رواه الترمذي وحسنه.
وقال عمر: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا.
يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟".
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
إن المؤمن ليفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ماذا أردت بهذا ؟ والله لا أعذر بهذا، والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله.
فهلموا بنا ونحن في نهاية سنتنا نتساءل عن عامنا كيف قضيناه، وعن وقتنا فيه كيف أمضيناه، وعن مالنا من أين اكتسبناه وفيما أنفقناه، وننظر في كتاب أعمالنا لنرى ما فيه سطرناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كانت الأخرى تبنا إليه واستغفرناه.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن من أكثر محاسبة نفسه ملك زمامها وخف حسابه عند الله، ومن ترك نفسه على هواها فوجئ بغدراته وخطيئاته، وكثره هناته وزلاته، فحبسه هول ما يرى من سوء الأفعال أن يجد لله جوابا عند السؤال، فثقل حسابه، وساء مآله ومآبه، فاللهم إنا نسألك حساباً يسيراً.
3- توبة واستغفار.(3/45)
اعلموا أيها الأحبة أن من ثوابت هذا الدين أن الأعمال بالخواتيم كما ثبت في أحاديث المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم: "وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"
ومن أصول الشرع استحباب الاستغفار وكثرة ذكر العزيز الغفار في أعقاب الطاعات والقربات. قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:198]
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [البقرة:200]. (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) [النساء:103]. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) [البقرة:185]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عقب الصلاة: "أستغفر الله (ثلاثاً) اللهم أنت السلام..."
إذا ثبت هذا فعلى المسلم في ختام سنته أن يتوب إليه سبحانه عما بدر منه فيما سبق، وأن يكثر من ذكره فيما بقى، فإن من تاب وأصلح فيما بقى غفر الله له بمنه وفضله ما مضى وما بقى، ومن أساء فيما بقى أخذه الله بما مضى وما بقى.
احذروا أعداءكم
إننا نأمل ونحن نودع هذا العام أن تعمل الأمة على توديع أوضاعها المأسوية، ومعالجة جراحاتها المتعددة في جسدها المثخن بالجراحات والآلام.
إن الواجب على أبناء الأمة وقادتها أن يكون لديهم الوعي الكامل والإدراك الشامل بمخاطر أعدائها ومخططاتهم، فكم تغلي قلوب هؤلاء الأعداء على المسلمين حقداً، وكم يعضون الأنامل علينا غيظاً، يريدون قطع دابر الدين كي تخور القوى ويُتبع الهوى وتعم البلوى (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) [النساء:89].
يريدون ألا يعز إسلام، ولا يقوى يقين، ولا يكون تمكين، إنهم يصرون على تمزيق أهل الإسلام حتى يصبحوا وبلدانه قطعاناً في بقاع الأرض، لا مرعى يجود ولا راع يزود، ولا دولة تؤوي، شراذم يعاملونهم معاملة الأرقاء، فلا ينالون حقوقهم إلا بطريق التوسل والاستجداء، وقد علموا أن المستجدي يسأل ولا يفاوض، ويقبل ولا يعارض.
إن على المسلمين قادة ومقودين، ورؤساء ومرؤوسين، أن يعلموا أن معركتهم مع عدوهم هي معركة دين وعقيدة، ومعركة قيم وأخلاق ومبادئ، مهما حاول الكفار أن يخفوا حقدهم ويظهروا لنا ودهم وحبهم. ولنقرأ التاريخ فإن فيه عبرة لكل معتبر .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : "إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين" .
==============
دروس مستفادة من فريضة الحج
مرت أيام الحج، وانقضت أعماله، وعاد معظم الحجيج إلى بلادهم، حاملين معهم ذكريات رحلتهم إلى بيت الله.. ولكن إذا كان الحج قد انقضت أعماله فإن منافعه ومقاصده لم ولن تنتهي أبدا..
لقد قال بعض المنصرين قديما: " سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التبشير ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة، ومؤتمر الحج". فإذا كان هذا فهم أعداء الإسلام لمعاني الحج وما يمكن أن يكون له من أثر في أمة الإسلام، فماذا يعني الحج بالنسبة لك كمسلم؟ وما هي المنفعة التي تعود عليك في دينك في ذكرى الحج؟ وماذا تستفيد الأمة من درس الحج؟ هل الحج مجرد مناسك تؤدي، وشعائر تقام وأدعية وأوراد وأذكار أم أن الحج أكبر من ذلك؟
إن الله تعالت عظمته وجلت حكمته ما شرع شريعة من الشرائع، ولا افترض فريضة من الفرائض إلا ومن ورائها من الحكم والمنافع ما لا يحيط بعلمه إلا هو سبحانه، جهل ذلك من جهله وعلمه من علمه، وأمة الإسلام في أيام محنتها وشدتها، وضعفها وتيهها تحتاج، بل هي في أشد الحاجة، أن تتأمل وتتعلم وتقف وقفات مع مقاصد شعائر الإسلام ـ ومنها الحج ـ لتستلهم العبر، وتجدد العزم، وتصحح التوجه والنية للتمسك بهذا الدين، والجهاد من أجل نصرته، ومحاربة من يصد عن سبيله ويقف في وجهه.
إن الحج فريضة عظمت في مناسكها، وجلت في مظاهرها، وسمت في ثمارها. عظيمة المنافع جمة الآثار، تضمنت من المنافع والمصالح ما لا يحصيه المحصون، ولا يقدر على عده العادون، بل لقد انتظم الحج من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمها وأزكاها، وقد نوه الله بهذه المنافع والمقاصد بميسور الكلام حين قال: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج 27 :28). قال ابن عباس: "منافع الدنيا والآخرة".
إعلاء منار التوحيد:
وأول هذه المقاصد وأعلاها وأزكاها: إعلاء منار التوحيد، وإحياء ما درس من معالمه؛ وهذا أظهر المقاصد وأوضحها في رحلة الحج، بل هو ملازم لها من مبتداها بإخلاص النية وإطلاق الصوت بالتلبية، وإلى منتهاها مع آخر رمية حجر وجمرة في آخر أيام التشريق، وهي آخر أعمال الحج قبل أن يطوف الحاج طواف الوداع مودعا مكة إلى أهله.(3/46)
لقد كان أهل الجاهلية يلبون، كانت قريش تلبي وتشرك بالله في تلبيتها: "... لبيك لا شريك لك.. إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك". فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فعلَّم أمته التوحيد الخالص من خلال هذه التلبية العظيمة الجميلة: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك". أي طاعة لك بعد طاعة، وإنابة بعد إنابة .. توحيد لا شرك فيه، وإخلاص لا رياء معه؛ فكل عمل لا إخلاص فيه لا بركة فيه، ولا قبول له: "من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك وأنا منه بريء".
فأول درس من دروس الحج ينبغي أن يتعلمه الحاج وأن تعيه الأمة هو درس التوحيد والعودة إلى الله مرة أخرى في زمان تعددت فيه الآلهة وكثرت فيه المعبودات والمقصودات، ودرس فيه الإيمان في قلوب أهله، كما يدرس وشي الثوب، وترك الناس عبادة الله إلى عبادة غيره.. ما بين دعاء للأموات، واعتقاد في الأولياء أو الأدعياء، وعكوف على القبور، وتقديم للهدايا والنذور، وطلب الولد لمن لا تلد، والزواج لمن طال مكثها في بيت أبيها، أو شفاء مريض وإعادة غائب.
وما بين عابد لغير الله يبتغي منه النصر والعون والمدد، ويجعله ملاذه وأمنه، ويعتقد فيه من القوة ما لا يعتقده في ذات الله تعالى. وإذا مسهم ضر توجهت قلوبهم إلى معبوداتهم من دون الله على خلاف ما كان عليه أهل الشرك في شركهم: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ)[الزمر:8] (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ)[لقمان:32].
وأما أهل هذا الزمان فإذا مسهم ضر توجهوا إلى آلهة الأرض يتوكلون عليها ويستغيثون بها، ويتضرعون إليها، ويستنصرون بها، ويقدمون لها القرابين ولو كان القربان هو ذبح التوحيد والإيمان.
ناهيك عن عبادة الأهواء والأموال والزوجات والأولاد... فيأتي الحج ليغير على ذلك كله فيهدم عرش الشرك، ويقيم على أنقاضه صرح التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فأنت الإله الحق، والمعبود بصدق، لا رب غيرك، ولا إله سواك، لبيك حقًّا حقّا.. لبيك تعبُّدًا ورِقَّا.
تجريد المتابعة
ومن دروس الحج أن تعلم الأمة وتتذكر وتستشعر، بل تستيقن أنه لا رفعة ولا سداد ولا توفيق ولا رشاد إلا باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، والسلوك والأخلاق، وفي الحكم والتحاكم.
والحج درس في ذلك، وتدريب عملي سيفعله الحاج وتراه بقية الأمة.. مناسك معلومة وترتيب عجيب يفعله كل الحجاج في نفس الوقت والمكان، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقول عند كل منسك من مناسك الحج: "خذوا عني مناسككم". ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حجوا كما حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تقولوا هذا سنة وهذا فرض".
وليس هذا في الحج فحسب، بل في كل مناحي حياة المسلم، لا بد من طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع هديه، وإلاَّ فالهاوية والهلاك في الدنيا والآخرة. قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)[النساء:65]، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". وقال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63]،.
الاستسلام والإذعان لأمر الله
إن من أَسَرته مدنيته، وتسلطت عليه آلهة العوائد، وملكته المألوفات والشهوات، فإنه لا حريةَ له ولا انعتاق لديه، لاسيما مَن كان يَزِن كل شيء بعقله، ولا يَنشط لعمل، بل لا يمتثل لأمر إلا بعد حساب مادي دقيق، شأن عُبَّاد العقل و المادة، لكن الحج بوصفه الغامض المُغاير للمألوف، تحَدٍّ لأسارى النُّظم، وأرِقاء الترتيبات، ودعوةٌ للاستسلام المجرد والإيمان بالغيب، والخضوع المطلق لمراد المحبوب عز وجل، بدون طلب برهان، أو استناد إلى منطق أو دليل عقلي … وهذا الخضوع المطلق للأمر، والاستسلام الكلي لمقتضاه بتجرد عن بيان الحكمة… هو كمال رِقِّ الإنسان ومنتهى عبوديته للإله الأعظم سبحانه.(3/47)
إن الله تعالى قد وظف على الحجيج ـ كما يقول الإمام الغزالي ــ" أعمالا لا تأنسُ بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمالُ الرق و العبودية، فإن الزكاةَ إرفاق، ووجهه مفهوم، وللعقل إليه ميل، والصومَ كسرٌ للشهوة التي هي آلة عدو الله، وتفرغ للعبادة بالكفِّ عن الشواغل، والركوعَ والسجودَ في الصلاة تواضعٌ لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع… أما ترددات السعي ورمي الجمار، وأمثال هذه الأعمال فلا حظَّ للنفس فيها ولا أُنس للطبع فيها ولا اهتداءَ للعقل إلى معانيها؛ لأن كلَّ ما أدرك العقل معناه، مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص: "لبيك بحجة حقا، تعبدا ورِقَّا" ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها … وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالُهم على سَنَن الانقياد، وعلى مقتضى الاستعباد، كان ما لا يُهتدى إلى معانيه أبلغَ أنواع التعبدات في تزكية النفوس، وصرفها عن مقتضى الطباع و الأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق."
درس في وحدة الأمة
ومن أعظم فوائد الحج أنه يؤكد وحدة الأمة الإسلامية التي قررها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، كما في قوله - تعالى - : {إن هذه أمتكم أمة واحدة}، فنجد فيه جميع المسلمين متحدين في أداء مناسك واحدة متفقة لا خلاف ولا تفرق فيها، فالجميع يطوفون ببيت واحد، ويسعون في مكان واحد، ويقفون جميعاً في صعيد واحد، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ويتلون كتاباً واحداً، ويعبدون رباً واحداً لا إله غيره، ويقتدون بنبي واحد، وكل ذلك مما يقوي الأخوة الإسلامية، والرابطة الدينية بين جميع المسلمين.. ألوان شتى، وأشكال متعددة وبلاد مختلفة، رفعت وحدة الدين اختلافها وجمعت قوة العقيدة بين قلوبها، وأعمال الحج بين أبدانها وأجسامها وأفعالها، فرفضت بالفعل فواصل القوميات والعرقيات والحزبيات، وبقي الشاهد أن هذه الأمة لا يوحدها إلا حداء العقيدة ونداء الإيمان كما قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، وقال: {إنما المؤمنون إخوة}، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وهذا المعنى السامي لو استشعره المسلمون وعملوا به، وطبقوه لقلّت واضمحلت أوجه الخلاف، وأسباب الفرقة بينهم، ولكانوا كالجسد الواحد، امتثالاً لأمر الله - تعالى - : {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.
الاعتدال والتوسط في كل الأمور
ومجانبة الغلو والإفراط والتفريط. روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: ألقط لي حصى". فلقطت له حصى من حصى الخذف، فجعل ينفضهم في كفه ويقول: "بأمثال هؤلاء فارموا". ثم قال: أيها الناس! إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". وما أحوج الأمة للاعتدال والتوسط دون إفراط أو تفريط، ودون غلو أو جفاء بل وسطية كما قال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة: من الآية143).
وحدة التاريخ والغاية
فحين يعيش المسلم الحج سيرة وذكرى، أو مباشرة وفعلاً يسطر اسمه ويقيد نفسه كواحد من ذلك الركب العظيم الذي استجاب لدعوة المرسلين وأطاع رب العالمين؛ ذلك الركب الذي طالما قاد خطاه الأنبياء والمرسلون من لدن إبراهيم ومن قبله ومن بعده، نوح وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.
فيعلم المسلم أنه ليس وحده في هذا الطريق، بل سبقه فيه أنبياء ومرسلون، وأئمة مهتدون، وأتباع مؤمنون، عاشوا نفس الأزمات، وعاينوا نفس المواقف والعقبات، ولكنهم ثبتوا لها وصبروا عليها، فكانت لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وعلت على الأعداء كلمتهم، وارتفعت بالتلبية بالحج أصواتهم بعد أن عاش بعضهم زمنًا لا يستطيع أن يأتي البيت ولا أن يصلي فيه فضلاً عن أن يحج ويعتمر.
فإذا ذكرت ذلك اطمأن قلبك، وثبتت على الطريق قدمك، وما أحوجك إلى هذا الثبات في زمن الغربة وعلمت أن العاقبة لك كما كانت للمؤمنين ممن سبقك: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)[إبراهيم:13، 14].
وفي الحج من الحكم دون ذلك الشيء الكثير كتعلم التواضع ، وتذكر الآخرة ، وتجديد الإيمان برؤية أماكن العبادة ومواطن الدعوة .. وإنما هذا الذي ذكرناه قطرة من بحر، وغيض من فيض ومن تأمل تعلم، وصدق الله العظيم إذ يقول: "ليشهدوا منافع لهم".
=================
هاتفك السماوي معطل!
عفوا ليس لديك رصيد يكفي لإتمام المكالمة. شحن البطارية قد نفذ من فضلك أعد شحن البطارية. ربما كان الهاتف الذي طلبته مغلقا. هذا الرقم غير موجود بالخدمة تأكد من الرقم المطلوب. جميع الخطوط مشغولة الآن أعد المحاولة في وقت آخر. شبكة الهاتف النقال لا تعمل الآن لظروف طارئة. صاحب الهاتف الذي تطلبه نائم .. مشغول .. في الخلاء .... معوقات لا أول لها من أخر تعوق الإنسان عن الوصول إلى من يرغب في الوقت الذي يرغب .
الإحساس القاتل بالوحدة(3/48)
نحن دائما في حاجة إلى من نستأنس به نحادثه.. نبثه همومنا..أشواقنا.. أحلامنا.. نحادثه في الوقت الذي نريد.. فنجده في انتظارنا.. أو حتى نتصل به دون أن يرد علينا، مجرد رنات و نغمات وظهور اسم المتصل فقط لنقول له نحن معك.. وأنت معنا .
هل هناك سواه من رب رحيم؟
كل الاهتمام والتعظيم والتقديس إلى الهاتف النقال الذي نجرى وراءه... أحدث الأشكال ..أصغر الأحجام ...أحدث الإمكانيات ..مدعم باللغة العربية - كاميرا رقمية – إرسال الصور والنغمات- حاسب آلي نقال .
نجرى و نجري و نلهث من أجل أن نكون علي صلة دائمة بالبشر.. لو تعطل هاتفك المحمول لتوقف كل شيء، ولأحسست بالاختناق .. توقفت شبكة أعمالك.. أحسست بالوحدة بالاكتئاب.
معذرة يا سادة هل فكر أحدنا في إصلاح هاتفه السماوي الذي تعطل منذ سنين .... اتصل بالله ستجده في انتظارك... اذكره في أي ملأ سيذكرك في ملأ خير منه، لو أردت أن يكلمك ربك... فأقرأ القرآن.. وإن أردت أن تكلمه فاذكره.
العظيم الذي تهاتفه يملك شبكة تعمل بلا انقطاع، لا تتعطل، غير مكلفة البتة، دون اشتراك، تعمل في جميع أنحاء المعمورة، وفي أعماق البحار، بل وفي بطن الحوت "لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" .. هاتف سيدنا يونس ربه من بطن الحوت فنجاه .... وهاتف سيدنا محمد ربه بعد رحلة الطائف "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس.. أنت رب العالمين وأنت ربي.. إلى عدو يتجهمني أم إلى ضعيف ملكته أمري .. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي.. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك .. لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة إلا بك.... فأرسل له الله علي وجه السرعة سيدنا جبريل وملك الجبال..... استجابة فورية ليس لها مثيل.
إن العظيم الذي تهاتفه لن يغلق في وجهك الباب أبدا.. جرب وامتلك هاتفا سماويا لا يملكه أحد من البشر هاتفه طول اليوم فلن تدفع الكثير، بل سيدفع هو لك، وسيضيف إلى رصيد حسناتك، فهو كريم بحق، يجيب من ناداه ويكرمه ويسبغ عليه من فضله ونعمائه.
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186)
اللهم أصلح لنا هواتفنا السماوية المعطلة منذ سنين.. آمين.. آمين يا رب العالمين.
=================
الاحتفال بأعياد الكفار وحكم تهنئتهم بها
في مثل هذه الأيام من كل عام يحتفل النصارى بأعيادهم كأعياد الكريسماس والقيامة (قيامة المسيح بعد موته كما يزعمون)، وغيرها .. ويشاركهم في بعض هذه الاحتفالات بعض المسلمين جهلا بمدلول هذه المشاركة وخطورتها على دين أصحابها وأثرها عليهم .. ومن ثم تظهر على السطح مسألة حكم الشرع في مثل هذه المشاركات أو حتى عن حكم تهنئة هؤلاء المشركين بتلك الأعياد ولو من باب المجاملة أو الحياء أو الإحراج.. وهل هذا أمر جائز أم غير جائز؟
ونحن هنا ننقل للقارئ الكريم نص فتوى كانت قد أرسلت إلى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بخصوص هذا الأمر .. وقد لخص فيها أقوال السادة العلماء بما يشفي ويكفي.
نص السؤال:
ما حكم تهنئة الكفار بعيد الكريسماس؟ وكيف نرد عليهم إذا هنئونا بها؟ وهل يجوز الذهاب إلى أماكن الحفلات التي يقيمونها بهذه المناسبة؟ وهل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً مما ذكر بغير قصد؟وإنما فعله إما مجاملة أو حياء أو إحراجًا أو غير ذلك من الأسباب وهل يجوز التشبه بهم في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
تهنئة الكفار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق، كما نقل ذلك ابن القيم - رحمه الله - في كتابه ( أحكام أهل الذمة )، حيث قال: ( وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو: تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه . انتهى كلامه - رحمه الله - .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حرامًا وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم، لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضىً به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يحرم على المسلم ان يرضى بشعائر الكفر أو يهنئ بها غيره، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك، كما قال الله تعالى: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} ( الزمر: 7 ) وقال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ( سورة المائدة: 3 ) وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا .
وإذا هنئونا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك، لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى، لأنها إما مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة، لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الخلق، وقال فيه: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ( آل عمران: 85 ) .(3/49)
وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها.. وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى، أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم": " مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء ". انتهى كلامه - رحمه الله.
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم، سواء فعله مجاملة أو توددًا أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب ؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
============
أجهز عليه بطلقة
أجهز عليه بطلقة من نار --- لا تخش من نقد ولا استنكار
أجهز عليه كما تشاء، فإنما --- هو واحد من أمة المليار
هو واحد من أمة قد فرطت --- في دينها، فتجللت بالعار
مزق برشاش احتلالك جسمه --- وانظر إليه بمقلة استحقار
فجِّر بطلقتك الدنيئة رأسه -- واصعد إلى المحراب بـ(البسطار)
فَجِّرْ ولا تَخْشَ العقابَ فإنَّهُ --- من أُمَّةٍ نَسِيَتْ معاني الثَّارِ
هو ليس أول من ظفرت بقتله --- من أمة منزوعة الأظفار
لانت أصابعها فما شدت بها --- حبلاً ولا ربطت خيوط إزار
هو مسلم، دمه حرام، إنما --- حللته بطبائع الأشرار
آذيت بيت الله حين دخلته --- متباهياً بعقيدة الكفار
دنَّست بالقدم الرخيصة ساحةً --- ومشيت مِشيَة خادعٍ مكار
متبختراً تمشي على أشلائنا -- فوق المصاحف مشية استكبار
ما كان أول مسجد ذاق الأسى --- وبكى نهاية صرحه المنهار
لو أن عيسى شاهد الظلم الذي-- يجري، وما فيكم من الأوضار
لمشى برايات الجهاد لصدكم --- عن ظلمكم، ولنصرة المختار
عيسى نبي الله مثل محمدٍ --- يترفعان بنا عن (الاضرار)
لستم نصارى للمسيح، وإنما --- جنح الصليب بكم إلى الأوزار
همجية يا علج، لم ترعوا بها --- مقدار محراب وحرمة دار
شلَّت يسارك، فهي يمناك التي--- ضربت، وهل للوغد غير يسار؟!
هذا قتيلك بين نصر عاجل --- وشهادة، لاقى أعز خيار
أطفأت شمعة روحه برصاصة --- حتى دنا من ربه الغفار
أكسبته أمل الشهادة، وانتهى--- بك ما اقترفت إلى طريق بوار
فذللت حياً، حين عز بموته --- وبقيت مسكوناً بداء سعار
يا علج لولا أن أمتنا رمت --- بزمام مركبها إلى الشطار
خضعت لقومك واستبد بها الهوى --- ومشت بلا وعي إلى الجزار
لولا تنكبها طريق رشادها --- حتى هوت في ذلة وصغار
والله، لولا ضعف أمتنا لما --- فرحت يداك بلمسة لجدار
ولما وطئت برجل غدرك مسجداً --- وقطعت فيه عبادة الأخيار
ولما شربت الكأس فيه مدنساً --- بالموبقات براءة الأسحار
أنا لا ألومك، فالملامة كلها --- لمخادع من أمتي ومماري
كل الملامة للذين تشاغلوا --- عن مجدهم، بالناي والقيثار
كل الملامة للذين تنافسوا في --- عشق غانية وشرب عقار
باعوا الكرامة والإباء بشهوة --- قتلت رجولتهم، ولعب قمار
يتشاتمون على فضائياتهم --- متجاهلين فظائع الأخبار
فلُّوجة العزمات تلقى وحدها --- صلف الغزاة وقسوة الأخطار
وغثاء أمتنا على باب الهوى --- يسري بهم نحو المذلة ساري
يا جند آكلة اللحوم، إلى متى --- تبقون في دوامة الإعصار
سرتم على آثار (كِيْمَاوِيِّكم) --- يا شر من ساروا وشر مسار
ما هذه صفة الشجاعة، إنما --- هي من صفات الخائن الغدار
أين الحضارة؟ أصبحت أكذوبة --- لمَّا بدت مكشوفة الأسرار
لا تفرحوا بالنصر، فهو هزيمة --- ألقت بكم في حفرة الأقذار
أنى ينال النصر من لا يرعوي --- عن هتك أعراضٍ وقتل صغار؟
فلوجة العزمات، أخت حلبجة --- لا تيأسي من نُصرة القهار
أثر الجريمة سوف يبقى شاهداً --- عدلاً يهز ضمائر الأحرار
سيجيء نصرك حين ترفع أمتي--- علم الجهاد وراية الأنصار
===============
الكنز المفقود
أكثر من سبعين عامًا عاشها المسلمون في روسيا وآسيا الوسطى تحت أسوار القفص الحديدي الشيوعي.. أكثر من سبعين عامًا من القهر والاستبداد والتسلط.. أكثر من سبعين عامًا صبَّ فيها الشيوعيون كل ألوان الطغيان والقتل.. أكثر من سبعين عامًا مُحي فيها التاريخ بالقوة، ومُسخت الهوية، وأصبح مجرَّد الانتساب إلى الإسلام جريمة عظيمة ليس لها عقوبة إلا الإعدام.
وفجأة يتحطم ذلك القفص، وتتمزق أجزاء تلك الإمبراطورية الحمراء، وتنطلق كل الأعراق والأجناس في البحث عن هويتهم المنتزعة، وتاريخهم المفقود، حتى الروس أنفسهم عادوا إلى الاعتزاز بالقيصرية الروسية، وراحوا يُشيِّدون الكنائس الأرثوذكسية، ويُظهرون معالم الصليب.
وانطلق المسلمون – من حيث الجملة – مع من انطلق في تلك العودة، وعادت المآذن – بحمد الله – تعلو من جديد، وسمع الناس أصوات التكبير تعطِّر الأجواء.
عاد الناس بعاطفتهم المتشوقة إلى الإسلام، يحدوهم الحنين والتطلع إلى ماضٍ عريق عاشته أمة الإسلام في ديارهم.(3/50)
ذهب أحد الدعاة إلى ريف من أرياف المسلمين هناك، وأعطى نسخة من القرآن الكريم لعجوز مسلمة ربما جاوزت الستين عامًا، ففتحت عينيها مستغربة، تملؤها الدهشة، ثم جالت في نفسها ألوان من الأفكار والمشاعر، وفجأة أجهشت بالبكاء، وأخذت تقبِّل المصحف وتقلِّبه على وجهها، ثم راحت تجري تنادي أبناءها، وتتحدث معهم بلهفة، وكأنها تعرِّفهم بكنز مفقود طالما انتظروا الحصول عليه، ثم التفتت إلى الداعية وقالت له: لقد كان أبي يحدثنا أن جدَّه كان يملك نسخة من القرآن الكريم يتلو فيها على أبنائه!!
وبعد أحاديث عابرة أراد صاحبنا أن ينصرف مع رفاقه، فأبت عليهم، وألحَّت عليهم إلحاحًا شديدًا إلا دخلوا بيتها، فقبلوا دعوتها تطييبًا لخاطرها، ثم قالت على استحياء: هل يتيسّر لكم أن تعلِّموا أبنائي سورة الفاتحة، أما أنا فقد ذهب عمري؟! ولما أرادوا الانصراف قالت لهم: ليس عندي ما أجازيكم به، ولكن أرجو أن تقبلوا هذا – وأخرجت عملة روسية (الروبل) – عرفانًا بجميلكم ووفاءً بحقكم!!
إنها عاطفة بدأت تدبُّ فيها الحياة من جديد، لكنها في أغلب الأحوال عاطفة غير موجهة التوجيه الصحيح، وغير مستثمرة الاستثمار الأمثل؛ فالجهل يضرب بأطنابه في عقول الناس، ولهذا أصبح الانتماء إلى الإسلام عند كثير من الناس جزءًا من الانتماء العرقي والتاريخي، وأدى ذلك إلى انسياق عامتهم وراء حملات التغريب والعلمنة التي قادتها أمريكا وأوروبا التي افتتن فيها الناس جميعًا بمختلف أديانهم وأعراقهم، بعد أن تخلصوا من جحيم الكبت والذلة. لقد حرص الغرب على تصدير الحضارة الأخلاقية والاجتماعية الغربية إلى روسيا والجمهوريات المختلفة، وعدَّها سوقًا استهلاكية يسهل غزوها والتأثير عليها.
بل إن حملات التنصير الكاثوليكية والبروتستانتية لما وجدت الصدود والاستنكار من الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا الاتحادية وغيرها، وجَّهت حملاتها التنصيرية إلى مناطق المسلمين وبخاصة كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان، ووجدت فيها أرضًا خصبة يسهل غزوها والتأثير عليها.
إن المسلمين في روسيا الاتحادية وآسيا الوسطى يمثلون عمقًا استراتيجيًا في غاية الأهمية، كما يمثلون ثقلاً بشريًا لا يمكن الاستهانة به على الإطلاق، ولكن مع الأسف الشديد كان الملتفت الأكبر لهم من المسلمين: تركيا العلمانية، وإيران...!! فهل ندرك أهمية تلك المناطق.. أو نطويها كما طويت مناطق أخرى من مناطق المسلمين؟!
وهل نسعى بجد إلى إعادة الهوية الضائعة إلى المسلمين؟! وهل نستغل تلك العاطفة المتقدة في نفوسهم، أو ننساهم كما نسينا غيرهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في البناء الدعوي: 186
============
ماذا بعد رمضان؟!
سلام من الرحمن كل أوان.. ... ..على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه.. ... ..أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة .. ... .. فما الحزن من قلبي عليك بفان
هاهو شهر رمضان قد مضى .. مضى بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، مضى وخلّف الناس بعده بين شقي وسعيد، وفائز وخاسر.
لقد فاز في رمضان من فاز بالرحمة والغفران، والعتق من النيران. وخسر من خسر بسبب الغفلة والبطلان، والذنوب والعصيان، فليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المطرود فنعزيه..
وإن امرءًا ينجو من النار بعد ما.. ... .. تزود من أعمالها لسعيد
الاستقامة
ونحن ما زلنا نعيش في آثار نفحات رمضان يجب علينا أن نقف لنتساءل ماذا بعد؟
ماذا بعد أن انقضى رمضان؟ وما هو حالنا بعد أيام قليلة من رمضان؟ ماذا بعد شهر الرحمة والغفران؟ وماذا بعد شهر التوبة والرضوان؟ ماذا بعد أن اكتحلت عيوننا بدموع المحبة والخوف والرجاء، وعزت جباهنا بالخضوع والذلة لرب الأرض والسماء؟ بعد أن عاينا القرب والإقبال وشاهدناه، القرب من الله لعباده، والقرب من العباد إلى الله، ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا.
بعد أن عايشنا كل ذلك، كان ولا بد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
والإجابة نزل بها الوحي منذ مئات السنين، وأجاب النبي الأمين - صَلى الله عليه وسلم - على السائلين الطالبين العلاج الناجع والدواء النافع، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
إذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان، فيلزمك أيها الموحد معها وتحت ظلها أن تستقيم وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه. الاستقامة.. إنها العلاج، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت:30].
قال أبو بكر: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً.
قال عمر بن الخطاب: "لم يروغوا روغان الثعالب".
فيا من رفعت كفيك في رمضان طالبًا الهداية، راغبًا الإنابة، زاعمًا الرجوع، مدعيا الإقبال، هل صدقت في زعمك، ووفيت مع الله بعد رمضان؟ أم أنك رغت روغان الثعلب فتعاملت مع الله بذمتين: ذمة رمضانية، وذمة غير رمضانية، ولقيت الله بوجهين، وقد قال النبي – صَلى الله عليه وسلم -: "شر الناس ذو الوجهين" فكان حالك قريبًا من حال المنافقين. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة:14، 15].
أسباب معينة
الاستقامة هي الحل وهي السبيل، وهذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب.(3/51)
أولا: الاستعانة بالله: أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرارية فليست الاستقامة شطارة منك ولا قدرة فيك، ولا فتوة في جنابك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة. أما الناظر إلى عمله المحسن الظن بنفسه الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي – صَلى الله عليه وسلم -: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا"[أبو داود (4426)]، "إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة"[أحمد (2678)].
ولذلك كان قول أهل الجنة عندما دخلوا الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف:43]. فهو اعتراف بأن هذا الثواب مقابل عمل، وهذا العمل إنما هو بتوفيق الله أولاً وآخرًا. (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)[الإنسان:30]، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[التكوير:29].
ثانيا: المجاهدة: أن تعلم أن الاستقامة لا تتحصل بالهجوع في المضاجع، ولا بالاستمتاع بكل ما لذَّ وطاب من الشهوات والملذات، ولا بأن تذوق للراحة طعمًا، وللنوم غمضًا، بل تتأتى بالمجاهدة والمثابرة والمصابرة، مجاهدة للنفس، والهوى، والشيطان، ومثابرة على فعل المأمورات والإكثار من الطاعات، ومصابرة عن الشهوات والمنهيات، حتى يأتي بأمر الله على تمامه. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].
قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة.
وقال الشافعي: لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله.
إن الله لا يَمُنُّ عليك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها.
ثالثا: رفقة أهلها: وهذا من أكبر العون عليها، ومن أعظم أسباب الثبات عليها، وقد قال جعفر بن محمد: "كنت إذا أصابتني فترة جئت فنظرت في وجه محمد بن واسع، فأعمل بها أسبوع ".. وإنما سهلت الطاعة في رمضان لكثرة الطائعين، ووجود القدوات ييسر الأعمال، وإنما الوحشة في التفرد والغفلة تركب الواحد وهي من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
4ـ المحافظة على الأوراد: وأعظمها الأوراد الموظفة في السنة كأذكار الصباح والمساء، والسنن الرواتب، وقيام الليل.. وينبغي على المسلم أن يجعل له وردًا خاصا من القرآن الكريم وصلوات النوافل وعددا من التسبيحات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يحافظ عليها ويجعلها من مهمات يومه التي لا يفرط فيها ولا يستغني عنها .
الاستقامة والذنوب:
ثم إن من الواجب أن يعلم أن هذه الاستقامة لا يعيبها أن تنكب ببعض الذنوب وأن يصاب صاحبها ببعض الفتور، فإن هذا لابد منه كما جاء في الحديث: "والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
فالذنب قدر يحتج به بعد التوبة منه، وأما الاستغفار فهو مطلب شرعي محبوب إلى الله تعالى.
روى مسلم عن أبي ذر عن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.. يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم".
فالاستقامة قد يصيبها ما يصيبها، فما دورك أنت إذا خرقت توبتك بذنب أو أصيبت بثلم؟ إن دورك هو المعاودة، وإعادة المحاولة. (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)[الزمر:54]. فلا تيأس من الله ولا تقنط من رحمته سبحانه، فإن القنوط باب من أبواب الكفر.
وأكبر ما يصيب الاستقامة الفتور والضعف والتقصير في بعض الأحيان، وهو أمر لازم دلَّ عليه ما رواه أحمد بسند حسن أن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – قال: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإن أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فاعتصموا بها على الفرائض".
فالفرائض والواجبات وترك المحرمات، حدود ينبغي أن يلزمها المستقيم حتى يكون مستقيمًا، وحتى في فترات الضعف وخور العزيمة لا يجوز له تجاوز هذه الحدود، فإذا فرط في بعض النوافل، بعض الأوقات، فلا يقدح ذلك في استقامته، ولكنه عليه بالمجاهدة حتى يعود إلى قوته، وينتقل من فترته إلى شدته.
ونسأل الله أن يعيينا على طاعته، ويديمنا على محبته، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
=================
لا تجعل الله أهون الناظرين إليك
كم يراقب الإنسان الآخرين، وينسى مراقبة رب العالمين، وكم يراقب العبدُ العبيد وينسى الإله المعبود، فيخجل البعض، ويكف الآخر، ويندم ثالث، ويعتذر رابع، ويبكي خامس....هذا كله عندما يعلم ويحس بأنه مراقب من قبل مخلوق مثله، فكيف إذا علم وتيقن بأن العليم الخبير سبحانه وتعالى مطلع عليه ويراه، ويسمعه، ويراقبه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(3/52)
أيليق بأحد بعد ذلك أن يتساهل في علم الله به، ونظره إليه، أيقبل أحد أن يراه مولاه حيث نهاه؟، أو يفقده حيث أمره.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
نعم أخي الحبيب....انتبه لنفسك ولا تجعل الله أهون الناظرين إليك، وهو سبحانه عالم السر والنجوى، ويعلم عنك ما لا تعلم عن نفسك، فقد قال تعالى:{أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }(البقرة:77)، وقال:{ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق:14)، وقال:{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } (الأحزاب:52)، وقال:{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }(غافر:19).
وكن كما علمك النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الإحسان ؟ فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) متفق عليه .
فالمراقبة عبادة عظيمة وهي: "دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه" . وهي ثمرة علم العبد بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل حين، وكل نفس وكل طرفة عين. والغافل عن هذا بمعزل عن الهداية والتوفيق. ومن راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه.
وقد قيل لبعضهم : متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة ؟ فقال : إذا علم أن عليه رقيبا . وقيل : المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة .
نعم لا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك، بل راقبه، وإذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ونفسك. ولا يغرنك اجتماعهم عليك. فإنهم يراقبون ظاهرك. والله يراقب ظاهرك وباطنك.
فالله عز وجل هو أعظم الناظرين إليك، العالمين بك، المطلعين عليك، العارفين بأسرارك، ولا مفر لك منه، فالأرض أرضه، والسماء سماؤه، والخلق خلقه، والناس عبيده، وهو الذي أحياك، وسوف يميتك، ثم يبعثك، ويوقفك بين يديه للسؤال.
فكن من المعظمين لله سبحانه وتعالى، ولأمره ونهيه، ولا تجعله أهون الناظرين إليك، والله المعين، والحمد لله رب العالمين.
==============
هذا جناك
هذا لَعَمْري ما جَنتْهُ يداكَا.. ... ..أضحى الأسى لا يبتغي إلاَّكَا
حين ارتويت من البُكا ورأيت ما.. ... ..يُذكي الحشا ويهدُ منك قواكا
حيران والعينان شاردة الرؤى.. ... ..والعبرة الحرّي تهزُّ حَشَاكا
هذا جناك جنى المعاصي ذقتهُ.. ... ..والغيُّ لو جافيتَهُ لَجَفاكَا
لكنك استعذبت كل جريرة.. ... ..جرّت إليك مع الهموم شقاكَا
وطفقت تسخر بالليالي آمنًا.. ... ..مكر اللياليَ لم ترَ الأشراكا
لِمَ لمْ تُصخ للناصحين هنيهة.. ... ..أتراك تجهل فضلهمْ أتُراكا
هم مشفقون عليك من طول السُرى.. ... ...ورجاؤهم أن تستنير رؤاكَا
قُم وانفض الأوهام واسخرْ بعدها.. ... ..بالهمِّ علَّ الهمَّ أن ينساكا
ودع الغواية جانبًا فلشدَ ما.. ... ..يدمي الحشاشة أن تُطيل خَطاكا
فعساك أن تحيى الحياة هنيئة.. ... ..بعد الذي أدمى حشاك عساكا
وترى جمال الكون بعد شحوبه.. ... ..وتقر بعد ضرامها عيناكا
عيناك تُنبئُ بالمحبة للهدى.. ... ..لكنك استأثرت طعم هواكا
عُدْ لم يزل بابُ الإنابة مُشرعًا.. ... ..يرجوك أن تحدو إليه خُطاكا
والمشفقون عليك طال رجاؤهم.. ... ..فعساك يومًا أن تُمدَّ يَدَاكا
============
حقيقة الانتصار
تُرى أي شيء يعنيه الانتصار بالنسبة لك؟ متى نقول إنك حققت نصرًا عظيما؟ إنه يعني تحقيق ما تتمناه أنت لا ما يتمناه لك غيرك ولو أبواك أو أقاربك. إنك تكون المنتصر عندما تحقق ما تتمنى أو تحلم به. لكن ما هو هذا الشيء الذي تحلم به وتتمناه؟ إنه قد يكون العيش في حياة كريمة وبإمكانيات معينة رفقة أسرتك وأفراد عائلتك، وقد يكون هذا الشيء الحصول على وظيفة معينة أو اقتناء سيارة من نوع معين، إنه قد يكون العيش في هذه الحياة الدنيا، حيث الفتن من هنا وهناك كقطع الليل المظلم، وأنت ملتزم بدينك، ولا شك أن الاستقامة على الدين هي أعظم مقصود وأفضل مرغوب.... المهم أن هذا الشيء ليس تافها بالنسبة لك، إنه منك ولك، وعليه مدار كل حركاتك وسكناتك، إنه يلازمك كظلك.
ويبقى السؤال المحوري هو كيف تحقق هذا الانتصار؟ كيف تحصل على هذا الشيء العظيم؟
طبعا لن يتحقق لك ذلك إلا بإنفاق وقتك كله بصورة مثمرة، لكن قد يصعب عليك أن تدرك الطريقة التي بها يتم ذلك. والواقع، كما أكدت ذلك معطيات وتجارب ذاتية خاصة، أن الطريقة التي تقضي بها يومك هي الطريقة نفسها التي تقضي بها بقية أيامك. وهنا يجب عليك لزاما أن تبحث لنفسك عن سبيل جديد لتغيير منهاج حياتك نحو تحقيق ما تصبو إليه، وأول ما ينبغي لك أن تقوم به هو التدوين بأمانة تامة لبرنامج عملك على مدى أسبوع واحد، وستجد أنك واحد من اثنين: إما من الذين يضيعون أوقاتهم من غير أن يعوا ذلك، أو أن تكون ذلك الإنسان الذي يعي حقيقة الوقت ويستفيد منه.(3/53)
فإن وجدت نفسك ممن يستفيد من الوقت فاحمد الله على توفيقه وبقي ترتيب المهمات، وإن وجدت نفسك ممن يضيع الوقت وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلست أنصحك أن تقسو على نفسك بداية، وتجنب أن تتخذ قرارات جذرية تمتنع معها من القيام بأعمال كنت تقوم بها كسهر لوقت متأخر من الليل، أو عمل كنت مواظبا عليه حتى صار جزءا من يومك؛ إذ إن ذلك من شأنه أن يشعرك بالذنب دون أن تتمكن من تطبيق قراراتك التي اتخذتها. والأنسب لك في هذه الحالة أن تنظم القيام بهذه الأعمال التي تعني لك ضياعا للوقت وأنت مترقب لها، حذر منها، والمهم ألا تندفع إليها وأنت تشعر أنك عاجز عن مقاومتها. حدد الوقت المناسب لمثل هذه الأعمال التي تقوم بها للتسلية، فأنت في حاجة إليها، لكن ينبغي أن تكون محددة في الوقت والمكان، اصرف جزءًا من هذا الوقت في العمل المحدد لبلوغ هدفك، ثم لا باس أن تنتقل إلى العمل التالي، وقد تجد صعوبة كبيرة في اعتياد ذلك، إنما لا بد من البدءِ بهذه الطريقة لتجد نفسك بعد مدة قصيرة قد ألفت ترك العوائد والمألوفات غير المرغوب فيها.
المراقبة والمحاسبة
لا بد من إعداد رسم بياني أو برنامج لما عليك القيام به كل يوم أو كل أسبوع أو شهر، مبينا عليه ما قمت به، وليكن هذا الرسم أو البيان قريبا منك ومعلقا على جدار غرفتك بحيث يسهل عليك أن ترى من خلاله مدى تقيدك بما حددته، ومدى تقصيرك في تنفيذ الهدف.
اعلم أنه لا بأس أن تجد نفسك مضطرًا أحيانا لإدخال بعض التعديلات، فذلك منطقي ما دام أن الإنسان لا يعلم الغيب ولا يمكنه أن يتوقع ما قد يحدث له في اليوم أو الغد فيؤثر على برنامجه، لكن احذر أن تقف مشدوها أمام تلك الأحداث والتعديلات.
إن تحديد الموعد لإنجاز عمل ما يعني استهداف التنفيذ في هذا الموعد بالضبط. على أنه ينبغي عليك عند تحديد موعد الإنجاز أن تأخذ طاقاتك وإمكاناتك وظروفك بعين الاعتبار، فلا تجعل هدفك قريبا حتى الاستهانة، ولا بعيدًا جدًّا حتى الاستحالة.. ومن ثم يوحي بضعف الثقة في النفس وانعدام العزم، وتأكد أنك تنبهت إلى جميع الصعوبات والعوائق المرتقبة في إطار الأهداف الأخرى في الفترة ذاتها.
إنك بهذه الطريقة في التخطيط والتنفيذ يكون لك جدول زمني للأعمال التي تنوي القيام بها، وإذا كان عملاً كبيرًا يتطلب وقتا طويلاً كحفظ أحزاب من القرآن الكريم أو حفظه كله، أو كإنجاز عمل روائي أو ديوان شعر أو غيرها مما يحتاج وقتا طويلا... قسم هذا العمل إلى أجزاء يمكنك إتمامها عبر مراحل، ثم بادر بعد ذلك إلى تنفيذ الخطوات الأخرى، واحدة تلو الأخرى، وقد يكون تحقيق هذا الهدف يتطلب خطوات مختلفة ليست كلها ذات أهمية واحدة، وهنا تأكد أنك تنفذ الخطوات بحسب أولوياتها وبحسب أهميتها مبتدءًا طبعا بأكثرها أهمية حتى أدناها، وهو ما يسمى بفقه الأولويات، ومن شأن مثل هذا التنظيم أن يدفعك إلى متابعة التنفيذ بدقة وإلى الحماس والاندفاع. إن كل خطوة تنقلك إلى الخطوة التي تليها.
وبوسعك إزاء ذلك أن تتأكد من حسن سيرك في التنفيذ، وهنا قد تجد أنك ربما سبقت المنهج الموضوع قليلا، أو أن عقبات حالت دون الوصول إلى المرحلة المسجلة على الجدول في الوقت المحدد، وعند ذاك بوسعك أن تدخل التعديلات المناسبة من إسراع في التنفيذ أو إبطاء، أو من تعديل المواعيد. إن منهاجك هذا الذي وضعته يجب أن يكون مرنا قابلا للتعديل بسبب انتقالك من عملك مثلا أو الخروج في رحلة أو عطلة أو عارض كمرض عافانا الله وإياك.
إن الأمر المهم في هذا التنظيم أو الأساس الذي يجب أن يستند إليه هو أنه عليك أن تعمل الآن، فلا تؤجل عمل اليوم إلى غد، والزم قول الشاعر البارودي:
بادر الفرصة واحذر فواتها .. ... .. فإنما نيل العز في الفرص
وقبل هذا وذاك الزم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما وصححه الألباني.
إنه بمثل هذا الأسلوب يمكنك أن تملأ فراغك، وتستفيد من يومك الذي يقول عند كل فجر: يابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة". إنه بمثل هذا الأسلوب تبعث الحياة في وقتك، وبالتالي ينبغي ألا يكون لك أي وقت مهما قصر تشعر فيه أنه ليس لديك ما تعمله، إنه بهذا الأسلوب في تنظيم الوقت تنشط وتتخلص من الملل الذي يشكو منه كثير من عباد الله، وتأكد أن من لا يحسن وقت الراحة لا يحسن قطعا وقت العمل.
ــــــــــــــــ
د. عبد الرحمن الخالدي
=================
يا رب أموت أنا .. ويعيش بابا
استقيظت مبكرة كعادتي.. بالرغم من أن اليوم هو يوم إجازتي، صغيرتي ريم كذلك، اعتادت على الاستيقاظ مبكرًا .. كنت أجلس في مكتبي مشغولة بكتبي وأوراقي..
ـ ماما ماذا تكتبين ؟
ـ اكتب رسالة إلى الله .
ـ هل تسمحين لي بقراءتها ماما؟؟
ـ لا حبيبتي, هذه رسائلي الخاصة ولا احب أن يقرأها أحد.
خرجت ريم من مكتبي وهي حزينة, لكنها اعتادت على ذلك .. فرفضي لها كان باستمرار..
مر على الموضوع عدة أسابيع، ذهبت إلى غرفة ريم.. ولأول مرة ترتبك ريم لدخولي... يا ترى لماذا هي مرتبكة؟
ـ ريم .. ماذا تكتبين ؟
ـ زاد ارتباكها .. وردت: لا شئ ماما، إنها أوراقي الخاصة..
ترى ما الذي تكتبه ابنة التاسعة وتخشى أن أراه؟!!
قطعت كلامها فجأة وقالت: ولكن هل يتحقق كل ما نكتبه يا أمي؟
ـ طبعا يا ابنتي فإن الله يعلم كل شئ..(3/54)
لم تسمح لي بقراءة ما كتبت، فخرجت من غرفتها واتجهت إلى زوجي المقعد "راشد" كي اقرأ له الجرائد كالعادة، كنت اقرأ الجريدة وذهني شارد مع صغيرتي، فلاحظ راشد شرودي .. ظن أنه هو سبب حزني .. فحاول إقناعي بأن أجلب له ممرضة .. كي تخفف عني هذا العبء..
يا إلهي لم أتخيل أن يفكر هكذا .. فحضنت رأسه وقبلت جبينه الذي طالما تعب وعرق من أجلي أنا وابنته ريم .. واليوم يحسبني سأحزن من أجل تعبي في خدمته.. أوضحت له سبب حزني وشرودي...
ذهبت ريم إلى المدرسة، وعندما عادت كان الطبيب في البيت فهرعت لترى والدها المقعد وجلست بقربه تواسيه بمداعباتها وهمساتها الحنون.
أوضح لي الطبيب سوء حالة راشد وانصرف.. تناسيت أن ريم ما تزال طفلة، وصارحتها أن الطبيب أكد لي أن قلب والدها الكبير الذي يحمل لها كل هذا الحب بدأ يضعف كثيرًا وأنه لن يعيش لأكثر من ثلاثة أسابيع حسب ما يقول الطبيب.
انهارت ريم، وظلت تبكي وتردد: لماذا يحصل كل هذا لبابا ؟ لماذا؟
قلت لها هذا أمر الله ، فادعي له بالشفاء يا ريم, يجب أن تتحلي بالشجاعة، ولا تنسي رحمة الله، إنه القادر على كل شئ .. فأنت ابنته الكبيرة والوحيدة.. أنصتت ريم إلى أمها وتناست حزنها، وداست على ألمها وتشجعت وقالت : لن يموت أبي إن شاء الله.
في كل صباح كانت ريم تقبل خد والدها الدافئ، ولكنها اليوم عندما قبلته نظرت إليه بحنان وتوسل وقالت: ليتك توصلني يومًا مثل صديقاتي.. فغمره حزن شديد حاول إخفاءه وقال:
إن شاء الله سيأتي يوما وأوصلك فيه يا ريم.. وهو واثق أن أعاقته لن تكمل فرحة ابنته الصغيرة..
أوصلت ريم إلى المدرسة، وعندما عدت إلى البيت، غمرني فضول لأرى الرسائل التي تكتبها ريم إلى الله، بحثت في مكتبها ولم أجد شيئا.. وبعد بحث طويل.. لا جدوى.. ترى أين هي؟!! ترى هل تمزقها بعد كتابتها؟
ربما يكون هنا .. لطالما أحبت ريم هذا الصندوق, طلبته مني مرارًا فأفرغت ما فيه وأعطيتها الصندوق.. ياإلهي إنه يحوي رسائل كثيرة... وكلها إلى الله!
يا رب... يا رب يموت كلب جارنا سعيد، لأنه يخيفني!!
يا رب... قطتنا تلد قططًا كثيرة .. لتعوضها عن قططها التي ماتت !!!
يا رب ... ينجح ابن خالتي، لأني أحبه !!!
يا رب ... تكبر أزهار بيتنا بسرعة، لأقطف كل يوم زهرة وأعطيها معلمتي!!!
والكثير من الرسائل الأخرى وكلها بريئة...
من أطرف الرسائل التي قرأتها رسالة تقول فيها :
يارب... يارب... كبّر عقل خادمتنا، لأنها أرهقت أمي.
ياإلهي كل الرسائل تكاد تكون مستجابة، لقد مات كلب جارنا منذ أكثر من أسبوع!، قطتنا أصبح لديها صغار، وكبرت الأزهار، ريم تأخذ كل يوم زهرة إلى معلمتها ...
لكن.. لماذا لم تدعو ريم ليشفى والدها ويرتاح من عاهته؟؟!!.
شردت كثيرًا ليتها تدعو له.. ولم يقطع هذا الشرود إلا رنين الهاتف المزعج، ردت الخادمة ونادتني:
ـ سيدتي .. المدرسة ...
ـ المدرسة!! ... ما بها ريم؟! هل فعلت شيئا؟
أخبرتني المعلمة أن ريم سقطت من الدور الرابع، وهي في طريقها إلى معلمتها لتعطيها الزهرة.. وقعت ريم وزهرة معلمتها في يدها... و... ذهبت ريم.. ولكنها لن تعود.
كانت الصدمة قوية جدًا لم أتحملها أنا ولا راشد... ومن شدة صدمته أصابه شلل في لسانه ومن يومها لا يستطيع الكلام.
أما أنا فكنت أخدع نفسي كل يوم بالذهاب إلى مدرستها كأني أوصلها، كنت أفعل كل شئ صغيرتي كانت تحبه، كل زاوية في البيت تذكرني بها، أتذكر رنين ضحكاتها التي كانت تملأ علينا البيت بالحياة... مرت سنوات على وفاتها .. وكأنه اليوم .
في صباح يوم الجمعة أتت الخادمة وهي فزعة وتقول: أنها سمعت صوتا صادرًا من غرفة ريم... يا إلهي هل يعقل ريم عادت؟؟ هذا جنون.
ـ أنت تتخيلين ... لم تطأ قدمٌ هذه الغرفةَ منذ أن ماتت ريم..
أصر راشد على أن أذهب وأرى ماذا هناك..
وضعت المفتاح في الباب وانقبض قلبي ... فتحت الباب فلم أتمالك نفسي ..
جلست أبكي وأبكي ... ورميت نفسي على سريرها، إنه يهتز .. لقد قالت لي مرارًا إنه يهتز ويصدر صوتا عندما تتحرك، ونسيت أن أجلب النجار كي يصلحه لها... ولكن لا فائدة الآن.
لكن ما الذي أصدر الصوت .. لقد كان صوت وقوع اللوحة التي زينت بآيات الكرسي التي كانت تحرص ريم على قراءتها كل يوم حتى حفظتها.. وحين رفعتها كي أعلقها وجدت ورقة بحجم البرواز وضعت خلفه!!
ما هذا ؟ إنها رسالة..... يا ترى، ما الذي كان مكتوبا فيها؟ ولماذا وضعتها ريم خلف الآية الكريمة؟
يا إلهي.. إنها إحدى الرسائل التي كانت تكتبها ريم إلى الله.. وكان مكتوباَ فيها:
يا رب... يا رب ... يارب أموت أنا ويعيش بابا!!
تعليق
لقد قرأت هذه القصة فأعجبتني، وأعجبني تعليق أحد المشايخ عليها فسطرته هنا لك.. قال:
لقد ماتت ريم كما يموت أصحاب القلوب الكبيرة الذين يموتون ليحيى غيرهم . ولنعلم جميعا أن هناك من يحترق ليحيى الناس؟ ومن يموت لتحيى الأمة؟
نعم .. إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، عزاه ربه وسلاه: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين}. أي لعلك تقتل نفسك من الحزن والهم بسبب عدم إيمانهم .
ولكن هؤلاء الذين يقضون نحبهم ليحيى غيرهم، يكافئهم الله بالحياة الدائمة {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.
اللهم ارزقنا ميتة تحيى بها الأمة. اللهم لا تحرمنا وكل مخلص في هذه الأمة أن نكون من الشهداء في سبيلك . آمين.
==============
انصري دينك يا أختاه
لا تزال قوافل التائبين والتائبات ماضية لا يضرها نكوص الناكصين ولا نباح النابحين ولسان حالها يقول:
إذا الكلب لا يؤذيك إلا بنبحه .. ... .. فدعه إلى يوم القيامة ينبح(3/55)
كان ممن التحق بركب الإيمان الفنانة الشهيرة ( ... ..... ) والتي صار لها الآن أكثر من عشرين عاما في مجال الدعوة إلى الله, ارتبط اسمها بالفنانات التائبات وكان لها دور دعوي بينهن.. روت قصت توبتها فقالت: تخرجت من مدارس (ألماردي ديبيه) ثم في قسم الصحافة بكلية الآداب عشت مع جدتي والدة الفنان الشهير (... ... ) فهو عمي .. كنت أجوب طرقات حي الزمالك ، وارتاد النوادي وكأنني استعرض جمالي أمام العيون الحيوانية بلا حرمه تحت مسميات التحرر والتمدن. وكانت جدتي العجوز لا تقوى عليِ بل حتى أبي وأمي، فأولاد الذوات هكذا يعيشون إلا من رحم الله عز وجل.
حقيقة.. كنت في غيبوبة عن الإسلام سوى حروف كلماته, لكنني برغم المال والجاه كنت أخاف من شيء ما .. أخاف من مصادر الغاز والكهرباء, وأظن إن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من معصية, وكنت أحيانا أقول في نفسي: كيف أنجو من عذاب الله غدا؟! لكنني كنت اهرب بسرعة من تأنيب ضميري بالاستغراق في النوم أو الذهاب إلى النادي.
وعندما تزوجت, ذهبت مع زوجي إلى ما يسمى بـ "شهر العسل"، وكان مما لفت نظري إنني عندما ذهبت "للفاتيكان" في روما، وأردت دخول "المتحف البابوي" أجبروني على ارتداء البالطو أو الجلد الأسود عند الباب.. فتعجبت من احترامهم لدينهم على ما فيه.. وهنا تساءلت بصوت خافت: فما لنا نحن لا نحترم ديننا؟؟!
وفي مرة أحسست بسعادة عظيمة لحدث ما وفي أوج سعادتي الدنيوية قلت لزوجي أريد أن أصلي شكرا لله على نعمته, فأجابني: افعلي ما تريدين، فهذه حرية شخصيه!!!
وأحضرت معي ذات مرة غطاء وملابس طويلة ودخلت المسجد الكبير بباريس فاديت الصلاة.. وعلى باب المسجد وعند خروجي أزحت غطاء الرأس وخلعت الملابس الطويلة وهممت أن أضعها في الحقيبة، وهنا كانت المفاجأة.. اقتربت مني فتاة فرنسيه ذات عيون زرقاء ـ لن أنساها طول عمري ـ ترتدي الحجاب .. أمسكت بيدي برفق وربتت على كتفي وقالت بصوت منخفض: لماذا تخلعين الحجاب؟ ألا تعلمين انه أمر الله. كنت استمع لها في ذهول، والتمست مني أن ادخل المسجد لدقائق.. حاولت أن افلت منها لكن أدبها الجم وحوارها اللطيف أجبراني على الدخول.
سألتني: أتشهدين أن لا اله إلا الله؟ أتفهمين معناها؟
إنها ليست مجرد كلمات تقال باللسان، بل لابد من التصديق والعمل بها..
لقد علمتني هذه الفتاة أقسى درس في الحياة.. اهتز قلبي، وخضعت مشاعري لكلماتها ثم صافحتني قائلة: "انصري يا أختي الدين".
خرجت من المسجد وأنا غارقة في التفكير لا أحس بما حولي .. ثم صادف في هذا اليوم أن صحبني زوجي في سهرة إلى نادي ليلي ـ وهو مكان يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عرايا ـ ويفعلون أحيانا ما تترفع الحيوانات أن تفعل مثلهم..
كرهتهم وكرهت نفسي الغارقة في الضلال، لم أنظر إليهم ولم أحس بمن حولي، وطلبت من زوجي أن نخرج حتى أستطيع أن أتنفس، ثم عدت فورًا إلى القاهرة وبدأت أولى خطواتي للتعرف على الإسلام .
وعلى الرغم مما كنت فيه من زخرف الحياة الدنيا إلا إنني لم اعرف الطمأنينة, ولكنني كنت أقترب إليها كلما صليت وقرأت القران. واعتزلت الحياة الجاهلية من حولي وعكفت على قراءة القران ليلاً ونهارًا وأحضرت بعض الكتب الدينية في التفسير والحديث وغيرهما.. وكنت انفق الساعات الطويلة في حجرتي للقراءة بشوق وشغف .. قرأت كثيرا وهجرت حياة النوادي والغفلة، وبدأت أتعرف على أخوات مسلمات.
ورفض زوجي في بداية الأمر بشدة حجابي واعتزالي طريقة حياتهم، ولم أعد اختلط بالرجال من الأقارب وغيرهم، ولم اعد أصافح الذكور, وكان امتحانا من الله ولكن أولى خطواتي هي الاستسلام لله وأن يكون الله ورسوله أحب إلي مما سواهما .
وحدثت مشاكل كادت تفرق بيني وبين زوجي.. ولكن الحمد لله فرض الإسلام وجوده في بيتنا الصغير وهدى الله زوجي إلى الإسلام الصحيح، وأصبح الآن خيرا مني وداعيا مخلصا لدينه ، أحسبه, وبالرغم من المرض والحوادث الدنيوية والابتلاءات التي تعرضنا لها فنحن سعداء ما دامت مصيبتنا في دنيانا وليست في ديننا.
ــــــــــــــــــــ
من كتاب: العائدات إلى الله
==============
تائها ما بينَ .. بين
ما تركنا الليلَ ممدودَ اليدينْ .. ... .. بل فتحنا بابَه للمشرقينْ
وتركنا الشمس تطوي ثوبَه .. ... .. وتركناه رهينَ المحبسينْ
وتركنا كلَّ مخدوعٍ به .. ... .. حائرًا، يسأل: أين الليلُ، أينْ؟
لا تَسَلْ فالليلُ لا يبقى إذا .. ... .. أقبل الفجر عريضَ المنكبينْ
مُشرقَ الوجه على بسمته .. ... .. أثر التغريد بين الشفتينْ
حينما اهتزَّ حراءٌ للهدى .. ... .. وأضاءَ النورُ وجهَ الأخشبينْ
وارتوتْ مكة من زمزمها .. ... .. ورأتْ غارَ حراءٍ رأيَ عينْ
ورأتْ بطحاؤها أن الذي .. ... .. ينذر الناسَ نبيُّ الثقلينْ
وسرى الإيمانُ في وجدانها .. ... .. يشرح الصدر ويجلو المقلتينْ
لا تسلني ما جرى من بعد ما .. ... .. هزَّت الأمجادُ صدرَ الخافقينْ
بعد آلاف البطولات التي .. ... .. كتبتْها الشمسُ بين الدَّفتينْ
لا تسلْ عن حالنا من بعد ما .. ... .. رفع المجد لنا لافتتينْ
بعد أن سلَّمت الروم لنا .. ... .. وبكى قيصرُ بُعْدَ الغُوطتَينْ
لا تسلْ عن حالنا من بعدها .. ... .. حين أصبحنا أذلَّ الفرقتينْ
ورفعنا قدْرَ أعداءِ الهدى .. ... .. ومنحناهم خَراج الضَّفتَينْ
باعت الأقصى فلا تنظر إلى .. ... .. أمةٍ ضحَّتْ بأولى القبلتينْ
أمةٌ لاهيةٌ لا تَعتلي .. ... .. ويحَها إلا بحذف النُّقْطَتين
لا تسلْ عن كثرة القوم فلم .. ... .. تُجْدِنَا كثرتُنا يوم حُنينْ(3/56)
إنما ضيَّعنا من قومنا .. ... .. مَنْ إلى الأعداءِ أصغى الأذنين
يا بني قومي! أرى سكرتكم .. ... .. أنزلتكم عن مقام الفرقدينْ
كيف يُغريكم سرابٌ كاذبٌ .. ... .. كيف أحفَيْتُم إليه القدمينْ؟!
يا بني قومي! أفيقوا إنما .. ... .. يخسر الجولةَ أغوى الجانبينْ
إن أعداء الهدى لن يرتووا .. ... .. لو سقيناهم بماءِ الرَّافدينْ
أو جعلنا كلَّ غربيٍّ على .. ... .. بئر نفطٍ وأضفنا حفرتينْ
أيها السائل عني، إنني .. ... .. أرقب الأحداث مبسوط اليدينْ
لم أزل أشعر أني مسلمٌ .. ... .. للضحايا عنده حقٌ ودَيْنْ
لا تقلْ قد نام حزني إنه .. ... .. لم يزل يرمق وجداني بعيْنْ
أيها السائل! خُذْها حكمةً .. ... .. واسقِ منها كلَّ غاف شربتينْ
يغرق الإنسانُ في ذلَّتهِ .. ... .. حين يبقى تائهًا ما بيْنَ بينْ
==============
العمل الدعوي بين الواقعية والمثالية
ما أجمل أن نكون واقعيين في حياتنا وتفكيرنا، وما أشد ما نجنيه حين نفرط في المثالية ونغرق فيها.
حين يفكر الإنسان ويخطط لعمل أو مشروع، فإنه يتطلع نحو تحقيق أهدافه، ويبحث عما يعينه على تحقيقها، فيغفل عن افتراض العقبات والصعوبات، ويتخيل العلاقة بين كثير من المتغيرات علاقة محكومة بقانون مطرد لا يتخلف، وأن كل العوامل التي تحكمها تسير في الاتجاه الذي يظن، أو ربما يريد. لكنه يفاجأ حين ينزل إلى أرض الواقع فتكون الأمور على خلاف ما يظن.
وحين يرسم المربي أهدافاً يريد أن يوصل أبناءه إليها، فربما اختلطت طموحاته وأمنياته بأهدافه الواقعية، فخرج بتصور مثالي لا يعايش الواقع؛ وبعد أن يعيش زمنا محاولا أن يحقق هدفه على الصورة التي رسم تماما يكتشف حينها صعوبة التنفيذ المثالي فيتهم ضعف الناس أو ضعف قدرته، وهو اكتشاف ربما كان خاطئاً.
وحين يتحدث واعظ، أو يخطب خطيب فإنه قد يخاطب الناس على أنهم ملائكة أطهار، فمن عرف الله فكيف يعصيه، ومن راقبه لا يمكن أن يواقع خطيئة، وينسى المتحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخاطب الناس بغير ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال الرسول الله صلى الله عليه و سلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".(رواه مسلم).. وعن أبي صرمة عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم" (رواه مسلم). وفيه أيضا: "والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات". وربما اكتشف فيما بعد أنه أول من يخالف الناس فيما يدعوهم إليه.
وحين يتصدى شخص لتقويم عمل أو مسلك فربما خرج عن الاعتدال، وطرح انتقاداً لا يبقي على أخضر ولا يابس - وكثيراً ما يكون ذلك عند الأذكياء والمفكرين -. لكنه حين يطالب ببرنامج عملي، أو حين يحال الأمر إليه للتنفيذ فقد لا يجيد تحقيق ما يصبو إليه، وأسوأ من ذلك أن يتمنى أن تعود الأمور إلى الحال التي كان ينتقدها.
إنها مواقف تحصل في أحوال ليست بالقليلة في حياتنا، ويجمعها قاسم مشترك ألا وهو المثالية، وتجاهل الواقع وعدم التعامل معه بصورة صحيحة.
علاج المشكلة
ومن أهم ما يعين على تجاوز هذه المشكلة: الفهم الدقيق للواقع الذي يعيشه المرء، وتقييمه بشكل أدق.
ومن ذلك أيضا الواقعية في تصور المتغيرات التي تؤثر في ظاهرة من الظواهر، وأين اتجاه التغيير؟ وما نسبته؟ وما نسبة احتمال سيرها في الاتجاه الذي نتوقع؟
كما يمثل الاعتدال في التفكير، والاتزان في الطرح ونقاش الأمور جانباً مهماً من جوانب العلاج، وما لم نعتد الاتزان والاعتدال في تفكيرنا وتناولنا لمشكلاتنا فلن يجدي حديثنا النظري في نقلنا خطوة لتجاوز مشكلاتنا.
الاعتدال لا القنوط
لكن رفض المثالية يجب أن يحاط هو الآخر بسياج من الاعتدال يجنب المتحدث من تجاوز الحد الشرعي؛ فالإفراط في الرجاء أمن من مكر الله، ولا يجوز أن يعالج به القنوط من رحمته. والإفراط في الواقعية ربما يولد نفساً دنية الهمة، ضعيفة العزيمة، تستلم للأمر الواقع، وترفع شعار: (الواقع شيء والمفترض شيء آخر).. بل لابد من التخطيط السليم وبذل الجهد والأخذ بالمتاح من الأسباب مع الدراسة التامة لكل ما يحيط بنا وتفهمه وحسن التعامل معه لنرتفع عن واقعنا غير المرضي.
إنها سنة الله في الحياة الوسطية والاعتدال، فسبحان من جعل لكل شيء قدراً، وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
=============
الوصية بالأشهر العربية
غربة الأشهر العربية عند المسلمين هي واحدة من مظاهر غربة الإسلام وسط أهله وبنيه، فقلما تجد من يحصيها ويعرفها أو تعرف على وظائف أيامها وأحكامها، وبينما تجد الجميع يعرف شهر مارس وإبريل تلمس الجهالة المطبقة بشهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، ولا شك أن الجهل بالأشهر العربية، وشيوع استخدام الأشهر التي تعتبرها العجم والروم والقبط، قد أوقع المسلمين في كثير من المخالفات الشرعية، حيث أطلت البدع برأسها، وهجر الناس الكثير من الطاعات والقربات بسبب ذلك؛ لذا كان لابد من القيام لله بحق النصح والبيان )ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ( "الحج:32".(3/57)
والوصية بالأشهر العربية هي من الوصية بتقوى الله تعالى التي أمر بها الأولين والآخرين )وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ( "النساء:131" وهذه الأشهر هي على التوالي: المحرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني، جمادى الأول، جمادى الثاني، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة. قال تعالى: )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ( "التوبة:36" قال القرطبي:"هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً، لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر, وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج .
والشهر العربي يثبت برؤية الهلال أو إكمال عدة الشهر السابق ثلاثين يوماً لحديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" "رواه البخاري ومسلم".
وقد ثبت العمل بالهلال وترتب الأحكام عليه بقوله تعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ( "البقرة:189" فأخبر سبحانه أنها مواقيت للناس، وهذا عام في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تمييزاً له، ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم، ولأنه يكون في آخر شهور الحول، فيكون علماً على الحول، كما أن الهلال علم على الشهر، أما الشمس فلم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة، وإنما علق ذلك بالهلال، فالشهر هلالي بالاضطرار ويسن عند رؤية الهلال أو العلم به أن نقول: "الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله" "رواه الدارمي بسند صحيح" .
ولم تكن الأمة تعمل في دخول الشهر وخروجه، وتحديد الليل والنهار، أو في معرفة وقت الفجر وغيره بالحسابات الفلكية، وقد وردت النصوص الشرعية بتحديد كل وقت على حدة، ومن ذلك ما رواه مسلم "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا" ويستطير أي ينتشر ضوؤه في الأفق بخلاف المستطيل الذي يظهر ثم يختفي، وقد أوضح العلماء أن العمل في رؤية الهلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال، لا يصح التعويل فيها على الحسابات، وهذا بالنص والإجماع، وعلى ذلك جرى العمل في قرون الخيرية الثلاثة، وما ذهب إليه بعض المتأخرين من جواز العمل بالحساب إذا غم الهلال قول شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، ولو صح هذا القول - وهو غير صحيح - فيحمل على الإغمام ويختص بالحاسب، أي أنه لا يجوز تعميمه أو إطلاقه على عواهنه، يقول ابن تيمية: "والمعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل، وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي ... ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعاً مضطرباً، وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا في ذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي... ا.هـ. وقال الشيخ ابن باز - رحمه الله: "أما توحيد التقويم بالحساب فلا مانع أن يعتمد عليه في المسائل الإدارية ونحوها وللإيضاح والنصيحة وبراءة الذمة رأيت نشر هذا البيان". وكان قد أوضح - رحمه الله - أن إثبات الأهلة والأحكام الشرعية إنما يكون بالرؤية أو بإكمال العدد.
ومن هنا تدرك خطأ تعليق الأحكام الشرعية على الحساب وولادة القمر واختراع التلسكوب والقمر الصناعي، فإن مدار الأمر على ثبوت الرؤية بالعين البصرية، وقد اتفق العلماء على أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له هذا اليوم هو أول يوم من رمضان، أنه لا يعمل بهذه الرؤيا المنامية، إذ مدار الأمر على ما ذكرنا، والواجب علينا أن ندور مع إسلامنا حيث دار، ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج عن ذلك إلى الأخذ بالحساب أو الكتاب، كالجداول وحساب التقويم والتعديل... قد أدخل في الإسلام ما ليس منه فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابل به أهل البدع، وحسبك أن تكتفي بما أغناك الله وبينه لك.(3/58)
لقد تفنن الأعداء وأذنابهم في تنفير المسلمين من كل شئ له علاقة بالدين كاللغة العربية والأشهر العربية، واستخدموا في ذلك كل أساليب الغزو الفكري، حتى وصل بنا الحال إلى أن أصبحنا نضاهي الغرب في كل شئ حتى في شهوره وما ارتبط بها من بدع وانحرافات. والثابت أن الشرائع قبلنا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم، كما يفعله اليهود في جعل بعض الأعياد بالسنة الشمسية، وكما تفعله النصارى في صومها وأعيادها . وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب، فلا يجوز بعد ذلك أن نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإذا كان تبديل شهر عربي مكان آخر يذم به فاعله كمن بدل صفر مكان رجب، ورجب مكان صفر، فكيف بمن ترك العمل بالأشهر العربية جملة وتفصيلاً واستبدلها بالأشهر الميلادية أو الإفرنجية، قال تعالى: )إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( "التوبة:37".. قال ابن كثير - رحمه الله: "هذا مما ذم الله به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحل الله"..ا.هـ.
والنسيء هو تأخيرهم شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثأر على نحو ما ذكره ابن إسحاق، وهو تأخيرهم الحج عن وقته تحرياً منهم للسنة الشمسية، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بعد أن استدار الزمان، ووقعت حجته صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة، فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما: "إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذوالقعدة، وذوالحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس، وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج، وغير ذلك من المفاسد، ازداد شكره على نعمة الإسلام مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئاً من ذلك، وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فلهذا ذكرنا حفظاً لهذا الدين عن إدخال المفسدين، فإن هذا مما يخاف تغييره، فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته.
وقد اعتبر العلماء أن من جملة مظاهر موالاة الكافرين التأريخ بتاريخهم خصوصاً التاريخ الذي يعبر عن طقوسهم وأعيادهم كالتاريخ الميلادي، والذي هو عبارة عن ذكرى مولد المسيح عليه السلام، والذي ابتدعوه من أنفسهم، وليس هو من دين المسيح. فاستعمال هذا التاريخ فيه مشاركة في إحياء شعارهم وعيدهم، وإقامة الملة الحنيفية تقتضي مخالفة المشركين وسائر أصناف أهل الجحيم وعدم التشبه بهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم". وتشابه الظواهر قد يجر إلى تشابه البواطن ولذلك فالخطر عظيم في متابعتهم في أشهرهم الإفرنجية وترك الأشهر العربية، وقد ابتدأ عمر رضي الله عنه التاريخ الهجري، وذلك باتفاق الصحابة - رضى الله عنهم - بالعام الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشهر الله محرم . وقد فعلوا ذلك مع معرفتهم بتواريخ الفرس والروم، فخالفوهم عن عمد :
والخير كل الخير في اتباع من سلف ... والشر كل الشر في ابتداع من خلف
وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك - رحمه الله -.
وقد حذر العلماء من الرقى بالأعجمية وبالكلمات الشركية والغير مفهومة فقد تنطوي على مخالفات شرعية ونفس الأمر يقال في الأشهر الإفرنجية، فشهر إبريل(نيسان) وهو الشهر الرابع من السنة الإفرنجية كان يمثل مطلع الربيع وكان الرومان قد خصصوا اليوم الأول من هذا الشهر لاحتفالات "فينوس" وهو آلهة الحب والجمال وملكة المرح والضحك والسعادة عندهم، وأما الأقوام الساكسونية فكانت تحتفل في هذا الشهر بعيد آلهتهم "إيستر" وهي إحدى آلهتهم القديمة وهو الاسم الذي يطلق عليه الآن "عيد الفصح" عند النصارى في اللغة الإنجليزية، وقد اقترن هذا الشهر بما يسمى بكذبة إبريل!! وعامة الأشهر الميلادية لا تقل في فساد معناها عن شهر إبريل، فمن أراد اليوم أن يتكلم بشهر مارس وإبريل فليس له أن يتناسى شهر رجب وذي القعدة، وعليه أن يحذر المعاني الفاسدة الموجودة في الأشهر الإفرنجية ويحذر منها الناس، وقد سئل الإمام أحمد، فقيل له: إن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشد الكراهة، وروى عن مجاهد أنه كان يكره أن يقال: آذارماه. وورد في الخبر: "من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق". وكان عمر ينهي عن الرطانة مطلقاً، فالعمل بالأشهر العربية مسئوليتنا جميعاً، وعلى الدعاة بصفة أخص أن يشيعوا مفاهيم الهدى في البلاد وبين العباد: "ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله" رواه مسلم .(3/59)
ولا يظنن ظان أن هذه الدعوة أشبه بالدعوة إلى القشور، فنحن لا نتبرم بإيضاح سنة مهملة حتى وإن كانت مستحبة، فضلاً عن أن تكون بهذا القدر الذي بيناه، وفي الوقت ذاته ندرك أن التهاون في المستحبات يجر إلى التهاون في الواجبات، وشأن من علت همته أن يهتم بالواجب والمستحب في العلم والعمل والدعوة إلى الله، ولا نقبل تقسيم الدين إلى قشر ولباب مع اعترافنا بمبدأ الأولويات (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب) "الحج:32" والقشرة لابد منها لحفظ الثمرة، إذ التفاحة تفسد إذا نزعت قشرتها، فاحرص على اغتنام مواسم الفضل كالأشهر الحرم، وشهر شعبان ورمضان، ويوم عرفة وعاشوراء وأيام العيدين والتشريق .... وتقرب فيها إلى الله بكل طاعة يحبها، واحذر الابتداع كالاحتفال بالمولد النبوي والهجرة وذكرى الإسراء والمعراج .... وأحسن المسير إلى ربك، واعلم أن السنة شجرة والشهور فيها فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما الجذاذ يوم المعاد، فعند ذلك يتبين حلوالثمار من مرها، كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - والكل مسافر في هذه الدار إلى ربه، ومدة سفرك عمرك، والأيام والليالى مراحل، فالعاقل لا يزال مهتماً بقطع المراحل فيما يقربه إلى الله ليجد ما قدم محضراً، فكن أنت ذلك الرجل، وإن وفقت وسددت فقل ) وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
===========
بركة الكلمة
أفضل الكلام، كلام الله تعالى، وهو حبل الله المتين وذكره الحكيم وصراطه المستقيم.. من عمل به أجر ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، لا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن، ولا تزيغ به الأهواء، ومن تركه واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.. سمعه الوليد بن المغيرة - المشرك - فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر.
وأفضل الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم، الذي أوتى جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى) "النجم:4"، فكما تجد الإعجاز في إيجاز الآيات البينات، كما في مثل قوله تعالى: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ولا تَخَافِي ولا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) "القصص:7"، فكذلك الأمر في حديث النبي صلى الله عليه و سلم، تجد المعاني الكثيرة تصاغ في أوجز عبارة كما في حديث سفيان بن عبد الله: "قل أمنت بالله ثم استقم" وحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"..
فإذا نظرت في كلام سلفنا الصالح ومن تابعهم بإحسان وجدت لكلامهم أوفر الحظ والنصيب مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماتهم مختصرة موجزة، معانيها كثيرة وفوائدها غزيرة ووفيرة, وذلك بعكس الكلمات التي نتكلم بها فقد لا تصفو على شئ رغم كثرتها، وإن صفت على معنى مفيد كان قليل البركة.. راقب نفسك فلسانك لا يكف عن القيل و القال, وكل ذلك ليس لله فيه نصيب، ولعل هذا المعنى هو الذي استلفت نظر البعض فسال أحد العلماء: لماذا كان كلام السلف انفع من كلامنا؟ قال العالم: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلباً للدنيا ولرضا الخلق.
لما سمع زين العابدين على بن الحسين موعظة للحسن، قال سبحان الله هذا كلام صديق.. قيل لعبد الواحد صاحب الحسن البصري: بأي شئ بلغ الحسن فيكم ما بلغ وكان فيكم علماء وفقهاء؟ قال: كان الحسن إذا أمر بشيء كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن شئ كان أترك الناس له، عنايته بالرقائق والزهد فإن سأله إنسان غيرها تبرم وقال: "إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر".
غالب مواعظه في ذم الدنيا والنهى عن طول الأمل والأمر بتزكية النفوس وتصحيح المقاصد والنيات، والوعاظ كانوا علماء فقهاء، قال الإمام احمد: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق في الحديث، إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج لكم من بركات الأرض، قيل وما بركات الأرض، قال: زهرة الدنيا. ولذا كان الحسن يقول: والله ما عجبت من شئ كعجبي من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر، وايم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها، وهل عبدت الأصنام وعصي الرحمن إلا لحب الدنيا، فالعارف لا يجزع من ذلها ولا ينافس بقربها ولا يأسى لبعدها.
كلماتهم كانت مباركة، وكلما اقتربنا من عهد النبوة كانت الكلمات في قمة بركتها، انظر في قول أبى بكر الصديق- رضى الله عنه:" أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" وذلك لما اجتمعت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه. وقوله لعمر - رضى الله عنه - يوم الحديبية: "الزم غرزه فإنه على الحق". وكان عمر قد تساءل: أو لسنا على الحق، أوليس رسول الله حقاً". وقوله صبيحة الإسراء والمعراج: "إن كان قال فقد صدق، فوالله إني لأصدقه في أكثر من ذلك، أصدقه في خبر السماء".
ويوم الهجرة كان يتذكر الرصد فيتقدم أمام النبي صلى الله عليه و سلم فإذا تذكر الطلب و تحول خلفه،، يسير تارة عن يمينه، وتارة عن شماله، ويقول: "إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك معك الدعوة".(3/60)
ويأتي من بعده عمر رضى الله عنه يقول: "إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، هذا هو الذي بلغنا به ما بلغنا". وقال لأبى عبيدة - رضى الله عنه -: "إنّا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين فمهما نطلب العز في غيره أذلنا الله".
وكان أبو عبيدة - رضى الله عنه- يسير وسط الجيش و يقول: "رب مبيض لثوبه مدنس لدينه، رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات".
وقال أبو الدرداء رضى الله عنه: "أدركنا الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه". وكان إذا رأى جنازة يقول: "اغدوا فإنا راحون، وروحوا فإنا غادون، موعظة بليغة وغفلة سريعة، يروح الأول ولا يعتبر الآخر".
مواقف هادية، وكلمات من نور، قتل مصعب يوم أحد بعد ما قطعت يداه وهو يقرأ قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)
ونفس الأمر بالنسبة لخبيب بن عدى عندما أخذه المشركون لقتله، سألهم المهلة حتى يصلي لله ركعتين، لم يطلب شيئا يأكله ولا أن يرى زوجة أو ولداً، وإنما كانت أمنيته في هذه اللحظات أن يبعث بسلامه لرسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، ولم أر أحداً يقرئ رسولك مني السلام، فأقرئه مني السلام، ثم وقع خبيب صريعاً وهو يردد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً . على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. .... .. يبارك على أوصال شلو ممزع
بركة في كل شيء
وهكذا لو تتبعت حياة هؤلاء الأفاضل لوجدت بركة واضحة في كلامهم وفي كل شئ، وهذه البركة من الله، ولا تطلب إلا بطاعته سبحانه، فيبارك إن شاء في المكان والزمان والقول والفعل.. وقد وردت الآيات تصف بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأشياء بالبركة ومن ذلك قوله تعالى: )إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ( "آل عمران:69"، وقال عن نبيه عيسى عليه السلام: )وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت( "مريم:30" وقال: )وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا( "ق:9"، وقال سبحانه عن كتابه ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ( "الأنعام:155" وقال )وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ( "الأنبياء:50"... والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
أسباب تحصيل البركة
لا شك أن طاعة الله هي أول تلك الأسباب فبها يكون حلول النماء والزيادة والبركة، ومن جملة ذلك بر الوالدين و صلة الأرحام" فمن أراد أن ينسأ له في عمره ويبارك له في رزقه فليصل رحمه"، والمعصية ضد ذلك و"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
كما وأن الدعاء من أعظم أسباب حلول البركات ولذا كثر ذكرها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي دعاء القنوت الذي علمه لسبطه الحسن: "وبارك لي فيما أعطيت"، وفي دعاء الاستخارة يقول: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لى ثم بارك لى فيه"، ويقال للزوج عقب عقد النكاح: "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير"، وإذا فرغ من طعامه قال: "اللهم بارك لنا فيه وأعطنا خيراً منه" وإذا شرب لبناً قال " اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وإذا رأى من نفسه أو ولده أو ماله أو غير ذلك شيئاً فأعجبه، وخاف أن يصيبه بعينه، أو يتضرر بذلك قال " اللهم بارك فيه ولا تضره"..... والأدعية كثيرة في هذا المعنى.
وإذا كانت البركة من الله، فلا يجوز طلبها من المقبورين، كما لا يجوز التبرك بالأشجار والأحجار إلا الحجر الأسود، وقد كان الصحابة يتبركون بفضل وضوء النبي صلى الله عليه و سلم وطيبه و نحو ذلك.
والناظر سيجد أن البركة تتناقص من جيل إلى جيل.. ففي أحاديث أمارات الساعة "يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر ويكون الشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كاحتراق السعفة" رواه أحمد والترمذى وقال ابن كثير: إسناده على شرط مسلم.
وفي الحديث الذي رواه البخاري: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان"..
فإذا كنا نعاني من قلة البركة في الأقوال والأفعال، فهذا الأمر يحكي لنا التناسب الواضح بين حالة الكون من حولنا وبين ما نحن عليه من قلة التقوى، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه البركة المنزوعة ترد قرب قيام الساعة، وذلك بعد إهلاك الدجال و يأجوج و مأجوج ببركة دعاء المسيح عليه السلام . قال صلي الله عليه وسلم " ثم يرسل الله مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ...... " الحديث رواه الجماعة . فاللهم بارك لنا في أقوالنا وأفعالنا وبارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
==============
تربية القادة لا تربية العبيد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فالقيادة شأنها عظيم وخطير، حتى اعتبر البعض ضعف القيادة من أعظم مشاكل المسلمين المعاصرة، وقال: "المسلمون إلى خير ولكن الضعف في القيادة. وقال الآخر: "القيادة شطر القضية، وشطرها الآخر الأمة بمجموع أفرادها".(3/61)
وكان عثمان بن عفان - رضى الله عنه - يقول: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وحين أنكر الخوارج ضرورة الخلافة، قال على بن أبى طالب - رضى الله عنه : "لابد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة، فقيل يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود وتأمن السبل ويخشاها العدو ويقسم بها الفيء.
وقد سمعنا عن مدارس تخريج القادة، وتكلم آخرون عن صفات القائد الذي لا يقر ولا يستقر ولا يعرف كللاً ولا مللاً ولا يطلب راحة ولا هدوءًا دون تحقيق الهدف الذي يصبوا إليه، وأن هؤلاء قلة في العالم، ولو كانوا كثيرين لأحدثوا في كل يوم انقلابًا، ويذكرون لنا الأمثلة على هؤلاء القادة كنابليون بونابرت، وهتلر، وجيفارا، وماوتسى تونج، وكاسترو... ولا تكاد تسمع إلا أسماء ليس لله فيها نصيب، وكثرة ممن كتبوا عن القيادة، إذا ذكروا اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوه في مصاف القادة العظام، فلابد عندهم من تعريته من صفة الوحي والنبوة. ولذلك كان لابد من مراجعة وتدقيق وتمحيص، فما هو مفهوم القيادة، ومن الذي رباهم، وما هي مناهج تربيتهم؟ فقد لا يصلح ذلك كله لتربية الجنود فضلاً عن القادة، والميزان في هذا وغيره هو هذا المنهج الكامل الشامل لكل ناحية من نواحي الحياة )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا( "المائدة:3"، )أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ( "الملك:14".
فموازين القيادة الحقة محفوظة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نتعداها لغيرها، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون، وما ترك الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه خيراً يقرب الأمة من ربها إلا ودلها عليه، ولم يترك شراً يباعد الأمة عن الله عز وجل إلا حذرها منه ونهاها عنه وأمرها باجتنابه، وإذا ورد شرع الله بطل نهر معقل، فهل من يعقل، وما علينا إلا أن نقول )سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( "البقرة:285" .
القيادة المرادة
نريد قيادة ترضى ربها، وتضع الإسلام نصب عينيها تأتلف حولها القلوب، وتتحقق على يديها للبلاد والعباد خيرات الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة منهج الأنبياء والمرسلين )أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ( "الأنعام:90".. أما أن يلعن القادة الأتباع، والأتباع القادة ويسفك بعضهم دماء بعض، فلا خير فيهم وباطن الأرض خير لهم من ظاهرها.
لقد بعث ربنا عز وجل للبشر رسلاً، كانوا هم القدوة والقادة، انظر في قصة نبي الله نوح عليه السلام - واجه أمة كافرة، ظل يدعوها ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال لهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وفي هذا خيرهم وسعادتهم في العاجل والآجل، فكانوا يؤذونه حتى يغمى عليه، فإذا أفاق دعاهم إلى الله وحده، لم تضعف عزيمته، بل واصل الليل بالنهار ودعاهم بالسر والجهار، وفي النهاية ما آمن معه إلا قليل، والقادة الحقيقيون لا يعرفون بكثرة الأتباع ولا بقلتهم، ولكن بمقدار قربهم للحق، وانشغالهم بمعالي الأمور وأشرافها، وهكذا كان نبي الله نوح فمهمته هي أعظم مهمة، وعزيمته تضعف أمامها الجبال.
وقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام أمة وحده )إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين َشَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم( "النحل:120 - 121"، تعرف ذلك من دعوته لأبيه ومواجهته لقومه ومناظرته للنمروذ، وتسليمه لأمر الله، وإقامته لدين الله.
وانظر في دعوة نبي الله موسى- عليه السلام - لقد واجه فرعون والملأ، وصبر على دعوة بنى إسرائيل وتعبيدهم لله عز وعلا، ارتحل إلى مدين، وقد تجمعت فيه معاني القيادة: القوة والأمانة ولذلك قالت ابنة شعيب لأبيها )يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ( "القصص:26"، وكان لسان حاله ينطق قبل مقاله )وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى("طه:84".
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو سيد القادات وقائد السادات، دعوته وسيرته وأخلاقه هي الأسوة والقدوة لتربية القادة وقيادة الدنيا ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( "الأحزاب:21"، فقد خرَّج النبي صلى الله عليه وسلم علماء ورجالاً وقادة لا كالقادة، لهم أوفر الحظ والنصيب من واقعه الذي نطق "والله لو جعلوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".. استعلوا على الدنيا وحطامها الفاني، فكانوا سادة وقادة، يقول أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - أينقص الإسلام وأنا حي، قاتل المرتدين، وقال والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما صحب الأنبياء مثله - رضى الله عنه - يقول عنه عمر: "رحم الله أبا بكر كان أعرف منى بالرجال".
وتولى عمر الفاروق الخلافة من بعده، وهو القوي في دين الله، سار بالعدل في الرعية وكان مُحَدَّثاً، وافق الوحي في أكثر من موضع، وكان يتخوف أن تتعثر شاه بوادي الفرات، فيسأل عنها يوم القيامة لماذا لم يمهد لها الطريق. قال يومًا: "أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل أقضيت ما علي؟ قالوا: نعم، قال: لا حتى أنظر في عمله، أقام بما أمرته أم لا.(3/62)
وسيرة خالد بن الوليد في قيادة الجيوش وفتوحاته معلومة لدى العدو قبل الصديق، تولى يوم مؤتة بعد موت القادة الثلاثة - من غير إمرة ففتح الله عليه - وعزله عمر- رضى الله عنهما - عن القيادة فقاتل جندياً وفتح قنسرين هو وثلة من أصحابه، وكان قادة الروم يسمعون بمجيء خالد فيفرون من المعركة.
ومن تتبع سيجد الكثير من صور القيادة الفذة، كان هارون يحج عاماً ويغزو عاماً، ويخاطب السحاب، ويقول: سيرى أينما شئت أن تسيري فسيأتيني خراجك. وهو الذي بعث إلى نقفور ملك الروم لما نقض العهد يقول له: "أما بعد.. فمن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، يابن الكافرة، فإن الأمر ما ترى لا ما تسمع. وكان صلاح الدين الأيوبي كالوالهة الثكلى، فقدت وحيدها يتململ في فراشه ويتقلب فيه ولا يجد النوم سبيلاً إلى جفنه، يقول لوزيره ابن شداد: أما أسر لك حديثاً؟ إني أتمنى أن يفتح الله علي بيت المقدس ثم أركب البحر أقاتل في سبيل الله كل من كفر بالله حتى يظهرني الله أو أموت.
إعادة صياغة ودور المرأة
نحن بحاجة لإعادة صياغة، وأن نتربى تربية إيمانية تصل الدنيا بالآخرة والأرض بالسماء، تربية القادة لا تربية العبيد، تربية يشارك فيها الرجال والنساء والكبار والصغار، وما فاتنا وضعف فينا نحاول تداركه في أبنائنا، فنحن لا ندرى من الذي سيفتح الله على يديه بيت المقدس، ومن الذي سيقود الدنيا بدين ربها.
يقولون وراء كل عظيم امرأة، والمرأة لها دور كبير في تخريج القادة إذا تأست بالصحابيات الفضليات، دخل رجل على هند بنت عتبة وهى تحمل معاوية، فقال لها إن عاش معاوية ساد قومه، قالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه. وكان معاوية - رضى الله عنه- إذا نوزع الفخر يقول: أنا ابن هند.
أما إذا أصبحت همتها في الرقص والغناء ومتابعة الموضات وارتياد شواطئ البحر ودور السينما والمسرح، ضاعت وأضاعت الأمة من حولها وخلفت أشباه الرجال ولا رجال
شباب قُنَّعٌ لا خير فيهم .. ... .. وبورك في الشباب الطامحين
والفارق كبير بين تربية السادة وتربية العبيد، لقد وجدت أجيال تربت على سموم الفرعونية والبابلية والوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية، ولم تعرف شيئاً عن دينها، فهل يقال عن هؤلاء قادة المستقبل وجنود معركة المصير؟!! إن الواحد من هؤلاء قد لا يصلح لأن يقود نفسه أو بيته، فكيف يطلق عليه وصف القائد والزعيم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقيادة ليست تسلطاً ولا قهرًا ولا جبروتًا، لكنها أمانة وكفاءة، وبصيرة بالأمور وعلو همة، وصبر وثبات وثقة بنصر الله وطمأنينة إلى تأييده، نحرص على توافر الشروط الشرعية فيمن يقود، فالخليفة والحاكم ينبغي أن يكون ذكرًا، حرًا، عاقلاً، عدلاً، مجتهداً في دين الله، على معرفة بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، لا تأخذه رقة في إقامة الحدود الشرعية؛ فالخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، والولاية والإمارة تكون للأمثل فالأمثل ولابد فيها من القوة والأمانة، ولا يجوز الترؤس بالجهالة، ولذلك قالوا: تفقهوا قبل أن ترأسوا، وقالوا: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي قبل أن تصبحوا سادة وقادة، أما الاكتفاء بمعرفة البروتوكول في تناول الطعام والشراب والمشي، وقراءة كتاب الأمير لمكيافيللى، فهذه الأمور لا تصلح لتربية الجنود فضلاً عن تخريج القادة.
ومع حرصنا على الأخذ بالأسباب الشرعية لابد وأن نعلم أن القيادة من قبل ومن بعد فضل من الله يؤتيه من يشاء، فالمؤهلات والقدرة، وتذليل الصعاب، ومحبة الرعية لقائدها وانقيادها له، كل ذلك محض فضل وتوفيق من الله، وهذه الأمة قد أنيط بها إقامة الحق في الخلق وقيادة البشرية بأسرها )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ( "آل عمران:110" )وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا( "النور:55"، فإذا كنا قد أصبحنا غثاءً كغثاء السيل، فهذا لا يمنعنا من النهوض والأخذ بالأسباب لوراثة الأرض بالحق والعدل، وإقامة خلافة على منهاج النبوة، وهذا يتطلب منا إيجاد المسلم بمفهومه الحقيقي بحيث تتوافر فيه الصيغة الإلهية والثبات على الحق، ومعاني العزة والمجاهدة والبصيرة، والأوبة إلى الله وإدراك الغاية من الحياة، وغير ذلك من المعاني التي تؤهل المسلم لأن يناطح السحاب، تهتز الجبال ولا تهتز معاني اليقين في نفسه، يصنع كما صنع ربعي بن عامر عندما دخل على رستم قائد الفرس فسأله، من بعثكم، فأجابه ربعى: ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ولو استقامت الموازين لعلمنا أن القيادة بحق كانت لربعي المغمور لا لرستم المشهور، فالقائد يجب أن يخلص عمله لله ويتواضع لجنابه سبحانه.
والتنازع على القيادة يفسد النوايا، وتضيع به البلاد والعباد، فالمركب تستقر في قعر المحيط إذا بويع لخليفتين، وحسبك أن تطيع قائدك في غير معصية الله، حتى وإن كنت أهلا للقيادة والإمارة وإلا فمن الجائز إمامة المفضول للفاضل، والخلاف شر كله، ولا تبالي إذا وضعوك في المؤخرة ، أو خفي حالك على الخلق، فأنت ممن يتعامل مع الله..
تعاهد القيادات المبكرة(3/63)
قيل عن عمر بن عبد العزيز، إنما ادخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك، وكان من الصلاح والقوة في دين الله بمكان. ومن نفس المنطلق، قد تجد مخايل النجابة وعلامات القيادة المبكرة في ولدك أو في غيره فتعاهده كقوله للصبيان: "من يكون معي؟"، "وتعالوا أكن أميركم". ومن ذلك ما حكاه نضر الهلالي قال: كنت في مجلس سفيان بن عيينة فنظر إلى صبى دخل المسجد فتهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان: )كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ( "النساء:94"، ثم قال: يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار, وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار, وذيلي بمقدار, ونعلي كآذان الفار، وأنا أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة ، فإذا دخلت المجلس، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير، أوسعوا للشيخ الصغير.
وعلى كل حال فمن وجد توفيقاً وتسديداً، فالله وفقه )وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( "هود:88"، وعليه أن يزداد طاعة وعبودية لله، ويؤدى شكر النعمة التي امتن بها سبحانه عليه )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( "إبراهيم:" .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============
أولم يتفكروا.. ؟!!
ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل، ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل، والفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات، فهو يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل.
قال أبو سليمان الداراني: " إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شئ إلا رأيت لله فيه نعمة ولى فيه عبرة".. ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكر والاعتبار. وعن محمد بن كعب القرظى قال: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت والقارعة" لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهز القرآن ليلتي هزا أو قال أنثره نثرا. وعن طاووس قال: "قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرا ً وصمته فكرا ً ونظره عبرة فإنه مثلي".
والتفكر يكون في نعم الله وفي كل شئ إلا في ذات الله تعالي: ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوالسَّمِيعُ البَصِيرُ( (الشورى: 11).. وقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى على الاعتبار والتدبر والنظر والتفكر قال تعالي: ) يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَُ( (البقرة: 219) وقال: ) قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ( (الأنعام: 50) وقال: ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( (الروم: 8)
وعن عطاء قال " دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير قد آن لك أن تزورنا، فقال أقول يا أمه كما قال الأول "زُر غِبًّا تزدد حبًّا"، قال فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: ياعائشة ذريني أتعبد الليلة لربي قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا ً شكورا ً، لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ( ( آل عمران: 190)..
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ً ففاضت عيناه " رواه البخاري ومسلم.
وعن حذيفة - رضى الله عنه - قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلى بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مر بأية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربى العظيم فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربى الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه " رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأ عليّ القرآن " قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيرى" فقرأت النساء حتى إذا بلغت ) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا( " النساء:41" رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل" رواه البخاري ومسلم.(3/64)
والسنن والآثار كثيرة في هذا المعنى وكلها دالة على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تفكر وتدبر.. فعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقيل: كان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة. وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تدركها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر.
أنفع التفكر
وأنفع الفكر الفكر في الآخرة وفي آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
أما الفكر في الدنيا وفيما لا يعنى فهو باب كل شر، وكذلك الفكر فيما لم يكلف الفكر فيه، كالفكر في كيفية ذات الرب مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه، ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك. قال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعِروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها".
والصيام من جملة الأسباب المعينة على التفكر، ومن هنا قال البعض: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
والإنسان بحاجة لأن يقف مع أول همه، فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف، والروية في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة.. قال الشافعي: فكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تقدم. وكان ابن مسعود - رضى الله عنه - يقول لأصحابه: أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر وسيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبت لكثرة الشبهات.
وبعد أن علمت قيمة التفكر وما ورد بشان ذلك من آيات وسنن وأثار حري بك أيها الغادي أن تقف ساعة وتتفكر، من أنت، ومن خلقك، وإلى أين المصير، أراحل أنت أم مقيم، وإذا كنت مرتحلاً، فإلى أين أإلى جنة أم إلى نار؟ فالحياة بغير الله سراب، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.
تفكر في الموت والقبور والآخرة، كان الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: من لم يردعه ذكر الموت والقبور والآخرة، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
تفكر.. فأنفاسك تعد، ورحالك تشد، وعاريتك ترد، والتراب من بعد ذلك ينتظر الخد، وعلى أثر من سلف يمشى من خلف، وما عقبى الباقي غير اللحاق بالماضي، وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب ) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( " آل عمران: 185 ".
جلس عمر بن عبد العزيز يوماً متفكراً متأملاً ثم قال: قبور خرقت الأكفان ومزقت الأبدان، ومصت الدم، وأكلت اللحم.. ترى ما صنعت بهم الديدان؟! محت الوجوه، وكسرت الفقار، وأبانت الأشلاء، ومزقت الأعضاء .. ترى أليس الليل والنهار عليهم سواء، أليس هم في مدلهمة ظلماء، كم من ناعم وناعمة، أصبحت وجوههم بالية وأجسادهم عن أعناقهم نائية قد سالت الحدق على وجوههم دماً صديداً، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً، حتى عادت العظام رميماً.. ثم قال: ليت شعري كيف ستصبر على خشونة الثرى، وبأي خديك سيبدأ البلى؟!!
تفكر في أحوال المسلمين، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، واجعل الهموم هماً واحداً، هو هم الآخرة.. وقد يطول بك العجب عندما ترى انشغالك بكرة القدم، أو بالسينما والمسرح، أو بالأغاني العربية والأجنبية، أو بمتابعة الموضات...... في الوقت الذي تجرى فيه المذابح الجماعية للمسلمين هنا وهناك، والكثرة منهم لا تجد رصيفاً آمناً تسكنه، تفكر فربما تشكر النعمة التي تعيشها وتنتهي عن البطر، وربما تستحي عندما ترى تقصيرك وتفريطك، والحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، وربما تداركت قبل فوات الأوان، فأعداء الأمس هم أعداء اليوم وهم لا يفرقون بين مسلم وآخر ) قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ( "آل عمران: 118"، وما صرنا كالأيتام على موائد اللئام إلا بسبب حب الدنيا وكراهية الموت، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهى راغمة.
تفكر كيف نحقق معنى الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية، فهذه مهمتك قبل غيرك، وأنت على ثغر من ثغور الإسلام فاحذر أن يؤتى الإسلام من قبلك، لن تعدم دعوات صالحات في جوف الليل، وسهام الليل لا تخطئ، عسى الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويوحد كلمتهم ويجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم. لا تتنصل من تحمل المسئولية فأنت مسؤول )فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ( "الأعراف:6" )لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ( "الأحزاب:8".(3/65)
تفكر في نفسك وفي عظيم نعمة الله عليك )وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ( "الذاريات:21" وكفي بنعمة الإسلام نعمة، فهل أديت شكر هذه النعم؟
تزود بالعلم النافع وتابعه بعمل صالح، واحرص على تقوية معاني العقيدة في نفسك فالحرب مع أعداء المسلمين حرب عقائدية، واعلم أنه لا سبيل لأن تكون من الطائفة الظاهرة الناجية المنصورة إلا بان تكون على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فهل تحققت بهذا المنهج الإيماني علماً وعملاً واعتقادا؟!
لا ريب أنه إذا ذكرت أحوال السلف بيننا افتضحنا كلنا ولكن هذا لا يمنع من أن نبدأ ونجاهد أنفسنا )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ( "العنكبوت:69".. وكما قالوا مسيرة آلاف الأميال تبدأ بخطوة واحدة، وربنا يلوم على العجز فاستشعر أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وليكن سبيلك التخلية عن الرذائل قبل التحلية بالفضائل، واحذر أن تحدث أنت الثقب في قعر السفينة فهذا يساوى غرقها بجميع ركابها في قعر المحيط، فالمعاصي هلكة ودمار، ومعصية الجيش أضر عليه من سيوف أعدائه.
التأمل في ملكوت الله
إن التفكر في ملكوت السموات والأرض من شانه أن يهدى الحيارى، ففي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد .. تأمل كيف رفع السماء فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها.
تأمل عجيب قدرة الله في خلقه، وكيف يسير الكون بنظام دقيق)لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ( "يس:40".
وتأمل وتفكر في دعوة سيد الأولين والآخرين، فمعجزاته كثيرة طبية وفلكية، وحكمية وبلاغية..... وأعظمها معجزة القرآن الكريم.. كل شئ يدل على نبوته صلى الله عليه وسلم، أخلاقه، أمته، الأخبار الغيبية، الدعاء المستجاب، ما هو موجود بأيدي أهل الكتاب )أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُو إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(. تدبر ذلك تزدد إيماناً ويقيناً بعظمة هذا الدين، ولا تملك معه إلا أن تدعو وتقول: "رب توفني مسلماً وألحقني بالصالحين...... اللهم اجعل صمتنا فكراً ونطقناً ذكراً ونظرنا عبراً.
==============
مائة مليار دولار ليدخل الإسلام
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).. هذه هي الآية الأولى من سورة القمر، ومن العجب أنها كانت سببا في إسلام رجل صار فيما بعد رئيسا للحزب الإسلامي البريطاني.. فكيف كان ذلك؟!!
في مقابلة تلفزيونية مع عالم الجيولوجيا المسلم الأستاذ الدكتور زغلول النجار، سأله مقدم البرنامج عن هذه الآية: هل فيها إعجاز قرآني علمي؟ فأجاب الدكتور زغلول قائلا: هذه الآية لها معي قصة. فمنذ فترة كنت أحاضر في جامعة(كارديف) (Cardif) في غرب بريطانيا، وكان الحضور خليطا من المسلمين وغير المسلمين، وكان هناك حوار حي للغاية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وفي أثناء هذا الحوار، وقف شاب من المسلمين وقال: ياسيدي هل ترى في قول الحق تبارك وتعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في القران الكريم؟ فأجابه الدكتور زغلول قائلا: لا.. لأن الإعجاز العلمي يفسره العلم، أما المعجزات فلا يستطيع العلم أن يفسرها، فالمعجزة أمر خارق للعادة فلا تستطيع السنن أن تفسرها.. وانشقاق القمر معجزة حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد له بالنبوة والرسالة والمعجزات الحسية شهادة صدق على من رآها، ولولا ورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان علينا نحن مسلمي هذا العصر أن نؤمن بها ولكننا نؤمن بها لورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأن الله تعالى قادر على كل شيء.
معجزة نبوية
ثم ساق الدكتور زغلول قصة انشقاق القمر كما وردت في كتب السنة فقال: قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بخمس سنوات جاءه نفر من قريش وقالوا له: يامحمد إن كنت حقا نبيا ورسولا فأتنا بمعجزة تشهد لك بالنبوة والرسالة، فسألهم: ماذا تريدون؟ قالوا: شق لنا القمر، على سبيل التعجيز والتحدي.. فوقف المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن ينصره في هذا الموقف فألهمه ربه تبارك وتعالى أن يشير بإصبعه الشريف إلى القمر، فانشق القمر إلى فلقتين، تباعدتا عن بعضهما البعض لعدة ساعات متصلة، ثم التحمتا.. فقال الكفار: سحرنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لكن بعض العقلاء قالوا إن السحر قد يؤثر على الذين حضروه، لكنه لا يستطيع أن يؤثر على كل الناس، فانتظروا الركبان القادمين من السفر، فسارع الكفار إلى مخارج مكة ينتظرون القادمين من السفر، فحين قدم أول ركب سألهم الكفار: هل رأيتم شيئا غريبا حدث لهذا القمر؟ قالوا: نعم، في الليلة الفلانية رأينا القمر قد انشق إلى فلقتين تباعدتا عن بعضهما البعض ثم التحمتا. فآمن منهم من آمن وكفر من كفر.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز: [اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ]... إلى آخر الآيات التي نزلت في ذلك .
قصة واقعية :(3/66)
يقول الدكتور زغلول: وبعد أن أتممت حديثي وقف شاب مسلم بريطاني عرف بنفسه وقال: أنا "داوود موسى بيتكوك" رئيس الحزب الإسلامي البريطاني، ثم قال يا سيدي.. هل تسمح لي بإضافة؟ قلت له: تفضل قال: وأنا أبحث عن الأديان (قبل أن يسلم)، أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، فشكرته عليها وأخذتها إلى البيت، وحين فتحت هذه الترجمة، كانت أول سورة أطلع عليها سورة القمر، وقرأت: اقتربت الساعة وانشق القمر، فقلت: هل يعقل هذا الكلام؟ هل يمكن للقمر أن ينشق ثم يلتحم، وأي قوة تستطيع عمل ذلك؟ يقول الرجل: فصدتني هذه الآية عن مواصلة القراءة، وانشغلت بأمور الحياة، لكن الله تعالى يعلم مدى إخلاصي في البحث عن الحقيقة، فأجلسني ربي أمام التلفاز البريطاني وكان هناك حوار يدور بين معلق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين، وكان هذا المذيع يعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشديد على رحلات الفضاء، في الوقت الذي تمتلئ فيه الأرض بمشكلات الجوع والفقر والمرض والتخلف، وكان يقول: لو أن هذا المال أنفق على عمران الأرض لكان أجدى وأنفع وجلس هؤلاء العلماء الثلاثة يدافعون عن وجهة نظرهم ويقولون: إن هذه التقنية تطبق في نواحي كثيرة في الحياة، حيث إنها تطبق في الطب والصناعة والزراعة، فهذا المال ليس مالا مهدرا لكنه أعاننا على تطوير تقنيات متقدمة للغاية.
وفي خلال هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر باعتبار أنها اكثر رحلات الفضاء كلفة فقد تكلفت أكثر من مائة ألف مليون دولار، فصرخ فيهم المذيع البريطاني وقال: أي سفه هذا؟ مائة ألف مليون دولار لكي تضعوا العلم الأمريكي على سطح القمر؟
فقالوا: لا، لم يكن الهدف وضع العلم الأمريكي فوق سطح القمر كنا ندرس التركيب الداخلي للقمر، فوجدنا حقيقة لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها ما صدقنا أحد. فقال لهم: ما هذه الحقيقة؟
قالوا : هذا القمر انشق في يوم من الأيام ثم التحم .
قال لهم: كيف عرفتم ذلك؟
قالوا: وجدنا حزاما من الصخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه، فاستشرنا علماء الأرض وعلماء الجيولوجيا، فقالوا: لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم.
يقول الرجل المسلم رئيس الحزب الإسلامي البريطاني: فقفزت من الكرسي الذي كنت أجلس عليه وقلت: معجزة تحدث لمحمد (صلى الله عليه وسلم) قبل ألف وأربعمائة سنة، يسخر الله تعالى الأمريكان لإنفاق أكثر من مائة ألف مليون دولار لإثباتها للمسلمين؟!! لا بد أن يكون هذا الدين حقا. يقول: فعدت إلى المصحف، وتلوت سورة القمر، وكانت مدخلي لقبول الإسلام دينا.
============
زحام المحبة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد..
فهل من الممكن أن ترتفع الهمة ونزاحم الأفاضل في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المحبة التي أورثتهم صدق المتابعة، وبذلك كانوا سادة وقادة، ودانت لهم الممالك، وفتحوا قصور كسري وقيصر، وهل من الممكن أن نتجاسر ونردد ما قاله أبو مسلم- رحمه الله- "أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا، فوا لله لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا ورائهم رجالاً". وأبو مسلم الخولاني كان مجاب الدعوة، وهو من أكابر التابعين، وقد صنع الله به مثل صنيعه بنبي الله إبراهيم، فقد أضرم الأسود العنسي له النيران باليمن، وقذفه فيها، فكانت النار برداً وسلاماً عليه.. وكان الأسود قد أدعى النبوة، وسأل أبا مسلم: أتشهد أن محمداً رسول الله قال له: نعم، فقال: أتشهد أنى رسول الله فقال أبو مسلم: لا. فصنع له هذه النيران، فلما نجاه الله منها قال أهل المملكة للعنسي: إنك إن تركت أبا مسلم في بلادك، أفسدها عليك، فأمره بالرحيل، فوصل أبو مسلم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو مسلم لا يجالس أحداً يتكلم في شئ من أمر الدنيا إلا تحول عنه، وكان يقول: إن لكل ساعة غاية، وغاية كل ساعة الموت فسابق ومسبوق.
وكانوا لربما أرادوا الغزو فيقول لأصحابه أجيزوا بسم الله، يعني فوق الماء، من ذهب له شئ فأنا له ضامن، فإذا وقعت مخلاة، أحدهم وجدها معلقة بأعواد النهر، وكان الصبيان يسألونه أن يحبس الطير عليهم، فيدعو الله فيحبسه عليهم.
لقد رفض أبو مسلم أن يستأثر الصحابة الكرام- رضى الله عنهم أجمعين- برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يزاحمهم في محبتهم له صلوات الله وسلامه عليه - لقد أدرك معنى المنافسة الشريفة وأنه لا إيثار في القرب والطاعات، وأن السبق سبق الفضل والصفات، وأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وكما قالوا: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا، فنافسه في الآخرة، وإن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ولقد علت همة القوم فكانت هذه هي غيرتهم ومنافستهم، وانحطت همة آخرين فصار التنافس على المناصب والمال والجاه والسلطان وتبع ذلك صور الغل والحقد والحسد. كان حاتم الأصم يقول: رأيت الناس يعودون إلى التجارات والحرف والأنساب والأموال ونظرت في قوله تعالى ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( "الحجرات:13" قال: فعملت بالتقوى حتى أكون كريماً عنده، ولم يقل سبحانه إن أكرمكم عند الله أقواكم أو أجملكم أو أكثركم عشيرة.(3/67)
وهذه الأمة رغم تأخرها في الزمان عن الأمم السابقة، إلا أنها خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ( "آل عمران:110".. لقد كان أبو مسلم صاحب فقه وبصيرة وهمة عالية أدرك الباب الذي منه يدخل، وكيف يحوز الفضل بكلتا يديه، وعلى قدر أهل العزم تأتى العزائم.. لقد التف الأفاضل حول النبي صلى الله عليه وسلم يفتدونه بالغالي والرخيص ويقدمونه على الأهل والمال بل وعلى أنفسهم، فهذا أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- يرى عقبة بن أبى معيط- أشقى القوم- وقد خنق النبي صلى الله عليه وسلم بطرف ردائه وهو ساجد أمام الكعبة، فيحل وثاقه، ويقول: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم"، فيترك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهالون ضرباً على أبي بكر حتى أغمى عليه، وسقطت غدائره، فلما أفاق قال تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ماذا فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قال له عمر - رضى الله عنه - يوم الحديبية علام نعطي الدنية في ديننا، أولسنا على الحق، أوليس رسول الله حقاً، فقال له أبو بكر: الزم غرزه فإنه على الحق.. وجاءه المشركون يوم الإسراء يقولون له: إن صاحبك يزعم أنه قد عرج به إلى السماء، فما زاد على قوله: إن كان قال فقد صدق، فوالله إني لأصدقه في أكثر من ذلك، أصدقه في خبر السماء.. ثم يوم الهجرة جعل أبو بكر يتذكر الرصد فيمشى أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ويتذكر الطلب فيتحول خلفه، ويسيرعن يمينه تارة وعن شماله تارة أخرى، كل ذلك مخافة أن يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بأذى، ولما دخل الغار جعل يسد الشقوق بيديه ورجليه وثوبه ويقول: إن أهلك أهلك وحدي وإن تهلك تهلك معك الدعوة.. وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب، فانتصب أبو بكر يقول: أينقص الإسلام وأنا حي، ولما راجعه البعض في إنفاذ بعث أسامة، قال: والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما قبض على خبيب بن عدى سألهم أن يصلى لله ركعتين ثم علقوه على الخشب لقتله، فقال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو ولا أرى وجه أحد يقرئ رسولك مني السلام، فأقرأه مني السلام، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءه وقال: هذا جبريل أتاني يقرئني من خبيب السلام، فهذا رجل همه في لحظاته الأخيرة أن يبعث بسلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ما يطلبه أهل البطالة.
وكان زيد بن الدثنة معه في رحلة الدعوة، قبض عليه المشركون وخرجوا به إلى التنعيم لقتله، فسأله أبو سفيان: أما تحب يا زيد أنك في أهلك وولدك، ومحمد هنا تضرب رقبته، فقال له زيد: والله ما أحب أنى في أهلي وولدي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه يشاك بشوكة، فقال أبو سفيان وكان يومئذ مشركاً: فوالله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فتقدم أنس بن النضر وتبرأ إلى الله مما جاء به المشركون، واعتذر إليه سبحانه مما فعله أصحابه، وسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فقال: علام الحياة بعده، قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه، وهى كلمة تنقش على القلوب، وتصلح منهاجاً للحياة وتعبيراً عن المحبة التي تورث الاتباع الصادق.
وكان مصعب بن عمير صاحب اللواء يوم أحد، قطعت يده اليمنى ثم اليسرى، فأمسك اللواء بعضديه، فأنفذه ابن قميئة بحربة، فوقع وهو يقول: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشاكرين".
إن المحبة والانقياد والاتباع والوفاء معان لا تقتصر على الحياة دون الممات، وهذه المحبة لم تقتصر على الرجال دون النساء، فقد يأتي المرأة خبر وفاة أبيها وأخيها وزوجها فتسأل ماذا فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اطمأنت على حياته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (آي هينة) ولما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة ليزيد في هدنة الحديبية دخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين، فطوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم دونه، فقال يا بنية أرغبت بهذا الفراش عنى أم بي عنه، فقالت: بل هو فراش رسول الله، وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: لقد أصابك بعدى شر.
إن الصحابة خيار أولياء الله المتقين، وكل صحابي أفضل من كل من جاء بعده، ويكفيهم شرف الصحبة- رضوان الله عليهم أجمعين، والرجولة الحقة أن نحاول اللحاق بهم ونحرص على مزاحمتهم في محبتهم لرسول الله، ولذلك قال أبو مسلم: "لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم خلفوا ورائهم رجالاً"، وهذه الرجولة المذكورة هي وصف من علت همته واستقامت طويته وسابق الريح في مرضاة ربه، وهى الواردة في مثل قوله تعالي: )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًاِ( ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإقامة الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ( ) فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(.(3/68)
لقد صار كثير من أبناء المسلمين حربا على إسلامه وعلى دينه يستهزئ باللحية والنقاب وبتقصير الثوب وبأحكام السلام، والبعض إذا ما ذكر السنة فعلى جهة الاستخفاف وكأنها الأمر المستحب الذي لا يؤبه له ولا قيمة له!! والبعض علاقته بالإسلام عبارة عن الاحتفال بالمولد النبوي وسائر الأعياد المبتدعة المخترعة يصنع ذلك تارك الصلاة والمتبرجة ومن يحكم بغير ما أنزل الله، بل فريق من المسلمين يرى قضية التدين مسألة اختيارية!! وبينما نرى التوقير والاحترام لقول الاقتصادي العالمي، والطبيب المشهور، نجد الاستهانة بهدى النبي صلى الله عليه وسلم مع إدعاء المحبة، ولهؤلاء نقول: ) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه( فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، والمحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يقتفي آثاره قولاً وعملا.
قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تشعرون(.. إن رفع الصوت على هدى النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته أو بعد وفاته من محبطات الأعمال، فهل تأدبنا بأدب النبوة، وهل تأسينا بسلفنا الصالح في محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم أنها شعارات تحتاج لواقع ورصيد، بحيث يقال لأهلها:)قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين(َ.
اتبعوا ولا تبتدعوا
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يحذر من البدع ويقول: "إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وقال عمر - رضى الله عنه- كل محدثة بدعة وإن رآها الناس حسنة "، وقال بن مسعود - رضى الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم عليكم بالأمر العتيق"، وقال الشافعي - رحمه الله:" من استحسن فقد شرع".. ولم يسمح ابن عمر - رضى الله عنهما - للرجل الذي عطس، أن يتجاوز السنة بقوله: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله" فقال ابن عمر - ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا عطس أحدكم فليحمد الله، ولم يقل وليصل على رسول الله"... هكذا كانت محبة القوم، وهكذا كانت حيطتهم لعدم خدش جناب التشريع، والخير كله في اتباعهم عسى أن يغير ربنا حالنا لأحسن الأحوال وأن يمكن لنا ديننا الذي أرتضى لنا وأن يبدلنا من بعد خوفنا أمنا هو سبحانه ولى ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
================
جرح الكرامة.. وفتح عمورية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد ..
فأعداء الإسلام قديماً وحديثاً يحرصون على إلحاق الهزيمة النفسية بهذه الأمة حتى يتيسر لهم السيطرة على البلاد والعباد، فتراهم يهولون من قدرتهم، ويهونون من شأن المسلمين، حتى نرفع رايات الاستسلام قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (سورة آل عمران:175).
وقد يشيعون شائعة الأمن حتى نسترخي، ويشيعون شائعة الخوف تارة أخرى حتى ننكسر ونلقي سلاحنا، يقول تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). والواجب علينا أن نعتصم بمعاني الإيمان في كل حين وآن، حتى نستعصي على الفتن ما ظهر منها وما بطن: (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم).
جرائم في كل مكان
والمطالع للأحداث والمتابع لها، يدمى قلبه، ويصيبه الغم والحزن لاغتصاب المسلمات هنا وهناك وإكراه الرجال على الشذوذ الجنسي بالإضافة لقتل الشيوخ الركع والبهائم الرتع والأطفال الرضع وهدم المساجد على من فيها.
وعلى الرغم من حرص الأعداء على التعتيم الإعلامي الرهيب، إلا إنهم ينشرون أخبار وصور ما يحدث وقد يظهر الأمر بمظهر السبق الصحفي، ولن تعدم تسريبهم لهذه الأمور، وتعقيبهم على هذا الإجرام بأنه موضع تحقيق!! وأن من مارس ذلك أو ارتكبه سيتوجه إليه خطاب تأنيب!! أو منع ترقيته!!
جرائم يندى لها الجبين تخالف الشرائع والأعراف والقوانين، شارك فيها رجالهم ونساؤهم، وهذا ليس بعجب فكل إناء بما فيه ينضح، فهذه هي ديمقراطيتهم وحرياتهم، وهذا هو الرخاء الذي يقدمونه للمسلمين!!
وواقع الأمر وحقيقته أن هؤلاء لا يحبوننا، وينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ويريدون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا حتى لا تقوم لهذه الأمة قائمة ولا نستطيع رفع رؤوسنا.. وهم كما وصفهم خالقنا وخالقهم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) .
إنهم بنشرهم لهذه النجاسات والرذائل يريدون تحطيم معنويات هذه الأمة وإحداث العاهات النفسية لها، فما حدث لإخواننا وأخواتنا هنا وهناك سيحدث لنا حتما لا محالة، وهذه هي الرسالة التي يريد الأعداء إيصالها لنا، حتى نقول أكلنا يوم أكل الثور الأبيض، تسلط عجيب وقحة لا مثيل لها حالهم ينطق ويقول: "من أشد منا قوة"؟!(3/69)
والمحزن أنه انطلت حيل الأعداء على الكثرة منا، فكانت الموالاة للكفرة الفجرة، وظهر العجز والفشل والخور والضعف في حياتنا، وانكفأ الكل على نفسه يفكر في مصلحته ومشاكله بزعمه، متناسيا معاني الإيمان والأخوة، وجاهلاً في الوقت ذاته بمصالحه الحقيقية، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم وفى الحديث: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" رواه البخاري ومسلم. وفى الحديث أيضا: "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" رواه أحمد والترمذي وحسنه . وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه" رواه البخاري ومسلم .. "والمؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم"
ولذا كان الواجب أن نشعر بشعور الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأن نسعى في رد العدوان والظلم ليس فقط عن المسلمين، بل وعن غيرهم ما وسعنا الأمر، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم حلفا في الجاهلية في دار عبد الله بن جدعان، وكان الحلف لنصرة المظلوم قرشيًا كان أو غير قرشي، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم "لودعيت به في الإسلام لأجبت"، فكيف يكون الأمر إذا تعلق العدوان باغتصاب مسلمات وعلى أيدي الكفرة الفجرة؟!
صرخة ولا معتصم
لقد فتح المعتصم عمورة ملبيا صرخة امرأة مسلمة استصرخت به، وبعد ما فتحها قال: أين التي تستصرخ، هكذا كانت النخوة والعزة الإيمانية.. ومن قبل وقع القتال بين المسلمين ويهود بنى قينقاع بسبب مسلمة كشف سوءتها يهودي فصرخت، وكان من حديث بنى قينقاع أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ولولا تدخل المنافق ابن سلول لقطع رؤوسهم جميعا.. كل ذلك بسبب احتيالهم لكشف سوءة امرأة مسلمة .. فما بالنا ضاعت عنا النخوة واصبنا بالبلادة وعدم الحس الأخوي؟
قد نعتذر اليوم عن عدم القدرة على نصرة المسلمين ومواجهة الأعداء والانتقام منهم، فلماذا لا نأخذ بأسباب القوة ونعود لإسلامنا ونطبق شريعة ربنا، فهذا هو مصدر عزنا وسبب تمكيننا (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (سورة محمد:7)
فليكن قول أحدنا للأخر: إن الله معنا، ولن يكون الله معنا إلا إذا كنا نحن معه، ولماذا لا نجمع صفوفنا ونحرص أن نكون يداً واحدة على عدو الله وعدونا .
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... .. ... وإذا افترقن تكسرت آحاداً
والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والرابطة يجب أن تكون إيمانية، نرتفع بها على النعرات الوطنية والقومية والشعوبية فحينئذ يحقق لنا سبحانه موعوده الصادق، حين نستعلي على الحدود المصطنعة والتشريعات الوضعية التي قطعت ما أمر الله به أن يوصل.
ونحن على يقين أن الظلم ظلمات، وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وعلى الباغي تدور الدوائر. وأن من سل سيف البغي قتل به "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً"، ومن سلب نعمة غيرِه، سلب نعمته غيرُه، فالجزاء من جنس العمل، وسهام الأسحار نافذة، وعند الله غداً تجتمع الخصوم... أتى رجل لأحد العلماء يقول له: إن بني فلان قد اجتمعوا علي وصاروا يداً واحدة، فقال يد الله فوق أيديهم. قال: إنهم كثر. قال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. قال: إن لهم مكراً. قال: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وهاهي دعوات المظلومين المسحوقين ترتفع، والله سبحانه يقول: وعزتي وجلالي لأجيبنك ولو بعد حين.
وقد يكون العجز والضعف من مديد العون بنفس أو مال، ونتعلل بأن الواجبات تسقط بالعذر والعجز وعدم الاستطاعة (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) ( سورة البقرة:286)، ولكن هل هذا يحول دون المشاركة بدعوات صالحات في وقت من أوقات الإجابة - وما أكثرها - والسعي الحثيث في تربية النفس والأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمعصية الجيش أضر عليه من سيوف أعدائه، والنصر عقبى الصابرين، فلا استهانة بمعصية، ولا تهاون في طاعة حتى وإن كانت مستحبة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوانقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَو زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (سورة المزمل:4).. ويسعنا توضيح المفاهيم، حتى نكون على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، علما ًوعملا ً واعتقاداً، ولابد من جهاد كبير لإزالة الشبهات المتعلقة بمفهوم الولاء والبراء وغيره، وحتى نعتقد اعتقاد الطائفة الظاهرة الناجية المنصورة، وإلا فالفرق النارية المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة - هي من أعظم أسباب الخذلان وتمكين الأعداء من رقاب البلاد والعباد بالإضافة إلى أنها لا تصلح لإقامة خلافة على منهاج النبوة.(3/70)
كلنا ثقة ويقين في انتصار هذه الأمة على أعدائها، وسيصل المسلمون بإذن الله بيت المقدس بعد أن يتم فتحه، ويستنطق الحجر والشجر، فيقول: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، فهذا خبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُو إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (سورة النجم:3ـ4).. وهذا يسلتزم أن يعود المسلمون أقوياء في دينهم وفي معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم، يعودون إلى عقيدتهم الصافية، فتعود لهم الخلافة الراشدة، ويعود لهم عزهم ومجدهم المفقود، وما ذلك على الله بعزيز (ولتعلمن نبأه بعد حين) فلا تيأسوا من روح الله فإن جنده هم الغالبون، وحزبه هم المفلحون ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
====================
ولا عزاء.. للغافلين
ألف مبروك لمصر .. أخيرا اكتست الشفاه بالبسمات , وامتلأت الأجواء بالزغاريد , وتبادل المواطنون التهاني وأكواب الشربات والقبلات والكلاكسات حتي آخر نقطة ماء في البطارية .
لكن فئة قليلة منا اندهشوا لما يحدث حولهم , مساكين , لم يتابعوا القضية من بدايتها , ولذلك عندما تجرأوا وسألونا في دهشة عما حدث .. نظرنا إليهم شذرا ولم نرد عليهم علي اعتبار أنهم ليسوا وطنيين ولم ينشغلوا مثلنا بالتحدي المصيري الذي فزنا في نهايته علي دولة الكويت . سألونا أسئلة هايفة : لا تتفق مع جلال المناسبة : هل فازت مصر بتنظيم كأس العالم؟ لم نرد .. فعادوا يسألون هل أعلنت أمريكا انسحابها من العراق؟ هل قامت حماس بعملية عظيمة لهدم الجدار الواقي راح ضحيتها مئات الإسرائيليين؟ هل اتفق الزعماء العرب علي انعقاد القمة؟ هل صرخ زعماؤنا في وجه أمريكا بكلمة لا؟ . مالنا احنا ووجع الدماغ ده ؟ !. لكننا أشفقنا عليهم في النهاية وقررنا التنازل وإشراكهم في فرحتنا . قلنا لهم : الحمد لله محمد عطية فاز علي بشار باكتساح !
زادت دهشتهم وسألوا : محمد عطية مين ويطلع إيه بشار؟ . قلنا لهم : محمد عطية كان ضمن مجموعة كبيرة من الشباب والفتيات يمثلون الوطن العربي شاركوا جميعا في برنامج ستار أكاديمي بمحطة L.B.C اللبنانية , وخضعوا جميعا لتدريبات في التمثيل والغناء والرقص والإتيكيت , وكان الجمهور يصوت لهم من أنحاء الوطن العربي وهو يتابعهم وهم يعيشون معا خلطبيطة في بيت كبير , غرقان في الكاميرات .. الحمام فقط هو الذي نجا من زرع الكاميرا . وهكذا كان الجمهور من كل بلد يصوت حتي وصلت التصفية في الأسبوع الأخير من البرنامج بين محمد عطية المصري العظيم ابن طنطا وبين الولد بشار الكويتي , ولأن الكويت عملتها معركة بين بلدين من أجل فوز بشار لدرجة أنهم عيرونا بالفول والطعمية وبأننا تربية حواري , انتفض المصريون جميعا وقرروا الانتصار في المعركة ودعم محمد عطية الذي فاز باكتساح ورفع علم مصر في ستار أكاديمي .
هذه المرة هم الذين نظروا إلينا شذرا قبل أن يتركونا وهم يشيرون بأيديهم حول رؤوسهم بما معناه أننا ولا مؤاخذة ما نخوليا طحن .
في طنطا كانت الصورة أقرب إلي الجنون . قبل إعلان النتيجة كان أهالي طنطا يقفون علي أطراف أصابعهم يلفهم الصمت والقلق , وفور إعلان فوز عطية علي بشار هبط الجميع من المنازل إلي الشوارع في صيحات هيستيرية وتجمع الناس في مواكب أتت من كل صوب وحدب وتوجهت إلي أشهر مكان في طنطا . لا ليس مسجد السيد البدوي ولكن منزل محمد عطية .
ومن المؤكد أن هناك عددا من الناس لم يكونوا من المتابعين لهذه المهزلة الفضائية لكن لأن الفرحة تنتقل بالعدوي كان الجميع يرقص طربا ولم يكن ناقصا إلا إعلان يوم الجمعة الماضية عيدا قوميا لمحافظة الغربية مع عمل تمثال .. لأ .. تمثالين بالحجم الكبير لابن طنطا البار محمد عطية .
ولم يكن غريبا أن ينادي أحد أعضاء مجلس الشعب بتشكيل وفد شعبي رسمي يخرج إلي مطار القاهرة لاستقبال محمد عطية استقبالا مهيبا يليق بإنجازه علي أن يتحرك الموكب رأسا إلي طنطا ..
هذه الفضيحة العربية ليست لها علاقة بكدبة إبريل .. بل حدثت لتعرينا أكثر وأكثر , وتعيد مهزلة نجاح المطربة الأردنية ديانا كرازون علي ولد لبناني فأقام اللبنانيون الدنيا ولم يقعدوها لمجرد خسارة المعركة أمام بنت أردنية . هذه هي معاركنا التي تليق بالأجيال الحالية من العرب الأشاوس , وهذه هي سيوفنا الخشبية التي نحارب بها بعضنا البعض , لدرجة أن الشعب الكويتي أعلن غضبه من الشعب السعودي لأنه صوت للمصري مع أن دولته لا تنتمي الي مجلس التعاون الخليجي !
لكن مهما يكن من أمر هذه الهيافة غير المسبوقة , لا يجب أن ننسي توجيه التهنئة لشعب طنطا الذي أصبح يتميز عن بقية شعب مصر في أنه سيصبح محط الأنظار.. وكذلك للأمة الإسلامية بظهور هذا الفاتح العظيم والذي هو خلف هذا الزمان لمحمد الفاتح .. ولا عزاء للمسلمين.
================
المراوغون
يعرف كل من يصد عن الحق ويجادل فيه بغير علم أنه مراوغ إذ لو كان يريد الحق لخضع لبيناته، لكن الهوى يعمي ويصم ويورث صاحبه كبرا ينتفخ به فيعرض إعراض الجهول جهلا مركبا في عجرفة لا يكتفي فيها بإضلال نفسه بل يناضل لإضلال غيره "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير* ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله" الحج:9,8.(3/71)
وقوله "ثاني عطفه" حال من ضمير الفاعل المستكن في: يجادل: أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه: أي لاوى عنقه عن قبول الحق استكبارا وإعراضا وهذا الدعاة إلى الضلال في جدالهم بلا عقل صحيح، ولا نقل صحيح صريح، بل بمجرد الرأي والهوى.
"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا" النساء:61
إذ يأبى الله إلا أن يفضحهم بإقامة الحجة عليهم بدعوتهم إلى صريح الحق "ما أنزل الله وإلى الرسول" لكنهم من فرط غبائهم وسخافة عقولهم "يصدون" في مدافعة بمخاشنة تظهر خباياهم في رد الحق وغمط أهله.
وأمثال هؤلاء يكفينا فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "اخسأ فلن تعدو قدرك". ونحن بحمد الله نعرف قدرهم...
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبتْ .... فدلَّ عليها صوتُها حيةَ البحر
وهذا الضجيج العالي، وهذه الأسماء التي انبثت فجأة فأصبحت تخايل عيون الناس يوما بعد يوم هم كما يقول الأستاذ/ سيد - رحمه الله- : يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة- هم الذين يريدون سلب "الإنسان" خصائص فطرته، وخصائص "إنسانيته" التي بها صار إنسانا. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته!.
وهم الذين يحيكون ويروجون للمخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة. وقد فقدت مقوماتها الإنسانية !.
إن العري فطرة حيوانية، ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان. وإن رؤية العري جمالا هو انتكاس في الذوق البشري قطعا، والمتخلفون في إفريقية عراة، والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة !.
فأما في الجاهلية الحديثة "التقدمية" فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى "الحضارة" بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها.
والعري النفسي من الحياء والتقوى - وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية، وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية الدربة الموجهة أن توسوس !.
إنهم بكل بساطة ووضوح أبواق لفتنة الشيطان "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما من سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون" الأعراف:27
روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر، قال : "لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ".
ـــــــــــ
محمد التميمي
=============
ملكنا هذه الدنيا قرونا
ملكنا هذه الدنيا قرونا .. ... .. وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء .. ... .. فما نسى الزمان ولا نسينا
حملناها سيوفا لامعات .. ... .. غداة الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يوما.. ... . رأيت الهول والفتح المبينا
وكنا حين يرمينا أناس .. ... نؤدبهم أباة قادرينا
وكنا حين يأخذنا ولي .. ... ..بطغيان ندوس له الجبينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسا .. ... ..فما نغضي عن الظلم الجفونا
وما فتئ الزمان يدور حتى .. ... ..مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي ..وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر .. ... .. سؤال الدهر أين المسلمون؟
ترى هل يرجع الماضي فإني.. ... أذوب لذلك الماضي حنينا
بنينا حقبة في الأرض ملكا .. ... . يدعمه شباب طامحونا
شباب ذللوا سبل المعالي.. ... .. وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأنبتهم نباتا .. ... . كريما طاب في الدنيا غصونا
هم وردوا الحياض مباركات .. ... . فسالت عندهم ماء معينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة .. ... يدكون المعاقل والحصونا
وإن جن المساء فلا تراهم .. .... من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالى .. ... ولم يسلم الى الخصم العرينا
ولم تشهدهم الأقداح يوما .. ... وقد ملؤوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعات .. .... ولكن العلا صنعت لحونا
ولم يتشدقوا بقشورِ علْمٍ .. .... ولم يتقلّبوا في الملحدينا
وقد دانوا بأعظمهم نضالا .. .... وعلما، لا بأجرئهم عيونا
فيتحدون أخلاقا عذابا .. ... ..ويأتلفون مجتمعا رزينا
فما عرفوا الخلاعة في بنات .. ... ..ولا عرفوا التخنث في بنينا
ولم يتبجحوا في كل أمر .. .... .خطير، كي يقال مثقفونا
كذلك أخرج الإسلام قومي .. ... ..شبابا مخلصا حرا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تبنى .. ... . فيأبى أن يقيّد أو يهونا
دعوني من أماني كاذبات .. ... . فلم أجد المنى إلا ظنوناً
وهاتوا لي من الإيمان نور .. ... .. وقووا بين جنبيّ اليقينا
أمد يدي فأنتزع الرواسي .. ... .. وأبني المجد مؤتلقاً مكينا
ـــــــــــ
هاشم الرفاعي
===============
لكِ اللهُ يَا قُدْسُ
النَّفْسُ بِالنَّفْسِ شَرْعُ الذِّكْرِ نَتْلُوهُ.. ... ..والحَقّ دَيْنٌ عَلى الأَحْرَارِ فَاقْضُوهُ(3/72)
لا تُدْبِروا مِنْ عَدُوٍّ دَاسَ مَوطِنَنَا.. ... ..هَيَّا إِلى سَاحَةِ الهَيْجَاءِ فَارْمُوهُ
هُمُ الْيَهُودُ مَدى الأَزْمَانِ لَعَنْتُهُمُ.. ... ..عَاثُوا فَسَادًا وَعَهْدُ اللهِ خَانُوهُ
انْظُرْ إِلى عَهْدِهُمُ لِلْمُصْطَفَى نَقَضُوا.. .. وقادَهُمُ مَكْرُ شَيْطَانٍ أَطَاعُوهُ
مَاذا يُقالُ عَنِ التَّوْحِيدِ رَايَتِنَا؟.. ... ..غَيْظٌ يُخَالِطْهُمُ فَالْغَيُّ يَأْتُوهُ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمُُ فَالنُّورُ مؤتلقٌ.. .. يَهْدِي الْوَرى وَجَمِيع الْخَيْرِ يَجْنُوهُ
فَأَيْنَ هَيْكَلُكُمُ هَذَا الذِي ذَهَبتْ.. ... .. أَطْلالُهُ وَأَتَى الْقُرْآن يَتْلُوهُ؟
القُدْسُ فِي القَلْبِ وَالأَشْواقِ تُلْهِبُنَا.. والوَجْدُ يَكْوي الحشا فالسِّلمَ ألْقُوهُ
فَهَلْ رأوا مَقْتَلَ الأَطْفَالِ يُسْعِدهُم؟!.. .. فَالْحَقُ يَصْرُخُ .. رَبَّاهُ وَيَدْعُوهُ!
هَذَا هُوَ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى يُعَاتِبُنَا.. ... ..هَذِي الْقُرُودُ لَرَوْضِ الطُّهْرِ دَاسُوهُ!
أَيْنَ الأَوَالي وَسَيْفُ الْحَقِّ يَرفَعُنِي؟.. ... تَعْلُو الْمَهَابَة فَوقَ الْقُدْسُ فارووه
مِنْ كُلِّ عِزٍّ لَنَا وَامْلُوا مَقَالَتَكُم.. ... ..إِنَّ الْعَدُوَّ بِمَكْرٍ جَاءَ فَاسْقُوهُ
مَا عَادَ خَيْرٌ بُعَيْدَ الْقُدْسِ يُفْرِحُنَا.. ... ..فَلَنْ يَضِيعَ حِمَى، فَالْعَربُ عَلُّوهُ
لِلْقُدْسِ رَبٌّ فَيَحْمِيهَا بِقُدْرَتِهِ.. .. .هُوَ الْقَوِيُّ وَذُو الإِكْرَامِ فَارْجُوهُ
عَسَى الإِلَهُ يُعِيدُ الْمَجْدَ ثَانِيَةً.. ... . .لأُمَّةِ الْمُصْطَفَى بِالْفَضْلِ تَعْلُوهُ
هَيَّا جُنُودَ الْهُدَى ضُمُّوا صُفُوفَكُم.. ... ..نَحْوَ العُلا وَسِتَارَ الْبَين أَلْقُوهُ
ـــــــــــــــ
شعر: زكريا عبد المحسن
=================
فماذا بعد؟!
إذا ما الليلُ جَنَّ سَرَتْ هُمُومِي .. ... .. تَطُوفُ بِكُلِّ قَارعَةٍ تَجُولُ
وَحَارَ الفِكْرُ فِيما عَنَّ حَتَّى .. ... .. غَدَا لِلدَّمِعِ مِنْ وَجْدٍ هُطُولُ
تَذَكَّرتُ الْمَآسِي غَيْر أَنِّي .. ... .. لَمَّا نَلْقَاهُ مِن ذُلٍّ خَجُولُ
أَلاَ يَا صَاحِبِي دَعْ عَنْكَ لَوْمِي .. ... .. فَإِنِّي الْيَومَ مَكْلُومٌ نَحِيلُ
فَهَذَا الْحَقّ يَهْجُرهُ مُحِقٌّ .. ... .. فَلاَ حَقُّ يُرادُ وَلاَ رَسُولُ
وَأَخْلاقٌ تَلاشَتْ يَا رِفَاقِي .. ... .. مَكَارِمُ جَمَّةٌ بَاتَتْ تَزُولُ
وَإِنْ تَسْأَلْ عِنِ الأَقْصَى حَمَاسًا .. ... .. تَمَهَّلْ إِنَّهُ شَرْحٌ يَطُولُ
أَضَعْنَا عِزَّنَا يَوْمَ افْتَرَقْنَا .. ... .. وَصَارَ لِشَعْبِنَا ذَاكَ الأُفُولُ
نَهَضْنَا نَطْلُبُ الأَعْدَاءَ حلاّ .. ... .. فَوَاعَجَبَا تُفَنِّدُهُ الْعُقُولُ
مَلأْنَا الأَرْضَ شَجْبًا أَيَّ شَجْبٍ .. ... .. صَهِيلِ لا تُجَارِيهِ الْخُيُولُ
مَلاعِبُنَا مَيَادِينٌ كَحَرْبٍ .. ... .. وَلِلْجُمْهُورِ قَدْ دقَّتْ طُبُولُ
شَبَابُ الْعَرْبِ فِي عَبَثٍ وَلَهْو ٍ.. ... .. وَقَدْوَتُهُم قُرُودٌ أَوْ عُجُولُ
وَلَنْ نَلْقَى بِغَيْرِ الدِّينِ حَلٌ .. ... .. فَفِيه لِكُلِّ مُشْكِلَةٍ حُلُولُ
فَمَاذَا بَعْدُ يَا قَوْمِي فَهُبُّوا .. ... .. وَ لا يَثْنِكُمُ وَغْدٌ خَذُولُ!!
ـــــــــــــــ
شعر: راشد العودة
============== =
ورودٌ برائحة القطران..!!
سامحني قارئي الكريم على هذا العنوان السخيف ؛ فإنه نتيجة الوجع والإحباط ! عند أحد الدواوير رأيتها في السيارة، مع ثلاثٍ غيرها، حين التفتّ بشكل عفوي، فأذهلني الاندهاش، وأربكتني الهيئة : صبية خليجية حول الثامنة عشرة من عمرها، قد أسدلت خصلات شعرها التي تبرزها باستفزاز من أعلى الرأس إلى الحاجبين، وأمسكت السيجارة بين أصابعها، ساحبة نفسًا عميقًا، نفثته بعد ذلك من نافذة السيارة بتلذذٍ ظاهر، وتحدّ للمارة، تحد لكل من في الدوار المزدحم، كأنها تقول : أنا حرة، أنا سيدة نفسي، أنا أفعل ما أريد، أنا فتاة متطورة، عصرية، أكسر قيود المجتمع الذي لم يألف مرأى شابة (تُسَوْجر) أي تدخن!!
ارتعد جسدي - عجبًا واندهاشًا - فلأول مرة - منذ ست عشرة سنة قضيتها في هذا البلد الخليجي الطيب - أشهد فتاة خليجية تفعل ذلك علنًا.. ذلك يحصل سرًّا.. نعم.. في الحجر المغلقة.. نعم.. تفعله خواجاية على حل شعرها.. نعم.. تفعلة امرأة عربية ممن انزلقن إلى أكذوبة التحرر من زمن بعيد.. ربما.. لكن أن أرى شابة خليجية في مقتبل عمرها، وفي هذا البلد، تستفز من حولها في الشارع بهذا الشكل فإنه والله لأمرٌ مروع، في شعب يحتفي بالذوق العام، واحترام القيم، ويتحرز من المجاهرة بمثل هذه السلوكيات..
وأعاد هذا المشهد إلى ذكرياتي مناظر رأيتها لبعض المنقبات المستأجرات (للكذب والخداع) اللواتي شاركن في برامج إعلامية، وإحداهن تدير الميدالية في يدها بحركة ماجنة، وتصفق، وتصرخ، وتتمايل، وتبالغ في مرحها، وتتصرف تصرفات يستحيل أن تصدر عن منقبة، أو محجبة، أو سيدة تحترم نفسها حين تكون في محضر غرباء عنها.. فأيقنت أنهن لسن منقبات (ولا يحزنون) بل إنهن صاحبات قصدٍ ورسالةٍ لبسن النقاب تعمية على المشاهدين لحبك خطة خلاصتها تسميم الأجواء، وإفساد الفطر، وإدخال مناظر ومفاهيم (فاسدة ومفسدة) وأيقنت كذلك أن تغطية إحداهن وجهها بالنقات أمام المشاهدين للحظات لن يستر مطلقًا كونها لم تركع ركعة لله تعالى منذ سنين أو حتى طول حياتها، ولا تعرف شيئًا عن الإسلام وآدابه وأحكامه، بل إنها جعلته غطاءً للتمويه والمخادعة، أكثر منه غطاءً يدل على الالتزام والعفة وحسن الخلق .(3/73)
ظل مشهد الفتاة ذات السيجارة يطرق رأسي، فوضعت يدي على وجهي لعلي ألجم خيالي الذي خانني، وجمح بي - كعادته - ليريني : كيف سيكون حال المسلمات بعد عشرين أو ثلاثين سنة ـ بل ربما أقل منها ـ إذا صارت هذه البنت أمًا؟!. وظننت - وبعض الظن إثم - أن التي (تشرب) الآن سيجارة (مايكرو) وأن التي تعري نحرها لن تستنكف أن تجلس ابنتها على الشاطئ بالهيئة التي تعلمون..
وجمحت - كذلك - بي الفرضيات الغبية، وأنا أستعيذ بالله مما أجد وأحاذر .
ماذا لو خرجت لنا ورودٌ تنفث رائحة السجائر والشيشة.. هل سيشمها أحد ؟ وهل سيبقيها الزفت والقطران ورودًا ؟!
وماذا لو رفرت حولنا فراشة سوداء ذات منظر بشع.. هل سيتغزل في حسنها شاعر، أو تهفو لمرآتها نفس رقيقة ؟!
وماذا لو برز للعصافير والكناري أنياب كأنياب الأفاعي، وفكّ بارز مثل فك القرد.. هل سيقتنيها الناس، ويضعونها في بيوتهم في الحدائق والأقفاص؟!
وماذا لو صارت المرأة التي تتعرى، وترفض، وتتمرد هي المرجعية النهائية للقيم والفضائل، والعفة والشرف ؟!
وماذا لو رأينا كل بناتنا - لا قدر الله - على هيئة هذه الفتاة التي تزعم أنها - بالسيجارة - قد صارت عصرية، متمدنة، حرة في أن تنفث دخانها في وجوه العابرين؟! ألن يكون بطن الأرض للمحترمين خيرًا من ظهرها ؟!
اللهم رحمتك
ــــــــــــــ
الشيخ: عبد السلام البسيون
==============
ومن يستعفف يعفه الله
جملة قرأتها فجأة وأنا أتابع بعض البرامج التليفزيونية ، وبجوارها أرقام سهلة وكلمة أخرى -فقط- وتلاحقت صور اقشعر لها بدني وأغمضت عيني، تلخصت في تلك الكلمات وفي قبح هذه الصور الحضارة الغربية إنها حضارة فاجرة وهذه المرأة في تحريرهم ، تأكل بفرجها ومن ورائها قوادة حضارية تستغل شبكات الاتصالات الحديثة وتكنولوجيا العصر.
"الجنس" هو محور حياتهم والمرأة أداته الأولى ، الإعلانات كلها تبدأ بالجنس وتنتهي إليه وتقوم عليه، تخاطب الحيوان داخل صورة الإنسان، وبين "الفياغرا" و "البقعة" تقوم الدنيا ولا تقعد، حتى السياسة في البيت الأسود، ماذا وراءها ؟ ومن وراءها؟ أسئلة لاحقتني وأنا أتجاوز التفكير البدائي، وعدت أحاول الاكتشاف وأنا على يقين من النتيجة، لكن ماذا أفعل وأنا أريد أن أكون متجردًا للحقيقة .
ظهرت المرأة في حوار تليفزيوني سخيف تهزأ فيه بكل قيم الوجود، وماذا عليها؟! إنها "امرأة مثالية" هكذا قدرتها "دولة" تدفع لها هذه المرأة الضرائب كاملة عن بيوتها الفاجرة ومملكتها الداعرة القائمة على استغلال فقر الفتيات.
ولم يسلم "الأطفال" من غول "السياحة الجنسية" الذي يغتال طفولتهم.. إنه إكراه تجاوز "الإكراه الجاهلي" في بشاعته وواقعه وآثاره.
ثم تذكرت جمال الإسلام فيما روى البخاري عن القاسم: أن امرأة من ولد جعفر، تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار: عبد الرحمن ومجمع ابني جارية، قالا : فلا تخشين ، فإن خنساء بنت خِذامٍ أنكحها أبوها وهي كارهة ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
مع الفارق فهذا "إكراه" يمارسه "أب" في "زواج"، والآخر "إكراه" تمارسه "مجتمعات" في "زنا وسفاح"، في أسلوب من الحيل والخداع يحميه القانون وتظلله ـ فيما يزعمون ـ "حضارة" تستحي فيها "البكر" لأنه "لا بكر" و "لا صمت" و "لا بشاشة عرس" .. والمعاشرة الجنسية قبل وبعد الزواج ـ إن كان زواج ليست عندهم من العيب في شيء بل ربما تدل على الفضيلة والرجولة. ولا تعجب إذا علمت أن العرب والمسلمين ينفقون قرابة الخمسة مليارات في صيف بريطانيا، ولا تسل عن أحوالهم هناك فالفضائح تزكم الأنوف ويشيب من هولها الصبيان.
إن العالم يعيش فتنة "الجنس" بأحلاسها القذرة ونتن مجاريها وكأنه يسبح في بحيرات "اللاعفَّة" ليثبت في زعمه "الحرية".
أي "حرية" تلك التي تستغل براءة الطفل وتقتل طهره وتلوث عفته، والأرقام الخيالية لاستغلال الأطفال جنسيا تبشر بالسوء.
ثم هذا العالم الآخر الذي يقدر دخله بالمليارات من وراء الرذيلة المنظمة التي تمثلها نوادي وتديرها شركات وتفتح لها شواطئ وتنتج لها كميات ضخمة من الأفلام والمجلات، ويتسابق الناس في حمى الفاحشة لينال منها كل فاسق على قدر إمكاناته وليظن جهلا أنه يشبع رغباته وأنَّى له والنفس من السوء لا تشبع بل تطمع وتطمح. "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي" يوسف:53
إن "الفتنة الجنسية" مراودة تتنازع فيها الإرادات بين العفة والفجور في كيد لا يدفعه إلا "فاستعصم" بلجوء إلى الله، "قال ربِّ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين" يوسف:33
"ومن يستعفف يعفه الله" ، "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" يوسف:34
أما آن لما أن ندرك أن خطهم الساخن يقود إلى حر جهنم ولهيبها ... اللهم رحماك .
=============
ويبقى العود ما بقي اللحاء
الحياء من الإيمان، وهو عنوان من عناوين العفة والفضيلة، وهو مطلب شرعي وخلق إسلامي، من اتصف به كان له شعبة من شعب الإيمان، ومن ضل عنه أو فقده تردي حتى يكون من جملة الحيوان .. فلا عجب أن يجعله النبي خلق هذا الدين وسمته وعلامته ، وأن يقيم قواعده على أسس راسخة من التقى، وأصول متينة من الصلاح، ولهذا له صلى الله عليه وسلم: "الحياء كله خير". بل عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم من شأنه فقال: "إن لكل دين خُلُقًا، وخُلُق الإسلام الحياء".(3/74)
والحياء صفة من صفات الله تعالى كما في الحديث : ( إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر).. يقول ابن القيم رحمه الله: ( وأما حياء الرب تعالى من عبده ، فذاك نوع آخر ، لا تدركه الأفهام ، ولا تكيفه العقول والأفهام، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم ، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ، ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام ).
والحياء خلق من أخلاق النبي الكريم بل هو من أعظم أخلاقه وقد وصفه أبو سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم ( كان اشد حياء من العذراء في خدرها ) .. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحياء خير كله وأنه لا يأتي إلا بخير ، وعندما رأى رجلا من الأنصار يعظ أخاه في الحياء قال دعه فإن الحياء من الإيمان ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه خلق من أخلاق الجنة وصفة من صفات أهلها فقال (الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار )
وقد تعلم منه أصحابه الحياء حتى بلغوا منه الغاية وصار منهم من تستحي منه الملائكة كما جاء في وصف عثمان بن عفان رضي الله عنه من فم النبي صلى الله عليه وسلم (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة )
ماهية الحياء
والحياء في حق العباد هو تغير وانكسار وانقباض يعتري النفس الإنسانية من الخوف مما يعاب ، وقيل هو حفظ ماء الوجه من الابتذال .. قال البغدادي:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قل ماءه
حياءك فاحفظه عليك فإنما ... يدل على وجه الكريم حياؤه
فهي إذا هبة ربانية حبا الله بها الإنسان ليردع بها نفسه عن ركوب كل ما تشتهي، و خلق جميل يحول بين المرء وبين ارتكاب االمعاصي والآثام ويمنعه من التقصير في حق المولى جل وعلا ، والتعرض لتنقص الناس.. وقد جاء في الحديث الشريف : ( إن مما أدرك الناس من كلام الجاهلية الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
والنساء أولي
ويتأكد ذلك في حق المرأة، فسِترها رمز حيائها، وحجابُها دليل كرامتها. وإذا اختلَّ حياء المرأة تزلزلت قدماها، وعصفت بها الفتن، وأصبحت سلعة رخيصة تباع بأبخس الأثمان، ويعبث بها دهاقنة الفساد، وأئمة الهوى، (وليس لمن سُلبَ الحياءَ صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور؛ فهو يُقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى).
وإذا كان هذا في حق الناس عامة والمؤمنين خاصة فلا شك أنه في النساء أجمل وهن به أحرى وهو عليهن أوجب، فسِتر المرأة رمز حيائها، وحجابُها دليل كرامتها. وإذا اختلَّ حياء المرأة تزلزلت قدماها، وعصفت بها الفتن، وأصبحت سلعة رخيصة تباع بأبخس الأثمان، ويعبث بها دهاقنة الفساد، وأئمة الهوى، (وليس لمن سُلبَ الحياءَ صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور؛ فهو يُقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى).
ولَكَم يتفطر القلب أسىً وحزنًا على أولئك الفتيات الزهراوات اللواتي طاشت بهنَّ الأهواء، وأسلمن أنفسهنَّ بكل غفلةٍ وبلاهةٍ لكل ناعقٍ...؟!
فأين أولئك النساء اللواتي كسرن طوق الحياء، وأسلمن أنفسهنَّ لدعاة الرذيلة وأدعياء المدنية، وأصبحن يلهثن وراء شهواتهنَّ، ويتبارين في التفسخ والانحلال.. أين هنَّ من تلك المرأة العفيفة الطاهرة التي ذكرها صاحب كتاب " في البناء الدعوي" حيث يقول:
كنت في رحلة دعوية إلى بنجلاديش مع فريق طبي أقام مخيمًا لعلاج أمراض العيون، فتقدّم إلى الطبيب شيخٌ وقور ومعه زوجته بتردد وارتباك، ولمَّا أراد الطبيب المعالج أن يقترب منها؛ فإذا بها تبكي وترتجف من الخوف، فظنَّ الطبيب أنها تتألم من المرض، فسأل زوجها عن ذلك، فقال - وهو يغالب دموعه-: إنها لا تبكي من الألم.. بل تبكي لأنها ستضطر أن تكشف وجهها لرجل أجنبي! لم تنم ليلة البارحة من القلق والارتباك، وكانت تعاتبني كثيرًا: أوَ ترضى لي أن أكشف وجهي ..؟! وما قَبلَتْ أن تأتي للعلاج إلاَّ بعد أن أقسمتُ لها أيمانًا مغلظة بأن الله تعالى أباح لها ذلك عند الاضطرار، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة:173].
فلما اقترب منها الطبيب، نفرت منه، ثم قالت: هل أنت مسلم؟ قال: نعم، والحمد لله!!
قالت: إن كنت مسلمًا .. إن كنت مسلمًا.. فأسألك بالله ألاَّ تهتك ستري، إلا إذا كنت تعلم يقينًا أن الله أباح لك ذلك..!!
أُجريت لها العملية بنجاح وأزيل الماء الأبيض، وعاد إليها بصرها بفضل الله تعالى، حدّث عنها زوجها أنها قالت: لولا اثنتان لأحببت أن أصبر على حالي ولا يمسني رجل أجنبي: قراءة القرآن، وخدمتي لك ولأولادك.
ما أعظم شموخ المرأة المسلمة بعزتها وعفافها..! وما أجمل أن تُرى المرأة مصونة فخورة بحشمتها..!
أكرم به من إيمان يتجلى في صورة عملية صادقة بعيدة عن التكلف أو التنطع، سالمة من الرياء وشوائب الهوى..!
وقديمًا قال الشاعر:
فلا والله مَا في العيَش خيرٌ .. ... .. ولا الدنيا إذا ذهَب الحياءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ .. ... .. ويبقى العُودُ ما بقي اللحاءُ
===============
حينما عرفت قدري!(3/75)
حدثني صاحبي قائلاً: كنت في رحلة دعوية إلى الحدود البرية بين دولتي السنغال وموريتانيا؛ حيث يوجد عدد كبير من اللاجئين النازحين من موريتانيا. كان الطريق وعرًا موحشًا أصابنا فيه شدة وتعب، قطعنا فيه المفازة بعد المفازة، ولا نرى أمامنا إلاَّ أمواجًا من السراب، تزيد من هَمِّ الإنسان وتطلعه إلى النهاية. لا نصل إلى قرية من القرى المتناثرة هنا وهناك إلاَّ نجد من يحذرنا من قُطَّاعِ الطرق ولصوص الصحراء. تسع ساعات مرت وكأنها لا تريد أن تنتهي، ثم يسَّر الله لنا الوصول إلى مواقع اللاجئين وقد أسدل الليل ظلامه.
وجدت صاحبي قد أعدَّ لنا خيمة وضع فيها فراشًا باليًا هيأه لنومي، ولكن ما أجمله من فراش بعد أن هدَّ منا السفر ما هدّ. ألقيت بنفسي على الفراش من شدة التعب، ثم رحت أتأمل رحلتي هذه. أتدري ما الذي خطر في نفسي؟!
شعرت بشيء من الاعتزاز والفخر، بل أحسست بالعُجب والاستعلاء! فمن ذا الذي سبقني إلى هذا المكان؟! ومن ذا الذي يصنع ما صنعت؟! ومن ذا الذي يستطيع أن يتحمل هذه المتاعب؟! وما زال الشيطان ينفخ في قلبي حتى كدت أتيه كبرًا وغرورًا - والعياذ بالله - إلا أن الله رحمني فنامت عيني، ورحت أغط في سبات عميق.
امرأة بيضاء في المخيم
خرجنا في الصباح الباكر نتجول في أنحاء المنطقة، حتى وصلنا إلى بئر يبعد كيلومترًا واحدًا تقريبًا عن منازل اللاجئين يروي منه الناس ويستقون، فرأيت مجموعة من النساء يحملن على رؤوسهنَّ قدور الماء، ولفت انتباهي امرأة بيضاء من بين هؤلاء النسوة، كنت أظنها - بادي الرأي - واحدة من نساء اللاجئين مصابة بالجذام المنتشر بين بعض الناس هناك، لكني فوجئت بأنها منصِّرة: شابة في الثلاثينيات من عمرها من أقاصي شمال أوروبا، من النرويج!!
قال لي مرافقي: منذ ستة أشهر وهي مع نسائنا، تلبس لباسنا، وتأكل طعامنا، وترافقنا في أعمالنا، جاءت إلينا وهي تعرف لغتنا القبلية وبعض عاداتنا. في بعض نهارها تداوي المرضى من النساء والأطفال، ومعها صاحبتها تعلمهنَّ الخياطة وبعض الأعمال اليدوية، وفي أول الليل تجتمع بعض الفتيات يتجاذبن معها أطراف الحديث، وتعلمهنَّ قواعد القراءة والكتابة، وقد خصصت لهنَّ بعض الليالي لتعليم الرقص. أحبها الناس كبارًا وصغارًا لتواضعها وخدماتها التي لا تنقطع؛ فكم من يتيم مسحت على رأسه! وكم من مريض خففت من ألمه!
عجبت - والله - أشد العجب من هذه المرأة، فما الذي دعاها إلى هذه القفاز النائية وهي على ضلالها؟! وما الذي دفعها لتترك حضارة أوروبا ومروجها الخضراء؟! وما الذي قوَّى عزمها على البقاء مع هؤلاء العجزة المحاويج وهي في قمة شبابها؟!
تسابقت هذه الأسئلة إلى خاطري، ثم تذكرت ما كنت أفكر فيه ليلتي السابقة، لقد شعرتُ بالتعاظم والعُجْب لليلة واحدة قضيتها في هذا المكان، أما الآن - وبعد أن رأيت هذه المنصِّرة - تصاغرت نفسي، وأحسست بمهانتي وضعفي؛ فهذه المنصِّرة المضلِّلة تقدِّم كل هذا العمل بكل جَلَدٍ وصبر، وهي على الباطل، وأما أنا فسرعان ما انتفشتُ لعمل يسير لا أدري: أيكتب في الصالحين أم لا!! ولا أقول هذا إعجابًا بهذه المرأة، أو أنها في محل القدوة - عياذًا بالله - لكني أعجب كيف يصبر هؤلاء القوم على نشر باطلهم، ويعجز بعضنا، أو تصيبه السآمة والملل في أول الطريق!
لقد هزني هذا الموقف هزًّا عظيمًا، ورأيت كم يضحي هؤلاء الضُّلاَّل لنشر ضلالهم، وأيقنت بأننا - معاشرَ الدعاة - أحوج ما نكون إلى الإخلاص والاحتساب، أحوج ما نكون إلى البذل والتضحية، وبقدر انتصارنا على أنفسنا وإحساسنا بمسؤوليتنا الدعوية، فإن الله تعالى سيبارك في أعمالنا. قال الله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )[النساء:104].
ــــــــــــ
في البناء الدعوي
================
أخيتي .. كفى عجزًا!
المرأة المسلمة قلعة من قلاع الإسلام، وحصن من حصونه المنيعة، لها دور عظيم في صيانة الأمة وتربيتها وحمايتها من كل ألوان الفساد والرذيلة. استقامتها على الحق صيانة للمجتمع كله، وصلاحها وعفتها رعاية للأمة من الانحدار والتردي في دروب الهوى.
لذا حرص أعداء الله تعالى من المستغربين والعلمانيين على انتهاك هذا الحمى الكريم، واستباحة هذه البيضة العفيفة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم لانتزاع البقية الباقية من ديانة المرأة وتقواها، وسعوا إلى اختراق إعلامي واسع النطاق يقوم على تزيين الفواحش، ونشر ثقافة الرذيلة، والمتاجرة بالأعراض، ويهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية والفكرية للأمة المسلمة.
وذلك كله ليس بغريب على الإطلاق؛ فذلك ديدنهم وهجِّيراهم، ولكن: ألا يحق لنا أن نتساءل بكل صدق: أين دعاتنا من هذا الحِمَى الكريم؟! وأخصُّ بالذكر هاهنا نساءنا الصالحات؛ فهن أولى بذلك من غيرهنَّ.
إن علينا أن نعترف بأن واقعنا الاجتماعي والدعوى أدَّى إلى إهمال جلي واضح للدعوة في أوساط النساء، فغلب على صالحاتنا - فضلاً عن عامة نسائنا - العجز والقعود، وأصبح كثير منهنَّ يتعذرن بمعاذير واهية يُسوِّغن بها قصورهنّ وتفريطهنَّ.
نعم.. أُدرك أن العوائق الدعوية التي تواجه المرأة أضخم من تلك التي تواجه أخاها الرجل، ولكن أيصحُّ أن يكون ذلك حابسًا للمرأة عن الإقدام والنهوض؟ أيصحُّ أن تغفل المرأة الداعية وتصاب بالوهن والفتور؟!(3/76)
دعينا نتأمل خبر أبي هريرة رضي الله عنه حينما يحدثنا: "أن أسود - رجلاً أو امرأة - كان يقمُّ المسجد، فمات، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله. قال: أفلا آذنتموني؟! فقالوا: إنه كان كذا وكذا - قصته - قال: فحقَّروا شأنه. قال: فدِلُّوني على قبره. فأتى قبره فصلَّى عليه".
سبحان الله.. امرأة - كما جاء في بعض الروايات - ربما كان بعض الناس يزدريها وينظر إليها نظرة لا مبالاة.. ولكنها عند رسول الله صلى عزيزة كريمة يسأل عنها ويصلي عليها.
قامت هذه المرأة بعمل - قد نظنه يسيرًا - ولكنه عند الله تعالى عمل عظيم يستحق تقدير النبي صلى الله عليه وسلم واهتمامه.
إنها الفاعلية التي دفعت هذه المرأة لخدمة المسلمين والسعي في حاجتهم، صورة عظيمة يتجلى فيها عمل هذه المرأة المستضعفة عند الناس.. لكن قلبها العامر بالطاعة حفَّزها على البذل والعطاء دون أن تهن أو تضعف.
إنها الفاعلية التي اطمأنت بها ذوات القلوب المرهفة الحية، فقدَّمْنَ ما يَقْوَيْنَ عليه ابتغاء وجه الله تعالى، دون أن يشعرن بالاتكالية والاعتماد على الآخرين.
وكم يحزُّ في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من كل صوب، ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفًا أو انشغالاً عن تلك المسؤولية العظيمة؟!
فيا سبحان الله! لمن تتركن الميدان؟! ومن تنتظرن أن يقوم بهذا الدور؟!
ألا يكتوي قلبكِ حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشَّرت عن أنيابها الفضائية ومخالبها الصحفية، وراحت تعبث في أخواتك، وتنتهك عفتهنَّ وكرامتهنَّ؟!
ألا يتفطر فؤادكِ وأنتِ ترين التفسخّ والانحلال يستشري في نسائنا، وينتشر في بيوتنا انتشار النار في الهشيم؟!
أيطيب لكِ طعام أو شراب وأنتِ ترين الفتاة تلو الفتاة وقد رَمَت بحجابها وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي مُلئت بكل ألوان الدهاء والفتنة؟!
يا الله..!! كيف تقوى نفْسُكِ على القعود وأنتِ تملكين - بفضل الله - القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين ومكايد العابثين؟!
أيرقأ لكِ دمع؟ أم هل يسكن لكِ قلب؟ آلله تعالى يرضى لكِ بذلك؟!
أُخَيَّتي في الله:
إما أن تتقدمي أنتِ.. وإلاَّ فإن أولئك القوم لنا بالمرصاد، وبقدر تقصيركِ يكون إقدامهم، ومن أيقنتْ بعظيم مسؤولياتها هانت عليها كل العقبات التي تواجهها.. ومَنْ صدق الله صدقه..
ومَنْ رعى غنمًا في أرض مسبعة.. ... ..ونام عنها تولَّى رَعْيَها الأسدُ
=============
التغيير من أين يبدأ؟!!
حين نريد أن نتغير أو أن نعدل وضعًا قائمًا،أو أن نحل مشكلة تقلقنا؛ كثيرًا ما ينصرف تفكيرنا إلى الآخر بحثًا عن مخرج للوضع، أو مساعدة على تخفيفه. ولكن المشكلة أن هذا الآخر لن يستطيع أن يقدم شيئًا مهما بلغت درجة رغبته - إن وجدت - لأن الأمر يجب أن ينبع من داخلنا. والحل هو ما نستطيع أن نعمله لا ما ننتظر من الآخرين أن يعملوه.
هل يعني هذا أن يعيش الإنسان منفردًا؟ يفكر منفردًا، ويشعر ويتصرف منفردًا.. بل على العكس تمامًا، قد يكون هذا هو جوهر العمل مع الجماعة، ولكن الرغبة في التغيير إذا لم تكن هاجسًا داخليًّا، يعقبه تصرف موجه نحو هذا التغير المنشود، فإن كل جهد لتحصيله سيكون هباء.
هذا الأمر ينسحب على أشد الأمور تعقيدًا وأكثرها بساطة: أنت لا تستطيع أن تغير أستاذك الذي لا يشرح لك المادة بشكل جيد.. ولكنك تستطيع أن تغير استراتيجيتك في دراسة هذه المادة.
أنت لا تستطيع تغيير الأوضاع الاقتصادية، ولكنك تستطيع أن تبحث عن أكثر الحلول ملاءمة لك، وتوفير متطلباتها في نفسك، وحين يدور الأمر حول العلاقات الشخصية تجد أنه يأخذ أبعادًا أكثر عمقًا وثراءً.
أنت لا تستطيع أن تغير أحوال شخص معين ، ولكنك تستطيع أن ترسخ في نفسه حب التغيير لما هو عليه .
فالتغيير الذي تتبناه في نفسك - كموقف إيجابي - سينعكس بعد حين على الطرف الآخر.. وسيغير تدريجيًّا من نفسه. ومن طريقة تعامله معك في تفاعل مستمر لا يعني استسلام أحد الطرفين للآخر، ولكنه محاولة للتكيّف مع الشكل الجديد للعلاقة، الذي ساهمت بجزء كبير في وضعه بعنايتك بالجانب الذي يخصك فيها.
الغريب أننا أحيانًا نريد التغيير دون أن نخسر شيئًا، وهذا مطلب عسير، فلكل شيء ثمن وتوقعه يخفف من وطأته، فالآخرون الذين تعودوا على أن يروك بشكل ما - قد لا يسرهم أن تغير في أسلوبك، أو حتى فيما اعتادوا عليه، لن يفكروا كثيرًا في الأفضل لك، بل سينزعجون من اضطرارهم لتغيير عاداتهم في التعامل معك.
قد تنتقد كثيرًا، وستبذل جهدًا أكبر، وربما في فترات معينة ستتراكم عليك الضغوط، غير أن وضوح هدفك سيكون - بإذن الله - هاديًا لك مع كثير من الدعاء.
===============
رحمك الله يا عمر!!
رحمك الله يا عمر .. كلمة وجدتني أنطق بها بعد أن جلست مع بعض الشباب ، وسمعت منهم مشاكلهم وهمومهم ، وعرفت منهم تطلعاتهم وأفكارهم .
ثم وجدتني أنطق بها مرة أخرى بعد أن قرأت استطلاعًا للرأي أجرته صحيفة يومية مع طالبات الجامعة حول ما يلبسن ويفضلن من الأزياء .
لقد كان عمر بن الخطاب إذًا ينظر من خلال حِسِّه المرهف ، وفكره الملهم ، وكرجل مسئول يريد أن يحفظ على الأمة دينها ، ذلك حين جلس مع أهل الرأي والمشورة ليختاروا لأمة الإسلام تأريخًا خاصًا بها ، وقرروا أن تكون هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي السنة التي يبدأ منها التأريخ الإسلامي .(3/77)
كان في مقدور عمر أن يترك المسلمين يؤرخون سنيهم ، ويحددون وقائعهم تبعًا للتأريخ الميلادي أو الشمسي، أو أي تأريخ موجود بالفعل ويستعمله أهل تلك الأزمان، هذا إذا كان المقصود هو مجرد عدِّ الأيام وتحديد الأوقات والأزمان، فعندئذٍ فأي تأريخ يمكنه القيام بالمهمة، فلماذا إذا يحمل عمر كل هذا الهم وكل ذلك العناء ؟!
لم يكن فعل عمر فعلاً عنتريًا، ولا رأيًا دكتاتوريًا، ولا شيئًا جديدًا على الدين ـ حاشاه ـ وإنما هو عين الشريعة، وعين ما تعلمه من نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
لقد تعلم عمر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن قواعد الشرع أن التميز والتمايز بين المسلم وغير المسلم أصل من أصول الإسلام، وأس من أسس حفظ الأمة، وحفظ الدين على أهله وأصحابه وهذا عين ما كان يفعله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويؤصله في قلوب المؤمنين من خلال الأقوال والأفعال .
فعندما دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة وجدهم يحتفلون بيومين ـ أي عيدين ـ ، فقال : [ لقد أبدلكم الله بيومين خير منهما : يوم الفطر ، ويوم الأضحى ] .
وصام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاشوراء ، فلما أُخبر أن اليهود يصومونه قال : [ لئن بقيت إلى قابل لأصومَنَّ التاسع ] ـ يعني مع العاشر ـ .
حتى القبلة ظل أمرها يؤرقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يدعو الله أن يغيرها عن قبلة أهل الكتاب، ويجعل لأهل الإسلام قبلة خاصة بهم، وهي الكعبة المشرفة ـ زادها الله شرفًا ـ فاستجاب الله له ووجهه إليها .
لم يتوقف ذلك التميز ، وتلك الاستقلالية على جانب من الجوانب، بل شمل كل جانب مع التركيز الشديد على الشكل الظاهر، ولو في أبسط الأشياء، فاسمع إليه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ وهو يقول لأتباعه: [ خالفوا المشركين ] ، [ من تشبه بقوم فهو منهم ] ، [ إياكم وزي الأعاجم ] إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، هذا غير ما في كتاب الله من الآيات التي يصعب عدها وحصرها.
إن مسألة التمايز والحفاظ على الهوية مسألة خطيرة جد خطيرة، وانحسارها أو ذهابها يعَد أكبر معْوَل هدم في صرح الديانة؛ لأن معنى ذهاب المفارقة والتمييز أن يذوب المسلمون في غيرهم، ليس كما يظن البعض في الشكل الظاهر فقط، وإنما هذه المشاكلة الظاهرية تستتبع مشاكلة في الباطن ولابد، وهو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو ما يعني كما قلنا الذوبان عقديا وثقافيا واجتماعيا و … إلخ.
وهذا معناه انهيار الأمة وضياعها دون شك، ولذلك تنبأ العلامة المؤرخ ابن خلدون بسقوط الأندلس قبل سقوطها بنحو مائتي سنة؛ لما رأى من تشبه أهلها بغير المسلمين في تلك البلاد، وقد تحقق ما تنبأ به، وهذا مصير كل أمة تتهاون في أصولها وثوابتها ، وعقيدتها ، وثقافتها .
لقد عايشت أمتنا محنًا كثيرة كان بعضها كفيلاً بإبادة أي أمة ـ كما حدث زمن التتار وأزمان الحروب الصليبية ـ ، ولكن الأمة صمدت وبقيت بتمسكها بكتابها، وسنة نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمحافظتها على إسلامها ظاهرًا وباطنًا ؛ بل والأعجب أن هذا التمسك والثبات كان سببًا في أن ينهزم المنتصر، ويخضع للمهزوم بعد فترة وجيزة، فأسلم كثير من التتر وصاروا من جند الإسلام، ولم يمر وقت طويل حتى انتصر المسلمون على التتار، وعاد لأمتنا مكانها ومكانتها لأنها لم تنهزم داخليًا، ولم تمسخ ثقافيًا، كما هو حالنا الآن، فالإحساس بالنقص، والانبهار بالآخرين، والضغط من كل جانب أثمر التنازل لا عن الفروع والشكليات ـ كما يقولون ـ ولكن عن الأصول والبدهيات، وهو ما يظهر لكل ذي عينين، وإن كان يحلو للبعض أن يشكك في هذا ويناطح الصخر فنقول : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
إننا نحتاج أن نعتز مرة أخرى بديننا، ونهتم بثقافتنا، ونتمسك بعقيدتنا، ونفخر بانتمائنا للإسلام، فنتمايز به عن الآخرين حتى لو كان هذا التمايز في التأريخ والتقويم.
ومرة أخرى رحمك الله يا عمر .. وكل عام هجري وأنتم بخير.
=============
هيا بنا نؤمن ساعة
"هيا بنا نؤمن ساعة، فإن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً".. كلمات قالها عبد الله بن رواحة لأبى الدرداء رضي الله عنهما، وتشابهت مع ما قاله معاذ بن جبل لصاحبه وهو يذكره: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
وما أحرانا ـ والعلم رحم بين أهله ـ أن نردد نفس الكلمة على مسامعنا وعلى الدنيا من حولنا.. "اجلسوا بنا نؤمن ساعة"... ساعة نراجع فيها ديننا، ونؤدي بها حق ربنا وحق النفس والناس، ساعة لا تحتمل التأخير، فقد جرت منا الدنيا مجرى الدم من العروق، ووصل حبها إلى شغاف قلوبنا، فمنا من باع دينه بدنيا لا بقاء لها ولا وفاء, ومنا من باع دينه بدنيا غيره، ووقع الانفصال المريب بين الدنيا والآخرة والأرض والسماء.
فإذا رأيت من صرعه عشق العاجلة، وأماته حب الفانية، أو قال لك قائل، عظني أو ذكرني أو انصحني فقل له: (هيا بنا نؤمن ساعة)، وقل لنفسك: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) "طه:84", وبادر وسارع بها، هذا شأنك مع من يغرق أو يجود بأنفاسه الأخيرة، تحاول إسعافه وترسل له طوق النجاة لإنقاذه، وحياة القلوب والأرواح آكد وأهم. كان البعض يقول: "عجباً لمن يبكى على من مات جسده ولا يبكى على من مات قلبه وهو أشد".(3/78)
فاصنع كما صنع صاحب يس، وهوالذي سماه الله رجلا وما أقلهم - أتى من أقصى المدينة يسعى قال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) "يس:20-21", فلما أخذوه وعاجلوه بالقتل نصحهم ميتاً كما نصحهم حياً، قال:(يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) "يس:26-27".
وهكذا فمحبة الخير للناس تجرى من المؤمن مجرى الدم من العروق، ولذلك فلسان حاله ومقاله يردد ما قاله مؤمن من آل فرعون:(يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) "غافر:38-43".
فما الذي يمنعك من أن تذكر بآية بينة, أو سنة هادية أو قصة هادفة, وقد تكون هذه الساعة هي ساعة قيامتك, أو ساعة رحيل وانتقال من تذكر فتلقى ربك على عمل صالح وتكون بذلك قد بلغت الرسالة, وأديت الأمانة, ونصحت لإخوانك وأمتك, وأعذرت نفسك بين يدي ربك بالبلاغ وعساها توافق ساعة إجابة, والدال على خير كفاعله, ولأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، وحسبك أن تقوم مقام الدعوة وتستن بسنن الأنبياء و المرسلين (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) "الأنعام:90", فاحذر من إضاعة الحقوق, ولا تبخل بهذه الساعة, فإن الله أحق أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر, وأنت ممن يحب أن يطاع الله في الأرض, وأن يكثر عدد المطيعين, ولو قرض لحمك بالمقاريض ونشرت بالمناشير, فابذلها ولا تبالي سواء كانت بالليل أو بالنهار, فلك في نبي الله نوح أسوة حسنة (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا).
اتهم نفسك
فإذا وجدت نفوراً أو إعراضاً فاتهم نفسك أولاً قبل أن تتهم الخلائق, وقل: لعلى لم أخاطب الناس على قدر عقولهم, وربما أضفت لشبهاتهم شبهات, وأكون بذلك قد أعنت الشياطين على نفوسهم، ولم أعنهم على طاعة الله, ولعل هذه الساعة لم تكن خالصة لوجه الله, ولذلك لم يحدث القبول, فاجمع قلبك على لسانك, وتوجه لخالق الأرض و السموات بالدعاء, وانتقل من هذه الساعة إلى ساعة أخرى أفضل, واجعل حياتك وقفات على طريق الاستقامة, فأنفاسك تعد, ورحالك تشد, وعاريتك ترد, والتراب من بعد ذلك ينتظر الخد, وعلى أثر من سلف يمشى من خلف, وما عقبى الباقي غير اللحاق بالماضي, وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) "الجمعة:8".
أيها الغادي: قف ساعة وتفكر من أنت؟ وإلى أين المصير؟ أراحل أنت أم مقيم؟ وإذا كنت مرتحلاً فإلى أين؟ أإلى جنة أم إلى نار؟ فالحياة بغير الله سراب (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) "النور:39".. ساعة نقيم فيها واجب العبودية, فلهذا خلقنا, ونعيش فيها طاعة الوقت, ولا بورك في الأعمار والأنفاس إن لم تكن الحياة طاعة وعبودية لله, ساعة لن تخيب ولن تضيع بها, فما خاب ولا ضاع من تعامل مع الله.. كان شداد بن أوس يقول: "إذا رأيت الرجل يعمل بطاعة الله فاعلم أن لها عنده أخوات, وإذا رأيت الرجل يعمل بمعصية الله, فاعلم أن لها عنده أخوات, فإن الطاعة تدل على أختها وإن المعصية تدل على أختها (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) "الليل:5-10". وكان أيضاً يقول: "اعلموا أنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه, ولن تروا من الشر إلا أسبابه, الخير بحذافيره في الجنة, والشر بحذافيره في النار, والدنيا عرض حاضر يأكل منها البار والفاجر, والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر, ولكل دار بنون, فكونوا من أبناء الآخرة, ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
درر من كلام السلف(3/79)
لقد تكلم سلفنا الصالح طلباً للآخرة ولنجاة النفوس ورضى الرحمن, وتكلمنا نحن طلباً للدنيا ورضى الخلق, وعزة النفس, فكانت كلماتهم أبرك من كلماتنا, كان لهم حظ ونصيب مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم, فقد أوتى جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه, كلمات قليلة, ولكنها حوت المعاني الكثيرة والعظيمة.. فماذا يمنعك من أن تستعير بعضها وتذكر بها؟!
ومن هذه الكلمات الطيبات ما رواه الأحنف ين قيس قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شئ عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
وقال عمر وهو يعظ رجلاً: لا تكلَّم فيما لا يعنيك، واعرف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا تمشِ مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله عز وجل.
وخطب عثمان - رضى الله عنه - فقال: "بادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، ألا وإن الدنيا قد طويت على الغرور ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، واعتبروا بمن مضى، ثم جدّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها وتمتعوا بها طويلاً؟ ألم تلفظهم، ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة، فإن الله قد ضرب لها مثلاً فقال عز وجل: ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ُ).
وعن على - رضى الله عنه - قال: "ألا إن الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله، ولا تدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها". وقال يوماً: أما بعد: "فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزناً، وليكن همك فيما بعد الموت".
وكان ابن مسعود إذا قعد يذكر يقول: "إنكم في ممر من الليل و النهار، في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتى بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطئ بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطى خيراً فالله أعطاه، ومن وقى شراً فالله وقاه، المتقون سادة و الفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة".
وقال: "من اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله، ولا تحمدن أحداً على رزق الله، ولا تلومن أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص الحريص، ولا يرده كره الكاره، وإن الله بقسطه و حكمه وعلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
وعن سلمان الفارسي قال: "ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدرى أساخط رب العالمين عليه أم راضٍ عنه؟!، وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي ربى عز وجل ولا أدرى إلى جنة أو إلى نار.
وعن سفيان الثوري قال : قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس، أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: "أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا بلى، قال: فإن سفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد حره ليوم النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرها.. اجعل الدنيا مجلسين: مجلساً في طلب الحلال، ومجلساً في طلب الآخرة، الثالث يضرك ولا ينفعك فلا ترده، اجعل المال درهمين: درهماً تنفقه على عيالك من حله، ودرهماً تقدمه لآخرتك، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده، ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس، قد قتلكم حرص لا تدركونه أبداً.
وقد تحتاج لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، ولتبسيط الوعظ القديم فافعل كما فعل بشر الحافي، قال: إن في هذه الدار نملة تجمع الحب لتأكله في الشتاء، فبينما هي في يوم إذ أخذت بفمها حبة، وجاءها عصفور، فأخذها هي والحبة فلا ما جمعت أكلت ولا ما أملت نالت.
أنت على الدرب تسير، ودعوتك وتذكيرك بالسلوك أبلغ من تذكيرك بالقول فإن وفقت وسددت فقل: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
=================
إذا عز أخوك فهن ..
الناظر فيما يكتب اليوم في الإنترنت؛ يلحظ جرأة محمودة في الطرح والتناول للقضايا؛ تؤذن بانقراض زمن الصمت, وميلاد عصر المشاركة, والمصارحة, وحوار الآراء.
وعلينا أن نتقبل هذا الواقع لاعتبارات كثيرة؛ من أهمهما: أنه يفضي إلى تكريس دور الفرد, وواجبه ومسؤوليته، ويخفف في نهاية المطاف من الاحتقان والتوتر الناجم عن المصادرة والإلغاء، والقضاء على خصوصية الإنسان.(3/80)
فمناخ الحرية المعتدل هو الأفضل لبناء أناس أسوياء راشدين معتدلين؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متواضعاً, بعيداً عن مؤاخذة الناس ومعاجلتهم. وما ضرب خادماً ولا امرأة ولا أحداً؛ إلا أن يضرب في سبيل الله.
وقال له رجل : اعدل يا محمد ؟ فقال: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل !" وانتهى الأمر عند هذا الحد!.
وقال آخر : والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله!، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة الرجل؛ فقال صلى الله عليه وسلم : "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر!".
وأنزل عليه ربه سبحانه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)[الأحزاب:1]، وقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه)[الأحزاب: من الآية37] وقوله) : وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)[النساء: من الآية105]. وقوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)[عبس:2،1]. وقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى *وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)[الضحى:8]. وقوله : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:67].
ومن حوله كان المنافقون واليهود وضعفاء الإيمان من الأعراب وغيرهم ..، فكان يتلو عليهم جميعاً هذا القرآن, وهم يتحفظونه ويقرؤونه في صلاتهم ومجامعهم؛ ولهذا اختار صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً، فليس له سيماء الملوك, وأبهتهم في الهيبة المتكلفة, والوقار المفرط. وقد رآه أعرابي؛ فاضطرب! فقال صلى الله عليه وسلم : "هون عليك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد !" .
ومن أكثر أصحابه هيبة وقوة (عمر بن الخطاب). وفي خلافته كان يأتيه أبي بن كعب -من صغار الأنصار-؛ فيرد عليه في مسألة علمية, ويقول له : يا ابن الخطاب لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فيعتذر الخليفة, ويقول : خفي علي هذا من أمر رسول الله ؟ ألهاني عنه الصفق في الأسواق!.
إن الرجوع إلى هذا النمط في العلاقة بين الناس- من العلماء, والمتعلمين, والعامة- ضرورة في هذا العالم المتغير.
وإذا كنا في مرحلة توجب علينا تقبل هذا التنوع في المعالجة والنظر، وهذا التجديد في الرؤية لاعتبارات عديدة، منها: اعتبارات خارج إطارنا الإسلامي، من حيث الانفتاح العالمي والإعلامي والاقتصادي والسياسي، بحيث إن الدول بما تملكه من قدرات وإمكانيات أصبحت عاجزة عن مقاومة هذا الانفتاح أو صده، فكيف بغيرها؟!.
وهذا قد يبدو كما لو أن الانفتاح كان أمراً اضطرارياً لا خيار فيه من حيث الجملة.
لكن ثمة اعتبارات داخل الإطار الإسلامي تلاحظ أن كسر الاعتياد المألوف على أمر واحد كان صعباً، وقد يفضي إلى كثير من الخصام والانشقاق الذي يداريه بعض رجال الدعوة، ويتخوفون سوء عواقبه، فلما جاءت هذه الحركة الانفتاحية رأوا فيها -على ما فيها - وجهاً من الخير يؤهل للرجوع إلى الأمر الأول الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، بحيث لا تكون الأطروحات الدعوية مثقلة بأعباء تاريخية وواقعية تئد مسيرتها وتبطئ خطوها، وبهذا يتم التخفف من ألوان العصبيات العلمية والاجتماعية والحركية لصالح الحرية الشرعية المنضبطة.
ولأن الناس ربما لم يتعودوا على كيفية استخدام هذه الحرية التي حصلوا عليها إلكترونياً أو فضائياً؛ فإن المرحلة السابقة يمكن اعتبارها فترة للتدريس والتعود، وهذا يخفف من القلق الذي يساورنا حين نرى اللغة التي يتم تداولها عبر الحوار، أو المسلك الأخلاقي في التثبت والاستماع والمعالجة والجرأة على ما لا يفهم المرء ولا يحسن ولا يدرك أبعاده ، وبصفة أوسع : التفريط في حقوق الأخوة بسبب ما يظن أنه اختلاف، وقد يكون الأمر اختلافاً سائغاً؛ بل محموداً لا تثريب فيه، أو أن الحق مع الطرف الذي نشجبه ونشنع عليه، ولكن خفي علينا، ومن جهل شيئاً أنكره و عاداه، أو ليس ثمة اختلاف أصلاً، وإنما هو كما يقول أهل العلم : "خلاف لفظي ليس له ثمرة ولا محصلة".
وبكل حال؛ فإن الواجب علينا أن نجتهد في رفع مستوى الحوار ولغة التخاطب وأخلاقيات التعامل إلى أسمى ما هو ممكن، والمثل الأعلى لدينا هو في التعليمات الربانية في محكم التنزيل، وفي التطبيقات النبوية الكريمة.
ومن الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ولذلك نفترض أن أساليب مواجهتها يجب أن تختلف عما كان عليه الأمر في عهد السلف.
هذا غير صحيح، فلدينا سيرة نبوية عطرة عاشت فترة الضعف والتمكين، والكثرة والقلة، ومع الموافق والمخالف ، وعايشت اليهود والمنافقين بالمدينة، والوثنين بمكة ثم بالمدينة وجزيرة العرب، والنصارى في نجران وبلاد الشام، وضعفاء النفوس من المسلمين، كما عايشت الاختلاف في وجهات النظر منذ العهد النبوي ثم عصور بني أمية وبني العباس.
والعبرة بالقواعد العامة التي انطلقوا منها، وليست بالاجتهاد الفردي، فحين نقول عن منهج ما أو طريقة ما: إنها طريقة سلفية؛ فهذا يعني لزاماً أن السلف مطبقون عليها، أما حين يكون اجتهاداً لإمام منهم؛ فإنها تظل اجتهاداً فردياً غير ملزم، وإنما الملزم للناس هو: الكتاب، والسنة الصحيحة، والإجماع الثابت، وليس المدعى..(3/81)
ولكل فقيه أو عالم أن يجتهد وراء ذلك بما يدين به من فهم النص أو الجمع بينه وبين غيره، أو الانطلاق من القواعد الكلية والمقاصد الشرعية.
وليس ثمة حجر أن يختلف العلماء ، وأن يرد بعضهم على بعض؛ لكن مع رعاية أصول الاختلاف وأصول الرد وأصول التنازع، فلا تجريح ولا اتهام، ولا تنقص ولا ازدراء ولا تسفيه؛ وإنما عفة في اللسان والقلم يكسو المرء بها لفظه، ويبين عن طيب معدنه وسلامة قصده، وحرصه على الهداية، وبعده عن الهوى والحظ الشخصي.
وقديماً كان حكيم الفقهاء (الشافعي) يقول:
1. قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.
2. ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه.
3. لو خاصمت ألف عالم لخصمتهم، ولو خاصمت جاهلاً لخصمني.
4. يا ربيع اكسُ ألفاظك.
5. ألا يمكن أن نكون إخوة؛ وإن لم نتفق في مسألة؟
6. الحر من راعى وداد لحظة أو تمسك بمن أفاده لفظة.
فرحم الله الإمام الشافعي وأعاد إلى المسلمين سداد هذا المنهج
.............................
الشيخ : سلمان العودة
================
قسيس في مكة
(فقادو) من أشهر قساوسة أثيوبيا، ذاع صيته وانتشر اسمه لنشاطه في تنصير أعداد كبيرة من أبناء جلدته، تعمق في دراسة النصرانية واطلع على أدق تفاصيلها وخفاياها، وأصبح علماً بارزاً من أعلامها، وقد أكسبته هذه الشهرة الجاه والمال وأصبح ذا شأن عظيم في أوساط نصارى القرن الأفريقي.
رأى في منامه كأنه يقرأ سورة الإخلاص بكاملها {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد} ونظراً لما يمتاز به من ذكاء حاد وفطنة وحس يقظ لم تمر عليه هذه الرؤيا مرور الكرام بل ظل يدور حولها ويمعن النظر في تفسيرها ويفكر في فحواها ومغزاها. ولما لم يصل إلى نتيجة مقنعة حول تعبير هذه الرؤيا ذهب إلى مكتب رابطة العالم الإسلامي بأثيوبيا علّه يجد ما يطفىء ظمأه، ويجد تعليلاً وتوضيحاً وتفسيراً لرؤيته التي لم يهدأ له بال بعدها لادراكه بأن هذه السورة من سور القرآن. وقد وجد في مكتب الرابطة ضالته إذ أوضح له مدير المكتب مغزى هذه الرؤيا وأن الله عز وجل أراد له الهداية وإخراجه من الظلمات إلى النور وكعادة مكاتب الرابطة، المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، في نشر الدعوة الإسلامية وإرشاد الناس إلى دين الله اقتنع السيد (فقادو) بعد عدة زيارات للمكتب بالإسلام وأشهر إسلامه بحمد الله وأصبح اسمه (محمد سعيد).
ونظراً لما يمثله هذا الرجل من ثقل في النصرانية فقد أزعج إسلامه الكنيسة واعتبروه مارقاً عن ديانتهم ولا مناص من عودته إلى النصرانية أو تصفيته جسدياً. وفي الجانب الآخر يعتبر إسلام هذا الرجل مكسباً كبيراً للمسلمين نظراً لكثرة أتباعه وتأثيره عليهم وتأثرهم به مما سيؤدي إلى إسلام قرى بأكملها وهذا ما تم بالفعل.
ولما أحس رجال الكنيسة بما يمثله (فقادو) من خطورة وأدركوا تمسكه بالإسلام واستحالة عودته إلى ديانتهم قرروا الانتقام منه وقد فطن إلى ذلك. وقام مكتب الرابطة بأثيوبيا بالتنسيق مع الأمانة العامة للرابطة بمكة المكرمة بمنحه تأشيرة دخول إلى المملكة العربية السعودية لإبعاده عن مضايقات رجال الكنيسة من جهة ولتعليمه مبادىء الإسلام في مهبط الوحي من جهة أخرى. ونظراً لعدم إلمامه باللغة العربية فقد تم إلحاقه بمعهد اللغة العربية التابع لجامعة أم القرى بمنحة من الرابطة وتم تأمين سكن مناسب له ولأسرته بمكة المكرمة وتخصيص راتب شهري يليق بمكانته. ونظراً لحدة ذكائه كما أسلفت فقد تعلم أساسيات اللغة العربية في وقت قياسي وتعمق في دراسة الإسلام وحسن إسلامه وظهرت سمات الصلاح في وجهه وحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم وترقق قلبه وأصبح دائم البكاء من شدة فرحه بما أنعم الله عليه من نور الهداية.
وفي هذه الأثناء جاءته ابنة راعي الكنيسة قادمة من إثيوبيا وهى شابة حسناء، أتته باكية مستنجدة مدعية بأن أباها طردها عندما أدرك أنها سوف تعتنق الدين الإسلامي وهى جاءت إلى فقادو لكي ينقذها من أسرتها التي تريد قتلها وطلبت منه أن يتزوجها ويعلمها الإسلام وتم لها ما أرادت فتزوجها وأسكنها في جدة لأن زوجته الأولى أسلمت معه وسكنت في مكة المكرمة.
ولم يكن يعلم بما حيك له من سوء وما دبر له من مكائد فقد يئس رجال الكنيسة من عودته إلى ديانتهم فخططوا لقتله حتى وإن كان خارج أثيوبيا.
وأرسلوا له هذه الحسناء المصابة بمرض الإيدز وبالتالي انتقلت إليه العدوى ونقلها دون أن يعلم إلى زوجته الأولى. ولما أدركت هذه الشابة نجاح مهمتها ولّت هاربة إلى إثيوبيا تاركة هذا المرض يسري في جسد محمد سعيد وزوجته. ولم يمهلهما المرض كثيراً حيث توفيت زوجته بعد عدة أشهر أما هو فقد هزل جسمه وضعفت قوته ثم قضى نحبه ودفن بمكة المكرمة. نسأل الله أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته.
وصدق الله العظيم: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم....} (البقرة:120).
===================
شيطان .. في بيتي !!
شاغلتني أمنياتٌ في زماني
دونَ أن أدري مداها..
قد تملكت الملاهي
لم أكن أدري جناها ..
ذاك تلفاز غزاني
هدَّني ثم احتواني
بين إسفافِ بفكرِ
أو جهالاتٍ بمكرِ
بالتواني.. صرتُ عبدًا للأغاني
من يراني.. من صحابي قال مالي؟!
ضاعَ نومي.. طال عَومي
في بحار من خيالِ
من تفاهات أراها
دمرت مني كياني
وانتهى أمرُ التزامي
نمت فجري .. ضاع أجري
بالتَّواني عن صلاتي أو قيامي
صار إسلامي بعيدًا عن صفاتي
يا إلهي.. هل سأرضى بانهزامي
إن تقصيري أمامي
ربما راقت مقالي بعض قومي
أو جفاها من جفاها
ليته يومًا وعاها
صارت الأفعالُ إجرامًا صريحًا(3/82)
بين أطفال لنا عند الخصام
ساقهُ منا التعامي
عن ضلالات نراها
من أعادينا أتتنا .. بل غزتنا
أبعدت دينًا وأخلاقًا
ولم تحفل بأيام الوئام
يوم كنا سادة الدنيا
رسول الله مصباح مضيءٌ في الظلام
قد هدانا درب رشدٍ عبر آيات عظامِ
كيف نرضى ذلَّةً من بعد نصر؟!
كيف نرضى بالملام؟!
ذاك تلفازي دهاني
إنه شيطان بيتي سارقُ الأوقات مني
إنه يبدو لعيني مثل دجال الزمانِ
فيه إفسادٌ كبيرٌ
إنه محض الحرام
سوف أنهي كل شؤم
عندما يُمسي حُطامًا في الختامِ
توبتي تبدو ملاذًا
عاد من بعد انفصامِ
إنها ترياق روحي
أو شفاءٌ من جروحي أو قروحي
بعدها عاد انسجامي
بعدها عاد انسجامي
ـــــــــــ
محمد عبد السلام الباشا
================
حاجتنا إلى المواعظ
اعتاد بعض المثقفين المعاصرين ذم الخطاب العاطفي مطلقًا والتهوين من شأنه، ويذكرونه - غالبًا في مقابل الخطاب العلمي المتزن، والخطاب الفكري العميق؛ ولهذا قد يَزْهد بعضهم في المواعظ، ويأمر المثقفين وطلبة العلم بالانفضاض عن الوعاظ مطلقًا، فحديثهم - فيما يزعم - يصلح للعامة والدهماء والبسطاء..!
ولا شك في أن الخطاب العلمي هو الخطاب الذي ينبغي أن يُعتمد عليه، ولكن لماذا نعدُّ الخطاب الوعظي ليس علميًّا..؟! أهو بالنظر إلى حقيقة الخطاب الوعظي؟ أم إلى ما تعارف عليه الوعاظ؟
ثم ألا يمكن الارتقاء بالخطاب الوعظي ليكون جامعًا بين الالتزام العلمي والبناء العاطفي..؟
لقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأنه (موعظة)، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)[النور:34]، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57].
ووعظ الله عز وجل في كتابه العزيز في مواعظ كثيرة، منها قوله: ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)[النساء:58]، وقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[النور:17] وقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)[البقرة:231].
ومن المسائل الجديرة بالتأمل؛ أن بيان كثير من الأحكام الشرعية في القرآن يُصدَّر بالموعظة أو بالأمر بالتقوى أو يُختم بأحدهما، ومن ذلك: أن الله لما ذكر أحكام الفرائض قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء:13، 14].
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[البقرة:278]، وفي سياق آيات الطلاق قال الله تعالى: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)[الطلاق:2].
وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صَلى الله عليه وسلم بأن يعظ الناس، فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)[النساء:63].
ولهذا كان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه رَضي الله عنهم؛ ومن ذلك ما رواه العرباض بن سارية رَضي الله عنه: "وعظنا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب،. فقال قائل: يا رَسُول اللَّهِ كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا...".
وعن جابر بن عبد الله رَضي الله عنه قال شهدت الصلاة مع رسول الله، في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان، ولا إقامة، فلما قضى الصلاة، قام متوكئا على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكرهم وحثهم على طاعته . ثم مال ومضى إلى النساء، ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن وذكرهن، وحمد الله وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته.(صحيح النسائي).
ومواعظ النبي صَلى الله عليه وسلم لأصحابه كثيرة جدًّا، وحسبك أن تقرأ كتاب (الرقاق) في صحيح البخاري لتقف على شيء كثير من مواعظه عليه الصلاة والسلام.
إن الموعظة إحياء للقلب، وكبح لجموح النفس، وإسرافها، وبعدها عن ربها، وغفلتها عن ذكره، والقلب الجامد الذي لا يتأثر بالموعظة كالصخرة الصماء، ولهذا كان النبي صَلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع". كما أن العين المجدبة التي لا تبكي من خشية الله لا نور فيها، قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".(3/83)
تأمل تربية النبي صَلى الله عليه وسلم رَضي الله عنهم، وسوف ترى أن النبي صَلى الله عليه وسلم بمواعظه استطاع أن يُطهرهم من حظوظ النفس وأهوائها، ويُليِّن قلوبهم، ويجعلها تتعلق بالآخرة، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ما رواه أنس بن مالك رَضي الله عنه: " أَنَّ أُنَاسَاً قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وَسَلَّم حِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ. فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِ اللّهِ، يُعْطِي قُرَيْشاً وَيَتْرُكُنَا وَسُيْوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟
سبحان الله! موقف عجيب استثار بعض الأنصار رَضي الله عنهم، وكاد يذهب ببعضهم مذهبًا بعيدًا؛ لكن انظر إلى موعظة النبي صَلى الله عليه وسلم لهم، وكيف أنه هذّب نفوسهم، وطهرها من علائق الدنيا.. مواعظ يسيرات؛ لكنها تجاوزت الآذان لتستقر في القلوب!
قال أنس رَضي الله عنه: فَحُدِّثُ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَوْلِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُم؟" فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا، يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئاً، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللهُ لِرَسُولِهِ، يُعْطِي قُرَيْشاً وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَفَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ إِلَىَ رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللّهِ؟ فَوَاللهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ". فَقَالُوا: بَلَىَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ رَضِينَا. قَالَ: "فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّىَ تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَىَ الْحَوْضِ".
إن ذلك كله يؤكد أن الوعظ ليس خاصًّا بالعامة فحسب، بل إن العلماء والمفكرين وطلبة العلم أحوج ما يكونون للموعظة؛ فهي تهذيب للنفس، وترويض لكبريائها وشططها، تدفع المرء للتجرد في البحث عن الحق، والصدق في التماس الدليل الصحيح، وفي الترجيح بين الأقوال، فلا يتيه به الهوى في دركات التعصب والاعتداد بالنفس وبطر الحق، خاصة في زمن الفتن وانتشار الأهواء والشبهات، ولهذا كان العلماء أكثر الناس خشية لله تعالى، وقنوتًا إليه. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر:28]. وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].
كما أن في الموعظة استثارة للغيرة في قلب الداعية، تدفعه إلى علو الهمة، وصدق العزيمة، وتطرد عنه غبار الفتور والعجز، وتستنهضه لبذل قصارى الجهد في تبليغ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيها تثبيت لأهل العلم والدعوة أمام مكايد الأعداء، وأحاييل المفسدين، وظلم الملأ المستكبرين.
وفيها إحياء القلب المعرض الذي أسَرَه الهوى، وسيطر عليه التقليد والتبعية، فجعله يُدْبِر عن ذكر الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )[سبأ:46].
إن مواعظ القرآن القرآن والسنة قوارع تهز القلب وتحييه، وتزيل الران عنه، وتجعل العبد المؤمن يتوجه بكليته إلى ربه سبحانه وتعالى تائبًا منيبًا إليه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين المنبيبين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ــــــــــــ
البيان: عدد (194)
========
خارج نطاق الخدمة
حاولت يومًا الاتصال هاتفيًّا بأخ لي يقطن إحدى الدول الخليجية، حيث اتصلت به على هاتفه السيّار، وبينما كنت أنتظر بلهفة مشتاقًا لرده الذي سيضع عني قليلاً من حرارة الشوق ونار الحنين، إذا بالرد يأتي مخيبًا لآمالي ومحطمًا لاستعدادي، ومهبطًا لنبضات قلبي، ومشعلاً لشوقي بالتزايد.. قائلاً: إن الرقم الذي تتصلون به حاليًّا خارج نطاق الخدمة، حينها خطرت على وريقاتي وتبنى قلمي فكرة الصولة والجولة في ميدان التعبير من خلال هذه العبارة عن قضية باتت في الحقيقة نائمة ونومها شكل خطرًا على الجميع دون استثناء.. فبدلاً من عبارة "إن الرقم الذي تتصلون به حاليًّا خارج نطاق الخدمة" نقول: "إن كثيرا من الدعاة الذين تطلبونهم حاليًّا خارج نطاق الخدمة".(3/84)
فقضية خروج الدعاة عن نطاق الخدمة معناه تعطيل "دينامو" الدعوة وتحطيم القدرات ونكران وجحد المواهب، والركون إلى السراب في صنع المجد والعزة التي نريد، فالدعوة بما تحمله من مضامين وأهداف عليا وبما تتفرع منها من وسائل لا تقتصر على خطيب يعتلي منبرًا أو إمام محراب يؤم الناس في مصلاهم أو على شيخ علم يلقي فتاواه ودروسه للناس، لكنها الدعوة بحر يزخر بالمعاني والمُثُل، وفيها من الخير ما لا يوجد في غيرها. يرتقي أفراد الدعوة "الدعاة" إلى حيث تقبل بهم مسؤولياتهم ـ صغيرة كانت أو كبيرة ـ ولكل فرد من أفرادها مسؤولية تختلف باختلاف المقدرة الحجمية، فالمدير في إدارته داعية، والتاجر في متجره داعية، والكاتب في كتاباته داعية، والموظف في مكتبه ووظيفته داعية، والمرأة الصالحة في بيتها داعية، والمعلم أو المعلمة في أماكن إلقاء علمهما دعاة، والبحار على السفينة داعية، والسائق حيث يسوق سيارته داعية أيضًا، وكل في محطته التي يقف عندها ويدور حول رحاها داعية.
قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران:104].
قال الشاعر:
وكيف ينبت في البستان غرس.. ... ..إذا ما عُطلت عنه السواقي
فما أجمل أن يصبح كل منَّا داخل نطاق الخدمة الدعوية، وما أسعده من مجتمع عندما يشعر أنه مسؤول مسؤولية كاملة أمام الله ثم أمام نفسه عن هذه القضية والتي لا تدع مجالا لخلق الأعذار والتسربل مع الرياح الشاردة.
فليكن كل منَّا حاملاً بطاقة اشتراك مستمرة وعضوًا فاعلاً في ميدان العمل الخالص لله والدعوة إلى الخير ليصبح بعدها ذلك المجتمع خلية طيبة تعطي أكثر من الخير الذي تأخذه، تحمل سلوكًا ومبدأ راقيًّا، تأمن به مكر الزمان. وترسم من خلاله آيات الأمان، لتحظى بعده برعاية واهتمام الأجيال القادمة.
أمنية نتمناها، ويتمناها كل غيور، بحيث لا نسمع يومًا من الأيام أن مجتمعنا الإسلامي يحوي أفرادًا معطلين رغم القدرة، ومحبطين رغم الإرادة، ومعوقين رغم الموهبة، ليصبحوا بعد ذلك منكسرين يلجون باب الذل والتخاذل من أوسع أبوابه، فيتظاهرون بأنهم دعاة.. ولكنهم في الحقيقة "خارج نطاق الخدمة".
ــــــــــــ
مجلة مساء: عدد (18)
=============
يانفس توبي ...
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطاً وتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه ... نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها ... خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضّيْتها لعباً ... قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا ... كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانت تخر له الأذقان إذعانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا..مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلوا مدائن كان العز مفرشها ... واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ... ورافلاً في ثياب الغيِّ نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
=============
ماذا بعد رمضان
منذ لحظات قليلة كنا نعيش رمضان .. كان رمضان بين أيدينا، وملء أسماعنا وأبصارنا، وحديث منابرنا، وزينة منائرنا، وبضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وسمر أنديتنا، وحياة مساجدنا، فأين هو الآن؟!
لقد مضى رمضان.. مضى بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، مضى وخلّف الناس بعده بين شقي وسعيد، وفائز وخاسر.
لقد فاز في رمضان من فاز بالرحمة والغفران، والعتق من النيران. وخسر من خسر بسبب الغفلة والبطلان، والذنوب والعصيان، فليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المطرود فنعزيه..
ونحن ما زلنا ـ أيها القارئ العزيز ـ نعيش في آثار نفحات رمضان يجب علينا أن نقف لنتساءل ماذا بعد؟ ماذا بعد أن انقضى رمضان؟ ماذا بعد شهر الرحمة والمغفرة؟ وماذا بعد شهر التوبة والرضوان؟ ماذا بعد أن اكتحلت عيوننا بدموع المحبة والخوف والرجاء، وعزت جباهنا بالخضوع والذلة لرب الأرض والسماء؟ بعد أن عاينا القرب والإقبال وشاهدناه، القرب من الله لعباده، والقرب من العباد إلى الله، ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا.
بعد أن عايشنا كل ذلك وشاهدناه، كان ولا بد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
ولما كان هذا السؤال له ماله؛ إذ به يتجدد الإيمان وتشحذ الهمم وتستنفر العزائم نزل الوحي بالإجابة عليه، منذ مئات السنين، وأجاب النبي الأمين - صَلى الله عليه وسلم - على السائلين الطالبين العلاج الناجع والدواء النافع، فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم".
إذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان، فيلزمك أيها الموحد معها وتحت ظلها أن تستقيم وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه. الاستقامة إنها العلاج، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت:30].
قال أبو بكر: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً.
قال عمر بن الخطاب: "لم يروغوا روغان الثعالب".(3/85)
فيا من رفعت كفيك في رمضان طالبًا الهداية، راغبًا في الإنابة، زاعمًا الرجوع، مدعيًّا الإقبال، هل صدقت في زعمك، ووفيت مع ربك بعد رمضان؟ أم أنك رغت روغان الثعلب فتعاملت مع الله بذمتين: ذمة رمضانية، وذمة غير رمضانية، ولقيت الله بوجهين و"شر الناس ذو الوجهين" .
شروط الاستقامة:
الاستقامة هي الحل وهي السبيل، وهذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب.
أولا: الاستعانة بالله: أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرار، فليست الاستقامة فتوة منك ولا قدرة فيك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة. أما الناظر إلى عمله المحسن الظن بنفسه الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي - صَلى الله عليه وسلم -: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا"[أبو داود: 4426]، وقال : "إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة"[أحمد 20678].
ثانيا: المجاهدة: فليست الاستقامة نعيما يرتويه الإنسان وينتعش به وهو نائم على فرش الراحة والبطالة.. بل هي الجد في العبادات، والتشمير في الطاعات، والعنت والتعب في ترك الملذات والمشتهيات والمحبوبات، فتترك الطعام وأنت تشتهيه لتصوم لله كما صمت في رمضان، وتترك النوم وأنت تهواه لتقوم الليل كما قمت في رمضان، وتخرج المال وأنت تحبه لتتصدق لله كما تصدقت في رمضان.
إنها مجاهدة النفس، ومجاهدة أعداء الله من الشياطين ومن إخوانهم الظالمين، وتصبير النفس على أذاهم لعباد الله المؤمنين، فحياة الاستقامة كلها تعب ونصب وجد واجتهاد، ولا يستوي عند الله من جاهد نفسه في جنبه ومن أراح نفسه واستراح ..
إن الله لا يَمُنُّ عيك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها. قال تعالى:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].
قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة.
وقال الشافعي: لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله.
فما أحراك أيها الغيور الطالب للجنة أن تصبر وتصابر. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا)[آل عمران:200].
خوارم الاستقامة
ثم إن من الواجب أن يُعلَم أن هذه الاستقامة لا يعيبها أن تنكب ببعض الذنوب وأن يصاب صاحبها ببعض الفتور، فإن هذا حال لابد منه كما جاء في الحديث: "والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". فالذنب قدر يحتج به بعد التوبة منه، وأما الاستغفار فهو مطلب شرعي محبوب إلى الله تعالى ..كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن رسول الله - صَلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.. يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم".
فالاستقامة قد يصيبها ما يصيبها، فما دورك أنت إذا نيلت توبتك بذنب أو أصيبت بثلم ؟!
إن دورك هو المعاودة، وإعادة المحاولة: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)[الزمر:54]. فلا تيأسن من الله ولا تقنطن من رحمته سبحانه، فإن القنوط باب من أبواب الكفر.
وأكبر ما يصيب الاستقامة الفتور والضعف والتقصير في بعض الأحيان، وهو أمر لازم دلَّ عليه ما رواه الإمام أحمد بسند حسن أن رسول الله - صَلى الله عليه وسلم - قال: " إن لكل عمل شرّة ولكل شرّة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتى فقد نجا ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" .. وقال عمر رضي الله عنه: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإن أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فاعتصموا بها على الفرائض".
فالفرائض والواجبات وترك المحرمات، حدود ينبغي أن يلزمها المستقيم حتى يكون مستقيمًا، وحتى في فترات الضعف وخور العزيمة لا يجوز له تجاوز هذه الحدود، فإذا فرط في بعض النوافل، بعض الأوقات، فلا يقدح ذلك في استقامته، ولكن عليه بالمجاهدة حتى يعود إلى قوته، وينتقل من فترته إلى شرته.
ونسأل الله أن يقيمنا على طاعته، ويديمنا على محبته، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
=============
درس لا يُنسى..!
كنت في رحلة إلى مدينة (وجير) في الشمالي الشرقي لجمهورية كينيا، وبعد تجوال طويل بين القرى المختلفة، توقفت بجوار مجموعة من الصبيان تحلقوا لقراءة القرآن الكريم بين يدي شيخهم تحت ظل شجرة، هربًا من لهيب الشمس المحرق، رأيتهم يكتبون القرآن الكريم بالفحم على ألواح خشبية بطريقة بدائية، ويرددون مقطعًا من سورة (ق) بصوت متخشّع يأسر القلوب.(3/86)
ورأيتُ شيخهم يُمسك نسخة قديمة ممزقة الأوراق من كتاب "الأصول الثلاثة" باللغة السواحلية، ذكر أنه استعارها من صاحب له، فسألته عن طلابه وحرصهم على الدرس والحفظ؟ فطأطأ رأسه قليلاً، ثم تنهد بعمق.. وقال: جاءت إلينا إحدى الإرساليات الكنسية العريقة منذ أكثر من عشرين عامًا، وهاهي ذي الآن تتعاهد أبناءنا بالقصص المصورة الموجهة بلغتهم المحلية، فتشدهم بألوانها البراقة وأساليبها الجذابة، كما توزع الإنجيل والكتب والمجلات التنصيرية، وتقيم الاحتفالات والبرامج الشبابية المتعددة لاحتواء المسلمين وفتنتهم.
ثم نظر إليَّ نظرة ملؤها الأسى والعتب، وقال لي بحياء: أين المسلمون؟! حتى أنت تصافح الصبية بحرج حتى لا تتسخ يدك! ولكن دع النصارى يفعلون ما يريدون فنحن على ثقة من ديننا، حتى ولو كنا تحت شجرة ولم نجد إلا ألواح الخشب وأقلام الفحم!!
غادرت المنطقة وقد اغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أحمد الله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، الذي حفظ كتابه العزيز، وحفظ دينه الكريم، فعلى الرغم من الفقر والمرض والجهل، وعلى الرغم من العزلة والانقطاع، والبعد في تلك المناطق النائية والأدغال الوعرة؛ تجد هؤلاء الصبية يتحلقون لتلاوة كتاب الله تعالى بكل اطمئنان وثقة.
لقد تعلمتُ في التربية درسًا لا يُنسى.. فالبذل لهذا الدين والتضحية من أجله ليست شعارًا يُرفع أو دعوى يُتشدق بها، وإنما هي وليدة عقيدة راسخة في القلب تثمر الصدق والفاعلية.
لقد تعلمتُ في التربية درسًا لا يُنسى.. فكم من الأموال التي ننفقها في الإسراف والبذخ والتوسع في المباحات، فضلاً عن الملاهي والمحرمات..؟!
ولم أعجب من جهود المنصرين وأنا أقرأ قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[الأنفال:36].
ولكنني عجبت أشد العجب من تقصيرنا وتفريطنا نحن المسلمين، فكتاب الله عز وجل لم نستطع إيصاله لعموم المسلمين، فضلاً عن ترجمة معانيه وتفسيره.. فضلاً عن تقريب السنة النبوية وترجمتها، وتيسير العقيدة الصحيحة المبرأة من الشركيات والبدع..!!
ما أعظمها من أمانة..!
وما أجلها من مسؤولية..!
=============
سوبر ستار .. أجمل قبر لأتعس أمة
عتذر في فاتحة كلمتي هذه عن الصمت الذي اختفت في تلافيفه كلمة شهرين لا شهر واحد.. ولم يكن ذلك إلا لمزيج إحباط وحيرة، زجّني في صمت رجوت أن يكون ناطقاً بليغاً، ولكنه جاء سقيماً عييّاً!..
واليوم، جاءني ما أخرجني، قسراً لا طوعاً، من راحة الصمت إلى آلام الحديث ومأساة الحوار.
لقد كنت أظن أن المصائب التاريخية التي حاقت بأمتنا، إنما هي سقوط الأندلس، فسقوط بغداد في أيدي التتار، واحتلال الصليبيين لفلسطين، ثم هذا الاحتلال الصليبي الصهيوني الاستعماري اليوم لبغداد.
وما علمت إلا بالأمس أن المصيبة الكبرى التي اجتاحت عالمنا العربي عامة ومحيطنا السوري خاصة، ليست شيئاً مما ذكرت، وإنما تتمثل في تقاعس الأمة العربية والإسلامية إلى اليوم عن النهوض بواجب العثور على أجمل صوت غنائي تهتز طرباً له الرؤوس، في السهرات الفنية والأندية الليلية.
كان أول من نبه إلى هذا التقصير الخطير، قناة "... " إحدى القنوات الفضائية!..
فهي التي نبهت إلى أن المصيبة الكبرى تتمثل في هذا التقصير، وليست متمثلة في النزيف الذي تعاني منه الأمة لاحتلال الاستعمار الأمريكي العراق، ولا هي متمثلة في القتل الذي يستحرّ كل يوم بضحايا الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لم تكتف القناة بهذا... بل أخذت تقرع أجراس الخطر الفني على مسامع الأمة، وأهابت بها أن تنهض نهضة ديمقراطية قدسية، من خلال وحدة شعبية متراصّة، وأن تبذل قواها متضافرة جادة، ثم تسعى سعيها لتدارك التقصير الذي تلبست به الأجيال السابقة، فتكتشف للأمة العربي جمعاء الصوت الغنائي الأول الذي سيكون إليه تشنيف الآذان، في معركة المصير التي ستدور رحاها في السهرات الفنية والأندية الليلية، حيث ستكون إليها كلمة الفصل في تحديد موقع هذه الأمة من التاريخ المقبل.
وتلاقت الأقنية الفضائية في خندق كفاحي واحد، تتابع الأصوات المرشحة، في نضال صابر دائب، حتى الرابعة صباحاً!.. ولما تم الاكتشاف، وفاز المناضلون والمكافحون والمرشَّحون والمصوتون، بالنصر المبين، إذ قدموا إلى الأمة العربية والإسلامية ضالتها المنشودة، ذات الطلعة البهية، والصوت الشجي، والجمال الفتان، تلك التي كان غيابها السبب الأول في الكوارث التي ترزح أمتنا اليوم تحت وطأتها، وقد لا تكون الأخيرة فيها نكبة فلسطين واحتلال العراق.
وقام أصحاب السيادة والريادة بأدوارهم المشرفة في ساحة هذا الكفاح المشرف!!.. فنهضوا بواجبهم الكفاحي والوطني مهنئين مصفقين.. ومواسين معزّين ومعوضين.
الأمة العربية والإسلامية تنزف.. والدم القاني المتفجر من جسمها لا يتوقف ولا يجف.. وذوي الهيبة والوقارفي الأمة، معإعلامها وأقنيتها، وشعوبها ((المهتاجة)) المناضلة، منصرفون جميعاً إلى إيقاد الشموع الخافتة في الأندية الليلية الساهرة، يتسابقون إلى شرف تقديم أجمل صوت غنائي، لأكبر قطيع من المتطوحين بسكر المهانة والذل... حيث ترتفع الأيدي التي ربيت على فن التصفيق، ولم تُدرَّب على شرف تطهير الأرض العربية الإسلامية من الاحتلال والرجس.
أما التاريخ... فها هو ذا ماضٍ في حفر أجمل قبر لأتعس أمة. واسم القبر: ((سوبّر ستار)).
=============
لغة الأرقام(3/87)
مُحدثي لا يعرف سوى لغة الأرقام..
تسأله سؤالاً.. تجد الجمع والطرح أولاً.. ثم يأتيك الجواب..
في ليلة سفرٍ باردة.. ساد فيها الصمت والإرهاق قال لي: كم تتصدق كل سنة من مالك؟!
عجبتُ من السؤال بعد طول سكوت!!
ولكنه أصر على السؤال مرة أخرى.. وقبل أن أُجيب.. سألته.. لماذا وأنت تعلم أن إخفاء الصدقة خيرٌ من إعلانها كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "سبعةٌ يظلهم الله بظله، يوم لا ظل إلا ظله".. وذكر منهم "رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.."؟!.
ولكنه شدد في السؤال.. واحترت في الجواب
فكرت.. كم أتصدق في سنة كاملة ؟
سؤال يمر عبر السنة.. أيام وشهور مضت
بعد أن لاحظ طول تفكيري.. قال : دعني أُقرِّب لك السؤال، نحن الآن في منتصف الشهر. مضى نحو أسبوعين من بداية هلال هذا الشهر، كم أنفقت في أوجه الخير والبر؟
أجبته بسرعة وبدون تردد.. لم أنفق شيئًا إطلاقًا..
هز رأسه.. وأصاب بغيته.. وعاد للغة الأرقام وقال بعد برهة: أنت لا تتصدق في اليوم ولا بشق تمرة.. أرأيت كيف؟
تعجبت من حسابه.. ولكنه أضاف.
أنت لا تتصدق إلا إذا وجدت فقيرًا.. أليس كذلك؟
قلت له.. نعم..
هز رأسه قائلا: متى تجد ذلك الفقير المحتاج.. أو متى بحثت عن فقير؟
ولا أقول فقيرًا فقط.. بل من أقاربك أو جيرانك؟
كان جوابي داخل نفسي.. لم أبحث.. لا عن جارٍ ولا قريب..
لو فرضنا أنك تتصدق كل يومٍ بريال.. لأصبح مجموع ما تنفق في عام كامل ثلاثمائة وستين ريالاً. مبلغٌ زهيد.. أليس كذلك؟
قلت له موافقًا.. نعم هذا صحيح..
ولكني أعلم أنني لا أتصدق بهذا المبلغ في عام كامل.. رغم قلته.
واصل حديثه.. باب الصدقة باب كبير من أبواب العبادة فيه سدٌّ لحاجة فقير.. وكسوةٌ لعارٍ.. ولقمةٌ لجائع.. وإغاثةٌ لملهوف.. وتعليمٌ لجاهل..
لقد وهبك الله هذا المال.. ومرتبك يزيد على ثلاثة آلاف ريال.. ماذا قدمت للإسلام والمسلمين؟ هل اشتريت كتابًا لإخوانك وجيرانك..؟ هل شاركت في بناء مسجدٍ ولو بالقليل؟ كم شريطا إسلاميًّا أهديت؟ كم فقيرًا واسيت؟
مجالات الخير كثيرة.. ومتعددة.. ولكن.. أرأيت كيف نحن محرومون من هذا الأجر!!
لماذا لا تخصص مبلغًا ثابتًا كل شهر مما زاد عن حاجتك ينفق في أبواب الخير..
ثم هناك الكثير تستطيع أن تقدمه.. خذ مثلاً.. وعليك الجمع..
لو استغنيت عن كأس من اللبن تشربه في اليوم لوفَّرت ريالاً كاملاً يكفي شراء وجبة كاملة لعائلة مسلمة..لم تر الطعام من يوم أو يومين.
لو تركت شراء ثوبٍ واحد مما زاد عن حاجتك كل عام.. لأنفقت مبلغ مائة وخمسين ريالاً تكفي لشراء كتب في العقيدة توزع على مدارس المسلمين.
زوجتك .. لو رغبت فيما عند الله.. وتبرعت بثمن شراء فستان واحد فقط كل عام.. مائة وخمسون ريالاً.. تكفي لتكلفة برنامج إذاعي إسلامي لمدة عشرين دقيقة.. في بلادٍ الحربُ لا هوادة فيها بين المسلمين والمنصرين.
أخي.. منزلك الذي تزينه بأنواع الزينة والكماليات.. ألا تستغني ولو مرةً واحدة عن شيء من ذلك؟
إذاً لوفرت مبلغًا يزيد على خمسمائة ريال.. يكفي لكفالة ثلاث طلاب يحفظون القرآن الكريم لمدة عام كامل.
الله أكبر.. أرأيت كيف؟
نعمةٌ جعلها الله في يدك.. فلا تمنعها عن طريق الخير..
أخلف الله عليك ما أنفقت.. ورزقك دعوة صالحة.. ترتفع إلى السماء من قلب طفلٍ مسلمٍ يحفظ القرآن.. أنت ترعاه.
ابنك.. لماذا لا يكون له مشاركةٌ في الخير..
لو أخبرته يومًا أنك ستتبرع بقيمة هذه اللعبة لدعم المسلمين وإعانتهم لرأيت الفرح على وجهه.. فهو ابن الإسلام
بمبلغ خمسة وثلاثين ريالاً تبرعًا منه.. تقيم صلب مجلة شهرية إسلامية لمدة عام كامل باشتراكك فيها ترفع لواء التوحيد..وتحارب البدع والشركيات..
تكون أنت مشتركًا فيها بالدعم البسيط.. وبالاطلاع والفائدة..
رفع الله ابنك في عليين.. يوم أن رفع لواء التوحيد..
التفت إليَّ وقال: أرأيت كيف.. ولا يتأثر ملبسك.. ولا مأكلك.. ولا مسكنك
أمضى خنجرًا في قلبي.. عندما أضاف: والله رأيتهم لا يبحثون إلا عن لقمة طعام واحدة.. ما زاد عن حاجتك في وجبة طعام.. يكفي عائلة كاملة لمدة أسبوع
العين تبكي من مُصَابِكِ أمتي.. .. .. فإلى متى يا أُمَّتي ننعاكِ
سكتنا برهة.. وأنا أغالب دمعة حائرة في مهجتي.. تبحث عن مخرج..
أضاف بصوتٍ غلبة التأثر: كم فقير ستُطعم.. وكم من مُستحقٍّ ستُعطي..
كم من باب خيرٍ ستطرق.. وكم من الأجر ستجمع..
هذا بابٌ من أبواب.. لو نظرت جانبًا آخر.. لرأيت العجب
لو ترك السائح المسلم سفر هذا العام وتبرع بتكاليف سفره.. لأطعم وكسا قرية مسلمة.. بل وربما قريتين لمدة عام كامل..
هزَّ يده.. هناك الكثير.. تركني أسترجع لغة الأرقام مرة أخرى وأنين أطفال المسلمين يطرق أذني .... "أين أنتم عنا يا مسلمون..؟!!"
ـــــــــــ
عبد الملك القاسم
==============
شبابنا بين العفاف والانحراف
كتبت من قبل أن أول الحرب كلام، وأن الله تبارك وتعالى يحاسبنا على حصائد ألسنتنا - حتى التي لا نلقي لها بالاً، ولا نعيرها اهتماماً - وكتبت ألفت النظر إلى الشعارات المتحركة على السيارات، وأنها تعكس دلالات فكرية وعقيدية وأخلاقية عالية أو سافلة .. وكتبت عن أسماء المحلات والعطور والسيارات، وما تعنيه من إثارة وإساءة، وكتبت عن الشبان الذين يتحرك أحدهم حاملاً على صدره وظهره ( وكابِهِ ) كلمة ثور أو خنزير، أوجاموس، أو كلب، بخط عريض بارز، يظن ذلك تحضرًا، وحسن هندام .(3/88)
هذه قائمة من الكلمات المرقومة على الثياب، التي يلبسها الشابات والشبان، وتحمل ألفاظًا بذيئة، أو معاني قميئة، أو إشارات دنيئة، مما رأيت، ومما قرأت، مما ينتشر في الأسواق والشوارع على الثياب وغيرها، ومما يرتبط بشكل مباشر بالإباحة الجنسية والوقاحة الذوقية التي تجرح نفس الكريم، وتحير عقل الحليم .
ولك أن تتخيل - أو أن تتوقع - فتاة متعلمة تجري على شاطئ الخليج وقد حملت على ظهرها أو صدرها كلمة ( أنا عاهرة ) - أجلّك الله - أو جملة : أعطني قبلة، أو ( أنا شهوانية مثيرة ) .
ولك أن تتخيل رجلاً محترمًا ( ملء ثيابه ) كتب على صدره : خنزير أو ملحد أو صهيوني !!
هل تستبعد هذا ؟
رأيت بعيني والله .. وخذ عندك من هذه الألفاظ ذات البعد الرخيص، وتجدها مكتوبة على الملابس الملونة الرخيصة والغالية وغالبا بالإنجليزية ما معناه: عارية، عاهرة، فاجرة ، لا تلمسني، take me خذني، follow me اتبعني، play boy إباحي !!
ومن الجمل والعبارات التي لها علاقة بالأديان : zion صهيوني، bible الكتاب المقدس، gospel الإنجيل، Theocracy كهنوت، Trinity الثالوث، Madona العذراء وهو اسم المغنية الإباحية الشهيرة، Brahman كاهن هندوسي، Christianity النصرانية، I am Jweish أنا يهودية، Church كنيسة، Saint قديس، Clergy man كاهن Atheist ملحد، Synagogue كنيس يهودي !!
ومن الكلمات التي لها علاقة بالخمر spirit أي مشروب كحولي، Brandy مشروب مسكر، Brew إعداد البيرة .
ومن عالم الحيوان : Sow خنزيرة، Big، Bull ثور، Dog كلب .
ومن المذاهب المشبوهة : ماسوني 666 Mason / أو FFF من رموز عبدة الشيطان .
ومن أغرب ما يكتب على التي شيرتات : نحن نشتري الناس WE BUY PEOPLE، اشترني BUY ME ، طفل للبيع BOY FOR SALE !!!
ليس هذا فقط - عزيزي القارئ - فالرسوم الغرامية المطبوعة على الثياب في غاية من جمال اللون، ودقة الأداء، ولفت النظر، لترى شابًا يحتضن فتاة، أو امرأة شبه عارية في وضع يفتن الصخر ويذيب الحديد، أو ثورًا من ثيران المصارعة شبه عار، أو رمزًا من رموز الوثنية كالصليب، أو الين يانغ، أو رأس المعزة رمز عبدة الشيطان، أو الجمجمة النارية على أرضية سوداء وحمراء، وهي من رموزهم أيضًا .
وكثيرًا ما يتسلل الصليب في تصميمات الملابس والبادجات التي تطرز عليها .
فتراه بارزًا في لونه ووضعه، لتتأكد أنه لم يوضع في هذا الموضع مصادفة، بل إنهم - حتى في تصميمات الملابس - يحرصون على إدخال زي القساوسة الأوربيين ضمن ملابس الأطفال، وهذا لا يزال شائعًا إلى يومنا هذا يلحظه المتفحص، فمن المعلوم أن لبس كهان أوروبا هو - عادة - بدلة عادية تكون تحتها فانيلة سوداء بنصف رقبة، فيها من الأمام تحت الذقن قطعة بيضاء بعرض إصبعين . وقد لاحظت أنها منتشرة كثيرًا في ملابس الأطفال، مع بعض المصطلحات النصرانية المكتوبة تحتها .
ودعك من أسماء العطور التي منها ORGASM وتعني الإثارة الجنسية، و OPIUM وتعني أفيون، و POISON سم، و WILD متوحش أو بدائي و ECSTACY نشوة، و PROPHCY نبوءة .. و .. و
هذا - يا سادتي - الجانب المعلن، وما خفي هو أعظم وأخطر، وأشد مكرًا، ومن نشر الشهوات، ودوس الأخلاق، ونبذ مكارم العادات، وخنزرة البشر، وتدييثهم، تحت مسمى الانفتاح والتحضر . فعلى ماذا يدل هذا ؟!
- هل يدل صراحة على السعي لتطبيع الأمة مع الرذيلة ورموزها، لتعتاد العيون، وتتأقلم النفوس، وتنحسر الحمية، ويموت في القلب الإنكار ؟!
- هل يدل على أننا بلغنا مستوى من الانهزام النفسي والحضاري أمام الآخرين ، جعلنا نقبل منهم أي لقمة ترمى لنا - كالمتسولين - حتى لو كانت مسمومة ملوثة بفيروسات الإيدز والدياثة ( والنطاعة وعرض القفا ) ؟!
- هل يدل على أن كبار الدعاة صاروا لا يساوون في سوق التأثير ( مليم أحمر ) وأن " المثقفين" قد تم تطويعهم، وتليين إرادتهم لدرجة يخرج منهم دعاة سافرون لهذه ( النيلة الزرقة ) ؟!
- هل يعني هذا أن القرن الجديد سيدخل علينا ومطارق الشهوات تدق عقول الأمة، وتسحق إرادتها، لنتحول جميعًا إلى أمة ترقص "ديسكو"، وتدمن البحلقة في أجساد حسناوات "الفيديو كليب"، ثم لتغرق الشوارع بعد ذلك بالشبان والشابات الذين لا يتخلقون بخلق، ولا يتحلون بفضيلة، ولا يعرفون ما الحلال ولا الحرام، وما العفاف والانحراف ؟!!
- هل يعني نجاح أعداء العفة وأعداء الأديان - خصوصًا الإسلام - في فرض مناهجهم على القلوب والعقول، في البيت والشارع، والمدرسة والسوبر ماركت، والتلفزيون والنادي ؟!
إن ما كان خياليًا في الأمة قد صار مألوفًا عاديًا، وما لم يكن يطوف بالخاطر قبل خمسين سنة لا ترد الآن بالخاطر مجرد مخالفته، وما نعده عفة الآن ربما يكون بعد خمسين سنة خيالاً لكونه رجعية وظلامية وتعفنًا . أيعقل هذا ؟!
ثم ماذا بعد ؟! هل سنتقدم ونكون من أهل القرن الحادي والعشرين، إذا ألقينا بالعفاف والإسلام وعزة الشرفاء تحت الأقدام ؟!
لا والله .. بل سنبقى - كما نحن، أو حتى دون ما نحن عليه الآن، أمة من المتخلفين المتناحرين المستسلمين، فلا أخلاقنا حفظنا، ولا مروءاتنا أبقينا، ولا ديننا لزمنا ولا على آخرتنا عضضنا بالنواجذ
واسألوا بانكوك وجزر الكاريبي والبرازيل وإندونيسيا وجمهوريات الاتحاد الساقط في روسيا .. وسنكون قد خسرنا الدنيا والآخرة .. ألا ذلك هو الخسران المبين !!
=================
إلى أين تغدو(3/89)
النفوس الفارغة تقبل على الباطل بشراهة كأنه حق، وتميل معه كأنه عدل، وتدعو إليه كأنه هدى، وتفنى فيه كأنه خلاص، وتكد معه كأنه راحة، وتلتذ به كأنه حلاوة، في وهم من خرافة التصور تجعلهم يتسابقون إليه، ويتنافسون فيه، وينافسون به:
تفنى عيونهم دمعًا وأنفسهم.. .. ..في إثر كل قبيحٍ وجهه حسنُ
وأنت أعزك الله إذا تأملت أحوال الخلق أدركت معنى قوله سبحانه: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)[الليل:4].
كلٌ قد سعى وجدّ، وكلٌ قد حصَّل ووجد، وكلٌ قد غدا وراح، لكنه ما كلَّ وما استراح، بل في كدٍّ وكد، وبحث وحث، وأمنية ومنية (إِنِّكَ كَادِحٌ) في رحلة حياتك على الأرض بين الوخم والحقيقة، والإدراك والإخفاق:
وللنفوس وإن كانت على وجلٍ.. .. ..من المنية آمالٌ تقويها
والمرء يبسطها، والدهر يقبضها.. والنفس تنشرها، والموت يطويها
وغاية الكدح قوله جلَّ في علاه: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)[النجم:42].
حتى متى تسقي النفوس بكأسها.. .. ..ريب المنون وأنت لاهٍ ترتعُ
أفقد رضيت بأن تعلَّل بالمنى.. .. ..وإلى المنية كلَّ يوم تدفعُ
والدنيا كما قال أبو حاتم: بحر طفّاح، والناس في أمواجها يعومون.
والبحر الطفّاح أكثر ما يعلوه "زبد" فقاقيع لها نقيق "ضفادع الليل" في أشخاص وأحداث، وتجري عليهم "السنن" (كذلك يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[الرعد:17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو طافيًا، ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء، وطروح لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض .. (الظلال).
ولكن ما الذي يحدث للإنسان؟ ما الذي يحدث لأبناء الغفلة؟ إنه ببساطة عمى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46].. عمى القلوب هو الذي جعلها تتخبط في سعيها، وتذهب إلى حتفها سكرى بخداعها: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)[الكهف:103، 104].. بطل عملهم واجتهادهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم محسنون بأفعالهم. (زاد المسير).
تتشعب بهم الطرق، وتختلف عليهم السبل، وتتقاذفهم الأهواء في خسف الروح، ودنس النفس، وخفة العقل (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ).
هذا سعي كثير من أهل الدنيا في تعلقهم بها، ونصبهم فيها، وحرصهم عليها، وطلبهم إياها (يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا)[الشورى:20]، مفتونون بحبها وزخرفها وزينة مترفيها (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء:3].. في أودية الباطل، ومجاهل الهوى، ومفازة الردى، يقتلهم الحرص، ويستذلهم الطمع في صور مخزية من غباء العناء "يألمون" بما في أيديهم وبما فاتهم، وتمزقهم الحسرات في الغدو وفي الرواح طلبًا للسراب، وكأنه ماء الحياة، وبعد حين تصبح اليد فارغة، وتستيقظ وهي خاوية (كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ)[الرعد:14].
حارث.. همام.. ملهوف.. ظمآن.. يمد ذراعية، ويبسط كفيه.. حرص وكدٌ.. وتبقى الذكرى لمن لا يسكن أبدًا (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)[المدثر:37].
فإلى أين تغدو؟ ولمن تبيع النفس؟ ففي حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها". [رواه أحمد ومسلم] .
==============
بين أمي.. وسوامي
قبل أن تبدأ الحصة بدقيقة واحدة تحرك في الممر الطويل مُتجهًا إلى الفصل الذي يقف في مواجهته تمامًا.. سار بخطًا هادئة وهو يرتب في ذهنه الكلمات المناسبة التي سيقولها لطلابه، كان يدرك بحكم خبرته الطويلة في التدريس أن طلاب الصف الثالث الابتدائي يختلفون عن طلاب الصف السادس، وأنه في موضوع كهذا الذي سيتحدث فيه اليوم عليه أن يراعي صغر سنهم ومحدودية قاموسهم اللغوي، وأن يختار الكلمات المناسبة التي يستطيعون فهمها وكتابتها.
دخل الفصل مبادرًا بإلقاء التحية على طلابه الذين يُحبهم جميعًا، كما يحب ابنه محمد الجالس معهم. استدار جهة السبورة، وكتب في منتصفها الأعلى (بسم الله الرحمن الرحيم)، ثم كتب في الركن الأعلى من الزاوية اليمنى: "السبت 23/5/1421هـ.. المادة: تعبير.. الموضوع: الأم".
واجه طلابه من جديد، وبدأ يتحدث إليهم: سنتحدث اليوم عن أهم وأحب إنسانة في الوجود، من يقول لي: من هي أهم وأحب إنسانة في الوجود؟
ـ . . . (لم يجب أحد)
استدار جهة السبورة ووضع خطين باللون الأحمر تحت كلمة (الأم) وأعاد السؤال مرة أخرى، فارتفعت أصابع الطلاب وأصواتهم: أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا..
تفضل يا أحمد: الأم .. ممتاز. أحسنت يا أحمد.. نعم الأم.
قالها واسترسل في الحديث: لا يوجد في هذه الدنيا يا أبنائي من يحب إنسانًا ويخاف عليه كما تحب الأم ابنها وتخاف عليه، ولعلكم لمستم ذلك بأنفسكم، فمن الذي يحبكم ويحنوا عليكم ويرعاكم؟ ومن الذي يخاف عليكم إذا مرضتم، ويتمنى لو يفديكم بروحه ويبيت الليل كله مستيقظًا؟ أليست الأم؟ ولذلك حينما جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله: من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال له: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك".
- من يقول لي: كم مرة ذكرت الأم في الحديث؟(3/90)
- أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا..
- تفضل يا خالد.
- ثلاث مرات يا أستاذ.
- ممتاز.. طيب من يقول لي لماذا ذكرت ثلاث مرات؟
- .... ( لا إجابة )
_ أنا أقول لكم..
نبتت على لسانه باقة ملأى بالكلمات العذبة، وفرد طائر الشعر جناحيه في صدره. ودّ أن يعطر جو الفصل بكل الآيات والأحاديث والآثار التي يحفظها عن الأم. وتمنى أن يغني معهم كل الأبيات الشعرية التي تجري في شرايينه نهرًا دافقًا يلهج بفضل الأم.
وفكر في أن يحدثهم عن أمه هو، كم سهرت وكافحت وتعبت حتى ربته بعد موت والده، وكم من القيم النبيلة غرست في نفسه. لكنه رأى أن يتحدث إليهم من خلالهم، عن الأشياء الملموسة، الأشياء التي يعيشونها ويفهمونها، ولذلك قال لهم:
- لأنها أكثر حبًّا وشفقة ورعاية وعطفًا على الابن، ولأنها تعبت فيه، ومعه أكثر من غيرها، فهي إذن أحق من غيرها بحسن رعايته وصحبته.
- انظروا إلى أمهاتكم في البيوت، من التي تعدّ الطعام وتغسل الثياب وتنظف البيت، وتعلمكم، وتسقيكم، وتنظفكم، وتغطيكم في الليل إذا نمتم؟ من التي تخاف عليكم إذا مرضتم، وتفديكم بنفسها، وتعطيكم الدواء في موعده، تبيت الليل ساهرة؟ .. إنها الأم.
أحسَّ أنه تحدث كثيرًا ولم يقل كل ما في نفسه.. توقف فجأة عن الحديث بعد أن ختم كعادته بكلمة: مفهوم.. ورددوا وراءه بصوت واحد: مفهوم.
تحرك باتجاه حقيبته في الزاوية اليسرى من الفصل، أخرج منها ورقة صغيرة ومجموعة من ظروف الرسائل بعدد طلاب الفصل.. واجه طلابه من جديد والظروف في يده، ثم قال لهم بعد طول تفكير:
- كل واحد منكم يخرج ورقة ويكتب عليها اسمه. سأملي عليكم رسالة، وبعد أن أصححها لكم سأعيدها إليكم لتكتبوها من جديد خالية من الأخطاء، ثم سأعطي كل واحدٍ منكم ظرفًا يضع فيه الرسالة ليوصلها..
- إلى من نوصلها يا أستاذ؟
- سأقول لكم فيما بعد..
شدّتهم الفكرة، فبادروا بإخراج أوراقهم، وكتابة أسمائهم، وحين لمس الأستاذ تهيؤهم، بدأ يملي عليهم:
(إلى الإنسانة التي تحبني وترعاني، وتتعب وتسهر من أجلي.. إلى الإنسانة التي تعتني بطعامي، وتغسل ثيابي، وتحرص على نظافتي، وتسهر على راحتي، وتربيني أحسن تربية، وتحبني أكثر من أي إنسان في هذه الدنيا، وتقضي كل وقتها معي، إلى..... ).
أكملوا الفراغ وسلموا أوراقكم لأتأكد من سلامة كتابتكم بعدها سأقول لكم إلى من توصلونها..
جمع المعلم أوراق طلابه وبدأ يقرأ:
وجد في الورقة الأولى بعض الأخطاء الإملائية، وضع تحتها خطًا أحمر، وكتب فوقها الكلمة الصحيحة، وحين وصل إلى الفراغ الذي تركه لهم ليملؤوه أذهله الاسم المكتوب "روكميني".
انتقل بسرعة إلى الورقة الثانية فهالته "ماما شاندي" المتربعة في آخر الرسالة.
أخذ يقلب الأوراق باحثًا بعينيه المذهولتين عن الأسماء التي في الفراغ، تدلي فكه الأسفل، وحزت الدهشة حلقه، وغرست الأسماء في عينيه الجاحظتين أصابعها الغريبة: سارتيما، هيرلينا، براندي، سقيارتي، جيجي، سابرتينا..
بدأ قلبه يدق بعنف وهو يبحث عن ورقة ابنه محمد..
صُعق حين رأى اسم خادمته الأندونوسية "سوامي" يملأ الفراغ بكل وضوح .
ــــــــــــــ
بقلم/حسن بن حجاج الحازمي
===================
من مذكرات مهتدية يابانية
{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} ... إذا أصابت رحمة الله عبدا فلا ممسك لها ، وإذا نزلت هدايته بإنسان فلا راد لها ، وأعظم نعم الله نعمة الإيمان التي يمن بها على من يشاء من خلقه منّة منه وحده، وتفضلا منه سبحانه، ولا يعرف قيمة هذه النعمة إلا من حرم طعمها ثم ذاقها، هنالك يعرف الفرق بين الكفر والإيمان وبين الهداية والغواية، وينطق حاله ولسانه بما نطق به ربنا في كتابه من قبل : {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .. هذا ما ستشعر به حين تقرأ هذه القصة التي نقلتها مجلة [يابان تايمز] عن إحدى اليابانيات اللاتي منَّ الله عليهن بالهداية حيث تقول :
نشأت في جو تكنولوجي متقدم في اليابان حيث عشت في بيئة مستقرة ومسالمة، وقد أنعم علي الله بأسرة محبة ومهتمة بأفرادها، كما كنت متفوقة في دراستي وناجحة في حياتي، وكانت كل السُبُل مهيأة أمامي لكي أحيا حياة سهلة ومريحة.
كانت أسرتي تدين بالبوذية مثل العديد من الأسر اليابانية، لكن قناعاتي بالبوذية كانت ضعيفة منذ طفولتي، ولم تكن أسرتي تعير هذا الأمر أي اهتمام.
كان رأسي يمور بأسئلة عديدة عن الكون والوجود وظللت على هذه الحال حتى بلغت العشرين من عمري حيث أنهيت دراستي الجامعية وبدأت أعمل، وكنت أتمنى أن أجد راحة البال والاستقرار وأن يشغلني العمل عن الأسئلة التي كانت تطاردني، لكنني ظللت أعيش حالة الخواء الروحي.
قيَّض الله لي في عام 1988م أن أعمل مترجمة للغة اليابانبة في شركة سياحية في مصر لمدة عام، وهناك بدأت رحلة البحث ودراسة الإسلام، وتعرفت على العديد من الأسر المسلمة، كما زرت العديد من المساجد والمواقع الإسلامية.
عندما عدت إلى اليابان بعد انتهاء فترة عملي بمصر قررت مواصلة دراستي للإسلام لعلني أجد إجابات شافية للأسئلة التي تدور في رأسي.
كانت المعلومات البسيطة التي أعرفها عن الإسلام من المدرسة والجامعة والتي كنت أسمعها من خلال القنوات الفضائية ليست قليلة فحسب، بل كانت مشوَّهة أيضاً، شأني شأن معظم أفراد الشعب الياباني الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا ما تبثه وكالات الإعلام المتحيزة من أن المسلمين أرهابيون وميالون إلى العنف، وأن العالم الإسلامي عالم متخلف لم يلحق بركب الحضارة الإنسانية.(3/91)
بعد عودتي إلى اليابان ذهبت إلى المركز الإسلامي في طوكيو وأخذت منهم نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، وظللت أتردد على المركز لمدة ثلاث سنوات، قرأت خلالها العديد من الكتب الإسلامية، وبمرور الأيام زادت معرفتي بالإسلام وازدادت قناعاتي بأنه هو الدين الحق، ووجدت إجابات واضحة ومقنعة للأسئلة التي كانت تطاردني.
تأثرت بالمكانة التي أعطاها الإسلام للمرأة، حيث أن الإسلام كرَّم المرأة وحماها وأمر باحترامها واحترام مشاعرها وكرامتها وأعطاها من الحقوق ما لم تنله قبل الإسلام ولا بعده، وقد فوجئت كثيراً حيث أنني كنت أظن خلاف ذلك.
بدأت بعد ذلك أعيش في حالة انعزال ووحدة للتأمل واتخذ القرار الصائب وكنت أدعو الله أن يهديني وأن يأخذ بيدي، وبدأت أتفكر في مخلوقات الله، وجدت قدرة الله تتمثَّل في مخلوقاته وكونه البالغ التنظيم.
ساعدتني تلك الفترة على أن أحس بالإيمان يتسرب إلى قلبي وشعرت بسعادة غامرة تملأ روحي.
بعد ذلك قيَّض الله لي مرة أخرى أن أعمل في دولة إسلامية، وكانت هذه المرة في إندونيسيا التي عملت فيها لمدة عام، وشعرت بمدى تغلغل الإيمان في نفوس الإندونيسيين، كما لاحظت أنهم ملتصقون إلى درجة كبيرة بالإسلام، وقد ساعدني من تعرفت إليهم على فهم الإسلام بطريقة أوضح وأكبر وازداد حبي للإسلام وإيماني به.
بعد أن عدت إلى اليابان كنت قد قررت اعتناق الإسلام وواجهتني صعوبات كبيرة في إقناع أسرتي بذلك القرار الذي اتخذته حيث إنهم رفضوا ذلك بشدة، لكنني كنت قد صممت على اعتناق الإسلام مهما كانت الحواجز بيني وبينه، وقد كان حيث اعتنقت الإسلام وبدأت في أداء الصلوات الخمس بانتظام وبدأت في دراسة القرآن وقراءته وحفظ آيات منه تعينني على أداء صلاتي بشكل صحيح.
بعد ذلك سافرت إلى مصر في عام 1991م وأشهرت إسلامي في مسجد جامعة الأزهر وقد رحب بي المصلون جداً وهنأوني وبكى بعضهم من شدة الفرح والتأثر.
بقيت في مصر لفترة من الزمن وتزوجت من أحد المصريين ورزقني الله منه بطفلة جميلة أسميتها مريم، وأنا أعيش حالياً في سعادة شديدة وأداوم بانتظام على قراءة القرآن ويساعدني زوجي على ذلك وأتوجه لله بالحمد والشكر على ما أنعم به علي من الإيمان.
================
هل يباع الطموح فأشتريه..؟!!
رزقني الله جمالاً ورزقني ذكاءً، وفوق ذلك أنني من أسرة غنية وفّرت لي كل ما أريد، فتوهمت أني أنا التي أمتلك كل شيء، كان والدي يحثني على الدارسة لأنال شهادة عالية ليفتخر بها، إلا أنه لم يستطع أن يوفر لدي الرغبة في الدراسة.
في المرحلة الثانوية تعرفت على مجموعة من الزميلات يشاركني نفس الرغبة وهي عدم الرغبة في الدراسة والتعب خلف المذاكرة، صار الإهمال سجيتنا، وتبادل أخبار الموضة والفساتين والحصول عليها هو ايتنا، نجحت من الصف الثالث بشق الأنفس، انقطعت عن الدارسة زمنًا، ألحَّ علي والدي بأن أكمل دراستي الجامعية، قبلت في الكلية بصعوبة؛ لأن معدلي كان ضعيفًا ولم أستغرب ذلك، فهو أمر طبيعي لفتاة مثلي.
هذا هو اليوم الأول لي في الكلية، وفي المحاضرة الثالثة كانت المفاجأة المذهلة التي قلبت كياني وشلَّت تفكيري وبعثرت أوراقي، فلم أصدق عيني، نظرت إليها تفحصتها معقول هي؟ لا .. لا.. ليست هي، قطع حبل تفكيري صوتها الهادئ الذي لازلت أذكره وهي تقدم لنا نفسها قائلة: أختكم رقية.. ماجستير في الشريعة، فغبت عن الوعي وعدت بالذاكرة إلى الوراء يوم كنا في الثانوية كانت هي الوحيدة الجادة والمثابرة في الفصل، وكنا بكل غرور وسخف نلمزها بفقرها، فقد كانت لا تغير المريول والشنطة خلال العام، وكانت لا تكترث بنا، وأذكر أيضًا أني تعلمت منها درسًا قاسيًّا لن أنساه، فقد حفر في ذاكرتي، ففي يوم من الأيام وبغروري وبما أملك أردت أن أحرجها، فقلت لها وبدون مقدمات وبسؤال مباغت:
= هل أنت سعيدة؟
== ردت بهدوء: وما هو مقياس السعادة في نظرك؟
= قلت بثقة: كل يفهم السعادة حسب هواه ومزاجه.
== ردت قائلة: وضحي أكثر.
= فأجبت بلغة واثقة: إذا تحققت رغبات النفس وجدت السعادة.
== باغتتني قائلة: وما هي رغبات النفس؟
= أجبت وأنا أخفي ارتباكي: الأكل والشرب واللبس والمال والتمتع بالحياة، هذه هي مظان السعادة.
== اعتدلت في جلستها قائلة: كم هم الذين يأكلون ويشربون ويتمتعون ولديهم المال الوفير وهم غير سعداء؟
= قلت بارتباك أكثر: لا أعرف عددهم فهم كثير جدًّا.
== ابتسمت قائلة: إذًا السعادة في غير هذا الاتجاه.
= فقلت - وأنا آخذ نفسًا عميقًا-: صحيح، صحيح هي في غير هذا الاتجاه.
ونتيجة لهذا الحرج الذي وقعت فيه أردت أن أنقذ نفسي، غيرت دفة الحديث.
= فقلت لها: تحضرين للمدرسة مع الباص كل يوم؟
== فرمقتني بطرفها، كأنما فهمت ماذا أريد وردت بثقة، وأنت تحضرين مع السائق الأجنبي الخاص بكم؟
= فأعادت الحديث إلى الباص هروبًا من الجواب قائلة: ألا تتضايقين من كثرة الزحام؟
== فابتسمت قائلة: وأنت ألا تتضايقين من نظرات السائق؟ ثم أكملت وأنا في الباص أجد متعة عندما أحس بمعاناة الآخرين.
= هدوئها يستفزني، فنقلت الحديث إلى شاطئ آخر قائلة: ألا زلتم تسكنون في الريف؟
== قالت: في الريف نبتعد عن الفضول والصخب ونتمتع بالهواء النقي.
= فأكملت السؤال بسرعة: أظن منزلكم لا زال من الطين؟
== فابتسمت قائلة: منزلنا فيه استقلاليتنا ولا يشاركنا فيه أحد، ويسترنا عن عيون الأغراب، مع العلم أن البيوت قد تغيرت الآن.
= فأظهرت لها أني مداعبة لها، فرفعتُ حقيبتها وقلت: ما أجمل حقيبتك؟ لذلك لم تغيريها منذ مدة؟!(3/92)
== فأخذتها وضمتها إلى صدرها وهي تقول: رفيقة دربي الدراسي ويكفيني أنها لم تمل مني وتحمل كتبي دون تعب أو تضجر مثل بعضهم.
= بدأ الضيق يتسرب إلى نفسي من هدوئها، فقلت لها بعد نظرة إلى قسمات وجهها: ألا تتضايقين من اسمك يا رقية؟
== أجابت بثقة حيرتني: لا أحد يختار اسمه ولم يضر رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم وزوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
= فأيقنت أني لن أستطيع أن أهز تماسكها وثقتها بنفسها، فصرفت الحديث إلى طريق آخر؛ فقلت: هل يوجد في بيتكم وسائل ترفيه؟
== ردت بابتسامة أخرى: أحيانًا أتمنى بقية وقتٍ لهذه الأشياء، والنفس كالطفل تشب على ما تعودت عليه.
= فقلت بسرعة: والموضة هل لها نصيب أيضًا؟
== فردت بثقة: أتعامل مع كل جديد وساتر.
= حاصرتها مباغتة: متى تستعملين المكياج يا رقية؟
== وضعت ذقنها على راحة يدها قائلة: انظري في وجهي، هل ترين فيه عيوب؟
= قلت لها: لا - وأنا أسحب من حقيبتي مجلة متظاهرة بعدم الإحراج من إجابتها - هل تقرئين المجلات؟
== فقالت: وأنت لماذا تقرئين هذه المجلات؟
= فتظاهرت أني أبحث عن موضوع في المجلة قائلة: أقرؤها للثقافة والمعرفة.
== فهمت بالقيام وكأنها تريد أن تلقي علي مفاجأة قائلة: لم أر الثقافة غيرت فيك شيئًا؟
== فخجلت وتصبب العرق مني، فلم أجد ما أجيبها فيه، وأردفت قائلة بعدما اعتدلت قائمة: هل تقرئين شيئًا من القرآن في وقت الفراغ؟
= سؤال مباغت لم أحسب حسابه مزق أوراقي، إلا أن صوت الجرس أنقذني من الإجابة؛ فحملت حقيبتي الغالية الثمن وانطلقت مسرعة، وصدى صوتها وسؤالها يتردد في أدني هل تقرئين شيئًا من القرآن؟!
فعدت إلى وعيي، فأغمضت عيني بعدما انسابت منها دمعة، وإذا بيدها الدافئة على كتفي وهي تقول لي: أنت فلانة؟
= فترددت في الإجابة وقلت بيني وبين نفسي: لله ردك من طموحة وصابرة ولم ينفعني أنا كل ما كنت أملك.
صوت آذان الظهر يخترق السكون، فهربت منها وأنا أخفي خجلي وأسأل نفسي: هل الطموح ملك لأحد؟ هل يباع الطموح فأشتريه..؟
ـــــــــــــــــ
بقلم: عبد الله العيادة
=================
توبة أشهر عارضة أزياء فرنسية
" فابيان " عارضة الأزياء الفرنسية ، فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها ، جاءتها لحظة الهداية وهي غارقة في عالم الشهرة والإغراء والضوضاء.. انسحبت في صمت.. تركت هذا العالم بما فيه، وذهبت إلى أفغانستان لتعمل في تمريض جرحى المجاهدين الأفغان وسط ظروف قاسية وحياة صعبة!
تقول فابيان :
" لولا فضل الله عليَّ ورحمته بي لضاعت حياتي في عالم ينحدر فيه الإنسان ليصبح مجرد حيوان كل همه إشباع رغباته وغرائزه بلا قيم ولا مبادئ " .
ثم تروي قصتها فتقول:
" منذ طفولتي كنت أحلم دائماً بأن أكون ممرضة متطوعة، أعمل على تخفيف الآلام للأطفال المرضى، ومع الأيام كبرت، ولَفَتُّ الأنظار بجمالي ورشاقتي، وحرَّضني الجميع - بما فيهم أهلي - على التخلي عن حلم طفولتي، واستغلال جمالي في عمل يدرُّ عليَّ الربح المادي الكثير، والشهرة والأضواء، وكل ما يمكن أن تحلم به أية مراهقة، وتفعل المستحيل من أجل الوصول إليه .
وكان الطريق أمامي سهلاً - أو هكذا بدا لي -، فسرعان ما عرفت طعم الشهرة، وغمرتني الهدايا الثمينة التي لم أكن أحلم باقتنائها.. ولكن كان الثمن غالياً.. فكان يجب عليَّ أولاً أن أتجرد من إنسانيتي، وكان شرط النجاح والتألّق أن أفقد حساسيتي، وشعوري، وأتخلى عن حيائي الذي تربيت عليه، وأفقد ذكائي، ولا أحاول فهم أي شيء غير حركات جسدي، وإيقاعات الموسيقى، كما كان عليَّ أن أُحرم من جميع المأكولات اللذيذة، وأعيش على الفيتامينات الكيميائية والمقويات والمنشطات، وقبل كل ذلك أن أفقد مشاعري تجاه البشر.. لا أكره.. لا أحب.. لا أرفض أي شيء .
الصنم المتحرك
إن بيوت الأزياء جعلت مني صنما متحركا مهمته العبث بالقلوب والعقول.. فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة فارغة من الداخل، لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنت جماداً يتحرك ويبتسم ولكنه لا يشعر، ولم أكن وحدي المطالبة بذلك، بل كلما تألقت العارضة في تجردها من بشريتها وآدميتها زاد قدرها في هذا العالم البارد.. أما إذا خالفت أياً من تعاليم الأزياء فتُعرَّض نفسها لألوان العقوبات التي يدخل فيها الأذى النفسي، والجسماني أيضاً!!
وعشت أتجول في العالم عارضة لأحدث خطوط الموضة بكل ما فيها من تبرج وغرور ومجاراة لرغبات الشيطان في إبراز مفاتن المرأة دون خجل أو حياء" .
وتواصل " فابيان " حديثها فتقول :
" لم أكن أشعر بجمال الأزياء فوق جسدي المفرغ - إلا من الهواء والقسوة - بينما كنت أشعر بمهانة الناظرين واحتقارهم لي شخصياً واحترامهم لما أرتديه .
كما كنت أسير وأتحرك.. وفي كل إيقاعاتي كانت تصاحبني كلمة (لو).. وقد علمت بعد إسلامي أن لو تفتح عمل الشيطان.. وقد كان ذلك صحيحاً، فكنا نحيا في عالم الرذيلة بكل أبعادها، والويل لمن تعرض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط " .
وعن تحولها المفاجئ من حياة لاهية عابثة إلى أخرى تقول :
تحول مفاجئ
" كان ذلك أثناء رحلة لنا في بيروت المحطمة ، حيث رأيت كيف يبني الناس هناك الفنادق والمنازل تحت قسوة المدافع، وشاهدت بعيني مستشفى للأطفال في بيروت، ولم أكن وحدي، بل كان معي زميلاتي من أصنام البشر، وقد اكتفين بالنظر بلا مبالاة كعادتهن .
ولم أتكمن من مجاراتهن في ذلك.. فقد انقشعت عن عيني في تلك اللحظة غُلالة الشهرة والمجد والحياة الزائفة التي كنت أعيشها، واندفعت نحو أشلاء الأطفال في محاولة لإنقاذ من بقي منهم على قيد الحياة.(3/93)
ولم أعد إلى رفاقي في الفندق حيث تنتظرني الأضواء، وبدأت رحلتي نحو الإنسانية حتى وصلت إلى طريق النور وهو الإسلام .
وتركت بيروت وذهبت إلى باكستان، وعند الحدود الأفغانية عشت الحياة الحقيقية، وتعلمت كيف أكون إنسانية.
وقد مضى على وجودي هنا أشهر قمت بالمعاونة في رعاية الأسر التي تعاني من دمار الحروب، وأحببت الحياة معهم، فأحسنوا معاملتي .
وزادت قناعتي في الإسلام ديناً ودستوراً للحياة من خلال معايشتي له، وحياتي مع الأسر الأفغانية والباكستانية، وأسلوبهم الملتزم في حياتهم اليومية، ثم بدأت في تعلم اللغة العربية، فهي لغة القرآن، وقد أحرزت في ذلك تقدماً ملموساً .
وبعد أن كنت أستمد نظام حياتي من صانعي الموضة في العلم أصبحت حياتي تسير تبعاً لمبادئ الإسلام وروحانياته
جنود الشيطان
وتصل " فابيان " إلى موقف بيوت الأزياء العالمية منها بعد هدايتها، وتؤكد أنها تتعرض لضغوط دنيوية مكثفة، فقد أرسلوا عروضاً بمضاعفة دخلها الشهري إلى ثلاثة أضعافه، فرفضت بإصرار.. فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليها هدايا ثمينة لعلها تعود عن موقفها وترتد عن الإسلام .
وتمضي قائلة :
" ثم توقفوا عن إغرائي بالرجوع.. ولجأوا إلى محاولة تشويه صورتي أمام الأسر الأفغانية، فقاموا بنشر أغلفة المجلات التي كانت تتصدرها صوري السابقة عملي كعارضة أزياء، وعلقوها في الطرقات وكأنهم ينتقمون من توبتي، وحاولوا بذلك الوقيعة بيني وبين أهلي الجدد، ولكن خاب ظنهم والحمد لله ".
وتنظر فابيان إلى يدها وتقول :
" لم أكن أتوقع أن يدي المرفهة التي كنت أقضي وقتاً طويلاً في المحافظة على نعومتها سأقوم بتعريضها لهذه الأعمال الشاقة وسط الجبال، ولكن هذه المشقة زادت من نصاعة وطهارة يدي، وسيكون لها حسن الجزاء عند الله سبحانه وتعالى إن شاء الله " .
ــــــــــــــ
جريدة المسلمون العدد 238
==============
نعم .. هم رجال ونحن رجال ولكن ..
هذه الكلمة مأثورة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله. قال أبو محمد بنُ حزم: «هذا أبو حنيفة يقول: ما جاءَ عن اللهِ ـ تعالى ـ فعلى الرأسِ والعينين، وما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاءَ عن الصحابةِ ـ رضي الله عنهم ـ تخيَّرنا من أقوالهم، ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ»، إذنْ قائلُ هذه الكلمة السائرة الإمامُ المشهورُ: أبو حنيفةَ النعمانُ ابنُ ثابت فقيهُ العِراق الذي رأى أنس بنَ مَالك، وسمع عطاء بن أبي رباح، ونافعاً مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، وقد وُلد سنة ثمانين، وماتَ سنة خمسين ومائة على الصحيح، وعُرِفَ أنَّ المقصود بقوله: «هم رجال» أقرانه ونظراؤه من التابعين.
إذا تبين مَا تقدم عُلِمَ أنَّ هذه الكلمة ابتُذِلتْ عندَ كثيرٍ مِنْ الناس في هذا الزمان ـ خاصةً المتعالمين منهم ممن يسمون مفكرين، وكذلك من الناشئة في طلب العلم، فلم يراعوا مكانة القائل، ولا قدر من قيلت فيه هذه الكلمة. نعم إذا قال: «هم رجال، ونحن رجال» من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك؛ لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض.
إنَّ هذه الكلمة أصبحتْ مطية يركبُها مَنْ يريدُ أنْ يردَّ أقوالَ الأئمة المتقدمين، والسلفِ الصادقين بلا حُجةٍ ولا بُرهان، ومَنْ يريدُ أن يمرر آراءه الشاذة، وأقوالَه الضعيفة، واختياراتِه الغريبة، ومَنْ يريدُ أنْ يُظهِر نفسهُ على حساب أئمة العلم والدين.
نعم «هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال» في أصلِ الخِلْقةِ والصفاتِ المشتركة من سمعٍ وبصرٍ وجوارح، ولكنَّ الله حباهم ـ بفضله ومنته وحكمته ـ غزارةً في العلم، وإخلاصاً في العمل، وصِدْقاً في الدعوة، وصبراً عِند الأذى والبلاء. قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل». ما أجمل وأبلغ هذه العبارة من هذا الإمام الخبير!
قال الخطيبُ البغداديُّ ـ لمّا ذَكَرَ الأئمةَ المتقدمين وما وَقَعَ مِنْ بعضهم من وَهْم في الجمعِ والتفريق بين الرواة ـ: «ولعل بعض مَنْ ينظرُ فيما سطرناه، ويقفُ على ما لكتابنا هذا ضمَّنَّاه، يلحقُ سيئ الظن بنا، ويرى أنّا عَمَدْنا للطعنِ على من تقدّمنا، وإظهار العيب لكبراءِ شيوخنا وعلماءِ سلفنا، وأنّى يكونُ ذلكَ وبهم ذكرنا، وبشعاعِ ضيائهم تبصرنَا، وباقتفائنا واضحَ رسومِهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهَمَجِ تحيزنا؟ وما مثلُهم ومثلُنا إلا ما ذكر أبو عَمْرو بنُ العلاء فيما أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عُمر بن محمد بن أبي هاشم قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرّياشي عن الأصمعي قال: قالَ أبو عَمرو: مَا نَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ طُوالٍ»، وأبو عَمْرو بنُ العلاء هو: المازني البصريّ شيخ القرّاء والعربية، وأحدُ القرّاء السّبعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة، فإذا كان أبو عمرو يقول هذا وهو متقدم الوفاة، فماذا ترانا نقول ونحن نعيش في القرن الخامس عشر من الهجرة وما فيه من كثرة الشبهات، ووفرة الشهوات؟ رحماكَ ربِّ!(3/94)
قال الشاطبيُّ ـ لمّا ذَكَر طريقينِ لأخذِ العلم عن أهلهِ ـ: الأوَّل: المشافهة، والثاني: مطالعة كتب المصنفين. قال: وهو نافع في بابه بشرطين ثم ذكر الشرط الأوَّل، ثم قال ـ: «الشرطُ الثاني: أنْ يتحرى كتبَ المتقدّمين مِنْ أهلِ العلم المراد؛ فإنهم أقعدُ بهِ منْ غيرهِم من المتأخرين، وأصلُ ذلكَ التجربةُ والخَبَرُ: أمَّا التجربةُ فهو أمرٌ مشاهَد في أيّ علمٍ كان؛ فالمتأخرُ لا يبلغُ مِنْ الرسوخِ في علمٍ ما بلغه المتقدمُ، وحسبكَ منْ ذلكَ أهلُ كلّ علمٍ عمليّ أو نظريّ؛ فأعمالُ المتقدمين ـ في إصلاحِ دنياهم ودينهم ـ على خلافِ أعمالِ المتأخرين؛ وعلومُهم في التحقيقِ أقعدُ، فتحققُ الصحابةِ بعلوم الشريعة ليسَ كتحققِ التابعين؛ والتابعونَ ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومَنْ طالعَ سيرهَم وأقوالَهم وحكاياتِهم أبصرَ العَجبَ في هذا المعنى، وأما الخَبَرُ ففي الحديث: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»... والأخبارُ هنا كثيرةٌ، وهي تدلُ على نقصِ الدينِ والدنيا، وأعظمُ ذلكَ العلم، فهو إذاً في نقصٍ بلا شك؛ فلذلك صارتْ كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أيّ نوعٍ كان، وخصوصاً علم الشريعة الذي هو العروةُ الوثقى، والوزَر الأحمى وبالله ـ تعالى ـ التوفيق».
وقال الذهبي: «جزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة».
وقد عَقَد ابنُ القيم في كتابه: «إعلام الموقعين» فصلاً لبيان فضل علم السلف قال في أوله: «فصل في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية، وأنها أوْلى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ـ وأن فتاوى الصحابة أوْلى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أوْلى من فتاوي تابعي التابعين، وهلم جراً، وكما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل؛ كما ان عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكنِ المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين..».
ومِنْ علاماتِ أهل البدع: الوقيعةُ في سلفِ الأمة ورميهم بالجهل تارةً، وبعدم الفهم والسذاجة تارة كما يقولون: «منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم». قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتابَ والسنةَ وما اتفق عليه أهلُ السنةِ والجماعةِ من جميعِ الطوائف أنّ خيرَ قرونِ هذه الأمة في الأعمالِ والأقوالِ والاعتقادِ وغيرها من كل فضيلةٍ أنّ خيرها القرنُ الأولُ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما ثَبَتَ ذلكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غيرِ وجهٍ، وأنهم أفضلُ من الخَلَفِ في كل فضيلةٍ من علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ وعبادةٍ، وأنهم أوْلى بالبيانِ لكل مُشْكلٍ، هذا لا يدفعُه إلاّ من كابرَ المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علمٍ، كما قال عبدُ الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «مَنْ كانَ منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئكَ أصحابُ محمد؛ أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم». وقال غيره: عليكم بآثارِ مَنْ سَلَفَ؛ فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه. هذا وقد قال «لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم»، فكيف يحدث لنا زمان في الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله ـ تعالى ـ هذا لا يكون أبداً.. وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في رسالته: هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا».
قال ابنُ رَجَب: «وقد ابتلينا بجَهَلةٍ من النّاس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين... وهذا تنقُّص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم»، وقال: «فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلاّ وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلاّ وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به، فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعةً لمن تأخر عنهم».
- ومن أخطر الأمور تربية النشء على الاعتراض على الأئمة السابقين، والعلماء الربانيين بغير حجة ولا برهان، وتصويرُ ذلكَ بأنه هو التجردُ والاجتهادُ وعَلامةُ العلم والتحقيق، ونشر مثل هذه الكلمات: «هم رجال ونحن رجال»، و «وكم ترك الأوَّل للآخر»، «والمتأخر جمع ما عند الأولين من العلم فهو أوسع علماً» ونحو ذلك من الكلمات الواسعة والتي قد تفهم خطأ كما تقدم.(3/95)
- إنّ ما تقدم ليس دعوةً للتقليد؛ فإنّ التقليد ـ وهو: قبول قول الغير من غير معرفة دليله ـ لا يجوز لمن تحققت أهليته واتسع وقتُه، بل هي دعوة للاتباع الصادق، وإنزال الناس منازلهم، «فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته ولا يرفع متَّضع القدر في العلم فوق منزلته ويعطي كل ذي حق فيه حقه وينزل منزلته، وقد ذكر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله ـ تعالى ـ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76]. كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
ووضع الأمور في مواضعها، والعدل في القول والعمل، ومعرفة أنّ لسلفنا الصالح منهجاً فريداً متكاملاً في العلم والعمل، نابعاً من الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة الكرام، فكانوا بحق هم أجدر من يقتدى بهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. وفي الصحيحين من حديث عَبيدة السلمانيّ عن عبدِ الله بن مسعود قال: «سئل النبي أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».
والأمر كما قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية: «ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل».
- وثمتَ أمر آخر تنطوي عليه كلمة «هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال» وهو تزكية النفس، وقد دلَّ الكتاب والسنة على المنع من ذلك. قال ـ تعالى ـ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وقال ـ سبحانه ـ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} [النساء: 49]، وروى مسلم في صحيحه من حديث يزيدَ بنِ أبي حَبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيتُ ابنتي برَّةَ، فقالتْ لي زينبُ بنتُ أبي سلمة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيتُ برَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرِّ منكم، فقالوا: بم نسمّيها؟ قال: «سموها زينب».
فطالبُ العلمِ الصادقِ لا يزكي نفسَه تصريحاً أو تلميحاً. قال ابنُ رَجب: «وأمَّا مَنْ علمه غيرُ نافعٍ فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل، وتنقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم؛ وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف، وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها،... وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد»(12)
- ثم لماذا لا تفهم كلمة «هم رجال ونحن رجال» فهماً آخر سليماً يناسب حالنا وزماننا فيقال: «هم رجال» صَدَقوا في الطلب والعلم والعمل والدعوة، وصَبَروا على ذلك، فأصبحوا رجالاً بكل معاني الرجولة، و «نحنُ رجالٌ» بمعنى: عندنا من المؤهلات والصفات ما يجعلنا نقتدي ونستفيد منهم، وأن نخدم الدينَ كما خدموه مع معرفتنا الأكيدة بالفرق الكبير بيننا وبينهم في العلم والعمل؟
- وعَوْداً على بدء: إذا قال: «هم رجال ونحن رجال» من كان في منزلة أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك؛ لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
____
(*) قسم الدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
=============
رسالة إلى داعية
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
قد أوجب الله علينا جميعاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا نجاة لنا من الخسر إلا بهذا، ومن هنا جاءت هذه الرسالة.
• إن مما يراه المرء في هذا الزمن – زمن الفتن من شبهةٍ، أو شهوةٍ، أو بدعة – يرى بعضاً من الدعاة إلى الله_ تعالى_ يصول ويجول في دعوته إلى الحق، ويحرص على هداية الناس ، ما يترك شاذةً ولا فاذةً إلا عملها أو شارك فيها؛ حرصاً على اكتساب الأجر واغتنام الفضل، ينعصر قلبه حرقة لهذا الدين القويم، ويتألم إذا أهين عباد الله المتقون، وتمضي به السنون وهو على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم.
ثم.. ثم بعد هذا النشاط يدب الفتور والبرود إليه، ويتخلى عن دعوته، لا انتكاساً ولكن تقاعداً وانشغالاً بالولد والرزق وكثرة الارتباط_كما يزعم_ ظاناً أنه صاحب الفضل على هذه الدعوة وأهلها،وأنه سيفتح المجال لغيره، أما هو فقد بلغ في نظره من الكِبَر عتياً، مقتصراً على الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة التي عملها من قبل إن كان مخلصاً نقياً.
• وبعد هذا الانقطاع يرى أنه سينعكف على تربية أولاده وبناء نفسه التي في نظره أنه أهملها كثيراً من خلال ما تقدم من سنوات في دعوته.
• وبعد ذلك يبدأ نشيطاً في برنامجه الجديد مصمماً السير على منهجه الذي وضعه لنفسه، وبعد حين يتوسع في المباح وتتزعزع تلك المبادئ الشرعية التي لا يمكن أن يفتح المجال للكلام والخوض فيها في عز دعوته،حتى إن البعض منهم ما بينه وبين الانتكاس إلا ما هو أقل من خيط بيت العنكبوت.(3/96)
• إن المرء ليحزن قلبه ويضيق صدره حينما يرى ويشاهد أعداء هذا الدين وقد عكفوا على محاولة هدم هذا الدين وإفساد أخلاق أهله ليل نهار،ويعجب من صبرهم وجَلَدهم على باطلهم، بينما صاحب الحق والدعوة الناصعة والحجة البينة الواضحة قد تقاعس في دعوته وبخل على أمته في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• إن على المرء المؤمن أن يسأل نفسه ماذا قدمت لهذا الدين،وخدمة عباد الله المؤمنين أمام هذا السيل الجارف من الفساد في العقائد والأخلاق.
• لقد كان أهل العلم قبل سنوات ليست بالكثيرة يحذّرون الأمة من التلفاز وخطره على الأولاد والأخلاق، ثم جاء الكفار بما هو أشد خطراً وأعظم أثراً وهو الفيديو، جاءت بعده الأطباق الفضائية،ثم أنتج هؤلاء الأعداء المعتدون الإنترنت بشره وخيره...،هكذا.. فهم ماضون في محاولة هدم هذا الدين وتغيير أخلاق أهله.. إنهم يفكرون ثم ينتجون ما يخدم أهدافهم، وينتجون ما هو أشد فتكاً وأسرع خطراً على هذا الدين وأهله.
• لقد بخل هذا الداعية على أمته بشيء من عمله اليسير وجُهده القليل بينما هي قدمت له الشيء والشيء الكثير.
• كيف يبخل ويقعد عن أمته ونصرتها بعد أن ذاق حلاوة الدعوة إلى الله، ولذة الحرص على هداية عباد الله؟ كيف يقعد عن الدعوة مَنْ يرى أمته تهوي في مكانٍ سحيق وتقرب من عذاب الله الأليم،وهو متبلد الإحساس، فاقد الضمير،لا يأمر ولا ينهى،ولا يدل ولا يرشد، همه جيبه ومصلحته، غايته هندامه ومركبه، قرة عينه ولده وزوجه؟؟! أما أمته التي غُزيت من كل جانب فقد خذلها في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• لقد نسي هذا القاعد عن دعوته أو تناسى أن دين الله وإن حدث له ما حدث فإنّ النهاية له، والنصر حليفه حقاً ويقيناً لا مرية فيه، فهذا الدين لا ينتظره لينصره فنصره ليس واقفاً عليه،ولكن لهذا المرء الشرف والعزة والرفعة أن يكون من المشاركين في نصرة هذا الدين.
• إن مشاركة الإنسان لنصر الأمة ليس متوقفاً في حلقةٍ أو مكتبةٍ بل كل مجالٍ للخير فهو مشاركة للأمة في نصرتها مهما كان وأينما حل وصار، فالحرص على هداية الأهل والأقارب أو الجيران وأبنائهم أو الزملاء والأصدقاء أو العمال والجاليات أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها هي من طرق الدعوة وسبلها الكثيرة والكثيرة جداً.
• ليت الذي تكاثر عمله وجهده يقارنه بعلماء الأمة العاملين ليعلم ضآلة عمله وقلة جهده، فمنذ أن كان في بطن أمه أو ظهر أبيه كان هؤلاء يدعون إلى الله_تعالى_ولا زالوا حتى الآن إنهم لم يملوا ولم يكلوا، بل ليس هناك سبيل في المشاركة في أي عمل إلا أسهموا بسهمهم وأدلوا بدلوهم، إنهم يحملون همَّ الإصلاح ويستشعرون عِظَم المسؤوليةمع كثرة أعمالهم،وزحمة أشغالهم،وكبر سنهم،وقلة صحتهم، ومع ذلك فهم يسألون الله الثبات حتى الممات على هذا الدرب القويم.
• ليت الذي قعد عن دعوته يدخل أحد المقاهي المنتشرة لينظر بأم عينه همة شباب المسلمين وقد عكفوا على فيلم فاضح وصوَّبوا النظر إلى وجهٍ داعر، وأعجبوا بمغنٍ فاسق.
• ليت الذي زهد في دعوته يدخل أحد أسواق المسلمين لينظر كيف أصبح الحجاب الشرعي غريباً وحل محله كل موضة وصرخة جديدة.
• ليت الذي تكاسل عن دعوته يقرب من شباب المسلمين لينظر فيم يفكرون أو يتكلمون.
قال شيخٌ كريمٌ وداعيةٌ مشهور:
لئن كنَّا نعطي الدعوة جزءاً من وقتنا،فيجب أن نعطيها الآن أضعاف تلك الأوقات، وذلك لقلة العاملين وكثرة المتكاسلين والمرجفين بل والقاعدين.
أخي الداعية:
امضِ في طريقك غير ملتفتٍ لصيحات المخذلين والراضين بالدون من العمل، واعلم أنك على ثغر من ثغور هذا الدين، فالله الله لا يُؤتينَّ الإسلام من قِبَلِك،فجدِّد الأسلوب وغيِّر الطريقة، ونوِّع الطرح،وحذِّر من الفتن، وركِّز على مراقبة الله في السر والعلن، والجدية في الالتزام، فنحن لسنا بحاجة إلى كثرة عدد وقلة عمل، وإياك ثم إياك أن تحتقر أحداً من المدعوين فربَّ إنسان احتقرته ثم أهملته ولو التزم لنفع الله به الأمة.
أخي الكريم:
إن الداعية إلى الله_تعالى_ينبغي ألا يفوّت على نفسه فرصة للدعوة إذا سنحت له إلا وقد استغلها، يلقي خلالها كلمة ولا يحتقرها،فربما وقعت في قلبٍ خاوٍ تائهٍ فغيّرت المسار وحُطَّ عنك بها الأوزار وأرضت العزيز الجبار.
أخي:
إننا معشر الدعاة إلى الله_تعالى _نحمل رسالة في هذه الحياة وفي أعناقنا أمانة يجب أن نؤديها كما أمر الله، فضع يدك في أيدينا، وضم صوتك إلى أصواتنا، ننادي بالخير وندعوا إلى السعادة، نُرشد إلى الهداية، ونُحذر من الضلالة.
ثبتنا الله وإياك على دينه حتى يأتينا اليقين، وإلى لقاءٍ في عليين، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، وصلى الله وسلم وبارك على خير الداعين والعاملين لهذا الدين محمد بن عبد الله_عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم_.
نقلا عن موقع الشيخ المنجد
================
معا على طريق الدعوة(3/97)
أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمد داعياً ومبشراً ونذيراً فكان من مهامه الأساسية الدعوة كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب:46،45] .. فقام بها رسول الله خير قيام مبلغاً للرسالة ومؤدياً للأمانة وناصحاً للأمة ومجاهداً في الله حق جهاده حتى لقي ربه.. بعد أن دانت الجزيرة كلها لدعوة التوحيد، وتاركاً جيلاً أبياً من الصحابة رضوان الله عليهم الذين ساروا على ماتلقوه عنه وما حادوا عنه قيد أنملة، فبذلوا قصارى جهدهم جماعات وفرادى لنقل نور الإسلام الذي نعموا به إلى جميع الناس خارج الجزيرة العربية. نقلوه في رحلاتهم مخاطرين بأرواحهم في البراري والقفار، ولفظ العديد من الصحابة البارزين أنفاسهم الأخيرة في بلاد بعيدة غريبة وهم ينشرون الإسلام. إنهم بلا شك ضحوا وقدموا الكثير من أجل دينهم وأداءً للأمانة التي حملوها بدون هوادة ولا حدود، وسار على ذلك التابعون لهم بإحسان، ففتحوا البلاد ودانت لهم الدول والممالك وانتشروا في الأرض ولازالت آثار القوم في معظم بقاع الدنيا شاهدة على وجودهم.
واليوم أخي المسلم يامن تنعم بما قدمه أولئك الأتقياء الأبرار وتعيش موحداً مؤمناً تأتيك أمم الأرض قاطبة تعمل لديك وتسمع توجيهاتك وإرشاداتك ثم تنال نصيبها مقابل جهدها وعرق جبينها من المال.
هل تدرك أن الصراع الفكري في العالم أصبح محتدماً، ولكل جماعة مبدأ تدعو إليه، بل تتبناه وتشجعه وتنفق عليه ببذخ في سبيل ذيوعه، وتسخر له أجهزة إعلامها وتخصص له دراسات عالية المستوى؟
بالطبع أنت تدرك ذلك، وتعلم أيضاً أن الإسلام دين عالمي يخاطب البشر جميعاً، ذلك أنه هو الدين الذي جاءت به الرسل وهو الذي ارتضاه الله ديناً للبشرية كما قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19]، وقوله سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا}ً [المائدة:3].
فلا دين غير دين الإسلام مقبول عند الله، ومعنى ذلك أن المسلم يؤمن إيماناً قاطعاً بأن غير المسلمين على اختلاف أنماطهم وتوجهاتهم مدعوون إلى الإسلام الذي يتضمن عقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل وناضلوا أقوامهم عليها، ومن ناحية أخرى فالإسلام نظام كامل للحياة يحدد للشخص هدفاً واضحاً لنشاطه في جميع نواحي الحياة من اجتماعية وإقتصادية وسياسية، فهو رسالة شاملة لكل الأرض أسودهم و أبيضهم عجمهم وعربهم مما يعني أن لا استغناء للإنسان مهما كان شأنه أو مستواه الثقافي أو الاجتماعي عن الإسلام.
إضافة إلى ذلك فإن الدعوة شرف عظيم لهذه الأمة إذ تشارك في مهمة نبيها الشريفة بدعوة الناس إلى إتباع الصراط المستقيم.
وأيضاً فإن القيام بهذه الدعوة هو تحقيق للخيرية التي وصف الله بها هذه الأمة كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110].
نتيجةً لهذا تجد أن جميع أبناء الأمة الإسلامية رجالاً ونساءً مطالبون شخصياً وبدون استثنا ء بنشر دعوة الإسلام بنفس الغيرة والتصميم وحب التضحية التي تخلَّق بها رسول الله وأصحابه.
كيف أدعو الناس للإسلام؟
وبعد هذا كله تسأل نفسك: كيف أدعو الناس للإسلام؟
أولاً: إنك أخي المسلم لابد أن تجعل من نفسك أسوة حسنة ومثالاً يحتذى، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، فلقد كان قبل النبوة يسمى الصادق الأمين وبعد النبوة كان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها حتى استحق ثناء خالقه ومرسله جل شأنه في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ولا شك أن هناك صفات ينبغي أن يتحلى بها المسلم ليكون قدوة لغير المسلمين، عندما يرونه يحسون أن الإسلام يتجسد فيه، ومن هذه الصفات أن يُقبل المسلم على نفسه ويجعلها خاضعة لكل ما يتلقى عن الله ورسوله من الأوامر والنواهي، كما أن المسلم مطالب بأن يستسلم لله ويتجرد له ليكون أدعى للقبول.
ثانياً: ومن العوامل الحساسة المهمة التي ينبغي على المسلم اتباعها هو الأسلوب الحسن في نطاق الكتابة والخطابة والتحدث والنقاش، وبالأسلوب يستطيع المسلم أن يصيب الهدف ويبلغ القصد بأقل التكاليف وأيسرها.
إن عرض المسلم لأفكاره ومبادئه بأسلوب شيق جذاب يحبب الآخرين إلى الإسلام فلا ينفرون أو يبتعدون، كما أنه ينبغي مخاطبة الناس على قدر عقولهم ومداركهم، فلا يخاطب العمال الكادحين بأسلوب الفلاسفة أصحاب المنطق ولا يناقش الملاحدة الماديين بلسان عاطفي خال من الحجة والبرهان.
والنفوس جبلت على حب من أحسن إليها بل وقد تدفعها القسوة والشدة أحياناً إلى المكابرة والإصرار والنفور فتأخذها العزة بالإثم. وليس معنى اللين المداهنة والرياء والنفاق وإنما اللين ببذل النصح وإسداء المعروف بأسلوب دمث مؤثر يفتح القلوب ويشرح الصدر كما قال تعالى موصياُ نبيه موسى وهارون عليهما السلام: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44،43].
ثالثاً: معرفة الشخص المدعو والتعرف على أفكاره ومفاهيمه وتصوراته وعلله ومشكلاته لأن ذلك وسيلة إلى التعرف على المنافذ التي تنفذ إلى نفسيته.(3/98)
إن المسلم في الحقيقة هو مشخص للمرض ومقدم للعلاج لمن يحتاج إليه، كما أنه لا ينتظر أن يأتي إليه الناس بل إنه يسعى إلى البحث عنهم وزيارتهم بين وقت وآخر وفي فترات مناسبة لهم بل ودعوتهم في مختلف المناسبات والمشاركة في أفراحهم و أتراحهم.
رابعاً: والمسلم في دعوته الناس دائماً يؤكد على معاني العقيدة الإسلامية ويحاول أن يزرع بذرة الإيمان بالله في قلب المخاطب، وأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأن هناك حياة بعد الموت، وأن هناك حساباً وعقاباً يثاب فيه المحسن مقابل إحسانه ويعاقب فيه المذنب على إساءته.
فالحديث عن العقيدة الإسلامية وتجلية معانيها وأصولها وما تستلزمه وتتضمنه هو الأساس في دعوة الداعي وهى مما يجب أن يؤكد عليه دائماً ولا يغفل عنه مطلقاً لأنها الأصل في الإسلام فإذا استقام له هذا الأصل واستجاب له المدعوون بعد كفرهم سهل عليه إقناعهم بمعاني الإسلام وفروعه.
كما إنه عند الحديث عن واقع المسلمين وممارستهم يحاول المسلم أن يوضح أن ما يصيب المسلمين اليوم من تقهقر وتخلف وما هم فيه من تفكك إنما هو بسبب بعدهم عن الإسلام.
وإن إدراك المدعو إلى الإسلام لأصول العقيدة الإسلامية ومعرفته شروط لا إله إلا الله يسهل أمر تعليمه وتدريسه بقية أصول الإسلام وأركانه بل ويساعد على تحفيظه القرآن الكريم.
خامساً: إن المسلم مأمور بالصبر على الدعوة فهو لا يستعجل نتائج دعوته عندما يدعو الناس إلى الإسلام، كما أن اليأس لايعرف إلى قلب المسلم سبيلاً ولا يمكن أن يصيبه الوهن إذا تأخر ظهور النتائج المرجوة من الجهود التي بذلها في سبيل دعوة الآخرين إلى الإسلام، ومن الصبر على الدعوة أن يقوم بواجب النصيحة في المواقع التي تجب فيها النصيحة وتنفع فيها الكلمة الحقة دون خوف من الناس مصداقاً لقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
سادساً: إن المسلم مأمور بالتضحية في سبيل الله، التضحية بالوقت.. التضحية بالجهد.. التضحية بالكفاءة الفكرية والمكانة الاجتماعية والتضحية بالمستقبل اللامع والتضحية بالأماني والآمال، يقتدي في ذلك بسلف الأمة الذين ضربوا أروع أمثلة التضحية في كل ما قاموا به في سبيل الدعوة.
فما أحرى الأحفاد أن يسلكوا سبيل الأجداد السابقين، إنه لن تقوم للمسلمين قائمة ما لم يتصفوا بهذه الصفة الكريمة - التضحية - ذلك أنهم في حالة فقدانها فإن هذا يعني التسابق على الدنيا والتعلق بالأمور السافلة، ذلك أن التضحية بمعناها الحقيقي هو أن يرسم في ذهن المسلم مفهوم تقديم مصلحة الإسلام على كل مصلحة والعيش بالإسلام تحت أية ظروف، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة والجهاد في سبيل الله.
إن قلوب المسلمين لا ينقصها التحمس للدين والفضيلة كما لا يروقها ما ترى من عمليات الهدم والتضليل التي يتعرض لها الإسلام، وكذا فهم حريصون كل الحرص على الإسلام ولكنهم يحتاجون إلى من يشرح لهم الدليل ويوضح السبيل. فما أحراك أخي المسلم أن تكون القائد الذي يريهم السبيل ويبين لهم الدليل فتكون بذلك قد ساهمت في مواجهة المخاطر التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون في أنحاء الأرض وتكون قد دفعت عن المسلمين شراً كبيراً وفتحت لهم باباً واسعاً بدعوة من يأتيك إلى الإسلام.
إنه - بالتأكيد وبإذن الله - بالمساهمات البسيطة الجادة تبلغ الأمة أملها المنشود في العزة والسؤدد والحضارة والمجد وتنال الأجر العظيم من الله في يوم أنت أحوج ما تكون فيه إلى العون.
==============
ما بيني وبين فلسطين
ما بيننا ليست تصاريح الدخول ونجمة..
فوق الجباه مُلَمّعَةْ..
ما بيننا قصف توالي فوقنا وأب يموت..
وطفلة كانت مَعَهْ
ما بيننا حرب وثأر خالد
ليست تصاريح السلام وجعجعَةْ
ما بيننا ثأر ينادي أمتي
- في كل صبح -
كي تقوم وتجمَعَهْ
ما بيننا طفل يموت
وألف طفل قادم
فيهم صلاحُ ومن مَعَهْ
ما بيننا حجر ينادي مؤمناً
خلفي يهوديٌ
خبيث فاصرعهْ
ما بيننا صبرا وشاتيلا
وقانا.. والدماء
وشِلونا من مزّعه
ما بيننا يا قاتلاً
شلوٌ ينادي شلوَهُ
الملقى هناك
ليجمَعَهْ
ما بيننا قبح الوداع
ودمعة
في عين طفل
مات يوم الموقِعَةْ
مات الصغير..
ولم يكن جُبناً يصيح
وإنما غدرًا سلبتم مضجعَهْ
مات الصغير..
تجمدت أطرافه
يوم استبحتم يا كلاب أضلعَهْ
مات الصغير..
وموته عارٌ لكم
سقطت تخاريف السلام
ومن مَعَهْ
إنا سنأخذ ثأرنا منكم غداً
نقتص منكم
للشهيد بأربَعَةْ
ــــــــــــ
شعر:عماد علي قطري
============
شيخ في المرقص
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير في السن وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم ما بال أكثر الناس خاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه ، فأجابه المصلون إنهم في المراقص والملاهي قال الشيخ ما هي المراقص والملاهي ؟
فرد عليه أحد المصلين وقال المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة تصعد عليها الفتيات عاريات أو شبه عاريات يرقصن والناس حولهن ينظرون إليهن.
قال الشيخ : والذين ينظرون إليهن من المسلمين ، قالوا نعم ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله يجب أن ننصح الناس ، قالوا له يا شيخ أتعض الناس وتنصحهم في المرقص ، فقال نعم هيا بنا إلى تلك المراقص
فحاولوا أن يثنوه عن عزمه وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء وسينالهم الأذى ، فقال وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص ، وعندما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص ماذا تريدون؟(3/99)
قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص ، تعجب صاحب المرقص وأخذ يمعن النظر فيهم ورفض السماح لهم فأخذوا يساومونه ليأذن لهم حتى دفعوا له مبلغ من المال يعادل دخله اليومي ، فوافق صاحب المرقص وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدأ العرض اليومي!
قال الشاب : فلما كان الغد كنت موجودا في المرقص ، فبدأ الرقص من أحدى الفتيات فلما انتهت ،أسدل الستار ، ثم فتح فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي ، فبدأ بالبسملة والحمد لله والثناء عليه وصلى على الرسول عليه الصلاة والسلام ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة ، وتمالكهم العجب ، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية ، فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم ، فأخذوا يسخرون منه ويرفعون أصواتهم بالضحك ، والاستهزاء وهو لا يبالي بهم ، واستمر في نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور وأسكت الناس وطلب منهم الإنصات لما يريد قوله ذلك الشيخ فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص ، حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل ، تلى علينا آيات من القرآن الكريم ، وأحاديث نبوية وقصص لتوبة بعض الصالحين ، كان مما قاله :
" يا أيها الناس إنكم عشتم طويلا وعصيتم الله كثيرا ، فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ، ستسألون عنها يوم القيامة ، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى ، يا أيها الناس هل نظرتم إلى أعمالكم وإلى أين ستؤدّي بكم؟ إنكم لا تتحملون النار في الدنيا وهي جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، فبادروا بالتوبة قبل فوات الأوان".
فبكى الناس جميعاً ، وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه ، وكانت توبتهم وتوبتي أنا أيضاً على يد ذلك الشيخ ، حتى صاحب المرقص ، تاب وندم على ما كان منه.
===================
حدثنا أم قال مراسلنا
اعتدنا أن نشغل أوقاتنا بسماع العلم وتدارسه وقراءته ـ أو هكذا يفترض أن نكون . ولكن الأحداث نقلتنا إلى كلام آخر ، فبدلا من أن يتكرر على مسامعنا : حدثنا ، وأخبرنا ، وقال رحمه الله تعالى، تعفنت أسماعنا من (قال مراسلنا ) وتحلقنا حول القنوات أو المذياع أو أوراق الصحف نقلبها .
إن الأحداث تفرض علينا أن نتفاعل معها ، وأن نعيش أجواءها ، لكن هل كل الوقت الذي نقضيه في متابعة الأخبار يتلاءم مع النتاج المتحقق من ذلك تفاعلا مع الحدث ، وارتقاء في الوعي ، وإنتاجا؟ أم هو مدعاة لمزيد من القلق وإضاعة الوقت فيما لا يجدي ولا طائل من ورائه؟
إن تتابع الأحداث يفرض علينا أن نكون أكثر حرصا على أوقاتنا ، وأكثر اعتناء بها حتى نكون منتجين فالتحديات ضخمة ، ولن ينتج إلا الجادون .
فلنعط متابعة الأحداث ما تستحقه من اهتمام ولنحافظ على أعمارنا وزهرة أوقاتنا .
ـــــــــــــــــ
الشيخ: محمد بن عبد الله الدويش
=============
من مزالق الدعاة.. الهوس الغربي
الدعوة إلى الله أشرف مهمة يقوم بها إنسان، لذلك اصطفى الله تعالى لها أكرم خلقه فجعلهم رسله إلى الناس، والداعية المسلم داعٍ إلى الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، وهو نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة؛ لذلك كان من الطبيعي أن تكون دعوته على بصيرة، أي عن علم بما يقول الله تعالى، وما يقوله رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من الطبيعي أن يكون ملتزماً في دعوته أشد الالتزام بما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يحيد عنه قيْد أنملة، وإلاّ لم تكن دعوته إلى الله، بل كانت إلى ما يراه هو وما يهواه (يا أيها النبي بلغ ما أُنْزِل إليكَ من ربك وإنْ لم تفعلْ فما بلغتَ رسالته والله يعصمك من الناس).
لكن ما أصعب أن يلتزم الداعية ـ حتى لو كان مخلصاً ـ بمثل هذا الالتزام، في بيئة تكون فيها شرائع الإسلام التي يدعو إليها غريبة غير مألوفة! ما أسهل أن ينزلق الداعية فيحيد عما أوحى الله، وهو يحسب أنه يدعو إلى الله! لقد كان سبب العزلة التي سقط فيها بعض الناس أنهم في سبيل جعل الحكم الإسلامي مقبولاً للعقلية الغربية أو المستغربة، بدؤوا يضيقون ذرعاً بكل ما لا تقبله هذه العقلية من تعاليم هذا الدين، وإن كان مما جاءت به النصوص الصريحة، وإن كان محلَّ إجماع بين علماء المسلمين، تراهم لذلك يهرعون إلى تلقُّف كل رأي يخلِّصهم من هذه التعاليم ويسمونه اجتهاداً.
هذا الانحراف أدى عند بعض الناس إلى انجراف آخر أخطر منه، فقد بدا أصحاب هذا الفهم والفكر في قبول بعض التقاليد الغربية السياسية ـ وبدؤوا يقبلون معها ما يرونه لازماً لها من الأفكار والمعتقدات الغربية، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنهم في سبيل إيجاد مكان للتعددية السياسية في الدولة الإسلامية صاروا يذمون كل من يظهر استمساكاً شديداً بما يعتقد أنه الحق ويقولون لا أحد غير الله تعالى ـ الذي يسميه بعضهم بالمطلق ـ يمتلك الحقيقة. فكأنهم يقولون إنك لكي تعترف بالآخر لا بد أن تعتقد أنه قد يكون على صواب وتكون أنت على خطأ.
ونقول لهؤلاء الإخوة: إن هذا المنطق يمكن أن يقال في مجال الأمور الدينية الاجتهادية، والأمور الدنيوية المبنية على الرأي، أما إذا قام الدليل القاطع على أمر ما أنه الحق، فلا مجال للتشكيك فيه سواء كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا. وإلاّ كان معنى هذا القول الاعتقاد بنسبية الحقيقة، والقول بنسبية الحقيقة ـ في غير مجال العلوم الطبيعية ـ هو من أمراض الحضارة الغربية الخطيرة التي تعدُّ كثيرٌ من مشكلاتها الاجتماعية أعراضاً لها.(3/100)
إن القول بنسبية الحقيقة هو الذي يجعل القيم الخلقية قيماً نسبية، فلا يجيز لذلك لإنسان أن يقول عن سلوك إنسان آخر إنه خطأ أو غير خُلُقي أو يذمه بأي نوع من أنواع الذم. ولذلك صاروا الآن يستبدلون بعبارة (الشذوذ الجنسي) عبارة (الميل الجنسي)، أي إن الرجل الذي يكون ميله إلى الرجال أو المرأة التي يكون ميلها إلى النساء هما كالرجال والنساء الذين يكون ميلهم إلى الجنس الآخر، لا فرق بين الميلين، لذلك ينبغي أن لا يكون هنالك تفرقة في المعاملة.
ونقول لهم أيضا: هل معنى ذلك أننا في سبيل قبول ما يسمونه بالآخر ينبغي أن لا نجزم بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن الشرك باطل ومذموم؟ هل يقول بهذا عاقل؟ ولكن هذا هو الذي يؤدي إليه القول بعدم امتلاك الحقيقة. نعم إنه لا أحد غير الله تعالى يعرف كل الحقائق، لكن من نعمة الله علينا أن جعل لنا ، نحن البشر الناقصين، سبيلاً إلى معرفة بعض الحقائق التي تهمنا والتي تعتمد عليها حياتنا، وجعل العلم بها والإيمان اليقيني بصوابها شرطاً في نيل مرضاته سبحانه: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، بل جعل اليقين بها شرطاً للدعوة إليه (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وونقول أيضا:إن تحملنا للآخر وتسامحنا معه لا يلزم أن يكون مبنياً على شكنا وارتيابنا فيما عندنا، بل يمكن أن أتحمل وأُحسِن إلى من يخالفني وأنا موقن أنني على الحق وأنه على باطل. ألم يقل الله تعالى عن بعض الكفار: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يُحب المقسطين)؟
ــــــــــــ
أ.د. جعفر شيخ إدريس
===============
في دروبٍ من سنا
سائل التاريخ عنَّا والجدودا ... هل خُلِقنا في الورى إلاَّ أسودا
أمّة من نسل آرامٍ، تهادت ... قمّة المجد ارتقاءً وصعودا
نكتب التاريخ مجدًّا وفخارا... للعُلى كنّا وللأمجاد عيدا
كلّما سارت بنا الأيام قمنا... للغد المأمول نعطيه المزيدا
إن صفت أيامنا كنا ضياءً... أو نأت أحلامنا كنَّا رعودا
بين جنبينا قلوبٌ من نُضارٍ ... إن تحدّاها الورى كانت حديدا
أيَّها المفتون والدنيا شهودُ ... سائل الأيام عنَّا والشهودا
في حمانا أشرق الإسلام نورا... من دمانا قد وهبناه العهودا
ومضينا فيه عزًّا وإباءً... كلنا للموكب الغالي جنودا
منه ساقينا الدُّنا أمنًا وعدلاً ... ففدونا للغد السامي نشيدا
وملكنا في تآخينا قلوباً ... ورسمنا فيه للدنيا حدودا
وبنينا قلعة الأمجاد حصناً ... ووهبنا صرحها العالي خلودا
وكتبنا صفحة التاريخ نورا... وصنعنا للورى مجداً تليدا
هذه راياتنا للشعب تسمو ... كيف يا مغرور تختار الجمودا
إن تكن قد أسرفت فينا الليالي.. هامُنا، رغم الدُجى، تأبى السجودا
عزّة الأوطان تفديها دمانا ... كلّما غامَ الدُجى زدنا صمودا
وانثنينا في دروب البأس نمضي... كم ركبنا البأسَ حبّاراً عنيدا
نرتقي للشهب أسباب المنايا ... في دروبٍ من سَنا حتّى نسودا
نحن أسياد المعالي..تاج مجدٍ.. لم نكن، والمجد، أن نحيا عبيدا
من خيوط الفجر من قلب الأماني.. سوف نبني للعُلى صرحاً جديدا
كان وعد الله حقّاً قد تجلّى ... أمة الإسلام يأبى أن تبيدا
صرخة الأحرار بالإيمان تعلو.. إنّ الإسلام.. قد فكَّ القيودا
===============
بين الداعية وزوجته
قد يظن ظان أن دور الداعية ينتهي منذ أن يعثر على تلك الشابة الملتزمة بدين الإسلام والتي ارتضاها شريكة حياته دون سائر الفتيات . ولكن هذا هو جزء من الدور ، والدور الحقيقي هو متابعة النصح والإرشاد بعد الزواج ، بالأسلوب المناسب وبالقدوة الصالحة.
ومتابعة النصح والإرشاد لا تعني المطالبة بأن تكون الزوجة كاملة ولكننا بحاجة ، في هذه الفترة بالذات (فترة بداية الدعوة) ، إلى أن تكون زوجة الداعية قدوة بمعنى الكلمة وإلا فإن أول أثر سيئ لها سيكون على زوجها حيث ستعيقه عن الاستمرار في حمل دعوته.
ثم إنّ الداعية الذي يخل بتربية زوجته ، أو يتساهل في تعليمها المبادئ الأساسية في حياة الدعاة إلى الله ستخذله هذه الزوجة في وسط الطريق وهو في أمس الحاجة إليها، وسيضطر إلى أن يلتفت إليها ويعاود نصحها وإرشادها بعد أن خسر الكثير.
كما أن نقص المفاهيم الأساسية عندها قد يتسرب إلى زوجات الدعاة الآخرين ، وبذلك يكون الداعية قد أضر بدعوته من حيث لا يدري ، كما أنه من الواضح أنّ الداعية الذي يصلح نفسه وزوجته ، سيشجع الآخرين ولا شك علي إصلاح زوجاتهم ، لذا فإن مسؤولية تربية الزوجة مسؤولية عظيمة.
إنّ بعض الدعاة يظن أن الرحمة والرأفة يتعارضان مع النصح والإرشاد وهذا بلا شك فهم خاطئ ، لأن الرأفة والرحمة هما من أساليب التربية وليستا مانعين لها أو متعارضين معها . بل أنّ بعض الدعاة يظن أنّ تربية الزوجة على الأخلاق الاجتماعية الفاضلة مثل صلة الأرحام وبر الوالدين والإحسان إلى الناس والقيام بحقهم وإيثارهم وتحمّل أذاهم و... ، قد يعدّ ذلك تدخلاً في شؤون النساء الداخلية ، وهذا أيضاً فهم خاطئ لأن ذلك من تمام القوامة التي أمر الله بها والله أعلم ، ولأن الزوجة التي تخل بالأخلاق الفاضلة ستكون عائقاً في وجه اقتداء الناس بها وبزوجها.
مفاهيم لابد منها
إن المفاهيم التي يجب أن تعيها زوجة الداعية كثيرة ، نذكر منها ما يلي باختصار :
أولاً : اقتضاء العلم العمل . وهذا مطلب للجميع وإن تطبيقه في الواقع مما يشجج الداعية وزوجته ويشيع روح التفاؤل في الأسرة.(3/101)
ثانياً : »من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه« وهو حديث شريف إن عمل به الداعية وزوجته عصمهما الله من كثير من الذنوب والمعاصي كالغيبة والنميمة والحسد وما سوى ذلك.
ثالثاً: »لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه« وهذا أيضاً حديث شريف يعين على مكارم الأخلاق كالإيثار ومحبة الخير للناس والفرح لفرحهم والحزن لخزنهم … إلى غير ذلك من الخصال الاجتماعية الطيبة
===============
رسالة إلى الأقصى
جراح توالي نزفها وخريرها .. .. وأنَّات شاك ليس يُدرى مصيرها
وآهات مكظوم تُترجم محنةً .. .. تأجَّج في عمق الحنايا سعيرها
وولولة يغزو الفضاء شهيقها .. .. ويمتد في عرض السماء زفيرها
علام؟ على القدس المعنَّى تحوطه.. .. عصابة سوء لا تنام شرورها
طغت وبغت واستعذبت كل مأثم .. .. وهل أرهق الأيام إلا فجورها
لصوص ترى في الليل خلعة فاجر .. وكم خلعة تحمي الجناة ستورها
ضمائرها موتى وأخلاقها قذىً .. .. ومنهجها ظلم الحياة وزورها
ذئاب ترى العدوان دينًا ومذهبًا .. .. تضجُّ لها أكواخها وقصورها
فتحصد أرواحا وتفرغ آمناً .. .. وتسفك أدماءً عزيزًا يسيرها
إذا زرتها يوما وقد شفَّك الضنى .. .. فزائرها راث لها ومزورها
ونحن بني الإسلام في غفلاتنا .. .. ومن حولنا الأهوال باد سفورها
ومسجدنا الأقصى يناشد أمة .. .. موزعةً كي يستجيب غيورها
يقولون آساد الحمى ورعاته!! .. .. إذا صحَّت الدعوىفأين زئيرها؟
إليكم بني الإسلام قولة ناصح .. .. تهز قلوب الغافلين سطورها
أنحيا وفينا فرقة وتمزق .. .. حياة لعمر الحق جفت زهورها
نقيم بأرض أنبتت كل ماجد .. .. فكيف رمتنا بالضباب جحورها
وقلنا سماء العز فوق رؤوسنا .... فكيف هوت عقبانها وصقورها
أنحيا وفي الأقصى انقباض وذلة .. .. لتلك حياة مات فيها ضميرها
وأفتح عيني إذ أراه محرَّرًا .... فأقطع آفاق الدجى وأُطيرها
إلى ساحه أسرى البراق وحوله.تسابيح من وحي السماء صدورها
سنفنى ليبقى شامخ الرأس عاليًا .... بمئذنة يمحو الدياجر نورها
وتفديه أرواح غوال كرائم . . .. على الله في ساح الفداء أجورها
إلى سُدَّة الأقصى بعثت تحيتي ... من المهجة الولهى يفوح عبيرها
وأبعث أشواقي رسائل آمل .. .. يعيد صداها نظمها ونثيرها
إليك .. وما أنفكُّ أجتاز رحلةً .. يشق على غير المشوق عبورها
وهل تستوي الأيام لينًا وقسوةً؟ .. .. وهل يتساوى ظلها وحرورها
فداؤك (إن عزَّ الفداء) نفوسنا؟ .... وكل مُناها أن يُفكَّ أسيرها
ولا بد أن تنجاب عنك سحابة .. .. ويأتي بما سرَّ النفوس بشيرها
.................
المصدر : مجلة " الأمة " . العدد : 55
=================
غربة وموقف
للغربة في دارنا سكن ..
أهربُ كثيرًا .. أحاول أن أنسى
في حديقة المجمع الخلفية.. سألتني جارتنا .. قلت لها : مسلمون .. قلتها على عجل .. خجلاً من نفسي . وخوفًا من أسئلةٍ أخرى ..
نحن هنا أناس معزولون .. لا نعرف أحدًا .. ولا نرى أحدًا ..
نسمع أن هنا مسجدًا .. ونرى منارته حين مرورنا .. ولا ندخله ..
حتى في الأعياد لا نأتي إليه ..
أيامنا تحولت مع أيامهم وأعيادنا أعيادهم ..
باختصار .. يطلق علينا "مسلمون" .. تجاوزًا ..
لا صلاة .. ولا عبادة .. لا شيء يوحي بالإسلام في منزلنا ..
سوى سجادة صلاةٍ معلقة في المجلس ..
ومع مرور الأيام بدا لزوجي أن يغيرها ..
كيف نعيش .. زوجي رجلٌ عملي .. ومنظم
يحب عمله .. يتفانى في دراسته ..
يطغى الجو الرسمي على المنزل وعلى تعاملنا ..
يريد كل شيء في وقته .. حتى لا تضيع دقيقة ..
أما ابني " .... " فليس له من اسمه نصيب
لا يعرف عن الإسلام شيئًا .. ولا يعرف حتى الشهادتين ..
من ربك .. ؟ ما دينك .. ؟ من نبيك .. ؟
لم تردد في منزلك أبدًا .. أدخلناه مدرسةً مع أطفال الجيران .. وتركنا مدرسةً لأطفال المسلمين .. ما تبقى من وقته
حرصنا فيه على تعلمه للغة الإنجليزية .. رغم صغر سنه ..
مشاهدة التلفاز والفيديو .. خروجه مع أطفالهم ..
هذا جهدنا نحوه ..
صلتنا بالطلبة هنا منقطعة .. واتصالنا ببلادنا متقطع ..
ربما طرقنا هاتف يخبرنا بموت فلان .. أو بزواج قريب ..
في غربتنا تحملت مسؤولية كل شيء ..
شراء ما نحتاجه وحتى تسديد الفواتير ..
يُهوِّن حياة الغربة .. طفلي .. وشيءٌ من فرحة العودة ..
رغبتي في زيارة الأهل لا حد لها .. ولكن .. ؟!
مكالمة طويلة من والد زوجي أتت ..
وأصر على أن نزورهم هذا الصيف ..
وكلما طالت المكالمة فرحت بذلك .. لعلمي إلحاح والده ..
بعد أعذارٍ واهية ..
سيأتون بدوني .. لديَّ ما يشغلني ..
وضع سماعة الهاتف .. انتظرته يقول شيئًا .. ولكنه كان متوترًا ..
بعد تململٍ قال :
أصر والدي .. وأنا لا أستطيع الذهاب .. وقتنا ضائع بين ذهابٍ وعودة ..
قلت له : لنا سنتين لم نذهب .. اذهبوا أنتم ..
رتبت حجزي .. حزمت حقائبي ..
سأغادر مدينتي إلى العاصمة ..
أمكث فيها ثلاث أيام .. أحتاج إلى كثير من الهدايا ..
في الطريق فرح ابني ..
سنذهب إلى فلان .. وفلان .. وعدّد الكثير من الأسماء ..
لم تغب عن ذاكرته ..
وعندما دخلنا المدينة سأل عنهم ..
قلت .. ليس الآن ..
بعد ثلاثة أيام ..
في هذه المدينة تتذكر الوطن .. السواح في كل مكان ..
السُمرة تعلو الوجوه .. وتُرى العباءة في الأسواق ..
فرحت بهذا القرب من الوطن ..
بدأنا نقترب ..
يومٌ أو يومين ونحن هناك ..
في اليوم الأخير لنا هنا .. بعد أن انتهيت من شراء ما أحتاجه ..
ذهبت بابني إلى الحديقة ..
البط قريبٌ جدًا .. والحمام يلامس يدك ..
الناس في كل مكان .. والأطفال .. يمرحون ..
بدأ ابني يرمي ببقايا الأكل إلى البط حتى اقتربن(3/102)
على كرسيٍّ جلست وحيدة .. وكان بجوار ابني طفل يحادثه ..
ما أسرع المعرفة .. إنه صفاء القلوب ..
ناديت ابني باسمه ..
وأتت بدلاً عنه أم الطفل الذي بجواره ..
سلَّمت وهشت ورحبت ..
سائحةٌ مثلي ..
قلت بفرح .. لا بل مغادرة ..
كالطفلة أحتاج إلى من يحادثني ..
امتدحت المكان وفرحة الصغار ..
دعتني لشرب الشاي معهم ..
وسط أرضٍ خضراء .. يتوسطها الشاي والقهوة ..
عَرَّفتني .. هذه والدتي .. وهذه أختي .. وهذه زوجة أخي ..
ما شاء الله .. عائلة كاملة ..
أنست بالحديث معهنَّ ..
قادمٌ من بعيد .. ينظرون إليه .. ويمازحون ..
أقبل .. تسبقه عصا في يده .. هذا والدنا ..
سلَّم .. ولم يجلس .. ولكنه رقع صوته ..
لا نسمع أذانًا ولا إقامة ..
دعا لبلاد المسلمين دار خير وصلاة ..
نادوا فلانًا .. وذهبت إحداهنَّ تبحث عن الطفلين ..
أسرع ابني وجلس بجانبي .. أما الطفل الآخر .. فلعله اعتاد الأمر ..
وضع سجادة .. ووقف بجواره .. وكبَّر للصلاة ..
مشدودةٌ عينا ابني .. وهو يرى ذلك ..
وما إن ركع .. ورفع من السجود ..
حتى وقف .. وقال بصوتٍ عالٍ .. فَرِحًا ..
يصلي .. مثل بابا عبد العزيز ..
سألتني والدتهم .. ما شاء الله ..
أبوه اسمه عبد العزيز .. ؟
أشحتُ بوجهي عنها .. وأنا أُخفي عينيّ ..
أسندت رأس ابني إلى صدري ..
ما أكبر الجريمة في حقك ..
أشرت برأسي أن .. نعم .. عندما أعادت السؤال ..
ماذا أصابني .. ؟
إعصارٌ هزَّ أعماق قلبي ..
لم ير والده يصلي قط ..
عبد العزيز .. جده ..
أحسست أنها عرفت ذلك ..
تمالكت نفسي ..
نهضت واقفة .. أحمل هم السنين الماضية ..
ودَّعتُ وداعًا كئيبًا وأنا أقول ..
لم ير أباه يصلي أبدًا ..
وكأنها تردد معي ..
بل رأى جده ..
بل رأى جده ..
مع دخولي غرفة الفندق ..
توضأت .. وصليت ..
في مساءٍ متأخر ..
في بيت والدي ..
لم يعد للفرحة بالوطن معنى ..
منذ أن وصلت لم يفارقني صوت ابني ..
سأقول لكِ الحقيقة .. أنتِ أختي ..
تمهَّلي عليَّ ..
الأمر ليس كما تتوقعين .. أكبر مما تتوقعين ..
بكيت .. ورويت لها ما حصل ..
لم تدعني دمعتي أكمل ..
قالت بتنهدٍ :
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
فرَّبَت ابني .. مَسحَت على رأسه ..
وقالت :
" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " ..
هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ..
هل تقبلين أن تكوني كافرة .. ؟
هل تقبلين أن تتزوجي كافر .. ؟
هل تقبلين .. !!
=============
توبة الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني
بفطرتي كنت أؤمن بالله ، وحينما كنت في سن الصغر أمارس العبادات كان ينتابني شيء من الضعف والتسويف على أمل أن أكبر وأن أبلغ مبلغ الرجال فكنت أتساهل في فترات معينة بالصلاة فإذا حضرت جنازة أو مقبرة، أو سمعت موعظة في مسجد ازدادت عندي نسبة الإيمان فأحافظ على الصلاة فترة معينة مع السنن ثم بعد أسبوع أو أسبوعين أترك السنن .. وبعد أسبوعين أترك الفريضة حتى تأتي مناسبة أخرى تدفعني إلى أن أصلي.
وبعد أن بلغت مبلغ الرجال وسن الحلم لم أستفد من ذلك المبلغ شيئا ، وإنما بقيت على وضعي في التمرد وعدم المحافظة على الصلاة بدقة ؛ لأن من شب على شيء شاب عليه. وتزوجت .. فكنت أصلي أحيانا وأترك أحيانا ، على الرغم من إيماني الفطري بالله..
حتى شاء الله- تبارك وتعالى - في مناسبة من المناسبات كنت فيها مع أخ لي في الله ـ وهو الشيخ سليمان بن محمد بن فايع - بارك الله فيه - وهذا كان في سنة 1387هـ، نزلت من مكتبي - وأنا مفتش في التربية الرياضية - وكنت ألبس الزي الرياضي والتقيت به على باب إدارة التعليم وهو نازل من قسم الشئون المالية فحييته ؛ لأنه كان زميل الدراسة ، وبعد التحية أردت أن أودعه فقال لي إلى أين؟ وكان هذا في رمضان - فقلت له: إلى البيت لأنام.
وكنت في العادة أخرج من العمل ثم أنام إلى المغرب ولا أصلي العصر إلا إذا استيقظت قبل المغرب وأنا صائم.. فقال لي: لم يبق على صلاة العصر إلا قليلا .. فما رأيك لو نتمشى قليلا؟ فوافقته على ذلك ، ومشينا على أقدامنا وصعدنا إلى السد (سد وادي أبها) - ولم يكن آنذاك سدا - وكان هناك غدير وأشجار ورياحين طيبة فجلسنا هناك حتى دخل وقت صلاة العصر وتوضأنا وصلينا ثم رجعنا .. وفي الطريق ونحن عائدون.. ويده بيدي قرأ علي حديثًا كأنما أسمعه لأول مرة ، وأنا قد سمعته من قبل لأنه حديث مشهور.. لكن حينما كان يقرأه كان قلبي ينفتح له حتى كأني أسمعه لأول مرة.. هذا الحديث هو حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض ، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر - قالها مرتين أو ثلاثا - ثم قال : " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه…" الحديث. فذكر الحديث بطوله من أوله إلى آخره .
وانتهى من الحديث حينما دخلنا أبها ، وهناك سنفترق حيث سيذهب كل واحد منا إلى بيته ، فقلت له : يا أخي من أين أتيت بهذا الحديث؟ قال : هذا الحديث في كتاب رياض الصالحين فقلت له : وأنت أي كتاب تقرأ؟ قال: اقرأ كتاب الكبائر للذهبي.. فودعته.. وذهبت مباشرة إلى المكتبة - ولم يكن في أبها آنذاك إلا مكتبة واحدة وهي مكتبة التوفيق - فاشتريت كتاب الكبائر وكتاب رياض الصالحين ، وهذان الكتابان أول كتابين أقتنيهما.(3/103)
وفي الطريق وأنا متوجه إلى البيت قلت لنفسي: أنا الآن على مفترق الطرق ، وأمامي الآن طريقان : الطريق الأول: طريق الإيمان الموصل إلى الجنة، والطريق الثاني: طريق الكفر والنفاق والمعاصي الموصل إلى النار ، وأنا الآن أقف بينهما فأي الطريقين أختار؟. العقل يأمرني باتباع الطريق الأول.. والنفس الأمارة بالسوء تأمرني باتباع الطريق الثاني وتمنيني وتقول لي: إنك ما زلت في ريعان الشباب وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة فبإمكانك التوبة فيما بعد. هذه الأفكار والوساوس كانت تدور في ذهني وأنا في طريقي إلى البيت..
وصلت إلى البيت وأفطرت ، وبعد صلاة المغرب صليت العشاء تلك الليلة وصلاة التراويح ولم أذكر أني صليت التراويح كاملة إلا تلك الليلة. وكنت قبلها أصلي ركعتين فقط ثم أنصرف ، وأحيانا إذا رأيت أبي أصلي أربعا ثم أنصرف.. أما في تلك الليلة فقد صليت التراويح كاملة .. وانصرفت من الصلاة وتوجهت بعدها إلى الشيخ سليمان في بيته، فوجدته خارجا من المسجد فذهبت معه إلى البيت وقرأنا في تلك الليلة - في أول كتاب الكبائر - أربع كبائر: الكبيرة الأولى الشرك بالله، والكبيرة الثانية السحر، والكبيرة الثالثة قتل النفس، والرابعة ترك الصلاة ، وانتهينا من القراءة قبل وقت السحور فقلت لصاحبي: أين نحن من هذا الكلام؟ فقال : هذا موجود في كتب أهل العلم ونحن غافلون عنه.. فقلت: والناس أيضا في غفلة عنه فلابد أن نقرأ عليهم هذا الكلام. قال: ومن يقرأ ؟ قلت له: أنت . قال : بل أنت .. واختلفنا من يقرأ، وأخيًرا استقر الرأي علي أن أقرأ أنا؛ فأتينا بدفتر وسجلنا في الكبيرة الرابعة كبيرة ترك الصلاة.
وفي الأسبوع نفسه، وفي يوم الجمعة وقفت في مسجد الخشع الأعلى الذي بجوار مركز الدعوة بأبها- ولم يكن في أبها غير هذا الجامع إلا الجامع الكبير- فوقفت فيه بعد صلاة الجمعة وقرأت على الناس هذه الموعظة المؤثرة التي كانت سببا - ولله الحمد - في هدايتي واستقامتي . وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على دينه إنه سميع مجيب .
أخي الحبيب بعد قراءتك لهذه القصة من قصص الهداية التي يمن الله بها على من يشاء من عباده أريد فقط أن أخبرك أن صاحب هذه القصة والراوي لها هو الشيخ الشهير سعيد بن مسفر القحطاني حفظه الله ورعاه ونفع به .. هذه كانت حاله قبل الهداية ثم هذا حاله بعدها ، فهلا سلكت سبيله ، وولجت طريقه علَّ الله أن يفتح عليك بما فتح عليه به ، ويستنقذك مما استنقذه منه؟!!
........................
المصدر: موقع الشباب
=============
أبو حمزة السُّكري
أبو حمزة السُّكري إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلام السلف الصالحين، قال عنه ابن المبارك: إنه جماعة المسلمين، أو السواد الأعظم !!
يقول الإمام الذهبي في السِّير ما معناه : لم يكن أبو حمزة يبيع السُّكر حتى يلقب بالسُّكري، وإنما لقب بذلك لحسن كلامه وجمال منطقه وحديثه .
أراد جارٌ لأبي حمزة أن يبيع داره، فعرض بيعها بأربعة آلاف درهم، فقيل له : الدار لا تساوي كل هذا المبلغ ؟ فقال : ألفان للدار، وألفان لجوار أبي حمزة، فلما علم أبو حمزة أرسل إليه أربعة آلاف درهم على ألا يبيع الدار وأن يبقى فيها .
هذا كان ملخصًا لحال أبي حمزة السكري، ومنه تَعْلم أخلاق أبي حمزة وكلامه وأفعاله وحسن جواره، ومدى تأثر الناس به، ومحبتهم له، ومدى اهتمامه هو بمعرفة أحوالهم وطلب راحتهم، وأما علاقته بالله فهذا شيءٌ آخر .
في زماننا هذا كثيرون هؤلاء الذين يكنون بأبي حمزة ، وهذا لا شك انتماء طيب وولاء محمود للسلف، ولكن هل تكفي الكنى والأسماء ليعود للدين بهاؤه وترجع للإسلام هيبته ؟! وهل يكفي أن يكنى الإنسان بأبي فلان حتى يحبه الناس وحتى يندرج في سلك السلف الصالحين والدعاة المخلصين ؟!
أظن، بل أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك ، وأننا نحتاج إلى من يعزز اسمه الجميل بجميل الخلق وحسن المعاملة ،والعطف على الناس والمناصحة للإخوان ، ومحبة أهل الإسلام والشفقة عليهم.
إن الناس لم تحب أبا حمزة لأن كنيته أبو حمزة ، وليس كل من يسمى أو يكنى بأبي حمزة يستحق أن يباع أو يشتري جوارُه بألفي درهم ، بل كم من أبي فلان يتمنى جاره لو تخلص من جواره، ويدفع لا ألف درهم بل آلاف .
لقد أحب الناس أبا حمزة السكري وسيحبون كل أبى حمزة بشرط أن يكون سكريًّا ..
سكريًّا في ألفاظه، فإن صاحب اللفظ الجميل هو أسرع الخُلق في الوصول إلى قلوب الناس، وكما قيل " اللفظ سعد " .. وهل صار أبو حمزة سكريًّا إلا لحسن كلامه وألفاظه .
سكريًّا في أخلاقه .. يعطف على الناس المحتاجين وغير المحتاجين، ويشفق على التائهين الضالين، حتى يقال له كما قيل للنبي الأمين : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(الشعراء:3) . ويصبر على المتعلمين ويعرض عن الجاهلين، ويرفق في نصحه للمخالفين .
سكريًّا مع إخوانه .. في خفض جناحه لهم، والتذلل في معاملتهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(المائدة:54) .. وبذل النصح لهم دون مجاملة ولا مواربة، ولكن بحب ورفق فـ " الدين النصيحة " .
سكريًّا مع جيرانه .. بالسؤال عن أحوالهم، ومساعدتهم في حاجاتهم، والرفق في دعوتهم، والمداومة على وصلهم .
إننا نحتاج وبكل صراحة أن يكون كل أبى حمزة في هذا الزمان سكريًا، فلا يكفي أبو حمزة فقط، ولكن لابد أن يكون "أبو حمزة السُّكري".
==================
لا تقولوا: دَمُ أقصانا جَمَدْ
لا تقولوا:
ذهنُه من شدَّة الهول شرَدْ
لا تقولوا:
نهرنا الجاري رَكَدْ
ساخنُ العزم بَرَدْ
لا تقولوا:
إن جيشَ الكفر في الأرض احتشَدْ
وعلى الحوض وَرَدْ(3/104)
وعلى أحلامنا في ساحةِ الأقصى قَعَدْ
لا تقولوا:
نفث الساحرُ سحراً في العُقَدْ
هبَّت الرِّيح بما لا يشتهي البحَّارُ...
واشتدَّ مع الموج الزَّبَدْ
زمجرَ الباغي ولم يأتِ المَدَدْ
لا تقولوا:
نزلتْ أمَّتُنا أقسى نزولٍ..
وعدوُّ اللهِ في الأرض صَعَدْ
لا تقولوا:
أسرف المجرم في القتلِ وفي الظلم تمادَى
وإلى قَصْعَتِنا جيش الأباطيل تنادى
أَبْدَأَ الغاصبُ فينا وأعادا
لا تقولوا:
صرخ الطفل ونادى... ثم نادى.. ثم نادى
ثم فاضتْ روحُه في عَتْمَةِ اللَّيل وفي القلب كَمَدْ
أقسم الصوتُ الذي أَطْلَقَه...
أنَّ الصَّدَى كان ينادي: لا أَحَدْ
لا تقولوا:
عَقِمَتْ أمَّتُنا، واستنسرَتْ فيها بُغاثُ الطيرِ...
والعَزْمُ خَمَدْ
لا تقولوا:
إنَّ شارونَ، ومَنْ شارونُ؟، باغٍ يتبختَرْ
ظالمٌ في جيشِ إِبليسَ مسخَّرْ
مدمنٌ يشرب خمراً من دمِ الطِّفْلِ المقطَّرْ
مغرمٌ بالعنف يشتاق إلى رؤيةِ مقتولٍ معفَّرْ
أنا لا أَشتُمُه...
فالشَّتْمُ من عرضِ الذي لا يعرفُ الرحمةَ، أَكبَرْ
وهو من أَحْقَرِ شَتْمٍ صاغه الإنسانُ أحقَرْ
لا تقولوا:
إنَّ شارون على الغرب اعتمدْ
ومضى يحرق أَحلامَ العصافيرِ..
ويستنزفُ خَيْراتِ البَلَدْ
لا تقولوا:
زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ
ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ
لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ
أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ
والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ
أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ
غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ
أنَّ نَصْرَ اللَّهِ آتٍ ، وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ
لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ....
ما دام لنا فيها وَلَدْ
=============
رسالة إلى صاحب دش
اسمع كلامي ياحبيبي واضحا من غير غشْ
فيما يسميه الأنام بعصرنا: طبقا و" دِشْ"
هو بوق تنصير لقسيس لئيم منتفشْ
هو ضحكةٌ سكْرى ترنُّ، وصوتُ عُهرٍ يرتعشْ
أخي الحبيب .. إليك هذه الكلمات التي خرجت من قلبي فلعلها تصل إلى قلبك ، وامتزجت بروحي فلعلها تمتزج بروحك .. كتبتها بمداد المحبة والصفاء ، والنصح والوفاء ، فلعلها لا تجد عن نفسك الصافية مصرفا.
أخي .. إني لا أعرفك ، وأنت لا شك لا تعرفني ، لكنّ الذي جعلني أكتب إليك هو ذلك الشيء الذي وضعته فوق منزلك .. يناطح السحاب ويعانق السماء ، ويفتح قلبه لكل وافد، ويصافح بيديه كل قادم ..قد مد قامته بكل فخر وسرور، وقد رفع رأسه بكل تكبر وغرور. ثم جلست داخل منزلك كهيئة وقوفه هو خارجه ..!! فاتكأت على ما لطف من الفرش ورقَّ ، واسترخيت على السندس والإستبرق ، وأمرت بالمرطبات ، وأصناف المأكولات، وأغلقت النوافذ والأبواب،.. ثم .. تناولت مفتاح الجهاز بيدك ، فقلبته كيفما شئت، ونفسك الأمارة تقول لك .. من مثلك؟ نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ، هاهو العالم بين يديك فتجول فيه أنى أردت.
فأخذت تتنقل ووجهك تعلوه الابتسامة، ونظراتك تطارد المشاهد المكشوفة، ولعابك يسيل على المناظر الفاضحة ، فمن فيلم إلى مسرحية ، ومن رقصة إلى أغنية، ومن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة .
فتشاهد في هذه الشاشة البيضاء، ما ينكت في قلبك النكتة السوداء، فتتوالى هذه النقط السوداء على قلبك الأبيض، حتى يغلب السواد على البياض، فيموت قلبك، ويبقى جسمك، فتكره كل خير، وتحب كل شر، وتبتعد عن كل معروف، وتقترب من كل منكر، وتبدو على وجهك آثار كآبة وضيق، وهم عميق .
ورغم كل الملهيات، وما تملكه من مسليات، سوف تصبح معيشتك ضنكا، ولياليك سودا، وسوف تعاني من الاكتئاب والحيرة، والتخبط والفراغ .. لأن سيدك ومولاك يقول:(ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )[ طه: 124] .
أخي .. أعرف أنك الآن تغطي عينيك لكي لا ترى شيئا غير جهازك، وتغلق أذنيك حتى لا تسمع أحدا سوى صوت تلفازك .
أعرف أنك تجري وتجري .. وأنت لا تفكر إلا بفيلم اليوم وسهرة الليلة .
أعرف أنك تجري وتجري .. وأنت لا تفكر إلا في الشرق ومغرياته، والغرب وملهياته .
أعرف أنك تجري وتجري .. وتلهث وتلهث . تجري وراء الشهوات، وتلهث وراء اللذائذ والموبقات .
ولكنك يا أخي .. لا تعرف أن في آخر هذا الطريق حفرة عميقة، ذات هوة سحيقة !!
أخي .. اسمح لي بأن أقف أمام وجهك في منتصف الطريق وأقول لك: قف !!
قف .. وعد إلى ربك .. واتق النار .. اتق السعير.
إن أمامك أهوالا وصعابا، إن أمامك نعيما وعذابا، إن أمامك ثعابين وحيات .. وأمورا عظائم هائلات . والله الذي لا إله إلا هو .. لن تنفعك الأفلام والسهرات، والرقص والأغنيات .
أخي الحبيب قف .. قف مع نفسك لحظة .. وأسألها: إلى متى أجري خلف الشهوات .. وألهث وراء المنكرات .. كم سأعيش في هذه الدنيا ؟ ستين سنة .. ثمانين سنة .. مائة سنة .. ألف سنة .. ثم ماذا ؟ .. ثم موت .. ثم الحساب فإما النعيم ، وإما الجحيم وماء الحميم .
أخي .. تخيل نفسك وقد نزل بك الموت، وعاينت مرارة وحسرة الفوت ، ودخلت القبر ورأيت ظلمته، ووحدته، وضيقه ووحشته .
تذكر الملكين وهما يقعدانك ويسألانك .. تذكر كيف يكون جسمك بعد الموت .. تقطعت أوصالك، وتفتتت عظامك، وبلي جسمك، وأصبحتَ قوتا للديدان .
تذكر .. يوم تسمع الصيحة .. إنها صيحة العرض على الله .. فيطير فؤادك، ويشيب رأسك .. فتخرج من قبرك مغبرا حافيا عاريا .قد رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا ، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال .(3/105)
وطارت الصحائف .. وقلق الخائف .. وزفرت النار .. وأحاطت الأوزار.. ونصب الصراط .. وآلمت السياط .. وحضر الحساب .. وقوي العذاب .. وشهد الكتاب .. وتقطعت الأسباب
تذكر .. مذلتك في ذلك اليوم العظيم، وانفرادك بخوفك وأحزانك، وهمومك وغمومك وذنوبك. فتتبرأ حينها من بنيك، وأمك وأبيك، وزوجك وأخيك .
تذكر .. يوم توضع الموازين، وتتطاير الصحف . كم في كتابك من زلل .. وكم في عملك من خلل؟
تذكر .. يوم ينادى باسمك بين الخلائق .. يا فلان بن فلان: هيا إلى العرض على الله، فتقوم أنت، ولا يقوم غيرك، لأنك أنت المطلوب .
تذكر .. حينئذ ضعفك .. وشدة خوفك، وانهيار أعصابك، وخفقان قلبك .. وقفت بين يدي الملك الحق المبين، الذي كنت تهرب منه، ويدعوك فتصد عنه .. وقفت وبيدك صحيفة .. لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتْها، فتقرؤها بلسان كليل.. وقلب كسير، قد عمك الحياء والخوف من الله .
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن .. مالك الذي أضعته .. وعمرك الذي أسرفت فيه .. وعينك التي خنت بها .. وسمعك الذي عصيت به .. بأي قدم تقف غدا بين يديه، وبأي عين تنظر إليه وبأي قلب تجيب عليه .. !!!
ماذا تقول له غدا .. عندما يقول لك: يا عبدي .. لماذا لم تُجلَّني، لماذا لم تستح مني، لماذا لم تراقبني .. يا عبدي .. هل استخففتَ بنظري إليك . يا عبدي .. ألم أحسن إليك .. ألم أنعم عليك !!
أخي الحبيب .. تذكر .. هذه المواقف العصيبة، والأوقات الرهيبة يوم ينسى الإنسان كل عزيز وحبيب، ولا ينجو إل امن كان له قلب سليم .
أخي .. قف مع نفسك هذه الوقفة المصيرية، واعلم أنك ما وجدت في هذه الدنيا إلا للعبادة(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريا ت: 56] ولم تخلق للهو واللعب والعبث(أفحسبتم نما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون:115]
أخي .. إني أخاطب فيك دينك .. الذي يحرم هذه المنكرات . وأخلاقك التي تترفع عن هذه لشهوات . وعقلك الذي يأبى هذه الترهات . وقلبك الذي يخاف من هذه الموبقات وغيرتك على نسائك العفيفات المحصنات . فانتصر على نفسك .. وتغلب على هواك .. وأخرج هذا(الدش) من بيتك، وسيعوضك الله خيرا منه في الدنيا والآخرة .
أخي ياصاحب الدش .. أراك إلى الردى تمشي
وتضرم ضاحكا نارا ..على بيت من القش
وأنت كطائر يأوي .. بثعبان إلى العش
أترضى منزلا يبنى .. على الإجرام والفحش
ألا تخشى بأن ينهار .. فوق أساسه الهش
أخي إن أنت لم تخرجه .. قبل مسيرة النعش
ستلقى الله غشاشا .. وبئس عقوبة الغش
أخي .. والله ما كتبت هذه الأحرف، ولا نطقت بهذه الكلمات، إلا لخوفي على وجهك الأبيض .. أن يصبح مسودا يوم القيامة، وعلى وجهك المنير .. أن يصبح مظلما . على جسدك الطري .. أن يلتهب بنار جهنم، فعسى قلبك الطاهر أن يلتقطها ..ولعل نفسك الصافية تستقبله.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
ناصح أمين
==============
حبيبتي بلادي
حبيبتي بلادي
نسيتُ في موائد الثناء
سيدًا يعشق الفداء
الموت عنده حياة
أحب دائماً أن تُرْفَعَ الجباه
أحب أن يراك مسجداً مقدَّساً ثَرَاه
شغلت عنه بالبريق
من سيطفئ الحريق غيره
ومن سيمسح الجراح إن جهلت سِرَّه؟
حبيبتي بلادي
قد كنتُ أصنع الكلامَ مِنْ دمي
وكنت أعزف النشيد هامسًا
لعله إلى الفؤاد ينتمي
وكنت أكتبُ الحروفَ واحدًا فواحدًا
لتقرئي .. لتفهمي
وكنتِ يا حبيبتي وكنتِ
والآن يا حبيبتي
لن أكمل الحديث
وإن بدا مُشَوَّقًا
فليس ما أريده إثارة الطَرَب
أو أن تحرِّكي الشفاه من دلائل العجب
ولن أُتِمَّ يا حبيبتي النغم
فقد رأيت ما يُحَرِّم النشيد ألف عام
فصرت كلما بدأت بالغناء
أجهشت في البكاء
حبيبتي
ولم تزل في أفقنا بقيةٌ مِنَ الرَّجاء
حَطِّمي قيوده
لتحتمي بِسِرْبِه
لتصنعي حياتنا به
لتسمعي دعاءه .. بكاءه
يستمطر السماء زَادَه.. ونَصْرَه
ويستغيثُ رَبَّه
فحطمي قيوده...
=============
العلم والخشية
إذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ، وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل ، ويجب على العاقل ألا يرى لنفسه عملاً أو يعجب به . وذلك بأشياء :
منها أنه وفق لذلك العمل " حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " .
ومنها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها .
ومنها أنه إذ لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل علم وتعبد .
هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة ، فأما والغفلات تحيط به فينبغي أن يغلب الحذر من رده ويخاف العتاب على التقصير فيه فيشتغل عن النظر إليه .
وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا : ما عبدناك حق عبادتك . والخليل عليه السلام يقول : " والذي أطمع أن يغفر لي " وما أدل بتصبره على النار وتسليمه الولد إلى الذبح . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما منكم من ينجيه عمله قالوا ولا أنت قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته . وأبو بكر رضي الله عنه يقول : وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله . وعمر رضي الله عنه يقول : لو أن لي طلاع الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر . وابن مسعود يقول : ليتني إذا مت لا أبعث . وعائشة رضي الله عنها تقول : ليتني كنت نسياً منسياً . وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع .
وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بها . فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة وأخرج له كل ليلة رمانة وسأل الله تعالى أن يميته في سجوده . فإذا حشر قيل له ادخل الجنة برحمتي قال : بل بعملي فيرون جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي فيقول : يا رب برحمتك .(3/106)
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحيي من ذكره وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه .
فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة . إنما لو كان مباحاً فتركه كان فيه ما فيه . ولو فهم لشغله خجل الهمة عن الإدلال كما قال يوسف عليه السلام : " وما أُبَرِّىءُ نفسي " .
والآخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن . وفي هذا البر أذى للأطفال ولكن الفهم عزيز . وكأنهم لما أحسنوا - فيما ظنوا - قال لسان الحال : أعطوهم ما طلبوا فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا .
ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله ، حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه .
وفهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر . ويوجب مساكنه الذل . فتأمله فإنه أصل عظيم .
==============
أقسام الناس بعد سماع المواعظ
الناس عند سماع الموعظة أنواع ، وبعد سماعها أقسام ، يختلفون في الصدر بعد الورد ، فبين متأثر منيب ، وبين غافل عن الله بعيد .. وقد تكلم في ذلك الإمام ابن الجوزي رحمه الله مبينا تلك الأقسام فقال:
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة ! فتدبرت السبب في ذلك فعرفته .
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها لسببين .
أحدهما : أن المواعظ كالسياط والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها .
والثاني : أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا وأنصت بحضور قلبه فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها وكيف يصح أن يكون كما كان ! .
وهذه حالة تعم الخلق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر .
ـ فمنهم من يعزم بلا تردد ويمضي من غير التفات فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا كما قال حنظلة عن نفسه : نافق حنظلة ! .
ـ ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً فهم كالسنبلة تميلها الرياح ! .
ـ وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه كما دحرجته على صفوان .
وفي الفصل الذي يلي هذا الفصل تكلم ابن الجوزي عن الطبع الإنساني وجواذبه فكاد أن يبين سبب انقطاع المنقطعين عن الانتفاع بالوعظ المسموع فوضع يده على العلة في ذلك أو كاد قال رحمه الله :
جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة ثم هي من داخل وذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع من خارج . وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى لما يسمع من الوعيد في القرآن . وليس كذلك ؛ لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري فإنه يطلب الهبوط وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف . ولهذا أجاب معاون الشرع : بالترغيب والترهيب يقوى جند العقل .
فأما الطبع فجواذبه كثيرة ، وليس العجب أن يُغلَب إنما العجب أن يَغلِب .
===============
رفيق صَلاحِ الدِّين
زمانُك بُسْتَانٌ وَعْصُرُكَ أَخْضَرُ .... وَذِكْرَاكَ عُصْفُورٌ مِنَ الْقَلْبِ يَنْقُرُ
دَخَلْتَ على تاريخنا ذاتَ ليْلةٍ .... فرَائِحَةُ التَّاريخِ مِسْكٌ وَعَنْبَرُ
وكُنتَ فكانت في الحقولِ سنابلٌ .... وكانت عصافيرٌ وكان صَنَوْبَرُ
لَمَسْتَ أمانينا فصارتْ جدَاوِلاً .... وأمْطَرْتَنا حُبّا ولا زلت تُمْطِرُ
تأخَّرْت عَنْ نقْعِ الوَغَى يَاحبيبنا ... وما كُنتَ عن نقعِ الوَغَى تتأَخَّرُ
سَهِدْنا وفكَّرنا وشَاختْ دُمُوعُنا ... وشَابتْ ليَالِينا وما كُنتَ تحْضُرُ
تُعاوِدُني ذِكْرَاك كلَّ عشِيَّةٍ .... ويُورِقُ فِكْري حينَ فِيكَ أُفَكِّرُ
وتأبَى جِرَاحي أن تَضُمَّ شِفاهها .... كأنَّ جِراحَ الحُبِّ لا تَتَخَثَّرُ
تأخَّرْتَ يا أغلى الرِّجالِ فَلَيْلُنا .... طويلٌ وأضْواءُ القنادِيلِ تسْهَرُ
تأخَّرْتَ فالسَّاعاتُ تأكُلُ نفْسَها .... وأيَّامُنا في بَعْضِهَا تَتَعَثَّرُ
أتسألُ عَن أعْمَارِنا أنت عُمْرُنا .... وأنتَ لنا الآمَالُ أنتَ المُحَرِّرُ
وأنت أبُو العُمرانِ أنت وقُودُها .... وأنتَ انبِعَاثُ الدِّينِ أنت التَّغَيُّرُ
تأخَّرت عنَّا فالجيادُ حزينةٌ .... وسَيْفُك من أشْوَاقِهِ كادَ يُنْحَرُ
حِصَانُكَ في سيْنَاءَ يَشْرَبُ دمْعَهُ .... ويا لِعذَابِ الخَيْلِ إذْ تَتَذكَّرُ
وراياتُك الخضْراءُ تَمْضُغُ دَرْبَهَا .... وعِندَكَ آمَالُ الثُّغورِ تُقَصَّرُ
نِسَاءُ فلسطينٍ تَكَحَّلْنَ بالأسَى .... وفي بيتِ لحْمٍ قاصِراتٌ وقُصَّرُ
وليْمُونُ يَافا يَابِسٌ في حُقُولِهِ .. وهلْ شَجَرٌ في قبْضَةِ الظُّلْمِ يُزْهِرُ؟
رفيقَ صلاح الدين هلْ لك عوْدةٌ .... فإن جيوشَ الرُّومِ تنْهى وتأْمُرُ
رفاقُكَ في الأغْوَارِ شَدُّوا سُرُوجَهُم.. وجُندُك في حِطِّينَ صَلُّوا وكَبَّرُوا
تُغَنِّي بك الدنيا كأنَّك طارقٌ .... على بركاتِ الله يَرْسُو ويُبْحِرُ
تُناديك من شوْقٍ مآذنُ مكَّةٍ .... وتبْكيكَ بَدْرٌ "يا حَبيبي" وخيْبَرُ
وَيَبْكِيكَ صَفْصَافُ الشَّآمِ وَوَرْدُها .... ويَبْكِيكَ زهْرُ الغُوطَتَينْ وتدْمُرُ
تعالى إليْنا فالمُروءاتُ أطْرَقَتْ .... ومَوْطِنُ آبائي زُجَاجٌ مُكسرُ
هُزِمْنا وما زِلْنا شَتَاتَ قبائِلٍ .... تَعِيشُ على الحِقْدِ الدَّفين وتَزْأَرُ
يُحَاصِرُنا كالموتِ بِلْيُونُ كَافِرٍ..ففي الشَّرْقِ هُولاكُو وفي الغرب قيصرُ
أيا فارسًا أشْكُو إليهِ موَاجِعي .... ومِثْلي لَهُ عُذرٌ وَمِثلُكَ يَعْذُرُ
أنا شَجَرُ الأَحْزَانِ أنْزِفُ دائِمًا .... وفي الثَّلْجِ والأنْوَارِ أُعْطِي وأُثْمِرُ(3/107)
وأصْرُخُ يا أرْضَ المُرُوءَاتِ إحْبَلِي .... لعلَّ صلاحًا ثانيًا سَوْف يَظْهَرُ
===============
حديث النفس
ياأُمتي ـ والحُزْنُ يعصِرني ـ علامَ الإنحناءْ!
ما بالُ رحلَتِكِ انتهت وخلعتِ ثوبَ الكبرياءْ!
لو كان يُسْعِفُني البكاءُ لمُتّ من فرْط البكاءْ
يا أُمّتي هل يصبحُ الأعداءُ يوماً أصدقاءْ؟
رَبّاهُ ماذا قد دهانا كيفَ ذلّ الأنقِياءْ؟!
لكأَنّما الأمجادُ شِيدتْ دُونما بذلِ الدّماءْ!
قِفْ يا زماني ساعةً واذكر زمانَ الأقوياءْ
كم جَلْجلَ الحقّ المبينُ وطافَ أنحاء الفضاءْ؟
كم طهّرَ الإسلامُ أجساداً وجمّعها الإخاءْ؟
السّقْمُ دَبّ بأُمةٍ تركتْ دروبَ الأنبياءْ
لو يعلمُ الوسنانُ مِنّا أن في التّقْوى شِفاءْ
لاستيقظَ اللّيْثُ الهصورُ وسارَ في جَيْشِ الفِداءْ
قُمْ يا رعيلَ اليومِ وارفَعْ ما تهدّم من بناءْ
هذي مُصيبَةُ أُمّتي ولعلّنا نَجِدُ الدّواءْ
إنْ طالَ ليلُ الآملينَ فَسَوفَ يُسْفر عَن ضياءْ
هَلاّ رَفعنا بالدّعاء أكفّنا نحو السّماءْ
وَمَضَتْ رواحِلُنَا على دَرْبِ البطولةِ والفِداءْ
يكفي من التاريخِ عاراً أن يسودَ الأشقياءْ
================
سأحزن ما بقيتُ مع الزمان
سأحزن ما بقيتُ مع الزمان .... لما ألقاه من كُرَبٍ وآنِ(1)
فشعري كله مرآةُ شعبٍ .... كسيرِ العظم محزونِ الجنَانِ
فلا تعجب إذا أرسلتُ شعراً.... يصور ما أعاني أو يعاني
فإني أمة كانت بخير .... فأسلمها الطغاة إلى الهوان
وإني أمة نشرت فأحيت .... وحررت العوالم بالقُران
وكان الناس في زمن تعيس .... يذوقون المذلة بالسنان
فصار الناس عبَّاداً لرب .... يعاملُ بالسماحةِ والحنان
فما أرضى أخا الشيطان دينٌ .... يقوم على الأمانةِ والأماني
ويزرع في النفوس بذور خير.. لتعلو في المكان وفي الزمان
فلا تعجب إذا أكثرت شعراً .... وقولاً غيرَ مقرونٍ بقان(2)
فعذري أمةٌ نامت طويلاً .... وغالت بالفصاحة والبيان
معاذَ الله أن أهوى حياةً .... يدغدغها الأراذلُ بالقيان(3)
وتوحيدُ الصفوف رأيت فيه.. دواءً للتنازع والشَنان(4)
وجدٌ في الأمور، وليتَ جمعاً... دَرَوْا من قبلُ هاتيك المعاني
............
الهوامش:
1- آن: حار.
2- أي: أحمر وهو الدم.
3- المغنيات.
4- لغة في الشنآن: ال
=============
إذا دانت لك الآفاق
إذا دانَتْ لَكَ الآفاقُ
أو ذَلَّتْ لَكَ الأعناقُ
فاذكُرْ أيُّها العِملاقُ
أنَّ الأرضَ لَيْستْ دِرْهَماً في جَيْبِ بنطالِكْ
أَعِدْ قَدَمي ..
لِكَيْ أمشي إلَيكَ مُعَزّياً فينا
فَحالي صارَ مِن حالِكْ
أعِدْ كَفّي
لكي أُلقي أزاهيري
على أزهارِ آمالِكْ
أعِدْ قَلبي ..
لأقطِفَ وَردَ جَذوَتِهِ
وَأُوقدَ شَمعةً في صُبحكَ الحالِكْ
أَعِدْ شَفَتي ..
لَعَلَّ الهَولَ يُسعِفُني
بأن أُعطيكَ تصويراً لأهوالِكْ
أَعِدْ عَيْني ..
لِكي أبكي على أرواحِ أطفالِكْ
أتَعْجَبُ أنّني أبكي ؟
نَعَمْ .. أبكي
لأنّي لَم أكُن يَوماً
غَليظَ القلبِ فَظّاً مِثلَ أمثالِكْ
وإن نزَلَتْ عَلَيْكَ اليومَ صاعِقةٌ
فَقد عاشتْ جَميعُ الأرضِ أعواماً
وَمازالتْ
وَقد تَبقى
على أشفارِ زِلزالِكْ
وَكفُّكَ أضرَمَتْ في قَلبِها ناراً
وَلم تَشْعُرْ بِها إلاّ
وَقَد نَشِبَتْ بأذيالِكْ
وَلم تَفعَلْ
سِوى أن تَقلِبَ الدُّنيا على عَقِبٍ
وَتُعْقِبَها بتعديلٍ على رَدّاتِ أفعالِكْ
وَقَد آلَيْتَ أن تَرمي
بِنَظرةِ رَيْبِكَ الدُّنيا
ولم تَنظُرْ، ولو عَرَضَاً، إلى آلكْ
أَتَعرِفُ رَقْمَ سِروالٍ
على آلافِ أميالٍ
وَتَجهَلُ أرْقَماً في طيِّ سِروالِكْ ؟
أرى عَيْنَيكَ في حَوَلٍ ..
فَذلِكَ لو رمى هذا
تَرى هذا وتَعْجَبُ لاستغاثَتهِ
ولكنْ لا ترى ما قد جَنى ذلِكْ
أرى كَفَّيْكَ في جَدَلٍ ..
فواحِدَةٌ تزُفُّ الشَّمسَ غائِبَةً
إلى الأعمى
وواحِدَةٌ تُغَطِّي الشَّمسَ طالِعةً بِغِربالِكْ
وَما في الأمرِ أُحجِيَةٌ
وَلكِنَّ العَجائِبَ كُلَّها مِن صُنْعِ مِكيالِكْ
بِفَضْلِكَ أسفَرَ الإرهابُ
نَسّاجاً بِمِنوالِكْ
وَمُعتاشاً بأموالِكْ
وَمَحْمِيّاً بأبطالِكْ
فَهل عَجَبٌ
إذا وافاكَ هذا اليومَ مُمْتَنّاً
لِيُرجِعَ بَعضَ أفضالِكْ ؟!
(وَكَفُّكَ أبدَعَتْ تِمثالَ (ميدوزا
وتدري جَيّداً أنَّ الّذي يَرنو لهُ هالِكْ
فكيفَ طَمِعتَ أن تَنجو
وَقَد حَدَّقتَ في أحداقِ تِمثالِكْ ؟
خَرابُ الوضعِ مُختَصَرٌ
بِمَيْلِ ذِراعِ مِكيالِكْ
فَعَدِّلْ وَضْعَ مِكيالِكْ
ولا تُسرِفْ
وإلاّ سَوفَ تأتي كلُّ بَلبَلةٍ
بِما لَم يأتِ في بالِكْ
إذا دانَتْ لَكَ الآفاقُ
أو ذَلَّتْ لَكَ الأعناقُ
فاذكُرْ أيُّها العِملاقُ
أنَّ الأرضَ لَيْستْ دِرْهَماً في جَيْبِ بِنطالِكْ
وَلَو ذَلَّلتَ ظَهْرَ الفِيلِ تَذليلاً
فَإنَّ بَعوضَةً تَكفي .. لإذلالِكْ
=========== ...
عندما يئن العفاف
أطرقت حتى ملني الإطراق .... وبكيت حتى احمرت الأحداق
سامرت نجم الليل حتى غاب عن..عيني وهد عزيمتي الإرهاق
يأتي الظلام وتنجلي أطرافه .... عنا ، وما للنوم فيه مذاق
سهر يؤرقني ففي قلبي الأسى .... يغلي وفي أهدابي الحراق
سيان عندي ليلنا ونهارنا .... فالموج في بحريهما صفاق
قتل وتشريد وهتك محارم .... فينا ، وكأس الحادثات دهاق
أنا قصة صاغ الأنين حروفها.... ولها من الألم الدفين سياق
أنا أيها الأحباب مسلمة لها .... قلب إلى شرع الهدى تواق
دفن الشيوعيون نبغ كرامتي.... دهرا وطارت حولي الأطباق
حتى إذا انكشف الغطاء وغردت...آمالنا ، وبدا لنا الإشراق
وقف الصليب على الطريق فلا تسل.عما جناه القتل والإحراق
وحشية يقف الخيال أمامها .... متضائلا ، وتمجها الأذواق
أطفالنا ناموا على أحلامهم .... وعلى لهيب القاذفات أفاقوا(3/108)
يبكون، كلا، بل بكت أعماقهم ... ولقد تجود بدمعها الأعماق
أطفالنا بيعوا ، وأوربا التي .... تشري، ففيها راجت الأسواق
أين النظام العالمي أما له .... أثر، ألم تنعق به الأبواق
أين السلام العالمي لقد بدا .... كذب السلام، وزاغت الأحداق
يامجلس الخوف الذي في ظله .. كسر الأمان وضيع الميثاق
أو مايحركك الذي يجري لنا .... أوما يثيرك جرحنا الدفاق؟
يعفى عن الصرب الذين تجبروا.. وطغوا ويفرد بالعقاب عراق
هذا وربك شر ما سمعت به .... أذن وما كتبت به الأوراق
سرج العدالة مال فوق حصانها .. ولوى العِنانَ إلىالوراء نفاق
كُشفَ الستار وبان كل مخبأٍ .... فإلى متى تتطامن الأعناق؟
أنا أيها الأحباب مسلمة طوى .... أحلامهاالأوباش والفساق
أخذوا صغيري وهو يرفع صوته .. أمي وفي نظراته إشفاق
ولدي، ويصفعني الدعيُّ ويكتوي .. قلبي، ويُحكِم بابيَ الإغلاقُ
ولدي، وتبلغني بقايا صرخةٍ.... مخنوقة، ويقهقه الأفَّاق
ويجرني وغد إلى سردابه .... قسرًا ، وتظلم حولي الآفاق
ويئن في صدري العفاف ويشتكي. طهري وتغمض جفنها الأخلاق
أنا لا أريد طعامكم وشرابكم ... فدمي هنا يا مسلمون يراق
عرضي يدنس أين شيمتكم أما.... فيكم أبيّ قلبه خفاق؟
أختاه أمتنا التي تدعونها..صارت على درب الخضوع تساق
أودت بها قومية مشؤومة .... وسرى بها نحو الضياع رفاق
إن كنتِ تنتظرينها فسينتهي.... نفقٌ، وتأتي بعده أنفاق
مدي إلى الرحمن كفَّ تضرع .. فسوف يرفع شأنك الخلاق
لا تيأسي فأمام قدرة ربنا .... تتضاءل الأنساب والأعراق
=============
خلا لك الجوُّ
وسوف تُرفع القبابُ
وتهجر البلابلُ الغناءْ
ويُنشد الغرابْ
وسوف يعقد الذبابُ جلسة انتخابْ
وسوف يحدث انقلابْ
وعندها سيكثُرُ الضَّباب
ويدفن المزاهرَ الترابْ
ويبخل السحابْ
وتنتهي صَلابةُ الهضابْ
سمعتُ قائلاً يقول:
يا أيها النيامْ
عليكم السلامْ
فليلكم ما زال ينصب الخيامْ
ولم يزلْ يخيط جبَّةَ الظلامْ
يا أيها النيامْ
عليكم السلامْ
فليلكم ينظِّم المسيرة
ويخلط العجين بالخميرةْ
ويكتب الحكاية المثيرةْ
الرِّيح - وقت القيظِ - يا أحبتي سمومْ
وفي الشتاء زمهريرْ
والناس بين قاعد يريد أن يقومْ
وواقفٍ يريد أنْ يسيرْ
فهل رأيتم بلبلاً في لجةٍ يعومْ
وهل رأيتم سمكاً يطير ؟؟؟
وهل رأيتم عاقلاً تُطربه الهمومْ
وهل رأيتم عاجزاً يُغير ؟!
سمعت قائلاً يقول:
القدسُ - عفوا يا أحبتي -
أقصد " أورشليم "
تشاهد القتيل والجريح واليتيمْ
تعيش تحت وطأة اللئيمْ
وتشتكي من جرحها القديمْ
يا ويلكم.. ما عاد يستثيركم صراخُها الأليم
القدسُ - يا أحبتي - حزينةٌ عليلَهْ
تَبيتُ تحت وطأةِ القنابل المُسيلةْ
واعجباً من حجرٍ يغار
حينما يرى نظرتها الكليلَهْ
وأمتي غارقةٌ في لهوها ذليلَهْ !!
سمعت قائلاً يقول:
يا شفةٌ البركان لا تتمتمي
لا تنطقي بلهجة الدُّخَان والحممْ
فأمتي تُدير قهوة الولاءِ للأممْ
وتشرب الحُثالهْ
توزِّع الطحين للأممْ
وتأكل النخالهْ
وأمتي تعلن في وسائل الإعلامْ
رسالة يسمعها الأنامْ
تعلن أنّها تقوم بالرسالهْ
وأنها نموذج البَسالهْ
وأنها لا تقبل العمالهْ
سمعت قائلاً يقول:
يا شفة البركان لا تعبِّري
سيان عندي أن تكوني لوحةً للصمتِ
أو تزمجري
فإنني عرفت موردي ومصدري
وإنني ..
تئنُّ تحت وطأة الجراح أسطري
وإنني ..
سمعت أن تاجراً معلَّقاً بثوبه المعصفَرِ
يبيع تحت جُنح ليله ..
وجه صباحٍ مُسفرِ
يبيع دون رهبةٍ ويشتري
سمعت قائلاً يقول:
يا قلمَ الحقيقةِ احذرِ
قُلْ ما يشاء القومُ أو فقفْ
أما سمعتَ أحرفي تصيح في دفاتري:
يا دولةَ اليهود زمجري
و ز مجري
وقدمي وأخِّرِي
"يا لك من قُبَّرةٍ بمعمرِ
خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفُري
ونقّري ما شئتِ أن تنقرِّي"
يا قائلَ المقالةِ الجبانْ
نسيت أن أمتي عظيمة الكيان
وأنها تلوذ بالرحمانْ
وعندها من دينها الأمانْ
يا قائل المقالةِ الجبانْ
مَنْ قال: إن نجمةً تطاول القمر ؟!
وإنَّ نملةً ستكسر الحجرْ ؟!
وإنَّ أجذمَ اليدين يعزف الوترَ ؟!
مَن قال أيها المكابر العنيدْ
إن غباراً يُنزل المطرْ
وإن ريحَ قيظٍ تنعش الشجَرْ
وإنَّ شِدّّةَ الحَذَرْ
تنجي من القدرْ
يا قائلَ المقالةِ الغريبْ
رجاؤنا في الله لن يخيبْ
رجاؤنا في الله لن يخيب
============
والله لولا أحببتك .. ما تركتك
في اللحظة التي انتهي فيها من صلاة الفجر وقراءة القرآن والدعاء لله.. بدأ يشعر كأن ثقل جسمه يتضاءل يخف وأنه يذهب بخفة وزنه إلي مكان بعيد بعيد، يقترب من التحول إلي شبح هلامي أو كيان نوراني أشبه بالملائكة، لكن آدميته مازالت فيه، صوته مسموع يداه تتحركان نعم.. وتستطيع أن تلمس الأشياء.. كل الأشياء..
ثمة شئ آخر يربطه بهذه الدنيا التي يعيش علي أرضها ألا وهي العائلة عائلته التي ولد فيها وعاش بين أفرادها حتي أصبح في العشرين من عمره يحس بأحاسيسهم ويتألم لآلامهم، يأكل طعامهم، ويحلم أحلامهم.. حتي صار إلي ما صار إليه..
التفت خلفه حيث توجد القنابل والحزام، بدأ يثبتها فيه بحيث لا تفلت منه وهو يتحرك أو يجري ماضيا إلي المكان الذي كان قد تحدد له..
وعندما انتهي من ذلك، وضعه في مكان بعد أن غطاه ببعض الأغطية، فقد كانت هناك كلمته الأخيرة يقولها لأهله الذين يراهم لآخر مرة..
أبوه هناك كان يقظا لكل ما حوله، كل أحاسيسه كانت تخبره بكل ما يفعله ابنه وبما هو صائر إليه، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، فقط قال له عندما رآه يقترب منه: أنت قادم لتقبلني يا بني، أنا الذي أريد أن أحتضنك وأن أقبلك قبلة تبقي إلي يوم أن ألقاك!..(3/109)
دمعت عيناه وهو في حضن أبيه ولم يرد أبدا أن يزيد أحاسيس أبيه بما لا يطيقه، حاول أن يخلع عنه ذراعي أبيه بكل رفق.. بينما بقيت يده اليسري معلقة بذراع والده وهو ينحني علي جسد أمه المتهالك من كل ما تعاني منه أراد أن يقبل يديها وأن يلمس صدرها حيث رضع حنانها وقلبها الذي تحتفظ في داخله بالحب كل الحب له ولإخوته.. إنه يعرف أن صورته مطبوعة فيه..
فتحت أمه عينيها تودعه بهما وظهر إصبع يدها سبابتها اليمني ترفعه وتتحرك شفتاها بالشهادة بينما دمع عينيها يؤكد أنها قد استودعت ولدها عند رب كريم..
لم يبق أمامه إلا أخوه الصغير، مازال نائما هناك في صورة ملاك..
هذه هي اللحظة القاسية التي لم يتصور أبدا أنه يستطيع أن يعبر بها أو يخوضها، ولكنه وبكل الحب انحني عليه لمس بأصابعه وجهه الجميل وراح يهمس في أذنه وكأنه يسمعه: والله لولا أحببتك ما تركتك والله لولا أعلم أن الأرض لا تصير إليك إلا بهذه الشهادة ما فعلت، والله إني قد أحببتك أكثر من نفسي ومن أجل هذا فقد قدمت نفسي إليك راضيا مختارا سعيدا قرير العين..
وبدأ يتحرك بعيدا عنه ناظرا إليه..
الدمع في عينيه ينهمر يغطي خديه وهو يردد بصوت قد تحشرج:
والله لولا أحببتك ما تركتك..
والله لولا أحببتك ما تركتك..
والله لولا أحببتك ما تركتك..
.........
ثم خرج جاريا..
عاد إلي حيث كان ينام..
ربط الحزام حول خصره..
والله ما أحس بلحم بطنه وهو يربطه بقوة، والله ما أحس وهو يفتح الباب برفق..
والله ما أحس وهو يمضي في الطريق مسرعا إلي حيث الهدف..
لا.. ولا أحس بطول المسافة التي قطعها..
لا.. ولا أنه ترك أرضه داخلا إلي أرض العدو..
ولا العدو رآه..
وكأنه بالفعل قد تحول إلي ملاك من ملائكة الرحمن، فلا يراه أحد..
ولا يحس به أحد!..
كانت كلمات القرآن تغطي كل نفسه وعقله وأحاسيسه وهو يضغط بدوره علي الزناد..
قد أحس شيئا وهو ينطلق أشلاء هكذا تطير في الهواء..
وعندما تناثر دمه علي أرض المكان رأي بعينيه أن الدم يكتب علي الأرض: لا إله إلا الله..
كانت روحه ترفرف علي المكان تطير فرحة بكل ما تلقاه..
ومرة أخري تبصر عيناه.. فنظره وقتها حديد.. يري من قريب ويري من بعيد..
والنور يملأ المكان..
النور يخرج خارج المكان..
النور يضئ طريقا طويلا يمضي إلي بعيد..
وإذا به وهو هناك في مكان فوق هذا الطريق..
يري أخاه الصغير يمضي يجري يهرول فرحا إلي حيث ما يريد!..
=============
الرحيل
باتت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم .. ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم .. تبحث عنها تجدها في مصلاها .. راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..
أما أنا فكنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أنني عرفت به .. ومن أكثر من شئ عرف به .. لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي ..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاماً متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .. هاهو الأذان يرتفع في المسجد المجاور ..
عدت إلى فراشي ..
تناديني من مصلاها .. نعم ما ذا تريدين يا نورة ؟ .
قالت لي بنبرة حادة لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..
أوه .. بقى ساعة على صلاة الفجر وما سمعتيه كان الأذان الأول ..
بنبرتها الحنونة – هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .. نادتني .. تعالي يا هناء بجانبي .. لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها .. تشعر بصفائها وصدقها لا شك طائعاً ستلبي ..
ـ ماذا تريدين ؟..
ـ اجلسي
ـ ها قد جلست ماذا لديك ؟
.. بصوت عذب رخيم : " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ".
سكتت برهة .. ثم سألتني .. ألم تؤمني بالموت ؟
ـ بلى مؤمنة ..
ـ ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة ؟.
ـ بلى ولكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل يا أختي .. ألا تخافين من الموت وبغتته ؟. انظري هند أصغر منك وتوفيت في حادث سيارة .. وفلانة .. وفلانة .. الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياساً له ..
ـ أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها المظلم .. أنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن ؟.
ـ كنت أظن أنك وافقت للسفر معنا هذه الإجازة ..
فجأة .. تحشرج صوتها واهتز قلبي
لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً .. إلى مكان آخر .. ربما يا هناء .. الأعمار بيد الله .. وانفجرت بالبكاء ..
.. .تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض لن يمهلها طويلاً .. ولكن من أخبرها بذلك ؟ .. أم أنها تتوقع ..
ـ مالك تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة .. هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة ؟.. كلا .. ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء .. وأنت إلى متى ستعيشين .. ربما عشرين سنة .. ربما أربعون سنة ثم ماذا ؟ .. لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة .. لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى نار .. ألم تسمعي قول الله : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز "
تصبحين على خير .. هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني .. هداك الله .. لا تنسي الصلاة ..
الثامنة صباحاً ..
أسمع طرقاً على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي ..
بكاء .. وأصوات .. ماذا جرى ..
لقد تردت حالة نورة .. وذهب بها أبي إلى المستشفى ..
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السنة .. مكتوب علي هذه السنة البقاء في بيتنا .. بعد انتظار طويل ..
عند الساعة الواحدة ظهراً .. هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها هيا بسرعة.
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير ..
عباءتي في يدي ..(3/110)
أين السائق .. ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب مع السائق لأتمشى مع السائق فيه ؟ يبدوا قصيراً .. ماله اليوم طويل .. وطويل جداُ .. أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة ؟.. الزحام أصبح قاتلاً مملاً ..
أمي بجواري تدعوا لها .. إنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيع وقتها أبداً ..
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى .. هذا مريض يتأوه .. وهذا مصاب بحادث سيارة ، وثالث عيناه غائرتان .. لاتدري هل هم من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة !! منظر عجيب لم أره من قبل ..
صعدنا درجات السلم بسرعة ..
إنها في غرفة العناية المركزة .. وسآخذكم إليها .. ثم واصلت الممرضة إنها بنت طيبة وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها .. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد ..
هذه هي غرفة العناية المركزة ..
وسط زحام الأطباء ، وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إلى وأمي واقفة بجوارها .. بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطيع إخفاء دموعها ..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط ألا أتحدث معها كثيراً .. دقيقتين كافية لك ..
ـ كيف حالك يانورة .. لقد كنت بخير مساء البارحة .. ما ذا جرى لك ؟
ـ أجابتني بعد أن ضغطت على يدي .. وأنا الآن والله الحمد بخير ..
ـ الحمد لله .. ولكن يدك باردة ..
كنت جالسة على حافة السرير ولا مست ساقها .. أبعدته عني ..
ـ آسفة إذا ضايقتك ..
ـ كلا ولكني تفكرت في قوله تعالى : "والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذٍ المساق " ، عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة .. سفري بعيد وزادي قليل ..
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .. لم أع أين أنا .. استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نورة ..لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين .. ساد صمت طويل في بيتنا .. دخلت علي ابنة خالتي .. ابنة عمتي .. أحداث سريعة .. كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته .. نورة ماتت.. لم أعد أميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالوا ..
يا الله .. أين أنا وماذا يجري ؟ عجزت عن البكاء ..
فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .. وأني قبلتها .. لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً .. حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .. تذكر قولها " والتفت الساق بالساق " عرفت الحقيقة " إلى ربك يومئذٍ المساق " .
لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة .. وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمين .. تذكرت من شاركتني همومي .. تذكرت من نفست عن كربتي .. من دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب .. والله المستعان ..
هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها ..
هذا هو مصحفها .. وهذه سجادتها .. وهذا ..وهذا ..
بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي .. تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاءً متواصلاً .. ودعوت الله أن يرحمني ويتوب عليّ ويعفو عني .. دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو ..
فجأة سألت نفسي ماذا لو كانت الميتة أنا ؟ ما مصيري ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني .. بكيت بحرقة ..
الله أكبر ... الله أكبر .. ها هو أذان الفجر قد ارتفع .. لكن ما أعذبه هذه المرة ..
أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .. لففت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر .. صليت صلاة مودع .. كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها.. إذا أصبحت لا أنتظر المساء .. وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح
===============
حسن الخاتمة وسوء الخاتمة
هذه حكاية ذكرها أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة ، كانت له ذكرى ، وأنا أسطرها هنا عساها تكون لنا عبرة ، فأعظم القصص ما كان حقا وواقعيا ، وما كان من ورائه منفعة لقارئه ، فاقرأ أخي الحبيب وتذكر قول الله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وانظر أي الخاتمتين تحب أن تكون خاتمتك فاعمل لها ، واجهد لتكون من أهلها ، واعلم أن الأعمال بالخواتيم .. رزقني الله وإياك حسن الخاتمة .
قال صاحبنا : فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فإذا سيارة مصطدمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف ، شخصان في السيارة في حالة خطيرة أخرجناهما و وضعناهما ممدين ، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة .. عدنا للشخصين فإذا هم في حالة الاحتضار ، هب زميلي يلقنهم الشهادة ولكن ألسنتهم ارتفعت بالغناء .. أرهبني الموقف . وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت أخذ يعيد عليهما الشهادة ، وهما مستمران في الغناء لا فائدة .. بدأ صوت الغناء يخفت ، شيئا فشيئا سكت الأول .. برهة ، وتبعه الثاني .. فقدا الحياة ، لا حراك .. لم أر في حياتي موقفا كهذا.
حملناهما في السيارة .. قال زميلي: إن الإنسان يختم له إما بخير أو شر بحسب ظاهره وباطنه ، قال فخفت من الموت واتعظت من الحادثة ، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة .(3/111)
قال صاحبنا : بعد مدة حصل حادث عجيب!! شخص يسير بسيارته سيراً عادياً ، تعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ، فترجل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات ، جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف ، سقط مصاباً إصابات بالغة ، فحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله ، شاب في مقتبل العمر متدين ـ يبدو ذلك من مظهره ـ عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول ، ولكن عندما وضعناه في السيارة سمعنا صوتا مميزًا .. إنه يقرأ القرآن و بصوت ندي .. سبحان الله لا تقول أبدا إن هذا مصاب قد غطى الدم ثيابه و تكسرت عظامه ، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت .. استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن.
فجأة .. سكت ، التفتُّ إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ، ثم انحنى رأسه .. قفزت إلى الخلف .. لمست يده ، قلبه ، أنفاسه ، لا شيء .. فارق الحياة .. نظرت إليه طويلاً .. سقطت دمعة من عيني .. أخبرت زميلي أنه قد مات .. انطلق زميلي في البكاء ، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا .
وصلنا إلى المستشفى .. أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الشاب , الكثيرون تأثروا ذرفت دموعهم . أحدهم لما سمع قصته ذهب وقبل جبينه .. الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه .
اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى ، كان المتحدث أخاه ، قال عنه : أنه يذهب كل يوم اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية ، كان يتفقد الأرامل والأيتام والمساكين .. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب و الأشرطة ، وكان يذهب و سيارته مملوءة بالأرز و السكر لتوزيعها على المحتاجين ، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها ، وكان يرد على من يثنيه عن السفر و يذكر له طول الطريق كان يرد عليه بقوله : إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن و مراجعته وسماع الأشرطة النافعة ، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها .
يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق : كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج ، تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه بكثرة فراغي وقلة معارفي ، وكنت بعيداً عن الله ، فلما صلينا على الشاب ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة استقبلت أول أيام الدنيا .. تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف ، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير .
…………………………..........
الزمن القادم لعبد الملك القاسم (بتصرف)
================
رسالة إلى ابن عاق
يا بني .. هذه رسالة مكلومة من أمك المسكينة، كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار، أمسكت بالقلم مرات فحجزته الدمعة، وأوقفت الدمعة مرات فجرى أنين القلب .
يا بني .. بعد هذا العمر الطويل أراك رجلاً سوياً مكتمل العقل ومتزن العاطفة من حقي عليك أن تقرأ هذه الورقة وإن شئت بعد فمزقها كما مزقت أطراف قلبي من قبل .
يا بني .. منذ خمسة وعشرين عاماً كان يوماً مشرقاً في حياتي ، عندما أخبرتني الطبيبة أنني حامل، والأمهات يا بني يعرفن معنى هذه الكلمة جيداً ، فهي مزيج من الفرح والسرور وبداية معاناة مع التغيرات النفسية والجسمية، وبعد هذه البشرى حملتك تسعة أشهر في بطني ، فرحة جذلى ، أقوم بصعوبة وأنام بصعوبة وآكل بصعوبة وأتنفس بصعوبة ولكن كل ذلك لم ينقص محبتي لك وفرحي بك، بل نمت محبتك مع الأيام وترعرع الشوق إليك .
حملتك يا بني وهناً على وهن وألماً على ألم ، أفرح بحركتك وأسر بزيادة وزنك وهي حمل علي ثقيل ، إنها معاناة طويلة أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولم يغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه القلم ولا يتحدث عنه اللسان، ورأيت بعيني الموت مرات عدة حتى خرجت إلى الدنيا فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي وأزالت كل آلامي وجراحي.
يا بني .. مرت سنوات من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشا ، وكان صدري لك غذاءً، أسهرت ليلي لتنام واتعبت نهاري لتسعد ، أمنيتي كل يوم أن أرى ابتسامتك، وسروري في كل لحظة أن تطلب مني شيئاً فأحقق لك رغبتك، فتلك هي منتهى سعادتي .
ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال ، خادمة لم تقصر ومرضعة لم تتوقف وعاملة لم تفتر، حتى اشتد عودك واستقام شبابك وبدت عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يميناً وشمالاً لأبحث لك عن المرأة التي طلبت ، وأتى موعد زفافك فتقطع قلبي وجرت مدامعي، فرحة بحياتك الجديدة وحزناً على فراقك ، ومرت الأيام ثقيلة فإذا بك لست ابني الذي أعرفك لقد أنكرتني وتناسيت حقي . تمر الأيام لا أراك ولا أسمع صوتك وتجاهلت من قامت بك خير قيام .
يا بني لا أطلب إلا القليل، اجعلني في منزلة أحد أصدقائك ، اجعلني يا بني إحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق .
يا بني .. احدودب ظهري ، وارتعشت أطرافي ، وأنهكتني الأمراض ، وزارتني الأسقام ، لا أقوم إلا بصعوبة ، ولا أجلس إلا بمشقة ، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك.
لو أكرمك شخص يوما لأثنيت على حسن صنيعه وجميل إحسانه ، وأمك أحسنت إليك إحسانا لا تراه ومعروفا لا تجازيه ، لقد خدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات ، فأين الجزاء والوفاء ؟ ألهذا الحد بلغت بك القسوة وأخذتك الأيام . وهل يا بني جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
يا بني .. كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري ، ولكني أتعجب وأنت صنيع يدي ، أي ذنب جنيته حتى أصبحتُ عدوة لك لا تطيق رؤيتي وتتثاقل زيارتي ، هل أخطأت يوماً في معاملتك أو قصرت لحظة في خدمتك ، اجعلني من سائر خدمك الذين تعطيهم أجورهم، وامنحني جزءاً من رحمتك، ومُنَّ علي ببعض أجري وأحسن فإن الله يحب المحسنين .(3/112)
يا بني .. أتمنى رؤيتك لا أريد سوى ذلك دعني أرى عبوس وجهك وتقاطيع غضبك.
يا بني .. تفطر قلبي وسالت مدامعي وأنت حيٌ ترزق ولا يزال الناس يتحدثون عن حسن خلقك وجودك وكرمك .
يا بني .. أما آن لقلبك أن يرق لأم ضعيفة أضناها الشوق وألجمها الحزن ، جعلتَ الكمد شعارها والغم دثارها وأجريتَ لها دمعا وأحزنتَ قلبا وقطعتَ رحما .
لن أرفع الشكوى ولن أبث الحزن ، لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء ، أصابك شؤم العقوق ونزلت بك العقوبة وحلت بدارك المصيبة ، لا لن أفعل . لا تزال يا بني فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجت دنياي .
أفق يا بني .. بدأ الشيب يعلو مفرقك ، وتمر سنوات ثم تصبح أباً شيخاً والجزاء من جنس العمل . وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثل ما كتبتها إليك ، وعند الله تجتمع الخصوم .
يا بني .. اتق الله في أمك ، كفكف دمعها وواسي حزنها ، وإن شئت بعد ذلك فمزق رسالتها ، واعلم أن من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .
التوقيع
أمك
===============
من عائض القرني إلى الأم المسلمة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسوله ، وآله وصحبه
أيتها الأم النبيلة ، سلام الله عليك ورحمته وبركاته ، أنت حفيدة عائشة وأسماء وزينب ، أنت أم الأجيال ، أنت مدرسة الوعي
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
والأم نبت إن تعاهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
فيا أيتها الأم المسلمة ، إن مسؤوليتك أمام الله عظيمة ، إنها تكمن في ثلاثة أمور :
أولها : أن تملئي قلبك بالإيمان وبطاعة الواحد الديان وبالقرآن.
وثانيها : أن تتقي الله في رعيتك ، فإنك مسؤولة عن هذه الرعية فاغرسي في قلوبهم الإيمان والحب والطموح
وثالثها : أن تحذري هذه الفتن التي ماجت وراجت في سوق المسلمين ، وأن تكفيها عن بيتك المسلم لتكوني حارسة أمينة على الجيل مربية لهم .
أيتها الأم : إن أطفالك يتأثرون بك فأنت إذا أرضعتهم إنما ترضعينهم مع اللبن العقيدة الإسلامية ، فينشؤون أئمة وعلماء وقادة للخير
أيتها الأم المسلمة : أما لك في الخنساء النخعية قدوة يوم أن قدمت أربعة من أبنائها في سبيل الله فماتوا شهداء ؟ ولما أُخبرت بذلك تبسمت وقالت الحمد لله الذي أقر عيني بقتلهم في سبيل الله .
أليست هذه بحق هي الأم المثالية .
أما لك قدوة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي ربت بيتها على تقوى من الله عز وجل ، وكانت بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم تردد كتاب الله ، وتبكي آناء الليل وأطراف النهار؟
أما لك في أسماء ذات النطاقين التي ربت عبدالله بن الزبير إماماً وزعيماً وقائداً وشجاعاً وخطيباً ومفسراً وسائساً عبقرياً ، وشهيداً في سبيل الله ؟ أتاها يقول : أخشى يا أماه أن يمثل بي أعدائي بعد القتل قالت : وما يضر الشاة سلخها بعد ذبحها ، تقدم إلى الموت شجاعاً
يا أيتها الأم المسلمة : إن بعض الأمهات أخفقن في حسن تربية أبنائهن في البيوت ، وفشلن في توجيه هذا البيت المسلم الوجهة الصحيحة
خرجت الأم من بيتها وتركت أطفالها وراءها فعاثوا في البيت فساداً لأنهم لم يجدوا في البيت إلا شغالة لا تعرف عن الإسلام شيئاً ، وإما فراغاً قاتلاً ليس فيه ما يغذيه من الفائدة .
وامرأة أخرى عصت الله عز وجل في بيتها فخرجت متكشفة متبرجة فضاع دينها ، وضاع قلبها ، وضاع بيتها
وامرأة ثالثة أميّة تظن أن الحياة أكل وشرب ونوم ، فغفلت عن رسالتها ومن ثم ضاع أبناؤها
هذا الصنف من الأمهات لا نريده ، ونسأل الله أن يصلح منه
نريد أمّاً تعلم وتعرف طريقها إلى الله عز وجل ، أمّاً تحفظ أبناءها من الفتن ، أمّاً ترعى بيتها لأن الأم في الإسلام مسئوليتها بيتها ، ووظيفتها بيتها ، ورسالتها في بيتها ، وهكذا أراد الإسلام للأم أن تكون وإلا فلا
أما الذين نادوا بخروج المرأة، وعمل المرأة واشتغالها ، فهؤلاء أبلسوا في الحياة الدنيا وضل سعيهم، لقد زجوا بها في المصانع فما أنتجت ، وأدخلوها في الجيش فما انتصرت ، وقلدوها الوظائف ففشلت ، لأن ضميمتها وبيئتها من تقدير الله لها إنما هي ملكة مملكة البيت ولتربية الأطفال ولتنشئة الجيل وصنع الرجال.. والله المستعان ، وإلى اللقاء .
================
نصائح مهمات لمستخدمات الشات
جاء الإنترنت ومعه التكنولوجيا الحديثة للاتصالات ، وحمل معه ما يكون أداة شر مستطير أو أداة خير كثير ، والمسألة تتوقف على طريقة الاستخدام وغرض المستخدم ، ومن الوسائل التي ظهرت مع ظهور الإنترنت مسألة المحادثة عن بعد سواء بالكلام أو الكتابة أو ما يسمى بالشات أو غرف المحادثة ، وهذه الغرف كغيرها تحوي الخير والشر ، وقد أكثر الشباب من دخول هذه الغرف وأولعوا بها ، ويدخل إلى هذه الغرف أخوات لنا فنحب أن ننصحهن ببعض النصائح التي تكون عونا لهن في حماية أنفسهن من ذئاب الشات الذين يصطادون في كل ماء عكر ، ولا يرعون في المؤمنين والمؤمنات إلاًّ وذمة ، ولا يحفظون لله عهدا ولا يخشونه ولا يراقبونه سبحانه وهو مطلع عليهم ، فهذه نصائح مهمة نرجو من كل مستخدمة لهذه الوسيلة من التخاطب أن تقرأها جيدا ، والله تعالى نسأل أن يحفظ أعراض المسلمين ..
فيا أيتها الأخت الكريمة:
1- لا تعطي للشباب مجالا للحديث معك ولا مسايرتك وانتبهي لمكرهم لانهم يدخلون عليك احيانا بسؤال عن معنى اسمك ربما أو إثارتك بكلمة يجرك في الحديث من ورائها .
2- احذري الدخول في الغرف المريضة البعيدة عن الأخلاق والقيم الإسلامية .
3- لا تستعجلي الرد على الويسبرات لأن اصطيادك يبدأ عن طريقها .
4- احسني اختيار الاسم وحاولي أن لا يدل على أنوثتك حتى ترتاحي من المضايقات.(3/113)
5- لا تكثري الدخول إلى الشات ولا تجعليها عادة لك .
6- كوني أداة إصلاح في الشات ومعينة على الخير .
7- لا تغرك بعض أسماء الغرف التي ظاهرها الاحترام والتقدير وداخلها البلاء والشر المستطير .
8- لا تتجاوزي الغرف المفيدة المعينة على الخير .
9- كوني فطنة نبيهة؛ فالمؤمن كيّس فطن .
10- لا تساهمي ـ أيتها الغالية ـ في إفساد الشباب بكلامك اللين معهم لأن الكثير منهم يتأثر بذلك .
11- اتقي الله في نفسك وراقبيه واعلمي أنه أقرب إليك من حبل الوريد واعلمي أنك مقدمة على زواج إن لم تكوني متزوجه فلا تضيعي مستقبلك وتقضي على نفسك بيدك .
12- لا تجعلي من الشات سبباً للمشاكل والمغالطات مع أهلك وبيتك لأنك أنت الخاسرة ، لأن الكثير من الفتيات هداهن الله ربما أهملن بيوتهن وأعمالهن بسبب العكوف عليها .
13- لا تغضبي والديك بسببها لأن حق الوالدين أعظم من ألف شات .
14- لا تضيعي الصلاة بجلوسك عند الشات ولا تأخريها عن وقتها فالصلاة إن خرج وقتها دون عذر فهي لا تقبل .
15- كوني قوية إرادة في أداء العبادات واحفظي الله يحفظك .
هذا أختي الكريمة ما اجتهدت فيه كي أضعه بين يديك حتى لا تخدعي
أسال الله تعالى أن يجعل ما قلته حجة لنا لا علينا ، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وممن يراقبون الله في السر والعلن ، ومن الذين يأتمرون بأمر الله وينتهون بنهيه .
==============
رسالة إلى .. عابرة سبيل
خيّتي : أسطر لك هذه الكلمات بأوراق من الأشجان وحبر من الدموع ... مرجعي في ذلك الغيرة على هذا الدين ثم حب الخير لك ..
ومن أعماق قلبي أحدثك حديث الروح للأرواح يسري...وتدركه القلوب بلا عناء .
أخيّتي عابرة سبيل ... وكلنا في هذه الدنيا عابرو سبيل ... ويوما ما سينقطع بنا المطاف لنصل إلى نهايته المحتومة .. فإما إلى جنة وإما إلى دار جحيم أجارني الله وإياك منها ... آمين .
أختاه .. قد تعجبين من مقدمتي هذه وكيف أخاطبك وأنا لا أعرفك ، ولكني عملا بقوله : صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) ، وقوله : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) أجدني مضطرة لأن أوجه إليك هذا الحديث ، علّ الله أن يُلقي له قبولا في قلبك، فما رأيته منك اليوم قد دمعتْ منه عيناي وتفطر له قلبي حزنا .. عيون كحيلة ووجنات مصبوغة وعباءة ذات قماش ناعم على الكتف وآخر مطرز ومزركش قد وضع على الرأس ليزيدك فتنة وجمالا و.. و ..
أختاه ... لا أشك أنك مسلمة ممن عبد الله وركع وسجد وتوضأ بنور الإيمان .. وممن يفتخرن بدين اسمه الإسلام . ولكن أخيتي .... أيليق بمن آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا أن يكون هذا حجابها ؟
أيليق بمن هذه صفاتها أن تكشف وجهها أو تلبس عباءة قصيرة ومطرزة أو تتلثم أو تتعطر ؟ أو تكثر الكلام مع الرجال أو تضحك وتمزح مع رفيقاتها في السوق بشكل يلفت النظر ، أو تقضي الساعات الطوال فيه دون حاجة لذلك ؟
كلا والله لا يليق بمن أوصافها مثلك أن تفعل مثل هذا .
أختاه ... لا أبالغ إذا قلت إنَ عباءتك في حد ذاتها تصلح لأن تكون فستانا لسهرة ! وأنها تحتاج لما يسترها ويخفي زينتها ولو نطقت لقالت :
لا تلوموني فلست الملامْ واسألوا من أزال اللثامْ
وأرادني لافتتان لا احتشامْ ولم يقتد بالأمهات الكرامْ
ألم تسمعي قول ربك جل جلاله : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن ) [ النور: 31 ] .
أنسيت أنك أمة من إمائه ، وأنك في قبضته وداره ، ولا سبيل لك إلا بامتثال أمره واجتناب نهيه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) [ الأحزاب : 36]
أخيتي : لا أظن عاقلا يوقن بالجنة وما أعده الله فيها من نعيم ثم يأبى دخولها .. قال عليه الصلاة والسلام : ( صنفان من أهل النار لم أرهما ) وذكر منهما : ( ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ) صحيح مسلم .
فأسلك بالله حبيبتي :
من هي الفتاة العاقلة التي لا تريد الجنة ولا رائحتها ؟
إن كنت لا تعلمين أن التبرج من كبائر الذنوب التي حذر الرسول الكريم منها فاسمعي هذا الحديث : ( ثلاثة لا تسأل عنهم : وذكر منهم امرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم ) ( صحيح الجامع 3058)
أي : لا تسأل عنهم لأنهم من الهالكين .
فهل تختارين أختاه طريق الهلاك بإرادتك واختيارك ؟
أختي المؤمنة ... إن لم نلتزم نحن بالحجاب الشرعي في بلد التوحيد ومهبط الوحي ومهد الرسالات ومحط أنظار المسلمين في العالم فمن يلتزم به؟
وكيف يمكننا أن ندعو الآخرين إلى احترام ديننا والدخول فيه ونحن نخالف أوامره ونستنكر تعاليمه؟
أختي الكريمة .... أعلم أنك تريدين أن تظهري بالمظهر الحسن الجذاب أمام الناس، وقد يكون ذلك عن حسن نية .. ولكن أما تعلمين أنك بتبرجك وسفورك تعرضين نفسك للفتن وتفتنين الآخرين!!
أيرضيك أن تكوني وسيلة من وسائل الشيطان ؟
هل ترضين أن تكوني سببا في وقوع مسلم في الحرام ؟
أيسرك أن تكوني قدوة في الشر أو ممن سن في الإسلام سنة سيئة فكان عليه وزرها ووزر من تبعه إلى يوم القيامة ؟
أما تدرين أن غاية ما يرجوه أصحاب القلوب المريضة هو أن يسلبوك عقلك ثم يبحثوا عن ضحية أخرى ؟
فيا جوهرتي المصونة .... أحذرك أن تسيري في طريق التبرج والسفور، فتتبعي خطوات الشيطان فتقع ( الفاجعة ) وتفقدين أعز ما تملكين ثم تركنين على هامش الحياة ...هذا مع الذكر المشين وسخط رب العالمين ....(3/114)
لا تستغربي أختاه .... فكثير ممن آل أمرهن إلى هذه النهاية المظلمة كانت بدايتهن نظرة محرمة أو مكالمة هاتفية أو عباءة مزركشة أو ... أو .....
أختي المسلمة ..... إن كنت تريدين أن تكوني جميلة فاعلمي أن جمال المسلمة الحقيقي يكمن في حجابها وخلقها وحيائها وطهرها ....
إن حجابك هو إيمانك وحياؤك .....
إن حجابك هو طهرك وعفافك ...
إلى متى تغترين بشبهات أعداء الدين من العَلمانين والشهوانين والمفسدين ؟
إلى متى تعيشين في أسر شهوات النفس وأهوائها وضلالها المبين ؟
أما تدرين أن هناك من يحيك لك الخطط لاخراجك عن دينك ويسلبك عفتك وطهارتك وحيائك .
لماذا ترضين أن تكوني فريسة سهلة لهم أو دمية بأيديهم يلبسونها ما شاءوا، ويكيفونها على أي وضع أرادوا ؟
اسمعي إلى أحد خبثائهم وهو يقول: (امرأة متبرجة واحدة أشد على المسلمين من ألف مدفع )
وآخر يقول: (لا تستقيم حالة الشرق - أي لليهود - إلا إذا رفعت الفتاة الحجاب وغطت به القرآن ) ، كما لا يخفى عليك أخيّتي مواقفهم المفضوحة في بلاد الغرب من المسلمات اللاتي بدأن يظهرن تمسكهن بدينهن وظهورهن بالزي المحتشم مما أثار حفائظهم وبخاصة الفرنسيون في قضية الحجاب على الرغم من أن نصوص قوانينهم تعطي الحق لأهل كل ديانة أن يلتزموا بديانتهم !!
فأربأ بك أيتها العاقلة أن تكوني سهما في كنانة أعداء الملة يرمون به الإسلام وأنت لا تشعرين .
أيتها العاقلة .... إن كثيرا من النساء الغربيات ممن استيقظتْ فطرهن، بدأن يصرخن ويطالبن بنبذ الاختلاط وعودة المرأة إلى بيتها وممارستها لوظيفتها الأساسية في الحياة ، بعد أن عانين من ويلات وتبعات سفورهن وتبرجهن واختلاطهن بالرجال .... هذا وهن كافرات لا يعرفن للفضيلة قيمة ولا معنى .
في الوقت الذي يشتد لهَث نسائنا وراء المرأة الغربية وتقليدها في كل صغير وكبير فهل نريد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ؟
أصحاب الباطل يتراجعون عن باطلهم ونحن مصرون على تقليدهم والجري خلفهم !!
سبحان ربي العظيم !!
أيتها الفاضلة ..
لقد ساد المسلمون العالم يوما من الدهر .. فأسألك بالله العظيم هل سادوه بحسن لباسهم ومظهرهم ؟
أو بالزخرفة والزينة والنقوش والألوان ؟
أو بآخر موضة من الأزياء ومتابعة آخر صرخة في عالم العطور وآخر قصة في عالم الشعر ؟
كلا والذي لا إله غيره ما سادوا بذلك وإنما بتمسكهم بدينهم وتطبيقهم لشريعة ربهم ..
يوم أن قرّت نساؤهم في بيوتهن وتفرغن لتربية القادة الأبطال ..
لا يوم أن خرجت المرأة من بيتها وتمردت على شريعة ربها وتنكرت لدينه باسم التمدن والتحضر !!
لقد سادوا يوم أن أيقنوا أن عزتهم ليست بالمظهرية الجوفاء ولا بالتبعية الماسخة المذلة العمياء وإنما بالإسلام ... وبالإسلام وحده فقط !
فنحن أخيّتي قوم كما قال عمر رضي الله عنه : ( كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله )
فيا أختي المسلمة اعرفي عظمة هذا الدين الذي تنتسبين إليه، واعلمي أن الله سبحانه إنما أمرك بالحجاب ليحفظ لك كرامتك وإنسانيتك وعفافك فهو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالح عباده أين تكون ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير
حبيبتي وغاليتي .. راجعي نفسك أعيدي حساباتك قبل فوات الآوان ..
وأعلمي أن لكل جواد كبوة ولكل ذنب مغفرة وسارعي إلى التوبة من جميع الذنوب والمعاصي ، وأقبلي على طاعة ربك واغمري هذه العباءة وهذا الحجاب المزيف بسيل من الدموع والتوبة ثم ألقيه خلفك كماض أسود كسوادك حين أراك لا يرى منك شيء طاعة للرب وكيدا لمن أرادك أن تخرجي عن فطرتك وتمرقي عن دينك ...
وختاما .. تذكري حالك إذا غسلت بسدر وحنوط وكفنت بخمسة أثواب، هي كل ما تخرجين به من زينة الدنيا ...
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
المحبة لك عابرة سبيل
=============
رسالة إلى شاب
الحمد لله تعالى وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره ..وبعد
أخي الحبيب زهرة الدنيا وأمل الأمة : هذه رسالة للشيخ الدويش توجه بها إلى إخوانه الشباب قرأتها فأعجبتني فأحببت أن تشاركني في قراءتها لعل الله تعالى أن ينفعني وإياك بما جاء فيها ، ويجعلها سببا في عودتنا إلى طريق الله المستقيم .. آمين .
قال الشيخ .. حفظه الله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فأحييك أخي الشاب بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة، تحية خص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة: وكلي أمل أن تتفضل بقراءة وجهة نظري بكل تجرد وموضوعية؛ وأحسب حينئذ أن نقاط الاتفاق بيني وبينك ستكون أكثر من نقاط الاختلاف، وأن اختلافك معي في قضية من القضايا لا يعني إهمال وإلغاء جميع ما توافقني عليه.
أتمنى أن تفكر بموضوعية وإنصاف وتجيب على هذه الأسئلة بصوت خافت لا يسمعه غيرك، أجب عليها في نفسك بكل صراحة، ولن يجنى مرارة التستر على العيوب والمخادعة إلا من يخادع نفسه.
أي العبوديتين تختار؟
تأمل في هذا الإنسان وحياته، مرة يلم به مرض، ومرة يصيبه جوع، مرة يضيق صدره … بينما تراه فتياً نشيطاً، يتحدث بملء فيه، ويعلو صوته وصياحه إذا به يصاب بفيروس لا تراه عينه المجردة فيتحول ذلك الإنسان صاحب القوة والحيوية إلى جسم ممدد طريح الفراش، ل اتكاد تميز صوته، ولا يستطيع حراكاً
يملك المال ويوغل في الثراء، فما يلبث أن تصيبه كارثة تحوله إلى أسير لديونه، وإذا به في طرفة عين قد انقلب من قمة الثراء إلى حضيض الفقر والحاجة والفاقة.(3/115)
إنها أمارة نقصه وضعفه وهكذا شاء الله أن يكون المخلوق كذلك، لذا فلابد أن يكون المخلوق عبداً، فإما أن يكون عبداً لله يخضع له ويستجيب لأمره، وإما أن يبتلى بعبودية ماسواه، أرأيت كيف يسجد ويركع بعض الناس لأحجار نحتوها بأيديهم؟ أرأيت كيف يتعبد النصارى بخرافات سطروها بأقلامهم وألغوا لأجلها عقولهم وألبابهم؟
من الشاذ؟
إن العالم الفسيح من حولنا بأرضه وسمائه ونجومه وأفلاكه، وكل صغير وكبير ندركه أو لا ندركه، كل ذلك يسجد ويخضع لخالقه تبارك وتعالى، ويلهج بالتسبيح له عز وجل. { يسبح له السموات والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كا ن حليما غفورًا}
والظل الذي نتقي به لهيب الشمس المحرقة يتفيأ ذات الشمال واليمين ساجداً لله تبارك وتعالى.
بل هذه الشمس التي نراها كل يوم، تعلن خضوعها وسجودها لخالقها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها.."
فما بال الإنسان بعد ذلك؟ ما باله يستنكف ويستكبر على خالقه؟ بل ما باله يتمرد على نظام الحياة أجمع؟ وماذا عساه يساوي في هذا الكون؟ وأين مكانه في هذا العالم الفسيح؟
فمن الشاذ والغريب حينئذٍ؟ ومن الذي يسبح ضد التيار؟ أهو المسلم القانت الساجد المسبح لله تبارك وتعالى فيتجاوب مع هذا الكون الخاضع لربه؟ أم هو الذي يتمرد على خالقه، ويستنكف عن طريق الهداية، فيستظل ويختبئ حين يواقع المعصية وراء حائط يسبح ويسجد لربه، والسيارة والهاتف والقلم… وسائر ما ييسر له طريق المعصية يخضع لمولاه ويسبح ويسجد له.
فالذي يسلك طريق الهداية يسير وفق السنة التي يسير عليها الكون أجمع، أما الذين يتنكبون طريق الهداية فيعيشون تناقضاً في حياتهم، ليس مع الكون الأرحب الواسع بل مع ذواتهم وأنفسهم، فأجسادهم وأعضاؤهم تخضع لله.
أسارى ولكن لايشعرون ..
أرأيت أتباع الشهوات والغارقين في أوحالها؟ أتظن أنهم يعيشون السعادة؟
إنهم أسرى وعبيد لهذه الشهوة المحرمة تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فينتهون، ولسكرهم في لذتهم لا يدركون ما هم فيه، وهاهو أحدهم لا يجد شبهاً لنفسه وحاله إلا بأهل الجنون، فرحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لايستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
إن أحدهم يقدم ما يملك فداء لمن يعشقه ويحبه، بل قد ينحر دينه قرباناً بين يدي معشوقه، وهاهو أحدهم يعبر عن ذلك:
رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعوداً
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجوداً
ويستغرق المعشوق فؤاد من يعشقه فلا يبقى فيه مكان للبحث عن رضا مولاه، بل قد يصبح رضا الله مرتبة دون رضا معشوقه، كما قال هذا الشقي عن محبوبه -عافانا الله :
اسلم يا راحة العليل ويا شفا المدنف النحيل
رضاك أشهى إلي فؤادي من رحمة الخالق الجليل
ولو أدرك أتباع الشهوات اللاهثون وراءها مرادهم، فسرعان ما تنتهي حياتهم، وتنتهي معها المتعة ويبقى دفع الثمن الباهظ الذي لا يمكن أن يقارن بحال بتلك الشهوة العاجلة واللذة الفانية، وهاهو الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن ذلك فيقول : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول:لا والله يارب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيقال له: ياابن آدم: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" .
فالدنيا كلها ومتاعها وشهواتها تنسى في غمسة واحدة في العذاب، فكيف بما بعد ذلك؟
ماذا تنتظر؟
أعرف أن الشاب الغافل ليست هذه أول كلمة يسمعها، وأنه قد مرت به مواقف عدة دعته للتفكير في التوبة والرجوع إلى الله، لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة مقنعة إلى الآن هو: لماذا الإصرار على الخطيئة؟ ولماذا التردد في سلوك سبيل الصالحين؟
انظر إلى من حولك، إلى من هو في سنك وعمرك، ممن هداهم الله فأقبلوا على طريق الصلاح والتقوى، وانظر إلى من كان له تاريخ في الغفلة والصبوة، فنهض وعاد إلى مولاه، إنهم بشر مثلك، ولهم شهوات وتنازعهم غرائز، وتعرض لهم الفتن وتشرع أبوابها أمام ناظريهم، فما بالهم ينتصرون على أنفسهم؟ وما الذي يجعلهم يستطيعون وأنت لاتستطيع؟ ولم ينتصرون وتنهزم أنت؟ بل ربما أنت أقوى شخصية من أحدهم، وأكثر ذكاء من الآخر وفطنة؛ إن الذي جعل هؤلاء ينتصرون على أنفسهم يمكن أن يجعلك كذلك. فهلا سلكت أنت الطريق وأقبلت إلى ربك؟!
واعلم بأن الله يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أشد من فرح رجل كان في صحراء على دابة فأضاعها وعليها طعامه وشرابه، ونام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فقال من شدة الفرح ـ اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح .. ففرح الله بتوبة عبده أشد من فرح هذا الرجل بدابته، فأقبل عليه، واتخذ القرار الحاسم ولا تتردد.
أيهما أكثر رجولة؟
صفة الرجولة صفة يحبها جميع الناس، ونفي الرجولة عن أحد تهمة جارحة يرفضها المرء ولو كانت جميع صفات الرجولة معدومة لديه.
أيهما أكثر رجولة وأقوى شخصية؟ الشاب الذي تقعد به نفسه عن فعل ما أمره به مولاه فتنتصر عليه، أم الشاب الذي يجتاز العقبات، ويستجيب لأمر ربه ولو كان شاقاً على نفسه؟(3/116)
أيهما أكثر رجولة وأقوى شخصية الشاب الذي يسير وراء غرائزه وشهواته، ويستجيب لنفسه في كل ما تدعوه إليه وتدفعه له؟ أم الآخر الذي يملك الغرائز والشهوات، وتدعوه نفسه وتدفعه إليها، لكنه يكبح جماحها ويضبطها، ويقول لها: ليس من حقك أن تتمتعي بكل ما تريدين، فثمة عاقبة وخيمة للسير في هذا الطريق، وثمة عاقبة حميدة لمن يمنع نفسه عن الحرام؟ وهو وإن ترك الشهوة العاجلة فهو يعلم أن نهايتها في الدنيا مؤلمة، إما مرض عضال، أو فضيحة تنغص حياته، أو مصيبة أو كارثة، وحين ينجو من عذاب الدنيا لن ينجو من عذاب الآخرة إلا أن يمن الله عليه بعفوه.
أما الامتناع عنها فعاقبته السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة .
إن أشجع قرار، وأولى قرار يتخذه الإنسان هو أن يغير مجرى حياته، ويسلك في قطار الصالحين الأخيار. فأتمنى أن نكون شجعانا وجريئين؛ فنتخذ هذا القرار.
=================
رجل الفطرة
يرجع الداعية - في بحثه الدؤوب عن أصحاب الفطر السليمة الذين لا يحملون بين جوانحهم عوامل الضعف والهزيمة النفسية - إلى سيرة مُعلِّم الخير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ليستلهم منها معالم تنير له الطريق.
ومن الدروس المستفادة من السيرة النبوية أن الله سبحانه وتعالى بعث أكرم خلقه من بيئة لا هي بالحضرية المدنية المغرقة في الترف وفنون النعيم والملذات ، ولا هي بالبدوية الجافية البعيدة عن التمدن والعمل المشترك ، فالأسر القرشية لم تصل بعد إلى تعقيدات المدنية، ولم تأسرها الشكليات والمظاهر، ولا يزال شباب قريش يألفون الخشونة والفروسية، رغم عيشهم في بيئة تجارية مبتعدين عن خلق المذلة والمراوغة التي يألفها من استحكمت فيه عوائد الترف ، أو عاش تحت قهر الاستبداد والبحث عن لقمة العيش في بيئة مادية لا رحمة فيها ولا شفقة.
ولا نعني من هذا أنه لا بد من العيش في قرى أو مدن صغيرة - كمكة عند البعثة - ، فهذه سطحية في التفكير وسذاجة ، ولكن المقصود هو: العيش في أجواء الفطرة السليمة ، أجواء التخفف من القيود التي تكبل المسلم عن الانطلاق في دعوته ، هذه القيود التي لم يأت بها شرع ولا حكم بها عقل ، ولكن دواعي الانحطاط هي التي تهتف بها.
فالدعوة لا يتم أمرها ولا يقوى عودها إلا برجال تعودوا الخشونة ، تتجافى جنوبهم عن الانغماس في النعيم ، كلما سمعوا هيعة طاروا إليها.
والرجل الذي عاش حياته راضياً بالقليل ، بل خائفاً من ذهاب هذا القليل ، عاش يسمع وصايا والدته تحذره وتخوفه من أي عمل عدا العمل الذي سيعيش منه ، هذا الرجل قد انغرس في نفسه الضعف ، وأصبح بعيداً جداً عن المغامرة وركوب المصاعب ، فهو دائماً يخاف من المجهول ، يخاف من المستقبل ، يفكر دائماً في الاحتياطات اللازمة لتدبير (العيش).
هذا الرجل الذي يحمل أتعاب مدينة مرت عليها قرون وهي تعيش تحت قهر كل متغلب، وتألف كل قادم، هو لا شك يشعر بضآلة نفسه وقصور همته، ولا يسمح لتفكيره بأن يخطر له ذكر الأعمال الكبيرة والمشروعات العظيمة، بل إذا حمل فكرة قوية يمسخها إلى (نصف) فكرةٍ يؤوِّلها حتى تتمشى مع ضعفه وانحطاطه، فهو دائماً في منتصف طريق ونصف نهضة، لا هو بالبادئ، ولا هو بالمنتهي ، فإذا تعلم ودرس أصبح نصف دارس أو نصف طبيب ، وإذا كان موظفاً يحس أنه جزء صغير من آلة ضخمة ، فمثل هذا لا يساعد على التحفز لعمل كبير ، فهو رجل (الحد الأدنى).
ونحن نريد رجل الفطرة الذي يملك حيوية الاندفاع والتضحية ، فيه بساطة وسموّ، فإذا عقل الإسلام وفقهه فقد جمع (نوراً على نور) ، وهذا هو الرجل المؤهل للتغيير.
================
يا له من دين .. لو أن له رجالاً
كلما كنت قديما أقرأ أو أسمع أنه في عام 1992م ستكون السوق الأوربية المشتركة مفتوحة الحدود، مشرعة الأبواب لمواطنيها في التنقل والتجارة، ودون أية قيود، وأنهم يستعدون لهذه النقلة، كلما كنت أسمع ذلك ، ثم أسمع أن القوم بعد ذلك يعدون للعملة الأوروبية المشتركة ( اليورو) ، كان يتملكني الأسى والغضب ، ثم بعد أن رأيت القوم قد حققوا لأنفسهم ما كانوا يخططون له ، ازددت أسى وألما وغما وكمدًا ، كيف يجتمع هؤلاء الناس ويتعاونون على ما بينهم من اختلاف في اللغة، وعلى ما بينهم من إحن قديمة، وعلى ما بينهم من تعصب إقليمي عرقي؟!! وكيف لا يجتمع المسلمون ـ والدعاة منهم بشكل أخص ـ وبين أيديهم كل العوامل التي تحتم الاتحاد والتعاون والتناصر.
لا شك أن الذي يدفع بالغربيين إلى اتخاذ هذه الخطوات التعاونية هو نظرتهم للعواقب والتفكر بالنتائج التي تتمخض عن هذا التعاون وأنه يحقق لهم مصالح كثيرة، فهي سياسة دنيوية تقوم على استخدام العقل وتبعد العواطف والغرائز جانبًا، ولا شك أن الذي يمنع المسلمين من التعاون والتفاهم هو ضعف النظر في العواقب وعدم الانتباه لما يحيط بالمسلمين من أخطار، وما يتربص بهم من شرور، وتحكيم العواطف والنظرة الضيقة، والنظر للمصالح الآنيّة والفردية، وليس الذي ينقصهم غيرة دينية أو نقص في الحماسة لنصرة الإسلام، وإنما هو التخلف الحضاري الذي جعلهم لا يفكرون تفكيرًا هادئًا متزنًا مستبصرًا، بل لا يستحثهم هذا الضعف الذي ابتلوا به فأصبحوا طعمة لكل طامع ونهبة لكل ناهب، لا يستحثهم على الاتحاد أو التعاون على الأقل.(3/117)
إن بعض الغربيين يستغربون جدًا أن تتكلم الشعوب العربية لغة واحدة، ويفهم كل منهم عن الآخر ، ومع ذلك يكون بينهم هذا التفرق والتناحر، وكأن كل قطر قارة منعزلة، وكثيرًا ما يسألون: هل يستطيع المصري التفاهم مع المغربي أو العراقي مع اليمني، لأنهم لا يتصورون أن كل هذه الأقاليم التي تتكلم بلغة واحدة تكاد لا تتفق على شيء إلا على التفرق والتناحر.
أتقام تكتلات كبيرة لأعداء الإسلام، ونحن نمارس هواية التشرذم والتفرق ونكثر من عدد اللافتات والعناوين.
أيقيم أعداء الإسلام دولاً طويلة عريضة على أفكار وكتب من اختراع بشر بل هي من حثالة أفكار البشر، وكتاب الله بين أيدينا، وتفسيره بين ظهرانينا، وهو حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى لا انفصام لها، ويبقى المسلمون على حالهم المزرية هذه؟!
ألا يحق لنا أن نطمع بمطلب متواضع من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية وهو التفكر بما يدور حولهم، وكيف يتكالب أعداء الإسلام تكالبًا شديدًا، ولا ينفكون لحظة واحدة عن التخطيط والتدبير، وتقليب الأمور، حتى يتسنى لهم دوام السيطرة والهيمنة على الأمم المغلوبة على أمرها.
إن رؤية الحقيقة خير من التمادي في المراوغة والقول بأن كل شيء يسير على أحسن ما يكون، والتبصر في العيوب وإبرازها في شجاعة، ومعالجتها وإن كان الدواء مؤلمًا، أفضل من الإمعان في التغافل، والبقاء في دائرة التراشق بالتهم والتهم المضادة.
.....................
مجلة البيان
=============
الرجال المنتظرون .. أمل الأمة
إنها أمة تفيء إلى ربها ، وتعود من بعد طول غياب في ظلمات الجاهلية وشرورها، أمة تستروح نسمات الإيمان، وقد آن لها أن تقف مرة أخرى بعد عشرات من السنين على طريق الأصالة والتوحيد .
أمة ينبض قلبها بدم جديد ، فتعود إليها حياتها متجددة ، بعد أن ظن أعداؤها أنهم قد قضوا عليها بالسم الزعاف ، وما دروا أنهم قد قتلوا الحياة واغتالوا الوجود يوم أن أوقفوا ريادتها وأنهكوا حياتها .
وهاهم أعداء الأمة اليوم يصرخون . . فمن ينجيهم من عذاب أليم ؟!! أمة تعود إلى ذاتها التي ضيعتها ، وإلى رسالتها التي هانت عليها ، أمة تعود إلى روحها . . إلى قرآنها. . إلى سنة نبيها .. إلى شريعتها .. إلى دستور حياتها . وطريق العودة طويل طويل . .
طويل أولاً في وقته وزمنه ، فهو طريق التأسيس المنهجي وليس الإصلاح والترقيع العفوي ((أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ . .)).
وطويل ثانيًا في تضحياته ومشقاته ، فلن يترك الباطل الحق في يسر وسهولة ، ولن يرفع أعداء الله راياتهم البيضاء إلا بعد معارك طوال .
يقول ربنا : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فهنا أمران من عداد التضحيات والمشقات:
الأول: أنه ينبغي على رجال الأمة أن يحملوا الأمانة كما أبلغهم الله إياها ، ويبلغوها العباد كما أراد الله لا كما تهوى الأنفس وتزينه الشياطين ، وهذه تضحية ومشقه أولى.
الثاني: يفهم من قوله تعالى ((واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:8] أن البلاء واقع بمجرد إبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه تضحية ومشقة ثانية ، يقول ربنا: ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً. .)) وعلى هذا الطريق - طريق العودة - يقف رجال يحملون عقيدة الأئمة وسلف الأمة ، فعليها يأتلفون ويجتمعون ، ومن دونها يفارقون ، يتربون على عظائم الأمور ومكارم الأخلاق ، صفوفهم منتظمة ، حريصون على الوحدة والائتلاف وليس الفرقة والخلاف ، هممهم عالية ، صبر على المحن ، وبعد عن الفتن ، عقولهم متزنة ، جنوبهم لينة ، أخطاؤهم معدودة محدودة ، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ، دامعة أعينهم ، حزينة قلوبهم ، يبكون يوماً قصيًرا لغد طويل، لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ، ولا يفرحون بما أتاهم منها ، ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) أنفاسهم طويلة مثل طول طريقهم . . وآراءهم حكيمة على مثل ما يواجهون . . واعون لواقعهم الذي يحيونه فهم له مستبينون لا يخدعهم معسول قول جاهلية عصرهم عن حقيقة كيدها وعنادها وتنكرها لطريق الله ، واجتيالها للعباد - كل العباد - عن مصدر عزهم وسعادتهم ألا وهو دينهم الحق ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!!
فهم ممتثلون قوله تعالى: ((وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ)) وهؤلاء هم الرجال المنتظرون .(3/118)
هم الصف الأول ، هم النخبة الموجهة ، هم الصفوة المنتقاة ، هم حراس الأمة وقادتها وعقولها ، رجال هم عين الأمة وضميرها ، رجال يذودون عن الأمة ، ويدافعون عنها ، ويدفعون الأعداء ، رجال يوجهون الأمة ، وبهم تسترشد الأمة طريقها ، رجال تلوذ بهم الأمة - بعد الله - في مدلهمات الأمور وجسام المواجهات ، رجال تناط بهم أمانة حمل هذا الدين العظيم ، وإبلاغه للناس والتمكين به في الأرض ((وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)) ، رجال تحتاجهم الأمة في كل ظروف تاريخها الطويل ، وحاجتها إليهم اليوم أشد ، إنهم رجال المواقف
غير أن المنهجية الأصولية التي تلتزم بها هذه الأمة ورجالها تقتضي أن نعرض صفحة من علمها المدون يقتضيه السياق:
أولا: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ...)) اتفق أهل السنة على أن العلماء من أولى الأمر وطاعتهم معطوفة على طاعة الله ورسوله ، وبداهة فإن هؤلاء العلماء في زماننا هم الذين يطيعون الله ورسوله ، ويتقون الله مع قيامهم بالحق لا يخشون في الله لومة لائم ، ولا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً ، ولذا لا يجوز أهل السنة لعلمائهم أن يغيروا دين الله فيأمرون بما شاؤوا وينهون عما شاؤوا. مما تقدم وجب على الأمة طاعة علمائها .
ثانيًا: إننا نحيا عصر التخصص العلمي الدقيق ، ولهذا كان علينا أن نصبغ الحركة الإسلامية بصبغة التخصصية، فهذا يتخصص بتاريخ الأمة الإسلامية على مر القرون يعلم حركته ، ويدرك تطوراته ومراحله ، ويفهم مده وجزره ، وآخر يتخصص بعلم الرجال الذين تصدوا القيادة والتوجيه والتأثير في هذه الأمة في القرون الأخيرة - مثلاً - فيعلم نشأتهم وتربيتهم ومنطلقاتهم وأفكارهم ومخططاتهم وأهدافهم التي سعوا لتحقيقها ولتنفيذها في هذه الأمة ، وثالث يتخصص بعلم التفسير الشرعي يفهم أصوله ويعلم مدلولات النصوص ومراميها وأسباب نزولها والمحكم منها والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى آخر ذلك .. ورابع يتخصص بعلم الاقتصاد . . وخامس بعلم الدعوة والتأثير والتربية . . . إلى آخر تلك التخصصات وهذه العلوم والفنون التي تحتاجها الأمة متمثلة في رجال أكفاء ، يوجهون ويصنعون حضارتها .
إن ميزات الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ربى جيلاً كاملاً قادرًا على أن يتبوأ مكانة في الصدارة لهذه الأمة ، وحينما رحل الرسول الكريم إلى ربه لم تنهزم الأمة ولم تندثر بل علت وانتشرت وغزت الأرض لتكون كلمة الله هي العليا .
وهانحن نقول مشددين عليها :
أعطني رجالاً أصنع لك حضارة..
==============
التخصص.. أو التشتت
بالغ الغربيون في التخصص، وأعجبهم ذلك لما لمسوه من الفوائد في أول الأمر، فتجد العامل أو الموظف أو المدرس لا يعلم إلا في حيز ما أسند إليه ، فإذا خرج عن هذه الدائرة فهو لا يفقه شيئاً ، وهذه ناحية إيجابية في الأصل ، لأنها تنتج المهارة ، وتعطي النتائج السريعة.
ولكن شدة التخصص أدت في النهاية إلى ضيق الأفق وضعف المدارك في بقية شؤون الحياة. والمبالغة تؤدي إلى نقيضها أحياناً ، فشدة البياض تصبح مهاقاً.
ويقابل هذا التخصص عند الغربيين ما عند المسلمين من ميل نحو الموسوعية الفضفاضة في العلم ، وحشر أنفسهم في شتى المجالات في العمل ، فالفرد هنا مطالب بأن يعلم كل شيء ، أو له خبرة في كل شيء أو هكذا يدعي ولا يزال يعجبهم القول القديم : فلان (بحر علم)أو (دائرة معارف) ، ونسوا أو لم ينتبهوا ، إلى أن هذا العصر لا يحتمل مثل هذا ، وإذا كان في العصور السابقة من هو فعلاً (بحر علم) فإن هذا لا يصح اليوم ، بل لن يتهيأ له وإن أراده ، لتشعب الأمور وتعقدها، مما لا يتيح صفاء للذهن وراحة للجسم.
وإذا كان هذا في العلم ، فكذلك في الدعوة ومن يتصدى لها ، فلن يتهيأ له أن يتقن كل شي. وإذا حاول فإنما يأتي به على وهن وضعف ، أو يأتي به فجاً لم ينضج بعد.
فإذا كان الداعية المسلم هو المواطن أو التاجر ، وهو الكاتب والخطيب والمتحدث ، وهو الذي عليه أن يحل مشاكل الناس ... فهل يستطيع الإحاطة بكل هذا ، وهل ينتج في دعوته.
وإذا كان بعض الرجال يتحملون هذا كله، ويقومون به، فإن غيرهم لا يستطيع، وإذا كان البعض قد أوتي قدرة وتحملاً وصبراً، فأين تدريب من هو دونه على تحمل المسؤولية وتنمية مواهبه في فن من فنون العمل ؟.
وقد رأينا من أساتذتنا من يقوم بهذا ، ولكن كثرة الأعمال تثقل عليه في النهاية ، وتجعله لا يستطيع أن يقوم بجزء منها، ونكون قد خسرناه مرتين. مرة:لأننا لم نستفد من اختصاصه.
والثانية: أننا لم نستفد من فترة اكتمال تجربته ونضوج عقله.
ونحن هنا لا نريد أن نقلل من أهمية المعلومات العامة ، وتوسيع المدارك ، ولا من قدرات بعض الناس، وإنما نريد أن نكون واقعيين نعرف روح العصر وما يتطلبه، ونعلم كيف تتطور الأحداث، وكيف نستفيد من التيسيرات المادية الحديثة التي توفر الجهد، وتساعد على التغلب على ما فقد من صفاء الذهن، كما نريد أن يتعمق أهل الاختصاص في اختصاصهم دون أن يفقدوا ميزة سعة الأفق، كي نستثمر جهودهم ولا نشغلهم بأمور شتى، فتضيع الجهود أو لا ينتجون إلا قليلاً.(3/119)
.............................
محمد العبدة :
=============
آخر يوم في حياة الداعية
الدعاة إلى الله لهم منزلة من أعلى المنازل ، ذلك لأنهم لا يستوحشون من قلة السالكين ، ولا يغترون بكثرة الهالكين ، وتحملون في سبيل الدعوة الأذى والعنت صابرين محتسبين ، عرفوا أن الأمة الإسلامية جاء دورها لتحقيق ما أراده الله منها .
آخر يوم وأسباب النكوص
وإذا كان الداعية بهذه المثابة فما هو آخر يوم في حياته؟
إنه اليوم الذي يتخلى فيه عن أعز ما يملك ، يتخلى عن دعوته ، إنه يوم مظلم قاتم ، لأن سقوط الداعية سيتعدى ضرره إلى غيره ويثقل كاهل الدعوة ويزيد من أعبائها ، عدا ما تحدثه هذه الظاهرة من شروخ وتصدع في بنية العمل الإسلامي ، ولعلي أذكر شيئا من أسباب هذا النكوص فمنها:
1- ضعف في الجانب التربوي حتى تطغى الجوانب الإدارية والسياسية على كل شيء مما يجعل الإداريين مقطوعي الصلة بالتربية والشؤون التربوية نظرياً وعلمياً. وهنا يبرز صنف يقال عنهم بأنهم فوق التربية ، إنهم تجاوزوا مرحلة التربية ، وهذا غير صحيح.
2- عدم وضع الفرد المناسب في المكان المناسب مما يؤدي إلى الفشل أو الخسارة.
3- عدم متابعة التأهيل التربوي، إما تكاسلاً ، أو أن القاعدة العريضة من الجماهير أكبر من الإمكانيات.
4- طبيعة غير انضباطية ، فهو لا يطيق القيود ، ويريد المحافظة على كيانه وشخصيته كما هي وما فيها من عيوب ونقائص.
5- الوهن والخوف على الرزق ، أو حب الدنيا والتكالب عليها.
6- حب الظهور ، وقديماً قيل : "حب الظهور يقصم الظهور"، وهذا الغرور يقوده إلى التطلع للرئاسة ويرى أنه أفضل الموجودين.
7- ضغط المحن والأهل والأقربين.
قواعد عامة
وأخيراً لابد من ذكر بعض القواعد الهامة:
1- أن الداعية لا يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة من العمل للدعوة.
2- أن من سنة الله عز وجل أن هذا الدين لا يتحقق في واقع البشرية إلا بالجهد والجهاد البشري، وذلك يجعلنا نسعى دائبين لتحقيق هذه السنة الربانية.
3- أن هذا الدين عزيز وغال لا ترتقي إليه همة الضعفاء العاجزين.
4- أن الله تكفل بحفظ هذا الدين ولو كره الكافرون ، طال الزمن أو قصر.
5- أن نكوص البعض عن الدعوة لا يزيد النفوس المؤمنة إلا مضاء وثباتاً ، وهذه هي طريق الأنبياء.
وفي النهاية يجب أن يعلم كل داعية أن الدين دين الله وهو حافظه، وأن الثبات إنما هو من عند الله والموفق من وفقه الله فلابد من دعاء الله بالثبات والنصرة والتوفيق .. والنكوص لا يضر إلا أصحابه {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.
الله انصر دينك وكتابك وسنة نبيك واستعملنا ولا تستبدلنا .
==============
بين يدي الدعوة
وسائل دعوة غير المسلمين كثيرة ، والداعية الموفق يختار من الأساليب ما يشعر أنه مؤثر وناجح ، وبعض الناس قد لا يستجيب للدعوة إلا أن يرى شيئاً عظيماً يجعله يقف مبهوراً معجباً ، شيئاً يشده إلى الإسلام شداً ، ويأسره أسراً ويجعله يعيد حساباته ويفكر بعمق ويقارن بين الماضي والحاضر ثم يتخذ في نفسه القرار. لقد قرر أن يستسلم ولكنه استسلام الحازم المطمئن الذي عرف الحقيقة فعلاً وليس استسلام العاجز أو صاحب غرض.
هكذا وقفت ملكة سبأ التي كانت تعبد الشمس هي وقومها عندما دعاها سليمان عليه السلام إلى الإسلام ، أبت أن تنقاد مع اعترافها بضعفها أمام قوة سليمان وجنوده ، ولكن عندما دخلت الصرح وحسبته لجة : (قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [النمل:144] لقد عُرضت عليها مظاهر القوة الخارقة لتؤثر في قلبها وتقودها إلى الإيمان .
وفى الإسلام ليس الأصل هو المعجزات المادية - وإن جاءت عفواً وإكراماً فلا بأس- ولكن أليس التزام المسلم بدينه وتطبيقه في كل شئون حياته أكبر معجزة ؟
وفى قصة إسلام خالد بن الوليد رضى الله عنه أنه خرج من مكة ميمماً شطر المدينة فلقيه في الطريق عمرو بن العاصي - رضي الله عنه - فقال له : إلى أين يا أبا سليمان ؟ قال : لقد استقام الميسم (وضح الطريق) وهاجرا معاً إلى المدينة.
إن خالداً قائد عسكري فذ ، ولا يخفى عليه أن انتصارات محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هي انتصارات دين سماوي ، انتصارات نبي يمثل الكمال البشري مؤيد من الله يسدده ويرشده، وبعد معارك وصراع من بدر إلى الحديبية استسلم خالد بن الوليد ، ولكنه استسلام القوي العاقل الذي يعرف مواقع الحزم واتخاذ القرار المناسب.
وقد سمعنا في العصر الحديث أن بعض الكفار من الأوربيين أسلموا عندما رأوا صفوف المسلمين في الصلاة، وخشوعهم وإقبالهم على الله.
قال الفيلسوف الفرنسي (رينان) : " كلما رأيت صفوف المسلمين في الصلاة أتأسف أني لست مسلماً " . إنها كلمة صدق من كذوب، فما الذي يمنعه عن الإسلام ؟
إن عرض الإسلام عرضاً جذاباً مع العلم الراسخ قد يكون من المؤثرات الفعالة في إقبال الناس على هذا الدين ، كما وصف ابن عباس - رضي الله عنه - حين فسّر سورة البقرة في أيام منى من الحج ، قال من سمعه : " لو سمع تفسيره يهود أو نصارى لأسلموا " .
وإن أعظم دعوة للإسلام هو التزام المسلمين بشريعة الإسلام وشعائره وآدابه وأخلاقه، وإصرارهم على هذا ، وتحديهم للمجتمعات المنحرفة .
…………………………
محمد العبدة ( البيان رجب 141
==============
أسرة قرآنية .. تستحق التكريم(3/120)
فى الوقت الذى يتسابق فيه الشباب والفتيات على حفظ الأغانى الخليعة، وفى الوقت الذى تتسابق فيه الأسر على تعليم الأطفال الرقص وتقليد الفنانين والفنانات، وفى الوقت الذى يتسابق فيه الجميع لتقليد كل وافد غربى فى هذا الزمن الذى اختلت فيه الموازين .. اتجه الدكتور على إسماعيل طبيب بشرى مصرى إلى تحفيظ أولاده القرآن الكريم.. حمل على عاتقه هذا العبء .. واصل مع أولاده العشرة الليل والنهار حتى وصل لهدفه وحفظ الأبناء القرآن الكريم، إنها حقًا عائلة قرآنية.
التقينا هذه الأسرة وسط سكن هادئ فى إحدى مدن محافظة الشرقية، يقول: عبدالرحمن الابن الأكبر (20 سنة) : بكلية طب الأسنان جامعة الأزهر ، رحلتى مع كتاب الله بدأت منذ نعومة أظافرى وعمرى خمس سنوات، وأتممت الحفظ فى سن العاشرة، والآن أجعل لنفسى وردًا يوميًا لمراجعة القرآن.
ودخلت مسابقات عديدة نظمتها وزارة الأوقاف المصرية والمعاهد الأزهرية ونقابة الأطباء فى مصر .. وحصلت على الجائزة الكبرى وقدرها (خمسة آلاف جنيه) فى المسابقة الكبرى .
وحفظ القرآن الكريم ساعدنى كثيرًا فى حياتى بصفة عامة.. جعلنى أكثر التزامًا بدينى، وأوصلنى إلى درجات التفوق .. وأطلق لسانى فى الحديث فضلاً عن سرعة البديهة التى توافرت لى من خلال الحفظ .. وأنا والحمد لله أرتدى الزى الأزهرى داخل وخارج الكلية.
الوالد .. قدوة
الابن الثانى عُبيْد الله (19 سنة) بالفرقة الأولى كلية العلوم جامعة الأزهر، بدأ الحفظ فى سن أربع سنوات، وختم القرآن فى التاسعة من عمره، ودخل مسابقات عديدة فى مصر، وحصل على عدة جوائز.
ويقول عبيدالله .. إن قدوتى فى هذا المجال والدى الذى قطع على نفسه عهدًا بأن يحفظنا القرآن الكريم، سواء على يده أو يد المحفظ الخارجى، وكان يعلن دائمًا أن حفظ القرآن هو الذى يسعده، ولا نتقرب إليه إلا بالقرآن، وهو كذلك لا يمنحنا العطايا إلا بالحفظ الجيد، وهو والحمد الله طبيب ملتزم لا نزكيه على الله، يطبق إسلامه فى كل شىء فى حياته.
وعلمنا أيضًا الخطابة وإلقاء الدروس .. فحفظ القرآن ليس هبة للشخص وحده.. بل هو عمل ممتد إلى الغير .. فلا بد أن نحفظ غيرنا .. ونرشد الآخرين.
البنون والبنات
حفظ القرآن فى هذه الأسرة لا يفرق بين البنين والبنات، فالكل سواء فى الحفظ .. فاطمة (18 سنة) هى الأخرى بدأت حياتها مع القرآن من أربع سنوات، وأتمت الحفظ فى العاشرة من عمرها، وتداوم الآن على مراجعة القرآن كله.
تقول فاطمة: أنجبت الأمة الإسلامية عمالقة فى جميع فروع الحياة .. علماء.. فقهاء.. معلمون .. خطباء .. ثوار.. كل هؤلاء قادوا الأمة بحفظهم للقرآن الكريم .. خطباء الثورات حفظوا القرآن فى صغرهم، الشعراء حفظوا القرآن فى صغرهم، كبار العلماء حفظوا القرآن فى طفولتهم .. وهكذا فلو أردنا أن نخرّج قادة الغد بالشكل المطلوب .. بالشكل النظيف فعلينا بحفظ القرآن.
فاطمة لا يعجبها رفيقاتها .. اللاتى يتجهن لقراءة القصص التافهة، أو الأغانى الخليعة، وتقول : هذه القصص أو الأغانى لا تثقل شخصية الإنسان إنما الذى يثقله، ويقويه هو حفظ القرآن الكريم.
الجوائز كثيرة
أما عبيدالرحمن (17 سنة) فهو الآخر بدأ فى الحفظ فى سن 4 سنوات، وأتمة فى سن 10 سنوات ، ويلتحق بالمرحلة الثانوية الأزهرية، وحصل على جوائز عديدة، منها الجائزة الثانية فى مسابقة القرآن الكريم وقدرها 4 آلاف جنيه، وفاز أيضًا أكثر من مرة فى محافظة الشرقية، وكذلك جمعية المحافظة على القرآن فى مصر.
يقول عبيدالرحمن: القرآن نور وبرهان لنا فى الدنيا والآخرة فهو نور فى الدنيا .. يبصرنا بالطريق السليم .. يعمل على تسهيل مطالعة الدروس .. فضلاً عن كونه نورًا لنا فى آخرتنا.
ويركز عبيد الرحمن على أن حفظ القرآن لابد أن يكون نابعا عن تقوى الله، بمعنى أننا نحفظ لكى نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى .. لكى نزيد فى حسناتنا.. هذا هو المفهوم الذى يجب أن يتوافر لدينا عند الإقدام على الحفظ.
نعمة من الله
أما إسماعيل (15 سنة) الذى بدأ رحلته مع القرآن فى سن 4 سنوات، وأتم الحفظ وسنه إحدى عشرة سنة، ورغم صغر سنه إلا أنه يتحدث باللغة العربية بطلاقة.. ويقول: والدى خير قدوة لنا .. ونحمد الله على هذه النعمة فلم نخرج للحياة ولنا والد يشرب الخمر أو يقضى وقته على المقاهى .. أو فى الأماكن المخلة.. أو والد مدمن .. الحمد لله أننا وجدنا والدنا بهذه المكانة الكبيرة .. حيث كرس وقته وجهده لنا جميعًا ولتحفيظنا القرآن الكريم.
أما خديجة (أربعة عشر عامًا) بالمرحلة الإعدادية بالتعليم الأزهرى بدأت الحفظ هى الأخرى فى سن أربع وأتمت الحفظ فى الثالثة عشرة من عمرها، ودخلت مسابقات عديدة.
تقول خديجة: الحمد لله حفظ القرآن الكريم أعطانى الكثير فى حياتى بصفة عامة والتعليمية بصفة خاصة. فأجد التميز فى شخصيتى ..وكذلك أحصل على مزيد من حب وتقدير زميلاتى فى المعهد .. وهذا فضل كبير اكتسبته من خلال حفظ القرآن الكريم.
آخر العنقود
ويبدأ العدد التنازلى فى الحفظ مع الأبناء الصغار .. فمريم (11 سنة) بالصف السادس الابتدائى .. مازالت تحفظ وقد انتهت من حفظ عشرين جزءًا.. وتتمنى أن تكون طبيبة أمراض نساء لتعالج النساء والفتيات بعيدًا عن الأطباء الرجال.
ومحمد (12 سنة) يحفظ حتى الآن أكثر من عشرين جزءًا، ومازال الحفظ مستمرًا .. وكل أمنيته إتمام حفظ القرآن.
أما عبدالعلى وتوأمه آسيا (تسع سنوات) ويحفظ كل منهما 12 جزءًا، وحصلا على جائزة نقابة الأطباء المصرية.(3/121)
ونأتى لآخر عنقود الأسرة القرآنية .. عائشة (أربع سنوات) وتحفظ جزءًا من القرآن .. وتتمنى أن تتم الحفظ، وتقول: إن قدوتها فى الحياة والدها الذى يتميز بالتقوى والحب والرحمة.
بعد هذا السرد نستطيع أن نقول إن أمتنا بخير طالما فيها مثل هذا الأب الذى آل على نفسه أن يعلم أولاده القرآن الكريم، فخيركم من علم القرآن وعلمه.
==============
هل انتبهنا ؟
لم تستطع عيناها ( شبه ) المغمضتين أن تخفيا ملامح الأسى علي وجهها الرقيق ، الأسى الممزوج بابتسامة رضا، لا أظن أن أحدا ممن حضروا الموقف الذي جمعني بها لاحظها، فقد كانت ابتسامة صغيرة حيية، اتسعت قليلا حينما ربت علي كتفها، وحاولت إزالة علامات القلم الملون من على خمارها الناصع. فقد كنا نقف في انتظار حافلة، وكان المكان مزدحما .
سألتني عن رقم الحافلة التي توصلها إلي حيث تريد وأردفت: من فضلك حين تأتي نبهيني ، وساعديني علي الركوب ؛ لأنني كفيفة .
وقتها كانت تقف بجواري امرأة في منتصف العمر بصحبة طفلها الذي لم يكف عن الحركة والتقافز، وفجأة وقف وراء الفتاة وأخرج من جيبه قلما ملونا، رسم به علامات علي خمارها، فتقدمت هي إلي الأمام، وأمسكت بكتفي ، فعاتبت الطفل الذي قال باستهتار: إنها لا تراني ، فاصمتي أنت أيضا .
جذبته أمه ، واعتذرت للفتاة بخجل شديد ، وعرضت عليها أن تعوضها عن الخمار، فأبت وقالت بصوت واهن: إنه طفل ولا حرج عليه، ولمحت الدمعتين والابتسامة الصغيرة، فانتحيت بها جانبا، وحاولت تهوين الأمر عليها.
ونظرت إلي الأم وطفلها فوجدتهما يبتعدان، وهو يواصل الجري والتقافز دون أن يبدو علي أمه أنها تنهره أو تنبهه إلي خطئه.
سألت نفسي: هل لا بد أن يكون بين أفراد الأسرة مبتلي بإعاقة ما حتى يعرف باقي أفرادها ذوقيات التعامل معه، بحكم الاحتكاك أو سلامة الفطرة، أو حتى خشية إيذائه نفسيا؟
وهل الذين لا يعايشون أحد المبتلين لهم العذر في إساءة معاملتهم والسخرية منهم؟!
الإجابة - قطعا - لا ؛ فديننا لم يعف أحدا من ضوابط معاملة المبتلين من أول حمد الله علي السلامة مما ابتلاهم به ، وحتي بذل الوسع في معاونتهم والأخذ بيدهم .
كما أن نماذج الصحابة الناصعة من المبتلين تؤكد لنا أن الابتلاء ليس وصمة أو عارا ، فعبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه كان كريما عند الله حتى عاتب رسوله صلي الله عليه وسلم فيه حين اهتم بسادة قريش أكثر منه .
وعبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة كان أيضا مكفوف البصر أواخر عمره ، ولم تحل عرجة عمرو بن الجموح رضي الله عنه دون جهاده وبلائه الحسن ؛ حتى تمني علي الله تعالى أن يطأ بعرجته الجنة ، وكان له بإذن الله ما أراد.
وكانت ساق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الضعيفة أثقل عند الله عز وجل من جبل أحد.
وكأن الله سبحانه وتعالي يعلمنا في هؤلاء وغيرهم كيف نعامل المبتلين، وكيف لا نستكثر عليهم أقصي درجات حسن الخلق ، ما دام ربهم قد أكرمهم إلى هذا الحد .
أحسبنا محتاجين إلي دروس في قيم التعامل مع ذوي الحاجات الخاصة ، وإلى نسق تربوي لا يغفل هؤلاء ، ولا يسقطهم من حسابه ، بل يعلم النشء كيف يتعاملون مع المبتلي ، وكيف يساعدونه علي الصبر ويشعرونه بآدميته، ويؤكدون له - بشكل غير مباشر - أنه لا ينقص عن الأصحاء شيئا - إن لم يفقهم أحيانا - فكثير من العباقرة والمبدعين مبتلون ، ولعل تحديهم لظروفهم يرجع إلي إحساسهم بنقص غير حقيقي ، أوحى إليهم به من يفتقرون إلي حس إنساني يرقون به إلي مرتبة حسن الصلة بهؤلاء .
ولا أظن مقاعد الصفوف الأولي في الحافلات العامة، والمخصصة لكبار السن والمعاقين، حين يجلس عليها أصحاء بلا مبالاة ، إلا دليلا علي مدى ما وصل إليه بعضنامن تراجع تربوي ، وتدن في الذوق العام.
إن الله جل وعلا سيعوض - كما وعد وهو أصدق من وعد - من فقد حبيبتيه بالجنة إن صبر واحتسب ، فبم عوضنا نحن إخواننا، وبم أعناهم على الصبر والاحتساب ؟
لقد وصف سبحانه وتعالي عبد الله ابن أم مكتوم بالأعمى حين عاتب رسول الله صلي الله عليه وسلم : (عبس وتولي * أن جاءه الأعمى ..* الآية) في لفتة رائعة إلى كراهة العبوس والتولي حتى عمن لا يروننا .
لم يكن الوصف تذكيرا بالإعاقة، بل تكريما له وتنبيها لنا.
فهل انتبهنا أم ما يزال بيننا كثيرون يحملون في جيوبهم أقلاما ملونة يلطخون بها ملابس من لا يرونهم ؟
===============
بأصفيائك توزن أخلاقك
إن أعظم ما يعين المسلم على تحقيق التقوى ، والاستقامة على نهج الحق والهدى ، مصاحبة الأخيار ، ومصافاة الأبرار ، والبعد عن قرناء السوء ومخالطة الأشرار ؛ لأن الإنسان بحكم طبعه البشري يتأثر بصفيِّه وجليسه ، ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله، والمرء إنما توزن أخلاقه وتعرف شمائله بإخوانه وأصفيائه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).( رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح ) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " ما من شيء أدل على شيء من الصاحب على الصاحب " . ومن كلام بعض أهل الحكمة : ( يظن بالمرء ما يظن بقرينه ) .
فلا غرو ـ حينئذ ـ أن يعنى الإسلام بشأن الصحبة والمجالسة أيما عناية ، ويوليها بالغ الرعاية، حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فرد من أفراد الأمة إلى العناية باختيار الجلساء الصالحين واصطفاء الرفقاء المتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا تصاحب إلا مؤمنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي " (رواه أبو داود والترمذي بإسناد حسن ) .(3/122)
كما ضرب صلى الله عليه وسلم للأمة مثل الجليس الصالح والجليس السوء بشيء محسوس وظاهر، كل يدرك أثره وعاقبته، ومقدار نفعه أو ضرره . فقد أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة " .
قال الإمام ابن حجر تعليقا على هذا الحديث : " فيه النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما).
لذا .. فإن من الحزم والرشاد، ورجاحة العقل وحصافة الرأي ألا يجالس المرء إلا من يرى في مجالسته ومؤاخاته النفع له في أمر دينه ودنياه ، وإن خير الأصحاب لصاحبه، وأنفع الجلساء على جليسه من كان ذا بر وتقى، ومروءة ونهى، ومكارم أخلاق، ومحاسن آداب وجميل عوائد مع صفاء سريرة، ونفس أبية وهمة عالية.
وتكمل صفاته ويجل قدره حين يكون من أهل العلم والأدب والفقه والحكمة، إذ إن هذه صفات الكمَّل من الأنام الذين يأنس بهم الجليس، ويسعد بهم الصديق، لإخلاصهم في المودة، وإعانتهم على النائبة، وأمن جانبهم من كل غائلة. قال عمر بن الخطاب : عليكم بإخوان الصدق فإنهم عون لكم عند الرخاء وعدة عند البلاء .
فمن وفق لصحبة من كانت هذه صفاته وأخلاقه ، وتلك شمائله وآدابه ، فذلك عنوان سعادته ، وإمارة توفيقه ، فليستمسك بغرزه، وليعض عليه بالنواجذ، وليرع له حق الصحبة بالوفاء والصدق معه، وتوقيره وإجلاله ومؤانسته حال سروره، و مواساته حال مصيبته، وإعانته عند ضائقته، و التغاضي عن هفواته، والتغافل عن زلاته، إذ السلامة من ذلك أمر متعذر في طبع البشر، وحسب المرء فضلا أن تعد مثالبة ومعايبه .
وإن شر الأصحاب على صاحبه ، وأسوأهم على جليسه ، من ضعفت ديانته وساءت أخلاقه ، وخبثت سريرته ، ولم تحمد سيرته، من لا هم له إلا في تحقيق مآربه وأهوائه ، ونيل شهواته ورغباته ، وإن كان على حساب دينه ومروءته ، ولربما بلغ الحال في بعض هؤلاء ألا يقيم للدين وزنا .
....................
مجلة الدعوة
============
السعادة
قالوا السعادة في السكون .. .. .. وفي الخمول وفي الخمود
في العيش بين الأهل .. .. .. لا عيش المهاجر والطريد
في لقمة تأتي إليك .. .. .. بغير ما جهد جهيد
في المشي خلف الركب .. .. .. في دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال .. .. .. فلا اعتراض ولا ردود
في أن تسير مع القطيع .. .. .. وأن تُقاد ولا تقود
في أن تعيش كما يُراد .. .. .. ولا تعيش كما تريدُ
قلت الحياة هي التحرك .. .. .. لا السكون ولا الهمود
وهي التفاعل والتطور .. .. .. لا التحجر والجمود
وهي الجهاد وهل يجاهد .. .. .. من تعلق بالقعود
وهي الشعور بالانتصار .. .. .. ولا انتصار بلا جهود
وهي التلذذ بالمتاعب .. .. .. لا التلذذ بالرقود
هي أن تذود عن الحياض .. .. .. وأي حر لا يذود
هي أن تحس بأن كأس الذل .. .. .. من ماء صديد
هي أن تعيش خليفة في الأرض.. .. .. شأنك أن تسود
وتقول لا وبملء فيك .. .. .. لكل جبار عنيد
هذي الحياة وشأنها .. .. .. من عهد آدم والجدود
فإذا ركنت إلى السكون .. .. .. فلذ بسكان اللحود
إن السعادة أن تعيش.. .. .. لفكرة الحق التليد
وتعلم الفكر السوي .. .. .. وتصنع الخُلق الحميد
==============
رسالة إلى خطيب
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد :
فإن الدعوة إلى الله تعالى من أفضل الأعمال ، وكيف لا تكون كذلك وهي رسالة الرسل والأنبياء ، وطريق المصلحين والعلماء ، لا يقوم الدين إلا بها، ولا ينتشر إلا عن طريقها.
الداعي إلى الله تعالى قائل بأحسن قول : قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].
ولقد بشر الله سبحانه الدعاة إلى الله بالفلاح في الدنيا والآخرة : فقال سبحانه وتعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة لازمة لعباد الله المؤمنين : قال سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة:71].
وحسبك أخي الداعية أن المخلوقات تدعو لك بظهر الغيب ؛ فقد روى الترمذي بسند جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [إن الله وملائكته ، حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت في البحر ، ليصلون على مُعَلِّمِ الناس الخير ] .(3/123)
أخي ـ خطيب الجمعة ـ : إن خطبة الجمعة لها أهمية كبرى بين وسائل الدعوة المتاحة للدعاة ، فقد يتكاسل الناس عن المحاضرة ، وقد يتخلفون عن الدرس، لكنهم لا يتخلفون عن الجمعة ، إلا الذين لا يصلون أصلاً ، لأن المسلمين مأمورون جميعا بحضور الجمعة . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة:9]. ولذا فقد تجد أمامك جمعا غفيرا من المسلمين ، وربما تجد من بينهم من لا يدخل المسجد إلا يوم الجمعة ، وستجد فيهم الصالح والطالح ، والمفرط والمحافظ ، والمتواضع والمتكبر ، والمتقبل والمعاند . بل ستجد منهم المتعلم والأمي ، والصغير والكبير، والذكر والأنثى ، وغير ذلك من فئات المجتمع ، فكيف تخاطب هؤلاء جميعا بالأسلوب المناسب ، وكيف تستغل هذا الموقف للأخذ بأيدي هؤلاء جميعا إلى طريق الله عز وجل ؟
فبات من الواجب عليك ـ أخي الخطيب ـ أن تتعلم فن الدعوة ؛ لتقدم تعاليم الإسلام في أبهى منظر وأجمل حلة .
أسباب نجاح الخطبة
1ـ التكلم باللغة العربية الفصحى :
ينبغي على الخطيب أن يحرص على أن يلقي خطبته بالفصحى قدر جهده ، لأنها لغة القرآن الكريم، وشعار الإسلام .
والحديث بالفصحى يضفي على خطبتك إشراقا ، وعلى كلماتك نوراً ، وفي نفوس مستمعيك قبولا
2ـ التوسط في الإلقاء :
بحيث لا يكون كلامك سريعا فلا يفهم ، ولا بطيئا فيمله السامعون ، ولتعط لكل موقف ما يلزمه ، فإذا احتاج إلى انفعال أسرعت ، وإن احتاج إلى إقناع أبطأت .
3ـ الاقتصاد في الخطبة :
فلا تكون طويلة مملة ، ولا قصيرة مخلة ، ولا تكون متشعبة الأفكار ، كثيرة الشواهد ، ركيكة المعاني ، بل موجزة مقتصدة ، وتلك هي السنة ، فقد قال سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم: (إنَّ قصر خطبة الرجل ، وطول صلاته ؛ مئنة من فقهه). ( رواه مسلم ) ، لأن القصر والإيجاز وإيصال المعنى من أقرب طريق؛ دليل على الفصاحة والعلم والفقه .
4ـ ربط الخطبة بالواقع :
عليك أن تتحسس مشاكل مدينتك وتعالجها من فوق أعواد منبرك ، تعايش الناس وتترك المنبر يجيب عن تساؤلاتهم ، فحينما تكون خطبتك منتزعة من الواقع تكون أقرب إلى قلوبهم وأوقع في نفوسهم .
5ـ المخاطبة على قدر الفهم :
فلا تخاطب العوام بمنطق علمي مرتفع ، ولا المتعلمين المثقفين بمنطق بدائي ممجوج ، بل تخاطب الناس على قدر عقولهم وعلومهم .
6ـ الترفع عن الغلظة في القول والبذاءة في اللسان :
فلا تحقر مستمعيك ، ولا تقلل : من شأنهم ، ولا ترميهم بالجهل وقلة الفهم ، ولا تقذفهم بالفسق والفجور ، أو غير ذلك مما لا يليق بمكانة الداعية ـ حتى ولو كانوا كذلك ـ، بل تتلطف بهم في الحديث ، وترفق بهم في القول . قال تعالى ـ مبينا سبب اجتماع الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم ـ: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ َ) [آل عمران:159]. وقال تعالى ـ مرشداً للطريقة المثلى في الدعوة : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل:125].
7ـ استثارة همم المدعوين بما يفتح قلوبهم :
كان تخاطبهم بـ ( يا أخوة الإسلام ) ، ( يا أيها المؤمنون ) ، ( يا من آمنتم بالله ربا ، وبمحمد نبيا ، وبالإسلام دينا ) ، وما شابه ذلك مما يفتح قلوبهم ويقرب نفوسهم ، فإن المحبة مفتاح القلوب .
فهذا إبراهيم عليه السلام يذكر أباه برابطة الأبوة أثناء دعوته ، فيقول : ( يا أبت ..) [مريم : 42] ، ويكررها كثيراً .
وهذا لقمان يذكر ابنه برابطة البنوة ليكون أدعى لقبول الموعظة ، فيقول: (يا بني لا تشرك بالله ...) [ لقمان: 13].
وهذا هود عليه السلام يذكر قومه برابطة القرابة فيقول : ( يا قوم .. ) [ هود : 50].
وربنا تبارك وتعالى يذكر المؤمنين بإيمانهم ، ليردهم وازع الإيمان إلى الاستجابة والطاعة ،فيقول سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا ... ) [ البقرة : 153].
8 ـ الابتعاد عن الحركات الكثيرة :
ينبغي أن تتسم بالاتزان أثناء الإلقاء ، فلا تتحرك أو تشير إلا في الموقف الذي يدعو إلى ذلك ، وعليك بتجنب الحركات التي تسقط هيبتك من أعين الناس، مثل كثرة بلع الريق ، وفتل الأصابع ، والسعال المتكلف، وكثرة الالتفات ، وما شابهها .
9 ـ حسن المظهر :
ينبغي أن تصعد المنبر بالمظهر اللائق بالداعية ، فلا تلبس ثيابا رثة ، أو ممزقة ، ولا تلبس ثياب المترفين الرقيقة الشفافة .
فعليك أن تكون نظيف الثياب من غير تبرج ، طيب الرائحة من غير إسراف ، مهيب المنظر من غير تكلف .
10ـ التحضير الجيد للخطبة :
لا تصعد المنبر إلا وقد حددت موضوعك ، ورتبت أفكارك وانتقيت ألفاظك ، حتى لا ترتج عليك العبارات ، وتستعجم عليك الكلمات ، فلا تتمكن من تبليغ دعوة مولاك .
ولا بأس في أن تستمع إلى أشرطة الخطباء المشهورين ، والوعاظ المبرزين لتتدرب على طرق الإلقاء ، ووسائل التأثير ، وأساليب الإقناع .
11. ألا تصعد المنبر وأنت ممتلئ المعدة :
لأنه إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، و خرست الحكمة ، وكسلت الأعضاء عن العبادة . وقال محمد بن واسع : من قل طعامه فهم ، وأفهم وصفا و رقَّ ، وإن كثرة الطعام لتثقل صاحبها عن كثير مما يريد . وقال الشافعي : الشَّبع يثقل البدن ، ويزيل الفطنة ،ويجلب النوم ، ويضعف صاحبه عن العبادة .
تلكم هي أسباب نجاح الخطبة ، فاحرصوا عليها إخواني الخطباء ، وكونوا منها على ذكر دائما ، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه .
=============
كرامة الإنسان(3/124)
في المجتمع الإسلامي الرفيع ، يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم ، آمنين على عوراتهم وأسرارهم ، ولا يوجد مبرر ـ مهما يكن ـ لانتهاك تلك الحرمات، وحتى ذريعة تتبع الجريمة وإثباتها لا تصلح في النظام الإسلامي مسوغاً للتجسس على الناس ، فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم.
إن التحرر من الخوف الظالم، هو الذي يفتح الطريق أمام الشعوب العربية لحياة كريمة، تُحترم فيها حقوقها، وتُصان فيها آدميتها، فسحق كرامة الإنسان هو السبب المباشر فيما تعانيه الأمة العربية والإسلامية اليوم، لأن المظلوم والمستعبد لا يحرر أوطانا، ولا يدفع عدوانا، ولا يستطيع أن يعمر أو يبني، ما دام لا يشعر بالأمان والاستقرار.
إن كل نظام سياسي أو اقتصادي، وطني أو عالمي، لا يتخذ تطبيق (( كرامة الإنسان )) غاية له، هو نظام فاسد، ومصيره العاجل والآجل التفتت والانهيار.
فأين الإنسان اليوم من هذا التكريم ؟!
لقد فقد كل شيء؛ حقوقه وحريته وكرامته، وأصبح لعبة في أيدي المعتدين، يمكن أن يعتقل دون أن يحقق معه، وأن يسجن وأن يعذب ويلقى في غياهب السجون بغير ذنب ارتكبه .
إن أي أمة لا تنهض بدون عقيدة تحوطها حرية وكرامة وهدف ، كما أن تفريغ العقول والقلوب من العقيدة والفهم والأخلاق لهو أمر خطير على الأمة ومستقبلها، وقيام البعض بتصوير التدين على أنه تهمة، والجدية تخلف، والالتزام تنطّع ، والحرية إثم كبير لهو أمر في غاية العجب !!.
..............
مجلة: البلاغ
==============
الزمن المقلوب ، وفيتامين واو
تكبير الصغير وتصغير الكبير، وتحقير العظيم وتعظيم الحقير، تقديم المتأخر وتأخير المتقدم، كلها معاول هدم وأدوات خراب، إذا أصيب بها أي مجتمع فأقم عليه مأتماً وعويلاً، فأصحاب الكفاءات النادرة والتخصصات الرفيعة حين يجدون أمامهم الأبواب مغلقة والفرص مزوَرَّة، ومتاحة لغيرهم ممن هم أقل كفاءة وخبرة، لا شك ستجمد إبداعاتهم ويصابون بخيبة الأمل.
إن الوساطة الغاشمة التي تقدم من لا يستحق التقديم، وتؤخر من تؤهله قدراته أن يكون في مكان الصدارة، هي نذير شؤم، وويلات بلاء، وسقوط سحيق في مستنقع الهاوية.
وقد اعتبر الإسلام هذا المسلك من علامات الساعة، حين سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن علاماتها قال: "إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة" قيل فكيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ".
كما أن القرآن الكريم عول على أن الكفاءة والتخصص هما وحدهما اللذان يؤهلان أصحابهما للأعمال المناسبة لهم، فقال على لسان يوسف عليه السلام : ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55].
وقالت ابنة شعيب عليه السلام لأبيها عن مؤهلات موسى صلى الله عليه وسلم : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين " .
كما أن الله تعالى قرر في كتابه أن المؤهلات وحدها هي التي ترفع أصحابها حين ذكر قصة طالوت وجالوت، فقال على لسان نبيهم :" إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه لمن يشاء " ، فالمؤهلات وحدها هي التي رفعت من شأن هذا القائد وجعلته في الصدارة .
لقد أمر الإسلام بالشفاعة الحسنة التي تمنح الحق لصاحبها وتلفت النظر إلى قدراته، ولكنه منع منعاً صارماً من أن تكون الشفاعة على حساب الآخرين بسبب القبيلة أو الجنس أو اللون.
ـــــــــــ
مجلة البلاغ
=============
لو أقسم على الله لأبره
إن لله عباداً اختصهم - تبارك وتعالى - بمنزلة وفضيلة ليست لغيرهم من الناس، ومن هؤلاء من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: "رُبَّ أشعثَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" (رواه مسلم)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم :" ألا أخبركم بأهل الجنة ؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره . ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر«" (رواه البخاري ومسلم).
وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الضعفاء وشأنهم، فقال لسعد ابن أبي وقاص - رضي الله عنه - حين رأى أن له فضلاً على من دونه:"هل تُنصَرون وترزقون إلا بضعفائكم "(رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:" ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم"(رواه أحمد والترمذي)، وقال صلى الله عليه وسلم :"طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذَن له، وإن شَفَعَ لم يشفَّع "(البخاري).
وتفاضُلُ الناس إنما هو بمعيار واحد وميزان واحد هو التقوى فأكرمهم عند الله أتقاهم.
هذه الحقائق البدهية والمسلَّمات التي يعيها كل مسلم مهما كانت ثقافته وعلمه قد تغيب عن بعضنا بفعل مؤثرات أخرى .
ومن ذلك : أن أرباب الأعمال، بل والدعاة إلى الله يعتنون بفئات معينة من الناس ؛ فصاحب الذكاء، والرجل القيادي ، وصاحب الشخصية الجذابة يجدون من التقدير والاعتبار لدى هؤلاء ما لا يجده غيرهم ، ويبحثون عنهم ويعتنون بهم لأنهم هم المؤهلون لتولي الأعمال والمسؤوليات ويرى هؤلاء أن الرجل الصالح - مهما بلغ من التقى والزهد والعبادة - ما لم يكن يحمل مواصفات القيادية فليس هو المؤهل لتولي المسؤولية.
وهذا أمر لا نزاع فيه؛ فقد قال - تعالى - على لسان ابنة شعيب: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" [القصص:26].
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه :يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم.(3/125)
ومع ذلك قال عنه صلى الله عليه وسلم:"ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجةً من أبي ذر"(رواه احمد).
وحين نفرق بين تأهل شخص لتولي مسؤولية أو الاعتناء بتربيته ورعايته وإعداده، وبين المحبة والولاء واعتقاد الفضيلة، فإننا نقف موقف الاعتدال في التعامل مع هذه القضية، ونضع النصوص الشرعية في موضعها.
كما لا يسوغ أن يدعونا شعورنا بكون فلان أوْلى بهذه المسؤولية إلى التقليل من شأن الآخر، فضلاً عن أن ننظر بازدراء أو استخفاف لمن نعتقد أنَّا قد فُضِّلنا عليه بالعقل والإدراك ؛ فهذا مزلق خطير، وهو من باب غمط الناس وازدارئهم، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
بل والصحوة اليوم تحتاج لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لا يأبه لهم الناس ، ولو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء فلعلها تُنصر وتُوفق بدعائهم وصدقهم مع الله تعالى.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يرزقنا البصيرة والفقه في الدين، وأن يجعلنا من عباده المتقين، إنه سميع مجيب .
============
يدعو إلى الله وهو بين الصفين
في معركة اليرموك خرج من بين صفوف الروم جَرَجَة – واسمه جورج بن تيودور، وكان يجيد اللغة العربية – حتى كان بين الصفين ونادى : ليخرج إليّ خالد ، فخرج إليه خالد دون تردد ، وأقام أبا عبيدة مكانه ، فوافقه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما ، وقد أمن كل منهما صاحبه .
فقال جرجة : يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب ، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله ، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسلّه على قوم إلا هزمتهم ؟
خالد : لا .
جرجة : فيم سميت سيف الله المسلول ؟
خالد : إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم ، فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعاً ، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه ، فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه ، فقال : أنت سيف من سيوف الله سلّه الله على المشركين ، ودعا لي بالنصر ، فسميت سيف الله بذلك ، فأنا من أشد المسلمين على المشركين .
جرجة : صدقتني . ثم أعاد عليه جرجة : يا خالد ؟ أخبرني إلام تدعوني ؟
خالد : إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله .
جرجة : فمن لم يجبكم ؟
خالد : فالجزية ، ونمنعهم .
جرجة : فإن لم يعطها ؟
خالد : نؤذنه بحرب ثم نقاتله .
جرجة : فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا ؟
خالد : منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا ، شريفنا ووضيعنا ، وأولنا وآخرنا .
جرجة : هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل مالكم من الأجر والذخر ؟
خالد : نعم وأفضل ؟
جرجة : وكيف يساويكم وقد سبقتموه ؟
خالد : إنا دخلنا في هذا الأمر وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو حي بين أظهرنا ، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب ويرينا الآيات – المعجزات – ، وحق لمن رأى مثل ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع ، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج ، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا .
جرجة : بالله ، لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني ؟
خالد : بالله ، لقد صدقتك ، وما بي إليك ولا إلى أحد منكم حاجة ، وإن الله لولي ما سألت عنه .
جرجة : بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني ، علمني الإسلام .
فمال به خالد إلى فسطاطه ، وسكب على جسمه الماء من كل جهة لكي يتطهر قبل صلاته ، ثم صلى ركعتين بعد أن علمه خالد الصلاة ، ثم خرج جرجة فقاتل المشركين حتي قتل.
في هذا الحوار كثير من المعاني الرائعة التي تستحق الوقوف معها ومن هذه المعاني :
- تواضع سيف الله خالد عندما قال : أنا من أشد المسلمين على المشركين ، فكلمة (من) جعلت الجملة تفهم جرجة أن في الجيش كثراً من أمثال خالد .
- الحوار الذي دار أسلوب جميل للدعوة إلى الله، دعوة إلى معروف بمعروف ببساطة ووضوح .
- توضح الفقرات احترام خالد التام لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
- يدل الحوار على شيء غفل عنه كثيرون ألا وهو : لوترك الملوك الدعوة الإسلامية وخلوا بينها وبين شعوبهم لجرت مثل هذه المناقشات، فترى الشعوب بساطة ووضوح العقيدة الجديدة ومساواتها بين أميرها ووضيعها، ومساواة حامل الدين الذي أسلم قبل سنوات وبين من سيسلم حديثاً كلهم أخوة وحقهم واحد وثوابهم واحد، ولدخلت في دين الله هذه الشعوب .
..............................
اليرموك ، د/ شوقي أبو خليل
================
وقفة حساب
الحمد لله قسم الزمان قرونًا، وعقودًا، وسنوات، وأشهرا، وأسابيع، وأيامًا، وليالي، وساعات، وقسم الساعات دقائق وثوان، وجعل للإنسان عمر خبأه، وجعل للإنسان أعمالاً قدرها ويسرها.
وكل عبد ينظر نتيجة عمله من زراعة أو تجارة أو صناعة ، أو غير ذلك، ويحصي ربحه أو خسارته ليستفد من يومه إلى غده، ومن عام مضى إلى عام يستقبله، وإن العمر حلقات تنتهي بالموت، وليس الموت عدمًا، إنما الموت انتقال من حياة العمل إلى حياة الحساب، ففي القبر سؤال وفيه نعيم، أو عذاب، ثم إن بعد الموت بعثًا وحشرًا، يكون فيه الوزن والحساب والصراط والميزان، ثم جنة أو نار .
فمن حَسُن وعيه استدرك على نفسه الخطأ، فقوَّمه، وعرف الصواب فالتزمه؛ لذا وجب على العبد أن يقف مع نفسه وقفة حساب؛ ليتوب من كل ذنب وقع فيه، حتى يقبل على ربه وقد عمل ما يُرضيه، فينجيه من النار، ويدخله الجنة.
معالم وقفة الحساب(3/126)
وإن لوقفة الحساب هذه معالم وضوابط، نريد أن نجمل بعضها لتكون هادية لمن أراد أن يستهدي، ومرشدة لمن أراد أن يسترشد، فنقول مستعينين بالله تعالى:
أولاً: إن الحساب الذي يحاسب به العبد، والميزان الذي يوزن به العمل، والصحيفة التي يأخذها يوم القيامة ويُقال له: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا )، إنما قد كتب فيها الأعمال، كما قال تعالى: ( ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاصها ) ( الكهف : 49 )، وكما قال سبحانه: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره . ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره ) ( الزلزلة : 7، 8) . وهذه الأعمال توضع في الميزان ويتأثر بها العبد؛ لذا قال سبحانه وتعالى: ( وأما من خفت موازينه ، فأمه هاوية ، وما أدراك ماهية ، نار حامية ) ( القارعة:7 - 11 ).
فقد يخف الميزان بسبب ذرة من العمل تنقص لتركه مشروعًا، أو بسبب سيئة تقع لارتكابه ممنوعًا، أو يثقل بسبب ذرة من العمل المشروع بفعله، هذا يعني أن العبد لا يستهين بصالح العمل، فيترك منه شيء، ولا يسيء العمل فيقترف منه شيئ، فرب العزة سبحانه يقول: ( ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد)( ق : 18 )، ويقول سبحانه: ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما )( الإسراء:23 )، فحذر من أصغر الكلمات ، وفي الحديث : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من مرضاة الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت، فتبلغ به إلى الجنة، وإن العبد ليتلكم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ما يظن أن تبلغ به ما بلغت ، فتبلغ به إلى النار ". وفي الحديث عن جابر عند مسلم مرفوعًا: " إن الشيطان أيس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي بما تحقرون ".
وأمثلة تلك الأعمال الصالحة كثيرة، وكذلك الأعمال المهلكة، فامرأة تدخل النار في هرة؛ لأنها حبستها حتى ماتت، وأخرى بغي تدخل الجنة؛ لأنها سقت كلبًااشتد به العطش .
ثانيًا: الله مُطَّلع على العباد جميعًا، وقد جعل معهم الملائكة يكتبون، فلا يتركونهم في حال من أحوالهم، إنما هم معهم، لذلك فإن العبد يخلو بنفسه ويسافر من بلده ومع ذلك الملائكة معه، فقيام الليل يكتبونه، وفلتان اللسان يقيدونها، وغدرات السر لا يفوتونها، فواضعوا القوانين من البشر، وكذلك الذين يراقبونك أو يحاسبونك يمكنك أن تراهم وتعرف أهواءهم وترصد وجودهم وغيابهم؛ لذا فإنك تنتهز منهم غرة، وتبحث في نظامهم عن ثغرة، وتنتظر منهم غفلة أو تحقق لهم ما يريدون من شهوة أو تغريهم بعطاء كل ذلك لتفلت من حسابهم .
أما ملائكة رب العالمين فليسوا ذكورًا تغريهم بالنساء، ولا نساء نزوجهن من رجال عندنا، لا يأكلون أو يشربون فنهدي إليهم طعامًا نستميلهم به، وهم معنا لا يتركوننا ساعة من ليل أو نهار .
ثالثًا: إن القلم يوضع على العبد إذا بلغ الحُلُم فلا يرفع عنه إلا في نوم أو جنون أو إغلاق (شدة غضب)، ويستمر ذلك حتى يموت وتكتب أعمال العبد في صفحة لا تستبدل ، فكم من ذنب بقي في الصفحة أثره، وكم من توبة لم تقبل لوقوع الخلل في نفس التائب بإصرار أو عدم استجماع صدق وعزم .
رابعًا: ينبغي ألا ينسى المكلف أنه عبد مخلوق؛ خلقه الله لعبادته، وأنه ملك لسيده ومولاه، والملوك إن عمل لسيده ما أراده منه فقد قام بالواجب الذي عليه ولا يستحق عليه أجرًا، فإن عمل عند غير سيده فإن كان بإذن، فالذي يقبضه من الأجر هو ملك لسيده، وإن كان بغير إذنه فهو معصية ومخالفة يستحق عليها العقوبة، على هذا فإن العبد غير مستحق للأجر إذا عمل بما أمره به ربه، ومستحق للوزر إذا خالف أو قعد عن تنفيذ أمره.
هذا في العبد المملوك لسيده يطعمه ويسقيه ولا أجر له على عمل يؤديه، ولكن العبد مخلوق خلقه ربه سبحانه ورزقه وهو يرعاه .
فإذا علم العبد أن الله يأجره على الصالحات من الأعمال أيقن أن ذلك فضل من الله سبحانه وليس استحقاقًا منه لذلك الثواب، فيبقى نظره متعلقًا بفضل الله الذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.
فرؤية العمل باب المعصية وسبب جرأة العبد على ربه وترك طاعته، وعلاج ذلك أن يرى العبد فضل الله تعالى عليه من العلم، فالطائع مدين إلى ربه بالهداية والتوفيق، فليزمه لذلك أن يشكر ربه وأن يملأ القلب عرفانًا بفضله ونعمه أن جعله من المؤمنين ولم يجعله من الكافرين .
خامسًا: لربي عليّ منن عظيمة وأفضال جسيمة؛ منها تلك الأعضاء التي وهبني إياها بغير سابق عطاء مني واستحقاق لي ، وهو سبحانه خلقها لطاعته وعبادته: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين )( الذاريات : 56-58 )، وإن الله قد جعل عليها( الأعضاء) صدقات ففي الحديث: " يصبح على كل سلامي من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس " .
ففي كل يوم يمر على العبد فعلى كل عضو منه صدقة، فكم من نعمة لله على عبده ، وكم من يوم مر من عمره، فكم وفَّى من الصدقات، وكم بقي عليه من الديون، وكل ذلك داخل الميزان.
هذه لمحة يسيرة من وقفة الحساب التي ينبغي للعبد أن يقوم بها مع نفسه . والله من وراء القصد.
===============
التاجر الصدوق
الصدق أمر مطلوب من جميع الناس، لكن من التجار وأرباب الصناعات يتأكد، وذلك لغلبة حب المال عند هذه الفئة أكثر من غيرها، وقد ورد في الشريعة الإسلامية ما يحث على الصدق، وأن منزلة التاجر الصدوق عند الله عز وجل منزلة عظيمة، وقد كان عدد من الصحابة رضي الله عنهم يمارسون التجارة ويؤدون الذي عليهم فيها، وقد ذكر الحافظ ابن حجر حديث : " والتاجر الصدوق ممن يظلهم الله في ظله" وقد جود الحديث .(3/127)
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما قوله صلى الله عليه وسلم: " البيِِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " .
ومقام الصديقين مقام رفيع، ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراده ، وبدايته الصدق، وتحري الصدق في البيع والشراء، وكل شؤون الحياة.
وقد ذكرت كتب السير نماذج رائعة للتجار الذين صدقوا في بيعهم ولم يغشوا أحدًا ـ من عامة الناس أو خاصتهم ـ، ومن ذلك ما قاله النضر بن شميل: غلا الخز في موضع كان إذا غلا هناك غلا بالبصرة، وكان يونس بن عبيد خزازًا، فعلم بذلك ، فاشترى من رجل متاعًا بثلاثين ألفاً، فلما كان بعد ذلك قال لصاحبه : هل كنت علمت أن المتاع غلا بأرض كذا وكذا ؟ قال : لا ، ولو علمت لم أبع . قال : هلم عليّ مالي ، وخذ مالك ، فرد عليه الثلاثين ألفًا، وأعطاه يونس الخز .
وحمزة بن حبيب الزيات شيخ القراء، قال عنه الذهبي: كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ثم يجلب منهما الجبن والجوز .. وكان ثخين الورع ، رفيع الذكر . قال عنه ابن فضل: ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة .
قال حسين الجعفي: ربما عطش حمزة فلا يستقي – يعني لا يطلب من أحد أن يعطيه الماء ، كراهية أن يصادف من قرأ عليه . فما ظنك بورعه في تجارته !!
وعبد الله بن المبارك تاجر صدوق .. قال عنه عبد الرحمن بن مهدي : ما رأت عيناي مثل أربعة: مارأيت أحفظ للحديث من الثوري ، ولا أشد تقشفًا من شعبة ، ولا أعقل من مالك ، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك .
فإذا كان ابن المبارك أنصح الناس للأمة، فما ظنك بصدقه في تجارته، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
فكانوا رحمهم الله يتعاملون بصدق وينفقون بسخاء على فقراء المسلمين.
وقال أحيد بن حفص: دخلت على إسماعيل والد أبي عبد الله البخاري عند موته فقال: لا أعلم من مالي درهمًا حرام ولا درهمًا من شبهة .
فكانوا ينزهون أموالهم من كل شائبة خشية الوقوع في ما حرم الله عز وجل، ولهذا كانوا مستجابي الدعوة، فإن من أعظم أسباب استجابة الدعوة أكل الحلال .
قال أبو سعيد بكر بن منير: كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه أبو حفص، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم ، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف درهم، فردهم، وقال: إني نويت البارحة أن أدفعها إلى الأولين فدفعها إليهم، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي .
إن التجار بحاجة إلى أن يقرؤوا سير الصادقين من التجار من سادات هذه الأمة وممن يستقي بهم المطر .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
===============
كرمها الإسلام فتركت النصرانية
ولدت مريم هيكورن عام 1959م لأبوين بلجيكيين ينتميان إلى المذهب الكاثوليكي النصراني، وعلى دين والديها شبت الصغيرة تعتنق مذهب الكثلكة ، مع عدم التزامه، لكونها - مثل أسرتها- غير متدينة.
وحتى سن العاشرة لم تكن مريم قد سمعت شيئاً عن دين اسمه الإسلام، فكل معرفتها وعلاقتها بالأديان لا تتعدى النصرانية، ولهذا عندما سمعت بعض أصدقائها يذكرون الإسلام بسخرية لم تجد غضاضة في أن تشاركهم الضحك والتعليق الساخر، إذ لم يطف برأسها وهي في تلك السن الصغيرة أنها سوف تصبح يوماً مسلمة.
أخلاق محيرة
ولأنها شبت في أسرة غير متدينة، فقد كانت مريم تؤمن بالله على عقيدة النصارى، لكن دون أن تدرك معنى كلمة الله ، بل كانت تجد في أخلاق الكاثوليك وتصرفاتهم ما يثير في نفسها الحيرة من تشدقهم برعاية الأخلاق ؛ فيما يدوسون كل يوم - حتى في الكنيسة - على ما ينادي به كتابهم المقدس من مبادئ ، لكنها حين كبرت قليلاً وصارت في الثالثة عشرة من عمرها بدأت روح المراهقة داخلها تطلق تساؤلات، وتطالبها بالسعي إلى الدين . ولكن .. إلى أي دين تسعى؟!
كان هذا السؤال يؤرق بالها، إذ أنها لم تسترح لموضوعات كثيرة سمعتها في الكنيسة عن العقيدة النصرانية ، وفي الوقت ذاته سمعت واختلطت بأديان أخرى مثل اليهودية والبوذية ، أما الإسلام فلم يرد ببالها، لأن كل معلوماتها عنه لا تتعدى ما سمعته من وسائل الإعلام، وهي بطبيعة الحال غير أمينة في نقل صورة حقيقية عن هذا الدين القيم .
حين بلغت مريم هيكورن عامها العشرين، وتحديداً عام 1979م، كانت قد التقت بالرجل الذي اختاره الله ليكون زوجاً لها، كان شاباً مغربياً مسلماً يدعى فؤاد بن ميلودي البادي ، وعلى الرغم من كونه مسلماً إلا أنه لم يكن ملتزما لكنه كان - بطريقة غير مقصودة - طريقاً من الطرق التي عرفت من خلالها أشياء كثيرة عن الإسلام ، إذ زارت المغرب والتقت بمسلمين كثر .
موعد مع الهداية
على أن الهداية جاءت لها على يد امرأة بلجيكية ذهبت إلى الهند عام 1982م وأسلمت ، ولأنها صديقة لمريم، فقد كانت تزورها، وذات يوم قبل أن تغادر إلى بريطانيا تركت ذكرى طيبة في منزل مريم ، هي نسخة من ترجمة فرنسية لمعاني القرآن الكريم، وحين قرأت مريم الترجمة، وجدت نفسها تبحث عن الإسلام، وقررت أن تدرس العربية، فالتحقت بالمركز الإسلامي ببروكسل عام 1984م وصارت مسلمة.
لقد شاء الله ألا ينقذ روح مريم الحيرى وحدها، لكنه تعالى أنقذ روح زوجها معها، إذ أن المهتدية الجديدة حين أسلمت بدأت تسأل زوجها المسلم غير الملتزم عن أشياء كثيرة ، ويتناقشان ، وكان ثمرة هذا النقاش أن صار الزوج من ملتزمي الإسلام ، بل إن تأثيرها امتد ليشمل أخوات زوجها اللواتي لم يكن ملتزمات بالحجاب والصلاة ، فأثرت مريم بإيمانها الشديد فيهن .(3/128)
وهنا يطفو سؤال: وماذا كان موقف أسرتها هي من إسلامها ؟
إن الأمر كان صعباً على أسرتها ، فعلى الرغم من عدم التزام الأسرة الديانة النصرانية ، إلا أنها لم تتخيل أن تترك ابنتها عقيدة آبائها يوماً؛ من هنا كان رفضهم لإسلام مريم، وبخاصة الأم، إلا أنهم بمرور الزمن بدؤوا يتقبلون الواقع، وبخاصة حين رأوا أن ابنتهم بعد إسلامها صارت أفضل مما كانت عليه أيام النصرانية ، وما لبث والدها أن بدأ يقرأ معاني القرآن الكريم مترجمة، والأمل كبير أن ينقذ الله روحه الحيرى ، ولا سيما بعد ما صار يعلن عن حبه للإسلام، لكن دون اتخاذ الخطوة المطلوبة نحو إشهار إسلامه.
المرأة الأوروبية مخدوعة
لقد أتاح كون مريم متزوجة من شخص مسلم فرصة لها في أن تقلل المعارضة لقرار إسلامها، ثم إنه أيضاً أتاح لها أن تتعرف إلى مسلمين، وان تقابل بين حال المرأة في أوربا، وحالها كما تراها شريعة الله التي هي الإسلام، فالمرأة في أوربا قد خدعوها باسم الحرية ، وأحالوها إلى مجرد دمية يتسلون بها، ففقدت أنوثتها، وفقدت كرامتها، وصارت لا تزيد على كونها لعبة يلهو بها الرجال وقتما يشاؤون..
فباسم المساواة جردوها من كل معاني الأنوثة، وباسم الحرية أقنعوها بالاستجابة لنداء الحيوان ، والعيش بدون زواج ، أما في الإسلام فقد وجدت مريم وضعاً آخر للمرأة ، التي لم تنل في أي عقيدة تكريماً أو موقعاً مماثلاً لذلك الذي لقيته من العقيدة الإسلامية التي أكرمتها زوجة وأماً وأختاً وابنة، وأتاحت لها حقوقاً لم تحصل عليها نظيراتها الغربيات ، وأولها حقها بعد الزواج في الاحتفاظ باسم عائلتها وشخصيتها وأهليتها المدنية كاملة، بعكس المرأة الغربية التي لا تلبث بعد الزواج أن تتسمى باسم عائلة زوجها، وتصبح حقوقها المالية مشتركة معه، ولا تكون لها حقوقها المالية المنفصلة.
وقد حرصت مريم على أن تقوم بتعريف صديقاتها من النساء البلجيكيات كل هذه الأمور البديهية عن الإسلام ، وتصحيح معلوماتهن المغلوطة عنه.
وتطالب مريم بأن يكون الدعاة المسلمون الموفودون إلى أوربا متحلين بسعة الذهن والفكر، وقادرين على فهم نفسية الأوربي وتكوينه الاجتماعي، والعقلية التي يفكر بها وقبل هذا وبعده يجب على الداعية أن يكون قدوة بسلوكه الطيب وأخلاقه الرفيعة ، ليكون مؤهلاً لأن يقتدي به غيره .
وترى مريم أوربا مؤهلة لتكون حقلاً خصباً للدعوة الإسلامية، فوسط ذلك الطوفان من الضياع الناتج عن اللهاث المادي وراء سراب الحياة ، تولد في نفوس شبابها ضياع لا حدود له، فالكثير منهم كاره للحياة ، كاره للكنيسة التي تخلت عن دورها في توجيه المجتمع ، وصار القساوسة يتسابقون للفوز بالمال أو أحد المناصب الكهنوتية. فالأوربي النصراني -
وإن تقدم علمياً وتقنياً على الشرقي المسلم- إلا أنه متأخر كثيراً روحياً، وما تزال أرواح كثيرة تبحث عمن يهديها إلى طريق الله ، ولو وجد الدعاة المخلصون الفاهمون لنفسية الإنسان الغربي لاستطاعوا أن يضموا كل يوم عشرات من القلوب التي تهفو فطرتها التي خلقها عليها الله عز وجل ، لكنها لا تعرف طريق الخلاص ، والمطلوب مزيد من الدعاة المخلصين حتى نؤدي حقوق هؤلاء في أن يجدوا من يرشدهم إلى الإسلام
=================
حِكَايَة الهِمْيَان
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة ، فيهبط على تلك الذرى المباركة قعيقعان وأبي قبيس ، فينساب مع نسيم البحر رخيا ناعشا، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت (محطة) بريد السماء ، ومنزل الوحي ، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين .
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها ، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، تقوم وراء الجبال الشم والبحار ، في المدن والقرى ، والصحاري والسهول ، والأودية والقمم ، والأكواخ ، والسجون و المغائر، في القفار المشتعلة حرا، و البطاح المغطاة بالثلج ... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
وأم أهل مكة البيت الحرام، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، عليه قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشدوا به بطونهم من طيبات الطعام ، من كل حلو وحامض ، وحار وبارد ، وسائل وجامد ، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع ، فقد أمسك للصوم بلا سحور ، ونام ليلته البارحة بلا عشاء ، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء ...
فلما قضى صلاته قعد على محرابه منكسرا حزينا، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حق نسي نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله وهو كاسبهاو معيلها، وهذه المناكب العارية … ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه ، و رأى الأغنياء يبذرون المال تبذيرا، و يضيع المئون الألوف بالباطل ، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده .. لثار على الدنيا، وذم الزمان ، وحقد على الناس ، ولكنه كان رجلا مؤمنا، يوقن أن الناس لا يملكون عطاء ولا منعا، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك ، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك ، رفعت الأقلام و جفت الصحف.
قال: الحمد لله على كل حال؟وقام فنزع القميص ، و نادى: يالبابة. فجاءته امرأة متلفعة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص و أخذ الخرقة فالتف بها… فقالت المرأة:(3/129)
يا أبى ، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاما، و هذا يوم صيام وحر … فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات و العجوز لا يقدرون على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن الله ، واخرج فالتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها فطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى ، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا، فلم يلق في تطوافه أحدا. واشتد الحر و تخاذلت ساقاه وزاغ بصره ، وأحس بجوفه يلتهب التهابا من العطش ،و كان فد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار.
وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمنا، فيتخلص من هذا الشقاء و ينال سعادة الأبد. و جعل ينكت التراب بيده، و هو سادر في أمانيه، فلمس بيده شيئا مستطيلا لينا فسحبها و نظر ، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله ، ثم عاودته رغبته في الموت ، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر أنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني إن كان الموت خيرا لي. فقالها واستغفر الله.
وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها، ولمسها برجله فلم تتحرك ، فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب ، عرفه من رنينه وثقله، فأحس جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أصابعه، والشباب قد عاد إليه … وتصور أنه سيحمل إلى نسائه الشبع والراحة، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة، ورغد العيش ، وجعل يفكر فيم يشتريه لهن ، وكيف يلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن، حتى كاد يخالط في عقله.
ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له:
إن هذا المال ليس لك . إنما هي لقطة لا بد لك من التعريف بها سنة، فإذا لم تجد صاحبها حلت لك.
وتصور السنة وطولها وهو يبحث عن عشاء يومه. وهل يبقى حيا سنة أخرى ؟ وهل تبقى أسرته في الحياة ؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعدما مات من الجوع ، ومات معه من يرثه؟
وأحس كأن قواه قد خارت ، وودّ لو أعاد الهميان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلي هذه البلية . ولكنه كان رجلا فقيها يعلم أن اللقطة إن مست فلا بد من التعريف بها، وإن هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسؤول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه .
و جعلت الأفكار تصطدم في رأسه، وتتراكض وتصطرع، حتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتا يهتف به أن: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك اللائي أطاف بهن الموت .أشبع بها هذه الأكباد الغرثى . اكس هذه الأجساد العارية . ثم إذا أيسرت ردّدتها إلى صاحبها، أو دفعت إليه دنانير ناقصة لن يضره على غناه نقصها..
ثم يسمع هاتف دينه يقول له:اصبر يا رجل ،و لا تخن أمانتك و لا تعص ربك ، وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله ، وذهب إلى داره يخبئ الهمبان حتى يجيء صاحبه…أو يحكم الله فيه..
دخل الدار متلصصا، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
فال: لا شيء . وأحب أن يكتمها خبر الهميان ، وما كان يكتمها من قبل أمرا.
قالت: بلى والله ؛ إن معك شيئا، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة ، ولكنها أضعف منه إرادة ، وأوهن عزما فقالت:
افتحه، وخذ منه دنانير فاشتر لنا بها شيئا، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة…
قال لا والله ، ولئن مسسته أو أخبرت خبره أحدا فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئا حلالا يدفع به الضر عن عياله.
ومشى إلى الحرم، وكان فيه شاب طبري طالب علم.
فال الشاب الطبري:( فرأيت خراسانيا ينادي، يا معشر الحاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده علي أضعف الله له الثواب.
فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال:يا خراساني ، بلدنا فقير أهله، شديد حاله،أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا فيأخذه ويرده عليك.
قال: الخراساني: يابا كم يريد؟
قال العشر، مئة دينار.
قال: يابا . لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى.
وافترقا. قال الطبري: فوقع في نفسي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت ، فنزل إلى دار مسفلة زرية الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة.
قالت: لبيك أبا غياث.
قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئا، فقال: كم؟ قلت: عشرهة فال:
لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجلّ ، فإيش نعمل؟ لا بد لي من رده.
فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات و أختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم.
يا أبا غياث إن الله أكرم من يعاقب رجلا يحيي هذه الأنفس
إنك لم تسرقه ولم تغصبه ، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك ، فلا ترفض نعمة أنعم الله عليك . إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة…(3/130)
قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء ، تتردد فيها الأنفاس ، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة ... لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع هذا كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر، وأنه سيلقى الله ، فما كان ليلقاه خائنا أمانته، أما عياله فلهم الله ، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه ، وصاح بها:
( لست أفعل ، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: ( ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات، التقطها لهم وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها، وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت، أن في الدنيا من يجوع جوعا إجباريا، لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنامذكر بالإحسان.
فمن يقعد على مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه، ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش .
إن العادة تضعف الحس ، وإن إلف النعيم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار لقمة من الخبز الطري ، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية، وهذه الجرعة الباردة، نعمة من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها.
ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف .
كان الشيخ يفكر في هذا فيألم لما صار عليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير، ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض .
وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز و البنات يتبلغن بها .
قال الطبري: ( فلما كان من الغد سمعت الخراساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر و باد، من وجد هميانا فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب . فقام الشيخ إليه، فقال: يا خراساني قد قلت لم بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله فقير فليل الزرع والضرع ، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت . فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.
فقال له الخراساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
ثم افترقا…
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه ، فقام إليه الشيخ . فقال: يا خراساني:
قلت لك أول أمس العشر منه ، وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلم تقبل ، فأعطه دينارا واحدا عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها ، وأن هذا الخراساني منعهم دينارا واحدا من ألف يدفعون به الجوع والعري، والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة دينارا، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحة من نفحات الجنة ؟
لا والله ، ولقد روي أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فترك له الهميان ، وقال للخراساني:
تعال خذ هميانك…
فقال له: امش بين يدي .
قال الطبري : فمشيا وتبعتهما، حتى بلغا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت ، فنبش الشيخ تحت درجة له فأخرج الهميان وقال: هذا هميانك؟
فنظر إليه، و قال: هذا همياني.
ثم حلّ رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مرارا، ثم قال: هذه دنانيرنا.
وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله ، وحسبنه قد فقد من الأرض،كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم يتمنى منه لقمة يشد بها صلبه .
وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده. ووضعه على كتفه وقلب خلقانه فوقه وخرج.
ولم ينظر في وجه الشيخ ، ولم يلق في أذنه كلمة شكر.
وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قلبها، فطارت وراءه ، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا ، فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس .
وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد ، وكان أولى به أن يعرض عنه ، وأن يبغضه ، وقد منعه دينارا واحدا يحيى لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت ، ولكن الشيخ كان رجلا سمحا لا يتسع قلبه لبغضاء ، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني:
يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال:
أخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له ، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك ، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار، وشددته في هذا الهميان ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلا أحق به منك ، فخذه بارك الله لك فيه.
ووضعه وولى.(3/131)
قال الطبري: (( وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني فرجعت إله فقال لي : لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت أنك عرفت خبرنا، وقد سمعت أحمد بن يوسف اليربوعي يقول: سمعت نافعا يقول: عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر و لعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، و لا ترداها فترداها على الله ؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر ، فسر معي.
فسرت معه.فقال لي: إنك لمبارك ، وما رأيت هذا المال قط ، ولا أملته قط ، أترى هذا القميص ؟ إني والله لأقوم سحرا فأصلي الغداة فيه، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها، وبناتي ، وأختاي واحدة بعد واحدة ، ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله علي من أقط وتمر وكسيرات كعك، فنتداول الصلاة فيه .
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى : يا لبابة يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعا فأقعدني عن شماله؛ وحل الهميان وقال: ابسطوا حجوركم ، فبسطت حجري ، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن ، وأقبل يعد دينارا دينارا، حتى إذا بلغ العاشر قال ، وهذا لك، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار و نالني مائة.
ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس، عليها الطيبات من الطعام، قال لامرأته:
أرأيت يا لبابة ؟ إن الله لا يضيع أجر الصابرين ، إن الله هو أرحم الراحمين ، يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا دينارا حراما، فجاءنا الله بألف حلال . وأكل الشيخ لقيمات ، ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته:
إلى أين يا أبا غياث؟
قال: أفتش ، فلعل في الناس فقيرا صائما، لا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا...
ذيل القصة:
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جريرالطبري:
وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها، وكتبت العلم سنين ، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك ، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة، ويكرمونني غاية الإكرام.
وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحدا ، رحمة الله عليهم جميعا.
==============
إنا نراك من المحسنين
حين عاش يوسف عليه السلام في السجن كان شامة بين الناس في إحسانه إليهم، وسمو أخلاقه معهم، لذا جاءه الرجلان يستفتيانه في رؤياهما، مستشهدين بما عرفاه من حاله وإحسانه للناس، واستثمر يوسف عليه السلام هذا الموقف في دعوتهم إلى توحيد الله عز وجل، وبيان حال ما هم عليه من عبادة الأرباب المتفرقين، بعد أن وعدهما بتأويل رؤياهما ناسباً الفضل في ذلك إلى ربه عز وجل.
إن هذا الموقف تتجلى فيه نظرة الناس إلى الداعية وإحسانه إليهم في قبولهم لدعوته وسماعهم لكلمته.
ولذا فقد كان سيد الدعاة وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم متمثلاً لهذا الجانب، ومتصفاً بتلك الصفة، تقول خديجة - رضي الله عنها - في وصفه عليه الصلاة والسلام: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". والسيرة حافلة بأخبار من أسلم متأثراً بما رأى من حاله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
وأخبر تبارك وتعالى أن العفو ودفع السيئة بالتي هي أحسن مدعاة لأن تنقلب حال العدو إلى صديق ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )؛ لذا فالدعاة الذين يتأسون بمنهجه صلى الله عليه وسلم حري بهم أن يعنوا بهذا الجانب ويهتموا به، من ذلك:
1- الاهتمام بالناس، والاعتناء بهم، وقضاء حوائجهم، والحذر من اعتبار ذلك وقتاً ضائعاً أو على حساب الدعوة إلى الله عز وجل، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يجد سعة لأن يهتم بحاجة رجل من الرقيق يريد العودة إلى زوجته؛ كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن مغيثا كان عبدا فقال: يا رسول الله : اشفع لي إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يابريرة، اتقي الله ؛ فإنه زوجك وأبو ولدك" فقالت: يا رسول الله، أتأمرني بذلك ؟ قال :" لا إنما أنا شفيع" فكانت دموعه تسيل على خده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس:" ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه؟"
2- الاعتناء بالمحتاجين والفقراء وبذل المال لهم، وإيصال زكوات المسلمين وصدقاتهم إليهم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم طائفة من الناس أهل حاجة نهى أصحابه عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل أن يعينوا هؤلاء .
وحين قدم قوم من مضر رق لما رآه من سوء حالهم، فخطب أصحابهم حاثاً لهم على الصدقة والإحسان والبذل في سبيل الله.
3- أن يعتني الدعاة إلى الله بالمشروعات العامة التي تعين الناس وتيسر لهم أمورهم، من خلال إنفاقهم وبذلهم، أو الشفاعة لدى المحسنين، أو رفع مطالبات الناس ومتابعتها في ذلك.
4- السعي لإيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية التي يعاني منها الناس، والتي زادت حدتها في هذا العصر، وعانى منها كثير من المسلمين، كالمشكلات التربوية، والمشكلات الزوجية، والخلافات والنزاعات بين الناس ؛ وخاصة أن كثيراً ممن يتصدون لهذه المشكلات ويطرحون آراءهم للناس فيها من خلال الصحف ووسائل الإعلام ليسوا من أهل الصلاح.
5- المبادرة لإعانة الناس في الحوادث العامة والأزمات ، كالأعاصير والزلازل ونحوها، وما رأيناه في أكثر من موقف من سعي الأعداء للحيلولة بين قيام الدعاة إلى الله بالأعمال الإغاثية في الأزمات
===============
من الموسيقى والخمر إلى الإسلام(3/132)
على الرغم الحرب الشرسة التي تُشن على الإسلام في وسائل الإعلام البريطانية لتشويهه في أعين البريطانيين إلا أن هذا الدين يكسب كل يوم أنصارًا من علية القوم ، لا بل من نجوم المجتمع الذين يملكون المال والشهرة ، ولكنهم لم يجدوا فيها لا سعادة روحية ولا استقرارًا نفسيًا ، وعلى الرغم من ضعف المسلمين وعدم وجود من يدافع عنهم ويحميهم ، ويعرض الإسلام بصورته الناصعة ، إلا أن الناس ( المميزين ) يدخلون في دين الله بفضل الله سبحانه وتعالى ، ثم قوة الدفع الذاتية الموجودة في هذا الدين الخالد
كان الموسيقي البريطاني براين هويت يعيش حياة عادية ليس فيها ما يثير فضول الصحافة والصحافيين إلى أن تصدّر اسمه صحيفة محلية في المنطقة التي يعيش فيها، حيث نشرت تلك الصحيفة خبرا عن براين بعنوان "براين يلجأ إلى الله"، معلنة بذلك اعتناقه للدين الإسلامي ، وهكذا بدأت تغييرات كبيرة تحدث في حياة براين وتجعلها حياة غير عادية، بدأت بتغيير اسمه الذي اعتاد عليه من براين هويت إلى إبراهيم هويت. ومن ثم هجر الموسيقى والخمر والليالي الماجنة إلى العمل جاهدًا على اتباع ما أمر الله تعالى واجتناب نواهيه.
وقرر براين هويت في عام 1981 أن يصبح مسلماً باعتناقه للدين الإسلامي، ليدخل ضمن عشرات الآلاف من البريطانيين الذين اعتنقوا الإسلام خلال العقدين الأخيرين. وترك وراءه حياة الموسيقى الصاخبة. وكان هويت عازفاً موسيقيًا في فرقة موسيقية عسكرية. كما استقال من وظيفته في شركة للتأمين، وذلك للتفرغ للدعوة إلى الله ، وتعلم المزيد من تعاليم الإسلام ومبادئه.
ولد هويت في ثورث شيلدز، ولكنه كان لا يعرف شيئًا عن الجالية اليمنية في ساوث شيلدز، وهي من أقدم الجاليات المسلمة في بريطانيا. وهذه الجالية استقرت في بادئ هجرتها في شمال شرق بريطانيا قبل قرن من الزمان.
وقال هويت واصفاً نفسه: إنه من المحتمل أن أكون عنصريًا متطرفاً في عنصريتي قبل اعتناقي للدين الإسلامي، الدين الذي علمني معنى التسامح والتراحم بين الناس ، ونزع عني شرور التطرف والكراهية والقسوة.
وأضاف هويت: أعتقد أنه من فرط عنصريتي وتطرفي أنني لم أتحدث مع شخص غير أبيض لمدة 21 عاماً من حياتي. فكنت شخصاً معتداً بنفسه وبلون بشرته أكثر من اللازم، وأعيش حياة نظيفة وراقية، وأجتهد في عملي كسائر أبناء الشمال البريطاني، وكنت أحسب أن العالم ينتهي عند مدينة ميدلسبره البريطانية، حيث تنشئتي وتربيتي هناك.
وأوضح هويت أنه كعازف موسيقي متمرس مع فرقة موسيقية عسكرية، كان يشارك في الأداء الموسيقي مع فرق غنائية معروفة. ويتذكر أنه كان يعزف مع فرقة ستينج الموسيقية في إحدى الحفلات الغنائية في قاعة ألبرت هول بلندن، وذلك في عام 1975، وأقيمت هذه الحفلة الغنائية ضمن مسابقة لاختيار أفضل الفرق الغنائية الموسيقية على المستوى الوطني.
وبعد المشاركة في تلك الحفلة الغنائية الموسيقية سافر هويت إلى جوهانسبرج في جنوب أفريقيا لزيارة عبدة، زوجته في ما بعد، وهناك بدأت معالم رحلته الإيمانية، إذ إنه ذهب إلى أحد المساجد في مدينة جوهانسبرج وشاهد مصلين من مختلف الأجناس والألوان يصلون مع بعضهم.
وقال هويت: عندما رأيت ذلك المشهد الرهيب قلت لنفسي: ما هي حقيقة الإسلام؟ هذا الدين الذي يستطيع أن يجمع الناس في جنوب أفريقيا من كل الأماكن ومن مختلف الأجناس والألوان؟ وعندما عدت إلى بريطانيا حرصت على البدء في القراءة عن الدين الإسلامي.
وقال هويت بعد تأثير مشهد ما ، شاهدته في أحد مساجد جوهانسبرج، حيث اجتمع المصلون على اختلاف أجناسهم وألوانهم في مكان واحد يعبدون الله سبحانه وتعالى، قلت لنفسي : لا بد أن هناك سرًا عظيمًا في هذا الدين الذي استطاع أن يجمع هؤلاء على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويجعلهم يتناسون خلافاتهم وفروقهم، فقررت إشهار إسلامي بعد دراسة عميقة للدين الإسلامي. وشعرت بارتياح وسعادة بالغتين لأن الله سبحانه وتعالى هداني إلى هذا القرار الخاص باعتناقي للإسلام. وسارعت إلى تعليق آلاتي الموسيقية وهجرت شرب الخمر والذهاب إلى الحانات والليالي الصاخبة، ولكن حياتي الجديدة بعد إسلامي لم تكن سهلة. فقد كان والدي منزعجاً ومتضايقًا من هذا القرار.
وقال هويت: إن والدي عندما عرف قرار اعتناقي للدين الإسلامي لم يرحب به، بل كان قلقا ومنزعجا منه، إذ إنه كان يعتقد أنني أصبحت باكستانيًا وليس مسلمًا بريطانيا، فهو يظن أن من يعتنق الإسلام من البريطانيين يريد أن يصبح باكستانيا، ولم يكن يعلم أن الإسلام دين الله للجميع ففيه الباكستاني والبريطاني. وكلهم عند الله سواسية لا يُفضل بعضهم على بعض إلا بالتقوى. وفي النهاية قررنا أنا ووالدي أن نتفق على ألا نتفق حول مسألة اعتناقي الإسلام.
وأضاف هويت: لا أستطيع أن أقول : إنه كان لدي أصدقاء من الباكستانيين قبل أن أصبح مسلما في عام 1981.
ومن نافلة القول : أن نذكر أن هويت يعيش في شمال لندن. كما عمل لمدة عامين المساعد الشخصي للداعية الإسلامي يوسف إسلام، الذي كان قبل إسلامه، يعرف بكات ستيفنس، وكان مغنيًا شعبياً معروفًا، ولكن هويت يعمل حاليًا في مجلس التعليم الإسلامي في بريطانيا. كما أنه حج إلى بيت الله الحرام أكثر من مرة، ولكن تغيير ثقافته من الثقافة الغربية إلى الثقافة الإسلامية لم يكن بالأمر السهل.(3/133)
وقال هويت: إن مسألة اختلاف ثقافتين أي اختلاف الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية من التجارب الصعبة التي يمر بها المسلمون البريطانيون الجدد ، خاصة بين المسلمين الجدد البيض، إذ إن أحدهم إذا دخل المسجد لأداء الصلاة يلاحظ أن كل رؤوس المصلين تلتفت إليه وتحدقه بنظراتها، لا لشيء سوى أنه شخص أبيض، وهي نظرات فيها قدر من الارتياب وتساؤل غير محدد.
والغريب أن البريطانيين خاصة ، والغربيين عموماً ، يرتابون في المسلمين الجدد البيض، وكأن الإسلام هذا دين قاصر على السود والملونين فقط، وكأنه أيضاً دين محصور في الفقراء والطبقات الدنيا من المجتمع. بينما الإسلام في حقيقته ليس كذلك ، بل هو دين الله لكافة عباده. ويتضح ذلك جلياً في قول الله تعالى : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "كلكم سواسية كأسنان المشط". فمن هنا يتبين لنا أن الإسلام لا يفاضل بين العربي والأعجمي ولا بين الأبيض والأسود إلا بالتقوى. وأن المسلمين كلهم سواسية كأسنان المشط.
وأضاف هويت: إن الذين يحدقون بنظراتهم في المسلم الأبيض الذي دخل المسجد لنفس الغرض، بعد التأكد من هذه النظرات نجدهم لا يحدقون في أخ مسلم، بل ينظرون إلى رجل أبيض تطفل بالدخول في حي آسيوي، خاصة بعد أن أصبحت كثير من المساجد في بريطانيا أشبه بالأحياء الآسيوية، إذ إن بعض هذه المساجد تقتصر الصلاة فيها على مجموعات آسيوية من دون المجموعات المسلمة البريطانية الأخرى.
وذهب هويت إلى أن المسلمين السود الذين يمثلون المصدر الرئيسي لأولئك الذين يهتدون إلى الإسلام في المجتمعات الغربية يواجهون نفس نظرات الارتياب التي يواجهها إخوانهم المسلمون البيض في مساجد بريطانيا من قبل الإخوان الآسيويين خاصة من ذوي الأصول الهندية والباكستانية والبنغلاديشية.
ودعا هويت المسلمين في بريطانيا إلى التغاضي عن اختلاف الألوان والأجناس ، والتمسك بتعاليم الإسلام التي لا تعرف هذه الفوارق. كما انتقد هويت المسلمين الإنجليز الذين لا يحيّون إخوانهم المسلمين بتحية الإسلام الخالدة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وانتقد أيضاً سلوك بعض الآسيويين في التعامل مع إخوانهم المسلمين الآخرين، إذ إنهم يعاملون المسلم الجديد قياساً على اتباعه لثقافتهم الآسيوية، فإذا لم يأكل طعامهم "الحار" ، أو يمجد ثقافتهم ، فهو ليس أخاهم في العقيدة والدين.
من هنا لا بد من الإشارة إلى أن كثيرًا من المسلمين البريطانيين يواجهون مشكلة الاختلاف بين الثقافتين، خاصة أولئك المسلمين البيض. فهناك اختلاف كبير ، وفوارق جوهرية بين ثقافتهم الأصلية التي نشؤوا وتربوا عليها، وهي الثقافة الغربية وبين ثقافتهم الجديدة التي يحرصون على التكيف معها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وهي الثقافة الإسلامية. لذا نجد هؤلاء المسلمين البريطانيين الجدد (البيض) يتنازعون بين هاتين الثقافتين. ويجتهدون في البحث للتعرف على القواسم المشتركة بينهما، والعمل جاهدين على المواءمة بين هذه القواسم المشتركة للثقافتين الغربية والإسلامية
(((((((((((((((((((
الفهرس العام
الباب الثالث- خواطر دعوية
جمعها وأعداها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث- خواطر دعوية
الدعاء.. وأثره في نصر الدعوات
تسويق التبعية
نحو رؤية إسلامية شامل
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه
ماذا بعد رمضان؟!!
قبل أن تخسر رمضان
خصائص شهر الصيام
كيف نستقبل رمضان
إن كان قال.. فقد صدق
أثر انعدام الرؤية في العمل التربوي
وعين بكت من خشية الله
بين همم الحيوان وهمم بني الإنسان
«الجوال» تكنولوجيا إعلامية ووسيلة دعوية
الإجازة الصيفية.. وقضية السفر للخارج
ميزان الإسلام
لذة العبادة
مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده
عشر ذي الحجة.. واغتنام مواسم الخيرات
يا باغي الحج.. أقبل
كن ورعا.. تكن أعبد الناس
ياليت رأسي قدم!!!
قد أظلكم شهر كريم
محاسبة النفس ضرورة
أكثروا ذكر هاذم اللذات
مستوطنون باسم التوراة
يحسب أن ماله أخلده
أيها الدعاة: الحذرَ.. الحذرَ
هوى الخلاف أم خلاف الهوى؟
الهجرة والأخوة الإيمانية
مولد سيدي فالنتين ..!!
وقفات في وداع العام الهجري
دروس مستفادة من فريضة الحج
هاتفك السماوي معطل!
الاحتفال بأعياد الكفار وحكم تهنئتهم بها
أجهز عليه بطلقة
الكنز المفقود
ماذا بعد رمضان؟!
لا تجعل الله أهون الناظرين إليك
هذا جناك
حقيقة الانتصار
يا رب أموت أنا .. ويعيش بابا
انصري دينك يا أختاه
تائها ما بينَ .. بين
العمل الدعوي بين الواقعية والمثالية
الوصية بالأشهر العربية
بركة الكلمة
تربية القادة لا تربية العبيد
أولم يتفكروا.. ؟!!
مائة مليار دولار ليدخل الإسلام
زحام المحبة
جرح الكرامة.. وفتح عمورية
ولا عزاء.. للغافلين
المراوغون
ملكنا هذه الدنيا قرونا
لكِ اللهُ يَا قُدْسُ
فماذا بعد؟!
ورودٌ برائحة القطران..!!
ومن يستعفف يعفه الله
ويبقى العود ما بقي اللحاء
حينما عرفت قدري!
أخيتي .. كفى عجزًا!
التغيير من أين يبدأ؟!!
رحمك الله يا عمر!!
هيا بنا نؤمن ساعة
إذا عز أخوك فهن ..
قسيس في مكة
شيطان .. في بيتي !!
حاجتنا إلى المواعظ
خارج نطاق الخدمة
يانفس توبي ...
ماذا بعد رمضان
درس لا يُنسى..!
سوبر ستار .. أجمل قبر لأتعس أمة
لغة الأرقام
شبابنا بين العفاف والانحراف
إلى أين تغدو
بين أمي.. وسوامي
من مذكرات مهتدية يابانية(3/134)
هل يباع الطموح فأشتريه..؟!!
توبة أشهر عارضة أزياء فرنسية
نعم .. هم رجال ونحن رجال ولكن ..
رسالة إلى داعية
معا على طريق الدعوة
ما بيني وبين فلسطين
شيخ في المرقص
حدثنا أم قال مراسلنا
من مزالق الدعاة.. الهوس الغربي
في دروبٍ من سنا
بين الداعية وزوجته
رسالة إلى الأقصى
غربة وموقف
توبة الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني
أبو حمزة السُّكري
لا تقولوا: دَمُ أقصانا جَمَدْ
رسالة إلى صاحب دش
حبيبتي بلادي
العلم والخشية
أقسام الناس بعد سماع المواعظ
رفيق صَلاحِ الدِّين
حديث النفس
سأحزن ما بقيتُ مع الزمان
إذا دانت لك الآفاق
عندما يئن العفاف
خلا لك الجوُّ
والله لولا أحببتك .. ما تركتك
الرحيل
حسن الخاتمة وسوء الخاتمة
رسالة إلى ابن عاق
من عائض القرني إلى الأم المسلمة
نصائح مهمات لمستخدمات الشات
رسالة إلى .. عابرة سبيل
رسالة إلى شاب
رجل الفطرة
يا له من دين .. لو أن له رجالاً
الرجال المنتظرون .. أمل الأمة
التخصص.. أو التشتت
آخر يوم في حياة الداعية
بين يدي الدعوة
أسرة قرآنية .. تستحق التكريم
هل انتبهنا ؟
بأصفيائك توزن أخلاقك
السعادة
رسالة إلى خطيب
كرامة الإنسان
الزمن المقلوب ، وفيتامين واو
لو أقسم على الله لأبره
يدعو إلى الله وهو بين الصفين
وقفة حساب
التاجر الصدوق
كرمها الإسلام فتركت النصرانية
حِكَايَة الهِمْيَان
إنا نراك من المحسنين
من الموسيقى والخمر إلى الإسلام(3/135)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (4)
الباب الرابع- من أعلام الدعوة
جمعها وأعدها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الرابع- من أعلام الدعوة
سعيد بن المسيب
الإسلام عزيز بك وبأمثالك أيها الرجل..إنك كالجبل الراسخ، وقفت في وجه الطغاة..علمتنا أن الحقَّ الأعزل قادر على أن يقف في وجه الباطل المدجج
بالسلاح، وأن المؤمن لا تزيده المحن إلا عزة وإيمانًا، أما الظالم فيرجع إلى
الوراء، يتخاذل ويتقهقر، يخشى سيف الحق وعزة الإسلام، فهنيئًا لك يا
سيد التابعين.
بعد مضي سنتين من خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- ولد (سعيد بن المسيب) في المدينة المنورة؛ حيث كبار الصحابة، فرأى عمر بن الخطاب، وسمع عثمان بن عفان، وعليًّا، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وأبا هريرة..وغيرهم، فنشأ نشأة مباركة، وسار على نهجهم، واقتدى بأفعالهم، وروى عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج بنت الصحابي الجليل أبي هريرة، فكان أعلم الناس بحديثه.
وهبه الله في نشأته الباكرة ذكاءً متوقدًا، وذاكرة قوية، حتى شهد له كبار الصحابة والتابعين بعلو المكانة في العلم، وكان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى، حتى اشتهر بفقيه الفقهاء، وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وهو المقدم في الفتوى بالمدينة آنذاك- إذا سئل عن مسألة صعبة في الفقه، كان يقول: سلوا سعيدًا فقد جالس الصالحين.
ويقول عنه قتادة: ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلال والحرام منه، ويكفي ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل (عمر بن عبد العزيز) كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر إمارة المدينة لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد، فقد أرسل إليه عمر رجلاً يسأله في أمر من الأمور، فدعاه، فلبي الدعوة وذهب معه، فقال عمر بن عبد العزيز له: أخطأ الرجل، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
وعاش سعيد طيلة حياته مرفوع الرأس، عزيز النفس، فلم يحنِ رأسه أبدًا لأي
إنسان، حتى ولو ألهبوا ظهره بالسياط، أو هددوه بقطع رقبته، فها هو ذا أمير المدينة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان يأمره بالبيعة للوليد بن عبد الملك، فيمتنع
فيهدده بضرب عنقه، فلم يتراجع عن رأيه رغم علمه بما ينتظره من العذاب، وما إن أعلن سعيد مخالفته حتى جردوه من ثيابه، وضربوه خمسين سوطًا، وطافوا به في أسواق المدينة، وهم يقولون: هذا موقف الخزي!! فيرد عليهم سعيد في ثقة وإيمان: بل من الخزي فررنا إلى ما نريد.
ولما علم عبد الملك بما صنعه والى المدينة لامه وكتب إليه: سعيد..كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من خلاف، وبعد كل هذا التعذيب الذي ناله سعيد جاءه رجل يحرضه في الدعاء على بني أمية، فما كان منه إلا أن قال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، وأخزِ أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
صلى (الحجاج بن يوسف الثقفي) ذات مرة، وكان يصلى بسرعة، فلم يتم ركوع الصلاة وسجودها كما يجب، فأخذ سعيد كفًا من الحصى ورماه به، فانتبه الحجاج لذلك واطمأن وتمهل في صلاته، وكان ذلك قبل أن يتولى الحجاج الإمارة، ورفض سعيد أن تكون ابنته أعظم سيدة في دولة الخلافة الإسلامية؛ وذلك حين أراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يخطب ابنة سعيد لولي عهده الوليد، لكن سعيدًا رفض بشدة، وزوج ابنته من طالب علم فقير.
فقد كان لسعيد جليس يقال له (عبد الله بن وداعة) فأبطأ عنه أيامًا، فسأل عنه وطلبه، فأتاه واعتذر إليه، وأخبره بأن سبب تأخره هو مرض زوجته وموتها، فقال له: ألا أعلمتنا بمرضها فنعودها، أو بموتها فنشهد جنازتها، ثم قال: يا عبد الله تزوج، ولا تلق الله وأنت أعزب، فقال: يرحمك الله ومن يزوجني وأنا فقير؟ فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي، فسكت عبد الله استحياء، فقال سعيد: مالك سكت، أسخطًا وإعراضًا؟ فقال عبد الله: وأين أنا منها؟ فقال: قم وادع نفرًا من الأنصار، فدعا له فأشهدهم على النكاح (الزواج)، فلما صلوا العشاء توجه سعيد بابنته إلى الفقير ومعها الخادم والدراهم والطعام، والزوج لا يكاد يصدق ما هو فيه!!
وحرص سعيد على حضور صلاة الجماعة، وواظب على حضورها أربعين سنة لم يتخلف عن وقت واحد، وكان سعيد تقيًّا ورعًا، يذكر الله كثيرًا، جاءه رجل وهو مريض، فسأله عن حديث وهو مضطجع فجلس فحدثه، فقال له ذلك الرجل: وددت أنك لم تتعن ولا تتعب نفسك، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع، ومن احترامه وتوقيره لحرمات الله قوله: لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل، فهو يكره أن تصغر كلمة مصحف، أو كلمة مسجد أو كل كلمة غيرهما تكون لله تعالى إجلالا لشأنها وتعظيمًا.
ومرض سعيد، واشتد وجعه، فدخل عليه نافع بن جبير يزوره، فأغمى عليه، فقال نافع: وَجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة..أنافع؟ قال: نعم، قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي، ولما احتضر سعيد بن المسيب ترك مالاً، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها ديني، ومات سعيد سنة ثلاث أو أربع وتسعين من الهجرة، فرحمه الله رحمة واسعة
==============
سعيد بن جبير أعلم التابعين بالتفسير
كان سعيد بن جبير من كبار التابعين، الذين ساروا على سنن الهدى، واقتفوا أثر المصطفى، وباعوا الدنيا طلبًا للأخرى. وقد وثقه أهل العلم كافة، حتى قالوا في وصفه: ثقة إمام حجة على المسلمين .(4/1)
كان الناس يرونه - منذ نعومة أظفاره - إما عاكفًا على كتاب يتعلم، أو قائمًا في محراب يتعبد، فهو بين طلب العلم والعبادة، إما في حالة تعلم، أو في حالة تعبد .
أخذ سعيد العلم عن طائفة من كبار الصحابة، من أمثال أبي سعيد الخدري ، و أبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عمر ، رضي اللَّه عنهم أجمعين، لكن يبقى عبد الله بن عباس - حبر هذه الأمة - هو المعلم الأول له .
لازم سعيد بن جبير عبد الله بن عباس لزوم الظل لصاحبه، فأخذ عنه القرآن وتفسيره، وتلقى عنه القراءات القرآنية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ بها، وتفقّه على يديه في الدين، وتعلم منه علم التأويل، حتى أصبح من المكانة ما جعل بعض معاصريه يقول فيه: مات سعيد بن جبير ، وما على ظهر الأرض أحد من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلى علمه .
وعندما كانت إقامته في الكوفة، كان هو المرجع الأول في الفتوى، وعليه المعول في علم التفسير، لدرجة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحيل إليه من يستفتيه، ويقول لأهل الكوفة إذا ما أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدهماء ؟ يعني سعيد بن جبير - وكان حبشي الأصل - .
وعلى الرغم من مكانته العلمية التي كان يحظى بها، وخاصة معرفته الواسعة بتفسير كتاب الله، إلا أنه - رحمه الله - كان يتورع عن القول في التفسير برأيه - كما هو شأن السلف من الصحابة رضوان الله عليهم - ومما يروى عنه في هذا الشأن: أن رجلاً سأله أن يكتب له تفسيرًا للقرآن، فغضب، وقال له: لأن يسقط شِقِّي، أحب إليَّ من أن أفعل ذلك .
ولأجل ملازمة سعيد ابن جبير لـ ابن عباس رضي الله عنهما، ومكانته العلمية بين التابعين، فقد كانت أقواله مرجعًا أساسًا، ومنهلاً عذبًا لأهل التفسير، يرجعون إليها، ويغترفون من معينها في تفسير كثير من آيات الذكر الحكيم .
وقد وَثَّقَ علماء الجرح والتعديل سعيداً ، وروى عنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم من أصحاب الحديث. قال ابن حبان في كتاب ( الثقات ): كان فقيهًا، عابدًا، فاضلاً، ورعًا .
ومما يُروى عن سعيد وتعلقه بالقرآن، ما ذكره أبو نعيم في ( الحلية ) قال: ( كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان ) وفي رواية ثانية: ( أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين ) .
وقد كانت له - رحمه الله - مواقف مشهورة ومآثر مشهودة مع الحجاج ، الذي قتله صبراً في شعبان سنة خمس وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين سنة .
سعيد بن جبير الأسدي الوالي مولاهم أبو محمد ويقال أبو عبد الله الكوفي المكي من أكابر أصحاب ابن عباس كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح رحمه الله وقد رأى خلقا من الصحابة وروي عن جماعة منهم وعنه خلق من التابعين يقال إنه كان يقرأ القرآن في الصلاة فيما بين المغرب والعشاء ختمة تامة وكان يقعد في الكعبة لقعدة فيقرأ فيها الختمة وربما قرأها في ركعة في جوف الكعبة وروى عنه أنه ختم القرآن مرتين ونصفا في الصلاة في ليلة في الكعبة وقال سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه وكان في جملة من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج فلما ظفر الحجاج هرب سعيد إلى أصبهان ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين مرة للعمرة ومرة للحج وربما دخل الكوفة في بعض الأحيان فحدث بها وكان بخراسان لا يتحدث لأنه كان لا يسأله أحد عن شيء من العلم هناك وكان يقول إن مما يهمني ما عندي من العلم وددت أن الناس أخذوه واستمر في هذا الحال مختفيا من الحجاج قريبا من ثنتى عشرة سنة ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج وكان من مخاطبته له ما ذكرناه قريبا
مقتل سعيد بن جبير رحمه الله(4/2)
قال ابن جرير وفي هذه السنة قتل الحجاج بن يوسف سعيد بن جبير وكان سبب ذلك أن الحجاج كان قد جعله على نفقات الجند حين بعثه مع ابن الأشعث إلى قتال رتبيل ملك الترك فلما خلعه ابن الأشعث خلعه معه سعيد بن جبير فلما ظفر الحجاج بابن الأشعث وأصحابه هرب سعيد بن جبير إلى أصبهان فكتب الحجاج إلى نائبها أن يبعثه إليه فلما سمع بذلك سعيد هرب منها ثم كان يعتمر في كل سنة ويحج ثم إنه لجأ إلى مكة فأقام بها إلى أن وليها خالد بن عبد الله القسري فأشار من أشار على سعيد بالهرب منها فقال سعيد والله لقد استحييت من الله مما أفر ولا مفر من قدره وتولى على المدينة عثمان بن حيان بدل عمر بن عبد العزيز فجعل يبعث من بالمدينة من أصحاب ابن الأشعث من العراق إلى الحجاج في القيود فتعلم منه خالد بن الوليد القسري فعين من عنده من مكة سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر وعمرو بن دينار وطلق ابن حبيب ويقال إن الحجاج أرسل إلى الوليد يخبره أن بمكة أقواما من أهل الشقاق فبعث خالد بهؤلاء إليه ثم عفا عن عطاء وعمرو بن دينار لأنهما من أهل مكة وبعث بأولئك الثلاثة فأما طلق فمات في الطريق قبل أن يصل واما مجاهد فحبس فما زال في السجن حتى مات الحجاج وأما سعيد ابن جبير فلما أوقف بين يدي الحجاج قال له يا سعيد ألم اشركك في أمانتي ألم أستعملك ألم أفعل ألم أفعل كل ذلك يقول نعم حتى ظن من عنده أنه سيخلى سبيله حتى قال له فما حملك على الخروج علي وخلعت بيعة أمير المؤمنين فقال سعيد إن ابن الأشعث أخذ مني البيعة على ذلك وعزم على فغضب عند ذلك الحجاج غضبا شديدا وانتفخ حتى سقط طرف ردائه عن منكبه وقال له ويحك ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك قال بلى قال ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك يا حرسى اضرب عنقه قال فضربت عنقه فبدر رأسه عليه لا طئة صغيرة بيضاء
وقد ذكر الواقدي نحو هذا وقال له أما أعطيتك مائة ألف أما فعلت أما فعلت
قال ابن جرير فحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل قال سمعت خلف بن خليفة يذكرعن رجل قال لما قتل الحجاج سعيد بن جبير فندر رأسه هلل ثلاثا مرة يفصح بها وفي الثنتين يقول مثل ذلك لا يفصح بها وذكر أبو بكر الباهلي قال سمعت أنس بن أبي شيخ يقول لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير قال لعن ابن النصرانية يعني خالد القسري وكان هو الذي أرسل به من مكة أما كنت أعرف مكانه بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال يا سعيد ما أخرجك على فقال أصلح الله الأمير أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب أخرى فطابت نفس الحجاج وانطلق وجهه ورجا الحجاج أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شيء فقال سعيد إنما كانت بيعة في عنقي فغضب عند ذلك الحجاج فكان ما كان من قتله
=============
الحسن البصري
يروى أن رجلاً اغتابه، فما كان منه إلا أنه أرسل له بطبق من الحلوى قائلاً له: بلغني أنك نقلت حسناتك إلى ديواني وهذه مكافأتك!!
إنه (الحسن البصري بن أبي الحسن يسار) وكنيته (أبو سعيد) ولد في المدينة
عام واحد وعشرين من الهجرة، كان أبوه من سبي (ميسان) من بلاد فارس، سكن المدينة وبها أعتق، وتزوج بمولاة أم سلمة -رضي الله عنها- (خيرة) فكانت أم سلمة -رضي الله عنها- تبعث أم الحسن البصري لتقضي لها الحاجة، وتترك (الحسن) فيبكي وهو طفل فترضعه أم سلمة، وتخرجه إلى أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو صغير فكانوا يدعون له، فأخرجته إلى عمر -رضي الله عنه- فدعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس).
تعلم في مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحفظ القرآن في العاشرة من
عمره، وتتلمذ على أيدي كبار الصحابة في مسجد الرسول -صلى الله عليه
وسلم- روى الحديث عن علي وعثمان وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم، ثم رحل إلى البصرة، فكان فقيهها وعالمها، وشيخ القراء فيها، أقبل الناس عليه يتلقون عنه العلم، ويأخذون منه الحكمة، فقد كان موضع إعجاب العلماء والتلاميذ، فقد قال أنس بن مالك: سلوا الحسن، فإنه حفظ ونسينا، وقال عنه أحد تلاميذه: ترددت على مجلس الحسن عشر سنين، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك.
وكانت حلقته في المسجد يدرس فيها الحديث والفقه وعلوم القرآن واللغة، وكان من تلاميذه من يصحبه للحديث، ومنهم من يصحبه للقرآن، ومنهم من يصحبه للبلاغة واللغة، وكان دائمًا ينصح تلاميذه قائلاً: إذا طلب الرجل العلم فينبغي أن يرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره.
لقد نذر الحسن البصري حياته لله تبارك وتعالى، فكان همُّه الأول النصح والإرشاد، فأقبل عليه طلاب العلم إقبالاً عظيمًا، فذاع صيته، واتسعت حلقاته بالمسجد حتى لقِّب بـ(إمام البصرة)..لازمته ظاهرة البكاء والخشية من الله، وعندما سئل عن ذلك قال: (نضحك ولا ندري، لعل الله قد اطلع على أعمالنا، فقال لا أقبل منكم شيئًا) وسجَّل له التاريخ على صفحاته البيضاء موقفه من الحجاج بن يوسف، وقد كان الحسن البصري من أشد الناس وأشجعهم،وكان صلى الله عليه وسلم المهلب بن أبي صفرة) إذا قاتل عدوًّا يجعله في مقدمة الجيش.
وكان الحسن البصري يعتبر أن حياة القلب وسلامته طريق الإيمان الحق، وفي ذلك كان يراسل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في هذا الشأن فيقول له: (سلام عليك، أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات، فأجابه عمر: (سلام عليك كأنك بالدنيا ولم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل).(4/3)
وجلس الحسن ذات يوم في مسجد البصرة الكبير يفسر قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16] ثم وعظ الناس وعظًا بليغًا حتى أبكاهم، وكان من بينهم شاب يقال له (عتبة) فقام وقال أيها الشيخ: أيقبل الله تعالى الفاسق الفاجر مثلي إذا تاب؟ فقال الحسن: نعم، يقبل توبتك عن فسقك وفجورك، فلما سمع الشاب ذلك صاح صيحة وخرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق دنا الحسن البصري منه وقال له:
أيا شاب لرب العرش عاصي أتدري ما جزاء ذوي المعاصي
سعير للعصاة لها زفير وغيظ يوم يؤخذ بالنواصي
فإن تصبر على النيران فاعصه وإلا كن عن العصيان قاصي
وفيم قد كسبت من الخطايا رهنت النفس فاجهر في الخلاصِ
فخرَّ الشاب مغشيًّا عليه، ثم أفاق، فسأل الحسن: هل يقبل الرب الرحيم توبة لئيم مثلي؟ فقال الحسن: هل يقبل توبة العبد الجافي إلا الرب المعافي؟! ثم رفع رأسه، ودعا له؛ فأصلح الله حال الشاب.
ومن أقواله لتلاميذه: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاثة: أنه لم يشبع بما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه، يابن آدم إنما أنت
أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، الفقيه هو الزاهد في الدنيا، البصير بدينه المداوم على عبادة ربه، تفكر في الله ساعة خير من قيام ليلة، يا عجبًا من ضاحك ومن ورائه النار، ومن مسرور ومن ورائه الموت.
وقال ناصحًا تلميذًا له:
إذا جالستَ العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثه وإن طال حتى يمسك.
وفارق الحسن دنيا الناس سنة 110 هـ عن نحو ثمان وثمانين سنة، وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة، وشيعه خَلْق كثير.
===============
عبد الملك بن مروان
نظر إليه أبو هريرة -رضي الله عنه- وهو غلام، فقال: هذا يملك العرب!!
في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولد (عبد الملك بن مروان) في
سنة 24هـ في أول عام من خلافة (عثمان بن عفان) رضي الله عنه، حفظ القرآن الكريم، وسمع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمِّه عثمان بن عفان وأبي هريرة، وأم سلمة، ومعاوية، وابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-.
وكثيرًا ما كان عبد الملك في طفولته المبكرة يسأل أباه وعمه ومن حوله من الصحابة عن سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبونه بما يثير دهشته، ويزيد من إعجابه بعظمة الإسلام، ولكنه وهو في العاشرة من عمره رأى مقتل خليفة المسلمين (عثمان بن عفان) فترك ذلك أثرًا حزينًا في نفسه، لكنه تعلم منه الدرس، وهو أن يتعامل مع المعتدين والمشاغبين بالقوة والحزم.
ثم لازم الفقهاء والعلماء حتى صار فقيهًا، سئل ابن عمر -رضي الله عنه- ذات مرة في أمر من أمور الدين فقال: (إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه) وقال الأعمش: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعروة وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن
مروان، وكان لا يترك الصلاة في المسجد، حتى سمي حمامة المسجد لعبادته ومداومته على تلاوة القرآن.
نال عبد الملك في حداثته إعجاب الجميع لتمسكه بمبادئ الإسلام، يحكي أن معاوية جلس يومًا ومعه سعيد بن العاص -رضي الله عنه- فمرَّ بهما عبد الملك، فقال معاوية: لله در هذا الفتى ما أعظم مروءته؟ فقال سعيد: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثًا: أخذ بحسن الحديث إذا حَدَّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث، وحسن البِشْر إذا لقي، وخفة المئونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر منه، وترك مخالطة اللئام من الناس، وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته).
وخرج عبد الملك من المدينة في ربيع الآخر سنة 64هـ عند حدوث الفتنة واضطراب الأمر بالشام وظهور عبد الله بن الزبير بمكة والحجاز وإعلان نفسه خليفة للمسلمين، ولم تكد تمضِ ستة أشهر حتى تولى أبوه مروان الخلافة، لكنه لم يستمر سوي عشرة أشهر حتى توفي، فخلفه في رمضان من عام 65هـ عبد الملك بن مروان وأقبل عليه كبراء بني أمية وأمراء الجنود ورؤساء القوم وكبار رجال الدولة
فبايعوه.
وحين تولى عبد الملك خلفًا لأبيه لم يكن في يده غير الشام ومصر فقط، وهكذا كانت الأخطار تحيط بدولته من كل جانب في الداخل، فوجد الدولة الإسلامية منقسمة تسودها الفتن والاضطرابات، فهناك ابن الزبير في الحجاز، ودولة بني أمية في الشام، والخوارج الأزارقة بالأهواز، والخوارج (النجدات) بجزيرة العرب، والشيعة بالكوفة في العراق، وفي الخارج كانت الروم تكيد له، وتنتهز فرصة الانقسام لتغير على الحدود في الشمال والغرب، تهديدات من كل اتجاه، فأدرك (عبد الملك) أنه لابد من توحيد الجهود الإسلامية ضد الأعداء، وبدأ في تجهيز الجيوش، وأحسن معاملة قواده وحاشيته، يكرمهم، ويعطف عليهم، ويزورهم إذا مرضوا، ويحضرهم مجالسه، ويعاملهم كأصدقاء، فكان ذلك من أكبر عوامل نجاحه وانتصاره.
وبحلول عام 74هـ اجتمعت كلمة الأمة بعد خلاف طويل، وانتهى النزاع حول الخلافة، حتى سمي هذا العام بعام الوحدة، وتمت البيعة لعبد الملك من الحجاز والعراق، كما تمت له من قَبْلُ في الشام ومصر، وجاءته أيضًا من خراسان، واستردت الدولة الإسلامية مكانتها وهيبتها وسيادتها على الأعداء، واتسعت حدودها بعد أن أضاف إليها عبد الملك أقاليم جديدة؛ حيث أرسل جنوده ففتحوا بعض بلاد المغرب وتوغل فيها.(4/4)
واتبع عبد الملك سياسة الحزم والشدة، فكان قوي الإرادة والشخصية؛ لذلك قالوا: (كان معاوية أحلم وعبد الملك أحزم) وقال أبو جعفر المنصور: كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأمضاهم عزيمة، وكان عبد الملك حريصًا على نزاهة من يعملون في دولته.. بلغه ذات يوم أن أحد عماله قبل هدية، فأمر بإحضاره إليه، فلما حضر قال له: أقبلتَ هدية منذ وليتك؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك
موفورة، رعيتك على أفضل حال.. قال: أجب عما سألتك.. قال: نعم قد
قبلت؛ فعزله عبد الملك.
ولم يكن عبد الملك رجل سياسة فحسب، ولكنه كان أديبًا يحب الأدباء، ويعقد المجالس الأدبية، وينتقد ما يلْقَى عليه من الشعر انتقادًا يدل على ذوق أدبي رفيع، وقد أظهر عبد الملك براعة في إدارة شئون دولته وتنظيم أجهزتها مثلما أظهر براعة في إعادة الوحدة إلى الدولة الإسلامية، فاعتمد على أكثر الرجال في عصره مهارةً ومقدرةً وأعظمهم كفاءةً وخبرةً مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وبشر بن مروان وعبد العزيز بن مروان وتفقد عبد الملك أحوال دولته بنفسه، وتابع أحوال عماله وولاته، وراقب سلوكهم، وأنجز أعمالاً إدارية ضخمة دفعت بالدولة الإسلامية أشواطًا على طريق التقدم.
فهو أول من ضرب الدنانير وكتب عليها القرآن، فكتب على أحد وجهي الدنانير (قل هو الله أحد) وكتب على الوجه الآخر: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق، ونقلت في أيامه الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية، وهو ما يُعرف في التاريخ بـ(حركة تعريب الدواوين).
ورغم شدة وحزم عبد الملك فإنه كان رقيق المشاعر، يخشى الله ويتضرع إليه، خطب ذات مرة، فقال: (اللهم إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك يا
كريم فاغفرها لي) وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قيل له: كيف تجدك؟ فقال: أجدني كما قال الله تعالي: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} [الأنعام: 94].
ومات عبد الملك سنة 86 من الهجرة، وعمره 60 سنة، وصلى عليه ابنه الولي
=============
عمر بن عبد العزيز
رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا، فقام من نومه يردد: مَنْ هذا الأشجُّ من بني أمية، ومِنْ ولد عمر يُسَمى عمر، يسير بسيرة عمر ويملأ الأرض عدلاً.
ومرت الأيام، وتحققت رؤيا أمير المؤمنين، ففي منطقة حلوان بمصر حيث يعيش وإلى مصر عبد العزيز بن مروان وزوجته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وُلِد عمر بن عبد العزيز سنة 61هـ، وعني والده بتربيته تربية صالحة، وعلَّمه القراءة والكتابة، لكن عمر رغب أن يغادر مصر إلى المدينة ليأخذ منها العلم، فاستجاب عبد العزيز بن مروان لرغبة ولده وأرسله إلى واحد من كبار علماء المدينة وصالحيها وهو (صالح بن كيسان).
حفظ عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم، وظهرت عليه علامات الورع وأمارات التقوى، حتى قال عنه معلِّمه صالح بن كيسان: ما خَبَرْتُ أحدًا -الله أعظم في صدره- من هذا الغلام، وقد فاجأته أمه ذات يوم وهو يبكي في حجرته، فسألته: ماذا حدث لك يا عمر؟ فأجاب: لا شيء يا أماه إنما ذكرتُ الموت، فبكت أمه.
وكان معجبًا إعجابًا شديدًا بعبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وكان دائمًا يقول لأمه: تعرفين يا أماه لأكونن مثل خالي عبد الله بن عمر، ولم تكن هذه الأشياء وحدها هي التي تُنبئ بأن هذا الطفل الصغير سيكون علمًا من أعلام الإسلام، بل كانت هناك علامات أخرى تؤكد ذلك، فقد دخل عمر بن العزيز إلى إصطبل أبيه، فضربه فرس فشجَّه (أصابه في رأسه) فجعل أبوه يمسح الدم عنه، ويقول: إن كنتَ أشجَّ بني أمية إنك إذن لسعيد.
وكان عمر نحيف الجسم أبيض الوجه حسن اللحية، وتمضي الأيام والسنون ليصبح عمر بن عبد العزيز شابًّا فتيًّا، يعيش عيشة هنيئة، يلبس أغلى الثياب، ويتعطر بأفضل العطور، ويركب أحسن الخيول وأمهرها، فقد ورث عمر عن أبيه الكثير من الأموال والمتاع والدواب، وبلغ إيراده السنوي ما يزيد على الأربعين ألف دينار، وزوَّجه الخليفة عبد الملك بن مروان ابنته فاطمة، وكان عمر -رضي الله عنه- وقتها في سن العشرين من عمره، فازداد غِنًى وثراءً.
ولما بلغ عمر بن عبد العزيز الخامسة والعشرين، اختاره الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ليكون واليًا على المدينة وحاكمًا لها، ثم ولاه الحجاز كله، فنشر الأمن والعدل بين الناس، وراح يعمِّر المساجد، بادئًا بالمسجد النبوي الشريف، فحفر الآبار، وشق الترع، فكانت ولايته على مدن الحجاز كلها خيرًا وبركة، شعر فيها الناس بالأمن والطمأنينة.
واتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة على رأسهم التابعي الجليل (سعيد بن المسيِّب) فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة، وذات مرة جمعهم، وقال لهم:
إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل (حاكم) ظلامة فأُحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فشكروه ثم انصرفوا، وظل عمر بن عبد العزيز في ولاية المدينة ست سنوات إلى أن عزله الخليفة الوليد بن عبد الملك لأن الحجاج أفهمه أن عمر أصبح يشكل خطرًا على سلطان بني أمية.(4/5)
ذهب عمر إلى الشام ومكث بها إلى أن مات الوليد بن عبد الملك، وتولى الخلافة بدلاً منه أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان يحب عمر، ويعتبره أخًا وصديقًا ويأخذ بنصائحه، وذات يوم مرض الخليفة مرض الموت، وشعر بأن نهايته قد اقتربت، فشغله أمر الخلافة حيث إن أولاده كلهم صغار لا يصلحون لتولي أمور الخلافة، فشاور وزيره (رجاء بن حيوة) العالم الفقيه في هذا الأمر، فقال له:
إن مما يحفظك في قبرك ويشفع لك في أخراك، أن تستخلف على المسلمين رجلا صالحًا.
قال سليمان: ومن عساه يكون؟
قال رجاء: عمر بن عبد العزيز.
فقال سليمان: رضيت، والله لأعقدن لهم عقدًا، لا يكون للشيطان فيه نصيب، ثم كتب العهد، وكلف (رجاء) بتنفيذه دون أن يَعْلَمَ أحدٌ بما فيه.
مات سليمان، وأراد (رجاء بن حيوة) تنفيذ العهد لكن عمر كان لا يريد الخلافة، ولا يطمع فيها، ويعتبرها مسئولية كبيرة أمام الله، شعر عمر بن عبد العزيز بالقلق وبعظم المسئولية، فقرر أن يذهب على الفور إلى المسجد حيث يتجمع المسلمون، وبعد أن صعد المنبر قال: لقد ابتليتُ بهذا الأمر على غير رَأْي مِنِّي فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم، لكن المسلمين الذين عرفوا عدله وزهده وخشيته من الله أصرُّوا على أن يكون خليفتهم، وصاحوا في صوت واحد: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين، فبكي عمر.
وتولى الخلافة في يوم الجمعة، العاشر من صفر سنة 99هـ، ويومها جلس حزينًا مهمومًا، وجاء إليه الشعراء يهنئونه بقصائدهم، فلم يسمح لهم، وقال لابنه: قل
لهم {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15].
دخلت عليه زوجته فاطمة وهو يبكي، فسألته عن سرِّ بكائه، فقال: إني تَقَلَّدْتُ (توليت) من أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أسودها وأحمرها، فتفكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمجهود، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذوي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حجة فبكيتُ.
وترك عمر زينة الحياة الدنيا، ورفض كل مظاهر الملك التي كانت لمن قبله من الخلفاء، وأقام في بيت متواضع بدون حرس ولا حجاب، ومنع نفسه التمتع بأمواله، وجعلها لفقراء المسلمين، وتنازل عن أملاكه التي ورثها عن أبيه، ورفض أن يأخذ راتبًا من بيت المال، كما جرَّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها وجواهرها الثمينة، وطلب منها أن تعطيها لبيت المال، فقال لها:
اختاري..إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد، فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر، فقالت: بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي، فأمر عمر بتلك الجواهر فوضعت في بيت المال.
وبلغه أن أحد أولاده اشترى خاتمًا له فصٌّ بألف درهم، فكتب إليه يلومه، ويقول له: بِعه وأشبع بثمنه ألف جائع، واشترِ بدلاً منه خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
ويحكى أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كان يقسم تفاحًا للمسلمين، وبينما هو يفرقه ويقسمه على من يستحقه إذ أخذ ابن صغير له تفاحة، فقام عمر وأخذ التفاحة من فمه، فذهب الولد إلى أمه وهو يبكي، فلما علمت السبب، اشترت له تفاحًا، فلما رجع عمر شم رائحة التفاح، فقال لزوجته: يا فاطمة، هل أخذت شيئًا من تفاح المسلمين؟ فأخبرته بما حدث، فقال لها: والله لقد انتزعتها من ابني فكأنما انتزعتُها من قلبي، لكني كرهتُ أن أضيِّع نفسي بسبب تفاحة من تفاح المسلمين!!
وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي تحت تصرفه وطوع أمره أموال الدولة وكنوزها، يقول لزوجته يومًا: تشتهي نفسي عسل لبنان، فأرسلت فاطمة إلى ابن معد يكرب، عامل (أمير) لبنان، وذكرت له أن أمير المؤمنين يشتهي عسل لبنان، فأرسل إليها بعسل كثير، فلما رآه عمر غضب، وقال لها: كأني بك يا فاطمة قد بعثتِ إلى ابن معد يكرب، فأرسل لك هذا العسل؟ ثم أخرج عمر العسل إلى السوق، فباعه، وأدخل ثمنه بيت المال، وبعث إلى عامله على لبنان يلومه، ويقول له: لو عُدْتَ لمثلها فلن تلي لي عملا أبدًا، ولا أنظر إلى وجهك.
وكان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلاً، خرج ذات ليلة إلى المسجد ومعه رجل من الحراس، فلما دخل عمر المسجد مرَّ في الظلام برجل نائم، فأخطأ عمر وداس عليه، فرفع الرجل رأسه إليه وقال أمجنون أنت؟ فقال: لا، فتضايق الحارس وهَمَّ أن يضرب الرجل النائم فمنعه عمر، وقال له: إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- رقيق المشاعر، رحيمًا بالإنسان والحيوان، كتب ذات يوم إلى واليه في مصر قائلاً له: بلغني أن الحمالين في مصر يحملون فوق ظهور الإبل فوق ما تطيق، فإذا جاءك كتابي هذا، فامنع أن يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل.
وقد حرص عمر الزاهد العادل التقي على ألا يقرب أموال المسلمين ولا يمد يده إليها، فهي أمانة في عنقه، سيحاسبه الله عليها يوم القيامة، فكان له مصباح يكتب عليه الأشياء التي تخصه، ومصباح لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفًا..وذات مرة سخنوا له الماء في المطبخ العام، فدفع درهمًا ثمنًا للحطب!!(4/6)
لقد كان همه الأول والأخير أن يعيش المسلمون في عزة وكرامة، ينعمون بالخير والأمن والأمان، كتب إلى أحد أمرائه يقول: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، وكان يأمر عماله بسداد الديون عن المحتاجين، وتزويج من لا يقدر على الزواج، بل إن مناديه كان ينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى استطاع بفضل من الله أن يغنيهم جميعًا.
خرج عمر راكبًا ليعرف أخبار البلاد، فقابله رجل من المدينة المنورة فسأله عن حال المدينة، فقال: إن الظالم فيها مهزوم، والمظلوم فيها ينصره الجميع، وإن الأغنياء كثيرون، والفقراء يأخذون حقوقهم من الأغنياء، ففرح عمر فرحًا شديدًا وحمد الله، وهكذا رجل من ولد (زيد بن الخطاب) يقول: (إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفًا، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يبحث عمن يعطيه فما يجد، فيرجع بماله، قد أغنى الله الناس على يد عمر).
طُلب منه أن يأمر بكسوة الكعبة،كما جرت العادة بذلك كل عام، فقال: إني رأيت أن أجعل ذلك (ثمن كسوة الكعبة) في أكباد جائعة،فإنه أولى بذلك من البيت، وبعد فترة حكمه التي دامت تسعة وعشرين شهرًا، اشتد عليه المرض، فجاءه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا توصي لأولادك، فإنهم كثيرون، وقد أفقرتهم، ولم تترك لهم شيئًا؟!
فقال عمر: وهل أملك شيئًا أوصي لهم به، أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين؟ والله لا أعطيهم حق أحد، وهم بين رجلين: إما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم، وإما غير صالحين فلا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله، وجمع أولاده، وأخذ ينظر إليهم، ويتحسس بيده ثيابهم الممزقة؛ حتى ملئت عيناه بالدموع، ثم قال: يا بَنِي، إن أباكم خُيِّر بين أمرين: بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل أبوكم النار، وبين أن تفتقروا، ويدخل أبوكم الجنة، فاختار الجنة.. يا بَنِي، حفظكم الله ورزقكم، وقد تركتُ أمركم إلى الله وهو يتولى الصالحين.
ثم قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا، وجلس على الباب مَسْلَمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعاه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83].
ومات عمر بعد أن ضرب المثل الأعلى في العدل والزهد والورع... مات أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين!!
================
المأمون بن الرشيد
اليوم يوم الخلفاء.. فقد مات خليفة، وتولى خليفة، وولد خليفة، أما الذي مات فهو الخليفة (موسى الهادي) وأما الذي تولى الخلافة فهو هارون الرشيد، أما الخليفة الذي ولد فهو المأمون، وكان هذا اليوم في سنة 170هـ.
كان المأمون أول غلام يولد للرشيد، وللطفل الأول غالبًا في نفس والده قدر من الإعزاز والمحبة؛ لذلك ظل الرشيد يحب المأمون ويؤثره كل الإيثار، خاصة أنه فقد أمه (مراجل) التي ماتت بعد ولادته بأيام قليلة، فنشأ محرومًا من عطف الأم، وكان الرشيد معجبًا بذكاء ابنه وانصرافه إلى العلم، فحين دخل على المأمون وهو ينظر في كتاب، قال له: ما هذا؟ فأجاب المأمون: كتاب يشحذ الفكرة، ويحسن العشرة، فقال الرشيد: الحمد لله الذي رزقني من يرى بعين قلبه أكثر مما يرى بعين جسمه.
وكان هارون الرشيد يفتخر دائمًا بخُلُق المأمون وشخصيته، يقول: (إني لأتعرف في عبد الله المأمون حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، ولو شاء أن أنسبه إلى الرابع لنسبته، يعني نفسه).
تلقى المأمون العلم على خيرة علماء عصره، فتلقى علم العربية على يد الكسائي، أحد علماء الكوفة المشهورين في القراءات والنحو واللغة، وتلقى دروس الأدب على يد أبي محمد اليزيدي وهو واحد من خيرة علماء عصره، ودرس المأمون الحديث حتى صار واحدًا من رواته، وسمع منه كثيرون ورووا عنه، وقد ساعدته على رواية الحديث ذاكرته القوية الحافظة التي كانت مضرب المثل، فيحكى أن الرشيد أراد الحج فدخل الكوفة وطلب المحدِّثين (علماء الحديث) فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس، وعيسى بن يونس، فبعث إليهما الأمين والمأمون، فحدثهما (ابن إدريس) بمائة حديث، فقال المأمون: يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي؟ فأعادها فعجب ابن إدريس من حفظه.
وشب المأمون وكل اهتمامه كان بقراءة الفقه والتاريخ والأدب والفلسفة وغيرها من العلوم، ولما جاء الوقت لكي يختار الرشيد خليفة للمسلمين من بعده، كان في حيرة من أمره، فقد كان في قرارة نفسه يحب المأمون، ويثق في قدرته على تحمل أعباء الحكم بعده، إلا أن رأيه استقر أخيرًا على أن يكون الأمين وليًّا للعهد، ثم جعل المأمون وليًّا للعهد بعد أخيه.
وبعد موت هارون الرشيد أخذ الأمين البيعة من الناس بالخلافة، ثم أرسل إلى المأمون يدعوه للسمع والطاعة، فأعلن المأمون ولاءه وطاعته لأخيه، غير أن بطانة السوء نجحوا في جعل الأمين يحول ولاية العهد إلى ابنه بدلا من أخيه المأمون، لكن المأمون رفض هذا الأمر واستطاع بمعاونة وزيره الفضل بن سهل وأكبر قواده طاهر بن الحسين أن يصبح خليفة للمسلمين.(4/7)
امتاز عصر المأمون بأنه كان غنيًّا بالعلماء الكبار في كل فروع المعرفة من أمثال الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسفيان بن عيينة، والفَرَّاء، وغيرهم من كبار العلماء، وكان يحب العلم والعلماء، ويروي الأحاديث، ويهتم بالفلسفة، ويعمل على تشجيع العلماء والأدباء، فأرسل البعوث إلى القسطنطينية واليونان والهند وأنطاكية.. وغيرها من المدن للبحث عن مؤلفات علماء اليونان وترجمتها إلى اللغة العربية، وكان يسعى إلى إحضار العلماء الأجانب للاستفادة بعلمهم وخبرتهم، حتى أصبحت بغداد في عصره منارة للعلم.
واهتم المأمون بالشعر اهتمامًا كبيرًا، فكان يعقد مجالس تُنْشَدُ فيها الأشعار، ولم يكن المأمون يحب الشعر فحسب، بل كان شاعرًا رقيق المشاعر؛ ومن شعره في وصف الصديق المخلص:
إِنَّ أَخَاكَ الحَقَّ مَن يَسْعَى مَعَكْ وَمنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَكْ
وَمَنْ إِذَا صَرْفُ الزَّمَانِ صَدَّعَكْ بَدَّدَ شَمْلَ نَفْسِهِ لِيَنْفَعَكْ
واشتهر المأمون بكرمه الواسع، وكان يقول: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وكان حريصًا كل الحرص على قراءة كل الشكاوى والمظالم التي تصل إليه، يحققها بنفسه، وينصف المظلوم من الظالم.
تقدمت إليه امرأة تشكو ابنه العباس، فطلب من وزيره أحمد بن أبي خالد أن يأخذ بيد العباس ويجلسه مع المرأة مجلس الخصوم، وارتفع صوت المرأة وأخذ يعلو على كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه، ثم قضى لها بحقِّها وأمر لها بنفقة.
وعنف المأمون واحدًا من رجال حاشيته ظلم رجلا فارسيًّا، فقال له: والله لو ظلمت العباس ابني كنت أقل نكيرًا عليك من أن تظلم ضعيفًا لا يجدني في كل وقت، وكان المأمون متسامحًا، يعفو عمن ظلمه أو ناله بسوء، حتى إنه يقول: أنا والله ألذ العفو حتى أخاف أن لا أُؤْجَر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتي للعفو، لتقربوا إلى بالجرائم، ويقول أيضًا: وددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف ويخلص السرور إلى قلوبهم، لكنه وإن كان متسامحًا في حق نفسه فإنه لم يكن يتهاون في حق الدين أو الدولة.
وكان لينًا مع الناس حليمًا رفيقًا، يذكر عبد الله بن طاهر وهو واحد من رجاله المقربين قال: كنت عند المأمون فنادى بالخادم: يا غلام.. فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيًا وصاح: يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ولا يشرب؟! كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام؟ فنكس المأمون رأسه طويلاً فما شككت أن يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إليَّ، وقال: يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمة، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لتتحسن أخلاق خدمنا.
إلى جانب هذا الحلم الواسع كان المأمون جامعًا لكثير من الفضائل؛ من ذلك تواضعه الشديد لكل من يعرفه، ولقد كان قاضيه (يحيى بن أكثم) في ضيافته، فقام الخليفة المأمون بإحضار ماء له، فاندهش يحيى من ذلك، فكيف يأتي له أمير المؤمنين بالماء ويخدمه وهو جالس في مكانه؟! فلما رأى المأمون علامات الاستفهام على وجه يحيى قال له: سيد القوم خادمهم.
وعُرِفَ المأمون بذكائه وكثرة علمه، فقد جاءته امرأة، وقالت له: مات أخي، وترك ستمائة (600) دينار، فأعطوني دينارًا واحدًا، وقالوا: هذا ميراثك من أخيك، ففكر المأمون وقال: أخوك ترك أربع بنات، قالت: نعم.. قال: لهن أربعمائة (400) دينار (ثلث الميراث) قالت: نعم، قال: ترك أمًّا، فلها مائة (100) دينار (سدس الميراث) وزوجة لها خمسة وسبعون (75) دينارًا (ثمن الميراث).. بالله ألك اثنا عشر (12) أخًا؟ قالت: نعم.. قال: لكل واحد ديناران، ولك دينار.
وكان المأمون رجاعًا إلى الحق، فقد أمر أن ينادي بإباحة نكاح المتعة، فدخل عليه يحيى بن أكثم، فذكر له حديث علي -رضي الله عنه- بتحريها، فلما علم صحة الحديث، رجع إلى الحق وأمر من ينادي بتحريمها، وقامت في عهده عدة حروب، فقضى على بعض الثورات، كما جاهد الروم وحاربهم، واستمرت خلافة المأمون عشرين سنة من سنة 198هـ إلى سنة 218 هـ.
لما أحس بدنو أجله قال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، يا من لا يموت ارحم من يموت.
ومات المأمون بعد حياة حافلة بالخير والعطاء، وهو في الثامنة والأربعين من عمره في مدينة (طرطوس) سنة 218هـ
==================
هارون الرشيد
أتبكي يا أمير المؤمنين؟! تبكي وأنت الذي تصلى كل يوم مائة ركعة، وتتصدق من مالك الخاص بألف درهم في كل يوم؟! تبكي وأنت الذي عظَّمت حرمات الإسلام، وبالغت في احترام العلماء والوعاظ، وجاهدت في سبيل الله؟!
كان كثير البكاء على نفسه، تسيل دموعه كالسيل إذا وعظ، ولم يذكر له النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال: صلى الله على سيدي.
هناك في مدينة (الري) تلك المدينة القديمة التي تقع في الجنوب الشرقي من طهران وُلِد هارون الرشيد بن المهدي بن جعفر المنصور في أواخر ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان أبوه (المهدي) في تلك الأيام أميرًا على الري وخراسان من قبل الخليفة المنصور، ثم أصبح خليفة للمسلمين بعد وفاة أبيه المنصور.
نشأ هارون تحيطه رعاية والده الذي دربه منذ حياته المبكرة على الحياة العسكرية، فجعله أميرًا لحملة عسكرية كانت تسمى بالصوائف حيث كانت تخرج للجهاد في الصيف، والشواتي نسبة إلى الشتاء لتهديد العدو البيزنطي وتخويفًا له، وولاه المغرب كله، ثم عينه والده وليًّا للعهد بعد أخيه الهادي.(4/8)
تولي الرشيد خلافة المسلمين سنة 170هـ، وسنه خمسة وعشرين عامًا وأصبحت بغداد في عصره من أعظم مدن الدنيا، فريدة في حضارتها وعمارتها، وشمل بعدله القوي والضعيف والعاجز والمريض وذا الحاجة، وازدهرت فترة ولايته بوجود الكثير من أئمة العلم العظام كالإمام مالك بن أنس، والليث بن سعد، والكسائي ومحمد بن الحسن من كبار أصحاب أبي حنيفة.
وكان يضرب به المثل في التواضع، يحكى أن أبي معاوية الضرير وهو من العلماء المحدثين قال: أكلت مع الرشيد ثم صبَّ على يدي الماء رجل لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من صب عليك؟ قلت: لا. قال: أنا، إجلالاً للعلم.
وجاوزت خشيته من الله الحدود، فكان جسده يرتعد، ويسمع صوت بكائه إذا وعظه أحد من الناس، يحكي أنه جالس (أبا العتاهية) الشاعر، وكلف أحد جنوده بمراقبته، وإخباره بما يقول، فرآه الجاسوس يومًا وقد كتب على الحائط:
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله يجتمع الخصوم
فأخبر الجاسوس الرشيد بذلك، فبكي وأحضر أبا العتاهية، وطلب منه أن يسامحه، وأعطاه ألف دينار.
وقال الأصمعي: وضع الرشيد طعامًا، وزخرف مجالسه وزينها، وأحضر أبا العتاهية وقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال أبو العتاهية:
فعش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور
فقال الرشيد: أحسنت ثم ماذا؟ فقال:
يسعى إليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكور
فقال: حسن؟ ثم ماذا؟ فقال أبو العتاهية مندفعًا:
فإذا النفوس تقعقعت في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد، فزجر أحد الحاضرين أبا العتاهية لأن المقام مقام فرح وسرور، فقال الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا منه.
وكان كثير الغزو والحج يغزو سنة ويحج سنة، فإذا حج حجَّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج قام بالإنفاق على ثلاثمائة رجل ليؤدوا فريضة الحج، ورغم هذه الرقة والشفافية والزهد، كان شجاعًا لا يخاف في الله لومة لائم، غيورًا على دينه، صلبًا كالحديد في وجه أعداء الله، ففي سنة سبع وثمانين ومائة (187هـ) نقض ملك الروم الهدنة التي كانت بين المسلمين وبين الملكة (ذيني) ملكة الروم، فكتب للرشيد كتابًا يقول فيه: (أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ (طائر ضخم خيالي) وأقامت نفسها مقام البيدق (الطائر الصغير) فحملت إليك من أموالها أحمالاً لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيني وبينك).
فلما قرأ الرشيد رسالته كتب إليه: (قد قرأت كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع) وسار إليه بجيش كبير حتى فتح مدينة (هرقل) وانتصر عليه انتصارًا عظيمًا، وفي عهده لم يبق في الأسر مسلم، وظل طيلة حياته يحب الجهاد والفتوحات الإسلامية، فغزا الروم، وفتح هرقلة، وبلغ جيشه أنقره، وسار الرشيد نحو خراسان ليغزوها، فوصل (طوس) فمرض بها ومات في ثالث جمادى الآخر سنة ثلاث وتسعين ومائة (193هـ).
مات هارون الرشيد، وود العلماء لو يفتدوه بأنفسهم، يقول الفضيل بن عياض: (ما من نفس تموت أشد على من موت أمير المؤمنين هارون الرشيد، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره) ويحكي أنه لما احتضر قال: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة.. يا من لا يموت ارحم من يموت.
===============
المعتصم بالله
بلغه أن ملك الروم الظالم خرج وأغار على بلاد الإسلام، وأن امرأة مسلمة صاحت وهي في أيدي جند الروم: (وامعتصماه!!) فأجابها على الفور وهو جالس على سرير ملكه (لبيك لبيك!!) وجهز جيشًا عظيمًا ليثأر لكرامة امرأة مسلمة أهانها أعداء الله!!
هو الخليفة أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، الذي عرف بالمعتصم بالله، ولد سنة 180هـ، وكان يقال له المثمن؛ لأنه ثامن الخلفاء من بني العباس ولأنه استمر في ملكه ثماني سنين وفتح ثمانية فتوح، وأسر ثمانية ملوك.
كان المعتصم شجاعًا، كتب إليه ملك الروم يهدده، فأمر أن يقرءوا له رسالته، فلما قرأها أمر برميها، وقال للكاتب اكتب: (أما بعد.. فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار) وكانت له فتوحات وغزوات كثيرة في سبيل الله، قيل: إنه لما أراد غزو (عمورية) زعم المنجمون أنه لن ينتصر، وطلبوا منه ألا يخرج، ولكنه خرج وانتصر بإرادة الله.
وكان المعتصم كريم الخلق، متواضعًا، يحكي عنه أنه خرج مع أصحابه في يوم ممطر، وتفرق عنه أصحابه، فبينما هو يسير إذ رأي شيخًا معه حمار عليه حمل شوك، وقد وقع الحمار وسقط الحمل، والشيخ قائم ينتظر من يمر به فيساعده، فنزل المعتصم عن دابته، وخلص الحمار عن الوحل، ورفع عليه حمله وانتظر أصحابه حتى جاءوا، وأمرهم أن يسيروا مع الشيخ ليعينوه.
كما كان المعتصم سخيًّا، فلقد روى أحمد بن أبي داود: تصدق المعتصم على يدي، ووهب ما قيمته ألف ألف درهم، وفي عهده كثر العمران، وبنيت القصور وارتفع البنيان، وقد مرض المعتصم فأخذ يقول: ذهبت الحيلة، فليس حيلة، ولقي ربه في سنة 227هـ بعد حياة حافلة بالأعمال النافعة للمسلمين.
===============
الناصر لدين الله.. صلاح الدين الأيوبي
صنع الرجال أعظم صنعة، وبناء الإنسان أشد من بناء ناطحات السحاب، وهناك رجال الواحد منهم بألف، كما أن هناك ألوفاً لا يساوون رجلاً واحداً.
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ.. .. ..وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنا(4/9)
وفي وسط الظلام الدامس، والأيام الحالكة، والليالي المفعمة بالسواد، يتراءى للناس شعاع من نور الله، فيبعث الله لهم من يجدد لهم أمر دينهم، ويعيد ترتيب شؤون حياتهم، فيقيض الله لهذه الأمة رجالاً يحملون همَّ هذا الدين، فيتركون الدنيا وزينتها، ويجعلون زخرفها وراءهم ظهرياً.
وصلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى الدويني، التكريتي المولد- رحمه الله - كان من هذا الطراز، رجلٌ أمة، وإذا جاز القول فهو إحدى معجزات الإسلام الباهرة، وإحدى آياته الظاهرة، ولكن.. لماذا الحديث عن صلاح الدين الآن؟ أهو تغنّى بالماضي أم بكاء على الأطلال ؟ أم أنه تحسر على الواقع المرير؟
لماذا صلاح الدين؟!
الحق أن الحديث عن صلاح الدين رحمه الله أمر مطلوب، أو قل هو ضرورة إسلامية وفريضة شرعية في هذا الوقت لأمور منها:
أولاً : لأن الأمة اليوم ضلت طريق الهدى، وتنكبت طرق الصلاح، فهي تحتاج إلى من يبين لها السبيل الصحيح والصراط القويم.. وفي هدي السابقين أعظم هداية.
ثانياً: لأن استقراء التاريخ أمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف، ليسير على الطريق الخلف، ولتعلم كيف أعيدت القدس أولاً لتعمل بنفس الطرقة على إعادتها ثانياً.
ثالثاً: لأن أمتنا في حاجة إلى من تقتدي، في عصر قلت فيه القدوات، وانعدمت فيه البطولات، وتغيرت فيه مفاهيم الرجولة والمروءة والمثل العليا.
رابعاً: لأن أمتنا تنتظر مثيلاً لصلاح الدين ليعيد لها عزتها وكرامتها.
خامساً: لأن القدس في محنة أشبه بما كانت عليه قبل مجيء صلاح الدين.
سادساً: لأن التفاؤل بالنصر أمر مطلوب، ومهما علت دولة الباطل فإنها ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فلا داعي لليأس، ولا حاجة إلى القنوط، بل العمل العمل، فنحن بحاجة إلى عطاء الأغنياء، وبذل العلماء، وجهاد الأتقياء، ومثابرة الدعاة، وعزائم الرجال، نعم بحاجة إلى لم الشمل، وشحذ الهمم، وتكاتف القوى، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، وحسن التوكل على الله عز وجل.
الأصل والنشأة :
لم يكن صلاح الدين - رحمه الله - من الأصل العربي الذي يتغنى به كثير من أدعيائه، وإنما كان رحمه الله من عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، ولد في تكريت، وهي بلدة قديمة تقع بين بغداد والموصل، وكان أبوه حاكماً لقلعتتها، والحق أن عراقة النسب لا تشفع لسوء الخلق، ورفعة الحسب لا تغني عن ضعف الدين، وهل كان أكثر عظماء هذه الأمة وبناة هذه الحضارة إلا من مسلمي غير العرب، وسل عن ذلك التاريخ يخبرك بأسماء لامعة كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم وقادة الجيوش.
ومن غريب ما وقع، أن ولادة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذي، صادفت إجبار أبيه على الخروج من تكريت، فتشاءم أبوه منه فقال له أحد الحضور: فما يدريك أن يكون لهذا المولود ملكاً عظيماً له صيت ؟!.
هاجر نجم الدين أيوب بأسرته من تكريت إلى الموصل وكان نزوله على عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على الفروسية، وتدرب فيها على السلاح، ونما فيها على حب الجهاد، فقرأ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف وتعلم من اللغة ما تعلم .
صلاح الدين وزيراً في مصر:
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين إليها مقرًّا لدولة العبيديين (أحفاد عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي) والمسماة زورا وبهتانا بالدولة الفاطمية، وكانت مصر في هذا الوقت نهباً للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة، من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة، فطمع فيها الصليبيون، فلما رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس أموري الصليبي في دخول مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه، يساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلما علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، ثم خلفه على وزارتها صلاح الدين .
حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين تغلب عليها كما تغلب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور الباطنية في مصر، فأسس مدرستين كبيرتين هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يحول الناس إلى مذهب أهل السنة، تمهيداً للتغيير الذي يريده، إلى أن استتب له الأمر تماما في مصر فخطب للخليفة العباسي على المنابر في الجمع طاعة لأمر نور الدين محمود وتحقيقا لرغبة الأمة كلها .. وعادت مصر إلى حظيرة الخلافة الإسلامية مرة أخرى، وأصبح صلاح الدين سيد مصر، ليس لأحد فيها كلمة سواه.
صلاح الدين والجهاد
كان" صلاح الدين "رحمه الله مفعما قلبه بحب الجهاد شغوفاً به، قد استولى على جوانحه حتى قال عنه الإمام الذهبي في السير: "كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سُمِع بمثلها لأحد في الدهر".
وقد هجر رحمه الله من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له ميل إلا إليه، ولا حب إلا لرجاله . يقول القاضي بهاء الدين: "كان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر يمينه".
إن لكل رجل هِمّة وهمُّة الرجل على قدر ما أهمه، وكأني بابن القيم - رحمه الله يصف صلاح الدين حين قال : "النعيم لا يدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له ".
وإذا كانت النفوس كباراً.. .. ..تعبت في مرادها الأجسام(4/10)
وهكذا كان صلاح الدين - رحمه الله - كانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وقد استغرقت ترجمة ابن الأثير له في كتابه "الكامل في التاريخ" أكثر من 220 صفحة كلها مفعمة بالجهاد، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية.
صلاح الدين والقدس
يقول بهاء الدين شداد واصفاً حال صلاح الدين مع القدس: "كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال". وقال أيضاً : "وهو كالوالدة الثكلى، ويجول بفرسه من طلب إلى طلب - ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي " يا للإسلام " وعيناه تذرفان، بالدموع وكلما نظر إلى عكا، وما حل بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعاماً ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه".
وكان من كلامه - رحمه الله -: " كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!.
همم تفادت الخطوب بها.. .. ..فهُرِعن من بلد إلى بلد
إن صلاح الدين - رحمه الله - كانت له غاية، وهو في غايته لا يرضى بدونها، إنه يتمثل قول القائل:
ونحن أناس لا توسط عندنا.. .. ..لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا.. .. ..ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
ولقد أراد صلاح الجنة ورضي بها مقراً بدلاً عن الدنيا، وقدم لها المهر غالياً رحمه الله.
وما أن أكرم الله " صلاح الدين " في حطين، حتى جاءته رسالة على لسان المسجد الأقصى جاء فيها :
يا أيها الملك الذي.. .. .. لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة.. .. ..تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت.. .. ..وإنا على شرفي أُدنس
وأكرم الله بيت المقدس بصلاح الدين كما أكرم صلاح الدين ببيت المقدس ففتحه في 27 رجب عام 583هـ ، وقام القاضي محيي الدين بن زكي الدين ليخطب أول جمعة بعد قرابة مائة عام، وكان مما قال مخاطباً صلاح الدين وجيشه: " فطوبى لكم من جيش، ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء.
أوصافه
لم يكن "صلاح الدين" رحمه الله ممن يبحث عن ألقاب زائفة، أو دنيا زائلة لكنه كان داعية حق، ورجل معركة، وصاحب عقيدة.. يقول واصفوه: "كان رحمه الله خاشع القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن الكريم خشع قلبه ودمعت عينه، ناصراً للتوحيد، قامعاً لأهل البدع، لا يؤخر صلاة ساعة عن ساعة، وكان إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خر ساجداً لله قائلاً: " إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل".
ومن جميل ما ذكر عنه أنه كان يواظب على سماع الحديث، حتى سمع جزءاً من الحديث وهو واقف بين الصفين، وقال في ذلك - رحمه الله -: "ذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً".
كانت أمنيته أن يسود الإسلام كل بلاد الأرض قاطبة .. اسمع إليه يقول: "إنه متى ما يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره واتبعتهم فيها، حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت!!!".
موته رحمه الله
ومات صلاح الدين :مات "صلاح الدين" - رحمه الله - كما مات من سبقه من البشر من الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين مرض رحمه الله في 16صفر589هـ، ووافته المنية في 27صفر589هـ، ولئن كانت روحه قد فارقت جسده، وانتقل بجسده وروحه عن دنيا الناس، إلا أن أعماله الخالدة حيّة يذكره الناس بها في كل آن، ويتطلع الناس إلى مثلها في كل مكان.
==================
صلاح الدين الأيوبي
يا صلاح الدين.. أيها القائد العظيم.. لقد بعثك الله إلينا لتخَلِّص المسلمين من الذل والهوان.. لتعيد إليهم عِزَّتهم وكرامتهم المسلوبة.. ولتعلِّمهم أن النصر لا يتم إلا بالإيمان بالله ورسوله، وأَنَّ راياتِ الإسلام لن تُرفَع ماداموا متفرقين غير معتصمين بحبل الله.
في سنة 492هـ استولى الصليبيون على بيت المقدس، فقتلوا الأطفال واغتصبوا النساء ومثلوا بالشيوخ، وهدموا المساجد، وأحرقوا البيوت، وذبحوا الآلاف من شباب المسلمين الأبرياء، واقتحموا المسجد الأقصى، وقتلوا كل من احتمى به من
المسلمين، فقتلوا أكثر من سبعين ألفًا من أئمة المسلمين وعلمائهم وعُبَّادهم وزهادهم ممن فارقوا الأوطان، وجاوروا ذلك الموضع الشريف، ليحتموا به ظنًّا منهم أن الصليبيين لن يقتحموا الأماكن المقدسة.
وبعد هذه المذبحة الوحشية التي حدثت في المسجد الأقصى، أمروا الأسرى فغسلوا شوارع المدينة الملطخة بدماء المسلمين، ودموعهم تنهمر من أعينهم، وظل المسلمون ينتظرون مجاهدًا من مجاهدي الإسلام ينقذ بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وبعد حوالي 40 سنة من الزمان، وفي سنة 532هـ ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب من أسرة كردية عريقة الأصل، في بلدة صغيرة من بلاد العراق تسمى (تكريت) وتولِّى والده ولاية (تكريت) في نفس الليلة التي وُلِد فيها صلاح الدين؛ لإخلاصه لـ(عماد الدين زنكي) أتابك الموصل.(4/11)
رحلت أسرة صلاح الدين إلى الموصل، واستقرت بها، وفيها نشأ صلاح الدين ينعم بخيراتها، ولما وصل إلى سن البلوغ، أرسله والده إلى مدرسة المدينة، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وكان صلاح الدين معروفًا بين زملائه بالذكاء الشديد، وهدوء الطبع، وحبه الشديد للمطالعة ودراسة الكتب، ولم يَنْسَ أبوه أن يعلمه الفروسية، ويدربه على استعمال أدوات الحرب، وفنون القتال، فأظهر فيها مهارة حربية كبيرة، أدهشت والده وزملاءه.
كان صلاح الدين يقرأ ويستمع إلى سِيَرِ قادة الحروب من المسلمين الذين يجاهدون في سبيل الله، ويتمني أن يكون واحدًا منهم لينقذ المسلمين من بطش الصليبيين، استجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه؛ عندما صحب عمه (أسد الدين شيركوه) على رأس حملة أرسلها (نور الدين محمود) وهو ابن عماد الدين زنكي إلى مصر لحمايتها من أطماع الصليبيين، وأظهر صلاح الدين من الشجاعة والثبات والبأس ما أدهش القادة، وتمَّ النصر لجيش عمه (شيركوه) الذي عينه الخليفة الفاطمي (العاضد) وزيرًا له، وأقام صلاح الدين مع عمه في القاهرة.
وشاءت الأقدار أن يموت (شيركوه) في مارس سنة 1169م، فاختار الخليفة الفاطمي صلاح الدين وزيرًا له بدلاً من عمه وهو في الحادية والثلاثين من عمره، فنشر صلاح الدين العدل بين الناس، وتقرَّب إلى الشعب المصري، يعطف على المساكين، ويساعد الفقراء، حتى أحبوه وأعجبوا بشخصيته.
ولما مات الخليفة الفاطمي تولى صلاح الدين حكم مصر، وثبت ملكه؛ فقضى على عناصر الخيانة فيها، وتخلص من القوى التي هددت سلطانه، ونجح في إزالة الخلاف المذهبي بين المسلمين عن طريق القضاء على الخلافة الفاطمية الشيعية ونشر المذهب السني، ورأى صلاح الدين أن الفرصة قد جاءته ليحقق ما كان يتمناه من إنقاذ المسلمين ورد اعتبارهم، وطرد الصليبيين من بيت المقدس، فأعد جيشًا قويًّا، كامل الأسلحة، كثير العدد، ثم قاد الجيش بنفسه، وسار إلى البلاد الخاضعة للصليبيين وأخذ يحررها واحدة بعد أخرى حتى وصل إلى بيت المقدس، فضرب حوله الحصار؛ مما اضطر الصليبيين إلى تسليم المدينة له.
ودخل جيش صلاح الدين بيت المقدس سنة (583هـ- 1188م) تقريبًا، ظافرًا منتصرًا، رافعًا رايات النصر والتوحيد، مكبرًا.. الله أكبر.. الله أكبر، لم يقتل طفلاً أو امرأة أو شيخًا كبيرًا، بل عاملهم بالرحمة والشفقة، وأطلق صلاح الدين سراح الشيوخ والضعفاء، ولم تنهب جيوشه بيتًا من البيوت أو تخرب زرعًا أو تقطع شجرًا، وحينما جمعت غنائم الحرب وقسمت بين الجنود والقادة، تنازل صلاح الدين عن نصيبه للفقراء من المسيحيين، وجعل الأسرى الذي كانوا من حظِّه أحرارًا.
وبينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس قابله شيخ مسيحي كبير السن، يعلق صليبًا ذهبيًّا في رقبته وقال له: أيها القائد العظيم لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟ فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس، فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ.. يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويحرم على قتل الأطفال والشيوخ والنساء، فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم..إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب.. فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحق، ثم سأل: وماذا يفعل من يريد الدخول في دينكم؟ فأجابه صلاح الدين: يؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه، وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.
وذات يوم كان صلاح الدين يتفقد أحوال جنده؛ فرأى امرأة من الصليبيين تبكي وتضرب على صدرها، فسألها عن قصتها، فقالت: دخل المسلمون في خيمتي وأخذوا ابنتي الصغيرة فنصحني الناس بأن أذهب إليك، وقالوا: إن السلطان صلاح الدين رجل رحيم، فدمعت عينا صلاح الدين، وأمر أحد الجنود أن يبحث عن الصغيرة وعمن اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، ففرحت الأم فرحًا شديدًا وشكرت صلاح الدين على مروءته وحسن صنيعه.
ولما علمت أوربا بانتصار القائد صلاح الدين ودخوله بيت المقدس جهزوا جيشًا كبيرًا من الفرسان البواسل والقادة الشجعان؛ لاسترداد بيت المقدس من يد
صلاح الدين، ووصلت الجيوش الصليبية إلى بلاد الشام تحت قيادة (ريتشارد قلب الأسد) الذي حاصر عكا ودخلها وغدر بأهلها بعد أن أمنهم، لكنه لم يستطع دخول بيت المقدس، وتحرك ريتشارد في نهاية أكتوبر عام 1191م من (يافا) قاصدًا بيت المقدس، ولكن صلاح الدين حصنها بنفسه، فتراجع ريتشارد وارتفعت الروح المعنوية لدى المسلمين، وتمَّ عقد صلح الرملة بين المسلمين والصليبيين، وكان من شروط الصلح وقف القتال بينهما لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ورجع ريتشارد إلى بلاده يجر أذيال الخيبة.(4/12)
وبعد أن أتمَّ الله النصر للمسلمين، وخلص بيت المقدس من الصليبيين عاد صلاح الدين إلى مصر بعد أن طال غيابه عنها؛ فبنى المساجد والمدارس، وبنى قلعة فوق هضبة جبل المقطم، وبنى حول القاهرة سورًا عظيمًا من الحجر يحميها من مكائد الأعداء، ثم توجه صلاح الدين يتفقد القلاع والمواقع البحرية، وبعدها توجه إلى دمشق، مارًّا ببيت المقدس، وفي دمشق مرض صلاح الدين واشتد المرض عليه ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة 589هـ، وبات في غيبوية طويلة لم يفق منها إلا نادرًا، فاستحضر أحد المقرئين ليقرأ عنده القرآن حتى وصل القارئ إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت.. تبسم وجه صلاح الدين، وتهلل وانتقلت روحه إلى رضوان الله، ودفن صلاح الدين في قلعة دمشق إلى أن شيدت له قبة ضريح في شمال (الكلاسة) شمالي جامع دمشق قرب المدرسة العزيزية التي بناها العزيز عثمان بن صلاح الدين؛ فنقل إليها.
وقد كتب في سيرة صلاح الدين كثير من المؤرخين القدماء والمحدثين مثل: (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) لابن شداد، و(الناصر صلاح الدين) لسعيد عبد الفتاح عاشور
-------------
من مآثر صلاح الدين الأيوبي
اشتهر صلاح الدين بين المسلمين بكفاحه وجهاده , وبين الأوربيين بسماحته وعدله , ورغم ذلك لم تقتصر مآثره ـ رحمه الله ـ على جهاده الذي انتهى بتحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين ـ وإن كان هذا شرفا لا يدانيه فيه كثير من العظماء ـ ولا على سماحته التي قلما تخلق بها أحد بعد الأنبياء , وإنما تعددت تلك المآثر , وكثرت كثرة تدعونا لتقديره والثناء عليه.
ونحن لو نظرنا في جهوده في رعاية المسلمين , وإصلاح شئون الدولة الإسلامية لوجدناها لا تقل عظمة عما قام به من جهاد في تحرير كثير من البلاد الإسلامية ولم شعثها , ولا عجب في ذلك , فالقائد العظيم قلما ينجح في الخارج قبل نجاحه في الداخل .
وهذه سطور نبرز فيها من جهوده ومآثره ما عساه أن ينفع العاملين لدين الله , وغيرهم من المسلمين ممن يبتغون الاقتداء بهذا الرجل الذي تبحث أمتنا الآن عن شبيهه ؛ ليعيد إليها بعضا من عزتها المسلوبة , وكرامتها المفقودة.
وأول هذه المآثر التي تحمد له ـ رحمه الله ـ على مر التاريخ ما أسداه إلى المسلمين المهاجرين من بلاد المغرب والأندلس تحت ضغط التعذيب والقتل والإبادة على يد الإسبان , إذ شمل هؤلاء بعطفه وحنانه وشفقته.
واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى إنه أمر بأن يوفر لهم كل ما يحتاجون إليه ؛ لينسيهم هول ما تعرضوا له من محن , وأنشأ حمامات لهم في الأماكن التي ينزلون بها , يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك , وبنى لهم مارستانا لعلاج من يمرض منهم , ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم, وجعل تحت أيديهم خداما , يأمرونهم بالنظر في مصالحهم , وما يحتاجونه من علاج وغذاء , كما وظف الأطباء لزيارة المرضى الذين يستحيون من الذهاب إلى المارستان المجاني , وجعل لمن يمر ببلاده من أبناء السبيل وجبات غذائية في كل يوم .
وأكثر هذه النفقات كانت من ماله الخاص , إذ كان رحمه الله شديد الحرص على الإنفاق في سبيل الله , حتى روي أن صدقة النفل قد استنفذت جميع ما ملكه من الأموال , وأنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما , وجراما واحدا ذهبا , ولم يخلف دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة .
وهذا العمل النبيل منه لعل في ذكره تذكرة لأهالي البلاد الإسلامية التي عافاها الله من الوقوع تحت نيران الاحتلال ؛ ليقوموا بواجبهم تجاه إخوانهم الذين حوصروا في ديارهم أو أخرجوا منها دون ملجأ أو ملاذ.
وثاني هذه المآثر قضاؤه على كثير من الأنظمة والتقاليد الفاسدة والبدع التي عمت مصر أيام الحكم الفاطمي , ومن بينها الضرائب الباهظة غير الشرعية التي أثقلت كاهل المصريين من قبل , تحت مسميات شتى , ولم يُبق منها إلا ما له سند شرعي كالجزية والخراج وعشور التجارة .
وثالث تلك المآثر عدله بين رعيته , حيث وصفه من عايشه من العلماء بأنه كان عادلا رءوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي , وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام , يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء , ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل واحد من كبير وصغير وعجوز وهرم وشيخ كبير , وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا .
كما كان في جميع زمانه قابلا لما يعرض عليه من الشكاوي, كاشفا لما ينهى إليه من المظالم , وكان يجمع القصص (الشكاوى ) في كل يوم , ثم يجلس مع الكاتب ساعة , إما في الليل أو في النهار , ويوقع على كل قصة بما يطلق الله على قلبه , وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع ظلامته , وأخذ قصته , وكشف كربته , كما قال القاضي ابن شداد .
ورابع تلك المآثر عطفه وشفقته على اليتامى , فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على من خلّفه , وجبر قلبه , وأعطاه راتبه إن كان له من أهله كبير يعتمد عليه وسلمه إليه , وإلا أبقى له من الراتب ما يكفي حاجته , وسلمه إلى من يكفله , ويعتني بتربيته .
وخامس تلك المآثر كرمه وإجلاله للعلم والعلماء , فقد قال قاضيه : إنه كان يكرم من يرد عليه من المشايخ , وأرباب العلم والفضل , وذوي الأقدار, وكان يوصينا لئلا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين حتى نحضرهم عنده , وينالهم من إحسانه , وقد جعل في قصره مكانا لبيع الكتب , يفتح يومين من كل أسبوع , وتباع الكتب فيه بأرخص الأثمان .(4/13)
كما كان مجلا لحفظة القرآن الكريم , وقد مر يوما على صبي صغير بين يدي أبيه , وهو يقرأ القرآن , فاستحسن قراءته , فأوقف عليه وعلى أبيه مزرعة .
وسادس تلك المآثر محافظته على الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها حتى قال عنه ابن شداد : فما رأيته صلى إلا في جماعة , ولم يؤخر له صلاة من ساعة إلى ساعة , وكان له إمام راتب ملازم مواظب , فإن غاب يوما صلى به من حضره من أهل العلم , إذا عرفه متقيا متجنبا للإثم .
وكان يواظب على السنن الرواتب , وكان له ركعات يصليها إن استيقظ بوقت من الليل , وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح , وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه , وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى .
وسابع تلك المآثر ورعه وعفته وتواضعه , فكان لا يلبس إلا ما يحل لبسه , وتطيب به نفسه كالكتان والقطن والصوف , كما كانت مجالسه مصونة من الحظر , ومنزهة من الهزء والهزل , آهلة بأهل الفضل , وما سُمعت له قط كلمة تسقط , ولا لفظة فظة تسخط , وكان من جالسه لا يعلم أنه جليس السلطان , بل يعتقد أنه جليس أخ من الإخوان , وكان حليما مقيلا للعثرات , متجاوزا عن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا .
يقول أحد المرافقين له : ولقد كان يسمع من المستغيثين إليه والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع , ويلقى ذلك بالبشر والقبول0
ومع ذلك كان يغضب للكبائر , ولا يغضي عن الصغائر , متشبها برسول الله الذي ما غضب لنفسه قط , وما كان يغضب إلا إذا انتهك حد من حدود الله , ويرشد إلى الهدى , ويهدي إلى الرشاد , ويسدد الأمر , ويأمر بالسداد ,وكان مماليكه وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد .
قال ابن شداد : وأما صبره فلقد رأيته بمرج عكا , وهو على غاية من مرض , اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته , بحيث لا يستطيع الجلوس , وإنما يكون متكئا على جانبه إذا كان في الخيمة , وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس , وكان يأمر أن يفرق على الناس , وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر , يطوف على الأطلاب , ومن العصر إلى صلاة المغرب , وهو صابر على شدة الألم , وقوة ضربان الدماميل , وكنا نعجب من ذلك , فيقول ـ رحمه الله ـ إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل , قال : وهذه عناية ربانية.
وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير , وطاهر السمع , فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير , وطاهر اللسان , فما رأيته أولع بشتم قط , وطاهر القلم , فما كتب بقلمه أذى لمسلم قط , وكان حسن العهد والوفاء , وكان ما يرى شيخا إلا ويرق له , ويعطيه ويحسن إليه , ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله عز وجل إلى مقر رحمته ومحل رضوانه.
تلكم بعض مآثر صلاح الدين الأيوبي جمعت في طياتها الأسوة لكل أمير أو مجاهد أو عابد أو ثري يبتغي الرشاد إلى طريق العزة والنصر والتمكين في الدنيا , ومرضاة الله في الآخرة .
=============
سيف الدين قطز
ازداد خطر التتار، وأصبحت مصر مهددة بغزوهم بعد أن نزل (هولاكو) قائد التتار بجيوشه إلى بغداد في سنة 656هـ، فقتل مئات الألوف من أهلها، ونهبوا
خزائنها، وقضوا على الخلافة العباسية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد
أسرته، وكبار رجال دولته.
امتد زحفهم إلى بلاد الجزيرة، واستولوا على (حرَّان) و(الرُّها) و(ديار بكر) ونزلوا على (حلب) في سنة 658هـ، فاستولوا عليها، ووصلوا إلى دمشق، فهرب سلطانها (الناصر يوسف بن أيوب) ثم دخلوا المدينة بعد أن استسلم أهلها، وواصل التتار زحفهم، فوصلوا إلى (نابلس) ثم إلى (الكرك) وبيت المقدس، وتقدموا إلى (غزة) دون أن يقاومهم أحد، ولم يبْقَ غير اليمن والحجاز ومصر، التي كان يتولى عرشها في ذلك الوقت المنصور على بن عز الدين أيبك، وكان صغيرًا لم يتجاوز عمره خمس عشرة سنة، ولم يكن قادرًا على تحمل أعباء الملك في هذه الظروف العصيبة؛ لذلك طلب علماء الإسلام من قطز أن يتولى العرش مكانه؛ لإنقاذ مصر والبلاد الإسلامية من خطر التتار.
ووصلت رسالة إلى قطز من زعيم التتار (هولاكو) وكانت الرسالة مليئة بالتخويف والتهديد، ومن بين ما جاء فيها: (... فلكم بجميع البلاد معتبر وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا، ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى ولا نرق لمن شكا، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق ينجيكم، وأي بلاد تحميكم؟!).
جمع قطز الأمراء بعد أن استمع إلى الرسالة، واتفق معهم على قتل رسل هولاكو فقبض عليهم واعتقلهم وأمر بإعدامهم، ثم علق رءوسهم على (باب زويلة) كان هذا التصرف من جانب قطز يعني إعلانه الحرب على التتار، فجمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم وأخذ رأيهم في الجهاد، وفي دار السلطنة بقلعة الجبل حضر العالم الكبير الشيخ (عز الدين بن عبد السلام)، والقاضي (بدر الدين السنجاري) قاضي الديار المصرية، واتفق الجميع على التصدي للتتار والموت في سبيل الله.(4/14)
خرج قطز يوم الاثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658هـ بجميع عسكر مصر، ومن انضم إليهم من عساكر الشام والعرب والتركمان .. وغيرهم من قلعة الجبل، فنادى في القاهرة وكل أقاليم مصر، يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله والتصدي لأعداء الإسلام، وجمع الأمراء، وطلب منهم أن يساعدوه في قتال التتار، لكنهم امتنعوا عن الرحيل معه، فقال لهم: (يا أمراء المسلمين.. لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين).
وقبل المسير جمع (قطز) قادته، وشرح لهم خطورة الموقف، وذكرهم بما وقع من التتار من الخراب والتدمير وسفك الدماء، وطلب منهم وهو يجهش بالبكاء أن يبذلوا أرواحهم وأنفسهم في سبيل إنقاذ الإسلام والمسلمين، ولم يتمالك القادة أنفسهم فأخذوا يبكون لبكائه، ووعدوه أن يضحوا بكل شيء لنصرة الإسلام.
وخرج قطز لملاقاة التتار خارج مصر، ولم يقف موقف المدافع، وذلك لإيمانه بأن الهجوم خير وسيلة للدفاع، وحتى يرفع معنويات رجاله، ويثبت لأعدائه أنه لا يخافهم ولا يرهبهم، وتحرك قطز من مصر في شهر رمضان سنة 658هـ، ووصل مدينة (غزة) وكانت فيها بعض جموع التتار بقيادة (بيدرا) الذي فوجئ بهجوم أحد كتائب المماليك بقيادة بيبرس أحد قواد قطز الشجعان، لتتحقق بشائر النصر، ويستعيد قطز (غزة) من التتار، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم اتجه شمالا نحو سهل البقاع بلبنان حيث التتار بقيادة (كَتُبْغَا) الذي فشل في إنقاذ التتار الذين هزمهم المسلمون في غزة.
وكان قطز رجلا عسكريًّا من الدرجة الأولى، فهو يعد لكل شيء عدته، فقد أرسل حملة استطلاعية استكشافية تحت قيادة الأمير (ركن الدين بيبرس) وكان قائدًا ذا خبرة واسعة بالحروب، لكي تجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التتار، عن قوتهم وعددهم وسلاحهم، وبعد أن انتهى (بيبرس) من استطلاع الأخبار اشتبك مع التتار في مكان يسمى (عين جالوت) وظل القتال مستمرًّا حتى وصل قطز مع قواته إلى ميدان المعركة الفاصلة.
وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من سنة 658هـ، دارت معركة حاسمة بين الطرفين، واقتحم قطز صفوف القتال، وتقدم جنوده وهو يصيح:
(وا إسلاماه.. وا إسلاماه) يضرب بسيفه رءوس الأعداء، ويشجع
أصحابه، ويطالبهم بالشهادة في سبيل الله، واشتدت المعركة، فأخذ قطز يصرخ أمام جيشه: (وا إسلاماه.. وا إسلاماه.. يا الله.. انصر عبدك قطز على التتار) وقتل فرس قطز، وكاد يتعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه، فنزل له عن فرسه، فسارع قطز إلى قيادة رجاله، ودخل دون خوف في صفوف الأعداء حتى ارتبكت صفوفهم، ولجأ القائد العظيم إلى حيلة ذكية؛ فقد أخفى بعض قواته من المماليك بين التلال؛ حتى إذا زادت شدة المعركة، ظهر المماليك من كمائنهم، وهاجموا التتار بقوة وعنف.
وكانت هناك مزرعة بالقرب من ساحة القتال، فاختفى فيها مجموعة من جنود التتار، فأمر (قطز) جنوده أن يشعلوا النار في تلك المزرعة، فاحترق من فيها من التتار، وبدأ المسلمون يطاردون التتار، حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك، فاستقبله أهلها بالفرح والسرور، ولم تمضِ أسابيع قليلة، حتى طهرت بلاد الشام من التتار، فخرج من دمشق عائدًا إلى مصر، وفي طريق عودته انقض عليه عدد من الأمراء وقتلوه حسدًا منهم وحقدًا على ما أكرمه الله به من نصر، وذلك يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة سنة 658هـ، ودفن في المكان الذي قتل فيه، وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا
================
السلطان عبد الحميد الثاني
(لن يستطيعوا أخذ فلسطين إلا عند تشريح جثتي وساعتها يأخذونها بلا ثمن، أما وأنا على قيد الحياة فلا).
في سنة 1258هـ-1842م ولد السلطان عبد الحميد ونشأ وترعرع في دار الخلافة العثمانية التي كانت محط أنظار المسلمين، كانت لهم نعم العون والسند، يجتمعون تحت رايتها، ويحتمون بها من شرور أعداء الإسلام.
ومرت الأيام، وآن لـ(عبد الحميد الثاني) أن يتحمل المسئولية في وقت كانت تحيط فيه الأخطار بالدولة من كل جانب، بعد أن أصدر شيخ الإسلام في دار الخلافة العثمانية فتواه التاريخية بعزل السلطان (مراد الخامس) وتعيين شقيقه الأصغر عبد الحميد الثاني خليفة على المسلمين.
وقبل أن يباشر السلطان مهامه الجديدة صلى لله تعالى ركعتين شكرًا في جامع (أبي أيوب الأنصاري) وهناك تسلم من شيخ الإسلام سيف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو سيف الخلافة، وبدأ موكب السلطان الجديد يسير في شوارع العاصمة (استنبول).. تنثر الزهور، وتنشر الرياحين من شرفات المنازل ابتهاجًا بالسلطان الجديد، حتى إذا مرَّ الموكب بقبر والد السلطان ومقابر أجداده الفاتحين، نزل السلطان عبد الحميد ليدعو لهم بالرحمة والمغفرة وفاء وعرفانًا.
وبدأ السلطان عبد الحميد الثاني بداية طيبة تدل على اعتزازه بدينه الإسلامي وفخره بتعاليمه، فكان أول ما أصدره من قرارات أن أقرَّ الدستور الذي يكفل المساواة بين جميع الناس من خلال المجالس الشرعية، كما أصدر أوامره بحرية القضاء لتكون كلها نافذة من خلال النظام الإسلامي للدولة، فظل الإسلام في عهده منبع القوانين ودستورها، كما عرف السلطان للعلماء حقهم، فكان لا يقطع أمرًا دونهم، ويحرص على استشارتهم والأخذ بآرائهم.(4/15)
وقد حاول اليهود عن طريق زعيمهم الماكر (هرتزل) استمالة السلطان عبد الحميد الثاني، حتى يسمح لهم بإقامة وطن لليهود في فلسطين (بيت المقدس)، فعرضوا عليه مبلغًا ضخمًا في ذلك الزمان البعيد يقدر بثلاثة ملايين من الجنيهات بالإضافة إلى دفع مبلغ كبير للدولة العثمانية -سنويًّا- مقابل أن يصدر السلطان عبد الحميد قرارًا يسمح فيه لليهود بالهجرة إلى فلسطين والتوطن فيها، وهنا قال السلطان عبد الحميد قولته الخالدة التي سجلها التاريخ بمداد من ذهب: (لست مستعدًّا لأن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد، فهي ليست ملكي بل هي ملك لشعبي، روي ترابها بدمه، وليحتفظ اليهود بأموالهم، ولن يستطيعوا أخذ فلسطين إلا عند تشريح جثتي، وساعتها يأخذونها بلا ثمن، أما وأنا على قيد الحياة.. فلا).
واستمرت مكائد اليهود، فحاول هرتزل، أن يقدم عرضًا مغريًّا جديدًا للسلطان، فلقد كانت الدولة العثمانية مدينة لأوروبا بمبلغ كبير من المال، وعرض اليهود تسديد هذه الديون مقابل تحقيق طلبهم، ولكن السلطان كان أثبت جأشًا وأقوى عزيمة عندما قال: (إن الديون ليست عارًا، ولكن العار أن أبيع أرضًا لليهود، فليحتفظ اليهود بأموالهم، فالدولة العثمانية لا يمكن أن تحتمي وراء حصون بنيت بأموال أعداء المسلمين).
واستمرت الدسائس والحيل الخبيثة، ففي عام 1902م طلب هرتزل من السلطان أن يسمح له بإنشاء جامعة عبرية في فلسطين يديرها أساتذة من بني صهيون، فرفض السلطان هذا العرض أيضًا، لأنه يعلم أن هذه الجامعة سوف تكون بداية لاحتلال الأرض، فأنكر جميع رسائلهم ورفض قبول هداياهم.
وعند ذلك عمل اليهود على تأليب أوروبا وروسيا ضد السلطان عبد الحميد، فقامت الثورات على الحدود، وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، وتنكرت أوروبا للمعاهدات المعقودة معها، فوقفت إلى جوار روسيا في حربها ضد السلطان عبد الحميد.
وفي نفس العام ثار المسيحيون في (تكريت) بتحريض من البابا، وكان السلطان يحارب ومن ورائه قلوب المسلمين تدعو له، ورغم هزيمته فإن القادة والجنود العثمانيين أظهروا شجاعة فائقة شهد بها الأعداء الأوربيون، ولكن لم تشغل هذه الأحداث السلطان عبد الحميد عن الإصلاحات الداخلية في شتى أنحاء الدول العثمانية؛ فنشر التعليم المدني بجميع مراحله وأنواعه، وأنشأ جامعة (استنبول)
سنة 1885م والتي كانت تعرف أولا باسم (دار الفنون) كما أنشأ دورًا للمعلمين ومعاهد فنية ومدارس ابتدائية وثانوية مدنية، واهتم بالتعليم العسكري، وأنشأ المكتبات ومدرسة خاصة لتخريج الدعاة.
كما توسع في إنشاء الخطوط الحديدية ليسهل الحج وذلك بتقصير مدة الرحلة وليجعله في متناول الجميع، واستخدم البرق كوسيلة جديدة للمراسلة، وتبنى مشروع الجامعة الإسلامية، وسار فيه سيرًا مباركًا، وعمل على إعادة الهيبة إلى الخلافة كما كانت في عهودها الأولى، وكان دائمًا يدعو المسلمين إلى الاتحاد، كما كان حريصًا كل الحرص على نشر هذا الأمر بين المسلمين جميعًا في كل البلاد الإسلامية.
لكن اليهود ظلوا يعملون ضده في الخفاء، فسلطوا عليه إعلامهم، واتهموه في حياته الخاصة، وشهروا به وبأسرته، وساهموا في إنشاء جمعية (الاتحاد والترقي العثمانية) التي قامت بثورة عسكرية استمرت عامًا كاملاً من سنة 1908 حتى سنة 1909 ونجحت بعدها في سلب الخلافة من السلطان عبد الحميد، وقررت نفيه إلى (سالونيك) في إبريل سنة 1909م.
وظل عبد الحميد الثاني في منفاه حتى لقي ربه سنة 1918م بعد أن أدار شئون الدولة العثمانية لمدة أربعة وثلاثين عامًا، فكان من أطول سلاطين الدولة العثمانية حكمًا، كما كان من أكثر السلاطين الذين تمَّ الافتراء عليهم زورًا وبهتانًا.
------------------
السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد الأول هو السلطان الرابع والثلاثون من السلاطين العثمانيين، ولد يوم الأربعاء 16 شعبان 1258هـ/21 أيلول (سبتمبر) 1842م، تعلّم اللغتين العربية والفارسية، ودرس كثيرًا من الكتب الأدبية على أيدي أساتذة متخصصين، قدَّم خدمات جليلة للدولة العثمانية في مختلف المجالات، ويعتبر أعظم سلطان في عصر انحطاط الدولة.
تُوفي في 27 ربيع الثاني 1336هـ/10 شباط (فبراير) 1918م، إثر نزيف داخلي، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين.
تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة ، في 11 شعبان 1293هـ/31 آب (أغسطس) 1876م، وتبوَّأ عرش السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال، حيث كانت في منتهى السوء والاضطراب، سواء في ذلك الأوضاع الداخلية والخارجية.
سوء الأوضاع الخارجية
أما الأوضاع الخارجية فقد اتفقت الدول الغربية على الإجهاز على الدولة التي أسموها "تركة الرجل المريض"، ومن ثم تقاسم أجزائها، هذا بالإضافة إلى تمرد البوسنة والهرسك، الذين هزموا الجيش العثماني وحاصروه في الجبل الأسود، وإعلان الصرب الحرب على الدولة بقوات منظمة وخطرة، وانفجار الحرب الروسية الفظيعة التي قامت سنة 1294هـ/1877م، وضغط دول الغرب المسيحية على الدولة لإعلان الدستور وتحقيق الإصلاحات في البلاد، بالإضافة إلى قيام الثورات في بلغاريا بتحريض ومساعدة من روسيا والنمسا.
سوء الأوضاع الداخلية(4/16)
وأما الأوضاع الداخلية: فقد أفلست خزينة الدولة وتراكمت الديون عليها، حيث بلغت الديون ما يقرب من ثلاثمائة مليون ليرة، كما ظهر التعصب القومي والدعوات القومية والجمعيات ذات الأهداف السياسية، بإيحاء من الدول الغربية المعادية، ولا سيما إنجلترا، وكانت أهم مراكز هذه الجمعيات في بيروت واستانبول، وقد كان للنصرانية دورها الكبير في إذكاء تلك الجمعيات التي أنشئت في بيروت والتي كان من مؤسسيها بطرس البستاني (1819م-1883م) وناصيف اليازجي (1800-1817م).
وأما الجمعيات التي أنشئت في استانبول فقد ضمت مختلف العناصر والفئات، وكان لليهود فيها دور كبير، خاصة يهود الدَوْنَمة، ومن أشهر هذه الجمعيات "جمعية تركيا الفتاة" التي أُسست في باريس، وكان لها فروع في برلين وسلانيك واستانبول، وكانت برئاسة أحمد رضا بك، الذي فتن بأوروبا وبأفكار الثورة الفرنسية. وقد كانت هذه الجمعيات تُدار بأيدي الماسونية العالمية.
ومن الأمور السيئة في الأوضاع الداخلية أيضًا، وجود رجال كان لهم دور خطير في الدولة قد فُتنوا بأوروبا وبأفكارها، وكانوا بعيدين عن معرفة الإسلام، ويتهمون الخلفاء بالحكم المطلق، ويطالبون بوضع دستور للدولة على نمط الدول الأوروبية النصرانية، ويرفضون العمل بالشريعة الإسلامية.
أعمال السلطان عبد الحميد
وفي وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تقلد السلطان عبد الحميد الحكم، وكان عليه أن يسير بالدولة إلى شاطئ النجاة والأمان دون أن يعرضها للخطر. وقد أدرك - رحمه الله - بما أنعم الله عليه من ذكاء وفطرة أهداف الأعداء وأطماعهم، فتحمل المسؤولية بكل قوة وحكمة وبدأ في العمل بكل أناة وروية وفق السياسة الآتية:
أولاً: حاول كسب بعض المناوئين له واستمالتهم إلى صفه بكل ما يستطيع.
ثانيًا: دعا جميع مسلمي العالم في آسيا الوسطى وفي الهند والصين وأواسط أفريقيا وغيرها إلى الوحدة الإسلامية والانضواء تحت لواء الجامعة الإسلامية، ونشر شعاره المعروف "يا مسلمي العالم اتحدوا"، وأنشأ مدرسة للدعاة سرعان ما انبث خريجوها في كل أطراف العالم الإسلامي الذي لقي منه السلطان كل القبول والتعاطف والتأييد لتلك الدعوة، لكن قوى الغرب قامت لمناهضة تلك الدعوة ومهاجمتها.
ثالثًا: قرَّب إليه الكثير من رجال العلم والسياسة المسلمين واستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم.
رابعًا: عمل على تنظيم المحاكم والعمل في "مجلة الأحكام العدلية" وفق الشريعة الإسلامية.
خامسًا: قام ببعض الإصلاحات العظيمة مثل القضاء على معظم الإقطاعات الكبيرة المنتشرة في كثير من أجزاء الدولة، والعمل على القضاء على الرشوة وفساد الإدارة.
سادسًا: عامل الأقليات والأجناس غير التركية معاملة خاصة، كي تضعف فكرة العصبية، وغض طرفه عن بعض إساءاتهم، مثل الرعب الذي نشرته عصابات الأرمن، ومثل محاولة الأرمن مع اليهود اغتياله أثناء خروجه لصلاة الجمعة، وذلك لكي لا يترك أي ثغرة تنفذ منها الدول النصرانية للتدخل في شؤون الدولة.
سابعًا: عمل على سياسة الإيقاع بين القوى العالمية آنذاك لكي تشتبك فيما بينها، وتسلم الدولة من شرورها، ولهذا حبس الأسطول العثماني في الخليج ولم يخرجه حتى للتدريب.
ثامنًا: اهتم بتدريب الجيش وتقوية مركز الخلافة.
تاسعًا: حرص على إتمام مشروع خط السكة الحديدية التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة لِمَا كان يراه من أن هذا المشروع فيه تقوية للرابطة بين المسلمين، تلك الرابطة التي تمثل صخرة صلبة تتحطم عليها كل الخيانات والخدع الإنجليزية، على حد تعبير السلطان نفسه.
السلطان عبد الحميد واليهود
لما عقد اليهود مؤتمرهم الصهيوني الأول في (بال) بسويسرا عام 1315هـ/1897م، برئاسة هرتزل (1860م-1904م) رئيس الجمعية الصهيونية، اتفقوا على تأسيس وطن قومي لهم يكون مقرًا لأبناء عقيدتهم، وأصر هرتزل على أن تكون فلسطين هي الوطن القومي لهم، فنشأت فكرة الصهيونية، وقد اتصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهود بالانتقال إلى فلسطين، ولكن السلطان كان يرفض،ثم قام هرتزل بتوسيط كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلة بالسلطان أو ببعض أصحاب النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيط بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يفلح، وأخيرًا زار السلطان عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي)و(عمانيول قره صو)، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقدمات مفعمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالاً طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا. لكن السلطان رفض بشدة وطردهم من مجلسه وقال " إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل ، إن أرض فلسطين ليست ملكى إنما هى ملك الأمة الاسلامية و ما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع و ربما إذا تفتت إمبراطوريتى يوما ، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل ) ، ثم أصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
عندئذ أدركت القوى المعادية ولا سيما الصهيونية العالمية أنهم أمام خصم قوي وعنيد، وأنه ليس من السهولة بمكان استمالته إلى صفها، ولا إغراؤه بالمال، وأنه مادام على عرش الخلافة فإنه لا يمكن للصهيونية العالمية أن تحقق أطماعها في فلسطين، ولن يمكن للدولة الأوروبية أن تحقق أطماعها أيضًا في تقسيم الدولة العثمانية والسيطرة على أملاكها، وإقامة دويلات لليهود والأرمن واليونان.(4/17)
لذا قرروا الإطاحة به وإبعاده عن الحكم، فاستعانوا بالقوى الشريرة التي نذرت نفسها لتمزيق ديار الإسلام، أهمها الماسونية، والدونمة، والجمعيات السرية (الاتحاد والترقي)، وحركة القومية العربية، والدعوة للقومية التركية (الطورانية)، ولعب يهود الدونمة دورًا رئيسًا في إشعال نار الفتن ضد السلطان.
وكان من وراء الجميع وكالة المخابرات المركزية البريطانية التي كانت تمسك الخيوط جميعها ، حتى تم عزله وخلعه من منصبه عام 1909 م .
===============
جعفر الصادق
استقبلت المدينة المنورة مولودًا من ذرية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ولد (جعفر الصادق بن محمد الباقر) وكان ذلك سنة 80هـ.
نشأ جعفر في داصر الهجرة النبوية الشريفة، معتزًّا بنسبه؛ فجده لأبيه هو الإمام
على بن أبي طالب -رضي الله عنه- وجده لأمه صديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الخليفة (أبو بكر الصديق).
استمع جعفر لنصائح والده الذي أخذ يقول له: (إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، إنك إن كسلتَ لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرتَ لم تصبر على حق، إن طلب العلم من أداء الفرائض خير من الزهد) واستجاب جعفر لنصائح والده، فحفظ القرآن الكريم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهمهما فهمًا جيدًا، فلما بلغ جعفر مبلغ الشباب، ورأى آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلافهم مع الدولة الأموية، وشاهد عمه زيدًا قتيلا؛ بكى وحزن عليه حزنًا شديدًا، ورأى أن خير ما يقاوم به هذا الظلم هو كلمة الحق التي تنير طريق الناس وتحركهم للدفاع عن المظلومين.
فقد تعلم من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل الله، بل إنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن الله تعالى جعل للعلماء مكانة بين الأنبياء والشهداء؛ فاهتم جعفر بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية إلى جانب دراسته للقرآن والحديث والفقه، وظل جعفر يدرس ويقرأ في كل العلوم؛ حتى أشرفت دولة بني أمية على الزوال؛ فأرسل إليه المؤيدون لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتهز الفرصة، ويأتي على الفور ليتولى خلافة المسلمين، ولكنه لم يشعر بقبول تجاه هذه الرسالة؛ فأحرقها!!
لقد كان يشعر أنه بعلمه أقوى من أي ملك على وجه الأرض، ومضى الإمام جعفر الصادق يتعلم العلم ويعلمه الناس في تواضع فريد، يسأله الناس فيجيب دون كبر أو خيلاء، سأله أحد الناس: لقد قال الله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] فما بالنا ندعوه فلا يجيب؟! فقال الإمام جعفر الصادق: لأنك تدعو من لا تعرف.
وأحب الناس جعفر الصادق والتفوا حوله، فاغتاظ الخليفة المنصور، وحاول أن يحرج الإمام جعفر الصادق؛ فأمر أبو حنيفة (الفقيه المشهور) أن يهيئ له مسائل شدادًا يناقشه فيها، فقال أبو حنيفة: فهيأت له أربعين مسألة، والتقى الإمامان في حضرة الخليفة المنصور، فلم يلْقِ أبو حنيفة مسألةً إلا أجاب عنها الإمام جعفر الصادق، فقال أبو حنيفة في النهاية: (إن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) لأن جعفر الصادق كان يجيب عن كل مسألة بما أجاب به كل الفقهاء السابقون ثم يأتي برأيه.
وكان الإمام جعفر الصادق حليمًا لا يغضب؛ كان له غلام كسول يحب النوم، فأرسله يومًا في حاجة، فغاب، وخشي الإمام أن يكون الغلام قد أصابه مكروه، فخرج يبحث عنه، فوجده نائمًا في الطريق، فجلس عند رأسه، وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ، فقال له ضاحكًا: تنام الليل والنهار؟! لك الليل ولنا النهار.
ولم يخش الإمام جعفر الصادق أحدًا إلا الله، فها هو ذا يقول للخليفة المنصور عندما سأله: لماذا خلق الله الذباب؟ بعد أن تضايق الخليفة من ذبابة كانت تحط على وجهه ولم يفلح في إبعادها، فقال الإمام: (ليذل به الجبابرة).
وأقام الإمام في المدينة وقد جاوز الستين يعلم الناس ويفقههم، وفي الثامنة والستين من عمره سنة 148هـ توفي الإمام جعفر الصادق، فحزن الخليفة المنصور عليه حزنًا شديدًا وقال: توفي سيد الناس وعالمهم، وبقية الأخيار منهم، إن جعفرًا ممن قال الله فيهم: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [ فاطر: 32 ].
================
أبو حنيفة النعمان
كان كثير العبادة، لا ينام الليل إلا قليلا؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صلاته، يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من الله!!
وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيًّا أسلم فحسن إسلامه، قيل: إنه التقى بالإمام على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فدعا له الإمام ولذريته بالخير والبركة، واستجاب الله الدعاء، ورزق الله ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه (أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة.
نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة، فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان، ورأى طلاب العلم يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار، منهم: فقيه الكوفة (حماد بن أبي سليمان) والإمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة).. وغيرهم، وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها، وأعجب حماد هو الآخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله: لا يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة.(4/18)
وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدلا من أبيه، لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل إلى النحو لحبه له، فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة، وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والأمراء، لكنه لم ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير، ويدعو له حتى قال أبو حنيفة: (ما صليتُ قط إلا ودعوتُ لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته).
وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره، ويكثر التعطر، ويُرى وقورًا حليمًا، فهو الذي يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله: يا مبتدع، يا زنديق، فردَّ عليه بقوله: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه.
وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم، وتاجرًا أمينًا ماهرًا، ظل يعمل بالتجارة طوال حياته، وكان له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يحب العمل حتى ينفق على نفسه، فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف).
سمع أبو حنيفة رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل؛ فقال: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل؛ فكان يحيي الليل صلاة وتضرعًا، فكان ورعًا، ولا يحدث بالحديث الذي يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، وكان يتورع عن القسم خشية الهلاك، حتى إنه جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار.
وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس، فلقد روي أن رجلاً قال له: اتق الله، فانتفض، وطأطأ رأسه، وأطرق.. وقال له: يا أخي جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يذكرهم الله تعالى، وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي.
ومات سنة 150هـ، وصلى عليه خمسون ألف رجل، ودفن في بغداد، ويقال إنه مات في نفس الليلة التي ولد فيها الإمام الشافعي.
وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انتشر مذهبه في العراق والهند وبلاد المشرق، يقول عنه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة، وقيل: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه عليهم، وقال عنه ابن المبارك: (ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه يزيد بن هارون: (ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة).
==================
الليث بن سعد
لله درك يا إمام.. لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد والورع.
في سنة 94هـ، وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد، في قرية (قرقشندة) من قرى مصر، ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية، فوجد الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن الكريم، فأسرع الليث إلى منزله، وأحضر أوراقه وقلمه، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، ثم درس الحديث والفقه والعلوم العربية، فسبق زملاءه، وساعده على ذلك نبوغه المبكر، وذكاؤه الفريد.
واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ، فكان كلما قرأ شيئًا في الفقه أو الحديث عَلَقَ بذاكرته وحفظه فلا ينساه أبدًا، فقد كان قوي الذاكرة، جيد الحفظ، ولفت الفتى الليث الأنظار إليه بعلمه وورعه، وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله، يعرفون فضله، ويقدمونه على من سواه، ولكن الفتى لم يغترَّ بهذه الشهرة، ولم يخلد إليها ولا إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء، بل استمر يتعلم ويتزود وينهل من غيره من العلماء، حتى صار أستاذًا يدرس للعلماء.
واشتاقت نفس الليث يومًا لزيارة بيت الله الحرام وزيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فشدَّ رحاله وأعد نفسه للسفر، وهناك في تلك الأراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛ والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب الزهري).. وغيرهم، فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم، ومضت الأيام والسنون، وأصبح الليث شيخًا جاوز الخمسين من عمره، وهو لا يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في عصره.
وكان الإمام الفقيه الليث بن سعد غنيًّا، ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم الناس عسل النحل وسمن البقر في الشتاء، واللوز والسكر في الصيف.
جاءته امرأة ذات يوم وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط.
ولم يكن الليث بن سعد كريمًا على أهل بلده فحسب، بل كان سخيًّا كريم اليد على الآخرين، فيحكى عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه.
وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل الإمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث، فقال: الليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث، وقال عنه يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، لم أَرَ مثله.(4/19)
وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء، ويعطيه من بيت المال مائة ألف درهم، فرفض وقال: إني عاهدت الله ألا ألي شيئًا، وأعيذ أمير المؤمنين بالله ألا أفي بعهدي، فقال له المهدي: الله.. قال الليث: الله.. قال المهدي: انطلق فقد أعفيتك، وكان الليث زاهدًا في حكام الدنيا، مشغولاً عن الجاه والسلطان بغرس الأخلاق العظيمة في نفوس الناس، وكان يصل النهار بالليل في العلم والعبادة ليرضي ربه.
وفي سنة 175هـ توفي الإمام الكبير الليث بن سعد، فحزن الناس عليه حزنًا شديدًا، وكان الشافعي -رضي الله عنه- يحب لقاءه، فلم يمهله القدر فوقف يومًا على قبره وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد، والورع
==============
شريك بن عبد الله
القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!!
في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور دينهم، وكان لا يبخل بعلمه على أحد، ولا يُفَرِقُ في مجلس علمه بين فقير وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه، فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها شريك، وأراد أن يسأل سؤالاً؛ فسأله وهو مستند على الحائط، وكأنه لا يحترم مجلس العلم، فلم يلتفت إليه شريك، فأعاد الأميرُ السؤالَ مرة أخرى، لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون: كأنك تستخف بأولاد الخليفة، ولا تقدرهم حق قدرهم؟ فقال شريك: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيِّعوه، فما كان من ابن الخليفة إلا أن جلس على ركبتيه ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم.
وقد عُرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة، خوفًا من أن يظلم صاحب حق، فعندما دعاه الخليفة المنصور، وقال له:
إني أريد أن أوليك القضاء، قال شريك: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لست أعفيك.. فقبل تولي القضاء، وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل، ولا يخشى في الله لومة لائم، فيحكى أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء، وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له: أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين، فنظر إليها شريك وقال: مَنْ ظلمك؟ قالت: الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين، فقال لها: وكيف؟ قالت: كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته عن أبي وبنيت له حائطًا، وبالأمس بعث الأمير بخمسمائة غلام فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت لا أعرف حدود بستاني من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى الأمير: "أما بعد.. أبقى الله الأمير وحفظه، وأتم نعمته عليه، فقد جاءتني امرأة فذكرت أن الأمير اغتصب بستانها أمس، فليحضر الأمير الحكم الساعة، والسلام".
فلما قرأ الأمير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا، ونادى على صاحب الشرطة، وقال له: اذهب إلى القاضي شريك، وقل له -بلساني- : يا سبحان الله!! ما رأيت أعجب من أمرك! كيف تنصف على الأمير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة: لو تفضل الأمير فأعفاني من هذه المهمة، فالقاضي كما تعلم صارم، فقال الأمير غاضبًا: اذهب وإياك أن تتردد.
فخرج صاحب الشرطة من عند الأمير وهو لا يدري كيف يتصرف، ثم قال لغلمانه: اذهبوا واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه، ومضى صاحب الشرطة إلى شريك، فقال القاضي له: إنني طلبت من الأمير أن يحضر بنفسه، فبعثك تحمل رسالته التي لا تغني عنه شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلام المجلس وقال له: خذ بيده وضعه في الحبس، فقال صاحب الشرطة: والله لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس.
وبعث الأمير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في الأمر فأمر بحبسهم، فعلم الأمير بما حدث، ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه، وفي اليوم التالي، عرف القاضي شريك بما حدث، فقال لغلامه: هات متاعي والحقني ببغداد، والله ما طلبنا هذا الأمر (أي القضاء) من بني العباس، ولكن هم الذين أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا.
فلما عرف الأمير موسى بذلك، أسرع ولحق بركب القاضي شريك، وقال له: يا أبا عبد الله أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك: نعم؛ لأنهم مشوا لك في أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه، وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء، وعدوان على العدل، وعون على الاستهانة بحقوق الضعفاء، ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن، وإلاَّ مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء، فخاف الأمير وأسرع بردِّهم إلى الحبس، وجلس القاضي في مجلس القضاء، واستدعى المرأة المتظلمة وقال: هذا خصمك قد حضر.. فقال الأمير: أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين، فقال شريك: أما الآن فلك ذلك.
ثم سأل الأميرَ عما تَدَّعيه المرأة، فقال الأمير: صدقت.. فقال القاضي شريك: إذن ترد ما أخذت منها، وتبني حائطها كما كان.. قال الأمير: أفعل ذلك، فسأل شريك المرأة: أبقي لك عليه شيئًا؟ قالت: بارك الله فيك وجزاك خيرًا، وقام الأمير من المجلس وهو يقول: مَنْ عَظَّمَ أمرَ اللِه أذل الله له عظماء خلقه، ومات القاضي شريك سنة 177 هـ.
=============
مالك بن أنس(4/20)
بُشِّر أنس بن مالك بن أبي عامر ذات يوم ببشرى سعيدة، فقد رزقه الله بمولود أسماه (مالكًا) كان ذلك الحدث السعيد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على بقعة من أطهر بقاع الأرض وهي المدينة المنورة، البلد الذي هاجر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاستنارت بهم وازدانت.
فتح مالك عينيه على الحياة، فوجد التقدير والمهابة يعم المدينة وأهلها، وكيف لا وقد حوى ترابها جثمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودفن فيها، وضمت أرجاؤها حلقات العلم التي تنتشر في كل مكان.
نشأ الطفل في أسرة تشتغل بالعلم، فجده (مالك بن أبي عامر) من كبار التابعين فشجعه ذلك على حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وأتقن تلاوته، لكنه لم يكتفِ بذلك بل إنه أراد حفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب إلى أمه وقال لها: يا أماه إني أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأريد أن أحفظ أحاديثه، فكيف لي بذلك؟! ابتسمت أمه ابتسامة صافية، وضمته إليها، ثم ألبسته ثيابًا جميلة وعممته وقالت له: اذهب إلى (ربيعة الرأي) -وكان فقيهًا كبيرًا- وتعلم من أدبه قبل علمه.
فجلس الطفل الصغير -مالك بن أنس- يستمع إلى شيخه وينهل من علمه، وبعد انتهاء الدرس يسرع بالجلوس تحت ظلال الأشجار ليحفظ ما سمعه من معلمه؛ حتى لا ينساه، وقد رأته أخته ذات مرة وهو على هذه الحال؛ فذهبت إلى أبيها وقصت عليه ما شاهدته، فقال لها: يا بنيتي إنه يحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مالك بن أنس كغيره من الأطفال الصغار يحب اللعب؛ فشغله ذلك عن الدرس والعلم قليلاً إلى أن حدث له موقف كان له أثر كبير في حياته، فقد سأله أبوه يومًا في مسألة هو وأخوه النضر، فأصاب النضر، وأخطأ مالك في الرد على السؤال؛ فغضب منه والده، فكانت هذه الحادثة سببًا في عزمه على الجد والاجتهاد في العلم، فذهب من فوره إلى (ابن هرمز) وهو عالم كبير، فأخذ يتلقى العلم عليه سبع سنوات، وكان شديد الحرص على الاستفادة منه خلالها.
قال (ابن هرمز) لجاريته في يوم من الأيام: انظري من بالباب، فلم تر إلا (مالكًا) فرجعت إلى الشيخ وقالت له: لا يوجد إلا ذلك الغلام الأشقر (تعني مالكًا) فقال لها: دعيه يدخل فذلك عالم الناس!! وتعلم منه مالك كيف يرد على أصحاب البدع والضلالات، وأراد مالك المزيد، فذهب إلى نافع (مولى عبد الله بن عمر) أحد الرواة العظام الذين رووا عن ابن عمر أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان ينتظره في شدة الحر يترقب خروجه من منزله، ثم يصطحبه إلى المسجد، حتى إذا ما انتهى (نافع) من أداء الصلاة ومكث برهة؛ انتهز الصبي الصغير الفرصة وسأله في الحديث والفقه، فنهل من علمه وأخذ عنه ما في رأسه من نور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لازم مالك بن أنس المحدث الكبير (ابن شهاب الزهري) ليتعلم على يديه، وحرص على ألا يفوته درس من دروس هذا الشيخ، حتى يوم العيد نفسه وهو اليوم الذي يلهو فيه الصبيان ويمرحون، روي عن مالك أنه قال: شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك.. قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا، قال: هل أكلت شيئًا ؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه، قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني.. قال لي: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثًا فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث (أي يكفيك هذه الأحاديث إن كنت حفظتها) فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فجذب الألواح من يدي، ثم قال حدث، فحدثته بها، فردها إليَّ.. أي الألواح.
ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه، والحفظ، والعزة ولم يجلس للفتوى حتى شهد له سبعون من جلة العلماء أنه أهل لذلك، يقول الإمام مالك: (ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقال له رجل: فلو أنهم نهوك؟ قال مالك: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه).
اشتهر الإمام مالك بكتابه (الموطأ) وهو كتاب حديث وفقه معًا، جمع فيه ما قوي عنده من حديث أهل الحجاز وأضاف إليه أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم رتبه على أبواب الفقه كالطهارة والصلاة والزكاة، وقد عمل في هذا الكتاب نحو أربعين عامًا، وقد تلقاه الناس بالقبول، وسمى مالك كتابه بهذا الاسم لأنه مهد به للناس ما اشتمل عليه من الحديث والفقه، أو لأن العلماء المعاصرين له بالمدينة واطئوه ووافقوه عليه، وقد طُبِعَ الكتاب كثيرًا في مصر والهند.
والإمام مالك هو مؤسس المذهب المالكي الذي انتشر في المغرب العربي وبلاد الأندلس وصعيد مصر، فهذا هو مالك بن أنس شيخ الأئمة، وإمام دار الهجرة، مات بالمدينة سنة 179هـ وهو ابن تسعين سنة
=================
أبو يوسف
في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه.(4/21)
ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة (أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا ؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال: استمتع بها.
فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
ولم يكن لأبي حنيفة تلميذ في نجابة أبي يوسف وذكائه، فقد استمر في تلقي العلم حتى حفظ التفسير والحديث والمغازي وأيام العرب، وسار أبو يوسف على نهج أستاذه أبي حنيفة في الفقه، إلا أنه كانت له اجتهادات خاصة به، وألف كتبًا كثيرة أشهرها كتاب (الخراج) وهو رسالة في إدارة المال العام والقضاء، وقد قربه الخليفة (هارون الرشيد) إليه، وولاه القضاء، ومنحه لقب قاضي القضاة، وكان يستشيره في أمور الدين والدنيا.
وفي عام (182هـ) مات أبو يوسف وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أجر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وكلما أشكل عليَّ أمر جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، ومات الفقيه أبو يوسف، فحزن عليه الناس جميعًا؛ وقال صديقه أبو يعقوب الحريمي: (اليوم مات الفقيه).. فرحم الله أبا يوسف وأسكنه فسيح جناته.
================
الإمام الشافعي.. شمس الدنيا وعافية البدن
إمام العباقرة ، وعبقري الأئمة ، له في العلم سبب ، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب.
سألت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسألت أدوية بقدرها . ذاكرته أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين .
الشافعي أخذ من الأثر روحه ، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيتة ومن الشعر حلاوته ، ومن المجد ذروته .
قعّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد ، فخَرَت به قريش ، وتبجحت به العراق ، وخرجت إليه مصر ، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره ، ورد على المريسي فأطفأ ناره ، وجاور أحمد فشكر جواره .
الشافعي لدنيا العلوم شمس ، ولأبدان الأخبار عافية ،ولليل المدلهم قمر، في الشرع شعرُه ، في الحق بذلُه ، للآخرة طلبُه ، لله سعيه ، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد .
الألفاظ سكر ، والقصد نضيد ، حفر لحدًا للملاحدة ، وعزل في زنزانة الإحباط المبتدعة ، ورد الأباطيل في جوه أهل التعطيل ، إن سألنا عن أهل الكلام فالجريد والنعال . وأهل السنة : رواد الجنة . والفلاسفة : أهل سفه . ومالك : نجم الممالك . وأحمد بن حنبل : زرع سنبل.
أتاه المال ففر منه إلى العلم ، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة تعلم الفراسة في اليمن ، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألحم الدجاجلة ، وصال بالأصول على أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم.
درس الطب فمرض جسمه ، و داوى الناس فزاد غُنمه .
المروءة عنده ولولا الشعر بالعلماء يزرى ، التواضع : أحب الصالحين ولست منهم .
ميزة الشافعي : التفرد ، ومنقبته التجرد ، تفرد في الفهم ، فعصر من زهر الذهن رحيقاً ، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً .
فاح طيب ذكره في الأنوف ، فيا فرحة من شم ، وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهاب ثاقب أُحرقت به شياطين الإنس ولهم عذاب واصب
يا ابن إدريس أيا الشهم الأجلّ أنت سيف الحق في العلياء سُلّ .
مسكين من جادل الشافعي وناظره ، مسكين من عارضه وكابره ، مسكين من عرفه وما ذاكره .
درس محمد بن إدريس علوم محمد صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء ولا تطفئه الريح ولا يلفه الظلام ، ولا ينسيه الدهر ، الرسوخ في يسر ، العمق في سهولة ، الأصالة في إشراق ، البراعة في نصوع .
أهل فارس يعرفونه ، وأهل الصين يذكرونه ، وأهل الأندلس يمدحونه ، وأهل الباطل يبغضونه .
إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب ، إن تكلم أسكت الخطباء ، وإن أنشد صمت الأدباء والبلغاء ، أحب الملة فأمهرها روحه ، وعشق العلم فأعطاه عمره ، وأخلص للرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المُثُل ، سامي المقاصد ، رجل المروءات ، ناشر السنة بين أهلها ، وناصرها على أعدائها ، وحافظها لمحبيها ، وشارحها لناقليها .
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ورث أنوار الرسالة ، فألف للأمة الرسالة ، مات أبوه فكفلته الأم ، فقدم للناس كتاب الأم ، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل ، والفجر بزغ والنور سطع ، صحة مخارج ، حلاوة لفظ ، قوة حجة ، براعة دليل ، سلامة إنشاء ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [الجمعة :4]
في الفقه إمام، في النقل حجة ، في النسك علَم ، في اللغة أستاذ في الذكاء آية .
سرت به أمة من غزة فسبحان الذي أسرى ، وعاش في مكة لينفع أم القرى .(4/22)
الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطلّبيّ ، ولم يتكل على الجاه فهو أبيّ ، ولكن أخذ بأسباب الخلود ، وهجر أسباب الفناء ، فأمات في حياته النفس الأمارة ، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة ، فنوديت ( ارجعي إلى ربك راضية مرضية) [الفجر :27].
إذا كانت الحياة بالبساط والسياط والسلطة والسطوة فأين أصحابها بعد موتهم ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً ) [ مريم :98].
عند الشافعي : اتباع الأثر عبادة ، الوقوف مع النقل عقل ، توقير الصحبة عقيدة ، رد الشُبَه جهاد، تعليم الناس ربانية ، ترك المعاصي هجرة ، أهل الحديث رؤوس ، المبتدعة سفلة ، علم الكلام غي، المنصب ذُل ، الدنيا دنيئة .
بدا إلى البادية فهذّ شعر هذيل ، كان رأسا وسواه ذيل ، احتسى علم مالك ، ومص فهم أبي حنيفة ، وجمع بين النثر والشعر ، والرواية والدراية والعقل والنقل .
الشافعي عروبة حجازية ، وفصاحة عراقية ، ورقة مصرية ، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم ، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد ، سخر الشعر للشريعة ، والنحو للوحي ، والرأي للرواية ، التعليل للتأويل ، حملته الهمة فأضناه الطلب ، وخلع الدنيا فليس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا ، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة .
إن خطب أطنب وأطرب، وأتى بكل أطيب .. وإن أفتى شفى وكفى وأوفى .
فلج خصوم الإسلام ، ونكس رايات الأقزام وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال ، واكتسح الجهال، ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) [إبراهيم :46].
انكسر به ظهر الجبرية ، وثلم به قدر القدرية ، وأخرجت حججه شبه الخوارج ، واهتز في يده سنان السنة.
فرضي الله عن تلك الأرواح ، وجمعنا بهم مع أهل العلم والصلاح ، وصلى
ــــــــــــــــــ
الشيخ:عائض بن عبد الله القرني
==============
الشافعي
قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!!
في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علمًا ويحيي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلتقي الشافعي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجدِّ الأعلى.
فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيمًا، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!
وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن.
وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شرٍّ، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعًا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه.
ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان.
وجاء الشافعي إلى مصر في عام 198هـ، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يُعدُّ أول كتاب يُصنف في هذا العلم.
وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.
وقيل فيه :(4/23)
ومَنْ يَكُ عِلمُ الشافعي إمَامهَ فمرتعه في باحة العلم واسع
وكان أحمد بن حنبل -أحد تلاميذه- يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله)وكان صلى الله عليه وسلم سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها.
وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!!
وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا، كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا:
ولما قَسا قَلْبي وضاقَتْ مذاهبي جعلتُ رجائي نحو عفوِك سُلَّمًا
تعاظَمَني ذَنبْي فلمَّا قِرَنْتُهُ بعفْوِكَ ربِّي كان عفُوك أَعْظَما
ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلاً:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمدًا يموت
ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول:
عليَّ ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكْثَرا
وفيهن نفسٌ لو يُقاسُ ببعْضِها نفوسٌ الورى كانت أجلَّ وأكْبَرا
ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ومن كأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الكريم سبحانه واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها.
ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204هـ، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة -رضي الله عنها- بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء.
===============
أحمد بن حنبل
خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ.
كان والده قائدًا في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي والده، فنشأ يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره.
حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس.
ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير.
وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.
سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك.
وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه.
وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه.(4/24)
ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير العبادة والذكر لله.
وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء، لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء.
ورغم انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله.
والإمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ والمنسوخ).
ومرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا بكاؤهم، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان، بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على الإمام أحمد بن حنبل
===============
ابن حزم الأندلسي
مُنَاي مِنَ الدُّنْيَا عُلُومٌ أَبُثُّهَا وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
دُعَاءٌ إلى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِي تَنَاسَى ذِكْرُهَا فِي المَحَاضِرِ
قد تحققت أمنيتك أيها الفقيه، فأفكارك وكتبك لها مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من أبناء الإسلام، يدرسونها بعناية، ويستفيدون منها، ويتخذون منها مصباحًا كلما ضل بهم الطريق.
في (مدينة) قرطبة الساحرة، إحدى مدن الأندلس وفي قصر أحد الوزراء، في أواخر شهر رمضان في عام 384هـ، كان ميلاد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن كبير، فرح به والده فرحًا شديدًا، وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته وعطائه.
نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيرًا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم، والحديث النبوي، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمر الأيام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء.. إنه: (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي) الشهير بابن حزم الأندلسي.
كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا بقرطبة جاهًا عريضًا.
وكان صلى الله عليه وسلم أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظًّا وافرًا من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقول: (إني لأعجب ممن يلحن في مخاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا).
وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس، وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفًا لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: (يعلم الله وكفي به عليمًا، أني بريء الساحة، سليم الإدام (أي: آكل حلالاً) صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت إلى يومي هذا).
وتغيرت الأحوال؛ فقد مات الخليفة، وجاء خليفة آخر، فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة بعيدًا عن الفتنة، ومن يومها والمحن تلاحق ابن حزم، فالحياة لا تستقرُّ على حال، فقد كشرت له عن أنيابها، وأذاقته من مرارة كأسها، بعدما كانت له نعم الصديق، واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من قرطبة إلى (المَرِيَّة) سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام له، وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب، واشتهر ابن حزم بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت في عصره في تمكن وإحاطة.(4/25)
قال عنه أحد العلماء (أبو عبد الله الحميدي): كان ابن حزم حافظًا للحديث وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفنِّنًا في علوم جمَّة عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين..
وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، طالب بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان ابن حزم متنوع الكتابات، كتب في علوم القرآن والحديث، والفقه والأديان، والرد على اليهود والنصارى، والمنطق.. وغيرها من العلوم، قال عنه أحد المؤرخين: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان (أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.. وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريبًا، كما قال ابنه الفضل.. يقول عنه الإمام (أبو حامد الغزالي): وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه (ابن حزم الأندلسي) يدل على عظيم حفظه وسيلان ذهنه.
شغل ابن حزم منصب الوزارة ثلاث مرات، وكان وفيًّا للبيت الأموي الحاكم في الأندلس، ومواليًا لهم، يعمل على إعادة الخلافة للدولة الأموية، ويرى أحقيتها في الخلافة، وبسبب ذلك كان يعرِّض نفسه للأسر أو السجن أو النفي، وقد دبر له خصومه المكائد، وأوقعوا بينه وبين السلطان حسدًا وحقدًا عليه، حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك:
فإن تحرقوا القِرْطاس لا تَحْرِقُوا الذي تضمَّنه القرطاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيُر مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلتْ رَكَائبي وَيَنْزِلُ إِنْ أنزل وُيدْفن في قبري
وقد منح الله ابن حزم ذاكرة قوية وبديهة حاضرة، فكان متواضعًا لله، شاكرًا له، يقول في ذلك: (وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وَهَبَكَ إياها ربُّك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمتَ وحفظتَ).
وكان عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكام، ويرفض قبول هداياهم حتى لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب، وكانت صفة الوفاء ملازمة له، فكان وفيًّا لدينه وإخوانه وشيوخه، ولكل من اتصل به.
وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتبًا كثيرة، مثل: (المحلَّى) في الفقه و(الفصل بين أهل الآراء والنحل) و(الإحكام في أصول الأحكام) و(جمهرة أنْسَاب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه، وفيه الكثير من الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات.
وعاش هذا الفقيه في محراب العلم، يتصدى للظلم والجهل، ويجاهد مع ذلك هوى نفسه، وبعد حياة حافلة بالكفاح والعلم والصبر على الإيذاء، لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة 564 هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين سنة، ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم
=============
الجويني
بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسلامية صحيحة، ولد عبد الملك بن عبد الله بن يوسف سنة 419هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببلاد فارس، فوالده (عبد الله الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببلاد فارس المجالس للمناظرة والفتوى، وتعليم الخاصة والعامة، وكان يحب العلم حبًّا شديدًا حتى إنه كان يدعو ويقول: (اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق ولا تمنعنا عنه بمانع) وكان زاهدًا عابدًا يحرص حرصًا شديدًا على ألا يقع في الشبهات، حتى إنه كان يحتاط في أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين، خوفًا من النسيان وزيادة في القربى.
ولازم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم، فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه، كما تعلم من والده الالتزام بأخلاق الإسلام كالأمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة له، وتفوق الجويني على زملائه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه، ولم يقتصر إمام الحرمين على قراءة العلوم الإسلامية وحدها، بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم، يصل ليله بنهاره قراءة واطلاعًا.
وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد الأئمة الكبار، وما إن توفي والده، حتى قعد مكانه للتدريس، إلا أنه استمر في تحصيل العلم، فكان يذهب إلى (أبي القاسم الإسفراييني) وهو من العلماء الكبار يتعلم منه الفقه والأصول، ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد الله محمد بن علي النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن.
وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين، وكان بارعًا في مناظرة الخصوم، يحاورهم في ذكاء شديد، ولا يبغي من وراء ذلك إلا إظهار الحق، إلا أن أعداءه أخذوا يكيدون له، فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك، ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه، لكنه لم يقم بها طويلاً، وإنما توجه إلى مكة، وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم، ويلقي الدروس، ويجمع طرق المذهب الشافعي، وكانت هذه الفترة سببًا في تسميته بإمام الحرمين تكريمًا له واعتزازًا بمجهوده وقدره.(4/26)
وكان يقضي نهاره في تعليم الناس، وهدايتهم إلى طريق الحق والنور، ويقضي ليله بجوار الكعبة الشريفة في عبادة الله، وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام بالتدريس بالمدرسة النظامية، التي بناها له الوزير (نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره، وظل بها نحو ثلاثين سنة، وجاء إليه الكثيرون من شتى البلاد يطلبون العلم على يديه، ومن أشهر تلاميذه: أبو حامد الغزالي، والكيا الهراسي، وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي.
وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها: كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(الإرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية) ومن كتبه أيضًا: (غياث الأمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي الإسلامي و(الورقات) في أصول الفقه وأدلته.. وغيرها من الكتب المهمة، وقد مرض إمام الحرمين في أيامه الأخيرة، وتوفي وله من العمر 59 سنة، وكان ذلك سنة 478هـ
=============
عز الدين بن عبد السلام
قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟! عفوًا يا سلطان العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!!
تمكن التتار من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار، فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء، وأصبحت هذه البلاد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد والمدارس، ووفد إليها طلاب العلم، من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ، إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات.. وغيرها.
وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلُّم والدراسة، ولد بدمشق عام 577هـ (عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلام) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر وضيق العيش، ونشأ عز الدين على حب العلم، فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده، وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الأساتذة الكبار، حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة بين أساتذته.
وكان منصب الخطابة في الجامع الأموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا لا يتولاه إلا كبار العلماء، فتولاه (عز الدين بن عبد السلام) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بكلمة الحق، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فحارب كل بدعة، وأمات كل ضلالة، وكان يقول: (طوبى لمن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن).
وفي عام 635هـ ولاه السلطان الكامل الأيوبي قضاء دمشق، لكنه لم يستمر فيه طويلا، بل تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلاف مع الشيخ عز الدين؛ لأن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، وسمح لهم بدخول دمشق، وترك لهم حرية الحركة فيها، وشراء السلاح منها، وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر، فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين، فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد الأموي هجومًا عنيفًا، وقطع الدعاء له في خطب الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين أو التعاون معهم، ودعا المسلمين إلى الجهاد.
غضب السلطان الصالح إسماعيل، وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد الأموي، ومنعه من الفتوى والاتصال بالناس، ولم يكتف بذلك، بل منعه من الخروج من بيته، فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه، فبعث إليه السلطان أحد وزرائه، فلحق به في نابلس، وطلب منه العودة إلى دمشق، فرفض، فقال له الوزير: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتعتذر إليه وتقبل يده لا غير.
فقال عز الدين: والله يا مسكين، ما أرضى أن يقبل السلطان يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له الوزير: قد أمرني السلطان بذلك، فإما أن تقبله، وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدا لكم!!
واعتقله جنود السلطان في نابلس، وظل في محبسه، حتى جاءت جنود مصر وخلصته، وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وولاه منصب قاضي القضاة، وخطيب مسجد عمرو بن العاص، واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء، والجرأة في الحق، حتى أحبه الناس والتفوا حوله.
وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله: فقد أفتى العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا، وأنه يجب بيع هؤلاء الأمراء لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي، حتى يجوز لهم أن يتصرفوا تصرف الأحرار، فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم، حطمت كبرياءهم، وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم، وزاد طغيانهم، وكثرت مظالمهم.(4/27)
غضب الأمراء المماليك غضبًا شديدًا، وقدموا شكوى إلى السلطان، وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد السلام، بالعدول عن رأيه، فتحدث معه السلطان في ذلك، وطلب منه أن يتركهم وشأنهم، فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة، وعزم على مغادرة مصر، فحمل أمتعته على حمار، وحمل أهله على حمار آخر، وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا وراءه، فخاف السلطان من الثورة، وقال له أعوانه: متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره، لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء المماليك في مزاد علني.
رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على الأمراء في المزاد، وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب السلطنة، فغضب واشتد غيظه، ورفض أن يباع كما تباع الماشية، وصاح في كبرياء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي.
ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من الأمراء، وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله، وطرقوا الباب، فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى، ابتسم الشيخ في وجهه، وقال له: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج إلى أمراء المماليك، فنظر إليهم نظرة عزة وإباء، وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛ فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده، ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، وتمَّ للشيخ ما أراد وباع الأمراء في المزاد واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، ثم صرفه في وجوه الخير.
وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلام) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء الإسلام والمسلمين، وكان له دور فعال في هذا الأمر، ولم يَرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب وحدها نفقات الجهاد، وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال: إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي، ويبقى لكل الجند سلاحه، وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال، فلا.
وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو، وكان دائمًا يحرض السلطان (قطز) على حرب التتار حتى كتب الله له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م)وكان صلى الله عليه وسلم العز بن عبد السلام) شجاعًا مقدامًا، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفًا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردًا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟
فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟
قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة..
فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ:
يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟ قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه.
وكان صلى الله عليه وسلم العز بن عبد السلام) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيِّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا.
وعاش الشيخ (عز الدين) 83 عامًا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت- الظاهر (بيبرس).
وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ الإسلام (تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء).. رحم الله العز بن عبد السلام رمز العزة والإباء
-------------
سلطان العلماء العز بن عبد السلام
بقلم ا /علي سالم النباهين
في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراساً يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تُفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة ، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله ....
وشيخنا العز بن عبد السلام هو من ذلك الطراز الفريد الذي يجب أن نستلهم سيرته في حياتنا المعاصرة، فقد كان هذا الرجل أنموذجاً رائعاً للسياسي البارع، والعالم المستنير، والاجتماعي المخلص، المتعبد على طريقة السلف الصالح، فكان أمة في عصره أحيا الله به موات المسلمين.
ولادته ونشأته(4/28)
ولد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (المعروف بالعز بن عبد السلام) عام 577 هـ (1181 م) في دمشق ونشأ بها، وتفقه على أكابر علمائها، فبرع في الفقه والأصول والتفسير والعربية، حتى انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من كل مكان.. فاستحق لقب "سلطان العلماء" بجدارة كما أطلقه عليه تلميذه ابن دقيق العيد.
وبعد أن اكتملت ثقافته اتجه إلى التدريس والافتاء والتأليف، وتولى المناصب العامة في القضاء والخطابة في مساجد دمشق –مسقط رأسه- أولاً، ثم في القاهرة بعد أن هاجر إليها بعد أن تجاوز الستين من عمره([1]).
الأحداث التاريخية التي عاصرها :
تفتحت عينا العز بن عبد السلام على أحداث جسام كان يموج بها العالم الإسلامي، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة (ت 660هـ) عاصر فيها أحداثاً سياسية مؤلمة.
فقد أدرك انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة , واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين (583 هـ)، وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر، وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
شاهد شيخنا كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية –قاهرة الصليبيين- إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين. وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
موقفه من الملك الصالح في دمشق :
إزاء هذه الأوضاع المتردية أخذ العز بن عبد السلام يدعو إلى أن يتحد سلطان الأيوبيين، وتتحد كلمة المسلمين لمواجهة الأخطار المحدقة بهم. وكانت وسيلته في ذلك: الخطب على المنابر، والوعظ ونصح الأمراء، وقول كلمة الحق الجريئة التي ألزم الله بها العلماء..
ولكن أنّى يتسجيب المتشبثون بكراسي الحكم إلى كلمة الحق، والتدبر في العواقب؟ فقد حدث في ظل هذه الأوضاع القائمة أن الملك الصالح إسماعيل الأيوبي تصالح مع الصليبيين على أن يسلم لهم صفداً وقلعة الشقيف وصيدا , وغيرها من حصون المسلمين الهامة , مقابل أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب! فأنكر عليه الشيخ ابن عبد السلام ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب الصالح إسماعيل منه، وخرج العز مغاضباً إلى مصر (639 هـ) فأرسل إليه الصالح أحدَ أعوانه يتلطف به في العود إلى دمشق، فاجتمع به ولايَنَهُ , وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان , وتقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: "يا مسكين! ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم«([2]).
الشيخ في مصر :
وتوجه الشيخ إلى مصر – وقد سبقته شهرته العلمية وغيرتُه الدينية وعظمته الخلُقية- فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب , وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر، والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه..
فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه، فقال: "كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه"(3).
موقفه من السلطان نجم الدين أيوب :
ورغم المناصب الهامة التي تولاها الشيخ في مصر، فقد التزم بقول كلمة الحق , ومجاهرة الحكام بها في مصر، كما التزم بها من قبل في الشام، فهو لم يسعَ إلى المناصب الرفيعة، وإنما هي التي سعت إليه لجدارته بها، ولم يكن يبالي بها إذا رأى أنها تحول دون الصدع بالحق وإزالة المنكرات، فقد تيقن من وجود حانة تبيع الخمور في القاهرة، فخرج إلى السلطان نجم الدين أيوب في يوم عيد إلى القلعة »فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته –على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السطان وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوىء لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال السلطان: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور , وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة! يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون- قال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمن أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة«(4).
وعندما سأله أحد تلاميذه لما جاء من عند السلطان – وقد شاع هذا الخبر-: " يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردتُ أن أهينه لئلا تكبر نفسُه فتؤذيه. فقلتُ: يا سيدي، أما خفتَه؟ قال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدّامي كالقط«(5).
الشيخ وجماعة أمراء الممالك :(4/29)
ولم يتوقف الشيخ مرة عن مصارعة الباطل والصدع بكلمة الحق، مهما كلفه ذلك من المتاعب والتبعات، فقد ذكر أن جماعة من أمراء المماليك –في عهد السلطان أيوب- لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم على أنه لا يصح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه , فقال: نعقد لكم مجلساً , وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع عن قراره , فجرتْ من السلطان كلمة , فيها غلطة , حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أُخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة , قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد (ستة أميال) إلا وقد لحقه غالب المسلمين ، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم.
فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكُك! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء ؛ لبيعهم.
ثم حاول نائب السلطنة أن يلاطفه , فلم يفد معه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ , ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا.
فركب بنفسه في جماعته , وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك , ولا تغير , وقال: يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله! ثم خرج كأنه قضاء الله , قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب , وسقط السيف منها , وأرعدت مفاصله فبكى، وأخذ يسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبّر، إيش (أي شيء) تعمل؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً , وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير«(6) .
جنازة الشيخ :
وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة...
ويختاره الله إلى جواره، وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها , فقال لبعض خواصه: " اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك مني"(7) .
رحم الله سلطان العلماء، ورادع السلاطين، ونسأله تعالى أن يرزقنا من أمثاله.
المصدر : مجلة الأمة القطرية، العدد 25، المحرم 1403 هـ
----------
(1) السبكي (طبقات الشافعية الكبرى): 8/209؛ ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة): 7/208؛ ابن العماد الحنبلي (شذرات الذهب في أخبار من ذهب): 5/203
(2) طبقات الشافعية الكبرى) 8/210؛ السيوطي (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة): 2/161؛ ابن واصل (مفرج الكروب في أخبار بني أيوب): 5/301
(3) حسن المحاضرة) 1/315
(4) طبقات الشافعية الكبرى : 8/212
(5) المرجع السابق 8/212
(6) المرجع السابق 8/216
(7) المرجع السابق 8/215
===============
شيخ الإسلام ابن تيمية
(حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة) رحمك الله يا شيخ الإسلام !!
سقطت (بغداد) في يد التتار، فأخذوا يخربون البلاد، ويأسرون العباد، والناس يفرون من أمامهم، وقد ساد الناس ذعر شديد، وفي هذا الوقت العصيب وُلِد (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية) في (حران) بالغرب من دمشق في يوم الاثنين 10 ربيع الأول 661هـ الموافق 12 يناير 1263م، بعد سقوط بغداد في أيدي التتار بثلاث سنوات.
وخوفًا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء والمدارس، فأخذ يتلقى العلم على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى (200) شيخ، وتفوق (ابن تيمية) في دراسة الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه لا تتجاوز عشر سنوات، فقد كان الطفل الصغير (ابن تيمية) سريع الحفظ، قوي الذاكرة، حتى أدهش أساتذته وشيوخه من شدة ذكائه.
ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من الأطفال يلعب ويلهو، بل كان يسارع إلى مجالس العلماء يستمع إليهم، ويستفيد منهم، ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف والإفتاء، فاتسعت شهرته وذاع صيته، ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى التدريس بدلاً منه.
كان الإمام (ابن تيمية) جريئًا في إظهار رأيه، مدافعًا عن السُّنَّة حتى سمي بـ(محيي السنة).. عاش ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي عُني بالجهاد في سبيل الله، فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قلاوون، وجاهد بسيفه ضد التتار الذين هجموا على البلاد، وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار، وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى حتى توقف زحف التتار على دمشق، وأطلق سراح الأسرى.(4/30)
وكان ابن تيمية قوي الإيمان، فصيح اللسان، شجاع القلب، غزير العلم، وكان وحده قوة عظمى يحسب لها الأعداء ألف حساب، فازداد الناس تعلقًا به، والتفافًا حوله، وظل ابن تيمية يقضي وقته بين التدريس في المساجد، وتبصير الناس بأمور دينهم، وبيان ما أحل الله وحرم، والدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد، فأوقعوا بينه وبين سلطان مصر والشام (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة، فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة، ثم أخرجوه من السجن، وعقدوا جلسة مناظرة بينه وبين منافسيه وخصومه، فكسب (ابن تيمية) المناظرة، ورغم ذلك لم يتركه الخصوم فنُفِي إلى الشام، ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس، ثم نقل إلى الإسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر.
واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك (الناصر محمد بن قلاوون) براءته من التهم الموجهة إليه، وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا السبب في عذابه واضطهاده، لكن الإمام (ابن تيمية) فضَّل أن يعفو عنهم !! وهكذا تكون شيم الكرام.
وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم، ويفسر القرآن الكريم، ويدعو المسلمين إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين، وخلال وجوده هناك أفتى في مسألة، فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها، لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك برأيه وقال: (لا يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر، ثم خرج من سجنه، ورجع يفتي بما يراه مطابقًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، فقد كان صلى الله عليه وسلم ابن تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على المسلمين، فشنَّعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي كان يخدمه، ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والكتابة، لكنهم منعوه من ذلك، فأرادوا كتمان صوت علمه أيضًا، فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق، فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته وتحداهم، فكان يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك، وكان من أقواله (حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة).
وقد توفي (ابن تيمية) عام 728هـ وهو على حاله صابرًا مجاهدًا، مشتغلاً بالعلم، وحضر جنازته أكثر من خمسمائة ألف مسلم، وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثلاثمائة مجلد أغلبها في الفقه وأصوله والتفسير، ومن أهم كتبه (منهاج السنة) و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع الفتاوى) و(السياسة الشرعية في صلاح الراعي والرعية
يقول رحمه الله { ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.}
===========
سفيان الثوري
في مدينة الكوفة، ولد (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) أحد الأئمة الأعلام سنة 97هـ، وتفتحت عينا سفيان على الحياة، فوجد كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب، فقد كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نشأ سفيان في أسرة فقيرة صالحة تعبد الله حق عبادته، وكانت أمه تنظر إليه وهو مازال طفلاً وتقول له: (اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي، وإذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تَرَ ذلك فلا تتعبن نفسك).. فيالها من أم صالحة!! لا تفكر في الجاه ولا الثراء، ولكن كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علمًا نافعًا يبتغي به وجه الله، وبدأ (سفيان) يتعلم ويجعل من والده قدوة صالحة له، ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه.
ومرت الأيام، وأصبح سفيان شابًّا فتيًّا، وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه: هل أترك أمي تنفق علي؟ لابد من الكسب والعمل .. لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس؛ فالمال ضروري للإنسان حتى ولو كان عابدًا زاهدًا، ومن أجل ذلك عمل سفيان بالتجارة، ولم يكن المال هدفه في الحياة، بل وهب سفيان نفسه للعلم وأخذ يتعلم ويحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصبح في دنياه لا يطلب إلا العلم، فكان يقول: (الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم).
واشتهر سفيان بين الناس بعلمه وزهده وخوفه من الله، وظل طالب علم، متواضعًا يتعلم ويستفيد من الآخرين، يستمع إليهم، ويحفظ ما يقولون، وينشر ما تعلمه على الناس، يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويملي عليهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان سفيان الثوري إذا لقي شيخًا سأله: هل سمعت من العلم شيئًا؟ ولقد منحه الله ذاكرة قوية فحفظ الآلاف من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كان يحبها أكثر من نفسه.
كان ينصح العلماء ويقول لهم: (الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء؟!) وكان يقول: (إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم) ثم ينشد:
يا معشرَ العلماءِ يا مِلْحَ البلدْ ما يصلح الملحَ إذا الملح فَسَدْ(4/31)
وبمرور الأيام، كانت شهرة سفيان الثوري تزداد في بلاد الإسلام، ويزداد معها احترام الناس له، لخلقه الطيب، وعلمه الغزير، وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، حتى إن أحد العلماء قال عنه: ما رأيت أحدًا أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان، وكان الناس يتسابقون إلى مجلسه ويقفون بباب داره في انتظار خروجه.. قال عنه شعبة وغيره: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري.
ولذلك كان ينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح، وكان يتجه إلى الشباب الذي كان ينتظر خروجه من منزله ويقول لهم: (يا معشر الشباب تعجلوا بركة هذا العلم) وكان سفيان لا يخشى أحدًا إلا الله، كثير القراءة للقرآن الكريم، فإذا تعب من القراءة وضعه على صدره، حريصًا على الصلاة في الثلث الأخير من الليل، وإذا نام قام ينتفض مرعوبًا ينادي: النار النار.. شغلتني النار عن النوم والشهوات، ثم يطلب ماء، فيتوضأ ثم يصلى فيبكي بكاء شديدًا.
عاش سفيان حياته كلها يدعو إلى الله، وكانت سعادته في هداية إنسان عاصٍ أحب إليه من الدنيا وما فيها، وعرض عليه أن يكون قاضيًا فهرب خوفًا من الحساب أمام الله، وأرسلت إليه هدايا الملوك والأمراء فرفضها، فعاش حياته لله، وفي سبيل الله، وبعد هذه الحياة الكريمة في خدمة الإسلام والمسلمين، مات سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة 161هـ
==============
البخاري
فتح عينيه على الحياة فوجد العلم يحيط به من كل جانب، وشاهد منذ طفولته حلقات الحديث والفقه والتفسير تموج بطالبي العلم حول شيخ أو معلم زاده العلم بهاءً ووقارًا، فأحب أن يكون مثل هؤلاء وتطلعت نفسه إلى تحقيق ذلك، فكان له ما أراد؛ فملأ الدنيا علمًا، ورددت الألسنة ذكره إعجابًا وإجلالاً، أليس هو صاحب صحيح البخاري، إنه الإمام (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة) الإمام الحافظ البخاري.
ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة 194هـ، وكان والده عالم كبير يحفظ آلاف الأحاديث النبوية، ورحل في طلب العلم إلى المدينة المنورة، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء والمحدثين، أمثال: مالك بن أنس، وحماد بن زيد وغيرهما، وكان رجلا غنيًّا، أنعم الله عليه بثروة كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين.
توفي والد البخاري وتركه طفلاً مع والدته بعد أن ترك له مالا كثيرًا وعلمًا نافعًا، وظلت أمه تعطف عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه، وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت عليه علامات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيرًا من الأحاديث النبوية، وتردد على حلقات علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان مع صغر سنه يصحح لأساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه.
ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يومًا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي: عن سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقال له البخاري: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم وقال له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.. وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد للأحاديث، وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده، فحفظها ودرسها دراسة جيدة، وأصبح البخاري -ذلك الغلام الصغير- يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره، ولِمَ لا، وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من الأحاديث؟!
فقد قرأ على زملائه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، وفي كل يوم كان البخاري يزداد علمًا، وكان مشايخه يأملون له خيرًا ويتوقعون له مستقبلا كريمًا، وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير بذلك القدر من العلم، ولكنه رحل مع والدته وأخيه الأكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج وعمره ستة عشر عامًا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة وشيوخها، ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وظل في المدينة المنورة سنة، ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث، ومكث بها خمس سنوات، كان يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين، وظل البخاري ينتقل في بلاد الإسلام لطلب العلم.
يقول البخاري عن نفسه: لقيت أكثر من ألف رجل، أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، ومكثت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدِّثي خراسان.
كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث، وكان يدوِّن الأحاديث الصحيحة، ويترك الأحاديث التي يشك في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالها، وقد أدهش البخاري العلماءَ والشيوخَ لسرعة حفظه للأحاديث حتى ظنوه يشرب دواءً للحفظ، فقد كان البخاري ينظر إلى الكتاب مرةً واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث لا يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة.
وفي أحد رحلاته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة حديث، وقلبوا متونها وأسانيدها أي أسندوا الأحاديث إلى غير رواتها، ليمتحنوا حفظه، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر فقال: لا أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة، ثم قام آخر فسأل البخاري، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة..(4/32)
فلما فرغوا التفت البخاري إلى الأول منهم فقال له: أما أحاديثك: فالأول قلت كذا وصحته كذا، والثاني قلت كذا وصحته كذا ... إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل بالآخرين مثل ذلك، عندئذ أقر له الناس بالحفظ.
وكان البخاري عالمًا كبيرًا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، مما جعل عشرات الآلاف من طلاب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه، ومن أشهرهم الإمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح، وقد أثني العلماء على البخاري، فقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري.. وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر في الصحابة .
وكان البخاري كثير العبادة لله -عز وجل- يجتمع مع أصحابه في أول شهر رمضان، فيصلى بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة، وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من المسلمين، وتعلم البخاري رمي السهام، ولم يشغله طلب العلم عن ذلك، بل إنه كان يرى ذلك واجبًا على كل مسلم؛ حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين.
وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال، ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا عليه الدراهم والدنانير، فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين، ولم يبخل البخاري بعلمه على أحد، غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى يسمعها له ولأولاده في قصره وحدهم، فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه، وقال: من أراد أن يتعلم فليأت إلى مجلس العلم، فالعلم يؤتى له ولا يأتي، ولا يمكنني أن أحرم الناس الآخرين من علمي، وقال لرسول الأمير قل له: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كان له إليَّ شيء منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس، ليكون لي عُذر عند الله يوم القيامة لئلا أكتم العلم.
وظل الإمام البخاري عزيزًا كريمًا، لا يخضع لأحد مهما كان مركزه وقدره، فأحبه الناس، وأراه الله في حياته قبل مماته منزلته ومكانته، حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفظًا للعلم والعلماء، وكتب إليه أهل بغداد يومًا قائلين:
المسْلِمَونَ بِخَيْرِ مَا بَقِيتَ لَهَمْ
وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ
وقد كتب الإمام البخاري الكثير من الكتب النافعة؛ من أشهرها: كتابه (الجامع الصحيح) المعروف بصحيح البخاري الذي كان يغتسل ويصلى ركعتين لله قبل أن يكتب أي حديث فيه، وقد كتبه في ست عشرة سنة، ويعد أصح كتب الحديث على الإطلاق وألف أيضًا (التاريخ الكبير) في تراجم رجال الحديث، و(الأدب المفرد).
وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ بعد أن ملأ الدنيا بعلمه وأضاءها بإخلاصه.. رحم الله البخاري جزاء ما بذل وقدم.
===========
ابن ماجة
يا للعجب!! هاهي ذي أرض الفرس، التي كانت أرضًا للكفر تنجب الكثير من رجال الإسلام وأعمدة دفاعه، ويظهر منها عدد كبير من كبار المحدثين
والفقهاء، يحفظون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتحققت بذلك نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنَّا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت عليه سورة الجمعة، وفيها قول الله تعالى: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} [الجمعة: 3] فقلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يجبه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى سأله أبو هريرة ثلاث مرات، فوضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده على سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ثم قال: (لو كان الإيمانُ عند الثريا لناله رجال -أو رجل- من هؤلاء) [متفق عليه].
ففي بلدة (قزوين) التي تقع في أذربيجان، ولد (أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني) الشهير بابن ماجه، نسبة إلى لقب والده سنة (209هـ) وكانت ولادته في زمن الخليفة المأمون الذي كان عهده مليئًا بأئمة الفقه والحديث، وكانت (قزوين) قد فتحت في خلافة عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- في سنة 24هـ، وأصبحت ذات شهرة كبيرة في رواية الحديث النبوي الشريف، فمن أرضها خرج كبار المحدثين الذين يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشرونها بين الناس.
وقد حفظ ابن ماجه القرآن الكريم، وتعلم الحديث الشريف على يد المشايخ والمحدثين الكبار أمثال: (إسماعيل بن توبة القزويني) وهو محدث وفقيه مشهور، و(هارون بن موسى بن حيان التميمي) و(على بن محمد أبو الحسن الطنافسي).. وغيرهم.
رحل ابن ماجه في طلب العلم، وأخذ ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم ويسمع من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى خراسان، والعراق، والحجاز ومصر، والشام.. وغيرها من البلاد، ثم أنهى ابن ماجه رحلاته في طلب الحديث وعاد إلى بلده (قزوين) وأمضى بها بقية عمره في خدمة الحديث إلى أن توفي في عهد الخليفة العباسي (المعتمد على الله) في يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء الموافق الثاني والعشرين من رمضان سنة 273هـ عن عمر يقارب الرابعة والستين.(4/33)
وكانت لابن ماجه مؤلفات في التفسير والتاريخ، إلا أن أشهر كتبه (السنن) الذي استحق به الإمامة في الحديث الشريف، فهو من كتب الحديث المعتمدة عند علماء الحديث، وأحد كتب الحديث الستة المعروفة، وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن ابن ماجه، وقد احتوت سنن ابن ماجه على كثير من الأحاديث التي لم تروها كتب الحديث الأخرى، كما تضم سنن ابن ماجه أربعة آلاف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
================
أبو داود
في إقليم صغير مجاور لإقليم السند يدعي (سجستان) ولد (أبو داود سليمان بن الأشعث بن بشر بن شداد بن إسحق السجستاني) سنة 202 هـ، وأحب الحديث منذ صغره، فطاف البلاد يسمع الأحاديث من المشايخ الكبار في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان.. وغيرها من أمثال (أحمد بن حنبل) و(يحيي بن معين) و(مسدد بن مسرهد) و(قتيبة بن سعيد).
تألق نجم أبي داود في الحديث واشتهر بعلمه وعمله، حتى أصبح من كبار أئمة الإسلام في عصره، وروي عنه الترمذي والنسائي وغيرهما من الأئمة الأعلام، ذهب أبو داود إلى بغداد ومنها إلى البصرة ويروى في سبب رحيله إليها: أنه ذات يوم طرق باب أبي داود طارق؛ ففتح له الخادم، فإذا بالأمير (أبو أحمد الموفق) ولي عهد الخليفة العباسي يستأذن، فأذن له أبو داود، فدخل الأمير وأقبل عليه، فقال له أبو داود: ما جاء بالأمير في هذا الوقت؟! فقال: خلال ثلاث، يعني أسباب ثلاثة:
أما الأولى: أن تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنًا، ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض، فتعمر بك، بعد أن خربت وانقطع عنها الناس بعد محنة الزنج.
والثانية: أن تروي لأولادي كتاب (السنن).
والثالثة: أن تفرد لهم مجلسًا لأن أبناء الخلفاء لا يجلسون مع العامة!! فقال أبو داود: أما الثالثة فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
وحاز كتاب السنن الذي جمعه أبو داود وعُرِفَ بـ(سنن أبي داود) إعجاب الناس وتقدير العلماء، فقد روي أنها قُرئت على ابن الأعرابي فأشار إلى النسخة، وهي بين يديه، وقال: لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا كتاب الله عز وجل ثم هذا الكتاب يقصد سنن أبي داود، لم يحتج إلى شيء من العلم بعد ذلك، وهذا الكتاب الذي يبلغ عدد أحاديثه نحو أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث اختارها أبو داود من بين خمس مائة ألف حديث كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو داود متمسكًا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حريصًا كل الحرص على تطبيقها، وبيان أهميتها للناس ليقوموا بأدائها، وكان لأبي داود منهج أشبه بمنهج الصحابة في اتباع السنة النبوية والتسليم بها، وترك الجدل في الأمور التي تشعل نار الفتنة بين المسلمين.
مات أبو داود عن ثلاثة وسبعين عامًا، قضاها في خدمة السنة النبوية المطهرة، بعد أن ترك له ابنًا يشبهه في كثير من صفاته هو: الحافظ (أبو بكر عبد الله بن أبي داود) الذي كان تلميذًا نجيبًا لوالده، وشارك أباه في التتلمذ على شيوخه بمصر
والشام، وسمع الحديث عن كبار العلماء ببغداد وخراسان وأصبهان وسجستان وشيراز، فصار عالمًا فقيهًا، وألف كتاب (المصابيح).
رحم الله أبا داود وجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد كان للسنة النبوية الشريفة حصنًا منيعًا
==============
ابن حجر العسقلاني
كان يوم وفاته يومًا مشهودًا، اجتمع في تشييع جنازته من الناس ما لا يحصيهم إلا الله، حتى كادت تتوقف حركة الحياة بمصر، يتقدمهم سلطان مصر والخليفة العباسي والوزراء والأمراء والقضاة والعلماء، وصلَّت عليه البلاد الإسلامية صلاة الغائب، في مكة وبيت المقدس، والخليل.. وغيرها، ورثاه الشعراء بقصائدهم، والكتاب برسائلهم.
إنه شيخ الإسلام (شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني) المصري المولد والنشأة، المعروف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه، وُلِد بمصر العتيقة (الفسطاط) في 12 شعبان سنة 773هـ، ونشأ يتيمًا، فما كاد يتم الرضاعة حتى فقد أمه، وما إن بلغ الرابعة من عمره حتى توفي أبوه في رجب 777هـ، تاركًا له مبلغًا من المال أعانه على تحمل أعباء الحياة، ومواصلة طلب العلم.
وبعد موت أبيه، كفله (زكي الدين الخروبي) كبير تجار مصر، الذي قام بتربيته والعناية به، فحفظ ابن حجر القرآن الكريم، وجوَّده وعمره لم يبلغ التاسعة، ولما رحل الخروبي إلى الحج سنة 784هـ رافقه ابن حجر وهو في نحو الثانية عشرة من عمره، ليدرس في مكة الحديث النبوي الشريف على يد بعض علمائها.
ولما عاد إلى القاهرة، درس على عدد كبير من علماء عصره أمثال: (سراج الدين بن الملقن) و(البلقيني) و(العز بن جماعة) و(الشهاب البوصيري) ثم قام ابن حجر برحلات دراسية إلى الشام والحجاز واليمن، واتصل بمجد الدين الشيرازي، وتعلم اللغة صاحب (القاموس المحيط) عليه يديه، غير أن ابن حجر وجد في نفسه ميلا وحبًّا إلى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقبل عليه منكبًّا على علومه مطالعة
وقراءة، وأجازه معظم شيوخه بالرواية وإصدار الفتاوى والقيام بالتدريس، فكانت تقام له حلقات الدرس، ويجلس فيها العلماء في كل بلد يرحل إليه، حتى انتهت إليه الرياسة في علم الحديث في الدنيا بأسرها، وبلغت شهرته الآفاق، وارتحل أئمة العلم إليه من كل أنحاء العالم الإسلامي.(4/34)
وقد أَهَّلَه علمه الغزير أن يشغل عدة مناصب مهمة، فقام بتدريس الحديث والتفسير في المدرسة الحسنية، والمنصورية، والجمالية، والشيخونية والصالحية.. وغيرها من المدارس الشهيرة بمصر، كما تولى مشيخة المدرسة البيبرسية، وولي الإفتاء بدار العدل، وتولى ابن حجر منصب القضاء، واستمر في منصبه نحو عشرين سنة شهد له فيها الناس بالعدل والإنصاف، وإلى جانب ذلك تولى الخطابة في الجامع الأزهر ثم جامع عمرو بن العاص .
وكان من عادة ابن حجر أن يختم في شهر رمضان قراءة صحيح البخاري على مسامع تلاميذه شرحًا وتفسيرًا، وكانت ليلة الختام بصحيح البخاري كالعيد؛ حيث يجتمع حوله العلماء والمريدون والتلاميذ، ثم توج حبَّه لصحيح البخاري وشغفه به بأن ألَّف كتابًا لشرحه سماه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) استغرق تأليفه ربع قرن من الزمان!! حيث بدأ التأليف فيه في أوائل سنة 817هـ وانتهى منه في غرة رجب سنة 842هـ.
وهذا الكتاب يصفه تلميذه (السخاوي) بأنه لم يكن له نظير، حتى انتشر في الآفاق وتسابق إلى طلبه سائر ملوك الأطراف، وقد بيع هذا الكتاب آنذاك بثلاثمائة دينار وقد كتب الله لابن حجر القبول في زمانه، فأحبه الناس؛ علماؤهم وعوامهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم، وأحبه أيضًا النصارى، وكانت أخلاقه الجميلة وسجاياه الحسنة هي التي تحملهم على ذلك، فكان يؤثر الحلم واللين، ويميل إلى الرفق وكظم الغيظ في معالجة الأمور، يصفه أحد تلاميذه بقوله: كل ذلك مع شدة تواضعه وحلمه وبهائه، وتحريه في مأكله ومشربه وملبسه وصيامه وقيامه، وبذله وحسن عشرته ومحاضراته النافعة، ورضي أخلاقه، وميله لأهل الفضائل، وإنصافه في البحث ورجوعه إلى الحق وخصاله التي لم تجتمع لأحد من أهل عصره.
وقد ترك لنا ابن حجر ثروة ضخمة من الكتب تزيد على المائة والخمسين كتابًا، أهمها:
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري) و(تهذيب التهذيب) في تراجم رجال الحديث و(بلوغ المرام من أدلة الأحكام) في الفقه و(الإصابة في تمييز الصحابة) و(الدرر الكامنة) في أعيان المائة الثامنة، و(القول المسدد في الذبِّ عن مسند الإمام أحمد).. وغيرها، وفي ليلة السبت 28 ذي الحجة سنة 852هـ توفي شيخ الإسلام، وحامل لواء السنة (ابن حجر العسقلاني).
===============
الطبري
في بلاد (طبرستان).. بلاد العلم والأدب والفقه، وفي أجمل مدنها..مدينة (آمُل) العريقة عاصمة طبرستان، والتي تقع الآن في دولة أذربيجان، جنوب بحر قزوين، وُلد حجَّة العلوم، وعالم العلماء في عصره، الإمام (محمد بن جرير الطبري)
سنة 224هـ، ولُقب بالطبري لأن أهل طبرستان جميعًا يُنْسَبون إليها؛ فيقال لكل واحد منهم طبري، فكان أهل طبرستان كثيري الحروب، فكان كل منهم يحمل سلاحه في يده، وهو نوع من الأشجار يسمى (الطبر).
لم يكد الطبري يبلغ السن التي تؤهله للتعلم حتى عهد به والده إلى علماء (آمُل) وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه علامات النبوغ، فكان هذا النبوغ المبكر حافزًا لأبيه على إكمال تعليم ابنه، وبخاصة أنه رأى رؤية تفاءل من تأويلها، قال الطبري: (رأى أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعي مِخلاة مملوءةٌ بالأحجار، وأنا أرمي بين يديه) وقصَّ رؤياه على مفسر للأحلام، فقال له: إن ابنك إن كبر نصح في دينه، ودافع عن شريعته، فحرص أبي على معونتي من أجل طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
أخذ ابن جرير الطبري يرحل في طلب العلم، فتعلم الفقه ببغداد، والمغازي والسير في الكوفة، ثم توجه ناحية مصر، وفي طريقه إليها مرَّ ببيروت، وقضى بها عدة أيام حتى قرأ القرآن برواية الشاميين، ثم واصل مسيرته، وفي مصر تلقى الطبري العلم، فأخذ من علمائها قراءة (حمزة) (وَوَرْش) ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى، وانقطع للعلم والدراسة والتأليف في كثير من الأوقات، وكان يتاجر بقية الوقت ليأتي برزقه.
وكان الطبري عالي الهمة،عظيم الاجتهاد؛ ومما يحكى عنه: أن رجلاً جاءه يسأله في العَرُوض (وهو علم يعرف به الشعر من النثر) ولم يكن الطبري له إلمام كبير بهذا العلم فقال له: علي قولٌ ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غد فتعالَ إلي، ثم طلب أبو جعفر كتاب العروض، فتدارسه في ليلته، وقال: أمسيت غير عَرُوضي، وأصبحت عروضيًّا.
وقد تمكن ابن جرير من نواحي العلم، وأدلى بدلوه فيها، حتى أصبح إمام عصره بغير منازع، وقد قيل عنه: كان كالقارئ الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحوي الذي لا يعرف إلا النحو.. وظل الطبري أربعين عامًا يكتب كل يوم أربعين ورقة، قاصدًا بذلك وجه الله، بما ينفع به الإسلام والمسلمين، وكان رحمه الله من العباد الزهاد، يقوم الليل، نظيفًا في ظاهره وباطنه، ظريفًا، حسن العشرة، مهذبًا في جميع أحواله.
من مؤلفاته العظيمة: (تفسير القرآن) المعروف بتفسير الطبري في 30 جزءًا، وهو من أجلِّ التفاسير وأعظمها، و(تاريخ الرسل والملوك) في 11 مجلدًا، وهو يعد أَوْفَى عمل تاريخي بين مصنفات العرب، و(لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام).. وغير ذلك الكثير.. وفي يوم السبت ليومين بقيا من شوال سنة 310هـ فاضت روحه إلى بارئها، تاركًا للمسلمين تراثًا علميًّا ضخمًا، نفع الإسلام والمسلمين، فجزاه الله خير الجزاء
=============
الألوسي
في سنة 1217هـ/ 1852م سعدت (بغداد) بميلاد (أبي الثناء شهاب الدين محمود الألوسي) أمير المفسرين في العصر الحديث!!(4/35)
تطلع منذ صغره إلى العلم، فأخذ العلم عن كبار العلماء في عصره أمثال الشيخ (خالد النقشبندي) والشيخ (علي السويدي) فضلاً عن والده الذي تعلم على يديه، ظهرت علامات النبوغ والذكاء على شهاب الدين الألوسي منذ صغره، حتى إنه اشتغل بالتدريس وهو في الثالثة عشرة من عمره، وهبه الله قوة الذاكرة، يقول عن نفسه: ما استودعت ذهني شيئًا فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني.
لم يترك الألوسي علمًا من علوم الدين إلا وقرأ فيه، فكان يسهر الليالي، ويضحِّي براحته وصحته طلبًا للمعرفة، ورغم هذا المجهود الكبير الذي كان يبذله فإنه كان يشعر بسعادة كبيرة، وفي داره قام بتدريس علوم الدين، فتتلمذ على يديه الكثيرون، ولم يكن يفيض عليهم من علمه الواسع فحسب، بل كان يعطف عليهم ويرعاهم، ويعطيهم من ملبسه ومأكله ويسكنهم بيته!!
ولما ترك الألوسي منصب الإفتاء بالعراق، تفرغ لتفسير القرآن الكريم، وتعلقت نفسه رغبة لإتمام هذا العمل، فكان في أحيان كثيرة يقوم من نومه، ويترك فراشه حين يخطر بذهنه معنى جديد لم يذكره المفسرون السابقون عليه، ولا يهدأ له بال حتى يسجل خواطره في كراريسه، وعندئذ يعود إليه الهدوء، ويزول عنه القلق والتوتر، ويذهب إلى فراشه حيث يستسلم للنوم.
وكان يجمع كل ما كتبه غيره في التفسير، وينقيها من كل شائبة (الإسرائيليات) ويظهر الحقيقة جلية واضحة، كل ذلك في أسلوب رائع جذاب، حتى أصبح تفسيره الذي سمي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) من أحسن التفاسير جامعًا لآراء السلف، مشتملا على أقوال الخلف بكل أمانة وعناية، فهو جامع لخلاصة كل ما سبقه من كتب التفاسير.. وكانت مؤلفات الإمام الألوسي في أنواع مختلفة من العلوم والمعارف، أهمها تفسيره الشهير بـ(تفسير الألوسي) و(دقائق التفسير) و(غرائب الاغتراب).. وغير ذلك من الكتب.
توفي الإمام الكبير في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1270هـ/ 1854م بعد أن ملأ الأرض علمًا، ودفن مع أهله في مقبرة الشيخ (معروف الكرخي) في (الكرخ).
=============
سيد قطب
كان مخلصًا، وفيًا لدينه ووطنه، وكانت حياته جهادًا متواصلا في جميع الميادين، ورسالته رسالة الداعية الذي يخشى أن يخرج من الدنيا قبل أن ينصر دعوته أو ينتصر لها، وهدفه الأول والأخير نصرة الدين، وإعلاء كلمة الله في الأرض!!
في أسرة متوسطة الحال بقرية (موشا) بمحافظة أسيوط بمصر، ولد (سيد قطب) في عام 1906م، ونشأ بين أحضان أسرته، واستطاع والده (إبراهيم) أن يوفر له حياة أحسن حالاً من أهل قريته الذين كانوا يعيشون في حياة الفقر والجهل.
دخل (كُتَّاب) القرية، لكنه هجره بعد فترة، والتحق بمدرسة القرية، وتمكن من حفظ القرآن الكريم حفظًا جيدًا في نهاية الصف الرابع، ويتحدث عن نفسه فيقول:
(لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير، ولا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه، ولكن كنت أجد في نفسي شيئًا، لقد كان خيالي الساذج الصغير يجسم لي بعض الصور من خلال تعبير القرآن، وإنها لصورة ساذجة ولكنها كانت تشوق نفسي وتلذ حسي، فأظل فترة غير قصيرة أتملاها، وأنا بها فرح، ولها نشيط).
لقد كان سيد قطب في طفولته يستمع إلى آيات القرآن، ولا يستطيع فهم معانيها، لكنه كان يتخيل ويتصور معاني القرآن الكريم، ويشعر بسعادة غامرة، وفرح شديد يملك عليه قلبه، وهذا الخيال الواسع لدى الطفل الصغير أَهَّلَهُ لأن يكون كاتبًا إسلاميًّا كبيرًا فيما بعد، وتعلق سيد قطب بالقراءة، وأحبها حبًّا كبيرًا، فأخذ يقرأ كل ما يقع تحت يديه من الكتب، حتى إن نساء القرية وشبابها كانوا يتهافتون على الطفل الصغير، ويطلبون منه أن يحكي لهم ويقصَّ عليهم ما قرأه في هذه الكتب.
وأصبح سيد قطب شابًا فتيًّا، رقيق المشاعر، يشعر بآلام الضعفاء والمظلومين، ويملك خيالا خصبًا، وظهرت على الفتى سيد قطب وطنية مبكرة، فعند قيام الثورة المصرية سنة 1919م بزعامة (سعد زغلول) انطلق يكتب ويخطب وهو في الثالثة عشر من عمره في المساجد والنوادي، ويحرِّض الناس ضد الاستعمار الإنجليزي، وانتقل إلى القاهرة؛ حيث التحق بـ(مدرسة دار العلوم) وأقام سيد قطب بعد موت والديه في القاهرة مع أشقائه (محمد وأمينة وحميدة) وأصبح مسئولاً عن رعاية هذه الأسرة الصغيرة باعتباره الأخ الأكبر.
وتخرج سيد قطب في (دار العلوم) سنة (1353هـ، 1934م) فمارس كتابة الأدب والشعر في عدد من الصحف والمجلات كـ(الأهرام) و(الرسالة) و(الأسبوع) و(الشرق الجديد) و(العالم الغربي) وعمل في وزارة المعارف، ثم مراقبًا فنيًّا للوزارة، وفي سنة 1948م ذهب في بعثة دراسية من وزارة التربية إلى الولايات المتحدة لدراسة نظم التربية وبرامج التعليم فيها، وبعد عودته سنة 1951م أكَّد أنه لا يجد خيرًا من المنهج الإسلامي كأساس للتربية في مصر، وانتقد البرامج المصرية وكان يراها من وضع الإنجليز، وكان ذلك قبل أن يتعرف على جماعة الإخوان المسلمين، وبعد رجوعه من أمريكا انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ورأس قسم نشر الدعوة وتولى تحرير جريدتهم وتعرض للسجن فترات طويلة.
وفي فترة سجنه وداخل جدران السجون، اتجه سيد إلى القرآن ينظر في معانيه، ويقلب نظره بين آياته، وألف تفسيره الذي يقول في مقدمته: لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إلي بهذا القرآن أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟! أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟! أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟!(4/36)
وفي عام 1965 قدم سيد قطب للمحاكمة ظلما وعدوانا ، وحكم عليه بالإعدام، فقال لما وضع على حبل المشنقة :ربِّ إني مغلوب فانتصر " ومن أشهر مؤلفاته:
- في ظلال القرآن.
- خصائص التصور الإسلامي.
- مشاهد القيامة في القرآن الكريم.
- العدالة الاجتماعية في الإسلام.
- قصص الأنبياء للأطفال بالمشاركة مع الأديب كامل كيلاني.
- الإسلام ومشكلات الحضارة.
- معالم في الطريق.
- المستقبل لهذا الدين.. وغير ذلك، وقد اهتم به كثير من الكتَّاب والباحثين، فكتبوا في سيرته بحوثًا وكتبًا.
يقول رحمه الله : في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 263)
{إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب؛ ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة؛ ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع . .
إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها . ومن واجب البشرية - لو رشدت - أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه؛ وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال . .
وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من أجله بصفتها تلك؛ ويناديها ذلك النداء الموحي العميق . . }
============
إبراهيم بن أدهم
كان والده من أغنى أغنياء خراسان وأحد ملوكها، ولد (إبراهيم) بمكة حينما خرج أبوه وأمه إلى الحج عام 100 هـ أو قريبًا منها، وفتح عينيه على الحياة؛ ليجد الثراء يحيط به من كل جانب؛ فعاش حياة الترف والنعيم، يأكل ما يشاء من أطيب الطعام، ويركب أحسن الجياد، ويلبس أفخم الثياب.
وفي يوم من الأيام خرج ابراهيم ابن ادهم راكبًا فرسه، وكلبه معه، وأخذ يبحث عن فريسة
يصطادها، وكان إبراهيم يحب الصيد، وبينما هو كذلك إذ سمع نداء من خلفه يقول له: (يا إبراهيم ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت) فوقف ينظر يمينه وشماله، ويبحث عن مصدر هذا الصوت فلم ير أحدًا، فأوقف فرسه ثم قال: والله لا عصيت الله بعد يومي ذا ما عصمني ربي.
ورجع إبراهيم بن أدهم إلى أهله، فترك حياة الترف والنعيم ورحل إلى بلاد الله الواسعة ليطلب العلم، وليعيش حياة الزهد والورع والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكن إبراهيم متواكلاً يتفرغ للعبادة والزهد فقط ويعيش عالة على غيره، بل كان يأكل من عمل يده، ويعمل أجيرًا عند أصحاب المزارع، يحصد لهم الزروع، ويقطف لهم الثمار ويطحن الغلال، ويحمل الأحمال على كتفيه، وكان نشيطًا في عمله، يحكي عنه أنه حصد في يوم من الأيام ما يحصده عشرة رجال، وفي أثناء حصاده كان ينشد قائلا: اتَّخِذِ اللَّه صاحبًا... ودَعِ النَّاسَ جانبا.
يروي بقية بن الوليد، يقول: دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه، فأتيته، فجلس ثم قال: كلوا باسم الله، فلما أكلنا، قلت لرفيقه: أخبرني عن أشد شيء مرَّ بك منذ صحبته.. قال: كنَّا صباحًا، فلم يكن عندنا ما نفطر عليه، فأصبحنا، فقلت: هل لك يا أبا إسحاق أن تأتي الرَّسْتن (بلدة بالشام كانت بين حماة وحمص) فنكري (فنؤجر) أنفسنا مع الحصَّادين؟ قال: نعم.. قال: فاكتراني رجل بدرهم، فقلت: وصاحبي؟ قال: لا حاجة لي فيه، أراه ضعيفًا.. فمازلت بالرجل حتى اكتراه بثلثي درهم، فلما انتهينا، اشتريت من أجرتي طعامي وحاجتي، وتصدقت بالباقي، ثم قربت الزاد، فبكى إبراهيم، وقال: أما نحن فاستوفينا أجورنا، فليت شعري أوفينا صاحبه حقه أم لا؟ فغضبت، فقال: أتضمن لي أنَّا وفيناه، فأخذت الطعام فتصدقت به.
وظل إبراهيم ينتقل من مكان إلى مكان، زاهدًا وعابدًا في حياته، فذهب إلى الشام وأقام في البصرة وقتًا طويلاً، حتى اشتهر بالتقوى والعبادة، في وقت كان الناس فيه لا يذكرون الله إلا قليلا، ولا يتعبدون إلا وهم كسالي، فجاءه أهل البصرة يومًا وقالوا له: يا إبراهيم.. إن الله تعالى يقول في كتابه: {ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) ونحن ندعو الله منذ وقت طويل فلا يستجيب لنا؟! فقال لهم إبراهيم بن أدهم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله، ولم تؤدوا حقه .
الثاني: قرأتم كتاب الله، ولم تعملوا به .
الثالث: ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركتم سنته.
الرابع: ادعيتم عداوة الشيطان، ووافقتموه .
الخامس: قلتم : نحب الجنة، ولم تعملوا لها .
السادس: قلتم : نخاف النار، ورهنتم أنفسكم بها
السابع: قلتم: إن الموت حق، ولم تستعدوا له .
الثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبكم.
التاسع: أكلتم نعمة ربكم، ولم تشكروها .
العاشر: دفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بها .
وكان إبراهيم كريمًا جوادًا، فالعسل والسمن غالبًا ما يكونان على مائدته يطعم من يأتيه، سمعه أحد أصحابه ذات مرة وهو يقول: (ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة، من لم يواس الناس بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن.. إياكم أن تكون أموالكم سببًا في أن تتكبروا على فقرائكم، أو سببًا في أن لا تميلوا إلى ضعفائكم، وألا تبسطوا إلى مساكينكم).
وكان إبراهيم بن أدهم شديد التواضع، لا يحب الكبر، كان يقول: (إياكم والكبر والإعجاب بالأعمال، انظروا إلى من دونكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم، من ذلل نفسه؛ رفعه مولاه، ومن خضع له أعزه،ومن اتقاه وقاه، ومن أطاعه أنجاه) ودخل إبراهيم بن أدهم المعركة مع الشيطان ومع نفسه مصممًا على الانتصار، وسهر الليالي متعبدا ضارعًا باكيًا إلى الله يرجو مغفرته ورحمته، وكان مستجاب الدعاء.(4/37)
ذات يوم كان في سفينة مع أصحابه، فهاجت الرياح، واضطربت السفينة، فبكوا، فقال إبراهيم : يا حي حين لا حي، ويا حي قبل كل حي، ويا حي بعد كل حي، يا حي، يا قيوم، يا محسن يا مُجْمل قد أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك.. وبدأت السفينة تهدأ، وظل إبراهيم يدعو ربه ويكثر من الدعاء.
وكان أكثر دعائه: (اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك) وكان يقول:
(ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا) وقال: (كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيًّا فهو والذئب سواء، وكل من ذلَّ لغير الله، فهو والكلب سواء) وكان يقول لأصحابه إذا اجتمعوا: (ما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء).
وكان إبراهيم راضيًا بحالة الزهد القاسية، وظل يكثر من الصوم والصلاة ويعطف على الفقراء والمساكين إلى أن مات رضوان الله عليه سنة 162 هـ
=================
عبد الله بن المبارك
في مدينة (مرو) سنة 118هـ ولد (عبد الله بن المبارك) ونشأ بين العلماء نشأة صالحة، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية، وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرس الفقه، وأنعم الله عليه بذاكرة قوية منذ صغره، فقد كان سريع الحفظ، لا ينسى ما يحفظه أبدًا، يحكي أحد أقربائه واسمه (صخر بن المبارك) عن ذلك فيقول: كنا غلمانًا في الكتاب، فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب، فأطال خطبته، فلما انتهى قال لي ابن المبارك: قد حفظتها، فسمعه رجل من القوم، فقال: هاتها، أسمعنا إن كنت حفظتها كما تدَّعي، فأعادها عليه ابن المبارك وقد حفظها ولم يخطئ في لفظ منها.
وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل عبد الله إلى بلاد الإسلام الواسعة طلبًا للعلم، فسافر إلى العراق والحجاز.. وغيرهما، والتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم الحديث والفقه، فالتقى بالإمام مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان، وكان عبد الله كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ كتابًا من كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، ولا يكاد يتكلم أحد معه.
وكان عبد الله يكسب من تجارته مالا كثيرًا، وها هو ذا يعطينا درسًا بليغًا في السلوك الصحيح للمسلم، وذلك حين أتاه أحد أصدقائه واسمه (أبو علي) وهو يظن أن الزهد والتجارة لا يجتمعان قائلاً لعبد الله: أنت تأمرنا بالزهد، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد (خراسان) إلى (البلد الحرام) كيف ذا ؟! فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأُكْرِم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، وكان عبد الله بن المبارك لا يبخل على أحد بماله، بل كان كريمًا سخيًّا، ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة ألف درهم.
وكان ينفق على طلاب العلم بسخاء وجود، حتى عوتب في ذلك فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا أعلم بعد النبوة أفضل من بثِّ العلم.
وكان ابن المبارك يحبُّ مكة، ويكثر من الخروج إليها للحج والزيارة، وكان كلما خرج من مكة قال:
بُغْضُ الحياةِ وخوْفُ اللَّهِ أخرجنَي وَبيعُ نَفْسي بما لَيسَتْ لَهُ ثمَنَا
إني وزنْتُ الَّذي يبْقَي لِيعْدلَه ما ليس يبْقي فَلا واللَّهِ ما اتَّزَنَا
وكان عبد الله بن المبارك يجاهد في سبيل الله بسيفه، حتى إن كثيرًا ممن أتوا ليستمعوا إلى علمه، كانوا يذهبون إليه فيجدونه في الغزو، وكان يرى أن الجهاد فريضة يجب أن يؤديها المسلمون كما أداها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويروى عنه أنه أرسل إلى صاحبه الفضيل بن عياض يحثُّه على قتال الأعداء، ويدعوه إلى ترك البكاء عند البيت الحرام قائلاً له:
يا عابِدَ الحرَميْن لو أبْصَرْتَنا لَعلِمْتَ أنَّكَ في العبَادةِ تَلْعَبُ
من كان يَخْضِبُ خدَّه بدُمُوعِه فنحوُرنا بدمائِنا تتخضَّب
أوْ كان يُتْعب خيلَه في باطل فخيولُنا يوم الصبيحة تَتْعبُ
ريح العبير لكم، ونحن عبيرُنا رَهَجُ السَّنَابك والغبارُ الأطيبُ
وأحبَّ عبد الله بن المبارك أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حبًّا عظيمًا وكان لا يجيب أحدًا يسأله عن حديث منها وهو يمشي، ويقول للسائل: (ليس هذا من توقير العلم) وكان حفَّاظ الحديث في الكوفة إذا اختلفوا حول حديث قالوا:
مروا بنا إلى هذا الطبيب نسأله (يقصدون عبد الله بن المبارك).
ولقد اجتمع نفر من أصحابه يومًا وقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: جمع العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والشعر، والفصاحة والزهد، والورع، والإنصاف، وقيام الليل، والعبادة، والفروسية، والشجاعة، والشدة في بدنه، وترك الكلام في ما لا يعنيه.. حتى أجهدهم العدُّ.
ولقد قدر الناس عبد الله بن المبارك وزادت مهابته لديهم على مهابة هارون الرشيد.. رُوي أن هارون الرشيد قدم ذات يوم إلى (الرقَّة) فوجد الناس يجرون خلف عبد الله بن المبارك لينظروا إليه، ويسلموا عليه، فنظرت زوجة هارون الرشيد من شباك قصرها، فلما رأت الناس قالت: ما هذا ؟! قالوا: عالم من خراسان قدم (الرقَّة) يقال له (عبد الله بن المبارك) فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرطة والأعوان.(4/38)
وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 181هـ توفي عبد الله بن المبارك وهو راجع من الغزو، وكان عمره ثلاثة وستين عامًا، ويقال: إن الرشيد لما بلغه موت عبدالله، قال: مات اليوم سيد العلماء
==============
قال محمد بن المثنى: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفًا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك.
وقد اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك فقالوا: عدوا خصال ابن المبارك فقالوا: جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشجاعة والشعر والفصاحة وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والفروسية وترك الكلام فيما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه.
نشأته:
نشأ ابن المبارك في أسرة متواضعة؛ فقد كان أبوه أجيرًا بسيطًا يعمل حارسًا لبستان أحد الأثرياء، غير أن والده هذا كان سبب رخائه أورثه المال رذاذًًا، ثم صار على يده وابلاً ثجاجًا.
إن المتأمل لهذا المال الذي وصف بأنه رذاذ ليعلم أنه سبب الخير كله، فقد اكتسبه "والده المبارك" بجد وجهدٍ وكفاح وصبر، فكان ثمرة يانعة مقنعة لرجل ورع، حريص على أداء حق العمل، فلم يرض إلا أن يشغل كل وقته في العمل تحريًا للأجر الحلال، فلم يتطلع يومًا للأكل من البستان، وهو ما يكتشفه صاحب البستان ويتعجب له.
ففي إحدى زياراته طلب منه رمانة يأكلها، فجاءه بواحدة، فوجدها حامضة لم تنضج، فرماها، وطلب منه أخرى، فكانت كذلك، فغضب وصاح: أما تعرف الناضج من غيره؟ تظل هذا العمر معي ولا تستطيع أن تقدم أحسن ما لديك؟!
فقال مبارك – صادقًا –: وكيف أعرف وأنا لم أذق شيئًا منه!!
فتعجب صاحب البستان، وقال: ألا تتمتع ببعض ما هو تحت يديك؟!
قال مبارك: لم تأذن لي في ذلك.. فكيف أستحل ما ليس لي؟!
سكت الرجل مندهشًا وقال له: فقد أذنت، من الآن فكل!
من هنا نعرف لأي أبٍ ينتمي عبد الله، إنه ينتمي لأب صالح ولصلاح الأب جائزة عظمى يجدها عند لقاء ربه، ويبقى أثرها في الأبناء!! وهو ما نجده في القصص القرآني الحكيم من قصة الغلامين اليتيمين قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}[الكهف:82].
فكان صلاح الأب سببًا في استخراج الكنز، وكذلك كان الحال مع عبد الله بن المبارك، فسنة الله لا تتخلف، كان الأب صالحًا فاستخرج عبد الله كنزًا تمثل في مال صار على يديه وابلاً ثجاجًا، وحصّل علما وأدبًا وفقها مازالت تتوارثه الأجيال!
رحلاته في طلب العلم:
ارتحل ابن المبارك إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان.
لقد أثمرت رحلات ابن المبارك لأنه قد ارتسم لنفسه منهاجًا يسير عليه، فلم يكن همه من ارتحاله جمع العلم مهما كان مصدره، بل كان التحقق من مصدره أساس منهجه؛ فقد سأله أبو إسحاق قائلاً: "يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك. فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عن من هذا؟ قال: قلت: هذا من حديث شهاب بن خراش. قال: ثقة عن من قال؟ قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة قال: عن من؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف".
فهو حين يتوقف أمام هذا الحديث، لا ينكر ما فيه من البر، إلا أنه لا ينسب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مادام لم يتوفر لديه السند إلى رسول الله وإن كان الحجاج ثقة!!
منزلته عند الإمام مالك:
لأجل هذه الدقة التي توفرت لدى ابن المبارك والتزم بها، كان اهتمام الإمام مالك به.. فقد روي عن يحيى بن يحيى الليثي قال: كنا عند مالك، فاستؤذن لعبد الله بن المبارك بالدخول، فأذن له، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه ثم أقعده بلصقه، وما رأيت مالكًا تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مر بشيء فيسأله مالك: ما مذهبكم في هذا؟ أو ما عندكم في هذا؟ فرأيت ابن المبارك يجاوبه، ثم قام فخرج، فأعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا مالك: هذا ابن المبارك فقيه خراسان.
ولنا أن نستعيد ما قاله والي المدينة حين جاءه الإمام الشافعي يحمل كتابًا من والي مكة ليتمكن الشافعي من لقاء الإمام مالك؛ حيث قال والي المدينة للشافعي: "يا فتى! لو كلفتني المشي من جوف المدينة راجلاً حافيًا كان أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك.. وليتنا إذا ركبنا ووقفنا على بابه يفتح لنا الباب". لنعلم من هذا منزلة عبد الله بن المبارك عند الإمام مالك!!
أما منزلته عند ابن عيينة فهي شيء فوق ذلك كله؛ حيث قال: "نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه".
طيب خلق وسعة علم:
كان ابن المبارك رجلاً يحفظ حق أساتذته ويجل شيوخه، فلم يكن يُحدث في وجود أحد منهم، ولكن محبيه طلبوا ذلك في وجود حماد بن زيد وهو من هو في ذلك العصر، فما عسى ابن المبارك أن يفعل؟!(4/39)
يقول إسماعيل الخطبي: بلغني عن ابن المبارك أنه حضر عند حماد بن زيد، فقال أصحاب الحديث لحماد: سل أبا عبد الرحمن أن يحدثنا. فقال: يا أبا عبد الرحمن، تحدثهم؛ فإنهم قد سألوني؟ قال: سبحان الله يا أبا إسماعيل، أحدث وأنت حاضر؟! فقال: أقسمت عليك لتفعلن. فقال: خذوا. حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد، فما حدث بحرف إلا عن حماد.
لقد وجد ابن المبارك نفسه أمام قسم حماد، ولكن ما فعله يشهد له بسعة العلم ودماثة الخلق!!
وقد سُمع ابن المبارك يقول إعظامًا لقدر حماد بن زيد:
أيها الطالب علمًا .. ... .. إئت حماد بن زيد
فاستفد حلما وعلما. ... .. ثم قيده بقيد
وإن كان شعره هذا يشهد بالعلم لحماد بن زيد، فقد أحسن عندما قال عن أبي حنيفة:
رأيت أبا حنيفة كل يوم .. ... .. يزيد نبالة ويزيد خيرًا
وينطق بالصواب ويصطفيه .. ... .. إذا ما قال أهل الجور جورًا
لقد كان ابن المبارك خير من يعترف لأساتذته بالفضل وحسبه أن قال: "لولا أن الله عز وجل أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس".
شجاعته:
وكان من الشجاعة بالمكان الجهير، وله في ساحة الجهاد نوادر ذائعة، فقد كان في سرية ببلاد الروم خرجت للاستطلاع لا للقتال، ففاجأتها قوة ضخمة من الأعداء، واصطف الفريقان ونهض فارس رومي يدعو للمبارزة وفقًا لما كان معهودًا إذ ذاك، فتقدم إليه بطل مسلم، فلم يستطع نزاله، وخر شهيدًا، وتقدم ثانٍ فكانت النتيجة هي النتيجة، وتخوف المسلمون وذعروا من رهبة هذا الصائل الفاتك. وغلا الدم في رأس ابن المبارك، فخف إليه، واشتد الصراع بين الفارسين، وكل منهما يبدي من أساليب الصيال ما في طوقه كرًّا وفرًّا، في واقعة شديدة، لم ير الناس أرهب منها! ثم حصلت المفاجأة حين طعن ابن المبارك غريمه طعنة أصابت منه مقتلاً فسقط على الأرض، وكبر المسلمون، ورجع ابن المبارك وقد غطى وجهه حتى لا يشتهر بين الناس.
لقد كان الإمام العالم يعرف فضل الجهاد، وهو الذي أرسل إلى أخيه الفضيل بن عياض برسالة يقول فيها:
ياعابد الحرمين لو أبصرتنا.. ... .. لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه .. ... .. فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل .. ... .. فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا .. ... .. رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا .. ... .. قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في .. ... .. أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا .. ... .. ليس الشهيد بميت لا يكذب
وفي الأبيات تضمين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم".
سخاؤه:
أما عن سخائه فحدث ولا حرج، فمواقف سخائه كثيرة مبثوثة في كتب التراث نذكر منها ما رواه محمد بن علي بن الحسن بن شقيق عن أبيه قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك. فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا. فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسُرُّوا، دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته، عليها اسمه.
ومنها أنه جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعمائة درهم. وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضًا قد فنى، فأجز له ما سبق به قلمي.
ولكثرة إنفاقه عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
وفاته:
قال الفسوي في "تاريخه": سمعت الحسن ابن الربيع يقول: شهدت موت ابن المبارك، مات لعشر مضت من رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، ومات سحرًا، ودفناه بهيت، ولبعض الفضلاء:
مررت بقبر ابن المبارك زائرًا .... فأوسعني وعظًا وليس بناطق
وقد كنتُ بالعلم الذي في جوانحي .. غنيًا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلاً .... إذا هي جاءت من رجال الحقائق
وعن عبد الرحمن بن عبيد الله يقول: كنا عند الفضيل بن عياض فجاء فتى في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة، فنعى إليه ابن المبارك، فقال فضيل: "إنا لله وإنا إليه راجعون، أما إنه ما خلف بعده مثله".
==============
الفضيل بن عياض
الخشية من الله والبكاء يلازمانه، لا يُرى إلا وعيناهٍ تفيض من الدمع، كلما ذكر اسم الله تعالى عنده ظهر عليه الخوف والوجل، وارتعشت كل أعضاء جسده، ترى من يكون هذا الرجل الذي غمر الإيمان قلبه ؟!(4/40)
كان عاصيًا فتاب الله عليه، وجعله من عباده المؤمنين، تحول من قاطع طريق يروع الآمنين إلى عابد زاهد، وكان سبب توبته؛ أنه كان يتسلق جدران أحد المنازل بالليل؛ فسمع صوتًا يتلو قوله تعالي: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 16] فلما سمعها قال: بلي يا رب، قد آن.
فرجع فمرَّ على أرض خربة، فوجد بها قومًا، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: ننتظر حتى نصبح، فإن الفضيل يقطع علينا الطريق، قال (أي: الفضيل): ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني !! وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع (أي أن الله قدر لي أن آتي إلى هذا المكان لأتوب وأرجع إليه) اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.. لقد جعل مظاهر توبته مجاورته لبيت الله حيث الرحمة والبركة، يدعو الله ويستغفره، ويندم على ما فرط في حقه.
في أرض خراسان ولد (الفضيل بن عياض) ثم رحل إلى الكوفة في العراق، فسمع الأحاديث النبوية الشريفة والفقه من العلماء؛ أمثال (الأعمش) و(يحيي بن سعيد الأنصاري) و(جعفر الصادق) فأثرت تأثيرًا كبيرًا في شخصيته، حتى أصبح من الزهاد الذين يرون أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تستحق أن يتكالب الناس عليها، ويتصارعون من أجلها، فهي فانية زائلة، بل الأولى أن يعمل الناس لأخراهم، فهي الباقية الدائمة بفعل الخير، وتجنب المعاصي، ثم انتقل إلى مكة وأقام بها حتى توفي.
وكان إذا خرج في جنازة مع الناس، يعظهم ويذكرهم بالآخرة، حتى إذا وصل إلى المقبرة، جلس في حزن شديد، وظل يبكي ولا ينقطع بكاؤه، سأله الخليفة (هارون الرشيد) ما هي صفات المؤمن أيها الزاهد؟ فقال له الفضيل: صفات المؤمن؛ صبر كثير، ونعيم طويل، وعجلة قليلة، وندامة طويلة.
ومرَّ الفضيل بن عياض على جماعة أغنياء، فوجدهم يلعبون ويشربون ويلهون؛ فقال لهم بصوت عال: إن مفتاح الخير كله هو الزهد في الدنيا، وقد سأله أحدهم: وما الزهد في الدنيا ؟ فقال: القناعة والرضا وهما الغنى الحقيقي، فليس الغنى في كثرة المال والعيال، إنما الغنى غنى النفس بالقناعة والرضا في الدنيا، حتى نفوز في الآخرة، ثم توجه إلى الله داعيًا: اللهم زهدنا في الدنيا، فإنه صلاح قلوبنا وأعمالنا وجميع طلباتنا ونجاح حاجتنا.
وحجَّ هارون الرشيد ذات مرة؛ فسأل أحد أصحابه أن يدله على رجل يسأله؛ فدله على الفضيل، فذهبا إليه، فقابلهما الفضيل وقال للرشيد: إن عمر بن عبد العزيز لما ولِّي الخلافة دعا أناسًا من الصالحين فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء (يعني الحكم) فأشيروا علي.. فعدَّ عمر الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فبكى الرشيد، فقال له صاحب الرشيد: ارفق بأمير المؤمنين، فقال الفضيل: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا ؟ (يقصد أن عدم نصحه كقتله) فقال له الرشيد: زدني يرحمك الله..
فأخذ يعظه وينصحه، ثم قال له: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشٌ لهم إلا حَرَّمَ الله عليه الجنة) [متفق عليه] فبكي هارون وقال له: أعليك دين أقضيه عنك؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني، فالويل لي إن لم ألهم حجتي، قال: إنما أعني من دين العباد.
قال: إن ربي لم يأمرني بهذا؛ أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادة ربك، فقال الفضيل: سبحان الله،أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلَّمك الله ووفَّقك، ثم صمت فلم يكلمنا؛ فخرج الرشيد وصاحبه، وكان الفضيل شديد التواضع، يشعر دائمًا بأنه مقصر في حق الله، رغم كثرة صلاته وعبادته.
وتمضي الأيام، ويتقدم السن بالفضيل بن عياض وذات مرة كان بعض الناس جلوسًا عنده، فقالوا له: كم سنك ؟ فقال:
بلغتُ الثَّمانين أوجُزْتهَا فَمَاذا أُؤمِّلُ أَو أَنَْتظِرْ
عَلَتْني السِّنُون فأبْلَيْننَي فَدَقَّ العِظامُ وَكَلَّ البَصَرْ
ومرض الفضيل، فسُمِع يقول: ارحمني بحبي إياك، فليس شيء أحب إلي منك، وأقام الزاهد العابد الفضيل بن عياض بـ(مكة) حتى توفي عام 187هـ وأطلق عليه هناك (شيخ الحرم المكي).
==============
عقبة بن نافع
كان والده من المسلمين الأوائل الذين جاهدوا في سبيل الله، فلم يكن غريبًا أن يشب (عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري) وحب الجهاد يجري في عروقه، وتمنى أن يكون أحد أبطال مكة وفرسانها، تعلم المبارزة، وتدرب مع الشباب المسلم على حمل السلاح، وازداد عقبة حبًّا واشتياقًا للجهاد من سماعه لقصص البطولة التي قام بها المسلمون أثناء حروبهم ضد أعداء الإسلام، حكاها له ابن خالته (عمرو بن العاص).
ولما بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال، منتظرًا اللحظة المواتية ليدافع عن دين الله، وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة العادل (عمر بن الخطاب) فتح بعض بلاد الشام إلى عمرو بن العاص، وجعل عمرو (عقبة بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين، وكان عقبة عند حسن ظن عمرو بن العاص، فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف الأعداء، ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل الله.(4/41)
وفي أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا، واستطاع بمهارته الحربية أن يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم، وكان كل يوم يمر على عقبة يزداد حبًّا للجهاد في سبيل الله، وشغفًا بنشر دين الإسلام في كل بقاع الأرض؛ حتى ينعم الناس بالأمن والعدل والرخاء، وظل عقبة بن نافع جنديًّا في صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود، على الرغم من براعته في القتال وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه، إلى أن كلفه عمرو بن العاص ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان (مجموعة الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) .
وانطلق عقبة إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه، وعندما وصل عقبة إليها دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى فرَّ البربر من أمامه ورفعوا راية الاستسلام، وأراد عمرو بن العاص فتح إفريقية كلها، لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود، فبعث إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستأذنه في فتحها، لكن الخليفة عمر -رضي الله عنه- كان من رأيه الانتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت إمارتهم ويزداد جيش المسلمين ويقوى عدةً وعتادًا.
انتقل عقبة -رضي الله عنه- إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛ لِيُعَلِّمَ المسلمين فيها أمور دينهم، وينشر الإسلام في هذه المنطقة، ومكث -رضي الله عنه- مخلصًا في نشر نور الإسلام، وتدعيم شعائره في نفوس الذين أقبلوا على تعلم لغة القرآن .. فأسلم على يديه كثير منهم، وأحبوه حتى استطاع عقبة أن يكتسب خبرة واسعة بكل أحوال البربر.
وتمر الأيام والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل الله، حتى كانت سنة (40هـ) وهي السنة التي تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلافة، وعاد عمرو بن العاص واليًا على مصر، وحين أراد عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات الإسلامية التي كان قد بدأها في برقة رأى أن خير من يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لإقامته بين البربر لسنوات عديدة، فأصبح من أكثر الناس معرفة بحياة البربر وعاداتهم وتقاليدهم.
وبدأ عقبة الجهاد في سبيل الله، ونشر الإسلام بين قبائل البربر، وكانت برقة آنذاك قد تغيرت معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين الإسلامي، وانتشرت المساجد في كل مكان فيها، وظل عقبة واليًا على برقة يدعو إلى الإسلام إلى أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح إفريقية وأن جيشًا كبيرًا في الطريق إليه، ووصل الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكان يبلغ عدده عشرة آلاف جندي، وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا فحسن إسلامهم.
انطلق عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلاد، ويقاتل القبائل التي ارتدت عن الإسلام دون أن يقتل شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، بل كان يعاملهم معاملة طيبة، حسب تعاليم الإسلام في الحروب، واستطاع عقبة أن يستولي على منطقة (ودان) وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل شديد الارتفاع، فكان من الصعب على الجيش
أن يتسلقه، فوصل عقبة إلى أسوار المدينة، ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا.
وهنا تظهر عبقرية عقبة الحربية، فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب، تراجع بجيشه مبتعدًا عن المدينة، حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب، ففتحوا أبواب مدينتهم آمنين، ولم يكن تراجع عقبة إلا حيلة من حيله الحربية، فقد علم أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة فسار عقبة فيه، ولكنه فوجيء بأن هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ولا ماء، وكاد جيش عقبة يموت عطشًا، فاتجه إلى الله يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير.
فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الأرض برجليه بحثًا عن الماء من شدة العطش، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فقد استجاب الله دعاء عقبة وانفجر الماء من تحت أقدام الفرس، وكبَّر عقبةُ ومعه المسلمون، وأخذوا يشربون من هذا الماء العذب، ولما شرب الجيش وارتوى؛ أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين حفرة في هذا المكان علَّهم يجدون ماء عذبًا، وتحققت قدرة الله وأخذ الماء يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون، ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث، واعتنق عدد كبير منهم الإسلام.
وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلاً، ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة يعسكر فيها المسلمون، فاختار مكانًا كثيف الأشجار يسمي (قمونية)
جيد التربة، نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لأصحابه: انزلوا بسم الله.(4/42)
وانشغل عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح الإسلامي، وطلب (مسلمة بن مخلد الأنصاري) وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل عقبة وتعيين (أبي المهاجر بن دينار) وبالفعل تمَّ عزله، وفي عهد الخليفة يزيد بن معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش حتى أصبح على أتم الاستعداد للغزو والفتح، ثم انطلق إلى مدينة الزاب (وهي المدينة التي يطلق عليها الآن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم والبربر، والتحم الجيشان، وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة، فكان يحصد رءوس أعدائه حصدًا، أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم النصر بإذن الله تعالى، واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة، ثم أمر الجيش بالانطلاق إلى (طنجة) في المغرب الأقصى فدخلوها دون قتال، حيث خرج ملكها (يليان) لاستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق على كل مطالبهم.
وظل عقبة يجاهد في سبيل الله يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل إلى شاطئ المحيط الأطلنطي، فنزل بفرسه إلى الماء، وتطلع إلى السماء وقال:
يا رب .. لولا هذا المحيط لمضيت في البلاد مدافعًا عن دينك، ومقاتلاً من كفر بك وعَبَدَ غيرك..
وظن القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الاستسلام وأنهم ليس لديهم استعداد للحرب مرة أخرى، فسبقه جيشه إلى القيروان، وبقي هو مع ثلاثمائة مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد من الحاميات الرومية، ولما علم بعض أعداء الإسلام من البربر أن عقبة ليس معه إلا عدد قليل من رجاله، وجدوا الفرصة ملائمة للهجوم عليه، وكان على رأس هؤلاء البربر (الكاهنة) ملكة جبال أوراس (سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلاف الجنود من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب الأعداء بسيفه، متمنيًا الشهادة في سبيل الله، حتى أحاط البربر به وجنوده من كل جانب، فاستشهدوا جميعًا، واستشهد معهم (عقبة بن نافع) فرحمه الله رحمة واسعة، جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.
وكان استشهاد عقبة في مدينة تهودة سنة 64هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من المعارك، وذاق حلاوة النصر، ورفع راية الإسلام، ويُعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان نصرًا رائعًا للإيمان، وتناقلت الألسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن الذي حمل رسالة دينه إلى أقصى المعمورة، وأبى إلا أن يستشهد بعد أن حمل راية دينه فوق الثمانية آلاف كيلو متر.
===============
طارق بن زياد
يا خيول (طارق) جاوزي الموانع والسدود، وتخطي البحار والأنهار، لا تتراجعي ولا تترددي، ستصمت أصوات الأجراس، وترتفع أصوات المآذن، ليذكر اسم الله في أرض كان يسودها الظلم والطغيان، وتسود مبادئ العدل والحق والحرية، فانطلقي على بركة الله !!
ولد (طارق بن زياد) وفتح عينيه على الحياة ليجد المسلمين يجاهدون في سبيل الله، ويضحون بأموالهم وأنفسهم لنصرة دينه، وينتقلون من نصر إلى نصر، وأصبح الطفل الصغير شابًّا فتيًّا، فوهب نفسه لخدمة الإسلام، ولم يتردد لحظة في القيام بأي عمل من شأنه أن يرفع رايته، وتدرج في المناصب حتى أصبح أميرًا لمدينة (طنجة) وقائدًا لجيوش المسلمين، وعامة جنوده كانوا من البربر الذين تميزوا بالشجاعة والإقدام.
كان صلى الله عليه وسلم طارق بن زياد) يحلم بذلك اليوم الذي ينتشر فيه الإسلام في كل أرجاء الدنيا، ويتمنى بينه وبين نفسه أن يشارك في تحقيق هذا الأمر العظيم، وجاءت الفرصة، فقد علم (موسى بن نصير) والي إفريقية بضعف الأندلس وملوكها، فأرسل إلى الخليفة الأموي (الوليد بن عبد الملك) يستأذنه في فتحها، فأذن له الخليفة بشرط ألا يعرض المسلمين للهلاك دون فائدة، وأن يحترس من أعدائه، فرح (موسى بن نصير) فرحًا شديدًا وجهز الجيش، ولم يجد خيرًا من (طارق بن زياد) لقيادته.
وبمجرد أن تولى طارق بن زياد أمور القيادة أرسل بعض الجواسيس لمعرفة أخبار هذه البلاد، فعادوا ليخبروه بضعفها وتنازع أمرائها على السلطة، وأعد (طارق) الخطة لفتح الأندلس) وبعد أن اطمأن على الإعداد الجيد لجيشه، عبر بجنوده البحر حتى وصلوا إلى الشاطئ، وانطلق طارق كالحصان الجامح يفتح هذه البلاد، يساعده في ذلك بعض الثائرين على الملك (ردريك) ملك القوط، ولما علم هذا الملك بنزول العرب المسلمين إلى الأندلس -وكان مشغولاً بثورة قامت ضده- جمع أعدادًا هائلة من الجنود استعدادًا لملاقاة المسلمين.
ولما رأى طارق هذه الأعداد الكبيرة، طلب الإمداد من موسى بن نصير والي إفريقية فأرسل إليه اثني عشر ألفًا من الجنود، والتقي الجيشان؛ جيش طارق بن زياد، وجيش ردريك في معركة حامية عرفت باسم (وادي البرباط) أو معركة (شذونة) استطاع طارق أن ينتصر عليهم، ويقتل ملكهم ردريك بعد أن استمرت المعركة من 28 رمضان إلى 5 شوال سنة 92هـ.
وسعد المسلمون بهذا النصر العظيم، وتوافدوا إلى بلاد الأندلس التي سمعوا عن اعتدال جوها، وخيراتها التي لا تعد ولا تحصى، ولم يكتف القائد العظيم طارق بن زياد بهذا الانتصار العظيم،بل واصل فتوحاته حتى استطاع في صيف هذه السنة (92هـ) أن يفتح أكثر من نصف الأندلس.(4/43)
وتلقى طارق أوامر من موسى بن نصير بالتوقف عن الفتح خشية محاصرة جيوش الأعداء لهم، وقطع الإمداد عنهم، وحتى لا يكونوا صيدًا سهلاً في أيديهم، وبعدها جهز (موسى بن نصير) جيشًا كبيرًا عبر به إلى الأندلس؛ ففتح مدينة (إشبيلية) التي كانت خلف ظهر المسلمين، والتقى بقائد جيشه (طارق بن زياد) عند مدينة (طليطلة) وانطلق الاثنان لفتح باقي مدن الأندلس.
وظل جيش المسلمين يحقق الانتصارات وينتقل من فتح إلى فتح، حتى وصلت رسالة إلى القائدين موسى، وطارق من خليفة المسلمين (الوليد بن عبد الملك) تأمرهما بالعودة إلى دمشق، خوفًا من انتشار جيش المسلمين في مناطق مجهولة وغير آمنة، وصل القائدان المنتصران إلى دمشق قبل وفاة (الوليد بن عبد الملك) بأربعين يومًا في موكب مهيب، أمامهما الأسرى والغنائم، والجنود يرفعون شارات النصر، وظل طارق على العهد مخلصًا لدين الله حتى لقي ربه بعد أن كتب اسمه في صفحات التاريخ بحروف من نور.
==============
موسى بن نصير
(وايم الله لا أريد هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها، ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين).. ما أروع كلامك أيها القائد العظيم.
في خلافة (عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- ولد (موسى بن نصير) سنة 19هـ/640م في قرية من قرى الخليل في شمال فلسطين تسمي (كفر مترى) فتعلم الكتابة، وحفظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، ونظم الشعر، ولما كان والده (نصير) قائدًا لحرس معاوية بن أبي سفيان ومن كبار معاونيه؛ تهيأت الفرصة لـ(موسى) لأن يكون قريبًا من كبار قادة الفتح، وأصحاب الرأي والسياسة، ويرى عن قرب ما يحدث في دار الخلافة .
وشب موسى وهو يشاهد جيوش المسلمين تجاهد في سبيل الله، لنشر الدين الإسلامي في ربوع الأرض، ورأى والده وهو يستعد لإحدى الحروب، وقد لبس خوذته، وتقلد سيفه، فنظر إليه وأطال النظر، وتمنى أن يكون مثل أبيه يجاهد في سبيل الله ويرفع راية الإسلام، وجاءت اللحظة الموعودة لينال موسى قيادة بعض الحملات البحرية التي وجهها معاوية لإعادة غزو (قبرص) التي سبق أن فتحها معاوية في سنة 27هـ؛ فنجح في غزوها، وبنى هناك حصونًا، ثم تولى إمارتها، وفي سنة 53هـ (673م)، كان موسى أحد القادة الذين خرجوا لغزو جزيرة (رودس) التي انتصر المسلمون فيها.
وتمر الأيام والسنون ويتولى مروان بن الحكم الخلافة، ويتحين موسى بن نصير الفرصة ليحقق أحلامه وطموحاته، ففي سنة 65هـ/ 684م أمر مروان بتجهيز الجيش للسير به نحو مصر، وزحف الجند مسرعين بقيادة ابنه (عبد العزيز) وصديقه (موسى بن نصير) ووصل الجيش إلى مصر، واستطاع مروان أن يضمها تحت لواء المروانيين الأمويين، ثم غادرها إلى دمشق بعد أن عين ابنه (عبد العزيز) واليًا، وجعل موسى بن نصير وزيرًا له.
وعاش موسى مع عبد العزيز بن مروان في مصر، فكان موضع سره، ووزيره الأول، يساعده في حكم مصر، حتى ازدادت خبرة موسى في شئون السياسة والحكم، ومات مروان، وتولى الخلافة بدلاً منه ابنه (عبد الملك) وكان عبد العزيز بن مروان يشيد بشجاعة موسى وإخلاصه أمام الخليفة مما جعله يخص موسى بالحفاوة والتكريم.
وفي يوم من الأيام حمل البريد رسالة من الخليفة إلى أخيه عبد العزيز والي مصر يخبره فيها بأنه قد عين أخاه بشر بن مروان واليًا على البصرة، وجعل موسى بن نصير وزيرًا يساعده على إدارة الولاية ورئيسًا لديوان العراق، ومكن الله لموسى، وثبت أركان وزارته، فلم يمضِ وقت طويل، حتى عين الخليفة أخاه بشرًا على الكوفة، وبذلك ترك لموسى بن نصير ولاية البصرة ليدير شئونها وحده بوعي وبصيرة، ثم عَيَّنَه صديقه عبد العزيز بن مروان واليًا على شمال إفريقية بدلاً من حسان بن النعمان الذي غضب عليه عبد العزيز.
وتمكن موسى في زمن قصير من تجهيز جيش إسلامي قوي قادر على النصر، وسار برجاله، ووقف بينهم خطيبًا، فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه: إنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضَّ على مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها، فإني أخطئ كما تخطئون، وأصيب كما تصيبون.. ثم انطلق موسى بجيشه نحو المغرب حيث تزعزع الأمن هناك برحيل الأمير السابق حسان بن النعمان وقيام البربر بالعديد من الغارات على المسلمين.
واستطاع موسى أن يهزم قبائل البربر التي خرجت عن طاعة المسلمين، ولما وصل إلى مدينة القيروان، صلى بالجند صلاة شكر لله على النصر، ثم صعد المنبر وخطب قائلاً: (وايم الله لا أريد هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها، ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) وانتشرت جيوش (موسى بن نصير) في شرق المغرب وشماله تفتح كل ما يصادفها من الحصون المنيعة، حتى أخضع القبائل التي لم تكن قد خضعت بعد للمسلمين.
وتطلع موسى إلى فتح (طنجة) التي كانت تحت سيادة الأمير الرومي (يوليان) فانطلق من قاعدته في القيروان بجيش كبير تحت قيادة طارق بن زياد حتى وصل إلى (طنجة) فحاصرها حصارًا طويلا وشديدًا حتى فتحها، وأقام للمسلمين مُدنًا جديدة فيها، وأسلم أهلها، وبعث موسى لصديقه عبد العزيز يبشره بالفتح، وأن خُمس الغنائم قد بلغ ثلاثين ألفًا، وجاءت الرسل إلى الخليفة في دمشق تزفُّ إليه خبر النصر، ففرح فرحًا شديدًا لانتصارات موسى، وكافأه على انتصاراته، ولم يكتفِ موسى بهذه الانتصارات، بل أخذ يجهز أسطولا بحريًّا، وأمر في الحال ببناء ترسانة بحرية في تونس، فجاء بصانعي المراكب، وأمرهم بإقامة مائة مركب.(4/44)
وبعد أن تمَّ له إنشاء السفن أمر جنوده بأن يركبوا السفن وعلى رأسهم ابنه عبد الله، ثم أمره بفتح جزيرة (صقلية) وسار عبد الله بن موسى بجند الحق حتى وصل إلى الجزيرة فدخلها، وأخذ منها غنائم كثيرة، حتى وصل نصيب الجندي مائة دينار من الذهب، وكان عدد الجنود المسلمين ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم عاد عبد الله بن موسى من غزواته سالمًا غانمًا، وبعث موسى قائده (عياش بن أخيل) على مراكب أهل إفريقية، ففتح جزيرة صقلية للمرة الثانية، واستولى على مدينة من مدنها تسمي (سرقوسة) وعاد منتصرًا.
وفي سنة 89هـ بعث موسى بن نصير (عبد الله بن فرة) لغزو (سردينيا) ففتحها، وفي العام نفسه، جهز موسى ولده عبد الله، بما يحتاجه من جند وعتاد، ثم سار في البحر، ففتح جزيرتي (ميورقة) و(منورقة) وهما جزيرتان في البحر بين صقلية والشاطئ الأندلسي.
وبدأ موسى بن نصير ينشر دين الله في المدن المفتوحة، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، وحكم بين أهل هذه البلاد بالعدل، لا يفرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، فأحبوا الإسلام، واستجابوا لدعوة الحق، ودخلوا في دين الله أفواجًا، وتحولوا من الشرك والكفر إلى الإسلام والتوحيد بفضل الله أولا، ثم بجهود موسى وبطولاته.
ولما ضمن موسى ولاء أهل المغرب واستمساكهم بدعوة الإسلام، أخذ يعد العدة لغزو جديد، وبينما هو يفكر في هذا الأمر إذ جاءه رسول من قبل طارق بن زياد يخبره بأن يوليان حاكم (سبته) عرض عليه أن يتقدم لغزو أسبانيا، وأنه على استعداد لمعاونة العرب في ذلك، وتقديم السفن اللازمة لنقل الجنود المسلمين، وبعث موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستشيره، فردَّ عليه الخليفة بقوله: (خضها أولاً بالسرايا يعني بقلة من الجنود حتى ترى وتختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال).
فأرسل موسى رجلاً من البربر يسمى (طريف بن مالك) في مائة فارس وأربعمائة رجل، وركب هو وجنوده البحر في أربعة مراكب حتى نزل ساحل الأندلس فأصاب سبيًا كثيرًا ومالاً وفيرًا، ثم رجع إلى المغرب غانمًا سالمًا، وفي شهر رجب من عام 92هـ جهز موسى جيشًا خليطًا من العرب والبربر تعداده سبعة آلاف جندي بقيادة طارق بن زياد، وانطلق طارق بالجيش إلى أن وصل سبتة، وهناك خطط لعبور المضيق، وفي اليوم الخامس من شهر رجب سنة 92هـ (إبريل 710م) وبفضل الله كانت آخر دفعة من الجنود بقيادة طارق تعبر المضيق الذي حمل اسم طارق بن زياد منذ ذلك الوقت.
ونزل طارق -قائد جيش موسى بن نصير- أرض الأندلس، وبعد عدة معارك فتح الجزيرة الخضراء، وعلم الإمبراطور (لذريق) بنزول المسلمين في أسبانيا من (بتشو) حاكم إحدى المقاطعات الجنوبية الذي بعث إليه يقول: أيها الملك، إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء أم من الأرض، فالنجدة ..النجدة، والعودة على عجل.
وزحف لذريق بجيش كبير ليوقف المسلمين عن الزحف، فأرسل طارق إلى موسى مستنجدًا، فأمده بخمسة آلاف من المسلمين على رأسهم طريف بن مالك وأكثرهم من الفرسان فأصبح تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا، وكان اللقاء الحاسم بين جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد، وجيش الإمبراطور لذريق يوم الأحد 28 من شهر رمضان المبارك عام 92هـ، واستمرت المعركة حوالي سبعة أيام، انتهت بانتصار المسلمين بفضل الله في معركة عرفت باسم معركة (شذونة) أو معركة (وادي البرباط).
واصل طارق بن زياد فتوحاته في الأندلس، وخشي موسى بن نصير من توغله في أراضيها، فعبر إليه على رأس حملة كبيرة وأخذ القائدان يتمَّان فتح ما بقي من مدن الأندلس، وظل موسى يجاهد في سبيل الله حتى أصبحت الأندلس في قبضة المسلمين، وبعد أن انتهي موسى من فتوحاته ألحَّ عليه (مغيث الرومي) رسول الخليفة بالعودة إلى دار الخلافة في دمشق، فاستجاب له موسى، وبدأ يستعد لمغادرة الأندلس، وواصل موسى السير، حتى وصل إلى دمشق فاستقبله الوليد وأحسن استقباله، وتحامل على نفسه -وهو مريض- وجلس على المنبر لمشاهدة الغنائم وموكب الأسرى، فدهش الخليفة مما رأى وسجد لله شكرًا، ثم دعا موسى بن نصير وصبَّ عليه من العطر ثلاث مرات، وأنعم عليه بالجوائز.
------------
قلت : خبر ه مع سليمان بن عبد الملك وأنه أهانه وعذبه كذب فلا يجوز تصديقه (علي)
=================
أسد بن الفرات
في (حرَّان) من ديار بكر، ولد أبو عبد الله الحراني، أسد بن الفرات سنة 144هـ/ 761م، ثم قدم القيروان وهو ابن سنتين مع أبيه الذي كان من أعيان الجند في جيش (محمد بن الأشعث الخزاعي) والي إفريقية من قبل الخليفة
أبي جعفر المنصور.
تلقى (أسد) دراسته الأولى بالقيروان، ثم رحل مع أبيه إلى تونس فأقام بها تسع سنين لزم خلالها الفقيه المعروف (علي بن زياد) وتعلم منه وتفقَّه عليه، ولم يكتفِ بذلك، بل أراد أن يستزيد من العلم فقرر الرحيل إلى المدينة المنورة سنة 172هـ/ 788م، لينهل من علم الإمام مالك عدة سنين تعلم فيها الكثير، وبعدها قرر الرحيل إلى العراق، فدخل على الإمام مالك مودعًا وشاكرًا، وسأله أن يوصيه، فقال له: (أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة للناس).(4/45)
ورحل (أسد) إلى العراق حيث الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة، فلزمه، فكان يحضر دروسه العامة، ثم أحب أن يكون له درس خاص يغرف فيه ما استطاع من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده، فأخذه الإمام محمد إلى بيته، وأعطاه غرفة كان يسهر معه فيها الليل كله، ويضع أمام التلميذ قدح ماء، فإذا نعس نضح وجهه ليصحو، فكان صلى الله عليه وسلم أسد) أول من جمع بين مذهب الإمام مالك ومذهب أبي حنيفة، ولم يكتفِ أسد بن الفرات بذلك العلم، بل رحل إلى مصر حيث يوجد بها عالمان من تلاميذ الإمام مالك هما (أشهب بن عبد العزيز) و(ابن القاسم) وهناك جمع ما أخذه من ابن القاسم من مسائل، وأفاض عليها من ذهنه وجعلها في رسالة مدونة سُميت بـ (الأَسَدِيَّة).
ثم قدم ابن الفرات إلى (القيروان) عاصمة المغرب سنة 181هـ بعد غيبة امتدت نحو عشرين سنة صام نهارها وأحيا ليلها بالعلم والدرس فيها، ولم ينفق لحظة في راحة ولا لعب، ولم يصحب فيها إلا الأئمة والعلماء، حتى قارب الخمسين، فجلس للتدريس والإفتاء، وكان من تلاميذه (سحنون بن سعيد) و(معمر بن منصور) و(سليمان بن عمر) ثم تقلد القضاء مع (أبي محرز) فكان أبو محرز فيه لينًا، وأما أسد فكان شديدًا في الحق، ومتمكنًا من علمي الحديث والفقه.
وكان مع توسعه في علمه فارسًا شجاعًا مقدامًا، فقد طلب أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين في الحرب ضد الروم في جزيرة صقلية فأبى الأمير خوفًا عليه، فألح أسد في طلبه وقال: (وجدتم من يسير لكم المراكب من النوتية (الملاحين) وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة).
وكان يريد أن يكون جنديًّا متطوعًا لا يريد الإمارة، فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أَبَعْدَ القضاء والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟! فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة فأنت قاضٍ وأمير، وكان أول من جمع له المنصبان، واجتمع الناس لوداع الجيش والأمير أسد بن الفرات، فقال أسد للناس في وداعهم: (والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم تبلغوا به الدنيا والآخرة).
وزحف الجيش إلى جزيرة صقلية سنة 212هـ/827م، وخرج لهم صاحب صقلية في مائة ألف وخمسين ألفًا، قال رجل: رأيت أسدًا وبيده اللواء يقرأ سورة (يس) ثم حمل بالجيش حملة عنيفة على صاحب صقلية، حتى سقط أسد بن الفرات شهيدًا سنة 213هـ/ 828م، وهو يحمل راية النصر ولم يعْرَفْ له قبر
================
يوسف بن تاشفين
في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، في أقصى بلاد المغرب العربي، التفت جماعة من الناس حول عالم فقيه يدعى (عبد الله بن ياسين) وكان هدفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر تعاليم الإسلام، أطلق عليهم الملثمون لأنهم كانوا يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، وهي عادة لهم كانوا يتوراثونها جيلاً بعد جيل، وحين قتل عبد الله بن ياسين سنة 461هـ/1068م في حرب جرت مع (برغواطة) قام مقامه أبو بكر بن عمر الذي عين ابن عمه يوسف بن تاشفين أميرًا على الملثمين، لانشغاله بقتال عبدة الأصنام في جنوب المغرب، والقضاء على فتنتهم.
وكان يوسف بن تاشفين يتمتع بصفات جعلته محبوبًا؛ فهو شهم، حازم، شجاع علاوة على قدرته على القيادة والزعامة، ومهابة الناس له، مما جعل الناس تلتف حوله، وتساعده في العمليات العسكرية، ونشر تعاليم الإسلام في المغرب الأقصى، وبناء دولة المرابطين، ولما عاد أبو بكر بن عمر بعد قضائه على الفتنة وجد يوسف بن تاشفين يتمتع بمكانة عالية بين جنده ورعيته، فتنازل له رسميًّا عن السلطة وخلع نفسه وأقام مكانه ابن عمه يوسف.
اتخذ ابن تاشفين مدينة (مراكش) التي أنشأها عاصمة لملكه سنة 465هـ لتكون نقطة الانطلاق لتوحيد وتجميع قبائل المغرب الأقصى تحت سيطرته، وبناء دولة قوية، كما أنشأ أسطولاً بحريًّا، ساعده على ضم المناطق المطلة على مضيق جبل طارق مما سهل ضم المغرب الأوسط، وأقام ابن تاشفين علاقات سياسية مع جيرانه من أمراء المغرب والمشرق، كما أحاط نفسه بمجموعة من الأتباع ينظمون أمور الدولة، فأعطى دولته طابع الملك.
وفي ذلك الوقت كانت الأندلس تعاني من التفكك تحت حكم ملوك الطوائف الذين كانوا يواجهون خطر غزوات المسيحيين، وسيطرة ملوكهم وتعسفهم في مطالبة الولاة المسلمين بما لا طاقة لهم به، وكان يوسف يفكر في حال المسلمين في بلاد الأندلس وما يفعله النصارى بهم ويتجه إلى الله تعالى مستخيرًا إياه يتلمس منه النصر، وكان إذا أجبر على الكلام قال: أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين، ولا يتولى هذا الأمر إلا أنا.
واستنجد أمراء الأندلس بابن تاشفين لينقذهم من النصارى وكان على رأس من استنجد به (المعتمد بن عباد) أمير إشبيلية، فأعد ابن تاشفين جيشه وقبل أن يعبر البحر نحو الأندلس بسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلاً: اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا أي (اجتياز البحر) هذا خيرًا للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه.(4/46)
والتقي بجيش النصارى بقيادة ألفونسو السادس في موقعة (الزلاقة) سنة 480هـ/1087م وانتصر جيش ابن تاشفين انتصارًا هائلاً، وبعدها وحَّد المغرب والأندلس تحت قيادته الخاصة، ورأى شيوخ المرابطين ما يقوم به يوسف من أعمال عظيمة فاجتمعوا عليه وقالوا له : أنت خليفة الله في المغرب وحقك أكبر من أن تدعى بالأمير، بل ندعوك بأمير المؤمنين، فقال لهم: حاشا لله أن أتسمى بهذا الاسم، إنما يتسمى به الخلفاء، وأنا رجل الخليفة العباسي، والقائم بدعوته في بلاد المغرب، فقالوا له: لابد من اسم تمتاز به ، فقال لهم: يكون (أمير المسلمين).
وبعد انتهاء موقعة الزلاقة بايعه من شهدها معه من ملوك الأندلس وأمرائها أميرًا على المسلمين، وكانوا ثلاثة عشر ملكًا، واستطاع يوسف بن تاشفين أن يوقف زحف جيوش النصارى، وأن يعيد ما استولوا عليه من الأندلس، وقد امتدت دولته فشملت الأندلس والمغرب الأقصى، وازدهرت البلاد في عصره، وضرب السكة (أي العملة) ونقش ديناره: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك: أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وكتب في الدائرة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وكتب على الوجه الآخر من الدينار: الأمير عبد الله أمير المؤمنين العباسي، وفي الدائرة تاريخ ضرب الدينار وموضع سكه.
وكان ابن تاشفين كثيرَ العفو، مقربًا للعلماء، وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه، ولما بلغ الإمام أبا حامد الغزالي ما عليه ابن تاشفين من الأوصاف الحميدة وميله إلى أهل العلم، عزم على التوجه إليه فوصل الإسكندرية، وشرع في تجهيز ما يحتاج إليه، وعندما وصله خبر وفاة ابن تاشفين رجع عن ذلك العزم، ففي سنة 498هـ أصيب يوسف بن تاشفين بمرض أدى إلى وفاته ودفن في مدينة مراكش.
وقال عنه المستشرق يوسف أشباخ: (يوسف.. أحد أولئك الرجال الأفذاذ الذين يلوح أن القدر قد اصطفاهم لتغيير وجهة سير الحوادث في التاريخ، فقد بثَّ بما استحدث من نظم وأساليب روحًا قوية في القبائل والشعوب التي يحكمها، وقد فاضت هذه الروح إلى تحقيق العجائب).. رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين
==================
عمر المختار
اتركوه.. لا تقتلوا شيخًا كبيرًا جاوز السبعين من عمره.. أي ذنب جناه؟! لم يفعل شيئًا سوى أنه دافع عن تراب وطنه وعزة دينه!! لم يستجيبوا لنداء الرحمة.. أعدموه وسط أهله وعشيرته.. لم يتركوهم ليعبروا عن أحزانهم.. حبسوا دموعهم في عيونهم.. قتلوا البطل المجاهد.. قتلوا العزة والكرامة.. ألا ساء ما يفعلون!! وهب حياته من أجل حرية بلاده والجهاد في سبيل الله، وتمنى أن يلقى الله شهيدًا فحقق الله أمنيته.
ولد في (البطنان) ببرقة الليبية عام 1275هـ/1858م لأبوين صالحين، وشاءت إرادة الله أن ينشأ (عمر المختار) يتيمًا، فقد توفي والده أثناء سفره إلى الحج بعد أن أوصى أحد رفاقه بولديه عمر، ومحمد، وكانا يقيمان بـ (زنزور) يدرسان بزاويتها.
ذهب عمر إلى زاوية (الجغبوب) لإتمام دراسته، وظل بها ثمانية أعوام يحفظ القرآن الكريم، ويتعلم العلوم الإسلامية وخلال الدراسة ظهرت صفاته الخلقية السامية، ولما كان عمر المختار قد تأدب بآداب الإسلام، فقد أحبه شيوخ الطريقة السنوسية وزعماؤها الذين كانت لهم مقاليد الأمور في ليبيا، ونال ثقتهم، ولذلك اصطحبه السيد محمد المهدي السنوسي معه عندما انتقل إلى (الكُفْرة) وكان محل ثقته، كما عينه شيخًا لزاوية القصور بالجبل الأخضر.
واحتل الاستعمار الإيطالي ليبيا سنة 1911م، وارتكبوا الكثير من الفظائع، وعاثوا في الأرض الفساد، وبدأ نضال المجاهدين من أبناء ليبيا، ودعا الزعماء السنوسيون في بني غازي وغيرها شيوخَ الزوايا للجهاد، وأسرع عمر المختار يلبي النداء، وأظهر في كفاحه ضد المستعمر الغاصب شجاعة نادرة، ومقدرة كبيرة على القتال، فقد كان مؤمنًا بحق وطنه في الحرية والكرامة.
وتولى عمر المختار قيادة المجاهدين، وبدأ في رسم الخطط لأتباعه، وقد التزم في بداية الأمر موقف الدفاع والتربص بالعدو، حتى إذا خرج الجنود الإيطاليون من مواقعهم؛ انقض المجاهدون عليهم كالصقور، فقاتلوهم قتالاً شديدًا، وأخذوا منهم ما يحتاجون إليه من أسلحة، وبعد أن بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، فاجأ المجاهدون المعسكرات الإيطالية، وأشعلوا الثورة في الجهات التي يحتلها الإيطاليون.
وسافر الأمير إدريس السنوسي إلى مصر في سنة 1922 للعلاج، ولطلب المساعدة من مصر، فعين عمر المختار نائبًا عنه، نظم عمر المختار صفوف المجاهدين بعد هجمات الإيطاليين المتتالية، وأخذ مجموعة المجاهدين، وذهب بهم إلى الجبل الأخضر، وأنشأ قاعدة عسكرية، ومراكز لتدريب المتطوعين، فتوافد عليه الناس من كل ناحية؛ ليشاركوا في الجهاد ضد المستعمر.
فعين لكل قبيلة رئيسًا منها، وأجمع الرؤساء على أن يكون عمر المختار قائدًا عامًا ورئيسًا لكل المجاهدين، بعد أن أقسموا على الجهاد حتى آخر لحظة في حياتهم، حتى يخلصوا وطنهم العزيز من أنياب المستعمر، وازداد القتال شراسة بين المجاهدين والإيطاليين، وكانت معركة (الرحيبة) ومعركة (عقيره المطمورة) و(كرِسَّة) وهي أسماء أماكن في الجبل الأخضر.. من أعظم تلك المعارك التي شهدتها منطقة الجبل الأخضر، وانتهت كلها بانسحاب الإيطاليين مخذولين، مما رفع من شأن عمر المختار في نفوس المجاهدين، فالتفوا حوله، وتعاهدوا على مناصرته.(4/47)
لم يركن البطل عمر المختار إلى الراحة، بل ظل يقاتل، وكيف لا يستمر في القتال وأمام عينيه صور الفظائع والانتهاكات وأصناف العذاب التي صبها الإيطاليون على شعبه، فقد قتلوا الآلاف، ومثلوا بالكثيرين، وهتكوا أعراض النساء، وألقوا في السجون أعدادًا عظيمة من الرجال والنساء، وأذلوا الشيوخ والأطفال، وحرقوا الزروع والثمار، فكان لابد من القتال حتى الموت أو النصر، وبعد أن انتشر القتال في كل أنحاء ليبيا، قرر عمر المختار الذهاب إلى مصر لمقابلة الأمير إدريس السنوسي ليتلقى منه التعليمات بشأن الجهاد.
وفي طريق عودته من مصر إلى برقة عن طريق السلوم أبلغ جواسيس الجيش الإيطالي رؤساءهم أن عمر المختار عبر الحدود الشرقية، فأعدوا له كمينًا للقبض عليه، وما إن ظهر عمر المختار ورفاقه حتى أطلق عليهم العدو مدافعهم الرشاشة، لكن المجاهدين استطاعوا التصدي لهم وانقضوا على القوة الإيطالية وأبادوها عن آخرها، ولمع اسم عمر المختار في سماء الجهاد.. عرفه الصغير والكبير كقائد بارع يتقن أساليب الكر والفر، وانضمت إليه القبائل المقيمة بالجبال، وتعاطف معه الشعب؛ فأمدوه بما يقدرون عليه من مؤن وأسلحة.
ولم يعرف المجاهد الكبير طعم الراحة، وحاول مشايخ قبيلته، ذات مرة منعه من الجهاد لكبر سنه، فقال لهم: (إن ما أسير فيه هو طريق الخير، ومن يبعدني عنه فهو عدو لي، ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عنه).. ولم تفلح مدافع الجيش الإيطالي في وقف هجمات عمر المختار ورفاقه، فحاولوا استمالته وشراءه بالمال، ووعدوه بحياة ناعمة هنيئة، لكنه رفض، وأخذ يدافع عن تراب وطنه بكل قوة وشراسة، وألحق بالإيطاليين خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، مما دفع (موسوليني) إلى تعيين المارشال (بادوليو) حاكمًا على (طرابلس وبرقة) وبمجيئه إلى ليبيا بدأت مرحلة جديدة من النضال في (برقة والجبل الأخضر).
واتصل الحاكم الجديد بعمر المختار لإنهاء الخلاف، وقبل عمر بشروط فيها الكرامة والعزة لوطنه، لكن الإيطاليين حاولوا خداعه، وتأكد غدرهم عندما قامت الطائرات الإيطالية بإلقاء قذائفها على عمر المختار ورفاقه من المجاهدين، فبدأ النضال من جديد!!
اشتبك المجاهدون مع الإيطاليين في معركة كبيرة في أكتوبر عام 1930م، وقد عثر الإيطاليون بعد انتهائها على نظارة عمر المختار، كما عثروا على جواده المشهور مقتولاً في ميدان المعركة، فقال (جرازياني) نائب المارشال بادوليو متوعدًا: لقد أخذنا اليوم نظارة عمر المختار، وغدًا نأتي برأسه، وظل عمر المختار يقاومهم وهو متسلح بالإيمان حتى وقع البطل في الأسر؛ ففرحت إيطاليا كلها فرحًا شديدًا.
ودعيت المحكمة إلى الانعقاد، ونصبت المشنقة، وجاءوا بالبطل الكبير عمر المختار مقيد اليدين بالسلاسل والقيود، وحكموا عليه بالإعدام شنقًا في محاكمة صورية لم تستغرق سوى ساعة وربع الساعة، وكان الشيخ آنذاك في السبعين من عمره، وسار المجاهد الكبير إلى حبل المشنقة بقدم ثابتة وشجاعة نادرة، لا يتوقف لسانه عن ترديد الشهادتين؛ حتى نفذ فيه حكم الإعدام، وعندما وجدوا أنه لم يمت أعادوا شنقه مرة ثانية.
واستشهد البطل بعد أن غرس الحرية والكرامة في نفوس شعبه، وحقق الله ما نتمناه، فقد أشرقت شمس الحرية على ليبيا من جديد، ورحلت إيطاليا عنها، وحصلت على استقلالها 1951م ولا ينسى العالم الإسلامي عامة والشعب الليبي خاصة واحدًا من أبرز مجاهديها، بعدما ضحى بكل ما يملك في سبيل نصرة الإسلام، واستقلال وطنه
----------------
فعمر المختار هو: الشيخ المجاهد عمر بن مختار بن عمر المنفي: ينتمي إلى قبيلة مِنفة. التي تتنقل في بادية برقة، ولد عام 1275هـ في "البطنان" ببرقه، وتعلم في زاوية السنوسيين في "جغبوب" وجعله محمد المهدي الإدريسي شيخاً على زاوية "القصور" بالجبل الأخضر قرب "المرج" وسافر معه إلى السودان، وتسلم مشيخة زاوية "كلك" حتى عام 1321هـ، حيث رجع إلى برقه، وإلى مشيخة زاوية "القصور"، خرج لجهاد الطليان بعد أن احتلوا مدينة "بنغازي" عام 1329هـ، وصمد للعدو صموداً منقطع النظير.
وبينما هو في سرية من رجاله تقدر بخمسين فارساً بناحية "سلنطة" بالجبل الأخضر، يستطلع مواقع العدو فوجئ بقوة من الأعداء أحاطت به، فقاتلها، واستشهد أكثر من كان معه، وأصيب هو بجراح، وعقر جواده، فانقض عليه الطليان، وحملوه أسيراً، وهم لا يعرفونه، وحمل إلى "سوسة"، ثم عرفوه، فنقلوه بطرادٍ إلى بنغازي، وسجن أربعة أيام، ثم حققوا معه، فكان مثال المسلم، وأجاب بصراحة ووضوح، ثم أعدم شنقاً في مركز "سلوق" ببنغازي، وذلك عام 1350هـ، فكان عمره خمسا وسبعين عاماً، ومع ذلك كان يجاهد على جواده، ويقوم بنفسه باستطلاع العدو رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته آمين. عن التاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر ج 14 ص 23 .
العلماء والجهاد ( 3 ) عمر المختار
من التلاميذ النجباء الصادقين للإمام أحمد السنوسي ، الشيخ عمر المختار ، الذي سطع نوره ولمع نجمه في الانتصار الساحق الذي حققه الله تعالى على يده في المعركة ضد الاحتلال الإيطالي ، بعد أن تولى قيادة المجاهدين في برقة إثر انسحاب القائد عزيز المصري ، فشكل جيشًا وطنيًا جعل من خطته الدفاع والتربص بالعدو ، حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقض المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شر مقتلة ، وغنموا منهم أسلابًا كثيرة أمدتهم في الحقيقة بأكثر الأسلحة والعتاد ودواب النقل ، مما كانوا في حاجة ملحة إليه جميعه ، وظل الحال على هذا المنوال حتى نشبت الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914م.(4/48)
واستمرت المعارك بعد ذلك بينه - رحمه الله - وبين الأعداء ، وكتب الله تعالى له النصر والظفر كلما دخل معركة حتى أدخل تغييرًا على الموقف في برقة وأحيى آمال السنوسيين في القدرة على مواصلة الكفاح بنجاح ضد إيطاليا .
وفي يوم 11 سبتمبر 1931م وقع أسيرًا بيد الأعداء بعد أن جرح واستشهد من معه من المجاهدين .
وقال في كلمته التي خاطب بها الأعداء : " إن القبض عليَّ ووقوعي في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذًا لإرادة المولى عز وجل ، وأنه وقد أصبحت الآن أسيرًا بأيدي الحكومة ، فالله سبحانه وتعالى وحده يتولى أمري ، وأما أنتم فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤون ، وليكن معلومًا أني ما كنت في يوم من الأيام لأسلم لكم طوعًا " .
لله در هذه الروح الإيمانية العالية التي لم تعرف الخور ولا الجبن وأني للخور والجبن أن يدخلا في ذلك القلب الطاهر .
ثم حوكم على طريقة الكافر المستعمر ونصبت المشنقة قبل المحاكمة ، وأمام الجموع الغفيرة التي أُجبرت على الحضور .
نفذ في الشيخ عمر المختار حكم الإعدام ولسانه وقلبه وحاله يردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله .
الذكرى السبعين لمقتل المجاهد عمر المختار
أقيم في ليبيا احتفال كبير بالذكرى السبعين لمصرع شيخ المجاهدين عمر المختار ، وأقيم الاحتفال في مدينة "سلوق" جنوبي مدينة بنغازي ، حيث نفذت فيها القوات الإيطالية حكم الإعدام شنقا .
وقد ألقى الرئيس القذافي خطابا تحدث فيه عن القيم والعبر الكبيرة التي نستخلصها من هذه الذكرى التي اقترفت فيها إيطاليا الاستعمارية عام 1931م ، هذه الجريمة في حق شيخ مسن كان يدافع عن حرية وعزة وطنه ، عبر محاكمة صورية عسكرية عقدت لفترة قصيرة جدا لم تتجاوز الساعة ، مما يؤكد أن الحكم بإعدام شيخ المجاهدين عمر المختار كان جاهزا .
وأكد القذافي أن الذكرى السبعين لمقتل عمر المختار فتحت الصفحة المأسوية من التاريخ ، وبينت الظلم والاستعمار والاستعباد .
وكان عمر المختار قد ولد في قرية (جنزور) بمنطقة (دفنة) عام 1376هـ الموافق 1858م قرب مدينة طبرق المرفأ البحري بالمنطقة الشرقية في الجماهيرية العربية الليبية.
وتوفى والده (المختار) ووالدته (عائشة) وهما في طريقها للأراضي المقدسة لآداء فريضة الحج ، وينتمي إلى قبيلة المنفى ، وهي إحدى القبائل الليبية بالمنطقة الشرقية
وقد نشأ عمر المختار نشأة إسلامية ، وتلقى دروسه الشرعية في كتاتيب قرية جنزور ، ثم زاوية الجغبوب ، إحدى الواحات الليبية المتاخمة للأراضي المصرية ، وقضى (8) سنوات في تحصيل العلوم الإسلامية ، عمل بعدها معلما لتحفيظ القرآن الكريم ، وتدريس العلوم الشرعية في عدة زوايا ، كما كان شيخا على زاوية القصور بمنطقة الجبل الأخضر ، لتعليم مبادئ الدين الإسلامي ، وتحفيظ القرآن الكريم .
وكان له دور مماثل في الأراضي السودانية ، ففي عام 1313هـ/1895م سافر عمر المختار إلى السودان ، حيث ساهم في تدريس العلوم الإسلامية وتحفيظ القرآن الكريم ، كما شارك في الجهاد ضد الفرنسيين في جنوب السودان الغربي ، وفي نيجيريا ، وحارب الإنجليز في مصر ، ثم رجع بعدها إلى ليبيا .
وفي عام 1911م عندما هاجمت القوات الإيطالية الغازية ليبيا ودخلت المدن الساحلية ، ومن بينها مدينة بنغازي نهض الشيخ مع المجاهدين الليبيين في كل بقعة من تراب الوطن للدفاع عن البلاد.
ورغم تقدم سن الشيخ عمر المختار (سبعون عاما) إلا أنه قاد حركة الجهاد ضد الاستعمار الإيطالي في منطقة الجبل الأخضر ـ المنطقة الشرقية ـ وخاض مع رفاقه المجاهدين 236 معركة خلال عشرين شهرا ولم يتمكن الطليان من أسره حتى يوم 11/10/1931م ، حيث أسر عمر المختار أثناء معركة (بئر قندولة) التي استمرت 48 ساعة في منطقة الجبل الأخضر ، واقتيد الشيخ إلى مرسى مدينة (سوسة) وحمل على الطراد (أوسبني) حتى مدينة بنغازي .
وجاء قائد القوات الإيطالية الغازية غراسياني من إيطاليا لمحاكمته بمقر الحزب الفاشيستي الإيطالي في بنغازي .
وأصدرت المحكمة العسكرية الصورية حكمها بالاعدام شنقا ونفذت إيطاليا جريمتها النكراء في الشيخ في مدينة "سلوق" بعد أن جمعت أكبر عدد من الليبيين من الشيوخ والنساء والأطفال بالقوة لمشاهدة هذه الجريمة البشعة ، في حق شيخ مسن يدافع عن حرية وكرامة بلاده
وسقط الشيخ بعد أن سطر ورفاقه المجاهدين الليبيين صفحة بيضاء رائعة في تاريخ الجهاد العربي الإسلامي ، والكفاح والتضحية في سبيل الله .
وقد وقع هذا الخبر المحزن "إعدام الشيخ" ، على أبناء الأمة العربية والإسلامية ، كالصاعقة فأبنه ورثاه الأدباء والكتاب والشعراء وغيرهم ، حيث رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة طويلة تقول بعض أبياتها :
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا منارا من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد بين الشعوب مودة وإخاء
خيرت فأخترت المبيت على الطوى لم تبن جاها أو تلم ثراء
إن البطولة أن تموت من الظما ليس البطولة أن تعب الماء
كما سمي باسمه عدد من الشوارع والهيئات الخيرية في الوطن العربي والإسلامي ، منها على سبيل المثال شارع عمر المختار في مدينة غزة بفلسطين المحتلة ، التي تعيش اليوم شرف الجهاد الإسلامي المقدس .(4/49)
وقد تمتسجيل هذه الملحة الجهادية في حياة الشيخ ورفاقه المجاهدين الليبيين ضد الغزو الإيطالي في فيلم وثائقي تحت عنوان (عمر المختار ) بثلاث لغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية) بالإضافة إلى العربية ، حيث وجد إقبالا كبيرا في عدة بلدان ، خاصة في أمريكااللاتينيةوأوروبا وإيطاليا والدول الأفريقية والأسيوية
=================
أنور الجندي الكاتب الفذ والعالم المتواضع
(الشبكة الإسلامية) بقلم/ عبد السلام البسيوني
في بعض الأجيال العوجاء - كجيلنا - تنقلب المفاهيم وتختل النسب ، ويطفو الزبد التافه على السطح الموّار ، فلا ترى على وجه الماء إلا قشًا ، وقصاصات جرائد ، وفضلات من الزبالة ، وقطع الخشب ، وربما رأيت جثة منتفخة ( لكلب نافق ) أو حمار (فطيس ) ، في حين يرسب في القاع الجوهر والدر الثمين هنالك في الظلام بعيدًا ، حيث السكون التام والبعد السحيق ، ومن أراد الحصول على شيء من اللؤلؤ والكنوز الخبيئة ، فلا بد له من أن يغوص ويغوص ، محتملاً ضغط الماء ، وظلمة القاع ، ومخاطر البعد عن الأنس .
وفي زمننا - المدهش - عدد من الرجال اللآلئ ، الذين يتمتعون بخاصية الندرة والنفاسة وارتفاع القدر : محمود محمد شاكر ، والمختار الشنقيطي ، وعنتر حشاد ، وأحمد المحلاوي ، وأشباههم من الذين لم تستغوهم الفلاشات ، ولم تستهوهم الشاشات ، أو تسحرهم وتتلعب بهم الإذاعات .
وهذه قضية تاريخية ، ليست وليدة أيامنا ، إنما هي بلية قديمة : أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه التي أنفق عمره وعقله عليها ؛ لأنه رأى أهل زمانه يتجاهلونه ولا يقدرونه ، عالم آخر - نسيت اسمه - يترك البلد ويهاجر ، فيسأله تلاميذه الذين لم يفطنوا لحاله : لماذا تتركنا وتنتقل عنا ؟ فقال : لو وجدت كيلجة باقلاء لكفتني ، ولما فارقتكم !! نعم إنه النحوي البصري النضر بن شميل .
كأنها حتمية أو سنة مطردة : من شاء أن ( يقب ّ) على السطح فليس له بد من أن يغازل أعتاب الوجهاء ، أو يبش في وجه (قبضايات) القرن - الصحفيين والإعلاميين ، رضي الله عنهم ومد ظلهم العالي - لعله أن يحصل له شيء من الانطلاق والتلميع و( البروزة ) .
أما من رزقوا الشمم ، وعلو الهمم ، وتقدير النفس ، فإنهم يبقون معرضين عن السفاسف ، طالبين للمعالي ، متفرجين على ما يدور من عجائب وتناقضات ، راصدين - في توتر - للتحولات في الأفهام التي باتت تقبل ما لم يكن مقبولاً ، وتستبيح ما ليس يستباح بل ما لا يخطر ببال أحد أن يقترب منه .
ورحمة الله على القاضي الجرجاني الذي صرخ منذ وقت بعيد :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان .. ولطخوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسًا .. وأجنيه ذلة ؟! إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ورحمة الله على البارودي فارس السيف والقلم الذي قال :
خلقت عيوفًا لا أرى لابن حرة عليّ يدا أغضي لها حين يغضب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها فلا عزني خال .. ولا عزني أب
ومن اللآلئ الساكنة في قاع المولد الإعلامي والدعوي الأستاذ العالم المتواضع - أحسبه والله حسيبه - أنور الجندي .. الذي خسرته أمة لا إله إلا الله قبل أيام ، ولم يزاحم أحدًا في محاضرة ، ولا موقف فخر ، ولم يزعج وسائل الإعلام كي تتابع أخباره ، وتتحدث عن عنترياته وبطولاته منذ كان في ( اللفة ّ) .
رأيته مرة واحدة قبل عقد من السنين ، حين ذهبت إليه في بيته بالطالبية ، الجيزة ، فلقيت رجلاً من النادرين ، بسيطًا بساطة عاميّ خام ، متواضعًا تواضع زاهدً ، لينًا لين أب رحيم ، واقعيًا لدرجة تدعو للأسى والغضب .
رأيت ويا سوء ما رأيت ، بيته المتهالك في قلب (سوق الخضار) إي والله ، ومن الصباح الباكر تقضّ مضجعه نداءات الباعة - عبر مكبرات الصوت - على ما لديهم من (الورور ) والجبنة القديمة ، واللحمة العجالي ، والأمشاط والفلايات ، والمناخل ، والغرابيل ( ولا تين ولا عنب زيك يا برشرمي ) ، فإذا هدأت ضجة الميكروفونات قليلاً ، لم تهدأ مشاجرات ومناقرات جاراته ، وكلامهن المنتقى ، ولم ينقطع ضجيج ( العيال ) العفاريت ، الذين يتقاذفون الكرة ( صدة ردة ) في عز نقرة الحر ، والمتبادلين لما لذَّ وطاب من الألفاظ التي يحلو للعامة أن يتقاذفوا بها في غير شحناء ولا خصومة .
دخلت حيث يسكن ، ومعي فريق للتصوير التليفزيوني بعد أن أنهكنا البحث ، فقد كنا نظن أنه من ساكني الفيلات الفاخرة ، أو القصور (المحندقة) ، فإذا بنا نسأل المكوجي والجزار والجار فيقولون في استفهام : من أنور ؟ لا نعرف أحدًا بهذا الاسم ، وحين اهتدينا إلى بيته المتهالك ، لم نجد مكانًا عرضه متر × متر ، يصلح لأن نجلس به ، بسبب قدم المكان ، وكثرة الكتب التي زحفت إلى كراسي غرفة الاستقبال .
· ما رأيك يا أستاذنا الكبير لو تحركنا إلى الفندق لنتمكن من التصوير ، حيث المكان واسع ؟
- لا بأس .. كما تشاؤون .. تفضلوا وسألحق بكم .
وبشيء من التخابث سألته : كيف ستدركنا يا أستاذ في هذا الزحام .. كيف ستقود سيارتك ؟
- لا .. لا أملك سيارة .. سألحق بكم بالأتوبيس .
وكأنما لسعني بكرباج فهتفت : الله أكبر .. بالأتوبيس ؟ أنت العالم الكبير ( تتشعبط ) ونحن نسبقك بسيارة خاصة ؟
- وماذا في ذلك ؟ لقد تعودت ..
لا حول ولا قوة إلا بالله .. الرجل العظيم .. بعلمه وسنه ، وضعف جسمه ، ومؤلفاته التي تزيد على السبعين (يتشعبط ) في الأتوبيسات ، بينما ( هلافيت ) الثقافة وتجار الصنف يركبون الشبح والزلمكة ، ويلعبون ( بالأنارب ) ويتنعمون في المنتجعات القريبة والبعيدة ؟
يا لخيبة أمة تتجاهل علماءها وأهل الفضل فيها .(4/50)
ركب الأستاذ الزاهد السيارة معنا ، وفي الفندق تحدثنا عن قضايا المسلمين في هذه العصر ، وعن العروبة ، واليسار الإسلامي ، والعقلانية ، والتراث ، وغيرها من الآفاق التي طوفنا فيها ، وبعد أن أتعبنا الأستاذ " أنور الجندي " وأزعجناه قدم مدير الإنتاج له ظرفًا به مبلغ من المال وهو يقول : " معذرة يا أستاذ على التقصير ، المبلغ لا يليق بكم ؛ لكنه رمز لمحبتنا إياكم ، فنرجو أن تقبلوه مكافأة رمزية فقط " .
- مكافأة ؟ أنا لا أعرف أن هناك مكافأة ، ولم أقل شيئًا يستحق أن أتقاضى عنه أجرًا .
· يا أستاذ : هذا مبلغ بسيط من الدولة ، وليس منة من جيب أحد ، وهو من حقك وليس تفضلاً
- لن آخذ شيئًا ؛ لأنني ظننت أن الحديث بلا مكافأة ، ولن أغير نيتي مهما كان الأمر .
· يا أستاذ .. هذا حقك .. نرجوك .
- لن آخذ قرشًا واحدًا .. اسمحوا لي بالانصراف .
وأوصلناه ونحن في حياء منه ، ومن تواضعه وورعه ، ونحن - أيضًا- في خجل من أنفسنا، وحرصناعلى الراحة و( الكشخة ) .
كان هذا منذ أكثر من عشر سنين .. وأنور الجندي ليس مجهول المكان ، فكتبه تخرج تترى ، ومقالاته تملأ المجلات الإسلامية والحال هو الحال .
إنه الداء الوبيل في الإسلاميين .. وواحسرتا عليهم !!
لقد أذنب أنور الجندي ذنبا فظيعا لا يغتفر .. أنه عفيف ، قار في بيته .. لا يطرق الأبواب ، ولا يزاحم الأتراب ، ولا يهمه أن يقال حضر أو غاب !
كما كان أكبر ذنوب أنور الجندي أنه مستقل في تفكيره ، غير منتم لتيار ، ولا منضو تحت لافتة ، فاللافتات - في العمل الإسلامي - تطرد دائمًا من لا يصفق لها ، وتعتبره مجذومًا أو مريضًا بالإيدز ؛ لا يُقترب منه ولا يُتعامل معه ، بل ربما أساءت إليه ، وحقرت من شأنه ، باسم مصلحة الدعوة أو اختلافًا على فرعية من الفروعيات .
أزعم أن أنور الجندي لو علق ( بادجا ) على صدره لكان له شأن آخر ، ولوجد من يدعوه في المناسبات ، ويقدمه في الاحتفالات ، ويثني عليه غائبًا وحاضرًا .
وأزعم أن هناك (عيال ) جهالاً ، لا وزن لهم من علم أو سنّ أو دعوة ، لكنهم منتمون .. فصاروا بذلك ( لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ..
ناهيك عن أن يكون واحدًا من المستنيرين أو الذين كانوا – زمان - رفاقًا مناضلين – دستور - فهؤلاء تفتح لهم صالات كبار الشخصيات ، وأبواب الجامعات ، وتسود عنهم الصحف ، وتكتب المجلدات عن عبقريتهم ، وتميزهم ، وإبداعهم ، وتستر عوراتهم التي يعرونها دون خجل أو حياء ، فكشف العورات إبداع أيضًا عند ( ولاد الحمرة ) .
إنها قضية موازين مختلفة ، ومفاهيم مقلوبة ، وحيف في التقدير ، ووضع للرؤوس موضع الأقدام .
ولعل من المناسب هنا التذكير بكلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه !!
فمتى تعرفين يا أمة اقرأ ؟ متى تعرفين ؟!
-------------------
القرضاوي يرثي أنور الجندي رحمه الله
== رحيل راهب الثقافة والفكر ومعلم الشباب
== كان جنديا من جنود الله ينشر النور
علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق الاستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه منذ يوم الاثنين الماضي 28/1/2002 بلغني ذلك أحد اخواني فقلت : يا سبحان الله يموت مثل هذا الكاتب الكبير المعروف بغزارة الإنتاج وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم ، والذي سخر قلمه لخدمة الاسلام وثقافته وحضارته ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن ، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام ، لا تكتب عنه صحيفة ، ولا تتحدث عنه إذاعة ، ولا يعرف به تلفاز !!
كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات في مختلف آفاق الثقافة العربية والاسلامية ، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بالقاهرة ، ومن أوائل الاعضاء في نقابة الصحفيين وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960.
لو كان أنور الجندي مطربا أو ممثلا لامتلأت انهار الصحف بالحديث عنه والتنويه بشأنه والثناء على منجزاته الفنية. ولو كان لاعب كرة لتحدثت عنه الاوساط الرياضية وغير الرياضية وكيف خسرت الرياضة بموته فارسا من فرسانها ، بل كيف خسرت الأمة كلها بموته نجما من نجومها ؛ ذلك ان أمتنا تؤمن بعبقرية (القدم) ولا تؤمن بعبقرية (القلم) .
مسكين أنور الجندي لقد ظلمته أمته ميتا كما ظلمته حيا، فلم يكن الرجل ممن يسعون للظهور وتسليط الأضواء عليه كما يفعل الكثيرون من عشاق الأضواء الباهرة بل عاش الرجل عمره راهبا في صومعة العلم والثقافة ، يقرأ ويكتب ولا يبتغي من احد جزاء ولا شكورا ، كأنما يقول ما قال رسل الله الكرام : وما اسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين .
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا اقرأ لانور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأت له: كتاب بعنوان « كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب » وكتاب عن « قائد الدعوة » يعني: حسن البنا الذي طوره فيما بعد وامسى كتابا كبيرا في حوالي ستمائة صفحة سماه : « حسن البنا: الداعية المجدد والامام الشهيد » وقد طبعته دار القلم بدمشق عدة طبعات ، في سلسلتها « اعلام المسلمين » وافتتحت به سلسلتها .. وكان حسن البنا هو الذي دفعه إلى الكتابة، فقد كان في رحلة حج معه وطلب منه ان يكتب خاطرة فقرأها، فأعجبته فشجعه ، واثنى على قلمه، وحرضه على الاستمرار في الكتابة.
وكان من كتبه الاولى « اخرجوا من بلادنا » يخاطب الانجليز المحتلين، وقد علمت ان الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة ايام في عهد الملك فاروق ثم افرج عنه .(4/51)
وللاستاذ انور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات ، مثل كتابه « مقدمات المناهج والعلوم » الذي نشرته «دار الانصار» بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته «في دائرة الضوء» قالوا: انها من خمسين جزءا. ومن اهم كتبه: أسلمة المعرفة، نقد مناهج الغرب، اخطاء المنهج الغربي الوافد، الضربات التي وجهت للأمة الاسلامية، اليقظة الاسلامية في مواجهة الاستعمار، تاريخ الصحافة الاسلامية، وكان آخر ما نشره كتاب « نجم الاسلام لا يزال يصعد ».
كان الاستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط ، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعاملين دون تقعر أو تفيهق او جنوح إلى الاغراب والتعقيد فكان اسلوبه سهلا واضحا مشرقا. وكان الاستاذ الجندي لا يميل إلى التحقيق والتوثيق العلمي ، فلم تكن هذه مهمته ، ولم يكن هذا شأنه ولذلك لا ينبغي ان يؤخذ عليه انه لا يذكر مراجع ما ينقله من معلومات ، ولا يوثقها ادنى توثيق ، فانه لم يلتزم بذلك ولم يدعه ، وكل انسان يحاسب على المنهج الذي ارتضاه لنفسه، هل وفى به واعطاه حقه أو لا ؟
أما لماذا لم يأخذ بالمنهج العلمي ، ألعجز منه أو لكسل، أو لرؤية خاصة تبناها وسار على نهجها؟
يبدو ان هذا الاحتمال الأخير هو الاقرب ، وذلك انه لم يكن يكتب للعلماء والمتخصصين ، بل كان اكثر ما يكتبه للشباب، حتى انه حين كتب موسوعته الاسلامية التي سماها ( معلمة الاسلام ) وجمع فيها 99 مصطلحا في مختلف ابواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والاداب والشرائع ، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة (إلى شباب الاسلام) وقال في بدايتها: الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الاسلام والعرب ، فهم عدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون امانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الاخطار التي تحيط بها من كل جانب ، فمن حقهم على جيلنا ان يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة.. وان نعبد لهم الطريق الى الغاية المرتجاة.. هذه مسؤوليتنا ازاءهم ، فاذا لم نقم بها كنا آثمين ، وكان علينا تبعة التقصير. أ.هـ
واعتقد ان كتبه قد آتت اكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي لا ترضى إلا بان تقتلعهم من جذورهم واصالتهم.
كان الاستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع ان يكون له قصر ولا سيارة، حسبه ان يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من اغنى الناس ، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله ويغنى غني المال وهو ذليل
وكما قال أبو فراس:
ان الغني هو الغني بنفسه ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا واذا قنعت فبعض شيء كاف
وكان إربه من الدنيا محدودا ، فليس له من الأولاد الا ابنة واحدة تعلمت في الأزهر ، وحصلت على أجازة ليسانس في الدراسات الإسلامية من جامعة الأزهر وكانت رغباته تنحصر في ان يقرأ ويكتب وينشر ما يكتب ، كما سئل احد علماء السلف: فيم سعادتك ؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا ، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبدالسلام البسيوني أنه ذهب إلى القاهرة مع فريق من تليفزيون قطر ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة كان الأستاذ أنور منهم او في طليعتهم، ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج ، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان فاقترح عليه ان يجري الحوار معه في الفندق، وبعد ان انتهى الحوار تقدم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ ان تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا وان كان دون ما تستحق، فإذا بالرجل يرفض رفضا حاسما ويقول: انا قابلتكم ، وليس في نيتي ان آخذ مكافأة ولست مستعدا أن أغير نيتي ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة. قالوا له: هذا ليس من جيوبنا انه من الدولة، وأصر الرجل على موقفه، وأبى ان يأخذ فلسا!
وكان الاستاذ الجندي يكتب مقالات في مجلة منار الإسلام في أبو ظبي وفوجئ القراء يوما بإعلان في المجلة يناشد الأستاذ أنور الجندي أن يبعث إلى إدارة المجلة بعنوانه لترسل إليه مستحقات له تأخرت لديها، ومعنى هذا انه لا يطلب ما يستحق ، ناهيك أن يلح في الطلب كالآخرين.
كان رجلا ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه انه كان يحب ان يكون متوضئا دائما فيأكل وهو متوضئ ، ويكتب وهو متوضئ ، وكان ينام بعد العشاء ، ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد ، ويصلي الفجر ، ثم ينام ساعتين بعد الفجر ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه ..
كان الأستاذ أنور الجندي يخدم الجيران ويملأ لهم (جرادل) الماء إذا انقطع الماء ، ويضعها أمام شققهم . وكان له من اسمه نصيب أي نصيب فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور - او التنوير - والجندية. فقد ظل منذ امسك بالقلم يحمل مشعل (النور) او (التنوير) للامة ، وانا اقصد هنا: التنوير الحقيقي لا (التزوير) الذي يسمونه (التنوير). فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الأمة الى النور الحق الذي هو أصل كل نور وهو نور الله تعالى ممد الكون كله بالنور ، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ).(4/52)
وكان اهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري الذي يسلخ الامة من جلدها ، ويحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها والغاء صبغتها الربانية ( صبغة الله ومن احسن من الله صبغة ) وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم ويهتك سترهم - وان بلغوا من المكانة ما بلغوا - حتى رد على طه حسين ، وغيره من اصحاب السلطان الادبي والسياسي .
قال الجندي يوما عن نفسه: «انا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، ما زلت موكلا فيها منذ بضع واربعين سنة ، حيث اعد لها الدفوع ، واقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة الى الحق تبارك وتعالى ، وعهد على بيع النفس لله . والجنة - سلعة الله الغالية - هي الثمن لهذا التكليف ( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة ) ».
كان النوروالتنوير غايته ورسالته ، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته . لقد عاش في هذه الحياة (جنديا) لفكرته ورسالته فلم يكن جندي منفعة وغنيمة ، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة ولم يسع لكسب المال والثروة او الجاه والمنزلة ، وانما كان اكبر همه ان يعمل في هدوء ، وان ينتج في صمت ، والا يبحث عن الضجيج والفرقعات ، تاركا هذه لمن يريدونها ويلهثون وراءها.
كان الاستاذ الجندي من « الاخوان المسلمين » من قديم وممن رافق الامام البنا مبكرا وممن كتبوا في مجلات الاخوان في الاربعينيات من القرن العشرين ولكن الله تبارك وتعالى نجاه من كروب المحن التي حاقت بالاخوان قبل ثورة يوليو وما بعدها ، فلم يدخل معتقل الطور ايام النقراشي وعبدالهادي ولم يدخل السجن الحربي ايام عبدالناصر ،بل حصل على جائزة الدولة التقديرية في عهده على حين لم ينلها احد ممن كانت له صلة بالاخوان .
وربما كانت طبيعته الهادئة ، وعمله الصامت ، وادبه الجم وتواضعه العجيب ، وبعده عن النشاط العلني في تنظيم الاخوان ، سببا في نجاته من هذه المعتقلات ، خصوصا في عهد الثورة .
كتب الاستاذ انور الجندي في فترة المحنة في عهد عبدالناصر في بعض المجلات غير الاسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني - امثال عمر المختار في ليبيا ، وعبدالكريم الخطابي في المغرب ، وذلك في مجلة (المجتمع العربي) المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات . ويقول عن هذه الفترة : ( لقد كان ايماني ان يكون هناك صوت متصل - وان لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي - ليقول كلمة الاسلام- ولو تحت اي اسم آخر - ولم يكن مطلوبا من اصحاب الدعوات ان يصمتوا جميعا وراء الاسوار ).
في اواخر الثمانينيات من القرن العشرين سعدت بلقاء الاستاذ الجندي في الجزائر العاصمة في احد ملتقيات الفكر الاسلامي وهي اول مرة ألقاه وجها لوجه - بعد ان كنت رأيته مرة بالمركز العام للاخوان مع الاستاذ البنا سنة 1947م على ما اذكر - فوجدته رجلا مخلصا ، متواضعا ، خافض الجناح ، ظاهر الصلاح نير الاصباح .
وقد ارسلنا منظمو الملتقى الى احد المساجد في ضواحي العاصمة هو وانا ، وأردت ان اقدمه ليتحدث اولا ، فأبى بشدة ، وألقيت كلمتي ثم قدمته للناس بما يليق به ، فسر بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثت معه : لماذا لا يظهر للناس ، ويتحدث اليهم بما افاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: انا رجل صنعتي القلم ولا احسن الخطابة والحديث الى الناس ، فأنا لم اتعود مواجهة الجمهور ، وانما عشت اواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي ممن آتاهم الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . فقلت له:
ولكن من حق جمهور المسلمين ان ينتفعوا بثمرات قلمك ، وقراءاتك المتنوعة ، فتضيف اليهم جديدا وتعطيهم مزيدا. فقال: كل ميسر لما خلق له.
وفي السنوات الاخيرة حين وهن العظم منه ، وتراكمت عليه متاعب السنين وزاد من متاعبه وآلامه في شيخوخته ما رآه من صدود ونسيان من المجتمع من حوله كأنما لم يقض حياته في خدمة امته ، ولم يذب شموع عمره في احيائها وتجديد شبابها وكأنما لم يجعل من نفسه حارسا لهويتها وثقافتها، مدافعا عن اصالتها امام هجمات القوى المعادية غربية وشرقية ليبرالية وماركسية.
عاش الاستاذ الجندي سنواته الاخيرة جليس بيته ،وطريح فراشه يشكو بثه وحزنه الى الله كما شكا يعقوب عليه السلام يشكو من سقم جسمه ويشكو اكثر من صنيع قومه معه ، الذين كثيرا ما قدموا النكرات ، ومنحوا العطايا للإمعات ، كما يشكو من إعراض اخوانه الذين نسوه في ساعة العسرة وايام الازمة والشدة ، والذين حرم ودهم وبرهم احوج ما كان اليه ، مرددا قول علي رضي الله عنه ، فيما نسب اليه من شعر:
ولا خير في ود امرئ متلون اذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد اذا استغنيت عن اخذ ماله وعند زوال المال عنك بخيل
فما اكثر الاخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
ومنذ اشهر قلائل اتصلت بي ابنته الوحيدة من القاهرة ، وابلغتني تحيات والدها الذي اقعده المرض عن الحركة، وهو يعيش وحيدا لا يكاد يراه احد او يسأل عنه احد برغم عطائه الموصول طول عمره لدينه ووطنه وامته العربية والاسلامية . وكانت كلماتها كأنها سهام حادة ، اخترقت صدري ، واصابت صميم قلبي ، وطلبت منها ان تبلغه اعطر تحياتي ، وابلغ تمنياتي ، واخلص دعواتي له بالصحة والعافية، وعزمت زيارته في اول فرصة انزل فيها الى مصر باذن الله .
وشاء الله جلت حكمته ان يتوفاه اليه قبل ان تتحقق هذه الزيارة وان يلقى ربه - ان شاء الله - راضيا مرضيا.
( يايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي).(4/53)
رحم الله انور الجندي وغفر له وتقبله في الصالحين وجزاه عن دينه وامته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين الذين اخلصهم الله لدينه ، واخلصوا دينهم لله .
=================
الخليل بن أحمد
(اللهم هب لي علمًا لم يسبقني إليه أحد).. قالها وهو يتضرع إلى الله متعلقًا بأستار الكعبة، كان يرجو أن يسبق الناس بوضع علم جديد، فيكون سبَّاقًا إلى الخير، ولم يكن هذا الرجاء وليد تكاسل وتواكل، بل كانت قدراته ومهاراته تؤهله لأن يكون عظيم الشأن.
هو (الخليل بن أحمد الفراهيدي) الذي وُلِدَ في البصرة عام (100هـ) ونشأ عابدًا لله تعالى، مجتهدًا في طلب العلم، واسع المعرفة، شديد الذكاء، أدرك الخليل بفطرته السليمة أن الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة، فاجتهد في طلب العلم وأخلص في طلبه؛ فكان غيورًا على اللغة العربية (لغة القرآن)؛ مما دفعه إلى العمل على وضع قواعد مضبوطة للغة، حتى عدَّه العلماء الواضع الحقيقي لعلم النحو في صورته النهائية، التي نقلها عنه تلميذه (سِيبوَيه) في كتابه المسمى (الكتاب) فذكره وروى آراءه في نحو ثلاثمائة وسبعين موضعًا معترفًا له بوافر علمه، وعظيم فضله.
وذات يوم ذهب الفراهيدي إلى الكعبة حاجًّا، فتعلق بأستار الكعبة، ودعا الله أن يهب له علمًا لم يسبقه أحد إليه، ثم عاد إلى وطنه، فاعتزل الناس في كوخ بسيط من خشب الأشجار، كان يقضي فيه الساعات الطويلة يقرأ كل ما جمعه من أشعار العرب، ويرتبها حسب أنغامها، ويضع كل مجموعة متشابهة في دفتر منفرد..
وذات يوم مَرَّ الخليل بسوق النخَّاسين، فسمع طرقات مطرقة على طَست من نحاس، فلمعت في ذهنه فكرة عِلم العَرُوض -ميزان الشعر أو موسيقى الشعر- الذي مَيز به الشعر عن غيره من فنون الكلام، فكان للخليل بذلك فضل على العرب، إذ ضبط أوزان الشعر العربي، وحفظه من الاختلال والضياع، وقد اخترع هذا العلم وحصر فيه أوزان الشعر في خمسة عشر بحرًا (وزنًا) وكما اهتم بالوزن اهتم بضبط أحوال القافية -وهي الحرف الأخير في بيت الشعر، والتي يلتزم بها الشاعر طوال القصيدة- فأخرج للناس هذين العلمين الجليلين كاملين مضبوطين مجهزين بالمصطلحات.
ولم يكتف الخليل بما أنجزه، وبما وهبه الله من علم؛ استجابة لدعائه وتوسله وتضرعه، فواصل جهوده وأعدَّ معجمًا يعَد أول معجم عرفته اللغة العربية، وامتدت رغبته في التجديد إلى عدم تقليد من سبقوه، فجمع كلمات المعجم بطريقة قائمة على الترتيب الصوتي، فبدأ بالأصوات التي تُنْطَق من الحَلْق وانتهي بالأصوات التي تنطق من الشفتين، وهذا الترتيب هو (ع- ح- هـ- خ- غ...) بدلا من (أ- ب- ت- ث- ج ...) وسمَّاه معجم (العين) باسم أول حرف في أبجديته الصوتية.
وعُرِف الخليل بالتعبد والورع والزهد والتواضع، وكان إذا أفاد إنسانًا شيئًا لم يشْعِره بأنه أفاده، وإن استفاد من أحد شيئًا أجزل له الشكر، وأشعره بأنه استفاد منه، وقيل في زهده: أقام الخليل في خُص له بالبصرة لا يقدر على فِلْسَين (قدر ضئيل من المال) وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال، وأرسل إليه سليمان بن علي -والي منطقة البصرة- ليأتيه يؤدب ولده، فأخرج الخليل خبزًا يابسًا، وقال: ما عندي غيره وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان، ثم قال لرسول سليمان:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غني غير أني لستُ ذا مال
والفقرُ في النّفس لا في المال تعرفه ومثل ذاك الغِني في النفس لا المال
وقال: إني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي، وذلك لانصرافه عن الدنيا واستغراقه في العلم والعبادة، وذات يوم دخل المسجد وهو شارد البال مستغرق الفكر فاصطدم بسارية (عمود) المسجد فانصدع رأسه ومات سنة 170هـ
=============
سيبويه
في أدب طالب العلم مع أستاذه، وفي عزم المسلم الصادق في تحصيل ما ينفعه قال سيبويه: (لا جرم، سأطلب علمًا لا تُلَحِّنيَّ فيه (لا تُخَطِّئني فيه).
مقولة قالها سيبويه لأستاذه حماد بن سلمة مفتي البصرة، فقد كان يعقد حلقة للعلم، وكان سيبويه تلميذه، وكان حريصًا كل الحرص على حضورها، وذات مرة جلس حماد يلقي درسًا من دروسه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء) فظن سيبويه أن شيخه قد أخطأ في عبارة: (ليس أبا الدرداء) فقام من مكانه ليصححها له،وقال: (ليس أبو الدرداء) لأنه اعتقد أن كلمة (أبا) اسم ليس التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر فابتسم الشيخ في وجه الفتى الصغير وقال: لحنتَ وأخطأتَ يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبتَ، إنما ليس ها هنا استثناء، فقال سيبويه بأدب لأستاذه قولته السابقة: لا جرم سأطلب علمًا لا تُلَحِّني فيه.
ومنذ ذلك الحين بدأ الفتى الصغير رحلة الاجتهاد والجد، لتحصيل علوم اللغة العربية وخاصة علم النحو، ولد أمير النحاة (عمرو بن عثمان بن قنبر) أبو بِشْر، المعروف بـ(سيبويه) في (البيضاء) إحدى قرى (شيراز) ببلاد فارس عام 148هـ، وكان نظيفًا كل من يلقاه يشم منه رائحة طيبة؛ وكانت أمه تناديه منذ صغره بـ(سيبويه) وهي كلمة فارسية تعني: رائحة التفاح، وذلك لطيب رائحة التفاح.(4/54)
رحل سيبويه إلى البصرة، فنشأ بها، وكانت لديه رغبة شديدة في تحصيل العلم؛ فبدأ يتعلم الحديث والفقه ولازم الفقهاء وأهل الحديث، ثم أخذ يتلقى العلم على أيدي العلماء، فتعلم على يد (حماد ابن سلمة) مفتي البصرة وأحد علماء عصره، كما تعلم على يد (الأخفش الأكبر) وهو من أئمة اللغة والنحو، فأخذ عنه سيبوبه اللغة وشيئًا من النحو، أما (الخليل بن أحمد) فقد كان المعلم الأكبر لسيبويه، حتى إنه دخل على الخليل ذات مرة، فقال له: مرحبًا بزائر لا يُمل، وكان يحب سيبويه كثيرًا ويفسح له صدره.
ظل سيبويه على هذه الحال حتى أصبح معلمًا، وأصبح له تلاميذ يلتفون حوله ويأخذون منه، ويكتبون عنه، وكان من تلاميذه (أبو الحسن الأخفش) وقد ألف سيبويه كتابًا عظيمًا في علم النحو سماه (الكتاب) جمع فيه كل ما سمعه من أستاذه (الخليل بن أحمد) وغيره من العلماء في هذا العلم، واشتهر بعده بـ (كتاب سيبويه) الذي يعده العلماء دستورًا لعلم النحو وقانونًا لقواعده، ومن شدة اعتزاز الفَرَّاء -وهو أحد كبار علماء النحو- بهذا الكتاب أن الناس وجدوا عند موته وتحت وسادته (كتاب سيبويه)!!
وقد أفاد سيبويه الكثيرين بعلمه، حتى وصل علمه إلى عامة الناس الذين أخذوا عنه، وتعلموا منه الفصاحة.. يحكي أن رجلاً قال لسماك (يبيع السمك) بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان.. فضحك الرجل مستهزئًا من السماك لأنه رفع المجرور.
فقال السماك: ويلك أنت أحمق، لقد سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان!!
وقد أصيب سيبويه بمرض قبل وفاته، وفي أثناء مرضه، وجده أخوه -يومًا- متعبًا قد اشتد عليه المرض، فبكى وتساقطت دموعه على وجه سيبويه، فرآه سيبويه فأنشد يقول:
يَسُرُّ الفَتَى مَا كَانَ قَدَّمَ مِنْ تُقَى إِذَا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هُوَ قَاتِلُهْ
وعند مماته أخذ ينصح أصحابه ومن حوله قائلاً:
يُؤمِّل دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ فَمَات المؤَمِّلُ قَبْلَ الأَمَلْ
حَثِيثًا يُرَوِّي أُصُولَ النَّخِيلِ فَعَاشَ الفَسِيلُ وَمَاتَ الرَّجُلْ
ومات سيبويه سنة 180هـ بعد أن ترك ثروة كبيرة من العلم، لينتفع بها الناس في كل زمان ومكان.
==============
شكيب أرسلان
وُلِدَ شكيب أرسلان في ليلة الاثنين التي توافق أول ليلة من رمضان سنة 1286هـ وسماه أبوه باسم شكيب، وهي تعني بالفارسية (الصابر) وهو ينتمي إلى أسرة عريقة تعيش في قرية الشويفات التي تبعد عن بيروت قرابة عشرة أميال، ولما بلغ شكيب الخامسة من عمره أحضر له أبوه معلمًا ليعلمه مبادئ القراءة والكتابة، ثم حفظ قدرًا من القرآن، ثم دخل مدرسة الأمريكان في بلدته الشويفات؛ فنال قسطًا من العلوم واللغة الإنجليزية، ثم التحق بمدرسة الحكمة في (بيروت) عام 1297هـ/ 1879م وتلقى فيها دروس اللغة العربية على يد (الشيخ عبد الله البستاني) اللغوي المعروف.
ولم يكن شكيب أرسلان كغيره من الصبية، فقد كان يملك شعورًا فياضًا، وحسًّا مرهفًا، وعاطفة قوية، فبدأ يكتب الشعر وهو في هذه السن المبكرة، ثم رحل إلى (مصر) سنة 1308هـ/ 1890م والتقى بالشيخ (محمد عبده) والشيخ (علي يوسف) صاحب جريدة المؤيد، كما كانت له علاقات أدبية مع كبار الشعراء في مصر أمثال: أمير الشعراء (أحمد شوقي) و(البارودي).. وغيرهما؛ فتأثر بهم، واستفاد منهم.
نظر شكيب أرسلان حوله فوجد العالم الإسلامي مصابًا بداء التخلف والجهل، بينما تعيش البلاد الأوربية وأهلها عيشة هانئة؛ فأخذ يقلب صفحات التاريخ، ويستنطق الماضي العظيم يوم أن كان المسلمون طليعة موكب الحضارة يأخذون بأيدي الأمم نحو التقدم والازدهار، ويفد إلى بلادهم طلاب العلم من كل مكان، يتعلمون منهم وينقلون عنهم، ثم يرجعون إلى بلادهم التي أصابها الجهل وعمها الظلام، فينشرون العلم الذي تعلموه على أيدي المسلمين، وضع شكيب أرسلان يده على جبهته، وأخذ يفكر ويسأل نفسه:
ما هي الأسباب التي أدت إلى ضعف المسلمين؟!
لماذا تأخروا وتقدم أهل أوربا رغم أن الإسلام دين العلم والعمل؟!
هل سر ضعف المسلمين وتأخرهم يرجع إلى ابتعادهم عن دين الله وعدم التزامهم بأوامره؟!
كيف يمكن أن يلحق المسلمون بركب الحضارة مع المحافظة على دينهم الإسلامي الحنيف؟!
أسرع (شكيب أرسلان) إلى قلمه وأوراقه، وأخذ يجيب عن كل هذه التساؤلات التي تحيره وتقلقه؛ فرأى أن المسلمين إذا أرادوا أن يصعدوا إلى أعلى درجات سلم المجد فالحل هو الجهاد بالمال والنفس، وأن خير وسيلة للوصول إلى المعرفة العلمية والدينية والأخلاقية هو الالتزام بما جاء في كتاب الله؛ القرآن الكريم، وإذا أراد المسلمون أن يتقدموا إلى الأمام، فعليهم أن يكفوا عن الكلام ويسارعوا إلى العمل.
ورأى شكيب أرسلان أن العدو الأول للإسلام والمسلمين هو الجهل، وأن ارتفاع نسبة الأمية هي السبب في تأخر المسلمين، وعليهم أن يحاربوه بكل ما يملكون، وفي النهاية استطاع شكيب أرسلان أن يقدم للمسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي كتابًا من أعظم الكتب وهو (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) بأسلوب سهل ممتع؛ لكي يوقظ الأمة الإسلامية من سبات الجهل والتأخر.
ولم يكن هذا الكتاب وحده الذي كتبه أمير البيان شكيب أرسلان بل كتب كتبًا عديدة عن الإسلام والمسلمين تصل إلى خمسين كتابًا لا يزال بعضها غير مطبوع من أهمها كتاب (حاضر العالم الإسلامي) و(تاريخ غزوات العرب) و(الحلل السندسية في الحلة الأندلسية) و(عروة الاتحاد بين أهل الجهاد).. وغيرها من الكتب والمقالات والدراسات العديدة.(4/55)
وسافر شكيب إلى أماكن عديدة، فرحل إلى (الأستانة) حيث التقى بالمصلح الكبير (جمال الدين الأفغاني) وتأثر بأفكاره، ثم سافر إلى فرنسا سنة 1310هـ/ 1892م، ثم إلى ليبيا حيث انضم إلى المجاهدين المسلمين الذين كانوا يحاربون الإيطاليين، وكتب من هناك إلى مختلف الجهات الإسلامية يحث المسلمين على نجدة إخوانهم أبناء ليبيا، وحث أبناءها على البذل والفداء، وتعاون مع الشيخ محمد رشيد رضا وكتب أربعين افتتاحية في جريدة (المؤيد) حول هذه القضية، وسافر إلى المدينة المنورة سنة 1914م لينشئ مدرسة فيها، كما أنه قاد فرقة من المتطوعين ليحارب إنجلترا وحلفاءها في الحرب العالمية الأولى، وأسس جمعية (هيئة الشعائر الإسلامية) في ألمانيا سنة 1924م، وأصدر جريدة (الأمة العربية) باللغة الفرنسية في(جنيف) ليدافع على صفحاتها عن قضايا أمته.
وظل شكيب أرسلان يكتب عن أحوال المسلمين وقضاياهم ومشاكلهم حتى توفي عام 1366هـ/ 1946م، فصمت اللسان الذي دافع طويلاً عن قضايا الإسلام والمسلمين شرقًا وغربًا بعد ما أدى ما عليه.
==============
أحمد شوقي
كان الناس في انتظار شاعر يشعل الحماسة، ويتغنى بالعزة والكرامة، ويوقد مشاعل الثورة في القلوب، بعد أن ظلوا فترة طويلة محرومين من ظهور الشعراء الكبار أمثال جرير، والفرزدق، والمتنبي.. وغيرهم، وجاء شعر أحمد شوقي في اللحظة الحاسمة، نغمًا هادئًا، ولحنًا شجيًّا عذبًا، يتسلل إلى النفوس والقلوب ليفيض عليها العزة والكرامة.
ولد أحمد شوقي في القاهرة في السادس عشر من أكتوبر سنة 1870م لأب تركي، وأم يونانية، يقول شوقي عن نفسه: إني عربي، تركي، يوناني، جركسي أصول أربعة في فروع مجتمعة، تكفلها له مصر.
نشأ في بيئة مترفة، إذ عاش في قصر خديوي مصر حيث كانت جدته من وصيفات القصر، ودخل كتَّاب الشيخ صالح بحي السيدة زينب بالقاهرة وهو في الرابعة من عمره، ثم مدرسة المبتديان الإبتدائية، ومنها إلى المدرسة التجهيزية، وقد منح المجانية نظرًا لتفوقه، قال الشعر في الرابعة عشر من عمره، وأعجب به أستاذه الشيخ (حسين المرصفي).
ومما يدل على نبوغه الشعري المبكر أن أستاذه في اللغة العربية، وكان شاعرًا فصيحًا بهر بشاعريته فكان يجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه، وكان هذا الشيخ ينظم القصائد الطوال في مدح الخديوي توفيق؛ كلما حل موسم أو جاء عيد، وقبل أن يرسلها إلى القصر لكي تنشر في الصحف، يعرضها على شوقي، فيصلح شوقي فيها، فيمحو هذه الكلمة أو تلك ويعدل هذا الشطر أو ذاك، أو يسقط بعض الأبيات، وبعد أن أتم أحمد شوقي تعليمه الثانوي التحق بمدرسة الحقوق لدراسة القانون، وقضى بها سنتين، ثم انضم إلى قسم الترجمة ونال بعد سنتين إجازة للترجمة.
وبحكم تربيته في قصر الخديوي فقد أخذ ينشد قصائده في مدح الخديوي توفيق، وقد نشرت أولى قصائده في جريدة الوقائع المصرية في 7 إبريل سنة 1888م، ونظرًا لصلة شوقي بالقصر فقد أرسله الخديوي على نفقته في بعثة إلى فرنسا لإتمام دراسته في الحقوق والآداب بجامعة مونبليه بباريس، وعاد شوقي إلى مصر، فعمل في قسم الترجمة بالقصر، وظل يتدرج في المناصب حتى أصبح رئيسًا لهذا القسم، وأصبح قريبًا من الخديوي عباس حلمي الذي خلف الخديوي توفيق وأنيس مجلسه ورفيق رحلته، وأخذ شوقي يمدحه بقصائده، حتى سمي (شاعر الأمير ) وجاءت الفرصة لأحمد شوقي ليخرج من القفص الذهبي الذي كان محبوسًا فيه، حين أراد الخديوي عباس حلمي الثاني أن يضم إلى صفه أبناء الشعب ليضغط على قوى الاحتلال الإنجليزي حتى يستجيبوا لمطالبه وهنا جاء دور أحمد شوقي.
فأخذ شوقي ينادي بالحرية والاستقلال وينشد قصائده في حب الوطن، ويساعده على ذلك الخديوي عباس ويشجعه، فنفى الإنجليز الخديوي عباس إلى خارج البلاد، وعينوا بدلاً منه السلطان (حسين كامل) ولم يترك الإنجليز أحمد شوقي وشأنه، وإنما عزموا على نفيه هو الآخر، فخيروه أي البلاد التي يحب أن يذهب إليها؟ فاختار إسبانيا (أندلس العرب) سنة 1915م وهناك أخذ ينظم قصائده في أمجاد العرب ودولتهم البائدة، وينشر قصائده في حب الوطن، ويناجيه بقصائد كلها حب وحنين:
أحبُّك مصر من أعماق قلبي وحبُّك في صميم القلب نامي
سيجمعُني بك التاريخُ يومًا إذا ظهر الكرامُ على اللئام
لأجلك رحتُ بالدنيا شقيًّا أصدُّ الوجهَ والدنيا أمامي
وأنظر جَنَّةً جمعتْ ذِئابًا فيصرُفُني الإباءُ عن الزحام
وهبتُكِ غير هيَّابٍ يَراعًا أشدَّ على العدِّو من الحسام
ويقول:
اختلاف النهار والليل يُنسي اذكرا لي الصِّبا وأيام أُنْسي
وسلا مصر هل سلا القلب عنها أو أسي جرحه الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه رقَّ والعهد في الليالي تقسي
وبعد أن قضى شوقي في بلاد الأندلس فترة طويلة صدر العفو عنه، وعاد إلى البلاد في شهر فبراير سنة 1919م، وفي الإسكندرية والقاهرة تجمع الشباب لاستقبال شوقي، فتأثر بذلك الموقف، فقال يخاطب وطنه الغالي، وقد رأى أن عودته إلى أرض الوطن تشبه عودة الشباب بعد المشيب:
ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا
وعاد شوقي والبلاد في حالة غليان، والشعب يدفع حياته ثمنًا للحرية في ظل مستعمر غاصب، فلم يقف مكتوف الأيدي، بل أطلق لسانه مشاركًا أبناء وطنه في محنتهم، وقام بدوره الوطني على أكمل وجه، وأثبت أنه شاعر الوطن، المدافع عن حقوقه في وقت الشدة، وكان يريد للأمة العربية والإسلامية الوحدة وعدم التفرق، ولشوقي في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- قصائد غراء مشهورة، يعرفها كل من يقرأ بالعربية.(4/56)
وعاش شوقي حتى نهاية العمر يتغنى بالوطنية والحرية، حتى أجمع الشعراء على زعامته في ميدان الشعر، فجاءت الوفود من كل البلاد التي تنطق العربية، لتبايع شوقي بإمارة الشعر، ووقف زميله الشاعر حافظ إبراهيم في حفل تكريمه يبايعه بزعامته للشعراء بقصيدة يقول فيها :
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وظل شوقي ينشد الشعر إلى أن توفي سنة 1932م بعد أن ترك تراثًا شعريًّا كبيرًا.
===============
الماوردي
(حفظ الله دينك، كما حفظت علينا ديننا).. كلمة قالها الخليفة العباسي (القادر بالله) وذلك بعد أن قرأ كتابًا للماوردي في الفقه فأعجب به وأثنى عليه، فمن ذلك الرجل الذي حفظ دين الإسلام؟!
في شوارع البصرة وفي زمن العباسيين، كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره، ورث عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد، يبيع ماء الورد لطلاب العلم ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة، يتقوَّى بها على متاعب الحياة.
وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة، وقاضيًا من أعدل القضاة، وأديبًا ناضجًا ومؤلفًا عظيمًا في شتى فروع ثقافة أمته.. إنه (أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي) الشهير بالماوردي.. ولد عام 364هـ-974م في مدينة البصرة، ونشأ فيها يسقي طلاب العلم ماء الورد، ويرتوي من علم العلماء المشهورين في زمانه، وظل في البصرة حتى سمع أن عالمًا ببغداد يقصده الطلاب من كافة الأنحاء هو (أبو حامد الإسفراييني) فتعلم على يديه الفقه والعلوم الشرعية، وأصبح من مريديه، ومازال يرحل ويتنقل في بلاد المسلمين طلبًا للمعرفة حتى عاد إلى بغداد، ليبدأ فيها رحلة الدرس والتأليف، يتلقى عنه الطلاب القادمون من بلاد كثيرة.
وتولى الماوردي القضاء في البلاد التي رحل إليها، كما تولى وظيفة قاضي القضاة في نيسابور، وذاعت شهرته، ولقب بأقضى القضاة سنة 429هـ، وكان أول من لقب بذلك في تاريخ الإسلام، وعلم الماوردي أن توليه القضاء ليس تشريفًا له، ولكنها رسالة وأمانة في عنقه؛ فكان يتمهل قبل أن يصدر أحكامه، ويقرأ كتاب الله وأحاديث رسوله، حتى لا يضل الطريق؛ فيقضي بحكم فيه ظلم لأحد، كما كان جريئًا عادلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحكم بالحق حتى على أولي القربى وأصحاب السلطان.
فقد أمر الخليفة العباسي أن يلقب (جلال الدين بن بويه) بلقب شاهنشاه الأعظم ملك الملوك، واختلف الفقهاء ما بين موافق، وغير موافق لأن هذا اللقب لا يجوز إلا في حق الله، وانحاز عوام الناس إلى رأي الفقهاء المانعين، وانتظر الجميع رأي القاضي الماوردي الذي كانت تربطه بجلال الدين البويهي صلة ود وصداقة؛ وظهرت شجاعة الماوردي، فانحاز إلى جانب الحق، وضرب مثلا فريدًا في الثبات على الحق، فأفتى بالمنع، وأعجب جلال الدين بصدقه وشجاعته فقال له: (أنا أعلم أنك لو حابيت أحدًا لحابيتني، لما بيني وبينك من أواصر المحبة، وما حملك إلا الدين، فزاد بذلك محلك عندي).
ولما ذاعت شهرة الماوردي أثناء فترة إقامته ببغداد لما عُرِفَ عنه من فضل وعلم، وحسن رأي، وجلالة قدر؛ اختير ليكون سفيرًا بين رجال الدولة في بغداد، وبني بويه في أصبهان من سنة 381هـ/ 991م إلى 422هـ/ 1030م، وكان لقربه من الحياة السياسية في عصره، واختلاطه بالأمراء والوزراء أثر كبير، فقام بكتابة العديد من المؤلفات السياسية الرائعة التي صدرت عن خبرة كبيرة ودراسة واسعة مثل (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) وكانت له مكانة ممتازة عند الأمراء والملوك في عصره، فكان يتصدر المراسم والاحتفالات الرسمية، وأسندوا إليه عقد قران الخليفة القائم بأمر الله على خديجة بنت داود أخي السلطان (طغرلبك) سنة 448هـ.
واشتهر الماوردي بالحلم والوقار والأدب والتعفف عن سؤال غيره، كما عرف عنه التدين والتنزه عن اللهو والهزل، وشهد المعاصرون للماوردي بالصلاح والتقوى، وهم محقون في ذلك، فقد أخفى مؤلفاته عن الناس في عصره خوفًا من أن يكون قد خالطها الرياء وهو يؤلفها، وعهد إلى صديقٍ له ألا يظهرها إلا بعد وفاته، وترك الماوردي العديد من المؤلفات منها: كتاب في التفسير و(الحاوي) في الفقه الشافعي و(قانون الوزارة وسياسة الملك) و(أدب الدنيا والدين).
والماوردي مفكر سياسي إسلامي يعد من أوائل من اهتموا بعلم السياسة وأصول الحكم الإسلامي، يأخذ أفكاره وآراءه من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وظل الماوردي في خدمة العلم إلى أن فاضت روحه إلى بارئها في يوم الثلاثاء آخر شهر ربيع الأول سنة 450هـ، وحضر جنازته جمع من الخطباء والعلماء والقضاة يودعونه إلى مثواه الأخير.
==============
أبو حامد الغزالي
في مدينة (طوس) إحدى مدن بلاد (فارس) وبالتحديد في قرية (غزالة) جلس طفلان صغيران ينظران إلى والدهما وهو يغزل الصوف، أخذا يتأملان أصابعه؛ ويتابعانه في إعجاب شديد، ترك الأب مغزله وأخذ ينظر إلى ولديه (محمد وأحمد).(4/57)
شعر الشقيقان أن أباهما يريد أن يقول لهما شيئًا، لقد فهما ذلك من نظرات عينيه، وفجأة.. انهمرت الدموع من عيني الأب الذي عرف بالتقوى والصلاح، فقد تملكه إحساس جارف بأنه سيموت قريبًا، ولم يترك لولديه شيئًا من المال يعينهما على تحمل أعباء الحياة، غادر الأب دكانه، وذهب إلى صديق وفي له؛ فأوصاه بتربية ولديه الصغيرين، وترك له ما كان معه من مال، وكان قليلاً، ومات الأب، فعمل الصديق بالوصية، فنشَّأ الطفلين تنشئة دينية صحيحة، وعاملهما معاملة طيبة وألحقهما بإحدى المدارس، وكانت أمهما ترعاهما بعناية كبيرة، وتتابع دراستهما، فنبغ الطفلان، وتفوَّقا على أقرانهما، وبخاصة (محمد الغزالي) الذي تعلم مبادئ النحو واللغة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفارسية.
وسافر محمد إلى (جرجان) لسماع دروس الإمام (أبو نصر الإسماعيلي)، وفي أثناء عودته إلى بلدته (طوس) قطع اللصوص عليه الطريق، وأخذوا منه مخلته التي فيها كتبه وكراريسه، ظنًّا منهم أن فيها نقودًا ومتاعًا، وساروا في طريقهم؛ فتبعهم (أبو حامد الغزالي) وأخذ يلح عليهم أن يعطوه أوراقه وكتبه التي هاجر من أجلها ومعرفة ما فيها؛ فضحك كبير اللصوص وقال له: كيف تزعم أنك عرفت علمها، وعندما أخذناها منك، أصبحتَ لا تعلم شيئًا وبقيت بلا علم؟! ولكنه أشفق عليه وسلمه الكتب.
وكان هذا درسًا عظيمًا للغزالي، فعندما وصل إلى طوس مكث ثلاث سنوات يحفظ ما كتب في هذه الأوراق، حتى لا يتعرض علمه للضياع مرة أخرى، وانتقل الغزالي إلى مدينة (نيسابور) سنة 473هـ/1080م، فتعلم الفقه والمنطق والفلسفة، وأصول الفقه وغيرها من العلوم على يد (أبي المعالي الجويني) الملقب بإمام الحرمين وكان الغزالي أحد تلامذته الأذكياء فبرع في الفقه وأتقن الجدل، وبدأ في تصنيف الكتب.
ولازم الغزالي أستاذه، يتعلم على يديه، حتى انتقل إمام الحرمين إلى ربه سنة 478هـ/1085م، فخرج الغزالي من نيسايور إلى العسكر حيث لقي الوزير السلجوقي (نظام الملك) الذي أكرمه وبالغ في إكرامه، وكان الغزالي حينئذ متزوجًا وله ثلاث بنات وولد اسمه (حامد) لذلك كني أبا حامد.
وناظر الغزالي وناقش فكرة الجهاد ضد الباطل سواء داخل أو خارج بلاد الإسلام مع الأئمة والعلماء في مجلس الوزير، فبهرهم غزارة علمه وقوة منطقه، وأعجب به (نظام الملك) فولاه منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد سنة 484هـ/1091م، فأقبل عليه الطلاب إقبالا شديدًا، واتسعت حلقاته، وذاع صيته واشتهر؛ حتى لقب بإمام بغداد، فكلفه الخليفة العباسي (المستظهر بالله) بالردِّ على بعض الفرق التي انحرفت عن الإسلام؛ فكتب الغزالي في الرد عليهم: (القسطاس المستقيم) و(حجة الحق).. وغيرهما من الكتب التي كشفت فساد وضلال هذه الفرق.
وترك (الغزالي) التدريس بالمدرسة النظامية، واتجه إلى طريق الزهد والعبادة، ورحل إلى عدة مدن إسلامية، فرحل إلى (دمشق) وأقام مدة قصيرة، ثم رحل إلى بيت المقدس، ومنها ذهب إلى (مكة) واختار طريق التصوف وفضَّله على كل الطرق، ولم يزل الغزالي على حالته في الزهد والعبادة حتى طلب منه السلطان العودة مرة أخرى إلى نيسابور للتدريس ونشر العلم، لكنه لم يمكث بها مدة طويلة، فقد عاد بعد سنتين إلى طوس، وهناك أنشأ الغزالي زاوية للزهاد والصوفية وطلبة الفقه والعلوم الشرعية، وظل بـ(طوس) حتى توفاه الله في
14 جمادى الآخرة عام 505هـ/1111م عن خمسة وخمسين عامًا قضاها في العلم والتعلم ونشر الفكر الإسلامي الصحيح بين المسلمين، والدفاع عن الإسلام ضد أهل الديانات الأخرى والفرق الضالة، ومن هنا لُقِّب الغزالي بـ (حجة الإسلام).
وللغزالي مؤلفات كثيرة تزيد على أربعمائة؛ منها: (إحياء علوم الدين) و(الوسيط) في الفقه الشافعي و(تهافت الفلاسفة) و(المستصفى في أصول الفقه).. وغير ذلك، ومع غزارة إنتاج الغزالي، فإن أسلوبه يتسم بالعبارة السهلة،والبعد عن التعقيد.. فجزاه الله خيرًا عما قدم للإسلام من خدمات جليلة
================
ابن رشد
ولد (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد) الشهير بابن رشد الحفيد في مدينة (قرطبة) عام 520هـ، وكانت آنذاك عاصمة من عواصم الثقافة والفنون والآداب، كان أبوه قاضيًا، أما جده فقد كان قاضي القضاة بالأندلس، فهو ينتمي لأسرة عريقة في العلم والقضاء.
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضيات والطب على يد كبار الأساتذة في عصره، وتولى القضاء بقرطبة، ولم يشغله هذا المنصب عن القراءة، حتى قالوا عنه: إنه لم يترك ليلة من عمره بلا درس ولا تأليف إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه!!
كانت سعادة ابن رشد الحقيقية عندما يكون مع كتبه، وكان يحس بحب زائد تجاه كتب الفلسفة التي كان يحسبها بعض الناس في عصره من الكفر والضلالة!! فلم يهتم بما يُقال عنها؛ لأنه واثق كل الثقة في عقيدته ودينه، فأخذ يقرأ لكبار الفلاسفة مثل أرسطو.. وغيره، حتى أصبح عالمًا بالفلسفة إلى جانب سعة علمه في الفقه وسائر علوم عصره.
ونظرًا لمكانته العلمية استدعاه (المنصور أبو يعقوب) سلطان دولة الموحدين إلى مراكش، فأكرمه وقدره تقديرًا كبيرًا، ولم يكن ابن رشد يرتاد مجالس الطرب، بل كان يتعفف عن حضور هذه المجالس، وبلغ من تعففه أنه أحرق شعره في الغزل أيام شبابه، وكان ابن رشد طبيبًا.. يقول: (من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانًا بالله) إنه يرى أن من يعمل في مهنة الطب، يرى عن قرب إعجاز الله في خلقه، ويشاهد أعضاء الجسم وهي على نظام دقيق؛ فيزداد إيمانه قوة ورسوخًا.(4/58)
ولابن رشد كتب كثيرة في الطب؛ أهمها كتاب (العلل) وهو من الكتب التي تتعرض للأدوية، وقد كان ابن رشد فقيهًا عالمًا، قال عنه ابن الأنبار: كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه، وله كتاب في الفقه سماه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وغير ذلك من الكتب الكثيرة التي بلغت خمسين كتابًا.
وبعد هذه الرحلة العلمية المباركة، مرض ابن رشد مرضًا شديدًا ومات ليلة الخميس 9 صفر سنة 595هـ، ونقل جثمانه من(مراكش) إلى قرطبة حسب وصيته حيث المنشأ والأجداد.
==============
عبد الرحمن الكواكبي
نشأ في سوريا، تنفس أول أنسام الحياة في حلب، ولفظ آخر أنفاسه في القاهرة، وفيما بين حلب والقاهرة، وغيرهما من بلاد المسلمين كانت له خطوات، ونظرات، ثم كان له من ذلك كله دعوات جريئة وصريحة إلى الإصلاح.
ففي حلب تلك المدينة المعطاءة التي أخرجت المعرِّي، وسيف الدولة وأبا فراس، والبحتري، وابن النديم، وعاش في ظلالها المتنبي، والفارابي.. وغيرهم من القادة، والشعراء، والمفكرين وُلِد عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي سنة 1265هـ في أسرة شريفة تنتسب إلى الإمام علي-رضي الله عنه- ولما بلغ عبد الرحمن سن السادسة توفيت أمه، فذاق مرارة الحرمان مبكرًا، فأرسله والده إلى خالته السيدة صفية بنت مسعود النقيب بأنطاكية، كانت تجيد القراءة والكتابة والخط، فأقام عندها ثلاث سنوات تعلم خلالها اللغة التركية والقراءة والكتابة.
عاد الكواكبي بعدها إلى حلب، ليتولى والده تربيته، فأدخله والده المدرسة الكواكبية ليكون تحت إشرافه حيث كان مدرسًا ومديرًا لهذه المدرسة، فتعلم فيها مبادئ الدين واللغة العربية، ولما كان عبد الرحمن الكواكبي على معرفة تامة باللغة التركية، كان يقرأ الصحف التركية التي تصل إلى حلب بسهولة فاتسع تفكيره وازدادت معارفه، وفي الثانية والعشرين من عمره، عمل بالصحافة فأصبح محررا في جريدة الفرات وهي الجريدة الرسمية التي كانت تصدرها الحكومة باللغتين العربية والتركية، وبعدها أراد الكواكبي أن ينقل تجربته الصحفية إلى الساحة العربية فأنشأ جريدة عربية في حلب سماها (الشهباء) فأغلقها الأتراك، فأنشأ جريدة (الاعتدال) فكان مصيرها كالأولى.
وشغل الكواكبي العديد من الوظائف، فكان رئيسًا لقلم المحضرين في ولاية حلب، وعضوًا فخريًّا في لجنة امتحان المحامين، ورئيسًا للجنة الأشغال العامة، كما عمل بالقضاء وقام بأعمال عمرانية وتجارية أكسبته خبرة بالناس وتجربة كبيرة بالحياة، وكان في كل أعماله يصطدم بنظام الدولة واستبداد الحكام وفساد الإدارة، وكان سلاحه النزاهة والاستقامة والعدل.
وكان للكواكبي مكانة مرموقة في بلده يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، ويلجأ إليه أرباب المشاكل لحلها، بل كان رجال الحكم يستشيرونه أحيانًا فيبدي رأيه في جرأة وشجاعة، لا يقرُّ ظالمًا على ظلمه ولا يسالم جائرًا، لذلك حاربه ولاة حلب ورجال الدولة في الأستانة، فَزوِّرت عليه التهم فقُدِّم للمحاكمة وهو بريء مما نُسب إليه، الأمر الذي جعله يهاجر سرًّا إلى مصر سنة 1316هـ/1899م لينشر فيها فصولاً من كتابه (طبائع الاستبداد) في جريدة (المؤيد).
قام الكواكبي بزيارة العديد من الدول الإسلامية فطاف بسواحل إفريقيا الشمالية، وسواحل آسيا الغربية ودخل الجزيرة العربية، واتصل برؤساء قبائلها،كما نزل الهند، واستقر به المقام في مصر، وكان ينوي أن يتم رحلته إلى بلاد المغرب، ولكن المنية عاجلته سنة 1320هـ/1902م.
ولم يكن يعرف الاستقرار أو راحة البال، فتراه في تلك البلاد التي يزورها يقابل الزعماء والرؤساء ويجتمع بأفراد الشعب ويدرس أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية، وما يشيع فيها من نواحي الضعف والفساد وما يدور فيها من عوامل القوة والنشاط، فجعل هذه الدراسات أساسًا لدعوته الإصلاحية.
سجل الكواكبي نتائج دراسته لأحوال المسلمين في زمانه في كتابين له هما: (طبائع الاستبداد) و(أم القرى) وكان الكواكبي يحاول دائمًا أن يجمع شمل الأمة الإسلامية لتكون قوة هائلة ترهب المستبدين، وكان يرى أنه بالعلم وحده يمكن أن يعرف الناس أن الحرية أفضل من الحياة نفسها وأكرم، وأن الشرف أعز من المنصب والمال.
كما كان يحارب البدع ويرى أنها مرض يجب مداواته، فيقول عن أصحاب البدع الذين شوهوا صورة الإسلام: (فمنهم الذين استبدلوا بالأصنام القبور، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وأرخوا عليها الستور، يطوفون حولها مُقَبِّلين مُسْتَلِمِين أركانها).
وكان الكواكبي كريم الخلق حتى قيل عنه: إنه مؤدب اللسان، لا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزنًا دقيقًا، هادئ في حديثه، إذا قاطعه أحد سكت، وانتظر حتى يتم حديثه، ثم يصل ما انقطع من كلامه، نزيه النفس لا يخدعه مطمع، ولا يغريه
منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، متواضع للبائسين والفقراء يقف دائمًا بجانب الضعفاء حتى لقبوه بأبي الضعفاء، فكان شعاره:
أَنَا إِنْ عِشْتُ لَسْتُ أَعْدَمُ قُوتًا وَإِذَا مِتُّ لَستُ أَعْدَمُ قَبْرَا
فَعَلاَمَ أُذِلُّ لِلنَّاسِ نَفْسِي وَعَلامَ أَخَافُ زَيْدًا وَعُمَرَا
هِمَّتِي هِمَّةُ الكِبَارِ وَنَفْسِي نَفْسُ حُرٍّ تَرَى المَذَلَّةَ كُفْرَا
وجاءت نهاية رائد الحرية والوعي الإسلامي في الشرق العربي؛ ففي مساء الخميس من شهر ربيع الأول سنة 1320هـ الموافق 14 يونيو سنة 1902م فارق عبد الرحمن الكواكبي الحياة؛ فأمر الخديوي عباس بدفنه على نفقته الخاصة، ورثاه الكتاب، والشعراء والمفكرون
================
محمد بن عبد الوهاب(4/59)
في قرية (العيينة) من قرى (نجد) شمال غرب مدينة الرياض، ولد (محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي) في عام 1115هـ ونشأ بين أحضان أسرة صالحة، تقتدي في أفعالها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهتدي بسنته، وكان والده قاضيًا في بلدة العيينة، فقام بتحفيظ ولده الصغير القرآن الكريم، وعلمه الفقه، فنشأ (محمد) نشأة صالحة، واجتهد في الدراسة، وأخذ يحفظ كثيرًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كبر اشتاق إلى زيارة بيت الله الحرام، وهناك تتلمذ على بعض علماء الحرم الشريف، ثم توجه إلى المدينة المنورة، واجتمع بعلمائها وشيوخها وتعلم على أيديهم، ثم عقد (محمد بن عبد الوهاب) العزم على السفر إلى (العراق) لطلب العلم.
وفي مدينة (البصرة) كانت بداية دعوته إلى جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعا في جرأة العالم المسلم الذي يحاول أن يبعد عن دينه كل ما التصق به من خرافات ومبتدعات، مما عرضه لثورة بعض علماء البصرة، الذين اجتمعوا لمحاربته وإيذائه، فخرج حزينًا مهمومًا إلى بلده، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة (حد يملا) فانتقل حيث صار والده، واستقر هناك واشتهر بالتقوى وصدق التدين، وأخذ يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويطالب الأمراء بتطبيق حدود الله، ومعاقبة المجرمين الذين يعتدون على الناس بالسلب والنهب والإيذاء، حتى تآمر عليه بعض خصومه لقتله وللخلاص منه.
وعلم (محمد بن عبد الوهاب) بنيتهم وغدرهم، فرحل إلى بلدته (العيينة) ورحب به أمير البلدة (عثمان بن محمد بن معمر) وأكرمه وقال له: قم فادع إلى الله ونحن معك، فأخذ (محمد) يعلم الناس أمور دينهم، يدعوهم إلى الخير، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر حتى اشتهر في بلدته والقرى المجاورة، فجاء إليه الناس يستمعون إليه ويستفيدون من علمه الواسع، وظل ينير لهم الطريق، ويدعوهم إلى طريق الحق والنور، وينصحهم بالبعد عن طريق الظلمات، حتى أحبه الناس، والتفوا حوله، فقوي نفوذ (محمد بن عبد الوهاب) وصار يحكم بين أتباعه وأنصاره بشرع الله.
ولما علم أمير الإحساء بأمر (محمد بن عبد الوهاب) خاف على سلطانه، فسعى لقتله، فانتقل محمد بن عبد الوهاب، إلى بلدة تسمى (الدرعية) وكان أميرها (محمد بن سعود) رجلا صالحًا، فألهمه الله أن يذهب إلى محمد بن عبد الوهاب في منزله بالدرعية، فسلم عليه وقال له: يا شيخ محمد أبشر بالنصرة، وأبشر بالأمن وأبشر بالمساعدة، فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة والتمكين والعافية الحميدة، هذا دين الله، من نصره، نصره الله، ومن أيده؛ أيده الله فقال:يا شيخ، سأبايعك على دين الله ورسوله، وعلى الجهاد في سبيل الله، ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام، أن تبتغي غير أرضنا، وأن تنتقل عنا إلى أرض أخرى، فقال: لا أبايعك على هذا، أبايعك على أن الدم بالدم والهدم بالهدم لا أخرج من بلادك أبدًا.
وتعاهد الأمير والشيخ على أن ينصرا دين الله، وظل الشيخ محمد يحاول إزالة الخرافات والأباطيل التي لا يرضاها الإسلام، ومن ذلك ما انتشر في (نجد) وما حولها من سحرة وكهنة يخدعون الناس، ويدعون أنهم يعلمون الغيب، كما انتشر فيها بعض المجانين والمعتوهين الذين يدعون أنهم أولياء الله، بل وجد بها من يعبد الأشجار والأحجار من دون الله عز وجل، فأخذ الشيخ (محمد) يدعوهم بمساعدة الأمير (محمد بن سعود) إلى دين الله، ويلقي الدروس في الفقه والتفسير والحديث .. وغير ذلك من العلوم النافعة، ويرسل إلى أمراء البلدان المجاورة ينصحهم بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبتطبيق شرع الله فازدادت شهرة الشيخ في كل بلاد الإسلام، وتأثر بدعوته أناس كثيرون في الهند، ومصر، وأفغانستان والشام وغيرها، وتحمل الشيخ الكثير من الأذى، وظل يجاهد في نصرة دين الله بلسانه أولاً، ثم بسيفه لينصر الحق، ويبطل الباطل، وساعده أنصاره من آل سعود.
واستمر في جهاده أكثر من خمسين عامًا يدعو إلى دين الله، فكان له فضل كبير في عودة الناس إلى الالتزام بشرع الله، والبعد عن الباطل، والعودة إلى الحق، فانتشر نور الله في الجزيرة العربية وما حولها وازدحمت المساجد بتدريس كلام الله والسنة المطهرة، حتى توفي الشيخ في عام 1206هـ، واستمر أبناؤه وأحفاده وتلاميذه وأنصاره في الدعوة والجهاد، وتحذير الناس من البدع والخرافات، وما تزال دعوته لها أنصارها ومؤيدوها في جزيرة العرب وما حولها حتى اليوم.
===========
جمال الدين الأفغاني
(إنني كصقر محلق يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقًا لطيرانه!! وإنني لأتعجب منكم، إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الصغير).
في قرية (أسعد آباد) إحدى القرى التابعة لكابل عاصمة (أفغانستان) حاليًا، ولد (محمد جمال الدين بن السيد صَفْدَر) سنة 1254هـ/1838م، وينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعرف بجمال الدين الأفغاني نسبة إلى بلده (أفغانستان).
انتقل مع والده الذي كان يعمل مدرسًا في (كابل) وهو في الثامنة من عمره، فلفت أنظار من حوله بذكائه الشديد، مما جعل والده يحفزه إلى التعلم قائلاً له: (لقد آن لك أن تتعلم يا جمال).
وأسرع جمال الدين يتلقى العلم في منزله حتى بلغ سن العاشرة، فحفظ القرآن الكريم، وعكف على دراسة اللغة العربية، وظهر حبه الشديد للمناقشة في المسائل الدينية، وقرأ في اللغة والأدب والتاريخ والتصوف والشريعة، كما برزت هوايته للرحلات والأسفار.(4/60)
وفي سنة 1264هـ/1848م ألحقه والده بمدرسة (قزوين) التي كان يعمل بها، ومكث بها عامين، وفي تلك الفترة ظهر اهتمامه الكبير بدراسة العلوم، فكان يصعد إلى سطح المنزل يتأمل النجوم ويحاول دراستها!! وعندما انتشر مرض الطاعون بقزوين، حاول دراسة أجساد الموتى، رغبة منه في الوصول إلى أسرار المرض وأسبابه، فخاف والده عليه، فانتقل به إلى طهران أوائل سنة 1266هـ/1849م.
وفي طهران سأل جمال الدين عن أكبر علمائها في ذلك الوقت، فقيل له: إنه (أقاسيد صادق) فتوجه مباشرة إلى مجلسه، فوجده جالسًا بين طلابه يقرأ كتابًا عربيًّا، ويشرح إحدى المسائل العلمية، ولاحظ جمال الدين أنه قد شرحها شرحًا موجزًا، فطلب منه أن يعيد شرحها بصورة أكثر تفصيلاً حتى يتفهمها الجميع، فتعجب الشيخ من جرأته وفضوله، ولكن جمال الدين أجابه بأن طلب العلم لا فضول فيه، ثم قرأ جمال الدين المسألة وفسرها، فتحرك الشيخ من مكانه، وأقبل عليه وضمه إلى صدره وقبله، ثم أرسل إلى والده يستدعيه، وأمره أن يشتري لجمال عباءة وعمامة، ثم قام الشيخ بلف العمامة ووضعها بيده فوق رأس جمال الدين تكريمًا له، واعتزازًا بعلمه.
ثم ترك جمال الدين طهران، وسافر مع والده إلى النجف بالعراق في نفس العام، ومكث فيها أربع سنوات درس فيها العلوم الإسلامية وغيرها، فدرس التفسير والحديث والفلسفة والمنطق وعلم الكلام وأصول الفقه والرياضة والطب والتشريح والنجوم .. وغير ذلك من العلوم.
وفي الثامنة عشرة من عمره، سافر إلى الهند، ومكث بها سنة وبضعة أشهر درس خلالها العلوم الرياضية، ثم سافر إلى مكة المكرمة سنة 1273هـ/ 1857م، فأدى فريضة الحج، ثم عاد إلى بلده أفغانستان مرة أخرى، وعمل بالحكومة، وكان عمره حينئذ 27 عامًا ووصل إلى درجة كبير الوزراء في عهد الملك (محمد أعظم) الذي نال تأييد الأفغاني، ولكن الملك (محمد أعظم) خُلع، وتولى أخوه (شير علي).
ونظر جمال الدين في أمر نفسه فوجد أن الأفضل له أن يغادر البلاد وبالفعل سافر إلى الهند، وكان ذلك سنة 1285هـ/1868م، وفي الهند استقبله الناس استقبالا حسنًا، لكن الحكومة الهندية خافت من وجوده، فطلبت منه ألا يقيم في الهند طويلاً، ولا يجتمع بالعلماء وأفراد الشعب، حتى لا يشعل نار الثورة، وأجبروه على ترك الهند وقبل أن يغادرها قال لأهلها: (يا أهل الهند، لو كنتم وأنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة، وخضتم البحر، وأحطتم بجزيرة بريطانيا العظمي لجررتموها إلى القعر وعدتم إلى الهند أحرارًا) فلما انتهى من كلامه تساقطت دموع الحاضرين، فصاح فيهم بصوت عال صيحة قال فيها:
(اعلموا أن البكاء للنساء، لا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم).
وبعد إقامة لم تزد عن شهر واحد،توجه بعدها إلى مصر سنة 1869م فأقام فيها مدة قصيرة لا تزيد عن أربعين يومًا، تردد خلالها على الأزهر منارة العلم، وجاءه الكثيرون يطلبون علمه، واشتهر (جمال الدين) وأصبحت له مكانة عالية بين العلماء جعلت السلطان العثماني (عبد العزيز) يدعوه إلى زيارة (الدولة العثمانية) فأجاب جمال الدعوة، وسافر إلى (استنبول) فرحب به السلطان خير ترحيب، وأكرمه رجال الدولة من العلماء والأدباء والأعيان.
ولم تمضِ ستة شهور حتى عينه السلطان عضوًا في مجلس المعارف، لكن أعداءه شنعوا عليه، مما جعله يغادر البلاد متوجهًا إلى مصر مرة أخرى، وكان ذلك سنة 1286هـ/1871م، أي في زمن الخديوي إسماعيل، وفي مصر رأى ظلم الحكام وجورهم، ووجد نظام الحكم نظامًا استبداديًّا لا تنفذ فيه إلا إرادة الحاكم، كما وجد الخرافات منتشرة في أماكن كثيرة من أرض مصر، فتذكر العهد الذي أخذه على نفسه، فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام الصحيح، ويبصرهم بحقوقهم وواجباتهم، مبينًا لهم أن الشعب مصدر القوة، فقال لهم: (هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، انفضوا عنكم الغباوة وشقوا صدور المستبدين لكم كما تشقون أرضكم بمحاريثكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداء، وموتوا مأجورين شهداء).
وعندما وجد الفلاحين المصريين يُضربون بالكرباج، والضرائب تفرض عليهم بما لا يقدرون عليه قال: (أنت أيها الفلاح.. يامن تشق الأرض لتستنبت فيها ما تسد به الرمق.. لماذا لا تشق قلب ظالمك؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!).
وفي مصر، تآمر عليه أعداؤه من الإنجليز وبعض الجاحدين في الفكر فلم يتركوه يسير في طريق الإصلاح، فوشوا به عند الخديوي (توفيق) الذي أمر بنفيه إلى الهند، وبقي في الهند ثلاث سنوات، ثم تركها إلى أوربا، فزار لندن، ثم انتقل إلى باريس، ومن هناك استدعى تلميذه (محمد عبده) ليحضر إليه، فأصدرا معًا جريدة (العروة الوثقى) التي كانت تدعو المسلمين إلى الوحدة الإسلامية، حتى إنه قام بتأسيس جبهة إسلامية عالمية أطلق عليها (أم القرى) كما نشر (جمال الدين الأفغاني) أفكاره السياسية التي كان يحارب فيها تدخل الدول الغربية في شئون الأمم الإسلامية.(4/61)
وظل جمال الدين ينتقل في أوربا بين باريس ولندن، ويتصل بالعلماء والكتاب ورجال السياسية، إلى أن دعاه الشاه (ناصر الدين) إلى إيران فسافر إليها في 16 شعبان سنة 1303هـ (20 مايو سنة 1886م) واستقبله الشاه في حفاوة بالغة، وجعله مستشاره الخاص في إصلاح شئون بلاده، والتف حوله الإيرانيون لأنهم وجدوا لديه علمًا غزيرًا وإلمامًا بشئون السياسة والحياة والعلوم الحديثة، فبلغ مكانة عالية مما جعل الشاه خاف من التفاف الناس حوله، وأحس (جمال الدين) بذلك فاستأذنه في السفر، فغادر إيران إلى روسيا ومكث بها أربع سنوات، والتقي بالقيصر الذي لم يسترح للقاء هذا المصلح الذي يهاجم الأباطرة والملوك، فطلب من حاشيته إبعاده من روسيا.
ترك جمال الدين روسيا وأخذ يتجول في أوربا ، فزار باريس ثم توجه إلى (ميونيخ) حيث التقى بالشاه ناصر الدين الذي طلب منه العودة إلى إيران، فعاد برفقته في سنة 1305هـ/1889م ليواصل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن الشاه عاد فغضب عليه وطرده شر طردة.
وفي سنة 1308هـ/1892م ذهب (جمال الدين الأفغاني) إلى لندن مرة أخرى، وفي أثناء وجوده هناك أخذ يهاجم الشاه والاستبداد، فأرسل إليه السلطان (عبد الحميد) في الحضور إلى الأستانة، فقبل وسافر إليها حوالي سنة 1309هـ/1893م، فأكرمه السلطان، ثم ما لبث أن ساءت العلاقات بينهما بفعل الواشين.
لقد وهب جمال الدين الأفغاني نفسه وحياته في سبيل إيقاظ العالم الإسلامي، وتوحيد كلمة الإسلام والمسلمين، وإزالة الفوارق بينهم، وكان أول مسلم شعر بخطر السيطرة الغربية المنتشرة في الشرق الإسلامي، وما سينزل ببلاد المسلمين من المصائب إذا استمروا خاضعين للدول الاستعمارية، فكان لا يمل من الكلام عما ينير العقل، ويطهر العقيدة، ويبصر الناس بمالهم من حقوق وما عليهم من واجبات، ومن أجل ذلك قال كلمته المشهورة: (الشرق .. الشرق.. لقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه).
ومن مؤلفاته: (تتمة البيان في تاريخ الأفغان)، و(الرد على الدهريين) و(القضاء والقدر).. وغير ذلك، مرض جمال الدين وهو في الأستانة وظهر في فمه مرض السرطان ، فأُجرِيَت له عملية جراحية ، لكنها لم تنجح ، ثم ما لبث إلا أيامًا حتى فاضت روحه في صبيحة يوم الثلاثاء 9 من مارس سنة 1897م، وظل قبره هناك في تركيا إلى أن نُقِلَ رفاته إلى أفغانستان سنة 1944م
===============
محمد إقبال
(يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).
في (سيالكوت) تلك المدينة التي تقع بإقليم (البنجاب) بالهند، وُلِد (محمد إقبال) عام 1294هـ/1877م، وتفتحت عيناه على مناظر بلاده الجميلة، فالأنهار الجارية تنحدر بين التلال، والعشب الأخضر يملأ الأرض ويكسوها بهاء وجلالاً.
ينتمي محمد إقبال إلى أسرة هندوكية من البراهمة، وهي جماعة لها شأن كبير في الهند رغم أنها تعبد الأصنام وتقدس التماثيل، لكن أسرة محمد إقبال تنازلت عن كل هذه العظمة، لتدخل في دين الإسلام الذي لا يفرق بين أبيض وأسود و أصفر أو أحمر إلا بالتقوى، وأصبح الجد الأكبر لمحمد إقبال واسمه (بنديت) فردًا عاديًا لا يدَّعي الألوهية كما يفعل البراهمة!! بعد أن هداه الله على يد أحد رجال الإسلام في (كشمير) وأنجبت الأسرة التي كانت بالأمس القريب تعبد الأصنام وتحتقر الآخرين (محمد إقبال) فيلسوف الإسلام الكبير وشاعره، وفضلت الإسلام مع الفقر على عبادة الأصنام مع الغني والعظمة.
ونشأ إقبال في بيت طاهر لأبويين تقيين؛ فكانت أمه نموذجًا رائعًا للتقوى والورع والالتزام بتعاليم الإسلام، أما والده(محمد نور إقبال) فكان صوفيًّا زاهدًا، تدمع عيناه خوفًا كلما ذكرت الجنة والنار، وكلما سمع عن يوم الحساب، والناس كلهم وقوف أمام الله عز وجل ليحاسبوا عما قدموه في حياتهم الدنيا من خير أو شر.
وكان هذا الوالد التقي هو المعلم الأول لمحمد إقبال، فقد حثَّه على قراءة القرآن وحفظه وتدبره منذ صغره، وكان يقول له كلما رآه يكثر من قراءة القرآن: إن أردت أن تفقه القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك، فأخذ إقبال منذ ذلك الحين يتدبر آيات القرآن الكريم، ويتفهم معانيه ويغوص في بحار علومه؛ حتى انطبع نور القرآن في قلبه، وفاض على لسانه، وأصبح دليله ومرشده في جميع خطوات حياته.
وقد ربَّي محمد نور الدين إقبال ولده (محمدًا) تربية إسلامية سليمة تعتمد على الكتاب والسنة والقدوة الحسنة، فكان يوقظ طفله الصغير ليصلى صلاة الفجر كل يوم، وكان يرشده دائمًا لعمل الخير والابتعاد عن الشر.. حكى إقبال في كتاباته قصة جليلة عن والده تكشف عن عمق إيمان الأب وعن أسلوب التربية الإسلامية الحقَّة، قال: (جاء سائل، فطرق بابنا بعنف، فضربته بعصا على رأسه، فتناثر ما جمعه، فتألم والدي وسال الدمع من عينيه وقال: (يا بني غدًا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، ويحشر أهل الملة البيضاء حكماؤها والشهداء والعلماء والعصاة ويأتي هذا السائل المسكين صائحًا شاكيًا، فماذا أقول إذا قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الله أودعك شابًا مسلمًا، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانًا، فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه؟! يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب بنصيب).(4/62)
بدأ إقبال التعليم في طفولته على يد والده، ثم أدخل كُتَّابًا ليتعلم القرآن، وانتقل إلى مدرسة (سيالكوت) ولما أتم دراسته الثانوية التحق بكليتها، فدرس اللغة الفارسية والعربية على يد أستاذه (مير حسن) ولفت الأنظار إليه بذكائه الشديد، وأخلاقه الكريمة؛ فاحترمه
الجميع؛ زملاؤه وأساتذته، وحصل على الكثير من الجوائز، ونال فرصة الدراسة مجانًا، وتخرج من الكلية عام 1897م.
وفي هذه الفترة ازداد تفكير محمد إقبال، وشعر بالألم والحسرة، فهو ينظر إلى المسلمين، فيراهم مستسلمين لأعدائهم، فتسيل الدموع من عينيه، وينشد قائلاً:
مسلمًا إن ترد حياة فيها ما بغير القرآن تأتي الحياة
وفتحت كلية الحكومة في (لاهور) ذراعيها للشاب الذكي فتفوق على زملائه، وحصل على ميداليتين ذهبيتين، ثم حصل على درجة الماجستير في الآداب والفلسفة، ومن فوق منبر جمعية حماية الإسلام أخذ محمد إقبال يردد قصائده ويلقيها على السامعين، حتى اشتهر وأصبح معروفًا بين الناس، وظل يدافع عن الإسلام والمسلمين، ويدعوهم إلى الكفاح والجهاد في سبيل الله، حتى تمَّ اختياره سكرتيرًا لجمعية حماية الإسلام.
والتقى (محمد إقبال) في كلية الحكومة بـ(لاهور) بأستاذه المستشرق (توماس أرنولد) وهو من كبار علماء الغرب الذين درسوا الإسلام عامة والتصوف خاصة، فكان يرشده ويعينه في الدراسة، وكان توماس يفخر بذكاء تلميذه، ويعتز بصداقته.
وبعد أن أنهى (محمد إقبال) دراسته الجامعية بـ(لاهور) عُيِّن أستاذًا للتاريخ والفلسفة والسياسة المدنية بالكلية الشرقية بـ(لاهور) ثم أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الحكومية التي تخرج فيها، لكنه كان طموحًا يريد مزيدًا من العلم، ويتمنى أن يرى البلاد الأوربية ومضارتها؛ فسافر إلى أوروبا سنة 1323هـ/1905م حيث نال درجة في الفلسفة من جامعة (كمبردج) ودرجة في القانون من كلية لندن للعلوم السياسية، وعمل أستاذًا للغة العربية في جامعة لندن، كما حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة (ميونيخ) بألمانيا، وعاد مرة أخرى إلى لندن، فلم يضيع وقته في العبث واللهو، بل نال شهادة المحاماة من جامعة لندن.
وهناك في بلاد الغرب كان محمد إقبال يدعو إلى دين الإسلام، ويدافع عنه دفاعًا صادقًا من خلال المقالات التي كان ينشرها والقصائد الشعرية التي كان يبدعها، وكان دائمًا يفخر بالإسلام الذي حرر الرءوس، وطهر النفوس، وأصلح الأرض وحصن العرض، ولم يعجبه الفسق والكفر الذي يعيش فيه الأوربيون، وقال لهم محذرًا: (يا أهل الغرب إن أرض الله ليست دار تجارة، ولسوف تنتحر حضارتكم بخنجرها؛ لأنها كالعش الذي بني على غصن ضعيف لا قوة له).
رجع إقبال إلى لاهور عام 1908م بعد رحلة استغرقت ثلاث سنوات، وبدأ العمل بالمحاماة، يدافع عن المظلومين، وعرف عنه في أثناء عمله بها أنه لا يقبل إلا قضايا الحق، كما عرف عنه أيضًا اقتداره في مهنته، وكان مؤهَّلا لبلوغ أعلى الدرجات فيها، لكنه ترك المحاماة وعمل أستاذًا للفلسفة واللغة الإنجليزية في الكلية الإسلامية في (لاهور) ثم استقال من منصب الأستاذية، واشتغل بالسياسة، فانتخب عام 1926م في الجمعية التشريعية في (بنجاب) وعمل في حزب الرابطة الإسلامية، ورأس المؤتمر السنوي لها في (إله آباد) سنة 1930م، واشترك إقبال في مؤتمر المائدة المستديرة عام 1931م،1932م في لندن للنظر في وضع دستور للهند.
وقد كان إقبال يحلم بإنشاء دولة إسلامية لمسلمي الهند، وسخر منه الناس حينئذ، ولكن تحققت فكرته بقيام دولة باكستان الإسلامية، زار (إقبال) كثيرًا من الدول الإسلامية، فزار مصر، وأفغانستان كما زار قرطبة، وصلى في مسجد قرطبة الشهير، وظل طيلة حياته المجيدة يدافع عن الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية والمؤتمرات الإسلامية والكتب والأشعار التي أبدعها، ويحاول قدر طاقته إيقاظ المسلمين من غفلتهم، ومساعدة الأمة الإسلامية على النهوض، وكان إقبال دائمًا يعطف على الفقراء والمساكين، يجلس معهم، ويهتم بأمرهم، ويخالطهم في الطعام والشراب.
كما كان يدعو المسلمين إلى المشاركة في حركة الحضارة والتقدم، وينبذ الفكر الذي يكتفي من الدين بالعلاقة بين العبد وربه في صورة العبادات، وكان له موقف أصيل من التصوف، يقوم على رفض التصوف الذي يخالف الكتاب والسنة ويتأثر بفلسفات وثنية، كما رفض التصوف الذي يجعل من المسلم سلبيًّا لا يشارك في خدمة مجتمعه، ومقاومة الظلم والدفاع عن المسلمين وكان يسمى هذا اللون من التصوف بالتصوف الأعجمي.
وكان صلى الله عليه وسلم إقبال) يدعو المسلمين إلى التمسك بدينهم، ثم بالعلم الذي هو السبب في تقدم الأمم، وبذل جهودًا كبيرة في الدعوة إلى وحدة المسلمين تحت راية الجامعة الإسلامية التي تضم المسلمين جميعًا مع اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم.
ولم يترك إقبال فرصة إلا نصح فيها إخوانه من المسلمين، فيخاطب المسلم ويقول له: (اقرأ مرة أخرى في سيرتك الأولى، اقرأ دروس الصدق والعدل والشجاعة، لأنك أنت المنشود؛ لتسود العالم مرة ثانية، أنت تملك العالم بالأخوة وتحكمه بالمحبة، ما الذي محا استبداد (قيصر) وشدة (كسرى)؟! أكانت هناك قوة في العالم تحارب الجبابرة سوى قوة (علي) كرم الله وجهه، وفقر (أبي ذر) وصدق (سليمان) رضي الله عنهم؟!) وأبدع إقبال العديد من الدواوين الشعرية الرائعة منها:
(صلصلة الجرس) ونشر عام 1924م، ويحتوي على حوالي ستين قصيدة وقطعة نظمها في بداية شبابه حتى سفره إلى أوربا، بالإضافة إلى ثلاثين قصيدة نظمها في أوربا، وأهم قصائد هذا الديوان قصيدته الشهيرة: (طلوع الإسلام).(4/63)
* (رسالة المشرق) : وهي رد على ديوان الشاعر الألماني (جوته).
* (زبور العجم): وهو ديوان من أروع ما كتب إقبال، وأهم قصائده: (حديقة السر الجديدة) وهي قصيدة في الحب الإلهي.
* (ما ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق) وهي منظومات تدعو المسلمين إلى الاتحاد لمقاومة الاستعمار الأجنبي.
* (هدية الحجاز) وهو ديوان أغلبه يدور حول موضوعات هامة مثل: الحديث عن الله وعن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الأمة وعن العلم الإنساني، وعن رفاق الطريق إلى الله، وأهم قصائد الديوان قصيدة تدور حول إبليس ومعاونيه.
ومن أهم مؤلفاته: (تطور الفكر الفلسفي في إيران) و(تجديد التفكير الديني في الإسلام) ومن شعره المترجم إلى العربية:
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء فما نسى الزمان ولا نسينا
وأجاد محمد إقبال الكثير من اللغات كالأوردية، والفارسية والإنجليزية، والألمانية، وكان يعرف العربية، وتحمل كل هذا العناء لكي يزيل عن أمته ظلام الجهل والتأخر.
وبعد رحلة مريرة بما فيها من مصاعب، مباركة بخدمتها المسلمين، تكالبت أمراض كثيرة على الشاعر الفيلسوف، فقد ضعف بصره، وأصابته آلام، وأزمات كثيرة نتيجة حصوات تكونت في الكلى، لكن المرض لم يقعده عن كتابة الشعر، وفي إبريل سنة 1938م رحل(إقبال) وفاضت روحه التي أجهدها العناء الطويل في سبيل هداية البشر، وعلت شفتيه البسمة الهادئة فرحًا بلقاء ربه.
وذاع خبر موت (إقبال)، ففجع الناس فيه، وصعقهم النبأ، وهزمهم الأسى، وعمهم الحزن، وكان يومًا عصبيًا في حياة جماهير الهند عامة، والجماهير المسلمة خاصة، ونعاه قادة الهند وأدباؤها من المسلمين والهندوس على السواء.. رحم الله الفيلسوف الشاعر الذي أحدث برحيله فراغًا كبيرًا في عالمنا الإسلامي،رحم الله إقبال القائل:
وَمَا فَتِئ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى مَضَي بِالمجْدِ قَوْمٌ آَخَرُونَا
وَأَصْبَحَ لا يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي وَقَدَ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنيِنَا
وَآلمنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرِّ سُؤَالُ الدَّهْرِ أَيْنَ المسْلِمُونَا
=============
حسن البنا
في قرية (المحمودية) بمحافظة البحيرة بمصر وُلِد (حسن البنا) في شعبان 1323هـ/ أكتوبر 1906م، كان والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا إمامًا لمسجد القرية، عرف بين أهل قريته بحب الخير والسعي للصلح بين الناس.
دخل حسن البنا الكتاب في الثامنة من عمره، فحفظ نصف القرآن الكريم، كما تعلم القراءة والكتابة على يد معلمه الشيخ (محمد زهران) ثم التحق بالمدرسة الإعدادية، وقسم وقته اليومي بين حفظ القرآن الكريم وعلوم المدرسة، وانشغل الطفل الصغير بالتفكير في ملكوت الله -سبحانه وتعالى- واسترجع بذاكرته حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين الأوائل، وعزم بينه وبين نفسه وهو في هذه السن أن يكون مثلهم يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر.
وبدأ يدرك أن عليه واجبًا نحو زملائه، فأخذ يعلمهم ما لا يعلمون من أمور دينهم، ولأن حسن البنا كان يعلم أن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، فقد كان يدعو زملاءه للصلاة في المسجد، واختاره التلاميذ للإمامة.
كون حسن البنا مع زملائه الذين كانوا يشتركون معه في الصلاة جمعية سماها جمعية محاربة المنكرات مهمتها الدعوة إلى الله من أجل التعاون والترابط وفعل الخيرات، ومحاربة البدع والخرافات، فكانوا يرسلون خطابات للمخطئين لنصحهم وإرشادهم بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يعودوا إلى الطريق الصحيح، ظل حسن البنا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويذكر تلاميذ مدرسته بمبادئ الإسلام وتعاليمه إلى أن أنهى دراسته في هذه المدرسة، والتحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور، حيث واصل دعوته إلى التمسك بالإسلام، فكان يوضح لزملائه في المدرسة فضل الصلاة المفروضة، ويدير حلقة لقراءة القرآن الكريم قبل دخول التلاميذ لفصولهم، ولم يمنعه ذلك من الاهتمام بدروسه بل كان متفوقًا في دراسته.
ثم التحق حسن البنا سنة 1923م بكلية دار العلوم بعد أن حصل في السنة النهائية من مدرسة المعلمين على المركز الأول، فكان ترتيبه الخامس بين جميع طلاب مصر، وعندما دخل دار العلوم، وتقدم لامتحانها كان يحفظ 18 ألف (ثمانية عشر ألف) بيت من الشعر، وكثيرًا من النثر، وقد أعجب حسن البنا بالدراسة في دار العلوم وأساتذتها، وأخذ يذاكر بجد ونشاط ويجتهد في دراسته، فكان الأول فيها.
وبعد إلغاء الخلافة الإسلامية سنة 1924م انتشرت أخلاق تخالف تعاليم الإسلام وأصبح الدين من وجهة نظر البعض علامة على الجهل والتأخر والبعد عن الحضارة، وخلع الكثير من نساء مصر الحجاب، فعمل حسن البنا على تكوين جماعة من الدعاة المتحمسين الراغبين في الإصلاح من طلبة دار العلوم والأزهر، وخرجوا إلى الناس في المساجد والمقاهي يخاطبونهم بأسلوب بسيط، ويرشدونهم إلى التمسك بدينهم واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في عام 1927م عين مدرسًا بمدارس الإسماعيلية للبنين، فلم يتوقف عن دعوته، واختار أن يتوجه بالدعوة للناس في المقاهي التي تزدحم بهم فكان يصور لهم الحياة الإسلامية على أنَّها بناء يقوم على أربعة عمد؛ الحكومة، والأمة، والأسرة، والفرد.(4/64)
وتأثر بدعوته الكثيرون، وأسس البنا جمعية (الإخوان المسلمون) في الإسماعيلية، ثم انتقل حسن البنا ليعمل مدرسًا في القاهرة، وأخذ يدعو المسلمين إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عظم أمر (الإخوان المسلمون) وبلغ عددهم في ذلك الوقت أكثر من نصف مليون فرد، فأعلنت السلطات حل جماعة الإخوان المسلمين في أوائل ديسمبر سنة 1948م، واعتقلوا عددًا كبيرًا من أفرادها، وتعرض بعد ذلك البنا لحادث اغتيال سنة 1949م.
ومن آثاره:
1- مذكرات الدعوة والداعية.
2- أحاديث الثلاثاء.
3- مجموعة الرسائل
==================
د.محمد عبد السلام
في قرية ريفية اسمها (جهانج) تقع في ولاية (البنجاب) التابعة لباكستان الآن، وفي
29 يناير سنة 1926م، ولد (محمد عبد السلام).
كان والده موظفًا صغيرًا في الجمعية الزراعية، لكنه لم يبخل بماله وجهده في تربية ولده، فاهتم اهتمامًا كبيرًا بمحمد أو (سلام) كما يحلو لزملائه من العلماء الغربيين أن يلقبوه، كان والده يتابعه في المدرسة، ويتصل بمدرسيه يطمئن على مستوى تحصيله الدراسي، بل إنه علَّمه اللغة الإنجليزية بنفسه، حين لم تنجح المدرسة في ذلك.
وكان والده حريصًا كل الحرص على تعليمه آداب الإسلام؛ فعلمه ألا يبدأ أي عمل إلا باسم الله، كما علمه أن يكرر دائمًا قوله تعالى: {واحلل عقدة من لساني} [طه: 72] لكي يصفو قلبه للعلم، وحرص في الوقت نفسه على نصحه لعمل الخير، ومواجهة الشر، والتخلق بأخلاق الإسلام، لذلك كله كان صلى الله عليه وسلم سلام) يعتز بوالده اعتزازًا كبيرًا، فقد أهدي والده أحد كتبه قائلاً: (إلى ذكرى والدي الذي علمني الإسلام).
وعندما وصل (سلام) إلى الرابعة عشرة من عمره، حصل على منحة دراسية من جامعة البنجاب الحكومية في (لاهور) وبعد انتهائه من دراسة الرياضيات في جامعة (البنجاب) في عام 1946م لم يستطع (سلام) الالتحاق بأية وظيفة بسبب الحرب العالمية الثانية، ولكنه استطاع الحصول على منحة للدراسة في جامعة (كمبردج) بإنجلترا لتكملة دراسته، وانتقل سلام من باكستان إلى كلية (ترنتي) التابعة لجامعة كمبردج؛ حيث بدأ في دراسة الفيزياء النظرية التي تتمشى مع موهبته الرياضية، وخلال فترة دراسته للحصول على درجة الدكتوراه، عمل على استكمال العديد من النظريات العلمية.
شعر (سلام) بأن عليه دينًا تجاه وطنه ودينه، فقرر الرجوع إلى بلده باكستان ليُسهم بعلمه في بنائها ومساعدة أبنائها، فعاد إليها وعمل هناك ثلاث سنوات 1951م/1954م كرئيس لقسم الرياضيات، لكنه أحس بعد فترة بأنه في حاجة للعودة إلى (إنجلترا) للاستمرار في البحث العلمي، والاطلاع على أحدث ما وصل إليه العلم، وظل (سلام) متمسكًا بدينه، شديد الغيرة عليه، ودائمًا كان يحلم بأن تعود صفحات التاريخ المشرق، ويقود المسلمون زمام العلم في كل أنحاء العالم كما كانوا في الماضي، فكان يحلم بأن يظهر من بين المسلمين علماء كبار أمثال:
ابن الهيثم، وابن سينا، والفارابي، والخوارزمي .. وغيرهم ممن أناروا الدنيا كلها بنور العلم.
وفي الوقت نفسه، كان صلى الله عليه وسلم سلام) يشعر بالمرارة والألم على حال المسلمين، وما وصلوا إليه من تدهور، فقد دخل إحدى المستشفيات فرأى أن أغلب الأدوية العلاجية التي يعالَج بها المسلمون قد تمَّ التوصل إلى أغلبها دون المشاركة في الجهد من أي فرد من أفراد أمة الإسلام، وغلي الدم في عروق (سلام) عندما تذكر كلمات عالم أوروبي قالها له ذات مرة: (هل تعتقد حقًّا يا سلام أن علينا التزامًا بأن نعين ونساعد ونغذى ونبقى على حياة تلك الأمم التي لم تُضِفْ ولو ذرة واحدة إلى حصيلة المعرفة البشرية؟!).
وأدرك (سلام) أن المسلمين تأخروا؛ لأنهم لم يأخذوا بتعاليم القرآن الكريم التي تنص على أن المعرفة هي أسمى ما يمكن أن يحققه الإنسان، فيقول: (إن سبعمائة وخمسين آية من آيات القرآن الكريم صلى الله عليه وسلم :أي ما يقرب من ثمن عدد آياته) تحث المؤمنين على دراسة الطبيعة والتفكر فيها، وعلى الاستخدام الأمثل للعقل بحثًا عما هو جوهري في الطبيعة).
ودفعته الغيرة على الإسلام إلى الجد والاجتهاد، فلا وقت للهزل واللعب؛ فاستطاع أن يحقق إنجازات ضخمة في مجال الفيزياء النظرية، وقام بنجاح بتوحيد القوى النووية الضعيفة مع القوي الكهرومغناطيسية، وهو ما حصل بسببه على جائزة (نوبل) في الفيزياء في عام 1979م.
ويعتبر (محمد عبد السلام) من أكبر العلماء المسلمين خلال القرون الستة الأخيرة ويعد من كبار علماء الفيزياء المعاصرين، وقد مُنح أكثر من خمس وعشرين درجة دكتوراه فخرية، وثماني عشرة جائزة وميدالية في مجال الفيزياء، أهمها: جائزة الذرة من أجل السلام (1968م) وجائزة نوبل في الفيزياء (1979م) وجائزة لومو نوسوف الذهبية من أكاديمية العلوم السوفيتية (1983م) وكذلك أربعة أوسمة رفيعة من مختلف دول العالم.
كما اختير عضوًا في ثلاثة وعشرين أكاديمية علمية، بما في ذلك أكاديمية العلوم في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وشغل مناصب عديدة في الأمم المتحدة ومنظماتها، مثل: منصب السكرتير العلمي لمؤتمر جنيف للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، ومنصب رئيس لجنة الأمم المتحدة الاستشارية للعلم والتكنولوجيا، كذلك شغل عدة مناصب رفيعة في موطنه (باكستان) أهمها منصب المستشار العلمي لرئيس الجمهورية، ورئيس المجلس الباكستاني لدراسة الفضاء، وطبقات الجو العليا.(4/65)
أما عن إنجازاته العلمية فأهمها: كتابة أكثر من 250 بحثًا علميًّا في مجال فيزياء الجسيمات الأولية، وكذلك دراسات عن العلم وسياسات التدريس في باكستان ودول العالم الثالث، كما نشر ثلاثة كتب؛ اثنين منها في مجال الفيزياء النظرية.
وطالب الدكتور سلام بإنشاء صندوق إسلامي للموهوبين في العلوم، يشجع شباب المسلمين على متابعة الدراسات العلمية، كما نصح بأن تهيئ الأمة الإسلامية لعلمائها الإمكانات العلمية والمادية التي تساعدهم على العمل والتقدم العلمي.
كان سلام مسلمًا معتزًّا بدينه، لا يترك مناسبة من المناسبات إلا ويفتخر بإسلامه ويعلن للملأ أن دينه يدعو إلى العلم، فها هو ذا يقول: (اسمحوا لي أن أقول: إنني مسلم مقيم لشعائر ديني الإسلامي، ذلك أنني أومن بالرسالة الروحية للقرآن الكريم وكعالم، فإنني أجد في القرآن الكريم إرشادًا يحثني على ضرورة التفكر في قوانين الطبيعة، ضاربًا لنا الأمثال من علوم الكون والفيزياء والطب كعلامات دالة لكل الناس.
==========
نجم الدين أربكان
من "هندسة" محركات الديزل.. إلى "هندسة" الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا : نجم الدين أربكان، اسمٌ أصبح جزءاً من تاريخ الحياة السياسية والحزبية في تركيا لا يمكن تجاهله رغم كل محاولات الإقصاء، والتهميش، والمحاصرة.. فرض ومازال يفرض بصماته المضيئة على مسار الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا.. لماذا حاولت قوى كثيرة داخل تركيا وخارجها، وما زالت تحاول إبعاده عن الساحة السياسية التركية..؟ومن المستفيد من إقصائه عن الساحة السياسية التركية..؟ في هذه الدراسة التي تنشر علي حلقات في المجتمع نسلِّط الأضواء مدعومة بالوقائع والحقائق على شخصية الأستاذ الدكتور المهندس نجم الدين أربكان أحد أبرز رجالات الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا.
في وسائل الإعلام التركية، وفي الأوساط والمحافل السياسية التركية، وعلى امتداد الشارع التركي المسيَّس يطلقون على الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان لقب "أبو السبعة أرواح"، وهو لقب يبدو أن أربكان يستحقه بجدارة من كثرة ما دخل وخرج من محاكم ومن سجون، ومن كثرة ما أسس أحزاباً بلغ عددها في فترة زمنية قصيرة قياساً بعمر الدول خمسة أحزاب، فلا يكاد يؤسس حزباً حتى يحاصره حماة العلمانية في تركيا وخاصة جنرالات المؤسسة العسكرية، فيحظروه ويختموا أبوابه بالشمع الأحمر، ليعود أربكان ليؤسس حزباً جديداً فيغلقه العلمانيون ويختمون أبوابه بالشمع الأحمر، ليعود أربكان ليؤسس حزباً جديداً باسم جديد بنفس نكهة الحزب المحظور الوطنية الإسلامية.. وهكذا حزباً بعد حزب و محاكمة بعد محاكمة، وسجناً بعد سجن..!
فمن هو نجم الدين أربكان الذي اشغل وسائل الإعلام العالمية ومن قبلها أشغل دولاً وأنظمة وأجهزة مخابرات ومنظمات ترصد ما يجري في تركيا تحت مجاهر رقابتها على مدار الثانية والدقيقة...؟ ورث الزعامة كابراً عن كابرٍ:
ينحدر البروفيسور نجم الدين أربكان من نسل الأمراء السلاجقة الذين عرفوا في تاريخ تركيا باسم "بني أغوللري "، وكان جدُّه آخر وزراء ماليتهم، وكانت أسرة أربكان تلقَّب بناظر زاده أي ابن الوزير.
ولد عام 1926م في مدينة سينوب بأقصى الشمال على ساحل البحر الأسود، وأنهى دراسته الثانوية في عام 1943 حيث التحق بجامعة الهندسة في استانبول وتخرج من كلية الهندسة الميكانيكية في عام 1948 ، وكان الأول على دفعته فتمَّ تعيينه معيداً في نفس الكلية.
أوفد في بعثة إلى ألمانيا في عام 1951م، حيث نال في عام 1953م من جامعة آخن شهادة الدكتوراة في هندسة المحركات.
وفي عام 1953م عاد إلى جامعة استانبول وحصل على درجة مساعد بروفيسور (دوشنت).
وأثناء وجوده في ألمانيا عمل إلى جانب دراسته رئيساً لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات ( كلوفز هومبولدت دويتز )بمدينة كولن.
في عام 1956م عمل ثانية في مصانع محركات دويتز وتوصَّل إلى عدة اكتشافات لتطوير صناعة محركات للدبابات تعمل بكل أنواع الوقود.
في نهاية عام 1965م عاد إلى جامعة الهندسة في استانبول ليعمل أستاذاً مساعداً، وفي نفس العام حصل على درجة الأستاذية فأصبح بروفيسوراً في اختصاص المحركات.
وأثناء تدريسه في جامعة الهندسة في استانبول، وعلى ضوء الخبرة التي حصل عليها أثناء عمله في مصانع المحركات الألمانية، قام البروفيسور نجم الدين أربكان في عام 1956 بتأسيس شركة مصانع "المحرك الفضي" وساهم معه في الشركة 300 من زملائه، وتخصصت الشركة في تصنيع محركات الديزل وبدأت إنتاجها في عام 1960، ولا تزال الشركة الرائدة في هذه الصناعة في تركيا وتنتج سنوياً حوالي 30 ألف محرك ديزل.
رئيساً لاتحاد الغرف الصناعية :
تولى البروفيسور أربكان رئاسة مجلس إدارة شركة مصانع المحرك الفضي (1956 - 1963م )، إلى جانب منصب مديرها العام، ثم تولى منصب الأمين العام لاتحاد غرف التجارة والصناعة والبورصة التركية في عام 1967م، وفي عام 1968م أصبح رئيساً للاتحاد، وعندما تولى أربكان هذا المنصب ثارت ثائرة الدوائر العلمانية والماسونية، وشنَّت الصحافة العلمانية والمتصهينة حملة شعواء ضده.
وكمثال على ما زخرت به تلك الصحف من هجوم على أربكان أنقل ما نشرته مجلة "آنت" العلمانية في عددها رقم 127 الصادر في 3/6/1969م حيث قالت بالحرف الواحد: "هناك صراع واضح في هذه الأيام في عالم التجارة الصناعة بين فئتين: فئة الرفاق الماسونيين الذين يعملون بحماية رئيس الوزراء سليمان ديميريل، وفئة الإخوان المسلمين الذين يعملون برئاسة نجم الدين أربكان ".(4/66)
لكأنَّ نجم الدين أربكان كان على موعدٍ مع قدره الذي أراده الله له، فينتقل من حلبة الصناعة إلى حلبة السياسة ليؤسس، ويقود، ويهندس حركة انبعاث مدِّ الصحوة الإسلامية الحديثة في تركيا.
وكانت بداية التحوُّل في حياة أربكان من هندسة الصناعة إلى هندسة السياسة من مدينة قونيه التي كانت على امتداد تاريخ تركيا الإسلامي، و ما تزال معقلاً إسلامياً شامخاً، وهي قونيه موطن العالم الرباني جلال الدين الرومي، فمن مدينة قونيه خاض نجم الدين أربكان أول تجربة سياسية في حياته حين خاض الانتخابات النيابية التي جرت في عام 1969 كمرشح مستقل فأكرمته المدينة المتديِّنة إذ حملته أصوات ناخبيها وناخباتها بما يشبه الإجماع والاكتساح إلى مجلس النواب التركي ممثلاً للمدينة الوفية لإسلامها.
تجربته الحزبية الأولى :
في عام 1970 أسس البروفيسور أربكان مع عدد من المفكرين والناشطين الإسلاميين حزب النظام الوطني، وتسمِّيه بعض المراجع بحزب الخلاص الوطني، وفي المؤتمر الأول للحزب بمناسبة مرور عام على تأسيسه ( كانون ثاني 1971م) ألقى البروفيسور أربكان كلمة في المؤتمر أكد فيها البعد الإسلامي للحزب قائلاً: "إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يُخرِّبوا هذه الأمة ويفسدوها، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، و التجارة بأيديهم، و الاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان، فليس أمامنا إلا العمل معاً يداً واحدة، و قلباً واحداً، حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، و نصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقاً.."
عزل سياسي :
وفي شهر نيسان من عام 1971 أقامت الحكومة دعوى ضد الحزب، فأصدرت محكمة أمن الدولة العليا قراراً بحلِّ حزب النظام الوطني ومصادرة أمواله وممتلكاته بعد أن جرَّمته بتهمة انتهاك الدستور العلماني، والعمل على إلغاء العلمانية، وإقامة حكومة إسلامية في تركيا، و العمل ضد مبادئ أتاتورك، وحكمت المحكمة بمنع أي عضو في الحزب من العمل في حزب آخر، أو تأسيس حزب آخر، أو ترشيح نفسه للانتخابات ولو بشكل مستقل، وذلك طيلة خمس سنوات.
وبعد صدور حكم محكمة أمن الدولة العليا بحلِّ حزب النظام الوطني وحرمان مؤسسه وأعضائه من العمل السياسي لمدة خمس سنوات غادر البروفيسور أربكان تركيا.
في عام 1972م عاد البروفيسور أربكان إلى تركيا ليدفع ببعض الإسلاميين ممن لا ينطبق عليهم حكم محكمة أمن الدولة العليا لتشكيل حزب جديد أطلق عليه اسم حزب السلامة الوطني، وتأسَّس الحزب في 11/10/1972م، وأصدر في 12/1/1973م صحيفته الرسمية "مللي غزته".
في 14/10/1973م صدر عفو عام عن الجرائم السياسية، فخاض حزب السلامة الوطني بعد أن عاد أربكان إلى رئاسته الانتخابات وفاز بِ 48 مقعداً، وعندما احتدم الخلاف بين الحزبين الرئيسين، حزب العدالة (149 نائباً) بزعامة سليمان ديميريل، وحزب الشعب الجمهوري (186 نائباً) بزعامة بولنت أجاويد، اضطر أجاويد زعيم حزب الشعب الجمهوري للائتلاف مع حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان، وحصل حزب السلامة على سبع وزارات هامة منها الداخلية والعدل والتجارة والجمارك والزراعة والصناعة والتموين ووزارة دولة، وكان البروفيسور أربكان نائباً لرئيس الوزراء.
ومثَّلت مشاركة حزب السلامة الوطنية في حكومة ائتلافية أول اختراق إسلامي للسلطة التنفيذية في الجمهورية العلمانية منذ تأسيسها على يد أتاتورك، وشكَّلت هذه المشاركة لطمة موجعة للعلمانيين وحلفائهم الماسونيين، فطفقوا يخططون للانتقام وتوجيه لطمة مضادة للإسلاميين، واستطاعت مكائد العلمانيين والماسونيين أن تفشل الحكومة الائتلافية وتضطرها إلى الاستقالة بعد تسعة أشهرونصف من تشكيلها.
ولكن قدر الله كان بالمرصاد للعلمانيين والماسونيين، إذ لم يلبث حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان أن عاد إلى الحكومة عندما وجد حزب العدالة نفسه مضطراً للائتلاف مع حزب السلامة الوطني لتشكيل الحكومة.
بيد أن عودة حزب السلامة الوطني للمشاركة في الحكومة الجديدة، وبنفس عدد وزرائه ومقاعدهم في الحكومة السابقة، لم تثن العلمانيين والماسونيين عن الكيد للحزب ولزعيمه، وانتهز هؤلاء الانتخابات النيابية التي كان مقرراً أن تجري في عام في عام 1977 فحشدوا كل إمكاناتهم، واستنفروا كل طاقاتهم العلنية والسرية من محافل ماسونية وصحافة متصهينة وعلمانية لشن حملة تشويه وافتراءات ضد مرشحي حزب السلامة العامة في تلك الانتخابات، ويبدو أن الحملة آتت أكلها فجاءت نتائج حزب السلامة الوطني في الانتخابات مخيِّبَةَ لطموحات الإسلاميين، ومفرحة للعلمانيين والماسونيين حيث انحسر عدد أعضاء الحزب في مجلس النواب التركي إلى (24) نائباً فقط، ولكن ورغم هذه الانتكاسة التي أصابت حزب السلامة الوطني فقد فرضته المعادلة السياسية آنذاك شريكاً في الائتلاف الحكومي الذي جمع حزب العدالة وحزب السلامة الوطني وحزب الحركة القومية (طوراني) في الحكومة التي تشكلت في 1/8/1977 .
أول إسلامي يشكل الحكومة في تاريخ تركيا العلمانية:
مثلما استنفر العلمانيون والماسونيون الأتراك كل طاقاتهم الداخلية، فقد استنفروا طاقاتهم الخارجية باعتبارهم وكلاء لقوى الاستعمار العالمية بقيادة أمريكا، ووكلاء للصهيونية العالمية وبذرتها الخبيثة (الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين)، طالبين النجدة في تصدِّيهم للإسلاميين، وسرعان ما لبَّت وسائل الإعلام العالمية وخاصة الأمريكية نداء الاستغاثة وطفقت تشن حملة تشويه وتحريض ضد الإسلاميين في تركيا.(4/67)
وكمثال على ما نشرته وسائل الإعلام العالمية في التحريض على الإسلاميين في تركيا، أكتفي في هذا التقرير بهذه النماذج:
- نقلت صحيفة القبس الكويتية في عددها الصادر في 20-4-1977م أي قبل أقل من شهرين من أجواء الانتخابات في 1-6-1977م عن صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" ما يلي: "إن احتمال نجاح أربكان في الانتخابات القريبة في تركيا يحدث قشعريرة وارتباكاً في الأوساط السياسية التركية وفي كواليس السفارات الغربية في تركيا، لأن أربكان يريد تحويل اتجاه تركيا عن الغرب والعودة بها من جديد إلى تراثها الإسلامي والشرقي".
ونقلت عن صحيفة "الايكونومست" البريطانية ما يلي: "إذا قدِّر لحزب السلامة الوطني أن يفوز في الانتخابات القريبة في تركيا فإن الشيء المثير للقلق في الغرب هو أنه لا تزال إلى الآن فئات كبيرة من الشعب التركي لم تستطع هضم الإصلاحات التي جاء بها أتاتورك".
ونقلت عن صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية ما يلي "إن تركيا تقف على مفترق طرق، وينظر المراقبون الغربيون بقلق بالغ وبتشاؤم إلى مستقبل تركيا، حيث تشير التطورات فيها إلى بروز نزعة قومية يقودها حزب السلامة الوطني وزعيمه أربكان لاسترجاع تركيا لأمجاد الإمبراطورية العثمانية واستعادة أمجاد الإسلام".
مكيدة جديدة... وتهمة جديدة:
لم تثن مشاركة حزب السلامة الوطني في الحكومة الائتلافية التي تشكلت في أعقاب الانتخابات التي جرت في 1-6-1977 العلمانيين والماسونيين عن تآمرهم على الحزب وعلى أربكان، ففي 5-12-1978م طالب المدعي العام التركي بفصل البروفيسور نجم الدين أربكان من رئاسة وعضوية حزب السلامة الوطني بتهمة استغلال الدين في السياسة؛ مما يشكل خروجاً على القوانين العلمانية التي وضعها أتاتورك، ولكن هذه المكيدة لم تحقق هدف العلمانيين والماسونيين، وبقي حزب السلامة الوطني وزعيمه نجم الدين أربكان شوكة في حلوقهم.
وفي 6-9-1980م نظَّم حزب السلامة الوطني مظاهرة كبرى في مدينة قونية بمناسبة يوم القدس العالمي شارك فيها أكثر من نصف مليون تركي وفدوا من كل أنحاء تركيا، وهتف فيها المتظاهرون: "نريد الإسلام ولا نرضى بسواه" وحملوا في مقدمة المظاهرة مجسماً ضخماً لقبَّة الصخرة المشرفة، ولافتة عريضة تحمل شعار الإسلام الخالد: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
وفي اليوم التالي 7-9-1980 كانت الإذاعة تذيع البيان رقم (1) معلناً انقلاباً عسكرياً بزعامة الجنرال كنعان إيفرين، وفي 11-9-1980م صرَّح قائد الانقلاب بأن الجيش تدخَّل ليوقف المدَّ الإسلامي، وليوقف روح التعصب الإسلامي التي ظهرت في مظاهرة قونية.
وفي عددها الصادر في أعقاب وقوع الانقلاب نشرت مجلة "نيوزويك" الأمريكية على غلافها صورة لقائد الانقلاب الجنرال كنعان إيفرن مع تعليق يقول: العسكر يوقفون المد الإسلامي.
وأسهبت في صفحاتها الداخلية في الحديث عن الانقلاب الذي جاء لينقذ العلمانية في تركيا من خطر الإسلاميين.
وقام الانقلابيون بحل الأحزاب، وفرضت الإقامة الجبرية على زعمائها، باستثناء أربكان الذي اقتيد إلى السجن، ثم رفعت الإقامة الجبرية عن زعماء الأحزاب، بينما مثُل أربكان وإخوانه من قيادات حزب السلامة الوطني أمام محكمة عسكرية في 24-4-1981 ، وفي نفس اليوم صرح رئيس الوزراء الذي عيَّنه الانقلابيون بولند أوسلو بأن حكومته ضد الإرهاب الشيوعي الأحمر، وضد الإرهاب الإسلامي الأسود، وأنه لا مكان في تركيا الحديثة للإخوان المسلمين الذين ينتهكون العلمانية (كما جاء حرفياً في التصريح).
وكانت لائحة الاتهام ضد البروفيسور أربكان وإخوانه زاخرة بالتهم، ومنها:
1 - العمل على تبديل قوانين الدولة العلمانية بمبادئ تقوم على أساس الإسلام.
2 - رفع الحزب لشعارات وهتافات منافية للعلمانية منها: محمد قائدنا، سنحطِّم الأصنام، سنقيم دولة الإسلام، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)(الإسراء).
3 - إلقاء أربكان خطبة في الحجاج الأتراك في عام 1977م قال فيها: يجب أن نبحث فيما إذا كان حكَّامنا يحكموننا بالقرآن أم لا..!
4 - إصرار الحزب وزعيمه على المطالبة بفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإعادة الصلاة في مسجد أيا صوفيا (حوَّله أتاتورك إلى متحف).
5 - مطالبة الحزب بجعل يوم الجمعة عطلة رسمية بدلا من الأحد، وأن يتم اعتماد الزواج الشرعي بدل المدني.
6 - اتهام الحزب لأتاتورك بأنه كان ماسونياً.
وحكمت المحكمة في 24-2-1983م بحلِّ حزب السلامة الوطني، وبالحكم على أربكان بالسجن لمدة (4) سنوات، وبأحكام أخرى على العديد من قيادات الحزب، وكانت التهمة التي أدينوا بها: معاداة العلمانية والسعي لإحلال الشريعة الإسلامية بدلاً عنها.
ولم تتوقف مكائد العلمانيين والماسونيين ضد أربكان، بل لقد اشتط هؤلاء في مكائدهم عندما عاد البروفيسور نجم الدين أربكان وإخوانه ليؤسسوا حزباً جديداً أطلقوا عليه اسم "حزب الرفاه" بعد أن أمكنهم تعديل قانوني سمح لهم بالعودة لممارسة العمل السياسي من العودة إلى الساحة السياسية.
ففي 16 مايو-أيار 1994م تقدم مدعي عام محكمة أمن الدولة بمذكَّرة اتهام ضد حزب الرفاه وزعيمه أربكان يتَّهمه بإثارة حرب أهلية، ويطالب في المذكرة بحلِّ حزب الرفاه، وبرفع الحصانة عن زعيمه أربكان الذي كان نائباً في البرلمان لمحاكمته، وكان الدليل الذي ساقه المدعي العام في اتهامه لأربكان مقطعاً من مقابلة صحفية في 13-4-1994م قال فيها: "حزبنا سيصل حتماً إلى السلطة، ولكن المسألة أن نعرف فيما إذا كان ذلك سيتم من دون إراقة دماء، والشعب هو الذي سيقرر..".(4/68)
وعلى الرغم من كل المكائد والعراقيل فقد مضى أربكان في قيادة التيار الإسلامي من فوز إلى فوز، فقد تمكَّن حزب الرفاه رغم مرور سنوات قليلة على تأسيسه من الحصول على (185) مقعداً في الانتخابات النيابية التي جرت في شهر كانون الأول- ديسمبر من عام 1996 ، ليصبح الحزب الأكبر في البرلمان التركي وعلى الساحة السياسية التركية، حيث حصل حزب الطريق القويم على (135) مقعداً، وحصل حزب الوطن الأم على (133) مقعداً، وحصل اليسار الديمقراطي على (75) مقعداً وتوزعت المقاعد المتبقية وعددها (49) مقعداً على أحزاب أخرى وعلى المستقلين.
وبعد هذا الفوز الكاسح الذي حققه حزب "الرفاه" في الانتخابات، وبعد كل تلك السنوات العجاف الطوال من المعاناة التي كابدها الإسلاميون في تركيا، تسلَّم البروفيسور أربكان في 8-6-1996م تكليفاً خطياً من رئيس الجمهورية التركية سليمان ديميريل لتشكيل حكومة جديدة يقودها الإسلاميون لأول مرة منذ الانقلاب الأتاتوركي، حيث شكَّل أربكان حكومة ائتلافية برئاسته بشراكةٍ مع حزب الطريق القويم بزعامة السيدة تانسو شيلر.
وكان ذلك بمثابة صاعقة نزلت على رؤوس العلمانيين والماسونيين الأتراك في داخل تركيا، وعلى رؤوس القوى المناهضة لهوية تركيا الإسلامية من أمريكان وصهاينة في خارج تركيا، ولم يكن غريباً أن تعمد القوى المعادية لهوية تركيا الإسلامية في داخل تركيا وخارجها إلى مواجهة الإعصار السياسي الذي يتهدد كل مخططاتها لإبقاء تركيا بعيدة عن جذورها الإسلامية وإلى تصعيد تآمرها على حزب الرفاه وعلى زعيمه أربكان، فشنَّت الصحافة التركية العلمانية والماسونية حملة تشويهٍ وتحريضٍ لم تشهد لها تركيا مثيلاً من قبل ضد الحزب وزعيمه، وساندتها وسائل الإعلام العالمية المتصهينة.
العلمانيون يغلقون حزب الرفاه.. والإسلاميون يشكِّلون الفضيلة :
لم تؤت هذه الحملات أكلها كما يشتهي العلمانيون والماسونيون الأتراك وكما تشتهي الصهيونية العالمية وحلفاؤهم، فتحرك جنرالات المؤسسة العسكرية التركية التي تعتبر نفسها حامية للعلمانية التي فرضها أتاتورك قسراً على تركيا من خلال مجلس الأمن القومي الذي كان قد تشكَّل في أعقاب انقلاب الجنرال جمال غورسيل في عام 1961م.
وكان هذا المجلس قد أطاح بحكومة عدنان مندريس آنذاك، فوجه المجلس الذي يسيطر عليه العسكريون رسالة في 28-2-1997م تحمل عباراتها التي صيغت بها لهجة الإنذار والوعيد لرئيس الوزراء أربكان الذي هو عضو في المجلس، تطلب منه تنفيذ عدد من الإجراءات الموجهة ضد نشاطات إسلامية، وضد مظاهر إسلامية كارتداء الحجاب، وضد مؤسسات إسلامية كمدارس الأئمة والخطباء ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم.
ومن اللافت للنظر أن يتزامن الإنذار الذي وجهه مجلس الأمن القومي لأربكان مع وجود رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال إسماعيل حقي قرضاي في الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين بزيارة رسمية ومعلنة.
وشهدت الأيام التي تلت إنذار جنرالات العلمانية لأربكان حالة من التوتر أربكت الساحة السياسية في تركيا، وزاد من حالة التوتُّر تصعيد جنرالات العلمانية لتهديداتهم ضد أربكان، وكانت الصحافة المتصهينة من علمانية وماسونية تصب البنزين على نيران حالة التوتر وتكتظ صفحاتها الأولى بالعناوين المثيرة كهذه العناوين التي أقدمها كنموذج:
- "الجنرالات يرفعون البطاقة الصفراء في وجه أربكان" (3-3-1997م)...!
- "الجيش التركي يستعرض عضلاته في إحدى ضواحي أنقرة التي كانت قد شهدت مظاهرة ضد (إسرائيل..)" (5-3-1997م).
- "رئاسة الأركان تؤكد أنها لن تنسجم إلا مع حكومة علمانية" (4-3-1997م).
- "الشرطة تغلق (18) مركزاً للتعليم الإسلامي" (29-4-1997م).
- "الجنرال كنعان دينتير يقول: تحطيم الأصولية الإسلامية في تركيا مسألة حياة أو موت بالنسبة إلينا" (30-4-1997م).
- "الجنرالات غير راضين عن الحكومة الإسلامية" (26-4-1997م).
- "مجلس الأمن التركي يتحدَّى أربكان بإصدار تقرير (70 صفحة) عن خطر الرجعية في تركيا على العلمانية" (1-3-1997م).
- "تركيا تواجه إمكانية وقوع انقلاب عسكري لطرد الإسلاميين من الحكم" (13-6-1997م).
- "الجيش يصدر لائحة سوداء بأسماء (600) مؤسسة صناعية وتجارية ويدعو الحكومة والشعب لمقاطعتها لأن الأصوليين يديرونها" (8-6-1997م).
- "الجيش يتَّهم حزب الرفاه علناً بدعم الأصولية وبالتحريض ضد العلمانية" (12-6-1997م).
- "محكمة عسكرية تأمر بتوقيف ثلاثة من مرافقي أربكان" (14-6-1997م).
- "الجيش يهدد باللجوء إلى السلاح لإزالة الخطر الأصولي على العلمانية" (12-6-1997م).
- "الإنذار الأخير من مجلس الأمن القومي لأربكان" (1-6-1997م).
- "تنامي قوة الرفاه تهديد للعلمانية" (4-9-1997م).
وعلى الجانب المقابل كان أربكان وحزب الرفاه يتصدُّون لحملات التهديد والوعيد، ففي تصريح أدلى به أربكان في 11-2-1997م وفسَّره المراقبون على أنه بمثابة رسالة تحدٍ لجنرالات العلمانية أكد أربكان عزم حكومته على بناء مسجد ضخم في ميدان "التقسيم" في إسطنبول حيث ينتصب أكبر تمثال لمصطفى كمال، وبناء مسجد آخر في أنقرة في منطقة "شانكايا" التي تحتضن مقار مؤسسات الجمهورية العلمانية الرسمية.
وبعد صدور إنذار جنرالات العلمانية بأيام أكَّد أربكان للصحافة أن العلمانية لا تعني قلَّة الدين.. في لفتة إيحائية ترمز إلى رفضه مطالب الجنرالات التي كانت موجهة ضد المؤسسات والنشاطات الإسلامية.(4/69)
وفي 9-3-1997م، أي بعد أسبوع من إنذار الجنرالات حذَّر أربكان في تصريح صحفي الجيش من محاربة الإسلام، مؤكداً أنه لا يمكن لأحد أن يقضي على شعب مؤمن.
وفي 11-6-1997م صرَّح أربكان بأنه سيحتكم إلى الشعب التركي إذا أصرَّ الجنرالات على مطالبهم..
وفي 5-11-1997م افتتح أربكان اجتماعاً ضم ممثلين لثماني دول إسلامية لبحث إمكانية تشكيل سوق إسلامية مشتركة، واعتبر العلمانيون والماسونيُّون اللقاء بمثابة إعلان حرب جديد على النظام العلماني، فطفقوا في محافلهم وصحافتهم يهاجمون أربكان ويتهمونه بمعاداة العلمانية وبمحاولة إعادة تركيا إلى الإسلام.
وكانت الدول المشتركة في اللقاء هي باكستان وإيران ومصر وماليزيا ونيجيريا وبنجلادش وإندونيسيا وتركيا.
الجنرالات يتراجعون ظاهرياً :
واستمر الشدُّ والجذب بين جنرالات العلمانية تدعمهم الصحافة العلمانية والماسونية وبين حكومة الائتلاف برئاسة نجم الدين أربكان، وعندما وجد الجنرالات أن موقف الحكومة بشريكيها حزب الرفاه وحزب الوطن الأم بزعامة تانسو تشيللر لم يتضعضع أمام تهديدهم ووعيدهم، قبلوا بحًّلٍ وسط أن تُعتبر المطالب التي وردت في إنذارهم لأربكان توصيات وليست أوامر واجبة التنفيذ فوراً.
ولم يستسلم العلمانيون والماسونيون أمام فشل إنذار جنرالات العلمانية بالإطاحة بأربكان، فعمدوا إلى الكيد بحزب الرفاه ليلحقوه بغيره من الأحزاب التي أسسها أربكان، ويغلقوه كما أغلقوها، واستبقوا المكيدة بمكيدة تمكنوا بواسطتها من فرط شراكة حزب الوطن الأم بزعامة تانسو تشيللر مع الرفاه بزعامة أربكان، وأدى انفراط شراكة الحزبين إلى استقالة الحكومة في أوائل شهر يونيو من عام 1997م.
وفي 9-6-1997م تقدم المدَّعي العام بدعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية، مطالباً بحل حزب الرفاه بتهمة العمل على تغيير النظام العلماني في تركيا.
وفي شهر يناير من عام 1997م أصدرت المحكمة الدستورية حكماً بحل الرفاه، وبمنع أربكان وعدد من قادة الحزب من العمل السياسي لمدة خمس سنوات.
تشكيل الفضيلة:
لم يكن قرار المحكمة الدستورية بحل حزب الرفاه مفاجئاً للإسلاميين، بل كانوا يتوقعونه في أية لحظة، وكان أربكان يخطط لمواجهة هذا الموقف عند حدوثه، فوضع مشروعاً لتأسيس حزب يخلف الرفاه في حالة حلّه، واقترح اسم "حزب السعادة" للحزب المقترح.
ولما صدر قرار حلّ حزب الرفاه لم يتمكن أربكان بسبب منعه من العمل السياسي من تأسيس الحزب الجديد، فقام بتشكيله عدد من قادة الرفاه الذين لم يصدر بحقهم حكم بمنعهم من العمل السياسي، فأسسوا حزباً جديداً أطلقوا عليه اسم "حزب الفضيلة" برئاسة إسماعيل ألب تكين الذي تخلَّى عن زعامة الحزب لإفساح المجال أمام انتخاب رجائي قوطان رئيساً للحزب في المؤتمر الطارئ للحزب الذي انعقد في 14-5-1998م.
وجدَّد الحزب انتخاب قوطان رئيساً له في مؤتمره العام المنعقد في 14-5-2000م، ونال قوطان (632) صوتاً من أصوات المندوبين المشاركين في المؤتمر مقابل (521) صوتاً نالها منافسه عبدالله جول وزير الخارجية حالياً ، وكانت هذه المنافسة أول بوادر الانشقاق الذي سيظهر فيما بعد في الصف الإسلامي على الساحة الحزبية التركية.
تهديدات جديدة:
وكعادتهم، سارع العلمانيون والماسونيون للكيد لحزب الفضيلة ليلحقوه بمن سبقه من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي فيغلقوه كما أغلقوها، فشنُّوا عليه حملة تحريض عبَّرت عنها أبلغ تعبير وكالة أنباء رويترز في تعليقٍ لها على الأوضاع في تركيا بثَّته في 13-10-1998م قالت فيه حرفياً: "منذ شهر يناير الماضي (1997م) عندما حظرت المحكمة الدستورية حزب الرفاه، أمطر المدَّعون العامُّون العلمانيون زخَّات الاتهامات ضد شخصيات إسلامية بارزة في حزب الفضيلة الذي تشكل بعد إغلاق حزب الرفاه بدعوى تهديدهم للنظام الرسمي العلماني".
وجاء تعليق "رويترز" بمناسبة قيام المدَّعي العام باستجواب رئيس حزب الفضيلة رجائي قوطان بتهمة معاداة العلمانية.
وصعَّد العلمانيون والماسونيون حملتهم ضد حزب الفضيلة الذي كان لا يزال قوة برلمانية تضم حوالي (110) نواب كانوا يشكلون الكتلة النيابية لحزب الرفاه قبل حلِّه، وتوزعت الحملة العلمانية الماسونية على أكثر من اتجاه: فمن ملاحقات قضائية، إلى تهديدات من جنرالات العلمانية، إلى مضايقات وملاحقات حكومية من الحكومة التي أصبح على رأسها بولنت أجاويد المعروف بعدائه للإسلاميين، إلى حملة إعلامية تشهيرية في الصحافة العلمانية والماسونية.
جنرالات العلمانية يُجهِضونَ قانوناً يمكِّن أربكان من العودة للعمل السياسي :
في محاولتهم لإلحاق حزب الفضيلة بما سبقه من الأحزاب الإسلامية عن طريق حلِّه، شدَّد العلمانيون والماسونيون حملاتهم التشهيرية ضد حزب الفضيلة وزعيمه أربكان.
وهذه نماذج من صنوف حملة العلمانيين والماسونيين ضد حزب "الفضيلة":
- في 30-11-1998م حذَّر رئيس الحكومة التركي بولنت أجاويد من خطر قيام حكومة إسلامية في تركيا.
- في 10-1-1999م أصدر جنرالات العلمانية تقريراً من (14) صفحة يتَّهم حزب الفضيلة ومن أسماهم ب (الرجعيين) بتهديد الديموقراطية في تركيا، ويحذِّر الحزب من معاداة العلمانية.
- في 19-3-1999م حذَّر رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال حسين كيوريك أوغلو من محاولة نواب حزب الفضيلة تعديل القوانين لصالح رفع حظر العمل السياسي عن أربكان وإخوانه من قادة "حزب الرفاه" المنحل.
- في 5-9-1999م صرَّح الجنرال حسين كيوريك أوغلو بأن الجيش سيواصل المعركة مع الإسلاميين الأصوليين لمدة ألف عام إذا لزم الأمر!(4/70)
في 4-2-1999م وجَّه رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد توجيهات إلى المدَّعين العامين والمحافظين وقوى الأمن في جميع أنحاء تركيا لملاحقة "الرجعيين" الذين يستغلون الدين في السياسة.
- ووصفت صحيفة "صباح" العلمانية خطوة أجاويد بأنها لطمة قوية "للرجعيين".
- في 11-2-2000م طردت وزارة التربية "300" معلمة من مدارسها رفضن خلع الحجاب بموجب القانون الذي حظر ارتداءه في المدارس والجامعات والوزارات والدوائر الرسمية.
- في 21-9-1999م جرَّدت محكمة تركية النائبة عن حزب الفضيلة مروة قاوقجي من جنسيتها التركية بسبب تحدِّيها للقوانين العلمانية، ولدخولها إلى قاعة مجلس النواب مرتدية الحجاب الإسلامي.
منع أربكان من العمل السياسي:
حرص العلمانيون على تشديد حصارهم حول البروفيسور نجم الدين أربكان، ولم يكتفوا بالحكم الصادر من قبل بمنعه من العمل السياسي، فقد كان العلمانيون والماسونيون يحسبون مليون حساب لعودة أربكان لممارسة العمل السياسي، لما له من قدرةٍ فائقة على استقطاب الجماهير، ولذلك حرصوا على إبقائه بعيداً عن الساحة السياسية، ففي 5-7-2000م أكدت محكمة التمييز حكماً كانت قد أصدرته محكمة أمن الدولة في مدينة "ديار بكر" بالسجن لمدة عام لأربكان بتهمة التحريض على الكراهية الدينية والعرقية، وحرمانه من العمل السياسي مدى الحياة، واستندت المحكمة في حكمها إلى خطاب قديم كان أربكان قد ألقاه في مهرجان انتخابي في عام 1994م.
وفي اليوم التالي 6-7-2000م أصدرت المحكمة الدستورية قراراً بحرمان أربكان من العمل السياسي مدى الحياة بعد تأكيد محكمة التمييز لحكم محكمة أمن الدولة في ديار بكر.
حظر الفضيلة:
في 22-6-2001م أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بحل حزب الفضيلة وعلَّلت قرارها بأن الحزب ارتكب هده المخالفات:
- أنه امتداد لحزب الرفاه المنحل بحكم قضائي، والدستور التركي بحظر تشكيل حزب جديد بدلاً من آخر تمَّ حلّه.
- أصبح حزب الفضيلة بؤرةً للنشاط ضد العلمانية.
- تجرأت النائبة عن الحزب مروة قاوقجي على تحدِّي القوانين العلمانية بدخولها مجلس النواب وهي ترتدي الحجاب، وقام أعضاء الحزب بتشجيعها بالتصفيق لها.
- قام نواب الحزب بالاحتجاج على قانون منع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات والوزارات والدوائر الحكومية وحرَّضوا الشعب ضد القرار.
- أصدر الحزب كتاباً يدافع عن حق مروه قاوقجي في تحدي قوانين الدولة العلمانية.
انقسام الإسلاميين :
بعد صدور قرار المحكمة الدستورية بحلِّ حزب الفضيلة تشكل حزبان جديدان على أنقاضه: الأول حزب السعادة بزعامة رجائي قوطان رئيس حزب الفضيلة المنحل، والثاني حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيِّب أردوغان رئيس بلدية إسطنبول وعبد الله غول منافس قوطان على زعامة حزب الفضيلة في المؤتمر العام للحزب المنعقد في 14-5-2000
وتوزع نواب حزب الفضيلة على الحزبين فانحاز (51) نائباً لحزب العدالة والتنمية، وانحاز (48) نائباً لحزب السعادة وصدر حكم قضائي بإسقاط عضوية عدد من نواب الحزب.
وعندما أجريت الانتخابات النيابية في 3-11-2002م لم يتمكن حزب السعادة من دخول المجلس النيابي بسبب فشلة في الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين، واكتسح حزب العدالة والتنمية الانتخابات فحصل على (363) مقعداً من (550) مقعداً هي مقاعد المجلس.
ومن المؤسف أن حكماً جديداً صدر ضد البروفيسور نجم الدين أربكان بالسجن وأيدت هذا الحكم المحكمة العليا في عهد حكومة السيد رجب طيِّب أردوغان الذي تتلمذ على يد البروفيسور أربكان في حزب الرفاة ثم في حزب الفضيلة.
من المستفيد؟
لم يعد سراً أن الحملة التي مافتئ يتعرض لها البروفيسور نجم الدين أربكان منذ انخراطه في النشاط الصناعي ثم السياسي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم تقف وراءها جهات عديدة لها مصلحة في تغييب أربكان عن الساحة السياسية في تركيا، ونستطيع من غير تردد أن نكتشف أن المستفيد الأول من إقصاء أربكان هم أعداء المشروع الإسلامي بشكل عام، والمتضررون من استعادة تركيا لهويتها الإسلامية بشكل خاص، وهؤلاء لم يعودوا يخْفَونَ على أحد، إنهم اليهود وواجهتهم السياسية الصهيونية العالمية، وإفرازاتهم في تركيا من يهود الدونمه والمحافل الماسونية والصحافة العلمانية والمرتزقة العلمانيون، ومن بعد هؤلاء يأتي حلفاء اليهود من أمريكان وأوروبيين متصهينين.
فهؤلاء جميعاً وجدوا، وما فتئوا يجدون في أربكان خطراً على مخططاتهم لإبقاء تركيا منسلخة عن جذورها الإسلامية، مثلما يرون في أربكان خطراً على وجود تنظيماتهم، ومحافلهم السريَّة، وصحافتهم المتصهينة، ومؤسساتهم الاقتصادية والمالية الخانقة لقدرات الشعب التركي والمتحكمة في لقمة عيشه.
وهؤلاء لا ينسون ولن ينسوا مواقف أربكان والأحزاب التي أسَّسها في المجاهرة بعدائهم للصهيونية وللمحافل الماسونية وللمخططات الأمريكية للسيطرة على ثروات الأمة الإسلامية.
إنَّه نجم الدين أربكان الذي شهدت العلاقات التركية العربية أول عملية تقارب حقيقي يوم أن كان نائباً لرئيس وزراء تركيا ثم رئيساً لوزرائها، فقد كان أول شرط له للدخول في ائتلاف حكومي مع حزب العدالة أولاً ثم حزب الشعب الجمهوري ثانياً، ثم مع حزب الوطن الأم ثالثاً أن تُعطى العلاقات العربية التركية أهمية خاصة بحكم ما يربط العرب والأتراك من وشيجة الدين والعقيدة.
إنَّه نجم الدين أربكان الذي قدَّم في شهر أغسطس من عام 1980م مشروع قانون إلى مجلس النواب التركي يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.(4/71)
إنَّه نجم الدين أربكان الذي أصرَّ على أن تصدر الحكومة التركية احتجاجاً رسمياً ضد إقدام (إسرائيل) على إعلان ضم القدس العربية إلى الكيان الصهيوني وإعلانها عاصمة ل(إسرائيل).
إنَّه نجم الدين أربكان الذي قدَّم اقتراحاً بحجب الثقة عن وزير الخارجية التركي آنذاك خير الدين أركمان بسبب سياسته المؤيِّدة للكيان الصهيوني، والمعادية للعرب، وقد نجح أربكان وحزبه في طرد أركمان من وزارة الخارجية التركية.
إنَّه نجم الدين أربكان الذي كانت ترتفع في كل المهرجانات التي كانت تقيمها الأحزاب التي أسسها هتافات (كهرواولسون إسرائيل) تسقط إسرائيل إلى عنان السماء.
إنَّه نجم الدين أربكان الذي حاول أثناء رئاسته للحكومة إغلاق المحافل الماسونية وأندية الليونز والروتاري الماسونية.
إنَّه نجم الدين أربكان، محامي فلسطين في تركيا، الذي كان يقول دائماً:
"إن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، و لا للعرب وحدهم، و إنما للمسلمين جميعاً".
إنه نجم الدين أربكان، الذي قاد نصف مليون تركي غاضب في مدينة قونية في شهر أغسطس من عام 1980م، يتقدمهم مجسَّمٌ ضخمٌ لقبَّة الصخرة المشرَّفة، يعلنون تضامنهم مع إخوانهم أهل فلسطين، ويطالبون بقطع جميع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع الكيان الصهيوني، وكانت هذه المظاهرة من أجل فلسطين سبباً في قيام جنرالات العلمانية بانقلاب عسكري وسجن أربكان، ومنع النشاط الإسلامي في تركيا.
إنه نجم الدين أربكان الذي طالب نواب حزبه (حزب السلامة) في 27-3-1974م تحت قبة البرلمان، ولأول مرة في تاريخها بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها.
نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية في أربعة أعداد 1936 وما بعدها..
===================
الشهيد أحمد ياسين
يتمتع الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس بموقع روحي وسياسي متميز في صفوف المقاومة الفلسطينية، مما جعل منه واحدا من أهم رموز العمل الوطني الفلسطيني طوال القرن الماضي.
المولد و النشأة :
ولد أحمد إسماعيل ياسين في قرية تاريخية عريقة تسمى جورة عسقلان في يونيو/ حزيران 1936، وهو العام الذي شهد أول ثورة مسلحة ضد النفوذ الصهيوني المتزايد داخل الأراضي الفلسطينية. مات والده وعمره لم يتجاوز خمس سنوات.
عايش أحمد ياسين الهزيمة العربية الكبرى المسماة بالنكبة عام 1948 وكان يبلغ من العمر آنذاك 12 عاما، وخرج منها بدرس أثر في حياته الفكرية والسياسية فيما بعد مؤداه أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم عن طريق تسليح الشعب أجدى من الاعتماد على الغير سواء كان هذا الغير الدول العربية المجاورة أو المجتمع الدولي.
ويتحدث الشيخ ياسين عن تلك الحقبة فيقول: " لقد نزعت الجيوش العربية التي جاءت تحارب إسرائيل السلاح من أيدينا بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوة الجيوش، فارتبط مصيرنا بها، ولما هزمت هزمنا وراحت العصابات الصهيونية ترتكب المجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحتنا بأيدينا لتغيرت مجريات الأحداث ".
خشونة العيش :
التحق أحمد ياسين بمدرسة الجورة الابتدائية وواصل الدراسة بها حتى الصف الخامس، لكن النكبة التي ألمت بفلسطين وشردت أهلها عام 1948 لم تستثن هذا الطفل الصغير فقد أجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزة، وهناك تغيرت الأحوال وعانت الأسرة -شأنها شأن معظم المهاجرين آنذاك- مرارة الفقر والجوع والحرمان، فكان يذهب إلى معسكرات الجيش المصري مع بعض أقرانه لأخذ ما يزيد عن حاجة الجنود ليطعموا به أهليهم وذويهم، وترك الدراسة لمدة عام (1949-1950) ليعين أسرته المكونة من سبعة أفراد عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزة، ثم عاود الدراسة مرة أخرى.
شلله :
في السادسة عشرة من عمره تعرض أحمد ياسين لحادثة خطيرة أثرت في حياته كلها منذ ذلك الوقت وحتى الآن، فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء لعبه مع بعض أقرانه عام 1952، وبعد 45 يوما من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس اتضح بعدها أنه سيعيش بقية عمره رهين الشلل الذي أصيب به في تلك الفترة.
وما زال يعاني إضافة إلى الشلل التام من أمراض عديدة منها فقدان البصر في العين اليمنى بعدما أصيبت بضربة أثناء جولة من التحقيق على يد المخابرات الإسرائيلية فترة سجنه، وضعف شديد في قدرة إبصار العين اليسرى، والتهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتين وبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى.
العمل مدرسا :
أنهى أحمد ياسين دراسته الثانوية في العام الدراسي 57/1958 ونجح في الحصول على فرصة عمل رغم الاعتراض عليه في البداية بسبب حالته الصحية، وكان معظم دخله من مهنة التدريس يذهب لمساعدة أسرته.
نشاطه السياسي :
شارك أحمد ياسين وهو في العشرين من العمر في المظاهرات التي اندلعت في غزة احتجاجا على العدوان الثلاثي الذي استهدف مصر عام 1956 ، وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة، حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلى رفض الإشراف الدولي على غزة مؤكدا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم.
الاعتقال :(4/72)
كانت مواهب أحمد ياسين الخطابية قد بدأت تظهر بقوة، ومعها بدأ نجمه يلمع وسط دعاة غزة، الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملة هناك، فقررت عام 1965 اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسية المصرية والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، وظل حبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر ثم أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجود علاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان. وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارا مهمة لخصها بقوله "إنها عمقت في نفسه كراهية الظلم، وأكدت (فترة الاعتقال) أن شرعية أي سلطة تقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية".
هزيمة 1967 :
بعد هزيمة 1967 التي احتلت فيها إسرائيل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة استمر الشيخ أحمد ياسين في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كان يخطب فيه لمقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداء والمعتقلين، ثم عمل بعد ذلك رئيسا للمجمع الإسلامي في غزة.
الانتماء الفكري :
يعتنق الشيخ أحمد ياسين أفكار جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر على يد الإمام حسن البنا عام 1928، والتي تدعو -كما تقول- إلى فهم الإسلام فهما صحيحا والشمول في تطبيقه في شتى مناحي الحياة.
ملاحقات إسرائيلية :
أزعج النشاط الدعوي للشيخ أحمد ياسين السلطات الإسرائيلية فأمرت عام 1982 باعتقاله ووجهت إليه تهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة وأصدرت عليه حكما بالسجن 13 عاما، لكنها عادت وأطلقت سراحه عام 1985 في إطار عملية لتبادل الأسرى بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين "القيادة العامة".
تأسيس حركة حماس :
اتفق الشيخ أحمد ياسين عام 1987 مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي الذين يعتنقون أفكار الإخوان المسلمين في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي لمحاربة الاحتلال الإسرائيلي بغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه اسم "حركة المقاومة الإسلامية" المعروفة اختصارا باسم "حماس"، وكان له دور مهم في الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت آنذاك والتي اشتهرت بانتفاضة المساجد، ومنذ ذلك الوقت والشيخ ياسين يعتبر الزعيم الروحي لتلك الحركة.
عودة الملاحقات الإسرائيلية :
مع تصاعد أعمال الانتفاضة بدأت السلطات الإسرائيلية التفكير في وسيلة لإيقاف نشاط الشيخ أحمد ياسين، فقامت في أغسطس/آب 1988 بمداهمة منزله وتفتيشه وهددته بالنفي إلى لبنان. ولما ازدادت عمليات قتل الجنود الإسرائيليين واغتيال العملاء الفلسطينيين قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي يوم 18 مايو/أيار 1989 باعتقاله مع المئات من أعضاء حركة حماس. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 1991 أصدرت إحدى المحاكم العسكرية حكما بسجنه مدى الحياة إضافة إلى 15 عاما أخرى، وجاء في لائحة الاتهام أن هذه التهم بسبب التحريض على اختطاف وقتل جنود إسرائيليين وتأسيس حركة حماس وجهازيها العسكري والأمني.
محاولات الإفراج عنه :
حاولت مجموعة فدائية تابعة لكتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحماس- الإفراج عن الشيخ ياسين وبعض المعتقلين المسنين الآخرين، فقامت بخطف جندي إسرائيلي قرب القدس يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1992 وعرضت على إسرائيل مبادلته نظير الإفراج عن هؤلاء المعتقلين، لكن السلطات الإسرائيلية رفضت العرض وقامت بشن هجوم على مكان احتجاز الجندي مما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة الإسرائيلية المهاجمة ومقتل قائد مجموعة الفدائيين.
وفي عملية تبادل أخرى في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1997 جرت بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل في أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة عمان وإلقاء السلطات الأمنية الأردنية القبض على اثنين من عملاء الموساد سلمتهما لإسرائيل مقابل إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، أفرج عن الشيخ وعادت إليه حريته منذ ذلك التاريخ.
الإقامة الجبرية :
وبسبب اختلاف سياسة حماس عن السلطة كثيراً ما كانت تلجا السلطة للضغط على حماس، وفي هذا السياق فرضت السلطة الفلسطينية أكثر من مرة على الشيخ أحمد ياسين الإقامة الجبرية مع إقرارها بأهميته للمقاومة الفلسطينية وللحياة السياسية الفلسطينية.
محاولة الاغتيال :
قد تعرض الشيخ أحمد ياسين في 6 سبتمبر/ أيلول 2003 لمحاولة اغتيال إسرائيلية حين استهداف مروحيات إسرائيلية شقة في غزة كان يوجد بها الشيخ وكان يرافقه إسماعيل هنية. ولم يكن إصاباته بجروح طفيفة في ذراعه الأيمن بالقاتلة.
استشهاده :
شيع آلاف الفلسطينيين اليوم مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد الشيخ أحمد ياسين ورفاقه الذين استشهدوا معه في غارة إسرائيلية استهدفتهم عقب خروجهم من صلاة الفجر اليوم بحي صبرا في غزة وسط غضب ودعوات بالانتقام والثأر.
وما أن شاع نبأ استشهاد الشيخ ياسين حتى خرج عشرات الآلاف من الفلسطينيين الغاضبين إلى الشوارع وهم يهتفون بدعوات الانتقام ومواصلة المقاومة والعمليات الفدائية.
ووصف مراسلو الجزيرة الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة بأنها متوترة جدا، وقالوا: إن حالة من الغليان الشديد والصدمة تسيطر على الفلسطينيين الذين خرجوا إلى الشوارع وقاموا بمسيرات غاضبة.(4/73)
ودعت المساجد في الضفة والقطاع إلى الإضراب العام وقد أخذت مكبرات الصوت في مساجد غزة تصدح بتلاوة القرآن الكريم بينما سمعت أصوات إطلاق نار في حي صبرا الذي يسكنه الشيخ ياسين. وأغلقت المتاجر والمدارس بشكل تلقائي في وقت سابق في غزة. كما أعلن الحداد العام في الأراضي الفلسطينية لمدة ثلاثة أيام فيما علقت الدراسة في كافة المدارس.
وقالت حماس : إن مقاتلات إسرائيلية أطلقت عدة صواريخ استهدفت بشكل مباشر الشيخ ياسين بينما كان الشيخ عائدا من أداء صلاة الفجر في المسجد القريب من منزله في حي صبرا بغزة.
وقالت مصادر فلسطينية: إن اثنين من مرافقي الشيخ ياسين كانا يدفعان كرسيه المتحرك عندما استهدفه أحد الصواريخ بشكل مباشر فاستشهدوا جميعا على الفور.
وأكد بيان لقوات الاحتلال أنها اغتالت الشيخ ياسين في غارة جوية بغزة في ساعات الصباح الباكر اليوم، وقال إنه كان مسؤولاً بشكل مباشر عن عشرات من عمليات المقاومة المسلحة. وقالت مصادر إسرائيلية إن رئيس الوزراء أرييل شارون أمر شخصيا باغتيال الشيخ ياسين.
_________
المصدر:
1- الشيخ أحمد ياسين، برنامج شاهد على العصر
2- الشيخ المجاهد أحمد ياسين، المركز الفلسطيني للإعلام
نقلا عن : http://www.aljazeera.net/in-depth/twoyearintifada/2002/9/9-23-8.htm
=============
عثمان بن محمد فوديو
لم ينقطع ظهور حركات الإصلاح التي كانت تسعى إلى بناء مشروعات للنهضة على أساس من الدين ، في تاريخ القارة السمراء ، وإذا ذكرت حركات الإصلاح الدينية في إفريقيا (قارة الإسلام) يأتي في مقدمتها على الإطلاق حركة الشيخ (عثمان دان فوديو) التي نمت في بلاد الهوسا والفولاني بين شمال نيجيريا وما يعرف اليوم بـ ( تشاد) وأدت إلى قيام دولة إسلامية على امتداد ما يقارب قرنا من الزمن ، بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وهي الحركة التي كان لمؤسسها الأثر الحاسم في إرساء دعائم الدعوة في تلك المنطقة ، بل في القارة الإفريقية بكاملها.
نشأته في بيئة علم :
ولد الشيخ (عثمان بن محمد فوديو) على الأرجح عام 1168 للهجرة الموافق 15 ديسمبر من عام 1754م ، واسم فوديو الذي اشتهر به والده يعني بلغة الفولانيين الفقيه ، وكانت ولادته في قرية (تغل) بمنطقة (غوبر) إحدى مناطق بلاد (الهوسا).
نشأ (الشيخ عثمان) في حجر والدين صالحين كانا لهما الفضل الكبير في توجيهه إلى العلم والدين الذي أولع به منذ أن عرف الحلم ، إذ هداه الله إلى نور الإيمان وأضاء به قلبه ، فأدرك ما يعانيه شعبه من مآس وفتن نتيجة سيادة الأفكار الخاطئة وآثار الجاهلية الخبيثة ، فعمل بوعي وتصميم على تغيير هذا الواقع ، ففتح الله على يديه بلاداً واسعة وشعوباً كثيرة ، وأسس حركته التي ما زالت آثارها باقية إلى وقتنا الحالي.
وكان يفتخر في كثير من المناسبات بدور والدته (حواء) وجدته (رقية) في تعليمه صغيراً ، وهو ما يعكس المستوى العلمي الذي كانت عليه عائلته ، خاصة نساءها اللواتي كن على مستوى عال من العلم والمعرفة.
ومن أشهر أساتذته الشيخ (جبريل) الذي قام بواجبه تجاه تلميذه مرتين : الأولى عندما قدم للشيخ علوماً مفيدة ساهمت في تكوين شخصيته العلمية والسياسية ، والثانية عندما كان أول من بايعه على الجهاد في سبيل نشر الإسلام في تلك المنطقة ، واعترف له بالولاية وعقد له الراية ، وفي المقابل لم يكن (الشيخ) أقل سمواً من معلمه : فقد كان يردد بشكل دائم هذا البيت من الشعر :
إن قيل في بحسن الظن ما قيل فموجة أنا من أمواج جبريلا
الدعوة في الأوساط الوثنية:
وفي وسط بيئة تسودها الأفكار والعادات والتقاليد الجاهلية ، بدأ الشيخ عثمان بن فوديو عمله الشاق في الدعوة إلى الله ، حيث كان المجتمع تحكمه مجموعة من الملوك والأمراء الذين يتطاحنون على حق السيادة ، ويتنازعون على الأرض والأرزاق واستعباد الناس ، فقد عرفت المناطق الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء عصراً من عصور الملكية المطلقة ، تميز بالصراعات التي أودت بحياة الكثير من أبنائها ، بسبب سيادة الأفكار القبلية التي لا مجال معها للوحدة بين القبائل دون غالب أو مغلوب ، بحيث تستمر حلقات الصراع القبلي دون توقف ، مع ما يرافق ذلك من سيادة العقلية الحربية التي تضع شرائح كبيرة من المجتمع في دائرة الاستضعاف ، وتحول دون التفكير في بناء وحدة تحت راية واحدة ولغة واحدة وأهداف واحدة ، وبالتالي إنتاج حالة أكثر تقدماً مما كان موجوداً سابقاً ، لا سيما أن هؤلاء الملوك كانوا على عقائد وثنية متخلفة ، ما زالت بقاياها قائمة حتى أيامنا هذه عبر ما يسمى بالعقائد الأرواحية التقليدية.
فمن العادات التي كانت سائدة على سبيل المثال أنه كان لهؤلاء الملوك والسلاطين أماكن خاصة يؤمنون بضرورة تقديم الأضاحي البشرية لها مثل الغابات والصخور الكبيرة والبحر. معتقدين أن هذه العادات هي مصدر قوتهم ، لا ينبغي التخلي عنها وإلا ضعفت شوكتهم وقلت أرزاقهم. كما كانوا يؤمنون كذلك بأن الحكم السياسي هو استمرار لإدارة الأسلاف التي يجسدها الملك الذي يستمد قوته من فرض إرادته على الناس من خلال ادعائه بوجود اتصال روحاني مع هؤلاء الأسلاف : الأمر الذي يبرر حكمه المطلق الذي لا مجال للخروج عنه.(4/74)
ورغم أن الإسلام دخل هذه المنطقة منذ مئات السنين ، إلا أنه لم يكن يتجاوز حدود الدعاية للسلاطين وتبرير تصرفاتهم من خلال وعاظهم والسحرة والمشعوذين ، وإن كانت هناك بعض الممارسات الدينية كالعبادات وقراءة القرآن الكريم وتقبل العطاءات باعتبارها وسيلة لبلوغ الحوائج ، ولعل بعض المسلمين كانوا يجدون في بضع الطرق الصوفية ملاذاً مشوهاً للتدين.
مرحلة الجهاد القولي:
في مثل هذه الأوضاع الدينية والسياسية ، بدأ الشيخ ابن فوديو دعوته ، حيث أخذ على عاتقه مهمة تحرير شعبه من سيادة الأفكار الجاهلية المتخلفة ، ومن سيطرة السلاطين الجبابرة : الأمر الذي أفضى إلى إقامة دولة إسلامية استمرت أكثر من مائة سنة في تلك البلاد البعيدة عن مركز الدولة الإسلامية دون أي تدخل خارجي.
لقد بدأ (الشيخ) دعوته بما أسماه في أدبياته (الجهاد القولي) الذي قام على النصح والإرشاد ورفع المستوى التعليمي ومستوى الوعي الاجتماعي العام لدى الناس ، حيث أرسل رسائل إلى كل فئات المجتمع يدعوها إلى الله ، موضحاً أهمية الإسلام في إحياء الأمة وخلاصها من مشاكلها الواقعية التي تعيشها.
وقد ركز في أسلوب دعوته خلال هذه المرحلة على استخدام عنصرين مهمين :
أولهما التركيز على موضوع المرأة في النموذج الإسلامي ، والفرق بينهما وبين المرأة في النموذج الجاهلي المتخلف ، مستفيداً من مساهمة الكثير من السيدات المسلمات في حركة النهضة التي قادها الشيخ ، وهي القضية التي أظهرت تحدياً كبيراً للأفكار السائدة من خلال دعوة المرأة إلى التحرر من الاستعباد الحقيقي الذي تعيشه في ظل الوضع السائد.
وثانيهما اعتماده على استخدام الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية المعروفة في تلك البلاد والمحببة إلى القلوب ، وفي هذا المجال كان مبدعاً في تأليف كمية كبيرة من القصائد والموشحات ذات المضمون الأخلاقي والعلمي والإرشادي باللغات المحلية ، وقد كانت هذه القصائد تنتقل من ألسنة الدعاة إلى ألسنة العامة. وما زال كثير منها محفوظاً حتى اليوم ، خاصة إذا علمنا أن الثقافة الإفريقية تنتقل عن طريق الحفظ والرواية لا عن طريق الكتابة والتدوين.
وقد استمرت هذه المرحلة من عام 1774 حتى 1803 أي حوالي 30 سنة من الدعوة والبناء السليم لحركة الدعاة والمبلغين والتحدي الأخلاقي والفكري والاجتماعي للمجتمع القائم ، دون اللجوء إلى أسلوب المواجهة المباشرة ، بل عرف عنه في تلك المرحلة تشديده على الدعاة بعدم الدخول في صدام مع القوى المسيطرة وقد ألف في هذه المرحلة الكثير من المؤلفات الهادفة والدراسات القيمة.
وكان ينتقل بين المدن والقرى بنفسه وانتهت هذه المرحلة بتأسيس المجموعة الأساسية من الأتباع أو من أسماهم بالطلبة بهدف نشر الصورة الصحيحة للإسلام وتقديم النموذج الأرقى للدين القويم ، وفضح علماء السوء الذين كانوا يرون المنكر ولا يغيرونه بأي شكل من أشكال التغيير المتاحة.
بناء الدولة المسلمة:
وبهذا المنهج الدعوي السليم آتت دعوة الشيخ الطيبة ثمارها اليانعة ، حيث بدأ المواطنون يعلنون رفضهم للأوامر التي تتنافى مع تعاليم الإسلام ، خاصة في أوساط الشباب الذين أدركوا أن الصراعات القائمة في مجتمعهم إنما تعود أسبابها إلى السرقة والتعدي ونهب المحاصيل أو الثروات الحيوانية ، حتى الفتيات بدأن يرفضن ما يؤمرن به إذا كان منافياً لأحكام الدين الحنيف ، مما دفع ملك المنطقة إلى المطالبة بمغادرة (الشيخ) خوفاً من أن يسحب البساط من تحت قدميه ، غير أن (الشيخ) كان قد اتخذ قراره بالهجرة مع مجموعته كلها ، وأصدر فتوى في ذلك أذيعت في مختلف الأمصار ، وما إن انتقلت الأخبار إلى المدن المجاورة ، حتى تجمع المؤمنون من كافة أنحاء البلاد لبناء مجتمع قائم على الحكم الإسلامي.
استمرت هذه المرحلة إلى عام 1808 وتوطدت خلالها دعائم الحكم الإسلامي ، حيث وضع نظاماً إدارياً متقدماً مستمدا من النظم الإسلامية ووحد البلاد تحت راية واحدة وجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية ، واستمرت هذه الدولة حوالي مائة سنة حتى دخول الاستعمار البريطاني إلى تلك المنطقة ، حيث قرر الملك الآنف الذكر أن يجهز جيشاً لمقاتلة المجموعة المؤمنة ، فالتقى الجيشان وانتهت المعركة بنصر جيش المسلمين ، فكانت هذه المعركة جولة حاسمة انهار على أثرها الكثير من الجيوش والممالك الصغيرة بالقتال أو الترهيب ، وفي هذه المرحلة التي عرفت بمرحلة الجهاد المسلح ، تمت الخطوة الحاسمة التي لم يكن بالإمكان أن يستقيم الوضع دونها ألا وهي مبايعة الشيخ قائداً وإماماً على سنة الله ورسوله.
خصائص حركة ابن فوديو:
لقد نجح الشيخ في تغيير مجتمعه وإقامة شرع الله فيه على طريقة الشيخ الولي المعروفة عند الطرق الصوفية ، ولكنه أبدع في تحويلها إلى حركة إيجابية قادرة على استنهاض الطاقات الكامنة داخل الأمة عبر إحياء روح الجهاد والشهادة في سبيل الله ، بعد أن كانت تعرف بعزوفها عن التدخل المباشر في قضايا الحكم والدولة.
وقد اعتمد في حركته على مبدأ الولاية المكتسبة بالعلم والخبرة ، والمعززة بالمبايعة من قبل العلماء ووجوه الأمة ، والمرتكزة على اطمئنان الجمهور المتواصل لقيادته بشكل دائم.(4/75)
ولم ينتحل الشيخ أية دعوة خاصة على الطريقة الفاطمية أو المهدوية ، بل استمر في الدعوة إلى المنابع الأصيلة للفكر الإسلامي بل أنه خاض مجموعة من النقاشات مع أنصاره خاصة يدعوهم فيها إلى عدم نسبة الصفة المهدية إليه وإلى حركته فقد كانت حركته تعبيراً عن تطور الظروف المحلية التي استشعرت إمكانية النهوض والتطور نتيجة احتكاكها وتعرفها على الدعوة الإسلامية بصورتها الصحيحة، وبالتالي لم يعرف عنها الانتماء إلى أي من الاتجاهات التي كان يضج بها المجتمع الإسلامي ، كما أنها لم تكن كمثيلاتها من الحركات الإفريقية حيث كان التمسك فيها بالإسلام تعبيراً عن درة فعل على الغزو الاستعماري الأوروبي الذي جاء ليؤسس نموذجاً حضارياً غريباً ومنافياً للطبيعة الإفريقية التقليدية.
وجوده عديدة وشخصية واحدة :
كانت شخصية الشيخ متعددة المواهب ، وهو ما يظهر بسهولة حين نرى تراثه العلمي الضخم الذي يقدم مباحث فقهية معقدة يتناول فيها الأبحاث بشكل اجتهادي عميق ينم عن شخصية فقيه فذ وعالم فريد وعارف رباني لا ينشد إلا هداية المجتمع إلى شاطئ الأمان ، وقد ترك (الشيخ عثمان بن فوديو) أكثر من 150 عملاً فكرياً وفقهياً ، معظمها حتى الآن بحاجة إلى تحقيق وطباعة وترجمة تسمح بالاستفادة منها والتعرف عليها .
إضافة إلى هذا ، فإن الشيخ كان رجل ميدان وحركة وتخطيط استراتيجي سليم ، تنقل في كل مكان من أجل نشر لدعوة ، وهيأ تلاميذه كهيئة أركان قادرة على الحوار والنقاش والدعوة النظرية ، في الوقت الذي كانت قادرة فيه على الانتقال للهجرة والجهاد والمقارعة ، بما في ذلك إدارة اللعبة السياسية وتهيئة الجيوش والتخطيط للمعارك ، ثم النزول في صفوفها الأمامية.
كما اتصف (الشيخ) بصفات شخصية قيادية وخلقية فذة ، فقد كان شديد التواضع أمام بسطاء الناس وخاصة أمام أساتذته ومعلميه ، وقد وصفه العالم المؤرخ النيجيري (محمد بلو) بقوله : ( إنه كان خطيباً بليغاً ، وشاعراً فصيحاً فاضلاً ، حسن الخلق ، جميل العشرة ، كريم الصحبة ، كثير الحياد ، متواضعاً ، يرى نفسه كأقل الحشرات ، وقافاً عند حدود الشريعة إلفا مألوفا ، حتى كان أحب الناس إلى أنفسهم ، يتزاحمون عليه مع طلاقة وحسن خلق وبشاشة).
توفي (رحمه الله) عام 1817 تقريباً ، لكنه خلف ذريته الكريمة التي أنجبت الكثير من الرموز الكبيرة في عطائها ، وترك وراءه أثاراً فكرية واسعة ستشكل الزاد الضروري لأية حركة نهوضية حديثة أو مستقبلية.
مجلة الكوثر ، العدد 51 ، يناير 2004
=======================
أيوب السختياني
الإمام ، الحافظ ، سيد العلماء ، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي ، مولاهم البصري ، عداده في صغار التابعين .
- مولده عام توفي ابن عباس سنة ثمان وستين .
- لقي ابن عيينة ستة وثمانين من التابعين ،وكان يقول : مارأيتُ مثل أيوب .
- عن إسحاق بن محمد ، سمعت مالكاً يقول : كنا ندخل على أيوب السختياني ، فإذا ذكرنا له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه .
- عن سلام ، قال : كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك ، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة .
- عن عارم ، حدثنا حماد قال : ما رأيت رجلاً قط أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب
-عن سلام بن مسكين ، سمعت أيوب يقول : لا خبيث أخبث من قارئ فاجر .
- وكان يقول : ليتق الله رجل . فإن زهد ، فلا يجعلن زُهده عذاباً على الناس ، فلأن يُخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه .
- وكان أيوب ممن يُخفي زهده ، دخلنا عليه ، فإذا هو على فراش مخمس أحمر، فرفعته أو رفعه بعض أصحابنا ، فإذا خصفة محشوة بليف .
- قال أيوب : ما صدق عبدٌ فأحب الشهرة .
- عن حمّاد بن زيد ، قال : كان أيوب في مجلس فجاءته عبرة فجعل يمتخط ويقول : ما أشد الزكام
- عن ابن شوذب ، قال : كان أيوب يؤم أهل مسجده في شهر رمضان ، ويصلي بهم في الركعة قدر ثلاثين آية ، ويصلي لنفسه فيما بين الترويحتين بقدر ثلاثين آية .وكان يقول هو بنفسه للناس : الصلاة ، ويوتر بهم ، ويدعو بدعاء القرآن ، ويؤمن من خلفه و آخر ذلك يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول : اللهم استعمِلنا بسنته ، وأوزعنا بهديه ، و اجعلنا للمتقين إماماً ، ثم يسجد . وإذا فرغ من الصلاة دعا بدعوات .
- وعن هشام بن حسان : أن أيوب السختياني حج أربعين حجة .
- قال معمر : كان في قميص أيوب بعض التذييل فقيل له ، فقال : الشهرة اليوم في التشمير .- كان أيوب في طريق مكة ، فأصاب الناس عطش حتى خافوا ، فقال أيوب :أتكتمون علي ؟ قالوا : نعم ، فدور رداءه ودعا ، فنبع الماءُ ، وسقوا الجمال ورووا، ثم أمرّ يده على الموضع كما كان .
- قلت : اتفقوا على أنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة بالبصرة زمن الطاعون ،وله ثلاث وستون سنة.
نزهة الفضلاء 2/513
=================
الشيخ الأديب عبد الغني الدقر
بقلم الأستاذ الأديب : عبد الله الطنطاوي
تمهيد:(4/76)
الشيخ عبد الغني الدقر هو علامة الشام، ومن بقايا الفصاح، وهو عالم شرعي، وأديب ولغوي، ونحويّ وصرفيّ، ومحقق باحث، وهو داعية إلى الله على بصيرة، وبحكمة وهدوء، عرف زمانه، واستقامت طريقته، فكان قدوة لمن عرفه من تلاميذه الكثر، ومن سائر طبقات الشعب وفئاته، من العلماء، والمثقفين، والتجار وطلبة الجامعات وأساتذتها الذين تتلمذوا على يديه، وما زالوا كذلك حتى وفاته. وأجدني أقول، بادئ ذي بدء لو أن دولة تبنته، أو من أن حزباً احتضنه وروَّج له، ولولا كبرياء العلم، وعفة النفس، والتسامي على ما يتنافس عليه علماء الدنيا - لا الدين - ومثقفوها، لذاع صيت الشيخ، ولكان له شأن أي شأن في عالم الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى.
بطاقة شخصية:
ولد الشيخ عبد الغني في دمشق عام 1335هـ - 1916م في أسرة دمشقية عريقة، ولأب عالم عامل جليل، كان الأشهر بين العلماء الوعاظ في عصره، هو الشيخ علي الدقر، صاحب أكبر نهضة علمية ليس في بلاد الشام وحدها، بل في العالم العربي كله، وأكثر علماء الدين في دمشق، وحوران، والأردن، وبعض المدن السورية الأخرى، هم من تلاميذه، ومن خريجي معاهده ومدارسه الشرعية التابعة لجمعيته التي أسسها عام 1343هـ - 1924م باسم: (الجمعية الغرّاء لتعليم أبناء الفقراء) وقد تخرج فيها آلاف الطلبة الذين كان منهم العلماء، والأدباء، والفقهاء، والخطباء، والقضاة، والوزراء، وأساتذة الجامعات. ولعلّي أقدم حلقة عن هذه الجمعية وشيخها العالم الرباني المربي المجاهد، الداعي إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي قضى على كثير من الخرافات والبدع التي كانت تسود المجتمعات الإسلامية عامة، والصوفية خاصة، مع أنه كان صوفياً مثالياً، ولكنه كان وقافاً عند حدود الشرع الحنيف، لا يتعداه، ولا يسمح لأحد أن يتعداه.
أما أمه، فكانت امرأة صالحة، ولكنها ما لبثت أن رحلت عن هذه الحياة وهو في الثالثة من عمره، فعاش كسير القلب، بعد أن فقد حنان الأم الذي لا يعوضه أي حنان آخر.. وكان شيخنا الولد الثاني للشيخ علي، أما الأول، فهو الشيخ أحمد الذي خلف أباه، وكان عالماً فقيهاً، وإدارياً قديراً، ولكنه كان دون والده في العلم والتأثير فيمن حوله، على ما كان فيه من علم وفضل ودعوة إلى الله تعالى.
تعليمه:
بدأ طلبه للعلم في (الكتّاب) أولاً، ثم انتقل إلى مكتب المقرئ الشيخ عزّو العرقسوسي، وأتقن قراءة القرآن الكريم على يديه. ثم انتقل إلى المدرسة التجارية، وأمضى فيها ست سنوات وحفظ الكثير من المتون التعليمية في الفقه والنحو، وكان فيها من المبرزين المتفوقين، الأمر الذي حدا مدير المدرسة إلى تعيينه معلماً فيها، ولما يزل فتى يافعاً.
وفي الثانية عشرة من عمره المبارك، انتقل إلى حلقات أبيه في جامع السادات، وجامع السنانية، والمدرسة السيبائية، وتلقى فيها العلوم الشرعية، وعلوم اللغة العربية من نحو، وصرف، وبلاغة، وعروض، وفقه، وحديث، وتفسير، وأصول.
ثم أقبل على التهام هذه العلوم بجد، وأضاف إليها كتب اللغة والأدب، فدرس كتاب الكامل للمبرد، والأمالي لأبي علي القالي، وكتب الجاحظ، والمزهر في علوم اللغة للسيوطي ثم عرج على كتب الأدب الحديث، فقرأ المنفلوطي، والزيات، والعقاد، وأفاد من بعض الأدباء واللغويين في دمشق، كالأستاذين: التنوخي، والنكدي، مع أن أباه كان له رأي في كتب الأدب، وخاصة الحديث منه، فكان ينهى أولاده وتلاميذه عنها، لما يرى فيها من انحراف وإضاعة وقت، ولهذا عندما علم أن ولده عبد الغني يقرأ (النظرات) وسواها للمنفلوطي، زجره وكاد يغضب عليه، ولكن غرام الفتى عبد الغني بالأدب وكتبه قد بلغ منه مبلغ العشق، حتى إنه قرأ (الكامل) على الأستاذ عز الدين التنوخي، ثم قرأه مع الشيخ حسن حبنكة، ثم حفظه مع شروحه وشواهده، وكانت شواهده حاضرة في ذهنه، يستشهد بها في كتاباته، ومجالسه العلمية، وفي تدريسه لطلابه الكثر.
وقرأ (أمالي) القالي على العلامة اللغوي الكبير الشيخ عبد القادر المغربي، وقرأ المعلقات وشروحها، وسواها من أمّات الكتب التي تتحدث عن الأدب الجاهلي، والإسلامي، والعباسي، وحفظ الكثير منها ومن شواهدها ونوادرها وطرائفها، فكان مكتبة تمشي على قدمين.
وعندما التقاه العلاّمة محمد كرد علي، مؤسس المجمع العلمي العربي بدمشق، ورئيسه، وجلس إليه، واستمع كلٌّ منهما للآخر، أعجب به كرد علي، ودعاه لإلقاء محاضرات في المجمع، واستجاب الشيخ عبد الغني لطلبه، كما كلفه بتحقيق كتاب (تاريخ دمشق) لابن عساكر، فحقق منه الجزء السابع، وفهرس كثيراً من المخطوطات في المجمع، وفي المكتبة الظاهرية في الفقه الحديث.
وكانت له مجالس علم وأدب مع العالم الرباني الشيخ عبد الكريم الرفاعي، قرأ معه كتابي: المحلى، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. ومع الشيخ المؤرخ العلامة نايف عباس الذي تدارس معه (علم البيان) تلبية لرغبة الشيخ نايف، ومع العلامة السلفي الشيخ بهجت البيطار، ومع أخيه وأستاذه الشيخ أحمد الدقر، وسواهم من العلماء والأدباء والشعراء كالأستاذ النحوي العلامة سعيد الأفغاني، والشيخ على الطنطاوي فقد تدارسوا معاً كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي وسواه.(4/77)
وقد تسألون وتقولون: لم تحدثنا عن الشهادات العلمية التي نالها الشيخ من الجامعات العربية والأجنبية.. فما هي تلك الشهادات؟ وأجيب: كان الشيخ فوق كل تلك الشهادات.. لم ينل شهادة قطّ منها، ولم يدرس في جامعة قطّ، وكان أساتذة الجامعات وحملة الشهادات تلاميذ عنده، واسمعوا ما قاله أديب العربية الشيخ علي الطنطاوي فيه، وكانت له صلة وثيقة به، ومعرفة عميقة بعلمه وأدبه وأخلاقه، وكانت لهما مجالس علم وأدب وسمر قال: "فعليكم بالبقية الباقية من أقطاب الأدب، أطلقوا أيديهم في مناهج العربية وكتبها، لا تجعلوا الشهادات وحدها هي الميزان، فإن كثيراً ممن أعرف اليوم ذوي معرفة بالأدب العربي الحق، ممن درس كتبه الكبرى، كالكامل للمبرد، والأمالي للقالي، لم يكونوا يحملون شهادة، وإن كان يقعد بين أيديهم ويتلقّى عنهم، حملة الشهادات من أساتذة الجامعات، من هؤلاء الذين أعرفهم: محمود محمد شاكر في مصر، وعبد الغني الدقر في الشام" ذكريات: 8/302.
لقد كان الشيخ عبد الغني ذا اطلاع واسع على الكتب، مخطوطها ومطبوعها، وخاصة تلك التي لها صلة بالأدب واللغة والنحو والرجال، إنه قارئ من الطراز الأول، لا يكاد يضاهيه في القراءة سوى زميله العلامة الشيخ نايف عباس، يقرأ من بعد صلاة الفجر، حتى قبيل الغروب، يقرأ، ويقرأ، ويقرأ، وينتقد، ويعقّب، ويستدرك، ويصحح، ويقول عن نفسه: (لا أستسلم لكتاب أو رأي) حتى وصفه شيخ القراء في الشام الشيخ محمد كريّم راجح، بالعالم الحر، ونقول فيه ما قاله هو في رثاء شيخه وزميله العلامة الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت: "لقد كان عالماً حقاً. وحسبُه من نعوت الكمال أن تكون هذه صفته، وما أندرها فيمن ينتسبون في هذا العصر إلى العلم"، تاريخ علماء دمشق: 2/829 وكذلك كان الشيخ عبد الغني؛ فقد كان آية في فهم اللغة العربية، يتكلم فيخرج الحرف من مخرجه، مشتملاً على صفته، كأنه جاء من خيام ربيعة ومضر.
وكان فقيهاً حراً، مع أنه شافعي المذهب، ولكنه يكره التعصب للمذهب، والمتعصبين من الفقهاء، يقدّم رأيه ولا يفرضه على غيره، يأخذ من الجميع ثم يعود إلى رأيه المصحوب بالدليل الصحيح الثابت من السنة المطهرة.
لقد كان الشيخ عبد الغني ألبَّ لبّاً، وأوسع ثقافة، وأسرع لَقناً وأحضر بديهة، وأقوم أسلوباً، وأدق بحثاً، من كثير ممن تملأ كتبهم واجهات المكتبات، وتسبق ألقابهم أسماءهم، وتُعلّق النياشين على صدورهم، ولو شاممتهم لرأيتهم في المصلين، وعبد الغني في المجلين، ولكن الأرزاق مقسومة، مالاً، وشهرة، وكتباً، ومناصب..
صفاته:
كان ربعة بين الرجال، ممتلئ الجسم، أبيض أشقر، مع حمرة حلوة تشوب بياض خدّيه، أزرق العينين الحالمتين، أنيقاً في لباسه وهندامه، تعلو هامته عمامة مطرزة، كعمامتي أبيه وأخيه الكبير الشيخ أحمد، وهي عمامة التجار التي تكون على طربوش أحمر، تمييزاً لصاحبها من عمامة العلماء التي هي من شاش أبيض على طربوش أحمر.
وكان ظريفاً، صاحب نكتة، ضحكه ابتسام، فيه كثير من الاحتشام، وقد تفرض النكتة الباهرة ضحكة فيضحك حتى لتكاد عمامته تقع عن رأسه المزيّن بشعر أشقر، ويصير وجهه كقرص الشهد، بل ربما احلولى فكان أحلى وأحلى..
وكان لطيفاً دمثاً، متواضعاً مع سائر الناس، ومعنا نحن طلابه وتلاميذه، تراه يجلس في (دار القلم) بدمشق على كرسيّ صغير من القش، يشرب الشاي مع أبناء صاحب الدار، وكانوا فتية صغاراً يمازحهم وينصحهم وكان قليل الكلام، عفيف اللسان، ويأمر أصدقاءه وتلاميذه وإخوانه بعفة اللسان، ويشتدّ على بعضهم ممن عُرف بسلاطة اللسان، وتجريح الأشخاص والهيئات، وكان يكره التدخين، ويتناءى عن المدخنين، وينصحهم بالإقلاع عنه،ولقد شهدته أكثر من مرة، مع أستاذين كريمين لي ينصحهما، ويشتد عليهما في النصح، من أجل ترك التدخين، ومن أجل بذاءة اللسان.
وكان كريماً، محباً للناس، عطوفاً على الفقراء والمساكين، وعلى الأرامل والأيتام، وقد استأثر حبّ النبيّ الكريم بمجامع قلبه، وكثيراً ما رآه في رؤاه، وعندما زار قبره الشريف، فاضت عيناه بالدموع الحرار الغزار، وأرتج عليه، فصار يتمتم وهو الكليم.
كان طلق المحيا واللسان ، دؤوباً على طلب العلم ، صابراً على استنباط الأحكام ، وفهم ما يشكل على العلماء من أمثاله، متسامحاً مع المخالفين له في الرأي، ويتمتع بأسلوب تحليلي قائم على البرهان والدليل، وكان الكتاب جليسه وأنيسه حتى وفاته، وكان بعيداً عن الأضواء، ويؤثر عليها كتابه وأصدقاءه وتلاميذه وبيته، وكان يجيد السباحة، والرماية، وركوب الخيل، ويحب الصيد.
المعلم:
ذكرنا أن مدير مدرسة التجارة عيّنه معلماً فيها، مع أنه كان دون الثانية عشرة من العمر، ثم إن أباه الذي علّمه وخبره ثم وثق بعلمه، انتدبه لتعليم النحو، وهو في الخامسة عشرة، فدرّس تلاميذه عدداً من كتب النحو، مثل: الآجرومية للأزهري، وقطر الندى، وشذور الذهب لابن هشام، وشرح ألفية ابن مالك في النحو لابن عقيل.
ثم انتقل مدرساً للأدب في (معهد العلوم الشرعية الإسلامية) التابع للجمعية الغراء، وكنت واحداً من تلاميذه، وأفدت منه علماً وأدباً وأخلاقاً، ولي معه ذكريات حميمة، ما أحلاها من ذكريات، قد أنشرها في غير هذا المقام، فهو الذي رغبنا في الأدب، وحببنا باللغة العربية التي كان يعشقها كما يعشق دمشق، بل أكثر، وكان يوصينا باقتناء الكتب، ومنها كتب المنفلوطي التي تربيت أنا على أسلوبه في بداية حياتي الأدبية، وقد أوصانا بأن يكون (مختار الصحاح) في أيدينا وجيوبنا، ليصحبنا حيث نكون، نديم النظر في مفرداته، لنكوّن أسلوبنا الخاص، وليكون لنا معجمنا الخاص.(4/78)
رغّبنا في قراءة الجاحظ والمبرد من القدماء، والمنفلوطي والزيات من المحدثين.. فله - بعد الله تعالى - فضل تحبيبنا بالأدب، وعشقنا لغة القرآن العظيم.
ثم انتقل إلى ثانوية (سعادة الأبناء) التابعة للجمعية الغراء، فصار فيها مدرساً، ومديراً، وآلاف الطلاب الذين أخذوا عنه العلم والأدب، يشهدون له بالفضل عليهم في العلم والأدب والتربية، وكانت له حلقات في جامع المرابط دامت سنوات، درّس فيها تفسير الكشاف للزمخشري في إعجاز القرآن الكريم، وحلقة في كتاب الكامل للمبرد، وحلقة في الحديث، يقرأ فيها من البخاري ومسلم، مع شرح الحديث، وبيان المستفاد منه.
وكان له درس أسبوعي في منزل أخيه الشيخ أحمد، في الحديث الشريف مرة، وفي (الرسالة القشيرية) أخرى، وله درس أسبوعي في جامع الحمد يقرأ فيه من صحيحي البخاري ومسلم. وكانت له دروس أسبوعية لطلبة العلم، منها ما كان في دراسة اللغة والأدب، ومنها في دراسة الفقه المقارن، وفقه الحديث، وأصول الفقه.
وقد أسهم في تعديل مناهج المعاهد الشرعية التابعة للجمعية الغراء، وأدخل عليها العلوم الكونية، من فيزياء، وكيمياء، ورياضيات، كما أدخل التاريخ، والجغرافيا، واللغة الأجنبية، إلى جانب العلوم الشرعية والعربية.
الجدير بالذكر أنه كان يجمع بين الدعوة إلى الله، وبين العلم والأدب، فيمزج بينهما مزجاً عجيباً يتسلل إلى النفس والعقل والقلب بعفوية، فيفعل فعله، دون أن تحس بوطأة الوعظ، بل تستعذبه وتتمنى المزيد منه، وكان يزورنا في حلب، وله فيها تلاميذ ومريدون ومحبون.
الإعلامي:
كان الشيخ عبد الغني يكتب، ويحاضر، وله أحاديث في الإذاعة السورية، ومحاضرات في مساجد دمشق، وفي المجمع العلمي العربي بدمشق، وله مقالات في مجلة (الرسالة) القاهرية للزيات، وفي مجلة (حضارة الإسلام) الدمشقية للدكتور مصطفى السباعي، وفي مجلة (المرأة) للسيدة نديمة المنقاري، وفي جريدة الأيام الدمشقية، وسواها من الصحف، ولكن كرهه للأضواء والنفاق والمجاملات، جعلته ينأى بنفسه عنها، وقد ردّ في مجلة الرسالة على العقاد، وصحح له خطأ شائعاً بين الأدباء والعلماء، كما ردّ على الشيخ العلامة بهجت البيطار.
الكاتب المؤلف:
كنت قرأت وأفدت الكثير من كتبه، ولكني عندما قرأت أول كتاب له في سلسلة (أعلام المسلمين) عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قلت: سوف يتعب الشيخ من سيكتب بعده في هذه السلسلة المهمة، وتمنيت لو أنه يتفرغ للكتابة عن أعلام المسلمين بقلمه السيال، وأسلوبه المترف الأنيق، وقلت له ذلك، فابتسم ابتسامته الساحرة وقال: "حبُّك الشيء يعمي ويصم".
قلت له: اسمح لي يا أستاذي الحبيب أن أؤكد لك أني لا أقول إلاّ الحق.. إلا ما أعتقد أنه الحق، ولست أطريك في هذا. فقال: حبّك لأستاذك..
قلت: لا والله، مع أن حبي لأستاذي وشيخي شديد.
وهاأنذا ألقي بعض الأضواء على كتبه القيمة:
1 ـ مختصر تفسير الخازن، المسمّى: لباب التأويل في معاني التنزيل: وهو كتاب كبير، اختصره الشيخ في ثلاثة مجلدات كبيرة، من القطع الكبير، وجاءت في 1725 صفحة.
مؤلف هذا التفسير: العلامة محيي السنة علاء الدين علي بن محمد المعروف بالخازن، لأنه كان خازن الكتب بالسُّمَيساطية.
قدّم الشيخ لمختصره هذا، وبيّن السبب الذي دعاه إلى اختصاره، وهو أنه يحتوي على الجيّد والرديء، والسمين والغثّ، على حسب حاجة زمنه؛ فالجيد فيه: وضوحه، وسهولة عبارته، وتوسّعه في أحكام القرآن، مع توضيح أدلتها من الكتاب والسنة، وأنه لا يدع حكماً ولا موعظة ولا عبرة إلاّ ويستشهد عليها بالأحاديث النبوية مع تصحيحها، أو تحسينها، أو تضعيفها.
والرديء فيه: كثرة ما فيه من الإسرائيليات التي تضر ولا تنفع، وأكثره ممّا لا يقرّه كتاب ولا سُنّة، إلى جانب بعض الخرافات التي لا يحتملها ولا يقبلها العصر.
وقد اقتصر الشيخ على الجيّد والسمين، ونفى الغثّ والرديء، فجاء على خير ما يرجوه القارئ من كتب التراث شكلاً ومضموناً.
طبع هذا الكتاب في دار اليمامة بدمشق عام 1994م - 1415هـ.
2 ـ الإمام الشافعي: فقيه السنة الأكبر، وهو الكتاب الثاني في سلسلة (أعلام المسلمين) التي تصدر عن دار القلم بدمشق، صدر عام 1392هـ - 1972م في أربع مئة صفحة من القطع العادي، وطُبع حتى اليوم خمس طبعات. تحدّث فيه الشيخ عن الإمام الشافعي من المهد حتى اللحد، استهلّه بمقتبس لطيف من كلام الشافعي، ثم جال جولة في خطة الإسلام، وتوزّع مناهج المجتهدين إلى مدرستين، هما: مدرسة الحديث في الحجاز، ومدرسة الرأي في العراق، ثم قال: "وهناك مدرسة ثالثة لم يشر إليها مؤرخو الفقه، هي مدرسة الشافعي". وقال: "لا ريب أن مقام الشافعي من هذا الخضمّ، مقام المنارة المشعّة في جزيرة منيعة ضخمة؛ فلقد آتى الله الشافعيّ من حدّة الذكاء، وغزارة المواهب، والرغبة الصادقة، والاستقامة، والتقوى - ما يسّر له أن يطّلع في فترة قصيرة من عمره، على جميع ما وصل إلى زمنه من علم". فقد أخذ الشافعي كلّ ما عند علماء مكة، والمدينة، واليمن، والعراق، كما تلقّى علم أهل الرأي عن أحد صاحبي أبي حنيفة: محمد بن الحسن، وكتب من كتبه حمل بعير.
وبهذا يكون الشافعي لم يلتزم في أخذه ودراسته مذهباً معيناً، بل تلقّى فقه أكثر المذاهب التي عرفت في عصره، وجمع إلى ذلك ما حفظه من السنن والآثار.(4/79)
"ثم أخذ بعقله الواعي، وبصيرته النافذة، وإخلاصه في طلب الحق، مع علم بالعربية لا يقارن فيه - يدرس، ويوازن بين الأدلة، ويعيد النظر فيما استنبط، حتى عرف طريقه، فوضع مخططه في الاجتهاد في كتاب (الرسالة) وسار على منهج واضح مستقل، ينشئ مذهبه المدعوم بأقوم حجة من منطق الشريعة وآثارها".
وبهذا يكون الشافعي - رحمه الله رحمة واسعة - منهجياً، يضع الأصول، ثم يبني عليها مذهبه، ومذهبه هو المدرسة الثالثة التي هي بين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، وهي إلى مدرسة الحديث أقرب.
كتب الشيخ "حياة الشافعي في تسلسل، مرحلة إثر مرحلة، منذ وُلد إلى أن وافاه الأجل" وتحدّث طويلاً عن سيرته العلمية في فروعها كلها، وقدّم شهادة كبار العلماء فيه، من شتى المذاهب والنِّحل، وسرد وصفاً حيّاً لأخلاقه ومناقبه، وقد مزج بين حياته المادية وحياته العلمية الحافلة، ليعلم القارئ مراحل النّمو والتطور فيهما.
والحق، إن من يطالع هذا الكتاب، يشاهد الإمام الشافعي حيّاً أمامه، يرحل، ويتعلم، ويعلِّم، ويناظر، وقد كتبه الشيخ بأسلوبه الرصين، وعبارته العالية، التي تليق بإمام من أئمة اللغة والأدب والشعر، وإمام جليل من أئمة الفقه، والحديث، وعلم الأصول..
لقد أتعب الشيخ عبد الغني من جاء يكتب بعده في هذه السلسلة القيمة.
3 ـ الإمام النووي: شيخ الإسلام والمسلمين، وعمدة الفقهاء والمحدّثين، صدر هذا الكتاب القيم عام 1395هـ - 1975م عن دار القلم بدمشق، في 215 صفحة من القطع العادي، وقد تعدّدت طبعاته (الطبعة الرابعة عام 1415هـ) ونهج فيه المؤلف الشيخ نهجه في كتابه عن الإمام الشافعي، فتحدث عن حياته الحافلة بالعلم والعمل معاً، من المهد إلى اللحد، تحدث عن عصر أيام الملك الجبار الظاهر بيبرس الذي أذهل الصليبيين والتتار ببأسه وهول حروبه، كما أرعب شعبه وعلماءه، إلاّ عالماً واحداً لم يَقوَ عليه، هو ذلك الشيخ الهزيل الجسم، المرقّع الثياب محيي الدين النووي، رحمه الله رحمة واسعة.
تحدث الشيخ عن مولد النووي في بلدة نوى في حوران - من بلاد الشام - وعن رحلته إلى دمشق لطلب العلم، وعن شيوخه في الفقه، والحديث، وعلم الأصول، والنحو، واللغة، وتحدث عن العلوم التي نبغ فيها وبرع، فكان العالم الفقيه، المحدث، وكان العالم اللغوي، والنحوي، والصرفي، وكان العالم في العقائد، يشرح ويقرر ما استقر في نفسه من علم التوحيد، يبثّه في كتبه، كما فعل في كتابه القيم (شرح مسلم) الذي حوى الكثير من العقائد على أصول أهل السنة، فهو سلفيّ العقيدة، شافعيّ المذهب.
وتحدث عن عبادته، وزهده، وورعه، ورفقه بالناس، ودفاعه عن المستضعفين أمام الجبارين، كما تحدث عن حليته، وبزته، وعن مأكله ومشربه، وعن كتبه، وشعره، ومؤلفاته التي مات عنها وهو ابن خمس وأربعين سنة، قبل أن يتمّها.
إنه كتاب جامع رائع، يضعك أمام محيي الدين النووي العارف بالله، وكأنك تستمع إليه وهو يحدّثك، وكأنك تراه في سائر أحواله.
4 ـ أحمد بن حنبل : إمام أهل السنة، صدر هذا الكتاب عن دار القلم بدمشق ضمن سلسلة ( أعلام المسلمين ) عام 1399هـ 1979م في 318 صفحة من القطع العادي في طبعته الثالثة عام 1413هـ.
جاء في مقدمة الكتاب: "وبعد: فما أستطيع أن أدّعي أني في هذا الكتاب بلغت ما أريد، ويريد من يعرف الإمام حقّ معرفته..
فالإمام أحمد رجل النصف الأول من القرن الثالث، فليس من أحد في عصره بلغ من الشهرة والثقة والاعتقاد ما بلغه، فهو أئمة في إمام، ذلك أنه كان، رحمه الله، إماماً في الورع، إماماً في الزهد، إماماً في التعفف، إماماً في طريقته الفقهية، إماماً في عقيدته المحافظة، إمام أئمة الحديث في عصره، إماماً في الثبات والصبر على أشدّ البلاء في سبيل إنقاذ السنّة وصونها والدفاع عنها، فهو الجبل الراسخ لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العاصفات، وهو الرجل الربّانيّ الذي أجمع علماء عصره - إلا من لم يعبأ الله بهم - على أنه القدوة الثابتة..".
ومن كانت هذه صفته، لا يمكن أن يحيط به كتاب من بضع مئات من الصفحات، والمؤلف - في هذه السلسلة من الكتب القيمة - يصوّر بدقة وصدق حال من يكتب عنه في حياته، وعلمه، ودينه، وأخلاقه، ومذاهبه، ملتزماً بذلك دقّة النقل وأمانته، ليس غير.
وهكذا انطلق المؤلف يكتب عن عصر الإمام، وعن نسبه وبيئته، وعن صفاته وهيئته، وعن علمه بالحديث الشريف، وعن فقهه، وعلمه باللغة العربية، وعن شيوخه وتلاميذه، وعن مناظراته ومذاكراته، وعن عقيدته التي هي عقيدة السلف، وما جاء في الكتاب والسنة، لأن الدين كله ما قال الله تعالى وما قال رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وما أفتى به الصحابة الكرام لأنهم شهدوا الوحي، وعرفوا مقاصد الشريعة.
تحدث الشيخ المؤلف عن محنة الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن، واعتبرها سبّة الدهر، تلطّخ بها ثلاثة من الخلفاء العباسيين متعاقبين: المأمون، والمعتصم، والواثق، بتأثير بعض كبار ذوي الأهواء.
تحدث عن أخلاق الإمام؛ وعن تمسّكه بالسنّة، وعن ورعه وزهده وتعففه، وعن بذله وجوده، وعن خوفه من الله تعالى، وعن حلمه وعفوه وتواضعه، وخشونة عيشه، وعن حبّه للفقراء والمساكين.
تحدث عن عبادة الإمام؛ عن صلاته، وقراءته للقرآن، وعن حجّه وأدعيته وكراماته، وتحرّيه الحلال في المأكل والمشرب والملبس، وعما سوى ذلك من الشمائل والأخلاق العالية.
وتحدث عن مكاتبات الإمام، وعن مؤلفاته، وانتشار مذهبه.. وهكذا سار المؤلف بنا حتى واراه الناس في مثواه الأخير في هذه الدنيا الفانية، عليه رحمات الله ورضوانه.(4/80)
5- الإمام مالك بن أنس: إمام دار الهجرة، صدر عن دار القلم بدمشق في سلسلة ( أعلام المسلمين) عام 1402هـ-1982م في 391 صفحة من القطع العادي، وطبع أكثر من طبعة.
استصعب المؤلف في المقدمة، الكتابة عن الإمام مالك، وقال: " فليس من السهل التحدث عن العظيم" فقد صنف في الإمام مالك كثيرون، فمنهم من تحدث عنه فقيهاً، ومنهم من كتب عنه محدثاً. ومنهم من صنف في ترجمة حياته، وليس هناك كتاب في التراجم لم يذكر مالكاً إلا القليل.. كيف لا، وهو الإمام الكبير، والفقيه الكبير، والمحدث الأكبر.
كدأب الشيخ في تراجمه لبعض عظماء أمتنا، تحدث عن عصر الإمام، ثم عن حياته من المولد حتى الوفاة، وذكر صفاته وأموره الخاصة، وتحدث عن طلبه للعلم، ثم عن مالك العالم الذي شهد له سبعون من العلماء الكبار الذين تُثنى لهم الأعناق، فأحلّته شهاداتهم مجلساً رفيعاً للعلم في المسجد النبوي الشريف. ووصف ذلك المجلس السامي، وأنه أعظم من مجالس شيوخه، يتحلق الناس حوله، ليسمعوا منه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقهه العميق لتلك الأحاديث التي لا ينبغي أن تتعدى العشرة في المجلس الواحد، وليتفقهوا في الدين من هذا العالم الشاب، الذي جمع بين الحديث والفقه، فكان أكبر وأشهر محدث في عصره، كما هو أكبر فقيه.
تحدث عن مالك المحدث، وعن(الموطأ) وعن أصول مالك:( الكتاب، والسنة، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب) وتحدث عن الرواة عن الإمام، من شيوخه ومن تلاميذه، ومنهم الخليفة العباسي: هارون الرشيد، كما تحدث عن انتشار مذهبه، وعن عقيدته، وآرائه في عدد من القضايا، وعن هيبة مالك، وجاهه، ودخوله على الملوك والأمراء، ومحنته مع المنصور الخليفة العباسي الذي أمر بضربه لأنه أفتى بعدم وقوع طلاق المُكرَه، لأن كثيراً ممن بايعوا المنصور وغيره من الخلفاء العباسيين كانوا قد أُكرهوا على الأيمان بالطلاق والعتاق إن هم نقضوا بيعتهم، فكان مالك يروي الحديث:" ليس على مستكره طلاق" وتابعه في فتواه الشافعي وأحمد، وقرر الأحناف وقوع طلاق المكره.
وعلق المؤلف على ضرب الإمام بقوله:
" أمثل مالك يُضرَب، وقد ملأ الدنيا علماً وحديثاً وفقهاً؟
أَمثله يُضرَب، وقد مهّد الأحكام، ليحكم فيها الناس والحكام؟
أَمثله يُضرَب، وهو العالم الجليل ذو القدر الكبير؟
رجل في جوار رسول الله صلي الله عليه وسلم يأمر بسنته، ويدافع عن صحبه، وينشر حديثه، أمثل هذا يُضرَب ويُخلَع كتفه؟.
ويلكم ما أقبح فعلتكم!"
6- سفيان بن عيينة: شيخ شيوخ مكة في عصره. وهو من ضمن سلسلة( أعلام المسلمين) التي تصدرها دار القلم بدمشق. صدر سنة 1412هـ- 1992م في 143 صفحة من القطع العادي. وسار فيه على النهج الذي اختطه لأعلامه السابقين.
7- الإمام سفيان الثوري: أمير المؤمنين في الحديث، صدر عن دار القلم بدمشق ضمن سلسلة (أعلام المسلمين) سنة 1415هـ- 1994م. ونهجه فيه هو نهجه في سائر ما تقدّم من هذه السلسلة.
8- تاريخ مدينة دمشق، حماها الله وذكر فضلها، وتسمية من حلها من الأماثل، أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها.
وهذا هو الجزء السابع من الكتاب الموسوعي: تاريخ دمشق، لابن عساكر المتوفى سنة 571هـ. حققه الشيخ عبد الغني وقال في مقدمته:" كان يؤم دمشق، من فجر التاريخ، من الأنبياء والعظماء، ثم الخلفاء والصحابة وكبار العلماء والمحدثين، والملوك والأمراء، والشعراء والأطباء، من لم يُتَح لأحد أن يحصيهم ببراعة وقدرة، مثل ما أتيح لمحدث العصر، ومؤرخ الدهر، العلامة الجليل الإمام.. ابن عساكر، في تاريخه الكبير لدمشق، ومن نبغ منها، أو أَمّها - ولو مروراً بها- فلم يذر أحداً ممن شرف عن العامة، إلى من بلغ الإمامة في علم، أو حديث، أو صلاح، أو حكم، أو شعر، وكل صنف ممن به نبوغ أو براعة.."
9- معجم النحو: وهو "أول كتاب في النحو، أكبر من متوسط، صُنّف على الترتيب المعجمي" وكان ذلك عام 1395هـ- 1975م وهو مأخوذ من كتب المتأخرين التي لا تخلو من ضعف صدر عن المكتبة العربية بدمشق.
10- معجم القواعد العربية، في النحو والتصريف. وذيل بالإملاء، صدرت طبعته الأولى عام 1404هـ-1984م عن دار القلم بدمشق، ثم طبعته الثالثة سنة 1423هـ - 2001م في 672 صفحة من القطع الكبير، ثم تتالت الطبعات وقد اعتمد فيه على(الكتاب) لسيبويه، (والمقتضب) للمبرد، وعلى الكثير مما كتبه تلاميذ سيبويه وتلاميذ تلاميذه. رتبه على الطريقة المعجمية "فلم يعد الوقت يتسع ليخوض المرء في كتب النحو والتصريف وشروحها وحواشيها ليله ونهاره، ليظفر ببغيته وجواب مسألته".
وقد يبلغ أن يكون هذا الكتاب من أعظم المراجع في كتب العربية جميعها، ففيها غناء عن الكثير منها، وفيه علم غزير، وفوائد جمة، وهو مرجع ميسر نافع بإذن الله تعالى، أسهم فيه المؤلف برفع شأن اللغة العربية، لغة القرآن الكريم.
وإني لأدعو- مخلصاً- العلماء وأرباب الأقلام إلى أن يكون هذا الكتاب أمامهم دائماً، وأن يرجعوا إليه كل يوم، لعلنا نتخلص ونخلص عيوننا وآذاننا من الأغلاط النحوية، والصرفية، واللغوية، والإملائية، فقد فشا الخطأ والغلط فشواً مؤذياً جداً جداً لدى الكتاب والخطباء والوعاظ وسواهم، والشكوى إلى الله.(4/81)
11- شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، صدر عن دار الكتب العربية بدمشق في 654 صفحة من القطع الكبير. وكان المؤلف قد دَرّس كتاب (شذور الذهب) عدة مرات في معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية الغراء، وفي المساجد بدمشق، ثم شرحه وأصدره في حلة جديدة.
12- محاضرات في الدين والتاريخ والاجتماع، وهو أول كتاب صدر للشيخ عبد الغني عام 1372هـ- 1953م بتشجيع من (الجمعية الغراء) بدمشق. والكتاب عبارة عن ثمان وعشرين محاضرة ألقاها في المجمع العلمي العربي بدمشق، وفي الإذاعة السورية، وفي المساجد، ونشر بعضها في الصحف.
13- لمحات من الكتاب والنبوة والحكمة، صدر عن دار اليمامة بدمشق في 303 صفحة عام 1406هـ-1986م.
14- صحيح الأدعية والأذكار، صدرت طبعته الأولى عن دار القلم بدمشق سنة 1397هـ-1977م في 132صفحة من القطع الصغير.
ثم أخرجه في طبعة ثانية في مئتي صفحة، بعد أن ذيله بمختصر أحكام الحج وأدعيته.
15- قصة إبليس والراهب.: صدرت عن دار الهجرة سنة 1398هـ-1978م في 52 صفحة.
16- الدعوة من القرآن وإلى القرآن، صدر عن دار الهجرة سنة 1406هـ- 1986م في سبعين صفحة.
17- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية- الفقه الشافعي، صدر عن المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1383هـ 1963م في 355صفحة.
18- تحقيق كتاب: قواعد الأحكام في مصالح الأنام تأليف العز بن عبد السلام.
صدر عن دار الطباع بدمشق سنة 1412هـ- 1992م.
19- تحقيق كتاب: تحرير ألفاظ التنبيه، أو لغة الفقه للإمام النووي.
20- له ديوان شعر مخطوط: بقي أن نعرف، أن الشيخ عبد الغني توفي في دمشق مساء يوم الخميس، الخامس عشر من شوال 1423هـ- التاسع عشر من كانون الأول عام 2002م ودفن في مقبرة باب الصغير، رحمه الله رحمة واسعة.
المراجع:
1- كتب الشيخ عبد الغني الدقر.
2- إياد خالد الطباع: عبد الغني الدقر: النحوي الفقيه، والمؤرخ الأديب.
3- الكلمات التي قيلت في حفل تأبين الشيخ عبد الغني الدقر في 16 من ذي القعدة 1423هـ- 18/1/2003م تكلم فيها:
ـ الأستاذ فاروق الطباع.
ـ الشيخ محمد كريّم راجح.
ـ الأستاذ إياد الطباع.
ـ الشيخ أسامة الرفاعي.
ـ الأستاذ محمد بن عبد الغني الدقر.
4- محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة، تاريخ علماء دمشق.
5- د. محمد حسن الحمصي: الدعاة والدعوة الإسلامية.
=================
الإمام الذهبي
يجمع الذهبي بين ميزتين لم تجتمعا إلاّ للأفذاذ القلائل في تاريخنا، فهو يجمع الإحاطة الواسعة بالتاريخ الإسلامي حوادث ورجالاً، والمعرفة الواسعة بقواعد الجرح والتعديل للرجال، فكان وحده مدرسة قائمة بذاتها.
والذهبي من العلماء الذين دخلوا ميدان التاريخ من باب الحديث النبوي وعلومه، وظهر ذلك في عنايته الفائقة بالتراجم التي صارت أساس كثير من كتبه ومحور تفكيره التاريخي، وصار بذلك من أعظم أعلام علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال، حتّى قيل فيه: لو وقف الإمام الذهبي على قنطرة ومرّ أمامه الناس من لدن آدمَ حتى عصره، لقال لكَ: هذا فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، وهذا يتّصف بكذا وذاك يتّصف بكذا.
المولد والنشأة
ولد الإمام محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي في مدينة دمشق الفيحاء في (ربيع الآخر 673هـ= تشرين الأول 1274م). ونشأ في أسرة كريمة، تركمانية الأصل، وكان والده يعمل في صناعة الذهب، ومنها عُرِف بالذهبي، وكان رجلا صالحًا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم. وكان لكثير من أفراد أسرته انشغال بالعلم، فشبَّ الإمام محمد الذهبي في بيئة تحبّ العلم وتبجّله.
وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم حتى حفظه وأتقن تلاوته. ثم اتجهت عنايته إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فاتصل بشيوخ الإقراء في زمانه.
وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال إلى سماع الحديث الذي ملك عليه نفسه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه.
نشاطه العلمي
بعد أن أنهى الذهبي رحلاته في طلب العلم ومقابلة الشيوخ، وهم أعداد غفيرة تجاوزت الألف، اتجه إلى التدريس وعقد حلقات العلم لتلاميذه، وانغمس في التأليف والتصنيف، وبدأت حياته العلمية في قرية "كفر بطنا" بغوطة دمشق، حيث تولّى الخطابة في مسجدها سنة (703هـ=1303م)، وظل مقيمًا بها إلى سنة (718هـ= 1318م). وفي هذه القرية ألّف الذهبي خيْر كتبه. وتُعدّ الفترة التي قضاها بها، أخصب فترات حياته إنتاجًا، ثم تولى مشيخة دار الحديث بـ"تربة أم صالح"، وكانت هذه الدار من كبريات دور الحديث بدمشق، واتخذها سكنًا له حتى وفاته.
وأتاحت له هذه المدارس أن يَدْرُس عليه عددٌ كبير من طلبة العلم، ويفِد عليه للتلقي كثيرون من أنحاء مختلفة، بعد أن اتسعت شهرته وانتشرت مؤلفاته، ورسخت مكانته، لمعرفته الواسعة بالحديث وعلومه، والتاريخ وفنونه، فكان مدرسة قائمة بذاتها، تخرج فيها كبار الحفاظ والمحدثين، مثل: عبد الوهاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى، والحافظ ابن كثير، وصلاح الدين الصفدي، وابن رجب الحنبلي وغيرهم.
مؤلفاته
ترك الإمام الذهبي إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات، بلغ أكثر من مائتي كتاب، شملت كثيراً من ميادين الثقافة الإسلامية، فتناولت القراءات، والحديث ومصطلحه، والفقه وأصوله، والعقائد والرقائق، غير أن معظم هذا الإنتاج يُغطّي علم التاريخ وفروعه.(4/82)
وثلث هذا العدد مختصرات قام بها الذهبي لأمهات الكتب التاريخية المؤلَّفة قبله، فاختصر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ نيسابور لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وتاريخ مصر لابن يونس، وكتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة، والتكملة لوفيات النَّقَلَة للمنذري، وأسد الغابة لابن الأثير. وقد حصر الدكتور شاكر مصطفى الكتب التي اختصرها الذهبي في 367 عملاً.
غير أن أشهر كتبه كتابان هما: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، وهو أكبر كتبه وأشهرها، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة (700هـ= 1300م)، وتضمن هذا العمل الحوادث الرئيسة التي مرت بالعالم الإسلامي، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة. ويبلغ عدد من تَرْجَم لهم الذهبي في هذا الكتاب الضخم أربعين ألف شخصية. أما الكتاب الثاني فهو: "سير أعلام النبلاء"، وهذا الكتاب هو أضخم أعمال الذهبي بعد كتابه (تاريخ الإسلام)، وهو كتاب عام للتراجم التي سبقت عصر الذهبي.
وفاته
ظل الذهبي موفور النشاط، يقوم بالتدريس في خمس مدارس للحديث في دمشق، ويواصل التأليف، حتى ضَعُفَ بصرُه في أواخر عمره، وفقد الإبصار تماماً، ومكث على هذه الحال حتى توفي في (3 من ذي القعدة 748هـ= 4 من شباط 1348م).
===============
أبو الأعلى المودودي
أبو الأعلى المودودي
ينتمي أبو الأعلى المودودي إلى أسرة تمتد جذورها إلى شبه جزيرة العرب، فقد هاجرت أسرته منذ أكثر من ألف عام إلى جشت بالقرب من مدينة هراة، ثم رحل جده الأكبر "ضواجه مودود" إلى الهند في أواخر القرن التاسع الهجري.
موقع الجماعة 10/7/2006- د.خالد الأحمد: ... ... وكان أبوه سيد أحمد حسن مودود الذي ولد في دلهي بالهند سنة (1266 هـ = 1850م) واحدًا من طلاب جامعة عليكرة، وقد عمل مدرسًا، ثم عمل بالمحاماة، وفي (3 من رجب 1321 هـ = 25 من سبتمبر 1903م) رزق بابنه "أبو الأعلى المودودي"، وبعد ذلك بنحو عام اعتزل الأب الناس، ومال إلى الزهد، فنشأ أبو الأعلى في ذلك الجو الصوفي، وتفتحت عيناه على تلك الحياة التي تفيض بالزهد والورع والتقوى.
وقضى أبو الأعلى طفولته الأولى في مسقط رأسه في مدينة "أورنك آباد الدكن"، بمقاطعة حيدر آباد، وكان أبوه معلمه الأول، وقد حرص أبوه على تنشئته تنشئة دينية، واهتم بتلقينه قصص الأنبياء والتاريخ الإسلامي، وكان يصحبه إلى مجالس أصدقائه من رجال الدين والعلماء؛ فتفتحت ملكاته وظهر نبوغه وذكاؤه منذ حداثة سنه، ونال إعجاب أساتذته منذ سنوات دراسته الأولى.
وحرص أبوه على تعليمه اللغة العربية والفارسية بالإضافة إلى الفقه والحديث، وأقبل المودودي على التعليم بجد واهتمام حتى اجتاز امتحان مولوي، وهو ما يعادل الليسانس.
المودودي صحفيًا
وفي هذه الأثناء أصيب الأب بالشلل، وأصبح قعيدًا بلا حراك، وضاقت سبل العيش بالأسرة والأبناء، فكان على المودودي أن يكافح من أجل لقمة العيش، وقد وهبه الله ملكة الكتابة التي صقلها بالقراءة والمطالعة، فقرر أبو الأعلى أن يجعل من قلمه وسيلة للرزق، وكان أخوه الأكبر "سيد أبو الخير" مديرًا لتحرير جريدة مدينة بجنور، فعمل المودودي محررًا بالجريدة، إلا أنه لم يستمر طويلا بها، فقد أغلقت الحكومة الجريدة، فانتقل بعد ذلك إلى جريدة تاج التي كانت تصدر أسبوعية من جبلبور، ثم أصبحت يومية.
وكان من نتيجة عمله بالصحافة أن سعى المودودي إلى تعلم اللغة الإنجليزية حتى أتقنها، وصار بإمكانه الاطلاع على كتب التاريخ والفلسفة والاجتماع ومقارنة الأديان باللغة الإنجليزية دون أية صعوبة في فهمها واستيعابها.
وما لبثت الحكومة أن أغلقت تلك الجريدة، فعاد المودودي إلى "دلهي" واشترك مع مدير جمعية علماء الهند في إصدار جريدة مسلم، وصار مديرًا لتحريرها لمدة ثلاث سنوات حتى أغلقت عام (1341 هـ = 1922م) فانتقل إلى بهو بال، ثم عاد مرة أخرى إلى دلهي سنة (1342 هـ = 1923م)؛ حيث تولى الإشراف على إصدار جريدة تصدرها جمعية علماء الهند تحمل اسم الجمعية، وظل يتحمل وحده عبء إصدارها حتى سنة (1347 هـ = 1928م).
مع إقبال
وفي ذلك العام أتم كتابه "الجهاد في الإسلام" الذي حقق شهرة عالمية، وقد كتبه ردًا على مزاعم غاندي التي يدعي فيها أن الإسلام انتشر بحد السيف.
وفي عام (1351 هـ = 1932م) أصدر ترجمان القرآن من حيدر آباد الركن، وكان شعارها: "احملوا أيها المسلمون دعوة القرآن وانهضوا وحلقوا فوق العالم".
وكان تأثير المودودي عبر ترجمان القرآن من أهم العوامل التي ساعدت على انتشار التيار الإسلامي في الهند، وزيادة قوته، وقد تبلور ذلك في حزب الرابطة الإسلامية، وتأكد ذلك في دعوته أثناء المؤتمر الذي عقد في لنكو سنة (1356هـ = 1937م) إلى الاستقلال الذاتي للولايات ذات الأغلبية الإسلامية.
ونتيجة لشهرة المودودي واتساع دائرة تأثيره الفكري في العالم الإسلامي، دعاه المفكر والفيلسوف محمد إقبال في سنة (1356 هـ = 1937م) إلى لاهور ليمارس نشاطه الإسلامي البارز بها، فلبى المودودي دعوة إقبال.
وعندما توفي إقبال في العام التالي (1357 هـ = 1938م) تاركًا فراغًا كبيرًا في مجال الفكر والدعوة اتجهت الأنظار إلى المودودي ليملأ هذا الفراغ الذي ظهر بعد رحيل إقبال.
تأسيس الجماعة الإسلامية
وبدأ المودودي حركته الإسلامية التي تهدف إلى تعميق الإسلام لدى طبقة المفكرين المسلمين والدعوة إلى الإسلام، حتى أسس الجماعة الإسلامية في لاهور، وتم انتخابه أميرًا لها في (3 من شعبان 1360 هـ = 26 من أغسطس 1941م).(4/83)
وبعد ذلك بعامين في (1362 هـ = 1943م) نقلت الجماعة الإسلامية مركزها الرئيسي من لاهور إلى دار السلام - إحدى قرى بتها نكوت – وكان المودودي طوال هذه الفترة لا يكف عن الكتابة والتأليف، فأصدر عدة كتب من أهمها: المصطلحات الأربعة الأساسية في القرآن، والإسلام والجاهلية، ودين الحق، والأسس الأخلاقية الإسلامية، وغيرها.
ومع إعلان قيام دولة باكستان في (11 من شوال 1366 هـ = 28 من أغسطس 1947م)، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور؛ حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي (صفر 1367 هـ = يناير 1948م) بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي.
وظل المودودي يلح على مطالبة الحكومة بهذا المطلب، فألقى خطابًا آخر في اجتماع عام بكراتشي في (ربيع الآخر 1367 هـ = مارس 1948م) تحت عنوان "المطالبة الإسلامية بالنظام الإسلامي".
اعتقاله
وبدأت الجماعة الإسلامية في الضغط على الحكومة ومجلس سن القوانين للموافقة على المطالب التي قدمها المودودي بجعل القانون الأساسي لباكستان هو الشريعة الإسلامية، وأن تقوم الحكومة الباكستانية بتحديد سلطتها طبقا لحدود الشريعة.
وحينما عجزت الحكومة عن الرد على تلك المطالب قامت في (غرة ذي الحجة 1367 هـ = 4 من أكتوبر 1948م) باعتقال المودودي وعدد من قادة الجماعة الإسلامية، ولكن ذلك لم يصرف المودودي وبقية أعضاء الحركة من الاستمرار في المطالبة بتطبيق النظام الإسلامي، وأظهر الشعب تعاونه الكامل مع الجماعة في مطالبها حتى اضطرت الحكومة إلى الموافقة على قرار الأهداف الذي يحدد الوجهة الإسلامية الصحيحة لباكستان في (13 من جمادى الأولى 1368 هـ = 12 من مارس 1949م).
وبعد ذلك بنحو عام (11 من شعبان 1369 هـ = 28 من مايو 1950م) اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراح "المودودي" وزملائه.
وبدأت الجماعة الإسلامية دراسة قرار الأهداف الموضوعة في حيز التنفيذ، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة – التي أقلقها مطالب الشعب – تسعى إلى وضع مقترحاتها الدستورية، وأعطت لنفسها سلطات واسعة للسيطرة على الرعية؛ فقام المودودي بإلقاء خطاب في اجتماع عام بلاهور في (3 من المحرم 1370 هـ = 14 من أكتوبر 1950م)، قام فيه بتوجيه النقد إلى تلك المقترحات التي تمهد الطريق للديكتاتورية؛ فثار الرأي العام وهو ما اضطر الحكومة إلى التراجع، وتحدت علماء الجماعة الإسلامية، في أن يجتمعوا على ترتيب مسودة دستور إسلامي، وقبل العلماء التحدي؛ فاجتمع (31) عالمًا يمثلون الفرق المختلفة في (13 من ربيع الآخر 1370 هـ = 21 من يناير 1951م) بمدينة كراتشي، واشترك المودودي معهم في صياغة النقاط الدستورية التي اتفقوا عليها، ولكن الحكومة قابلت المقترحات الدستورية التي تقدمت بها الجبهة الإسلامية بالصمت، وإزاء ذلك قامت الحركة الإسلامية بعقد عدة اجتماعات شعبية، فقامت الحكومة بإعلان الأحكام العسكرية في لاهور في (20 من جمادى الآخر 1372 هـ = 6 من مارس 1953م)، وفي (13 من رجب 1372 هـ = 28 من مارس 1953م) تم اعتقال المودودي للمرة الثانية مع اثنين من زملائه دون توضيح أسباب هذا الاعتقال، ثم أطلق سراحهم بعد نحو شهر ونصف في (23 من شعبان 1372 هـ = 7 من مايو 1953م)، ولكن ما لبث أن تم اعتقالهم مرة أخرى في اليوم التالي مباشرة.
الحكم بإعدامه
وبعد أربعة أيام فقط من اعتقاله حكم عليه بالإعدام، وهو ما أدى إلى حدوث ثورة من الغضب الشديد في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وتوالت البرقيات من كل مكان تشجب هذا الحكم، حتى اضطرت الحكومة إلى تخفيف حكم الإعدام والحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولكن ردود الفعل الرافضة لهذا الحكم أدت إلى إصدار حكم بالعفو عن المودودي في (1374 هـ = 1955م).
ومع بداية عام (1375 هـ = 1956) رضخت الحكومة لمطالب الشعب بإصدار دستور إسلامي للبلاد، ولكن ما لبثت أن أعلنت عن دستور جديد في (1382 هـ = 1963م).
ثم أصدرت قرارًا بحظر نشاط الجماعة، وتم اعتقال المودودي و (63) من زملائه، ولكن القضاء أصدر حكمًا ببطلان الحظر والاعتقال، وأطلق سراح المودودي وزملائه في (جمادى الآخرة 1384 هـ = أكتوبر 1964م).
تأثيره الجماهيري
وعندما قامت الحرب بين باكستان والهند في (جمادى الأولى 1385 هـ = سبتمبر 1965م) كان للمودودي والجماعة الإسلامية دور بارز في الشحذ المعنوي للجماهير ومساعدة مهاجري الحرب، كما ساهمت الجماعة بشكل إيجابي في الإمداد الطبي، فأقامت نحو عشرين مركزًا للإمداد الطبي في آزار كشمير، وألقى المودودي عدة خطابات عن الجهاد.
وفي (رمضان 1386 هـ = يناير 1967م) قامت الحكومة باعتقال المودودي لمدة شهرين، وبعد أن أطلق سراحه ظل يمارس دوره الدعوي في شجاعة وإيمان، فكان من أبرز دعاة الحرية والوحدة، وظل يحذر الشعب من مساندة الجماعات الانفصالية حتى لا ينقسم الوطن، ويقع في حرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله.
وفي (رمضان 1392 هـ = نوفمبر 1972م) بعد نحو ثلاثين عامًا من الكفاح الطويل طلب المودودي إعفاءه من منصبه كأمير للجماعة الإسلامية لأسباب صحية، وانصرف إلى البحث والكتابة؛ فأكمل تفهيم القرآن، وشرع في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي (عام 1399 هـ = 1979م) فاز المودودي بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام؛ فكان أول من حصل على تلك الجائزة تقديرًا لجهوده المخلصة في مجال خدمة الإسلام والمسلمين.
مؤلفاته
بلغ عدد مؤلفات المودودي (70) مصنفًا ما بين كتاب ورسالة، ومن أبرز تلك المؤلفات:(4/84)
1- الجهاد في الإسلام: وقد ألفه سنة (1347 هـ = 1928م).
2- الحضارة الإسلامية (أصولها ومبادئها): وقد كتبه سنة (1350 هـ = 1932م).
3- نظرية الإسلام السياسية: كتبه سنة (1358 هـ = 1939م)
4- تجديد وإحياء الدين: كتبه سنة (1359 هـ = 1940م).
5- الاصطلاحات الأربعة الأساسية في القرآن: كتبه سنة (1360 هـ = 1940م).
6- الإسلام والجاهلية: كتبه سنة (1360 هـ = 1941م).
7- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية: كتبه سنة (1364 هـ = 1945م).
8- الدين الحق: كتبه سنة (1366 هـ = 1947م).
9- نظام الحياة الإسلامي: كتبه سنة (1367 هـ = 1948م)
10-حقوق أهل الذمة: كتبه سنة (1367 هـ = 1948م).
11-مطالب الإسلام تجاه المرأة المسلمة: كتبه سنة (1372 هـ = 1953م).
12-قضية القاديانية: كتبه سنة (1372 هـ = 1953م)
13-تفسير تفهيم القرآن: ويقع في ستة أجزاء، وقد بدأ كتابته سنة (1360 هـ = 1941م)، وأتمه في سنة (1392هـ = 1972م).
14-سيرة النبي صلى الله عليه وسلم : وقد شرع في تأليفه سنة (1392 هـ = 1972م)، وأتمه قبيل وفاته، وهو آخر مؤلفاته.
وقد حظيت مؤلفات المودودي بشهرة عريضة في جميع أنحاء العالم ولقيت قبولا واسعًا في قلوب المسلمين في شتى البقاع؛ فترجم الكثير منها إلى العديد من اللغات، حتى بلغ عدد اللغات التي ترجمت مصنفات المودودي إليها ست عشرة لغة، منها: الإنجليزية، والعربية، والألمانية، والفرنسية، والهندية، والبنغالية، والتركية، والسندية…، ونالت استحسان ورضى المسلمين على شتى مستوياتهم واتجاهاتهم.
وانطفأ المصباح
وفي (غرة ذي القعدة 1399 هـ = 22 من سبتمبر 1979م) انطفأت تلك الجذوة التي أضاءت الطريق إلى الرشد والهداية لكثير من المسلمين، ورحل المودودي عن عالمنا إلى رحاب ربه، ولكنه بقي بأفكاره وتعاليمه ومؤلفاته الجليلة ليظل قدوة للدعاة على مر العصور، ونبعًا صافيًا من منابع الإسلام الصافي والعقيدة الخالصة.
أهم مصادر الدراسة:
• أبو الأعلى المودودي: حياته وفكره العقدي: حمد بن صادق الجمال – دار المدني للطباعة والنشر والتوزيع – جدة (1401 هـ = 1986م).
• أبو الأعلى المودودي فكره ودعوته: د. سمير عبد الحميد إبراهيم – دار الأنصار – القاهرة: 1399 هـ = 1979م.
• أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية: د.محمد عمارة – دار الشروق بالقاهرة: 1407 هـ = 1987م.
النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: د. محمد رجب البيومي (الجزء الثالث) – سلسلة البحوث الإسلامية : السنة 13 الكتاب الأول: مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة: (1402 هـ = 1982م).
================
الشيخ محمد الحامد
فلم يلبث أن وجد أهلاً بأهل وشيوخاً بشيوخ ، وجد فيهم الأنس الروحي ، ووجدوا فيه الأخ الوفي .. وكان بين هؤلاء الإمام الشهيد حسن البنا الذي يقول عنه (إن المسلمين لم يروا مثل حسن البنا منذ مئات السنين .. كان لله بكليته بروحه وجسده ، بقلبه وقالبه ، بتصرفاته وتقلبه ، وكان الله له واجتباه وجعله من سادات الشهداء الأبرار) . إعداد: د. خالد الأحمد: ... ...
يقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه ( علماء ومفكرون عرفتهم ) :
نشأة قاسية :
ولد مترجمنا الفاضل رحمه الله في العام 1328 هـ بمدينة حماة ، حماها الله ، وسطاً بين أخوين شقيقين أكبرهما الشاعر المعروف الأستاذ بدر الدين ، وأصغرهما الأستاذ عبد الغني ، وكلاهما قضى السنين الطويلة من عمره في تدريس العربية .. وكان والدهم الشيخ محمود الحامد شيخ الطريقة النقشبندية في بلده موضع التقدير والتوقير من أهل حماة ، قليل ذات اليد يعيش مع أسرته على مورده الضئيل من الكتاب ، الذي كان يعلم فيه الأطفال ، وقد شاء الله أن يدركه الأجل ولما يتجاوز المترجم السادسة من سنيه ، وفي السنة التالية تبعته الوالدة ، فكان على هؤلاء الثلاثة أن يذوقوا مرارة اليتم من الأبوين ، والحرمان من أهم الضروريات التي يحتاج إليها أمثالهم ، وبخاصة في ذلك العهد الذي بلغت فيه الحرب العالمية الأولى ذروتها ، ولم يكن بينهم من يصلح للتكسب إذ كان أكبرهم في الخامسة عشرة ، وكلهم في نطاق الدراسة ، ومن هنا رأى بعض أقربائهم أن يتدبروا أمرهم بما هو خير لهم ، فباعوا أثاث المنزل ، ثم أجروه لمدة طويلة ، وأودعوا ذلك أمانة عند بعض الثقات لينفق عليهم منها ، بعد أن سلموا كبيرهم حصته ليستعين بها في دراسته ومعيشته ، وضم اليتيمان الآخران إلى بعض الأسر الفقيرة يعيشان معها في بيوتها الطينية ، ومع أولادها الغارقين في الجهل والإهمال ، مقابل أجور محدودة تدفع إليها من مدخراتهم القليلة .
ويصف المترجم رحمه الله أوضاعهما تلك بقوله : (كنا كثيراً ما نبقى في المدرسة أثناء فرصة الغداء دون طعام ، حتى إن أخي كان يبكي أحياناً من شدة الجوع ، على حين أشغل نفسي باللعب عن آلام الحرمان ).
وبإزاء هذا البؤس اضطر أخوهم بدر الدين إلى قطع دراسته ليسعى في طلب الرزق لمساعدتهما وتعليمهما ، ولا سيما بعد أن أوشك ما لهما على النفاد فكان لهما بمثابة الأم والأب(4/85)
على أن هذا المأزق الصعب لم يقطع اليتيمين عن الدراسة ، فقد حزم بدر الدين عزمه على تعليمهما مهما لقي في ذلك من العنت ، وقد ركز اهتمامه بوجه خاص على محمد ، لما كان يبدو عليه من ملامح الذكاء والاجتهاد ، وبخاصة بعد أن رأى تفوقه على سائر رفاقه ، وهكذا أتيح له أن يتنقل من صف إلى آخر من المدرسة الابتدائية ، حتى فرج الله كربة الحرب ، وعين بدر الدين معلماً في العام 1920 ، فكان في راتبه متسع لتوفير حياة أيسر لهم جميعاً .. وكان المأمول أن يتابع محمد دراسته بعد إنهائه المرحلة الابتدائية في القسم الإعدادي ، بيد أنه لم ينسجم مع ذلك الجو الجديد ، وظل متطلعاً إلى إيثار التعليم الشرعي في حلقات الشيوخ ، فاستجاب له أخوه ، وألحقه بدكان خياطة فكان يعمل فيها نهاره ، فإذا جاء المساء قصد إلى دروس العلماء في المساجد ، واستمر على ذلك حتى افتتحت مدرسة (دار العلوم الشرعية) فما لبث أن هجر الخياطة إليها ، مع استمراره على حضور تلك الحلقات .
وكان رحمه الله يعتبر مرحلته في (دار العلوم الشرعية) أسعد أيام حياته ، إذ وجد فيها وفي دروس المساجد ري ظمأه إلى العلم . ويحدث رحمه الله عن شيوخه في هذه المرحلة فيذكر منهم خاله العلامة السلفي الشيخ سعيد الجابي ، الذي بتوجيهه أخذ طريقه إلى العلم الديني ، وإلى حفظ كتاب الله ، ثم شيخ الشافعية بحماة محمد توفيق الصباغ ، وكان مدير الدار، ويصفه بالحنو على طلابه والاهتمام الكبير في تعليمهم ، ثم العلامة مفتي حماة الشيخ محمد سعيد النعساني ، الذي يقول عنه إنه ذو الباع الطويل في العلوم والمعارف ، والحرص الشديد على السمو بهمة طلابه إلى معالي الأمور، ويخص بالذكر والد زوجه العالم الورع الزاهد الشيخ أحمد المراد ، الذي أحسن تربيته ، وتعليمه وزوجه ابنته قبل أن يكون له مورد رسمي
وفي العام 1347 هـ أنهى دراسته في دار العلوم الشرعية بحماة ، وكان عليه أن يرحل لإشباع رغبته العلمية ، فقصد إلى حلب حيث التحق بمدرسة خسرو الشرعية ، وكانت حتى ذلك العهد ـ كما يقول ـ أرقى المدارس الشرعية في بلاد الشام ، إذ كان مدرسوها من قمم العلم في الشهباء ، وكانت مناهجها على غاية من القوة والسعة ، وتعتبر هذه المرحلة أهم ما مر به من المراحل الدراسية حتى اليوم ، وفيها بدأ نبوغه حتى ليصفه أحد شيوخه بأنه (بحر علم لا تنزحه الدلاء).
وعلى دأبه في الطلب لم يقصر دراسته على الخسروية وحدها ، بل أخذ نفسه بملازمة حلقات العلماء وبخاصة عالم الشهباء الشيخ نجيب السراج ، وضاعف ذلك إقباله على المطالعة الحرة لإرواء عطشه الدائم إلى مناهل العلم .
ومن هنا جاء قوله رحمه الله : (إن المناهج الرسمية تعني بتكوين الشخصية العلمية أما التضلع من العلم فطريقه المطالعة الواسعة) .
ويتحدث عن شيوخه في هذه المرحلة فيذكر منهم الشيخ أحمد الزرقاء الذي ـ يقول ـ إنه لم يجلس إلى أفقه منه حتى في مصر، وقد بلغ من اجتهاده أنه كان يرجع إلى الكتب التي نقل عنها ابن عابدين حاشيته الشهيرة ـ رد المحتار ـ فيجده واهماً في بعض النقول .
ويعدد من هؤلاء الأساتذة : الشيخ أحمد الكردي ـ مفتي الحنفية بحلب ـ والشيخ عيسى البيانوني نزيل البقيع ـ والشيخ إبراهيم السلقيني ، والشيخ محمد الناشد ، والشيخ راغب الطباخ مؤلف (أعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء) وكثيراً غيرهم من فضلاء العلماء ، الذين تركوا أثرهم عميقاً في تكوينه العلمي .
بين حماة والقاهرة :
وفي الأثر (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال ) ولقد بلغ النهم إلى العلم بفقيدنا العزيز أقصى حدوده ، فلا يرويه درس ولا كتاب ، وبالأمس أتم دراسته في حماة ، فانطلق يطلبها في حلب وإذا استكمل اليوم مناهجه في خسروية الشهباء فهل يقف مكتوف اليدين يقنع نفسه بأن الشوط قد انتهى ، فحق له أن يستريح بعده !! كلا .. فليس هذا من طبع مثله ، ولابد له من أن يوجه خطاه في طريق آخر جديد وهو معروف مألوف ، إنه طريق الأزهر، الذي استولى بسلطانه الروحي على العالم الإسلامي كله حتى ذلك العهد ، فلا توقف لطالب علم دون بلوغه ، ولن يستكمل قيمته العالمية حتى يكون من مجاوريه ، ويتخرج على أساطينه .. فإلى الأزهر إذن .
ولكن الأزهر في قلب القاهرة .. وقد بدأت القاهرة ـ كغيرها من الحواضر الإسلامية ـ التي غزتها المدينة الغربية ـ تتجرد من طابعها الإسلامي في مختلف الجوانب والمظاهر، لا بل سبقت القاهرة سائر البلاد العربية في الأخذ بالألوان الدخيلة المخالفة لكل ما ألفه من حواضر الشام .. وحسبه منفراً من القاهرة ذلك السفور الذي بدأ يقتحم على المسلمة خدرها ، والاختلاط الذي تفاقم حتى لا يخلو منه طريق ، فأنى لمثل هذا الفتى الذي لا يكاد يعرف من الدنيا سوى المسجد والمدرسة والبيت .. أنى له أن يحتمل رؤية تلك المنكرات التي لا يملك صبراً على مشاهدتها !.. وما أفصح تعبيره عن ألمه وهو يكتب إلى بعض شيوخه في الشام قائلاً : (ماذا يأمل طالب العلم الحقيقي في مصر وهو يرى المحرمات من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله !..) وحتى الأزهر لم يسترح قلبه إليه وهو يرى إلى شيوخ فيه (غير عاملين بالسنة ، وليس عندهم شيء من الروحانية ، وطلبة يحلقون لحاهم وشواربهم وكثير منهم لا يصلون).(4/86)
وهذا ما أكرهه على العودة إلى حماة ، ولكنه ما إن حل بين قومه حتى أحس بتغير الحياة كلها من حوله حتى أقرب الناس إليه قد جعلوا يقرعونه على تفويت تلك الفرصة التي لا تتاح إلا للمحظوظين .. مما اضطره للعودة في ليلة لم يودع فيها أحداً .. وكانت عودة موقفة لأن الشيخ صمم على قبول الأمر الواقع ، فلم يلبث أن وجد أهلاً بأهل وشيوخاً بشيوخ ، وجد فيهم الأنس الروحي ، ووجدوا فيه الأخ الوفي .. وكان بين هؤلاء الإمام الشهيد حسن البنا الذي يقول عنه (إن المسلمين لم يروا مثل حسن البنا منذ مئات السنين .. كان لله بكليته بروحه وجسده ، بقلبه وقالبه ، بتصرفاته وتقلبه ، وكان الله له واجتباه وجعله من سادات الشهداء الأبرار) .
وفي الأزهر حصل على شهادة (العالمية) وأتبعها بتخصص القضاء ، وعلى الرغم من توافر الفرص أمامه للالتحاق بالدراسات العليا مع رفيقه وزميل دراسته الشيخ مصطفى السباعي ، أبى إلا اللحاق بمسقط رأسه لقناعته أن ليس وراء حاضره سوى الشهادات ، وهو مستغن عنها بما لديه من العلم ، وبمئات المصنفات التي يتلهف لمطالعتها ..
والحق .. لقد أثبت الشيخ تفوقه على الجم الغفير من حملة الشهادات العليا ، وبخاصة في الفقه الحنفي الذي أعطاه كل طاقاته ، حتى بات فيه المرجع المجمع عليه بين علماء الشام دون منازع ..
جهاد لا يفتر:
وبعودة الشيخ إلى حماة استأنف نشاطه في الخطابة المسجدية ، وفي الدروس العامة ، التي كان قد بدأها من قبل ، وأقبل عليه طلبة العلم الشرعي يتلقفون معلوماته ، ويقتبسون عنه مبادئ السلوك والأخلاق .. وما لبث إلا قليلاً حتى أحرز مودة الجميع وتقدير الكافة سواء في ذلك علماؤهم وشبابهم ونساؤهم وعامتهم .
وقد ضاعف من أثره ومن تقدير الكافة له ذلك الدأب الذي تميز به في خدمة العلم ، فدروسه لم تنقطع قط سواء في المدرسة أو المسجد أو البيت ، لا يكاد يفرغ من جانب حتى ينتقل إلى الآخر ولا يشغله عن ذلك شاغل إلا الأحوال الملزمة كالنوم والطعام والمرض ، فإذا ما وجد فسحة بين هذه الأعمال لجأ إلى القلم ينشئ رداً ، أو يجيب على استفتاء ، أو يدبج رسالة ، أو يراجع كتاباً .. هذا إلى امتيازه على الكثيرين من المشايخ والعاملين في خدمة الدعوة بأنه لم يقصر عطاءه على الناس ويهمل آله ، بل جميع بين الحسنيين فكان له من تلاميذه الكثر أحسن الغراس التي شرعت تؤتي أكلها تحت عينيه ، وكان له من أبنائه السبعة خير وارث لعلمه واجتهاده وفضائله ، حتى امرأته لم يدخر وسعاً في تزويدها بكل ما ينفع النسوة المؤمنات من العلم النافع ، فمجلسها حتى اليوم لا يخلو من توجيه إلى خير وإجابة على سؤال ، بارك الله في حياتها ونفع بها وبهم .
وقد زاد مكانه رسوخاً في قلوب الحمويين ما يعرفونه من زهده ، وإخلاصه ، وصدق لهجته ، وصلابته في كل ما يعتقد أنه الحق .. ثم مشاركته إياهم في مكافحة الاستعمار، وإلهابه المشاعر بحب الجهاد ، لتطهير البلاد من أرجاسه ، وإيثار الشهادة مع العزة على الحياة الخانعة الذليلة .. ولما نفذت الصليبية الجديدة مؤامراتها بتقسيم فلسطين .. كان في مقدمة العلماء والزعماء المثيرين للهمم ، الشاحذين للعزائم .. وقد وطن نفسه على مرافقة أخيه الدكتور مصطفى السباعي لخوض غمرات الجهاد ، لولا تشدد إخوانه في منعه من مغادرة حماة ، يقيناً منهم أن بقاءه في قلب الجمهور أنفع للقضية من مشاركته في القتال .
ولقد وقف الشيخ نفسه وجهوده على توعية المسلمين بحقائق دينهم ، ليل نهار، خطيباً ومدرساً ومناقشاً ومؤلفاً، لا يهادن أحداً في حق الإسلام ، ولو كان أقرب الناس إليه وأعزهم عليه .. ولهذا كثرت ردوده حتى على أحبابه ، وفي كتابه الضخم (ردود على أباطيل) سجل ناطق بهذه الحقيقة التي يستوي في معرفتها عنه القريب والبعيد . ولقد ظل زمناً ـ فيما أعلم ـ على خلاف مع أخيه الأستاذ عبد الغني لرأي شذبه عن المألوف في فهم العلماء لآية من كتاب الله ، فأعرض عنه ولم يشفع به ما عرفه في هذا الأخ من أدب عال وأخلاق سامية ومن كرائم الحسنات اللاتي يذهبن السيئات .
الشيخ والتصوف :
بقي أن نحدث القارئ عن جانب آخر من حياة الصديق الفقيد ، لا سبيل إلى إغفاله لأنه جزء لا يتجزأ من كيانه الأصيل . ذلك هو مسلكه الصوفي الذي جر عليه الكثير من العناء ، وكلفه في مطلع شبابه ألوان العداء ، من الأقرباء والأصدقاء .
لقد تلقى بوادر الصوفية الأولى منذ نشأته في ذلك البيت الذي كان الزهد والقناعة وسيلته إلى مجابهة الضنك الذي ينيخ عليه بكلاكله ، وطبيعي أن التصوف القائم على الرضى بالمقسوم ، ومعالجة الحرمان بالأذكار الواصلة بين الليل والنهار، أنجع الأسباب في التخفيف من أعباء الواقع ، فكيف إذا كان رب هذا البيت من شيوخ الصوفية الذين يتأسى بهم السالكون !..
فالصوفية الذاكرة الزاهدة الصابرة إذن هي أول المؤثرات التي واجهها أهل ذلك البيت ، فلا غرابة أن تطبع نفس هذا الفتى ، الملتهب المشاعر والفائض الذكاء ، بصبغتها العميقة ، فلا تكاد تزايله يوماً كاملاً من حياته .
وكما تأثرت نشأة الفقيد الأولى بالنزعة الصوفية ، حدث أن تأثر بنقيضتها السلفية التي كان داعيتها خاله العلامة الصالح الشيخ سعيد الجابي رحمه الله ، ونحن لا ندري مدى ذلك التأثر بتوجيهات خاله من حيث العمق والقناعة والالتزام ، ولكننا نلمحه من خلال بعض كتاباته التي أشار بها إلى موقفه من كلتا الدعوتين ، فنعلم أن تحوله إلى الصوفية كان أثناء دراسته في حلب ، والظاهر أنه كان تحولاً عميقاً لم يلبث أن قطعه عن رفاقه السلفيين .
نماذج من أدب الفقيد(4/87)
أيها الأخوان .. إن العالم يرقبكم ، وينظر من قرب ومن بعد إلى هذا الصراع بين الحق والباطل بل إن رسول الله وأصحابه ينتظرون ما أنتم فاعلون بما خلفوا لكم من تراث مجيد ، عجنوه بدمائهم الزكية فهل تختلط دماؤكم بدمائهم في هذه الأرض أو تضنون بها فلا يكون لكم حظ من هذا السخاء الشريف .
ـ من أحاديثه عن الشباب :
لما وجهت إلي وزارة المعارف تدريس الديانة والعربية في تجهيز حماة كنت كثير التشاؤم من حال الطلاب ووضعهم .. ولكن بعد قليل تبدل تشاؤمي تفاؤلاً وانقباضي انبساطاً واستبشاراً .. حثثتهم على الصلاة فصاروا يصلون ، ويحضر بعضهم الدرس العام .. وقذف الله تعالى النور في قلوبهم ، فشعروا بتفريطهم الماضي ، فطفقوا يسألونني عن أحكام تتعلق بقضاء الفوائت .. ومن قريب سألني أحدهم عن حكم يتعلق بقيام الليل مبدياً رغبته في قيامه ..
أولادكم يا مسلمون فيهم استعداد طيب ، فهلا تسعون إلى استثمار هذا الاستعداد ؟ أشفقوا أن تلقوا أفلاذ أكبادكم في النار بترك الغوائل تغتالهم .. .
درسه في مسجد السلطان :
كان للشيخ محمد الحامد درس يومي في مسجد السلطان ، بعيد المغرب ، ثم يؤذن للعشاء ويستمر الدرس قليلاً ثم تقام الصلاة ، وكان كثير من الإخوان المسلمين يواظبون على درس الشيخ ، ويضربون مواعيد لقاءاتهم في درس الشيخ ، وبعيد درس الشيخ يلتقي الأخوان ويضربون مواعيداً جديدة ، ويبلغون من يلزم تبليغه ...
وبعد أن هدم الجيش مسجد السلطان عام (1964) انتقل درس الشيخ إلى جامع الأحدب في السوق الطويل ، واستمر فيه حتى أكملت وزارة الدفاع بناء مسجد السلطان ، وربما أكثر من سنة ...
مواقف مع الشيخ محمد الحامد يرحمه الله :
1- مع الشيخ مروان حديد
الموقف الأول وهو طالب في الثانوية :
كان مروان حديد يرحمه الله طالباً في التجهيز الأولى [ ابن رشد ] فيما بعد ، وكان الشيخ محمد الحامد مدرساً للتربية الإسلامية ، وكان مروان حديد في ذلك الحين مثل بقية أسرته ، من الاشتراكيين [ جماعة أكرم الحوراني ] ، وذات يوم سأل مروان الشيخ محمد الحامد يرحمهما الله :
قال مروان : ألست طالباً جيداً ياسيدي الشيخ ؟
أجاب الشيخ : أنت يامروان أفضل ممن هم أسوأ منك ...
وكان مروان يذكر هذا الجواب ، ويردده على مسامع إخوانه :ثيراً ،بعد أن هداه الله إلى طريق الحق ، وصار من تلاميذ الشيخ المقربين ...
الموقف الثاني :
( 1964) كان الشيخ محمد الحامد يرحمه الله أباً للإخوان المسلمين خاصة ، ولمدينة حماة عامة ، وفي اعتصام مروان حديد في مسجد السلطان ، حاول الشيخ محمد الحامد منعه من هذا الاعتصام ، فلم يستطع ، وحدثني حموي مطلع عن حوار جرى بين الشيخ محمد الحامد ومروان حديد في مكتب المهندس رامي علواني يرحمهم الله جميعاً جاء فيه :
[ أنقله من روايتي مئذنة ودبابة ]
افتتح الشيخ الجلسة بالدعاء إلى الله عزوجل أن يفرج على المسلمين ، ثم قال لمروان هات ما عندك ؟ فأجاب مروان :
_ يا سيدي ، بدأ البعثيون في تنفيذ مخططهم ، لقد صفوا الجيش من الضباط المسلمين ، ثم بدأوا بتصفية التعليم ، فنقلوا بعض مدرسي التربية الإسلامية من حماة إلى مناطق يبعدونهم فيها عن الدعوة إلى الله ، أو بعيدة عن مراكز دعوتهم وأنشطتهم . كما أنهم يضايقون الطالبات في حجابهن ، ويتحدون الطلاب جهاراً في هجومهم على الدين .
_ هذا دينهم ، قاتلهم الله ، وليس هذا جديداً منهم ، فهم أعداء المسلمين ، وعلينا الاستمرار في دعوتنا ؛ لنرمم بعض ما أفسدوه ونحافظ على شبابنا قدر طاقتنا ، والله المستعان .
_ يا سيدي ، مهما ضاعفنا جهودنا فإننا نرمم عشر ما يفسدون أو أقل ، لأنهم دولة بيدهم الإعلام والجيش والتربية ، لقد سلبوا الحكم منا ليقضوا علينا بواسطته ، ويقضوا على ديننا ، فماذا ينفع ترميمنا !؟ .
_ ما العمل غير ذلك يا مروان !؟ _ لِمَ لا نعلن الجهاد !؟ الجهاد السلمي ياسيدي الشيخ ، كالاضراب ، والمظاهرات ، والاعتصام ، ومقاطعة السلطة ، .....إلخ ، وندعو المسلمين إليه فنقضي على هؤلاء الفسقة في مهدهم ، قبل أن يستفحل أمرهم ويتمكنوا من رقاب المسلمين
_ من معك يا مروان !؟
_ الشعب كله ، الشعب المسلم ؛ هل يرضى بذلك !؟
_ الشعب متفرج يا بني ، ولن يجتمعوا حولك ، بل قد يجتمع بعضهم ضدك .
_ أقصد يا سيدي الشيخ أن يقوم الإخوان المسلمون بالجهاد ضد الطغاة ، فيتبعهم المسلمون
_ الجهاد سبيلنا يا بني ، والجهاد ضد الحاكم يكون بالسياسة ، أي الجهاد السياسي ، وليس الجهاد العسكري ، أما الجهاد العسكري فهو ضد العدو الخارجي مع وجود الحاكم المسلم ، الذي يعلن الجهاد ويقوده .
ـ طيب نعلن الجهاد السياسي .
ـ لا لم يحن وقته بعد .
_ ومتى يحين وقته إذن!؟
_ عندما تتكون الجماعة المسلمة في صفوف الشعب ويصبح لها قاعدة شعبية صلبة يتحرك الشعب لنصرتها ، إذا حاولت السلطة ضربها ، ألا تذكر موقف الشعب من الجماعة المسلمة في مصر ، خلال الخمسينات ، عندما سلطت عليهم السلطة الكلاب المدربة تنهش أجسادهم ، والشعب صامت كأنه لا يسمع ولا يرى ، ولا يهمه سوى البحث عن الخبز والطعام وضرورات العيش التي حجبها عنه الطغاة ليشغلوه بالبحث عنها .
_ وكيف نتمكن من صفوف الشعب ، ومتى ؟
_ الدعوة مستمرة ، والقدوة الحسنة ، ومد الجسور مع فئات الشعب كلها ،والعمل على نصرة المظلومين ، فما زلنا يا مروان نحصر وجودنا بين المثقفين فقط ، وتركنا العمال والفلاحين للاشتراكيين ؛ يغزونهم ويضحكون عليهم بسراب التأميم والإصلاح الزراعي ، هذه واحدة من أخطائنا يامروان ، يجب أن نتلافاها(4/88)
ـ ولكنهم سبقونا إلى العمال والفلاحين ، وقد ساعدتهم الظروف التي هيأها لهم الإقطاعيون والبرجوازيون ، فأحسن الاشتراكيون استغلالها .
ـ سوف تنكشف دعواهم ، وسيأتي اليوم الذي ينقلب عليهم العمال والفلاحون ، ويعودون إلى دينهم معنا ضدهم .
ـ المثقفون طليعة الشعب ، والطلاب وقوده ، وكلاهما معنا الآن .
ـ هذا صحيح يابني ، لكنهم الأقل عدداً ، لابد من بناء القواعد في صفوف العمال والفلاحين يامروان .
ـ مشكلة الفلاحين ياسيدي أنهم خدعوا بسراب الاشتراكية .
ـ وعلينا يامروان أن نعلمهم كيف يميزون بين السراب والماء .
ـ هذا ضروري ياسيدي ، لكن الزمن في صالح السلطة ، وليس في صالحنا ، فالهدم أسهل وأسرع من البناء ، ومؤسسات الدولة بيدهم ، وعندما يصفون مؤسسات التربية كما صفوا الجيش ستكون كارثة علينا .
ـ نظرتك صحيحية يامروان ، لكن نحن ضعفاء ، وقوتهم تتزايد بسرعة ، ولن تحقق المواجهة السياسية هدفها الآن .
ـ ماهدف المواجهة ياسيدي .
ـ سوف تقول النصر أو السجن أو الشهادة ، اليس كذلك يامروان !؟
ـ بلى ياسيدي ، وسوف نحقق أحد هذه الثلاثة .
ـ ( ضحك الشيخ ) وقال : هذه عاطفة الشباب ، وهذا إخلاصهم ، وأسأل الله عزوجل أن يعطيكم على هذه النوايا الطيبة ، لكن الحكمة والتعقل لايريان ماترى ياولدي ، لايصح الخروج على الطغاة إلا إذا توقعنا النصر بدرجة معقولة ، ولايجوز الإقدام على إزالة منكر يؤدي إلى منكر أكبر منه ، إننا بصطلاح الفقهاء نختار مجبرين أخف الضررين ، ولانريد أن نعطي السلطة ذريعة أمام الشعب كي تذبح العلماء ، وتهدم المساجد ، وتزج الآلاف في السجون .
ـ ذاك ياسيدي الذي تقوله ينطبق على الخروج عسكرياً على الحاكم ، ولكني أريد الخروج السياسي فقط .
ـ ينطبق عليه ما ينطبق على العسكري ، فالحاكم لا يريد خروجاً عليه ، لا سياسياً ولا عسكرياً . لا تدع لهم ذريعة أمام الشعب ، يذبحوننا بسببها ، والشعب يتفرج علينا ، كما حصل في مصر .
ـ يا سيدي عندما يتمكنون من رقاب الشعب ؛لن يحتاجوا إلى ذريعة أمامه ، وسيفعلون ما يحلو لهم ، وما يخدم مخططهم نحو ضرب الإسلام والمسلمين .
ـ اسمع يا مروان لن يوقف الدعوة في حماة نقل بعض الأخوة مدرسي التربية الإسلامية منها ، وتهجم الحزبيين على الإسلام لن يزيد الشباب إلا تمسكاً به ، أما خروجنا ضد الحكومة في هذه الحال سيضرنا كثيراً وليس في صالح المسلمين .
_إذن ندعو الشعب إلى الإضراب والمقاومة السلبية .
ـ الشعب غير موجود الآن يا مروان ، مزقته الحزبية إلى أجزاء متناحرة ، وعندما ندعو إلى الإضراب ستجد من يصطاد في الماء العكر .
_ نحرك الطلاب يا سيدي فيحركون البلد كله .
ـ الأفضل بل الواجب أن لا نحرك أحداً ، لأن الحركة ستؤدي إلى فتنة أكبر منا ونعجز عن مواجهتها
ـ الفتنة موجودة الآن يا سيدي ، ألا تراهم يفتنون الناس عن دينهم صباح مساء ـ وقد أمرنا الله عزوجل أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله . فلنخرج سياسياً ، ونقاتلهم بالكلمة ، والمظاهرة ، والإضراب ، حتى نسقطهم .
ـ اسمع يا مروان ، القضية خطيرة ، والحكم فيها صعب جداً ، لا يمكن استخلاصه من آية واحدة بهذه البساطة ، ولابد من الرجوع إلى العلماء ، أنت وأنا لا نكفي ، يجب الرجوع إلى مجالس العلماء ، لأن الفهم الجماعي للدين هو المطلوب ، ومادام أي تحرك سيعود أثره على الجميع ، لابد إذن من مشاركة جميع العلماء في اتخاذ مثل هذا القرار . ـ سيدي الشيخ !!!
أليس الجهاد مفروضاً علينا !!
ـ بلى ، ولكن يفرض علينا الإعداد قبل الجهاد ، إعداد الرجال والعتاد .
ـ يا سيدي الزمن في صالحهم ، نعد رجلاً فيعدون جيشاً ، نشتري مسدساً فيشترون طائرة .
ـ يبدو أنك لن تقتنع مني يا مروان ، وأخشى أن تفعل ما تقول ، وتخالف رأي جماعتك ، جماعة الإخوان المسلمين ، وأدعو الله عزوجل أن يهديك إلى الالتزام بقرار الجماعة، وخطتها وعملها ، كما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذه المدينة وسائر بلاد المسلمين من الفتن ، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .(( سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك )) ( ).
وخلال الانتفاضة في حماة (1964) كان تعاون الشيخ محمد الحامد يرحمه الله ، مع محمد أمين الحافظ ، سبباً في إنهائها ، قبل أن يقدم ( جديد وأسد ) على تدمير حماة ، في ذلك العام ، وخرج الشيخ محمد الحامد في سيارة حكومية ينادي الشعب بواسطة مكبر صوت كي ينتهوا من الإضراب ، والعودة إلى عملهم ، وفتح محلاتهم التجارية ... وكان ذلك ...
وبعد أن حكمت المحكمة العسكرية برئاسة مصطفى طلاس على مروان حديد وبضعة من إخوانه بالإعدام ، ذهب الشيخ محمد الحامد يرحمه الله إلأى محمد أمين الحافظ ( رئيس مجلس الرئاسة يومذاك ) ، وتشفع بهم ، فألغي حكم الإعدام ، وصدر قرار بالإفراج عنهم ، وفي أواخر الصيف كان مروان يرحمه الله حراً طليقاً ، بعد أن غيرت هذه الحادثة [ تدمير مسجد السلطان فوق رأسه ] غيرت منهجه من العمل السياسي إلى العمل العسكري ...
2- مع محمد أمين الحافظ رئيس الجمهورية يومئذ :(4/89)
لم أتمكن حتى الآن من تحقيق سبب تعارف محمد أمين الحافظ مع الشيخ محمد الحامد يرحمه الله ( )، والمؤكد أن الفريق محمد أمين الحافظ يحترم الشيخ محمد الحامد كثيراً ، وفي صيف أحد أعوام فترة حكم محمد أمين الحافظ ، كان ضيفاً على مدينة حماة ، وأُعد له طعام الغداء في مقهى البئر الارتوازي ، وقبيل الغداء طلب محمد أمين الحافظ دعوة الشيخ محمد الحامد على الغداء معه ، فأرسل القائمون على الغداء يطلبون الشيخ محمد الحامد ، فرفض الشيخ ذلك ، ولما أعلموا الحافظ برفض الشيخ ، أرسل محمد أمين الحافظ سائقه الخاص بسيارة الرئاسة إلى الشيخ يلح عليه في الحضور ، فذهب الشيخ ، وسلم على الحاضرين وجلس معهم قليلاً ، واعتذر عن الغداء ، وذكّر أمين الحافظ قائلاً : لقد وعدتني يا أمين أن تحكم بالشريعة الإسلامية !!! وها أنت تحكم بغيرها !!! فمتى تنفذ وعدك !!!
ـ أطرق أمين الحافظ خجلاً وقال : ـ إن شاء الله ياسيدي ، أدع الله أن يعينني على ذلك ..
ورجع الشيخ ولم يتناول طعام الغداء معهم( ) .
3- مع نساء حماة :
كان للشيخ هيبة ، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بطريقة حكيمة ، وواعية ، لاتؤدي إلى منكر أكبر ، فكان إذا رأى امرأة سافرة ، رفع العصا فوق رأسها ، ( بدون ضرب ) وهددها ، وسأل أهل الشارع عن اسم ذويها ليتصل بهم ويحذرهم من ذلك ...
وهكذا كانت نساء حماة يخفن من السفور ، وبقي الأمر على هذه الحال طوال عقد الخمسينات وبداية الستينات ....
4- مع أهالي حماة :
كان يرحمه الله محبوباً من غالبية الشعب الحموي ، يسلم على من يلقاه في الطريق ، ويقف أهالي المحلات التجارية ، وهم يردون سلامه احتراماً له ، ومن تكون بيده ( سيجارة ) يخفيها عن الشيخ احتراماً له ...
5- مثال عن ورعه يرحمه الله :
قالوا كان الشيخ يحرس ثيابه عندما تنشر بعد الغسيل ، ليطمئن أن عصفوراً لم ينجسها ، فهو إمام يصلي بالناس ، ويجب أن تكون ثيابه طاهرة ...
وقالوا اشترى من باب البلد علبة لبن في الصباح في طريقه إلى المدرسة ، وأعطاها لحمال ، وقال لها : أوصلها إلى باب بيتي ، ونقده أجرتها مقدماً ، ولما عاد من عمله في الظهيرة سأل أهل بيته : أين استلمتم علبة اللبن !!؟ فقالوا : وضعها الحمال عند نهاية السلم ( أي ليس عند باب البيت كما شرط له ) ، فقال يرحمه الله : لاحول ولاقوة إلا بالله ... وذهب إلى باب البلد ( قريب من بيته ) وسأل عن الحمال حتى وجده ، فأعطاه زيادة في الأجرة ...
6- مواقف مع كاتب هذه السطور :
ـ خلال دراستي الجامعية كنت أحضر درساً للشيخ يرحمه الله في مسجد السلطان ، وكان الشيخ يتحدث عن آخر فتنة يتعرض لها المؤمنون ، وهي أن رجلاً كبيراً جداً يظهر عليهم ، ويقول لهم : أنا الله ، فيسجد له المنافقون ، ومن في قلوبهم زيغ ، أما المؤمنون فيعرفون أن الله عزوجل ( ليس كمثله شيء ) ، ولاتنطلي عليهم هذه الفتنة ...
وكنت كثير السؤال : فقلت ياسيدي الشيخ أنا أخاف على أمي وآلاف المسلمين مثلها ، وهي كثيرة الصلاة والصيام ، وتتقرب إلى الله ، لكنها لاتعرف هذه الآية ( ليس كمثله شيء ) وأخشى أن تفتن عندما ترى ذلك الرجل الكبير جداً ...
فغضب يرحمه الله وقال : ديننا واضح ، وليس فلسفة معقدة غامضة ، ثم تراجع قليلاً وهدأ وقال : الله يلهم المؤمن إيماناً صحيحاً فلا يفتتن به ...
قلت : جزاك الله خيراً ... الآن أطمئن على أمي إن شاء الله ...
__ ولما كنت معلماً في محافظة الحسكة (1966) دهشت وعجبت لضاربي الشيش ، لايعرفون قراءة الفاتحة جيداً ، ويفعلون هذه الخوارق ، الضرب بالشيش ، وقد رأيت أموراً لايفسرها العقل ولا المنطق ... فكتبت إلى الشيخ محمد الحامد يرحمه الله ، ورد عليّ برسالة أعتز بها ، وخلاصة الجواب أن هؤلاء مستدرجون ، يحقق الله عزجل على يديهم هذه الخوارق ، ويحاسبون على استخدامها في غير مكانها ، ولكنها خوارق فعلاً ، تحدث بقدرة الله عزوجل ، وقد بدأت على يد علماء من الدعاة أمام المغول وكانت سبباً في إسلام الكثيرين يومذاك ...
وكان في الرسالة أيضاً جواب عن بيع السلم ، وقد وجدته منتشراً في ريف الحسكة ، بشروط مجحفه بحق الفقير ...فوضح لي الشيخ يرحمه الله شروط بيع السلم ...
وطلب مني يرحمه الله أن أسلم الرسالة بعد قرائتها للأخ عبد الكريم الشامي يرحمه الله ، وقد فعلت واحتفظ بها الأخ الشامي عنده ...
ـــ ولما كنت في السنة الرابعة قسم الفلسفة ، كنا ندرس كتاب فصوص الحكم للشيخ محي الدين بن عربي في مقرر الفلسفة ( التصوف ) وهو فرع من مقرر الفلسفة الإسلامية ... وكنت أصلي الجمعة في مسجد السلطان (1965) ، ووضعت الكتاب ( فصوص الحكم ) قرب المحراب ، ولما انتهت الصلاة ، ورجعت بعد لقاءات السلام مع الأحباب كي آخذ الكتاب وجدت حارساً عنده وهو الأخ ( غازي نيربية ) يرحمه الله ، يقول لي أنت صاحب الكتاب ؟ قلت : نعم . قال الشيخ يقول : قابله الآن ..
أخذت الكتاب بيدي وذهبت فسلمت على الشيخ ، وما أن رأى الكتاب حتى قال :
_ لم تقرأ هذا الكتاب يابني !!؟
_ هذا الكتاب مقرر علينا في قسم الفلسفة ياسيدي الشيخ ...
- لاحول ولا قوة إلا بالله ... السلطان عبد الحميد يرحمه الله ، منع قراءة هذا الكتاب ، وهذا الكتاب مدسوس على الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يرحمه الله ، ثم تناول مني الكتاب ، وفيه قلم رصاص فكتب على الصفحة الأولى : راجع ما جاء عن الشيخ الأكبر في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين ...(4/90)
ولما رجعت وجدت خلاصة تقول أن كثيراً من هذه الكتب التي تؤل تأويلاً غير سليم مدسوسة على الشيخ يرحمه الله ، مثل فصوص الحكم ، والفتوحات المكية ...
==============
مصطفى السباعي
هو مصطفى حسني السباعي، ولد في عام 1915 في مدينة حمص السورية في أسرة علمية عريقة. كان أجداده وأبوه يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلاً بعد جيل، وكان أبوه الشيخ حسني في طليعة العاملين والمؤيدين للحركات الوطنية، ومن محبي الخير مساهماً في تأسيس الجمعيات الخيرية والمشاريع الاجتماعية، يحرص على عقد مجالس العلم مع لفيف من فقهاء حمص وعلمائها الأخيار حيث كانوا يتدارسون الفقه ويتناقشون في أدلة مسائله.
موقع الجماعة 15/7/2006
إعداد: د:خالد الأحمد: ... ...
دراسته :
بدأ مصطفى السباعي بحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية على أبيه حتى بلغ السن التي تخوله دخول المدرسة الابتدائية، حيث التحق بالمدرسة المسعودية، وبعد أن أتم فيها دراسته بتفوق ظاهر، التحق بالثانوية الشرعية وأتم دراسته فيها عام 1930 بنجاح باهر لفت أنظار كبار أساتذته الذين كانوا يتوقعون له مستقبلاً علمياً باهراً. ولم يقتصر في دراسته الشرعية على المناهج المدرسية، وإنما كان يحضر مجالس العلم التي كان يعقدها والده مع كبار الفقهاء والعلماء، وكان يتردد على غيرهم من علماء حمص يتلقى عنهم العلوم الإسلامية المختلفة. كما كان السباعي مولعاً بالمطالعة والبحث في كتب الأدب والثقافة المختلفة، وفي ذلك قام بتأليف جمعية سرية لمقاومة مدارس التبشير الأجنبية التي أنشئت بمساعدة السلطات الاستعمارية الفرنسية، وكانت هذه المدارس تحبب إلى طلابها الثقافة الغربية وتعمل على إبعادهم عن عقيدتهم.. فعمل السباعي على محاربتها، كما ساهم في تأسيس وقيادة عدد من الجمعيات الإسلامية في حمص وفي غيرها، ومنها (الرابطة الدينية بحمص) و(شباب محمد صلى الله عليه وسلم) و(الشبان المسلمين في دمشق).
وكان يلقي خطبة الجمعة في كثير من الأحيان في الجامع الكبير نيابة عن أبيه، مما جعله يحتل مكانة مرموقة في بلده، وحاز إعجاب الجماهير التي كانت تتوق لسماع خطبه القوية الحماسية ضد الاستعمار الفرنسي مما أدى إلى اعتقاله مرتين: 1931، 1932، وعندما أفرج عنه رأى أن يتابع دراسته وتحصيله العالي في مصر.
يقول المستشار عبدالله العقيل : شارك السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا ، وكان يوزع المنشورات ، ويلقي الخطب ويقود المظاهرات في حمص ، وهو في السادسة عشرة من عمره ، وقد قبض عليه الفرنسيون واعتقلوه أول مرة عام (1931) بتهمة توزيع المنشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية ، واعتقل ثانية بسبب خطبه الحماسية ، وآخرها خطبة في الجامع الكبير ... بل قاوم الفرنسيين بالسلاح حيث قاد مجموعة من إخوانه في حمص ، وأطلقوا الرصاص على الفرنسيين ...
وفي مصر شارك إخوانه المصريين في مظاهراتهم ضد الانجليز ، فاعتقلته السلطات الانجليزية مع عدد من زملائه منهم مشهور الضامن وابراهيم القطان وهاشم خزندار وفارس حمداني وعلي الدويك ويوسف المشاري ... وبقوا في المعتقل ثلاثة شهور ، ثم نقلوا إلى (صرفند ) بفلسطين حيث مكثوا أربعة شهور ثم أطلق سراحهم بكفالة مالية ...
سفره للدراسة في الأزهر :
سافر مصطفى السباعي إلى مصر عام 1933، والتحق بالجامعة الأزهرية، وانتسب إلى قسم الفقه، وأدهش أساتذته لما أبداه من تفوق باهر، ثم انتسب إلى كلية أصول الدين، ونال إجازتها بتفوق التحق بعدها بقسم الدكتوراه لنيل شهادتها في التشريع الإسلامي وتاريخه، وقد قدم أطروحته العلمية وموضوعها (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) التي نالت درجة الامتياز، وكان ذلك عام 1949 وقد أدهش اللجنة بدقته العلمية، وأصبح هذا الكتاب القيم من أهم المراجع العلمية في موضوعه. وما أن استقر السباعي في القاهرة، حتى بادر للاتصال بداعية الإسلام الشهيد حسن البنا، وكان قد سمع به من قبل وعرف جهاده في سبيل الإسلام، وكان الإمام البنا قد فرغ من بناء جماعته التي استطاعت بقيادته الفذة أن توجد في مصر التيار الإسلامي الذي أثبت وجوده وقد أفزع الإمام البنا الاستعمار وعملاءه، فأقدموا على اغتياله عام 1949، بعد أن أثبت أنه وجماعته قوة ترهب المستعمرين وتهدد وجودهم ومصالحهم.
السباعي والبنا(4/91)
وقد أعجب السباعي بعمل البنا، ورأى أن ما كان ينشده ويفكر به من تنظيم جماعة تنهض بعبء رسالة الإسلام، قد تحقق على يدي الإمام البنا، فساهم خلال وجوده في مصر بدفع هذه الحركة، وتوسيع نشاطها، وتدعيم أساسها، فاستفاد من تجربتها وأفادها من خبرته ونشاطه. وبلغ نشاطه حداً أقلق الاستعمار البريطاني وأتباعه في مصر آنذاك فألقي القبض عليه من قبل القيادة البريطانية بتهمة تحريض الشعب المصري على الثورة ضد الإنكليز، وزج به في السجن، وبعد شهرين سُلم إلى السلطات الإنكليزية في فلسطين، فأودع معتقل صرفند وبعد مضي أربعة أشهر أفرج عنه لتعيد السلطات الفرنسية اعتقاله من جديد فور وصوله إلى سورية، وزجته في سجون لبنان أكثر من سنتين ونصف، وبعد أن أفرج عنه عاد إلى حمص ثم انتقل إلى دمشق ليتابع نشاطه في الدعوة إلى الإسلام، وقيادة الجماهير في طريق (الحق والقوة والحرية) ورأى أن الوقت قد حان لإخراج الحركة من نطاق العمل الشعبي العام إلى نطاق الحركة المنظمة، وبدأ باصطفاء الأكفياء من الرجال، وانتهى إلى تأسيس الجماعة المنشودة مختاراً لها اسم الحركة الإسلامية في مصر، لإخراج الحركة من النطاق المحلي إلى نطاق الوطن العربي الكبير، فأعلن عام 1945 قيام (جماعة الإخوان المسلمين في سوريا )، وقد انتخبته الهيئة التأسيسية للجماعة فيما بعد مراقباً عاماً مدى الحياة، فقاد الجماعة قيادة الحكيم حتى استطاع أن يوجد في سورية التيار الإسلامي الواعي الذي استقطب خيرة الشباب المثقف المؤمن، واستمر السباعي القائد يمنح دعوته وجماعته من شبابه المتوقد وحيويته النادرة وعقله الجبار وروحه القوية وكل ذرة من جهده ووقته حتى سقط من الإرهاق، لكنه لم يستسلم للمرض وكان يقول: (خير لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله، من أن أموت على فراشي، فالآجال بيد الله، وإن ألمي من حرمان الطلاب من دروس التوجيه أشد وأقسى من آلامي الجسدية، وحسبي الله وعليه الاتكال).
التدريس
بعد أن أنهى السباعي دراسته وعاد إلى بلده انخرط في سلك التعليم، رغبة منه في نشر العلم، وتربية النشء على أخلاق الرجولة، فكان يدرّس اللغة العربية والتربية الدينية في مدارس حمص الثانوية وعندما انتقل إلى دمشق عمل مع فئة من إخوانه على إنشاء مدرسة تحقق ما يصبو إليه من أهداف في التربية والتعليم، فأسس (المعهد العربي) في دمشق الذي انضمت إلى إدارته فيما بعد جمعية التمدن الإسلامي، فأصبح الاسم (المعهد العربي الإسلامي)، ولم يقتصروا على إنشاء هذا المعهد في دمشق بل فتحوا له فروعاً في أكثر المحافظات، وكان السباعي أول مدير لهذا المعهد الذي خرّج في زمانه طلاباً كانوا خيرة ما أنتجته المدارس في سورية.
وفي عام 1950 عيّن السباعي أستاذاً في كلية الحقوق في دمشق، فكان من ألمع الأساتذة في فن التدريس وخصب الإنتاج العلمي. وقد فكر في إنشاء كلية خاصة مستقلة للشريعة الإسلامية، على أرفع المستويات العلمية والفكرية، فنجحت مساعيه رغم العراقيل والصعوبات وتم تأسيسها عام 1955، وكان أول عميد لها إلى جانب قيامه بالتدريس في كلية الحقوق واضطلاعه بكافة المسؤوليات العامة الملقاة على عاتقه كداعية وكصاحب فكرة.
تأسيس كلية الشريعة :
يقول الأخ محمد السيد :
فلما طلب أن يضحي أحد الرجال الأساتذة الكبار بمنصبه المستقر الكبير في الجامعة، ليتسلم عمادة كلية الشريعة منصباً غير معروف المصير، لم يقبل أحد بهذه التضحية، في حين أقدم الدكتور السباعي على قبول المنصب مضحياً بمكانه الكبير في كلية الحقوق....
ويبين الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء أهمية هذه التضحية من الدكتور السباعي رحمه الله فيقول: وإني لأعترف وأنا أغض من بصري، أنني والأستاذ الدكتور معروف الدواليبي من أساتذة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، لم نقبل أن نضحي بمراكزنا... لاعتبارات عديدة تجعل هذه التضحية ثقيلة علينا، فضعفت نفوسنا، وضحى السباعي رحمه الله بمركزه الجديد الثابت في كلية الحقوق وقال: »أريد أن أضرب المثل بنفسي...
كما عمل السباعي بالتعاون مع إخوانه الذين شاركوه في تأسيس كلية الشريعة على إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي تهدف إلى إحيائه، وصياغته صياغة جديدة وتبويبه وتصنيفه على أحدث الأساليب المتبعة في أرقى الموسوعات العلمية والقانونية في العالم لتكون مرجعاً لكل فقيه وعالم، ولتلبي حاجة التشريع، وقد تحدى السباعي كل صعب حتى أخرج المشروع إلى حيز الوجود، وكان أول رئيس لهذه الموسوعة التي جمعت خيرة العناصر العلمية والفقهية والقانونية في الجامعة.
وكان السباعي أيضاً رئيساً لقسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق. وكان يرى أن مناهج كلية الشريعة لا يجوز أن تقتصر على تلقين العلوم الجافة، وأن غاية الكلية ليست تخريج العلماء والفقهاء فحسب، وإنما كان يريد أن يكون خريجو الشريعة علماء ودعاة، لذلك عني بمناهج التربية والتعليم والتوجيه في الكلية، فأحدث درساً أسبوعياً سماه (قاعة البحث) وقد تولى بنفسه إدارة هذه القاعة، وإلقاء محاضراته التوجيهية.
السباعي وفلسطين :
وهنا يصف الأستاذ إميل الغوري موقفاً من مواقف الجهاد للدكتور السباعي، نرى من الواجب نقله إلى هذه الصفحة. يقول الأستاذ الغوري في مقالة له بعنوان (ذكريات من جهاد السباعي):(4/92)
( ....وفي ليلة 2 أيار 1948 وفيما كانت طلائع المجاهدين تتقدم نحو المستعمرتين الآنفتي الذكر، فوجئنا بقدوم عدد من الرجال المسلحين، أكد لنا الحرس أنهم من العرب، وأنهم يريدون المساهمة في الجهاد والانقضاض على المستعمرين.. وجدنا أنهم (قوة سورية) مؤلفة من 150 رجلاً من الشبان.. وكان على رأس القوة الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في لباس الميدان متمنطقاً سلاحه للجهاد في سبيل الله، فهلل المجاهدون ورحبوا بإخوان الجهاد. وقبيل خوض المعركة حاولنا إبقاء الشيخ مصطفى في مقر القيادة بعيداً نسبياً عن أرض المعركة، كما سعيت شخصياً للاحتيال على الشيخ وإبقائه في القيادة، للقيام بأعمال خطيرة ومهمة، لكنه أبى ورفض وأصر على خوض غمار المعركة مهما كلف الأمر، وقال: إنه لم يحضر من دمشق إلا بنية الشهادة في سبيل الله.. وصمم على أن يشترك بنفسه في الطليعة، فكان له ما أراد، فخاض المعركة ورفاقه ببطولة، وانتهت المعركة بنصر مؤزر. .. ).
في معركة كفار عصيون التي استمرت عاماً كاملاً بشكل مناوشات ومواجهات مستمرة بين العرب ويهود من منتصف عام 1947 حتى منتصف أيار 1948 حيث كانت في هذا الشهر المعركة الحاسمة التي اشتركت فيها كتيبة الإخوان السوريين يقول الأستاذ الشيخ زهير الشاويش الذي اشترك في تلك المعركة: »وفي هذه المعركة الكبيرة كان لمجموعتنا شرف المشاركة فيها بقيادة الأستاذ مصطفى السباعي، وكان حضورنا إلى أرض المعركة في اليوم الثاني على بدئها... وانتهت المعركة باستسلام اليهود وتحرير المنطقة.. وكانت خسائر اليهود كبيرة جداً... وبعد أن رجع الأستاذ السباعي رحمه الله إلى الروضة كان مع مجموعته بعض الأسرى من اليهود المقاتلين، وأما الباقون فقد جرى السماح لهم بالذهاب إلى القدس.«
لم تكن قضية فلسطين، قضية عادية عند السباعي، فهو الزعيم القائد الذي قرن القول بالعمل فطاف أنحاء البلاد من أدناها إلى أقصاها يلقي الخطب الحماسية يثير بها الجماهير المؤمنة في كل مكان، ويأخذ عليها العهود والمواثيق بأن تبذل لفلسطين الإسلامية كل غال، وقد كان ذلك عقب الإفراج عنه سنة 1943 وقد نشرت صحف دمشق وغيرها من الصحف العربية يومئذ أنباء هذه الجولات والمظاهرات التي كان يقودها عقب كل خطاب في كل مدينة وقرية في أنحاء سورية. كما نشرت هذه الصحف محاضراته وخطبه وأحاديثه.
وفي عام 1948 ولدى اعتراف الأمم المتحدة بشرعية دولة إسرائيل في فلسطين، انطلق السباعي يجوب المدن السورية ويدعو إلى التطوع لإنقاذ فلسطين، واندفع في مقدمة الركب يقود كتائب الشباب المؤمن من جماعة الإخوان المسلمين الذين رباهم على مبدأ (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، وفي أرض المعركة تم لقاء كتائب إخوان سورية بكتائب إخوان مصر، والتقى السباعي بالبنا وتعاون القائدان ووضعا خطة مشتركة للمعركة، وتوزعا أماكن القتال، واستمر مجاهدو الإخوان يقاتلون ببسالة وشجاعة بقيادة الدكتور السباعي حتى صدرت الأوامر العليا بالانسحاب.
وعلى مر الأيام والسنين لم ينس السباعي القضية الفلسطينية، فدعا إلى تخصيص أسبوع من كل عام باسم (أسبوع الخطر الصهيوني) تقام فيه المهرجانات الشعبية في سائر أنحاء البلاد، وبدأ هذا المشروع عام 1955، ودعا فيه قادة الحركة الإسلامية في الوطن العربي للاشتراك في هذا الأسبوع، وطاف معهم في شتى أنحاء البلاد يتحدثون عن الخطر الصهيوني، ويقودون المظاهرات الشعبية لمطالبة الحكومات والمسؤولين بإعداد الشعب للمعركة واتخاذ كافة الاستعدادات لمعركة التحرير.
كما طالب وإخوانه في المجلس النيابي بتدريس القضية الفلسطينية كمادة أساسية في منهج التعليم، وقد أقر هذا الاقتراح ونفذ بالفعل، حتى تم تجاوزه في المناهج الدراسية في سورية بعد عام 1963 تمهيداً لما سيأتي بعد !!
السباعي في المجلس النيابي :
انتخب السباعي نائباً عن دمشق في الجمعية التأسيسية التي تحولت بعد وضع الدستور إلى برلمان (1949 ـ 1954)، وكان أهلاً لهذه الثقة وسرعان ما لمع نجمه كبرلماني شعبي متفوق يقارع الباطل والفساد ولا يهادن، فاتجهت إليه الأنظار، والتفتت حوله القلوب داخل البرلمان وخارجه انتخب نائباً لرئيس المجلس، وأصبح عضواً بارزاً في لجنة الدستور العامة، وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور، وقدموها إلى اللجنة العامة لإقراره بعد أن ضمَّنه مواد إسلامية رائعة. وقد تبنى مصطفى السباعي في البرلمان السوري حركة العمال ودافع عن حقوقهم وطالب برفع مستواهم المادي والاجتماعي والأخلاقي، وتبنى مطالبهم في مجلس النواب، وطاف القرى وعاش مع الفلاحين وعرف مشاكلهم وطالب برفع مستواهم وإنصافهم. كما قام بإنشاء المعاهد والمدارس، وساهم في تأسيس عدد من الأندية الرياضية في جميع المحافظات السورية، وتأسيس عدد من اللجان لجمع التبرعات وتوزيعها على المحتاجين والأسر الفقيرة.
وقد بذلت له العروض المغرية للدخول في الوزارات المتعاقبة فأبى مؤثراً العمل الشعبي والبقاء بين الجماهير يعيش مشكلاتها وقضاياها عن الانشغال عنها بالمناصب والمغانم.
السباعي والشيشكلي :
ويحدثنا أخوه في الإخوان المسلمين الشيخ محمد المجذوب فيقول :
( .... وكان الفقيد العظيم أشد الناس بغضاً للانقلابات العسكرية ، لإيمانه أن السبيل الوحيدة للإصلاح ، أياً كان، إنما هو الفكر الحر والمنطلق العلمي المبني على الحجة المفحمة .. وهذا ما دفعه إلى استنقاد مجهوده في سبيل إقناع أديب الشيشكلي بإعادة الحياة البرلمانية إلى البلاد ، بعد تلك الاندفاعة الحمقاء التي قوض بها العهد الدستوري .(4/93)
وتردد أياماً بين الشيشكلي والدواليبي المعتقل ، تحقيقاً لهذه الغاية ، ولكن النجاح كان مستحيلاً عليه، لأن طموح الشيشكلي لم ينسجم مع الغاية التي يريدها الفقيد ، لذلك سرعان ما قلب له ظهر المجن ، وضمه إلى صديقه رئيس الوزراء الدكتور معروف في معتقل المزة ، وأعقب ذلك بمصادرة حرية الجماعة فأغلق مراكزها ، ووضع رجالها تحت مراقبة شديدة .
وبعد مدة غير يسيرة أخرجه من المعتقل لمواجهته ، وقد حدثني أبو حسان ، عليه رحمة الله ، بالبحث الذي دار بينهما يومذاك :
قال الشيشكلي : يؤسفني أيها الأستاذ أن تصدر عني إساءة نحوك ، وأنا الذي أقدر جهادك ، وأثق بإخلاصك ومن معك .. وقد كان الأحرى بنا أن نأتلف بدلاً من أن نختصم ونختلف .. ومع ذلك فإن المجال لا يزال أمامنا متسعاً لذلك فلننس الماضي ولنتعاون .
فقال أبو حسان : ولكن الذي وجدته منك أكد لي ألا سبيل إلى التلاقي .
قال الشيشكلي : ولم لا .. إنك تدعو إلى الإسلام ، وأنا والله مسلم يملأ قلبي الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، فكيف لا يتم تلاقينا .
قال الفقيد : لعلك تفهم الإسلام عبادة وعقيدة وحسب ، أما نحن فالإسلام في مفهومنا نظام يشمل الحياة ويقدر لكل شيء حسابه ، لأن الله يقول لنا : [ما فرطنا في الكتاب من شيء] ومعنى ذلك أننا لا نستطيع القبول بالواقع الذي تفرضه القوة ، ولا بد لنا من النضال بكل الوسائل المشروعة حتى نعيد إلى هذه الديار نظامها الإسلامي الذي به دخلت أمتنا التاريخ ، وبه تسنمت مركز القيادة العالمية من أوروبة إلى أقصى الصين .
وهنا لم يبق متسع لاستمرار المحاولة ، فأعلن صاحب الانقلاب أسفه لإصرار السباعي على معارضته ، ونهض ليودعه وهو يقول " إذن فنحن معذورون في اتخاذ كل ما نراه ضرورياً لحماية أهدافنا . ولكني آمل ألا نيأس من إمكان التلاقي في وقت وآخر.. عندما تتضح لكم حقيقة أغراضي يا دكتور !.."
وكان طبيعياً أن يفرض الحصار على تنقلات الفقيد ، وعلى داره ، التي أخذت تزدحم بالزائرين من مختلف أنحاء دمشق وغيرها . ثم رأى الشيشكلي أن دمشق لا تتسع له وللفقيد فأخرجه إلى لبنان ، حيث بقي في منفاه هذا إلى نهاية ذلك العهد
أسفاره في الدعوة :
في عام 1951 رأس مصطفى السباعي وفد سورية إلى المؤتمر الإسلامي العالمي في الباكستان فكان من أبرز شخصيات المؤتمر وأكثرها نشاطاً وإنتاجاً. وفي عام 1954 رأس وفد سورية إلى المؤتمر الإسلامي المسيحي المنعقد في بحمدون، وألقى هناك خطابه المشهور عن (الإسلام والشيوعية) فذعرت له الدوائر الاستعمارية الغربية التي كانت تستتر وراء المؤتمر. وفي عام 1956 أوفدته الجامعة السورية إلى ديار الغرب لزيارة الجامعات الغربية والاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية فيها، فزار تركيا وإيطاليا وبريطانيا وايرلندا وبلجيكا وهولندا والدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا وألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا، واجتمع في هذه البلاد كلها بالمستشرقين من أساتذة الدراسات الإسلامية والشرقية، وناقشهم في مؤلفاتهم عن الإسلام، وكشف لهم الأخطاء العلمية والتاريخية التي وقعوا فيها، وبين لهم حقائق الإسلام بأسلوب علمي فأدهشهم بقوة حجته وغزارة علمه، وحضور بديهته وسعة آفاقه، ومرونة أسلوبه. وقد عاهده فريق منهم على أن لا يكتبوا عن موضوع إسلامي إلا بعد أن يراجعوه في صحة المعلومات التي وصلت إليهم. كما أنه استفاد من وجوده هناك فألقى المحاضرات في المساجد وفي الجامعات وفي الندوات مدافعاً عن حقوق العرب في فلسطين والجزائر، وعن قضايا الشرق والإسلام.
وفي عام 1957 سافر إلى موسكو مع إخوانه عمداء كلية الجامعة بدعوة من جامعة موسكو زار خلالها معظم الجامعات الروسية في مختلف الأقاليم، والتقى بأساتذة الدراسات الشرقية والتاريخية والاجتماعية، وناقشهم في أقوالهم وآرائهم في الإسلام، كما ناقش غيرهم من الشخصيات السوفييتية، فكشف لهم أخطاءهم ووضح لهم رأيه صريحاً في موقفه من الشيوعية في البلاد العربية، كما شرح لهم مواقف الشيوعيين في البلاد العربية من القضايا الوطنية والاجتماعية وفضح أخلاقهم وأساليبهم.
في عام 1955 أسس مصطفى السباعي مع إخوانه جريدة (الشهاب) التي استمرت حتى عام 1958، كما أصدر أيضاً عام 1955 مجلة (المسلمون) بعد احتجابها في مصر، وفي عام 1958، رأى تغيير اسم المجلة فسماها (حضارة الإسلام) وأفرد فيها باباً للقضية الفلسطينية باسم (الدرة المغتصبة).
وفي عهد الشيشكلي في أواخر عام 1952، تعرض الدكتور السباعي لمضايقة السلطة الحاكمة التي فرضت عليه رقابة مزعجة تحصي عليه حركاته وسكناته. ولم يكتف الشيشكلي بهذه المضايقة بل طلب من أساتذة الجامعة ومن كبار الموظفين أداء قسم الولاء لعهده والدخول في الحركة التي أسسها باسم (حركة التحرير)، ولكن السباعي رفض الانصياع للأوامر، فغضب الشيشكلي وأصدر مرسوماً بتسريحه من الجامعة، وأبعده عن البلاد فاختار لبنان وبقي فيه حتى أواخر عهد الشيشكلي، وهناك في لبنان التف حوله مئات الشباب الجامعي المثقف، وأظهروا له استعدادهم لإنشاء حركة إسلامية في لبنان بقيادته، وفعلاً أسس معهم الحركة التي استمرت تسير على النهج الذي رسمه لها.
وفي مطلع عام 1956 حاول أحد المجرمين المأجورين الإقدام على اغتيال السباعي، ولكن الله سلمه، وتمكنت سلطات الأمن من إلقاء القبض على المجرم الذي تبين أنه أحد أفراد عصابة مأجورة لمصلحة دولة أجنبية، وأن سبب الاغتيال وقوف السباعي في وجه الأحلاف الغربية.(4/94)
كان السباعي رحمه الله عالماً وداعية وسياسياً استطاع أن يقود حركة الإخوان المسلمين في سورية في ظروف كثيرة التقلب بالغة التعقيد، ولكنه كان دائماً يبرز هذه الحركة متشابكة في نسيج المجتمع السوري بأبعاده كافة الإسلامية والاجتماعية والسياسة. كما أنه قاد على الصعيد الإسلامي حركة إصلاح ديني فقاوم البدع والتقاليد البالية، وارتقى بالخطاب الإسلامي إلى مستوى العصر الذي يعيشه المسلمون، وأعطى الدعوة من روحه وعقله وعصبه مما أهلها أن تكون من الحركات الإسلامية المؤثرة في العالم العربي والإسلامي.
توفي السباعي إثر مرض ألم به يوم السبت الثالث من تشرين الأول عام 1964.
ولنقرأ ماكتبه الشيخ محمد المجذوب يرحمه الله أحد إخوة الشيخ السباعي المعاصرين له ، والذين لهم تفاعل مباشر معه ..يقول واصفاً جنازته يرحمه الله :
( ....ووصلت دمشق ظهر اليوم التالي ، ولم أعرف مكان الجثمان إلا من انقطاع حركة المواصلات في شارع مدحت باشا . وسرعان ما ابتلعني موكب الجنازة العزيزة كقطرة الماء لامست السيل الهادر، الذي ما لبث أن ملأ شارع الحميدية حتى قلب الجامع الأموي .. وأبت دمشق الوفية المؤمنة أن تحمل السيارة جسد البطل الذي طالما هز منابرها وأثار عزائمها وحفز شبابها لاستعادة مكانتها في خدمة الإسلام ، وتحرير أرض الإسلام ، فإذا هي تتداول نعشه على الراح حتى المقبرة ، التي ضمت من قبله أجساد الأباة من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وتابعي تابعيهم من أعلام الهداة .
وفي غمرة الأنين والنشيج وانطلاقات الأصوات المؤمنة بشعارات السماء ، التي وقف الفقيد حياته الغالية على تركيزها وتحقيقها ، والتي بذل في نصرتها آخر أنفاسه في لحظاته الأخيرة .. وجدتني أتساءل وأتذكر.
أتساءل عن السر الذي يحفز هذه السيول من الجموع على تحمل الحر والزحام طوال ساعات ، لا تفارق الموكب الحزين حتى تودع الثرى جثمان الرجل ، الذي زحفت لتشييعه من أنحاء القطر السوري ، ومن كل بلد مجاور اتسع وقته وظروفه للمشاركة في هذا التشييع ؟
أتقديراً لعلم الفقيد .. وقد كان من العلم في المكان المرموق .....
أتعظيماً لجاه ناله من الدنيا !!!!!؟ وقد كان له الجاه الذي يغبطه عليه الكثيرون من أهل الدنيا ؟
أم تزلفاً إلى قوم من الأحياء يبتغون لديهم المنفعة بهذه المشاركة !!!!؟ ولكن كثيراً من العلماء الكبار يموتون كل يوم .. فما يكاد يحس بهم أحد .. وأكثر من هؤلاء أصحاب الجاه الذين تسنموا بالحق أو بالباطل أرفع المنازل ، ثم ذهبوا من هذه الدنيا أذلة لا يكاد يذكرهم أحد ، إلا عند تعداد السيئات .. وتوزيع اللعنات ؟
وأما المنفعة فهي أبعد الأشياء عن هذه المناسبة .. بل لعل ضررها على المشارك فيها هو الشيء الطبيعي، الذي لا ينبغي أن نتوقع سواه .
والحق الذي يحسه كل ذي ضمير، ويدركه كل ذي تفكير، هو أن هذه الآلاف المؤلفة إنما زحفت ونصبت وصبرت تمجيداً للفكرة التي دفع السباعي حياته كلها ثمناً لها ، وأذاب قلبه الكبير وقوداً لاستبقاء وهجها ، في إخلاص لله لم يشبه مطمع دنيوي ، وجهاد للحق لم يستهدف سوى تحرير الوطن الإسلامي من سلطان الطغيان أياً كان مصدره ، وتحريراً للفكر العربي والإسلامي من كل استعباد مهما يكن أثره ومؤثره .
والإخلاص لله ، والجهاد في سبيله ، كانا وانفكا في تاريخ هذه الأمة مبعث العزة ، ومنطلق الخلود .. وصدق الفاروق أمير المؤمنين إذ يهتف في وجه أبي عبيدة أمين هذه الأمة :
"... نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما نبتغ العزة بغيره أذلنا الله ".
ألا فليت المخدوعين بمغريات الدنيا ، المتفانين على سكرتها المسمومة ، يفطنون لهذه الحقيقة فيصونوا جباههم من تراب الهوان ، ويرتفعوا بأنفسهم ونواياهم وأعمالهم إلى المستوى الذي يفرضه الإيمان ، ليستحقوا مثل هذا المصير الذي انتهى إليه أبو حسان ....) يرحمه الله .
وترك عدة مؤلفات هي :
ـ أحكام الزواج والخلالة. ـ أحكام الوصاية والوصية. ـ أحكام المواريث.
ـ الوصايا والفرائض. ـ أخلاقنا الاجتماعية. ـ اشتراكية الإسلام.
ـ السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. ـ أحكام الصيام وفلسفته.
ـ نظام السلم والحرب في الإسلام. ـ الدين والدولة في الإسلام.
ـ مشروعية الإرث وأحكامه في الإسلام. ـ المرونة والتطور في التشريع الإسلامي. ـ القلائد من فرائد الفوائد.
ـ هكذا علمتني الحياة. ـ المرأة بين الفقه والقانون. ـ من روائع حضارتنا.
ـ الأحوال الشخصية. ـ السيرة النبوية.
المراجع:
ـ (معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين)، أحمد الجدع، دار الضياء، عمان، الطبعة الأولى 1999، ص(1247ـ1253).
ـ (الموسوعة التاريخية الجفرافية)، مسعود الخوند، الطبعة الأولى، بيروت، 1997، ص(173،174).
ـ (مصطفى السباعي رجل فكر وقائد دعوة)، عبد العزيز الحاج مصطفى، دار عمار، عمان، الطبعة الأولى 1984
================
د. مصطفى السباعي.. العالم.. الداعية.. المجاهد
الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله كان أحد العلماء البارزين والدعاة المشهورين والمصلحين المعدودين ، وكانت له مع ذلك جهود سياسية واجتماعية مؤثرة ، وهو نموذج من النماذج التي تحتذى، وقدوة يقتدي بها أهل الإسلام في زماننا وفي كل زمان .
ولادته ونشأته(4/95)
ولد الدكتور مصطفى حسني السباعي عام 1915م في مدينة حمص بسورية، ونشا في أسرة علمية عريقة، وكان أبوه وأجداده يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص، وقد تأثر في أول نشأته بأبيه العالم المجاهد الشيخ حسني السباعي، فلقد كان لأبيه مواقف وطنية مشرفة، حيث ساهم في المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين، وقيادة المجاهدين الثائرين ضد الاستعمار والطغاة والمستبدين.
وكان الدكتور مصطفى يصحب أباه إلى مجالس العلم التي يعقدها مع فقهاء حمص، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية حتى بلغ السن التي تخوله دخول المدرسة الابتدائية، حيث التحق بالمدرسة المسعودية، وبعد أن أتم دراسته الابتدائية فيها التحق بالثانوية الشرعية وأتم دراسته فيها عام 1930م بنجاح باهر لما كان يتمتع به من ذكاء مبكر ونباهة متوقدة ونشاط وثاب، فكان لذلك محط إعجاب أساتذته وجميع معارفه.
ورأى أن يتابع دراسته الشرعية، فسافر إلى مصر والتحق بقسم الفقه بالجامعة الأزهرية عام 1233م، ثم انتسب إلى كلية أصول الدين ونال إجازتها بتفوق، والتحق بعدها بقسم "الدكتوراه "لنيل شهادتها في التشريع الإسلامي وتاريخه، وقدم أطروحته العلمية "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" التي نالت درجة الامتياز عام 1949م، وقد أدهش كبار العلماء في الأزهر بدقته العلمية، واستيعابه للموضوع من كل جوانبه، وأصبح كتابه القيم من أهم المراجع في التشريع الإسلامي لكل باحث وعالم وطالب علم.
وقد أحب الدكتور مصطفى مهنة التدريس رغبة منه في نشر العلم وتربية النشء على أخلاق الرجولة والفضيلة، وانخرط في سلك التعليم، فكان يدرّس اللغة العربية والتربية الدينية في مدارس حمص الثانوية، ثم انتقل إلى دمشق وعمل مع إخوانه على إنشاء مدرسة تحقق ما يصبو إليه من أهداف في التربية والتعليم، فأسس "المعهد العربي الإسلامي" في دمشق، وكان أول مدير لهذا المعهد. ثم وقع عليه الاختيار ليكون أستاذًا في كلية الحقوق بجامعة دمشق، فعين فيها عام 1950م، فكان من ألمع أساتذة الجامعة في فن التدريس وخصب الإنتاج العلمي.
وفكر الدكتور السباعي في إنشاء كلية خاصة مستقلة للشريعة الإسلامية تكون إحدى كليات الجامعة وتعمل على تخريج علماء في الشريعة الإسلامية على أرفع المستويات العلمية والفكرية.. ونجحت مساعيه رغم العراقيل والصعوبات التي وضعت في طريقه، وتم تأسيسها عام 1955م، وكان أول عميد لها إلى جانب قيامه بالتدريس في كلية الحقوق والقيام بمسؤولياته الأخرى كداعية وصاحب فكرة.
لقد كان السباعي طاقة جبارة لا تعرف الوقوف عند حد.. ولا تعرف الاكتفاء بالعمل في ميدان واحد، فكان أُمَّة حية دائبة النشاط والحركة والتطلع إلى أكبر الأهداف وأسمى الغايات، وكان يهدف لإحياء التراث الفقهي الإسلامي العظيم، فعمل مع إخوانه الذين شاركوه تأسيس كلية الشريعة على إنشاء موسوعة للفقه الإسلامي تهدف إلى إحيائه وصياغته صياغة جديدة وتبويبه وتصنيفه على أحدث الأساليب المتبعة في العالم، وأخرج المشروع إلى حيز الوجود، وكان أول رئيس لهذه الموسوعة. وكان بالإضافة إلى ذلك رئيسًا لقسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق، كما عني بمناهج التربية والتوجيه في الكلية، وكان يحرص على توجيه الطلاب توجيهًا مباشرًا، فأحدث درسًا أسبوعيًّا سماه "قاعة البحث" تولى إدارته بنفسه، وكان يحرص على هذا الدرس حتى في أيام مرضه الشديد، ولمّا طالبه إخوانه بشيء من الراحة لجسمه كان يقول: "خير لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله من أن أموت على فراشي، فالآجال بيد الله، وإن ألمي من حرمان الطلاب من دروس التوجيه أشد وأقسى من آلامي الجسدية، وحسبي الله وعليه الاتكال".
نشاطه:
لقد كان السباعي - رحمه الله - طاقة جبارة من النشاط المتوقد الذي لا يعرف الملل ولا الفتور.. فليس غريبًا أن يخوض الميادين المختلفة، ويكافح في جبهات متعددة، ثم ينجح ويتفوق في كل هذه الميادين.
1- كفاحه الوطني: لقد رافقت نشأتَه منذ الصغر ظروفٌ قاسية مرت بها البلاد.. من استعمار وفساد وتخلف وجهل ومظالم اجتماعية وسياسية، ولقد تحسس السباعي هذه المآسي، وهبّ متمردًا على هذا الواقع السيئ، وكان أول عمل قام به تأليف جمعية سرية لمقاومة مدارس التبشير الأجنبية، ودعا إلى محاربة الاستعمار ومدارسه ومظالمه من فوق المنابر بخطب مثيرة، وكان يقود المظاهرات الصاخبة، مما أزعج السلطات الاستعمارية والحاكمة، فألقي القبض عليه لأول مرة عام 1931م بتهمة توزيع نشرات ضد سياسة فرنسا في المغرب، ولكنهم أفرجوا عنه تخفيفًا للهياج الشعبي الذي عقب اعتقاله، واعتقل مرة ثانية عام 1932م وسجن عدة أشهر، وعندما أفرج عنه سافر إلى مصر عام 1933م والتحق بالأزهر ليتابع دراسته، وهناك اشترك مع إخوانه في العمل الوطني، فتزعم طلاب الأزهر وقاد المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، مما دعا المستعمرين الإنجليز إلى القبض عليه وسجنه عام 1934م، ثم سجنوه مرة ثانية عام 1940م، وأخرجوه من مصر، وما كاد يصل إلى سورية عام 1941م حتى قبض عليه الفرنسيون خوفًا من أن يثير عليهم الجماهير، فزجوه في سجون حمص ولبنان مدة سنتين ونصف.(4/96)
أما قضية فلسطين فقد كانت عند السباعي قضية العقيدة ومقدساتها المهددة.. فلما أعلن قرار التقسيم طاف أنحاء البلاد يثير الجماهير المؤمنة ويلهب فيها روح الاستشهاد في سبيل الله.. وفي عام 1948م اندفع في مقدمة الركب يقود كتائب الشباب المؤمن، فخاض بهم المعارك القاسية حول مدينة القدس، وفي أرض المعركة استمروا يقاتلون ببسالة وشجاعة نادرتين إلى أن توقف القتال بتوقيع الهدنة وإبعاد المجاهدين عن أرض المعركة.
2- كفاحه في مجال السياسية: كان السباعي على رأس الذين لا يعدون السياسة مهارة في كذب.. أو لباقة في خداع.. وإنما السياسة أن يهتم المسلم بأمر المسلمين ليكون منهم، وأن خير السياسة ما كان قائمًا على تقوى وهدى وبصيرة. والسباعي لم يكن ابنًا لمدينة حمص وحدها وإنما كان ابن الإسلام أينما كان. ولذلك اختارته دمشق نائبًا عنها في الجمعية التأسيسية عام 1949م، وسرعان ما لمع نجمه كبرلماني شعبي متفوق.. إذ كان الصدى الحقيقي المعبر لأماني الشعب وآلامه والصوت المدوي الذي يصدع بالحق ولا يداري، ويقارع الباطل ولا يهادن، ويترفع عن المكاسب والمغانم ولا يساوم.. فاتجهت إليه الأنظار والتفت حوله القلوب، وانتخب نائبًا لرئيس المجلس وأصبح عضوًا بارزًا في لجنة الدستور وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور. وقد بذلت له العروض بإلحاح وإغراء للدخول في الوزارات المتعاقبة فرفضها مؤثرًا العمل الشعبي، والعيش مع مشكلات الجماهير وقضاياها.
3- كفاحه في الدعوة وبعث الفكرة الإسلامية: لقد ساهم السباعي في تأسيس وقيادة عدة من الجمعيات الإسلامية في حمص وفي غيرها، ولما سافر إلى مصر عام 1933م اتصل بالداعية الكبير حسن البنا، ورأى فيه بغيته وطريقته، ولما عاد إلى سورية تابع نشاطه في الدعوة إلى الإسلام، وأعلن قيام "جماعة الإخوان المسلمين" عام 1945م، وقاد الجماعة قيادة الحكيم، وأوجد في سورية تيارًا إسلاميًّا واعيًّا استقطب خيرة الشباب.
4 - كفاحه في ميدان الصحافة: لقد أدرك السباعي أهمية الصحافة كسلاح فعال في يد الفكرة الإسلامية تستخدمه في توجيه وقيادة الرأي العام وتوعية الجماهير بأهدافها وقضاياها، فأنشأ لذلك جريدة "المنار" من سنة 1947م إلى سنة 1949م، وعالج فيها أهم مشاكل الأمة ببيانٍ مشرقٍ وأسلوب مثير وجرأة نادرة وتحليل دقيق. وفي عام 1955م أسس مع إخوانه جريدة "الشهاب" التي استمرت حتى عام 1958م. وفي نفس العام 1955م أصدر مجلة "المسلمون" بعد احتجابها في مصر. وفي عام 1958م رأى تغيير اسم المجلة فسماها "حضارة الإسلام" وأعطاها من جهده وفكره ما جعل منها مدرسة للفكر الإسلامي الأصيل، وجعلها منبرًا للدفاع عن قضايا العالم الإسلامي الكبير، وأفرد فيها بابًا للقضية الفلسطينية باسم "الدرة المغتصبة".
وهكذا كانت حياة السباعي - رحمه الله - صفحات تاريخية تزخر بالمفاخر والمآثر والبطولات والتضحيات وجلائل الأعمال.. فكان الداعية الفذ الذي وهب دعوته وفكرته كل ذرة من جهده وفكره وقلبه وروحه وأعصابه وحياته.. وحتى السنوات الأخيرة من حياته والتي هجم فيها عليه المرض واستمر ثماني سنوات حمل خلالها من الآلام ما لا يقدر على حمله رجال من أولي العزائم . ورغم هذه الآلام فقد كانت فترة مرضه هذه من أخصب فترات حياته إنتاجًا فكريًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا.
وضرب أستاذنا السباعي عليه رحمة الله خلال مراحل مرضه أروع آيات الصبر الجميل مع ما فيه من الرضا والتسليم لقضاء الله.
مؤلفاته الفكرية:
الدكتور السباعي موسوعة فقهية واعية وعقلية نيرة أنتجت مئات الأبحاث.. وعشرات الكتب في مختلف الموضوعات الفقهية والفكرية.. وزود المكتبة الإسلامية بثروة ضخمة وإنتاج متميز، ومن أهم هذه الكتب:
1- أحكام الزواج .
2- أحكام الأهلية والوصية.
3- أحكام المواريث.
4- الوصايا والفرائض.
5- أخلاقنا الاجتماعية. طبع مرات متعددة، الأولى عام 1375هـ.
6- اشتراكية الإسلام. ألفه عام 1959م وطبع ثلاث مرات.
7- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، طبع مرتين الأولى عام 1960م.
8- أحاكم الصيام وفلسفته.
9- نظام السلم والحرب في الإسلام.
10- الدين والدولة في الإسلام.
11- مشروعية الإرث وأحكامه في الإسلام.
12- المرونة والتطور في التشريع الإسلامي.
13- القلائد من فرائد الفوائد، طبع عام 1962م.
14- هكذا علمتني الحياة، ألفه عام 1962م وطبع مرتين.
15- المرأة بين الفقه والقانون، طبع مرتين الأولى عام 1962م، والثانية عام 1966م.
16- من روائع حضارتنا، طبع مرتين الأولى عام 1959م. والثانية عام 1968م.
17- الأحوال الشخصية.
18- السيرة النبوية.
شعره:
لقد عرف الناس السباعي قائدًا مجاهدًا، ومرشدًا مربيًّا، وعالمًا فقيهًا، وخطيبًا ناثرًا، ومفكرًا حكيمًا، وسياسيًّا صادقًا.. في كل فترة من فترات حياته.. أما الشعر فلم يعرف عنه إلا في السنوات الأخيرة من حياته.. السنوات التي كان فيها يعاني من شدة المرض.. فجاء شعره في هذه الفترة مناجاة.. وتضرعًا ودعاء.. ينطق بالحكمة ويحمل روح الداعية الذي يشكو عنت الزمان والأحداث.
والحقيقة أن السباعي قال الشعر منذ يفاعته.. قاله في الدعوة إلى الإسلام. وقاله في الأحداث السياسية التي مر بها وطنه. ولكن انشغاله بالجهاد والتربية، وبالعلم والفقه، وبالكفاح الدائب في شتى الميادين جعله من الشعراء المقلين.
وفاته(4/97)
وفي يوم السبت الثالث من تشرين الأول عام 1964م انطفأت الشعلة المتوقدة وانتقل السباعي إلى جوار ربه عن عمر لم يتجاوز التاسعة والأربعين.. وخرج مئات الآلاف من أبناء سورية، بل وخرجت دمشق عن بكرة أبيها تودع قائدها إلى مثواه الأخير.
=================
محب الدين الخطيب
هو محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب، ولد بدمشق في حي القيمرية في تموز 1886، وبها تلقى علومه الأولية والثانوية. والدته آسية الجلاد أبوها محمد الجلاد من أصحاب الأملاك الزراعية كانت تقية صالحة ذات فضل، توفيت بين مكة والمدينة بريح السموم، وهي راجعة من فريضة الحج من ركب المحمل الشامي، ودفنت هناك بالفلاة، وكان محب الدين صغيراُ في حجرها ساعة موتها، فشمله أبوه برعايته ليعوضه حنان الأم، وبقيت لرحلة الحج هذه صورة في نفسه.
بعدما رجع محب الدين من رحلة الحج ألحقه والده وهو في السابعة بمدرسة الترقي النموذجية، وحصل بعد سنوات على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية بدرجة جيد جداً. ثم التحق بمدرسة مكتب عنبر، وبعد سنة من دخوله المكتب توفي والده، فرأت أسرته أن يترك المدرسة، فتركها ولازم دروس العلماء، وكان ذلك خلال غياب الشيخ طاهر الجزائري المشرف على المكتبات والمدارس في بلاد الشام، فلما عاد الجزائري من سفره وكان بينه وبين والد محب الدين صلة احتواه وعطف عليه وفتح عينيه على قراءة التراث العربي، وبث فيه حب الدعوة الإسلامية، وإيقاظ العرب ليقووا على حمل رسالة الإسلام ، فكان محب الدين يقول: (من هذا الشيخ الحكيم عرفت عروبتي وإسلامي) وكان يعده أباه الروحي.
وسعى له شيخه بأن وجهت إليه وظيفة أبيه في دار الكتب الظاهرية على أن ينوب عنه من يقوم بها إلى أن يبلغ سن الرشد، وفي فترة الانتظار كان الشيخ ينتقي لتلميذه مخطوطات من تأليف الأعلام كابن تيمية وأضرابه فيكلفه بنسخها لتتوسع ثقافته، ويشغل وقته وينتفع بأجر النسخ، ثم وجهه ثانية للالتحاق بمكتب عنبر، كما أشار عليه أن ينتفع بالشيخ أحمد النويلاتي الذي كان له غرفة يعتزل بها في مدرسة عبد الله باشا العظم، كما كانت للشيخ طاهر غرفة فيها، وكذلك غرفة للشيخ جمال الدين القاسمي، ورابعة للشيخ محمد على مسلم فكان محب الدين يتردد إلى هذه الغرف وينهل من علم أصحابها.
وفي هذه الفترة المبكرة تفتحت آفاق التفكير عند محب الدين، وصار يلقح ثقافته الشخصية العربية والإسلامية بما تلقاه في المدرسة من العلوم الكونية، وبما يضفي عليها من مطالعاته المتواصلة في دار الكتب خاصة المجلات الكبرى مثل: المقتطف، والهلال، والضياء وغيرها.
كون محب الدين وهو لايزال في فترة الدراسة الثانوية حلقة صغيرة مع رفقائه يلقحها بالأفكار التي كانت تطرح في حلقة شيخه طاهر الجزائري. بالإضافة إلى قراءة الكتب الجديدة لأمثال عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، كما كان يكتب المقالات العلمية والقطع الأدبية التي يعربها عن اللغة التركية ويرسل بها إلى صحيفة (ثمرات الزمان) في بيروت.
بعد أن نال شهادة الدراسة الثانوية عام 1906، انتقل محب الدين إلى الأستانة وهناك التحق بكليتي الآداب والحقوق معاً، ونزل في حي يكثر فيه أبناء العرب وطلاب العلم، وقد هاله أن يرى الطلاب العرب في تركيا يجهلون قواعد لغتهم وإملاءها فضلاً عن آدابها وثقافتها، ويتكلمون فيما بينهم باللغة التركية، فتخير محب الدين من الشباب العرب طائفة أقنعها بتعلم العربية وآدابها، واتفق مع صديقه الأمير عارف الشهابي أن يقتسما هؤلاء الشباب لتعليمهم وتقوية لغتهم الأم، ثم كاشف محب الدين هؤلاء الشباب أن ما هم فيه يبشر بنهضة مباركة، واقترح أن يسمى عملهم باسم (جمعية النهضة العربية)، ورغبهم بمطالعة الصحف التي كان قد اتفق مع صديقه الأستاذ محمد كرد علي على أن يرسلها إليه في البريد.
ولما اشتد نشاطه في جمعية النهضة العربية، وشعرت به الرقابة الاتحادية، كاد محب الدين أن يهلك لولا أن الذي قام بتفتيش غرفته ووجد فيها أوراقاً وصحفاً عربية ومجلات مهجرية كانت تربطه بأسرة الخطيب رابطة وشيجة.
بعد ذلك اكتفى محب الدين بالدراسة في كلية الحقوق، ولما نجح إلى السنة الثالثة كانت الخطة أن يتفرغ في العطلة المدرسية لمواصلة العمل في جمعية النهضة لولا أن شدة المراقبة حملته باقتراح من إخوانه أن يسافر إلى دمشق، وكان قد كتب إلى اثنين من خلصائه في دمشق يخبرهما بتأسيس (جمعية النهضة العربية) في استانبول ويدعوهما للالتحاق بها، وأن يتعاونا في ذلك على تأسيس فرع لها في دمشق، فانتهز محب الدين هذه العطلة، وتعهد فرع الجمعية هذا حين قدومه دمشق صيف 1907، وفي أثناء العطلة تلقى رسالة من صديقه عارف الشهابي يطلب إليه فيها البقاء في دمشق مدة سنة إلى أن تهدأ الحالة في استانبول وتنقطع الرقابة على الجمعية وأعضائها.
وحدث في هذه الأثناء أن طلبت القنصلية البريطانية في الحديدة باليمن إلى القنصلية في دمشق أن تختار لها شاباً يتقن العربية والتركية، وأن يكون له إلمام بالقوانين العثمانية وشؤون القضاء، فالتحق بها ورآها فرصة للتعرف على اليمن، ومر في طريقه بمصر ليلتقي بشيخه طاهر الجزائري، وصديقه محمد كرد علي.(4/98)
وفي مصر أيضاً اتصل محب الدين الخطيب بالأعلام والأدباء وبزعماء النهضة المصرية، واجتمع بأركان (جمعية الشورى العثمانية) الذين فوضوه بتأسيس فرع رابع عشر لهم في اليمن. وفي اليمن اتصل محب الدين بأهل الثقافة والنباهة وضباط الفرقة الرابعة عشرة من الجيش العثماني السابع في الحديدة، وانعقدت بينه وبين قائد الحديدة البكباشي (شوقي المؤيد العظم) صداقة وثيقة، وكاشفه بأمر جمعية الشورى العثمانية، فاهتم بها، وأرشده إلى طائفة من الضباط الأحرار الذين كان إبعادهم إلى اليمن عقوبة لهم لكراهيتهم للحكم الفردي وميلهم إلى الحرية. فلم يلبث أن افتتح الفرع الرابع عشر للجمعية المذكورة وكان رئيسها (شوقي المؤيد العظم).
ولما أعلن الدستور العثماني عام 1908، رجع محب الدين الخطيب إلى دمشق، بنية العمل على تجديد نشاط (جمعية النهضة العربية) داخل نطاق الدستور العثماني، فرأى أن الدولة لا تريد الاعتراف بجمعية النهضة العربية، وأجبروا الجمعية على أن تجعل اسمها جمعية (النهضة السورية)، وفي هذه الأثناء تمنى أن يشارك في تحرير جريدة (طار الخرج) الهزلية الناقدة للسياسة العثمانية، فانتبهت السلطات الحكومية للجريدة، ولما أوشكت أن تعرف الحقيقة سافر محب الدين إلى بيروت، فكتبت الحكومة إلى المسؤولين في بيروت لملاحقته، انتقل بعدها إلى القاهرة وهناك شارك في تحرير جريدة المؤيد.
عندما تأسس حزب اللامركزية العثماني في القاهرة عام 1913، برئاسة رفيق العظم، كان محب الدين عضو مجلس الإدارة وكاتم السر الثاني فيها. وتأسست في بيروت ثم في باريس جمعية (العربية الفتاة) ذات الدور العظيم، فكان محب الدين يمثل هذه الجمعية بمصر، وينفذ قراراتها التي لها علاقة بحزب اللامركزية.
وفي هذه السنة 1913 أيضاً أسس رشيد رضا (مدرسة الدعوة والإرشاد) فوقع اختياره على محب الدين ليدرس علم طبقات الأرض.
وعندما وقعت الحرب العالمية الأولى قررت الجمعيات السرية ورجالات القومية العربية إيفاد مندوبين إلى زعماء العرب لمفاوضتهم في أمرها، واختاروا محب الدين للسفر إلى الخليج العربي في محاولة للاجتماع بزعماء تلك المنطقة، فسار إلى عدن، ثم بومباي، ثم أبحر إلى الكويت فاعتقله ضابط بريطاني، ومكث في السجن تسعة أشهر دون أن يتمكن من إتمام مهمته، وعاد إلى مصر والحرب على أشدها والاضطهاد التركي في ذروته.
وبعد إعلان الثورة العربية الكبرى طلبه الشريف حسين برقياً، فسافر إلى مكة المكرمة ليؤسس المطبعة الأميرية، وليصدر (جريدة القبلة) الجريدة الرسمية لحكومة الحجاز، وكان الشريف حسين يستشيره في أكثر أموره الخارجية هو والشيخ كامل القصاب بصفتهما من رجال جمعية (العربية الفتاة).
ولما دخل الجيش العربي دمشق عام 1918 بقيادة الأمير فيصل، عاد محب الدين إليها واستقبلته جمعية (العربية الفتاة) ليكون عضواً في لجنتها المركزية التي تشرف على إدارة الدولة من وراء ستار، وأنيط به إدارة وتحرير الجريدة الرسمية للحكومة باسم (العاصمة)، وأُبيح له أن يكتب مقالات توجيهية كما يشاء بلا رقابة.
عام 1920 ولدى دخول الفرنسيين دمشق غادر محب الدين دمشق واستقر في القاهرة، حيث عمل في التحرير في جريدة الأهرام نحواً من خمس سنوات، كما أسس المكتبة السلفية ومطبعتها حيث أشرف بنفسه على نشر عدد كبير من كتب التراث وغيرها، وأصدر أيضاً مجلة (الزهراء) وهي مجلة أدبية اجتماعية شهرية دامت خمس سنوات. ثم أسس جريدة (الفتح) والتي دامت ثلاثة وعشرين عاماً، خصصها للتاريخ والأحداث السياسية، ثم تولى تحرير مجلة (الأزهر) مدة ست سنوات... ثم ساهم في إنشاء جمعية (الشبان المسلمين) في القاهرة وكان كاتم سرها، وقد عملت الجمعية سنوات عديدة في توجيه الشباب إلى الإسلام الصحيح والسير في الطريق المؤدية إلى إعلاء شأن المسلمين. وقد أحدث قيام الجمعية ردة فعل لدى دعة الإلحاد والقائمين على التبشير، فتربصوا به حتى وجهوا أنظار النيابة إلى مقال كتبه بعنوان (الحرية في بلاد الأطفال) نال فيه من ملك الأفغان ومن كمال أتاتورك، فقبض عليه وحكم بالحبس لمدة شهر.
وهكذا قضى محب الدين الخطيب حياته في البحث والتحرير والتأليف إلى أن توفي في القاهرة في كانون الأول عام 1969. وقد ترك آثاراً عظيمة قال عنها الأستاذ أنور الجندي: (وبالجملة فإن السيد محب الدين الخطيب وآثاره تعد رصيداً ضخماً في تراثنا العربي وفكرنا الإسلامي، وقد أضاف إضافات بناءة، وقدم إجابات عميقة، وزوايا جديدة لمفاهيم الثقافة العربية وقيمها الأساسية).
ومن آثاره الكثيرة التي تركها:
ـ توضيح الجامع الصحيح للإمام البخاري (شرح مختضر).
ـ مع الرعيل الأول (عرض وتحليل لصور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
ـ الحديقة (14 جزءاً) (مجموعة أدبية وحكم).
ـ الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة الاثني عشرية.
ـ اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب.
ـ قصر الزهراء بالأندلس.
ـ تقويمنا الشمسي.
ـ تاغور.
ـ الأزهر.
ـ البهائية.
ـ من الإسلام إلى الإيمان (حقائق عن التيجانية).
ـ حملة رسالة الإسلام الأولون.
ـ الإسلام دعوة الحق والخير.
ـ ذو النورين عثمان بن عفان (صدرت الطبعة الأولى بعد وفاته سنة 1394هـ).
ـ الجيل المثالي.
ـ سيرة جيل (تاريخ حافل خلال القرن الرابع عشر الهجري عن القومية العربية وحركات التحرر).
ـ بالإضافة إلى أوراق ومذكرات حافلة بالآراء والأخبار، ورسائل من بينها رسائل بينه وبين الأمير شكيب أرسلان يقال أنها تبلغ ألف رسالة.
المراجع:(4/99)
ـ (تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري، الطبعة الأولى) شكري فيصل وآخرون، دمشق 1986، الجزء الثاني، ص(847، 862).
ـ (الأعلام، دار العلم للملايين) خير الدين الزركلي ، بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء الخامس، ص(282). FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=?U„?³??¨U‚"
================
الشيخ طاهر الجزائري
هو طاهر بن محمد صالح بن أحمد بن موهوب السمعوني، المشهور بالجزائري. هاجر والده من الجزائر إلى دمشق سنة 1263هـ (1847)، وكان من بيت علم وشرف، تولى قضاء المالكية، حيث كان فقيهها في دمشق ومفتيها في الشام.
ولد طاهر الجزائري في دمشق سنة 1852، وتعلم في مدارسها، حيث دخل المدرسة الجقمقية الإعدادية وتتلمذ على الأستاذ عبد الرحمن البستاني، فأخذ عنه العربية والفارسية والتركية ومبادئ العلوم، كما قرا على أبيه أيضاً، ثم اتصل بعالم عصره الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني، ولازمه إلى أن وافاه الأجل، وكان شيخه الميداني فقيهاً عارفاً بزمانه واسع النظر، معروفاً بوقوفه على لباب الشريعة وأسرارها، وببعده عن البدع واتباع الأوهام والبعد عن حب الظهور والتفصح في المجالس، على قدم السلف الصالح بتقواه وزهده، وعلى نهجه سار تلميذه الجزائري فشب محباً للعلم على اختلاف فروعه خاصة علم الطبيعة، يفتش عن مصادره المطبوعة والمخطوطة ويقتنيها، ويتلقف بشوق ما يسمعه من أحاديث العلماء الذين تلقوا العلم في المدارس العالية أو الأجنبية، فإذا به يدخر حصيلة كبيرة قيمة من العلوم الطبيعية والفلكية والرياضية والتاريخية والأثرية إلى جانب ما وعاه من علوم العربية والفقه.
أتقن الجزائري اللغة العربية وأتقن الفارسية والتركية، ونظم بالفارسية كما نظم بالعربية، وتعلم الفرنسية وتكلم بها، وكذلك تعلم السريانية والعبرانية والحبشية، وكان يعرف القبائلية البربرية لغة موطنه، وتعلم كثيراً من الخطوط القديمة كالكوفي والمشجر والعبراني غيرها ليتسنى له دراسة الآثار.
غرُم الجزائري بالكتب المطبوعة والمخطوطة، وعرف الجيد من أصنافها، كما عرف طبقات المؤلفين وتراجم الرجال، وأماكن المخطوطات والنسخ المتفرقة منها في الخزائن الشرقية والغربية، وساعده على إتقان ذلك قوة حافظته.
تولى طاهر الجزائري التدريس في المدرسة الظاهرية بدمشق، والتقى بالوالي مدحت باشا الذي وجد عنده البغية التي يريدها من أجل إصلاح ولاية سورية ورآه ثقة. فهو يبحث عن أمثاله ليستعين بهم في نشر العلم وإصلاح التعليم، وخطط مع الشيخ طاهر لنهضة علمية واسعة، واتفقا على أن خير نهج يؤدي إلى النهضة يقوم على محو الأمية، وكون هذا بنشر التعليم الابتدائي من قبل هيئات أهلية لا تعتمد على الأساليب الحكومية، تجمع المال من الموسرين وتنفقها في الأغراض المقررة، فتثمر جهودها في أقصر وقت مادامت مؤيدة بعطف الوالي ونفوذه.
كان الشيخ الجزائري عضواً في جمعية علمية اجتماعية أسسها بعض العلماء والوجهاء في دمشق، أطلقوا عليها اسم (الجمعية الخيرية)، وقد اعتُمد على هذه الجمعية في تنفيذ خطة النهضة العلمية، فدأب أعضاؤها على توعية الناس وبث حب العلم والترغيب فيه بين الشباب، كما قامت الجمعية بترميم وتجهيز المدارس الموقوفة على طلب العلم، وكذلك ملحقات بعض الجوامع والتكايا، فتم في بضعة أشهر افتتاح نحو تسع مدارس في مدينة دمشق اثنتين منها للإناث.
عُين الشيخ طاهر الجزائري بناء على جهوده مفتشاً للمعارف في ولاية سورية، فبذل جهوداً إضافية جبارة في سبيل إصلاح أساليب التعليم، وكان يتعهد المعلمين بالنصح والإرشاد والتوجيه، ويسمع بشغف آراءهم في ابتكار أنجح الوسائل لتعليم الطلاب والدعوة إلى طلب العلم. وكان يسهر الليالي الطويلة عاكفاً على تأليف الكتب في مختلف العلوم الدينية والعربية والرياضية، مبسطاً أساليبها مختاراً ما تدل التجارب على نجاحه وسهولة تلقينه، وكان يشرف بنفسه على طبع كتبه في مطبعة الجمعية الخيرية.
عمل الشيخ طاهر الجزائري على تأسيس دور عامة للكتب في مختلف البلاد، فكان منها دار الكتب الوطنية الظاهرية ـ وهي اليوم ثروة كبرى من ثروات دمشق الوطنية ـ فجمع فيها البقية الباقية من الكتب والمخطوطات الموقوفة في مختلف الجوامع والمدارس، فهددته أكلة أوقاف المدارس بالقتل إن لم يكف عن جمع الكتب في مكان واحد، لأنه استولى بسيف الحكومة على جميع ما أبقته أيدي النهب من الكتب المخطوطة.
كذلك أسس الشيخ الجزائري بمساعدة آل الخالدي في القدس مكتبة وطنية باسم (المكتبة الخالدية) ضمت كتب الشيخ راغب الخالدي وكتب أسرته، وجمع فيها مخطوطات وكتب أخرى قيمة.
بعد أن سجن الوالي مدحت باشا، أُعفي الشيخ طاهر الجزائري من منصبه الحكومي، وعُرض عليه وظيفة أخرى لا يكون له فيها اتصال بالناس فأبى، ولزم بيته شاغلاً أوقاته بالمطالعة والتأليف، وعاش على بيع الكتب حتى آخر أيامه إلى من يرجو حفظها عندهم وعدم خروجها من الشام، كما واصل تتبع نوادر الكتب والمخطوطات، وكان يدون خلاصة ما يطلع عليه في مذكرات بلغت مجلدين ضخمين.
وكان يسافر بين حين وآخر إلى مختلف البلاد العثمانية والبلاد الشرقية والأوروبية، يجتمع بعلمائها ومفكريها باحثاً في كنوز المكتبات عن مخطوطات التراث العربي. كثر تردد طلاب العلم على الشيخ طاهر الجزائري، مما زاد نشاطه الاجتماعي، ونشر الدعوة للعلم، كما تحلقت حوله طبقة من شيوخ دمشق والعلماء النابهين فيها، فكان يتحفهم بالدروس العلمية والفكرية، والسياسية، ومركزه الأساسي الذي يقيم به دروسه كان مدرسة عبد الله باشا في دمشق.(4/100)
قال الأمير الشهابي: (في تلك المدة التي قضاها الشيخ طاهر الجزائري بالشام، كان يتحلق حوله في دمشق صفوة من المتعلمين والنبهاء والمفكرين العرب، فتألفت من جمعهم أكبر حلقة أدبية وثقافية، كانت تدعو إلى تعليم العلوم العصرية، ومدارسة تاريخ العرب وتراثهم العلمي، وآداب اللغة العربية، والتمسك بمحاسن الأخلاق الدينية والأخذ بالصالح من المدنية الغربية).
فقد كان الشيخ الجزائري يدعو المسلمين إلى تعلم دينهم، والاحتفاظ بمقدساتهم وعاداتهم الحسنة والأخلاق القويمة، وأن يفتحوا قلوبهم لعلوم الأوائل والأواخر على اختلاف ضروبها، وكان يأخذ بأصح الأدلة من الكتاب والسنة ويجتهد بعدها، ولطالما أعطى الحق للمعتزلة والإباضية والشيعة في مسائل تفرد بها وضيقها أهل السنة، وكان يتفنن في بث الأفكار الصحيحة في العامة والناشئة.
قضى حياته يكافح الأمية، ويحارب التعصب، ويحرص على تعليم أولاد الأغنياء خاصة، لأن عندهم المال والجاه وبالتالي تأثيرهم في مجتمعهم أكبر، وحث على أن يتعلم المتعلمون صناعة أخرى، وكثيراً ما يقول: (تعلموا العلم، وتعلموا معه صناعة تعيشون بها حتى لا تقفوا على أرباب السلطان، تستجدون الوظائف والجرايات، فإذا احتاجت الحكومات إليكم أخذتكم لخدمتها، واعملوا بالنزاهة والاستقامة، وأخلصوا لها وللأمة القصد).
كما كانت له آراء شتى هدفها نهضة الأمة، والأخذ بالعلم والأخلاق، وإحياء التراث، وعدم التزلف للحكام ومهاجمة العلماء الجامدين الذين يغلقون باب الاجتهاد، وكان يحذر من الوقوع في حبائل الاستعمار.
كان الشيخ الجزائري يلقن مبادئه ويلقح العقول بأفكاره من حيث لا يشعر المتعلِّم، وكثيراً ما كان يغشى مجالس بعض العلماء الذين يتوسم فيهم صفاء السريرة، فيَظهر بمظهر المستفيد، وغايته إفادتهم خلال الدرس لتنشر أفكاره بطريق السراية من الأساتذة إلى التلاميذ.
وكان نهجه في التعليم التيسير على المتعلم، وإعطاءه لباب العلم دون التعمق بما لا يفيد، والأخذ بالتدريج من البسائط إلى المركبات، وكان يحب اختصار المطولات من كتب الفنون ليسهلها على المبتدئين، ولئن كان في مذهبه الديني مجتهداً فقد كان في تأليفه مقلداً يمشي على آثار القدماء، ولا يحب التوسع والتعليق على آراء المؤلفين المجددين.
كما كان الشيخ الجزائري يشجع على إنشاء الصحف السياسية والاجتماعية، والمجلات العلمية والأدبية، وكان يدعو إلى تناول الصحف النافعة ويبتهج بها، وله شغف بالاطلاع عليها وتتبعها، خصوصاً التي تكثر من الترجمة عند الغرب واقتطاف ثمرات علومه.
قال فيه تلميذه الشيخ سعيد الباني: (جمع بين المعقول والمنقول، ومزج القديم بالحديث، أخذ من كل علم لبابه، ونبذ لفاظته، فكنت تجد منه العالم الديني والمدني والرياضي والطبيعي والسياسي والأديب والمؤرخ والأثري والاجتماعي والأخلاقي والكاتب والشاعر، فكان عنده من كل علم خبر... فهو دائرة المعارف، ومفتاح العلوم، وكشاف مصطلحات الفنون، وقاموس الأعلام).
في سنة 1898 عُين الشيخ الجزائري مفتشاً لدور الكتب العامة في دمشق، فعاود سيرته الأولى مبشراً بمبادئه، فبث أفكاره بين معارفه ومؤيديه لمدة أربع سنوات، ثم لما كان اسم الشيخ لدى رجال الحكم في رأس الداعين إلى التحرر في وقت ازدادت في السياسة اضطراباً، رحل الشيخ الجزائري خفية إلى مصر التي كانت يومئذ تنعم بالاستقرار وبشيء من الحرية والأمن، حاملاً معه ما استطاع من كتب قيمة ومخطوطات نادرة.
اتصل الشيخ الجزائري في مصر بالعلماء الذين عرفوا فضله بغية الإفادة من خبرته، كما كانت بين الشيخ والمستشرقين صداقات يراسلهم ويراسلونه على اختلاف قومياتهم، وزاره كثير منهم في رحلاتهم إلى الشرق، يقتبس منهم ما ينفع المسلمين، ويُقبسهم ما يثبت سماحة الإسلام ومدنيته ومجد المسلمين وتمدنهم، وهذا ما جعله في عداد حلقات السلسلة التي تصل الشرق بالغرب، كما شهد له الكثيرون. كما شارك الجزائري في تحرير بعض الصحف المصرية، وكان يعكف في لياليه وأوقات فراغه على التأليف، فكان من أهم آثاره في تلك الفترة كتاب في الحديث (توجيه النظر إلى أصول الأثر)، جمع فيه زبدة ما جاء في كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث من القواعد والفوائد بشكل يدل على سعة إطلاع وفهم عميق لأسرار الشريعة.
عاد إلى دمشق سنة 1919 بعد قيام الدولة العربية، فعينته الحكومة العربية مديراً عاماً لدار الكتب الوطنية الظاهرية، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العربي، إلا أن أقامته لم تدم أكثر من أربعة أشهر، فقد اشتد به مرض الربو، فتوفي يوم الاثنين الموافق 5 كانون الثاني سنة 1920، ودفن في سفح قاسيون تنفيذاً لوصيته.
ترك الشيخ الجزائري الكثير من المؤلفات التي تدل على علمه الغزير وثقافته الواسعة، وطُبعت أكثرها في حياته وبإشرافه.
المراجع:
ـ (تاريخ علماء دمشق) د. شكري فيصل، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1986، الجزء الأول، ص(366ـ 380).
ـ (المعاصرون) محمد كرد علي، دار صادر، بيروت 1991، ص(268ـ 278).
ـ (الأعلام) خير الدين الزركلي، دار العلم لملايين، بيروت، الطبعة العاشرة 1992، المجلد الثالث، ص(221، 222).
================
كامل الغزّي(4/101)
هو كامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي، ولد سنة 1853 في مدينة حلب. والده الشيخ حسين البالي ولد في مدينة غزة، في أسرة اشتهرت بالعلم والفضل والوجاهة في ميادين الزراعة والتجارة، درس في الأزهر وسافر إلى طرابلس الشام واشتهر بفضله فيها، ثم دعي للتدريس في مدرسة حلب، فعالج علوم الشريعة والحديث والمنطق واللغة والأدب العربي فأحدث نهضة فكرية وأدبية. واشتهر بالغزي، توفي في الخامسة والثلاثين من عمره وسن ابنه كامل لا يتجاوز تسعة أشهر.
نشأ كامل الغزي في كنف زوج أمه الذي أحسن رعايته، ولما بلغ سن الدراسة دخل الكتاب وما كاد يتم العاشرة حتى حفظ القرآن الكريم، ودخل بعد ذلك (المدرسة القرناصية) فتابع فيها دروسه الابتدائية والثانوية، وفيها حفظ أكثر من عشرين ألف بيت منها ألفية ابن مالك والشاطبية وعقود الجمان للسيوطي. ثم انتقل بعد ذلك إلى العلوم العالية فدرس التفسير والحديث النبوي والفقه على شيوخ وأعلام بلده مثل الشيخ محمد الحكيل والشيخ مصطفى الكردي.
اتصل كامل الغزي بأصدقاء أبيه ومعارفه، وبلغ إلى مجالس والي حلب آنذاك (محمد رشدي باشا الشرواني) فأعجب الوالي بذكائه ومعرفته وقربه إليه، ولما نُقل الوالي حاكماً للحجاز اصطحبه معه وجعله إماماً لتلك البلاد، فرأى الديار المقدسة وعرف بلاداً بعيدة واسعة فتفتح عقله وتنبه ذهنه، لكن مقامه هناك لم يطل لأكثر من ثمانية أشهر، لأن الوفاة أدركت ذلك الوالي الشرواني.
ولما رجع إلى حلب استأنف دراسته ودخل (المدرسة العثمانية) وظل فيها حتى سنة 1875، انقطع خلالها إلى طلب العلوم العقلية والنقلية، ثم تقلب في وظائف الدولة، فأصبح ترجماناً لمطبعة الولاية، ثم عضواً في محكمة التجارة، ثم عضواً في المجلس البلدي بحلب، وتولى رئاسة لجنة الآثار ورئاسة تحرير مجلتها، وكما تولى تحرير جريدة الفرات الرسمية والأسبوعية بحلب نحو عشرين عاماً.
ملّ الغزي الوظائف، فاستقال لتعاطي بعض الأعمال الخاصة وانصرف إلى التأليف، حيث أنشأ مؤلفاً ضخماً سماّه ( نهر الذهب في تاريخ حلب) أنفق في سبيل جمعه وتأليفه سنوات طويلة من عمره. وقد جمع هذا المؤلف ألوان البحث عن تاريخ حلب في (صنائعها ومدارسها ومذاهبها وأديانها وعاداتها وحياتها الاجتماعية في مختلف أحيائها القديمة والحديثة) رسمها الغزي بريشته ووقف عليها بنفسه. وقال في مقدمته: (وبعد، فإني منذ زمن بعيد أعاني جمع هذا الكتاب، وأصرف على تأليفه من نقد عمري وجوهر مالي ما يستكثر مثله من أمثالي. وقد تتبعت من أجله العدد الكثير من الكتب التاريخية وغيرها، وتصفحت زهاء مائة مجلد من السجلات المحفوظة في المحكمة الشرعية، وتكبدت عناء زائداً في الإطلاع على دفاتر الدوائر الرسمية، وعلى ما هو مدخر في المكتبات الخيرية والأهلية من المجاميع والرقاع الخصوصية التي سطرها ذووها في بعض شؤون تاريخية ذات أهمية عظيمة في وقتها، فكنت لا أصل إلى ما يهمني أمره من هذه المواد إلا بعد عناء شديد ونفقة باهظة. وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار أضطر في بعضها إلى تحمل مشاق الأسفار لأتمكن من الإطلاع على حقيقة حالها، وأكتب عنها كتابة تحقيق لا كتابة تقليد وتلفيق).
كما تلفت الغزي إلى الشعر العربية القديم، فجمع أشعار قومه من بلاد الشام وتناولهم بالدراسة، كما جمع أشعار القدماء، واجتلب المخطوطات النادرة، فقرأ شروح المتنبي ودواوين العباسيين، وانتهى إلى فهم عميق للشعر العربي واللغة العربية، لذلك اختاره المجمع العلمي عضواً فيه، ثم رئيساً لفرعه بحلب سنة 1921، وقد جعل هذا الفرع في قلب الأسواق الداخلية للمدينة، وجمع فيه مكتبة غنية، فكان الشيخ كامل الغزي يجتمع إلى إخوانه وأبنائه الطلاب يحلل ويشرح لهم ما جاء في هذه الكتب، لذا كان فرع المجمع نواة لتخريج شباب كثيرين بلغوا مبلغاً عظيماً من العلم والجاه.
كما أحس الشيخ الغزي حين قرأ التاريخ الإسلامي وذكر السنين الهجرية فيه بأيامها وشهورها، ومن حاجة إلى جداول تستهل موازنة الشهور الغربية بالعربية والسنين الهجرية يالميلادية، فألف (الروزنامة الدهرية) والتي استلبت منه وقتاً طويلاً في حساب الرياضيات ورسم الأرقام.
اختارته (جمعية العاديات) بحلب عام 1930 رئيساً لها، وظل على ذلك حتى آخر أيامه. وكان يرسل فيها مقالاته عن حلب وآثارها تنشرها مجلة العاديات معتزة ببحوثه وآرائه.
نظم كامل الغزي الشعر، وكان يساير روح العصر في شعره، كما اشتهر عنه شعر العبث بالناس أو السخرية الجميلة، وسجل في شعره الكثير من أغراضه الخاصة والعامة. وله قصيدة عامرة جعلها في مائة وعشرين بيتاً نظمها بمناسبة ولادة ابنه (حسين فيصل)، وشرح هذه القصيدة وعلق عليها وجعل فيها كل الآراء التي يريد لابنه أن يتخذها وأن يتعلمها، وجعل هذا الشرح في رسالة بعنوان (القول الصريح في الأدب الصحيح) وهي لا تقف عند النصائح الجامدة وإنما تضم معلومات شتى عن الفرق والمذاهب والقدرية والسلفية والقضاء والقدر، وما أصاب الأمة الإسلامية من ذلك كله على مدى التاريخ، كما تضمنت آراء سياسية واجتماعية شديدة الجرأة في أيامه دفعت السلطة إلى الغضب من مؤلفها، واضطرته إلى الهرب إلى حين هدأ الحال. كما كتب رسائل عدة في الإصلاح، ومقالات كثيرة نشرها في صحف حلب وبيروت والقسطنطينية ودمشق حول موضوعات مختلفة.(4/102)
في صباح الثاني عشر من كانون الثاني 1933، توفي الشيخ كامل الغزي ودفن في حلب، وأقيمت لتأبينه حفلة عظيمة عدد فيها الخطباء مزاياه. قال فيه أديب حلب سامي الكيالي: (شيخ تمثلت فيه طبيعة العلماء، وذوق الأدباء، ونزعة المجددين، ووداعة الظرفاء، وجمال الشيخوخة في فتوتها الباسمة).
من آثاره:
ـ مؤلف (نهر الذهب في تاريخ حلب)، طبع منه ثلاث مجلدات من أصل أربعة.
ـ (جلاء الظلمة في حقوق أهل الذمة) مخطوط.
ـ (روضة الغناّء في حقوق النساء)، مخطوط.
ـ (ديوان شعر)، مخطوط.
وغير ذلك من رسائل في الصرف والنحو والأدب.
المراجع:
ـ (مصادر الدراسة الأدبية) يوسف أسعد داغر، مكتبة لبنان، الطبعة الأولى 2000، ص(966،967).
ـ (الأعلام) خير الدين الزركلي، دارالعلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة 1980، الجزء الخامس، ص(217).
ـ (قدماء ومعاصرون) د. سامي الدهان، دار المعارف، مصر، 1961، ص(224ـ 234).
=================
الشيخ كامل القصاب
هو محمد كامل بن أحمد بن عبد الله آغا القصاب. ولد بحي العقيبة بدمشق عام 1873، ومنبت أسرته حمص، استوطنت أسرته دمشق قبل قرنين، وعملت بالتجارة. نشا محمد يتيماً حيث توفي والده وهو في السابعة، فكفله جده لأمه المشهور بأبي علي كريم.
قرأ محمد كامل القصاب في الكتاتيب، وتعلم قراءة القرآن الكريم وحفظه وجوّده. ثم تلقى مبادئ العلوم العربية والفقهية عن شيوخ عصره، فلازم الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، حيث قرأ عليه الفقه حتى برع فيه، وسمع الحديث من المحدث الشيخ بدر الدين الحسني، وتضلع فيه، وأخذ عن الشيخ أمين الأرناؤوط وغيره علوم العربية بفروعها.
ولما بلغ الخامسة والعشرين سافر إلى مصر والتحق بالجامع الأزهر، وحصل على الشهادة العالمية، وخلال ذلك تلقى علم التفسير على الشيخ محمد عبده، كما تلقى على الشيخ محمد بخيت مفتي مصر وعلى أمثالهما.
كان القصاب ذا عمل دؤوب، عُرف في حال صباه بالفتوة والمروءة والغيرة على أهل حيه، مما يذكر له بالحمد والثناء. كريم الأخلاق، ناضج الرأي براً بأصدقائه، لا يألو جهده فيما فيه صلاح أمته، دائم التفكير بها، يحب العلماء. وأبرز ما في صفاته نضاله في سبيل رفعة شأن أمته، وسعيه في مجال نشر العلم والثقافة. وبعد عودته من الأزهر رأى الدولة العثمانية تنهار، فأسس مع عبد الغني العريسي وتوفيق البساط وعارف الشهابي وغيرهم من رجالات العرب (جمعية العربية الفتاة) السرية.
اشتغل القصاب بالتعليم في مدارس ابتدائية أهلية مدة يسيرة، ثم أسس (المدرسة العثمانية) صارفاً عليها من ماله ووقته في سبيل إنشائها، وهي مدرسة أهلية في حي البزورية عرفت باسمه (المدرسة الكاملية)، وتولى إدارتها ما يقرب من ربع قرن، تخرج منها رجال بارزون، وغدت مفخرة البلاد، وقدرتها الدولة العثمانية كل التقدير، فقبلت من يحمل شهادتها في كليتي الطب والحقوق وغيرها دون فحص ولا اختبار، وكان يختار لها أساتذة من الاختصاصين في شتى العلوم، واشتهر بحزمه وجده في إدارته.
انتدبه الوطنيون للسفر إلى مصر والاجتماع بأقطاب حزب اللامركزية كالشيخ رشيد رضا ورفيق العظم وغيرهما من الذين يرغبون تحرر البلاد العربية من الأتراك، والاتفاق على خطط العمل. وبعد وصوله إلى دمشق بشهر واحد قبض عليه الأتراك، وأرسلوه إلى سجن عالية، وبعد سجنه أربعين يوماً حاكمه جمال باشا بنفسه، واستطاع بجرأته وبلاغتة إقناعه ببراءته من تهمة الاشتغال بالسياسة، وبأن سفره إلى مصر كان لأسباب ثقافية تتعلق بالمدرسة، فأطلق سراحه وعاد إلى دمشق.
وعندما بطش الاتحاديون بالزعماء الوطنيين، سافر القصاب إلى بلاد الحجاز، فنزل ضيفاً على الشريف حسين بن علي الذي أقبل عليه واهتم به وولاه رئاسة مجلس المعارف مع إدارة مدرسة ثانوية كانت مثال التعليم الصحيح والتربية العالية، وبقي هناك سنة ونصف السنة، وقد حكم عليه الاتحاديون بالإعدام غيابياً.
وبعد قيام الثورة العربية انتقل إلى مصر لأن العمل السياسي فيها أرحب مجالاً من الحجاز، وهناك أسس (حزب الاتحاد السوري)، وبقي يكافح من أجل القضية الوطنية حتى وضعت الحرب أوزارها.
وبعد الحرب عاد القصاب إلى دمشق، وأسس فيها (اللجنة الوطنية العليا) للدفاع عن حقوق البلاد، وكان من المؤيدين للعهد الفيصلي. ولما دخل الفرنسيون سوريا حكموا عليه بالإعدام غيابياً أيضاً، بسبب تحريضه الناس وجمعهم للتوجه إلى ميسلون، فهرب إلى حيفا، وهناك أنشأ مدرسة بالاشتراك مع عز الدين القسام، وكان عمله فيها كعمله بمدرسة دمشق التي تركها وعليها ولداه يرعيان شؤونها.
وخلال هذه الفترة تنقل بين فلسطين ومصر يعمل للقضية الوطنية، وسافر إلى اليمن، وقابل الإمام يحيى حميد الدين سنة 1922 لجمع كيان العرب، وفي سنة 1925 استدعاه الملك عبد العزيز آل سعود إلى مكة المكرمة وعهد إليه بمديرية معارف الحجاز، فأسس خلال سنة ونصف ثلاثين مدرسة في أنحاء مختلفة من الحجاز، وهناك أصيب بالزحار وأشرف على الهلاك، فسافر إلى فلسطين للتداوي، وشفي من مرضه بعد علاج طويل دام عشر سنوات.(4/103)
وفي سنة 1937، عاد محمد كامل القصاب إلى دمشق بعد صدور العفو العام، ورأى مدرسته قد تضاءل شأنها، وقل طلابها إذ مالوا إلى مدارس الحكومة التي قررت وزارة المعارف وقتئذ إلا تقبل إلا شهادتها لدخول الجامعة، فأحب أن يخدم البلاد عن طريق نهضة العلماء، بعد أن فشلت مساعيه مع ساسة العرب، فأسس بطلب من أهل العلم (جمعية العلماء) التي نالت تصريحاً رسمياً من وزارة الداخلية في 8 تشرين الثاني 1937، ومهمتها دفع ما تعرض له الإسلام من إلحاد وإفساد ومقاومة، وكانت تحت رئاسته، وقد بلغ عدد مؤسسيها واحداً وعشرين عضواً، ووضع لها دستوراً يبّين غايتها، ونظامها الداخلي المفصل، وطرق تمويلها، ونص الدستور على أن غاية الجمعية الاهتمام بشؤون المسلمين ومؤسساتهم الدينية، ورفع مستوى العلماء والمتعلمين، وجمع كلمتهم، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن لا دخل للجمعية بالشؤون السياسية.
كان من أبرز أعمال الجمعية إنشاء المعهد العلمي الديني بدمشق، واختير له الأساتذة الأكفاء، ووضع له برنامج يجمع بين الثقافتين الدينية والعصرية. كما فكرت الجمعية بتأسيس عدة مدارس أولية ذات صفين في جميع أنحاء المدينة لمكافحة الأمية، ومدارس ابتدائية ذات خمسة صفوف يتأهل فيها الطالب للدخول في صفوف القسم الثانوي من المعهد وفي المدارس التجهيزية.
كما كان للجمعية مواقف عظيمة إيجابية مؤثرة منها: إلغاء قانون الطوائف الذي وضعه الفرنسيون، وفي 10 شباط 1939 أرسلت الجمعية احتجاجاً شديد اللهجة بشأن قانون الطوائف المذكور إلى رئيس الجمهورية، والمجلس النيابي، والوزراء، والمفوض السامي، والمندوب السامي، وجمعية الأمم المتحدة، ولجنة الانتداب، ووزير الخارجية الفرنسي. وجاء في آخر الاحتجاج: (وجمعية العلماء تحمل الحكومة تبعة ما ينتج عن بقاء هذا القانون من أثر هياج المسلمين في سبيل دينهم وغيرتهم على أحكام عقائدهم). وقد أثر هذا الاحتجاج في الأوساط السياسية، فسقطت حكومة (جميل مردم) بسبب توقيعه على القانون. وكثرت مراجعات الجمعية على الحكومة، وانتقاداتها لها ومواقفها الشديدة فضاقت بها وضايقتها فأغلقت أبوابها.
كان كامل القصاب إلى جانب أعماله هذه تاجراً أسس شركة تجارية في مصر تمارس تجارة (المواد الغذائية)، جريئاً في المضاربة بأمواله، وله عقارات في حيفا استولى عليها اليهود.
ترك من المؤلفات كتابين:
ـ ذكرى موقعة حطين (بالاشتراك).
ـ النقد والبيان في دفع أوهام خيزران (بالاشتراك).
أصاب كامل القصاب مرض في المثانة في أخريات حياته، فلزم داره مدة طويلة، ثم شفي، وما لبث أن ألم به عارض في دماغه لم يمهله سوى ثلاثين ساعة، وكان ذلك في عام 1954، وصادف يوم وفاته اضطرابات لعلع فيها الرصاص في سماء مدينة دمشق زمن الشيشكلي، فصلى عليه بضعة أفراد في بيته، وتسللوا بنعشه بين الأزقة، ودفنوه في قبر والده بمقبرة الباب الصغير بجوار الصحابي الجليل بلال الحبشي.
المراجع:
ـ (موسوعة الأعلام) خير الدين الزركلي ، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1980، الجزء السابع، ص(13).
ـ (تاريخ دمشق في القرن الرابع عشر الهجري) د. شكري فيصل وآخرون ، دمشق، الطبعة الأولى 1986، الجزء الثاني، ص(657ـ 667).
==================
محمد المبارك
هو محمد بن عبد القادر بن محمد المبارك، ولد عام 1912 في مدينة دمشق. نشأ في أسرة معروفة بالعلم والتقوى والصلاح، فجده محمد المبارك كان من علماء اللغة العربية، له نثر وشعر وله آثار مروية تدل على فضله وملكته. ووالده الشيخ عبد القادر المبارك علامة دمشق في اللغة والأدب، كان من أعضاء اللجنة التي ألفت في عهد الملك فيصل الأول لتعريب المصطلحات العسكرية، كما اختير عضواً في المجمع العربي بدمشق حين تأسيسه، وكان كذلك عالماً بالسيرة ووقائعها وبتراجم الرجال ومشاركاً في العلوم الإسلامية ومتقناً للغة التركية وعارفاً بالإنجليزية. وله رسائل أدبية مطبوعة وشرح لعشر من مقامات الحريري.
درس محمد المبارك المرحلة الابتدائية ثم الثانوية في مدارس دمشق، وكان متفوقاً في دراسته خاصة في اللغة العربية والرياضيات، وكان له ميل واضح إلى العلوم العربية والعلوم الإسلامية. ثم تابع الدراسة الجامعية في دمشق في كلية الحقوق وفي الآداب، وأنهى الدراستين معاً في سنة 1935.
كان محمد المبارك ينتظم في الصباح في الدراسة النظامية، وفي المساء يدرس على شيخ علماء الشام في عصره الشيخ محمد بدر الدين الحسيني، وقد استفاد المبارك من علمه وقرأ عليه النحو والصرف والتفسير والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والكلام والبلاغة والحساب والجبر والهندسة. كما كان يدرس على الشيخ سليم الجندي وعلى والده العلامة اللغوي الشيخ عبد القادر علوم اللغة العربية.
وكان المبارك في هذه الفترة متأثراً بالأمير شكيب أرسلان وبمؤلفاته، وما كان ينشره في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية والتحرر من الاستعمار. وقد أتيح له الالتقاء بالأمير في باريس عندما كان طالباً في جامعتها.(4/104)
وكان ممن أثروا في توجيه المبارك الفكري من القدماء بآثارهم التي قرأها: ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ذلك أنه وقع في مكتبة جده على كتاب الحسبة لابن تيمية فأعجب بتفكيره ونقاشه وبحثه، كما قرا كتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ثم اطلع على (أعلام الموقعين) لابن القيم وكان حينئذ طالباً في الحقوق. ولهذه الكتب الثلاثة صلة بالعلوم الحقوقية ففتحت أمامه آفاقاً جديدة وكشفت له عن جوانب من عظمة التشريع الإسلامي ومن إبداع الفقهاء والمفكرين المسلمين، ثم اطلع على مجموعة رسائل ابن تيمية وغيرها من الكتب، فاستهواه النقاش بين الصوفيين والسلفيين.
بعد أن تخرج محمد المبارك من الجامعة السورية، أوفدته الدولة مع من أوفدتهم إلى جامعة السوربون في باريس ليدرس في كلية الآداب وفي معهد الدراسات الإسلامية التابع لها ثلاث سنوات. درس في السنة الأولى الأدب العربي والثقافة الإسلامية، وعرف المستشرقين عن كثب، وكثيراً ما كان يصحح لهم معلوماتهم. وخصص السنة الثانية من دراسته لدراسة الأدب الفرنسي وعصوره وفنونه وأعلامه، وكان من أبرز أساتذته الأستاذان المستشرقان المشهوران: مارسيه وماسينيون. أما السنة الثالثة فخصصها لدراسة علم الاجتماع وكان أساتذته من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين. وقد استفاد المبارك من فرعي الأدب الفرنسي وعلم الاجتماع استفادة كبيرة جداً مكنته من الولوج في صميم الثقافة الغربية والتفكير الغربي ومذاهبه الفكرية والأدبية من منابعها الأصيلة وعن طريق الاختصاص من أهلها.
ولم يكن يقتصر المبارك على محاضرات الجامعة، بل كان يحضر المنتديات والمحاضرات العامة ويتردد على مختلف المعاهد العلمية والنوادي على تعدد اتجاهاتها وألوانها. وقد تعرف في باريس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان يتردد على نواديهم ويتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت أشمل من محاربة الاستعمار والتحرر والاستقلال.
عاد محمد المبارك من باريس مجازاً في الأدب العربي وفي علم الاجتماع، وتم تعيينه عام 1938 أستاذاً للأدب العربي في المدرسة الثانوية بمدينة حلب، وخلال وجوده في هذه المرحلة من حياته في حلب تزوج زوجته الحلبية من عائلة آل البيانوني المعروفة بالعلم والصلاح، وهي أم أولاده. وظل في حلب سنتين، ثم نقل إلى دمشق وتابع فيها مهمته، حيث درس في ثانويتها الكبرى الأدب العربي والأخلاق والمنطق والنصوص الفلسفية، ودرس كذلك في دار المعلمين العليا وكان له نشاط ملحوظ في المحاضرات العامة في مختلف نوادي العاصمة في شتى الموضوعات في اللغة والأدب والقضايا الاجتماعية والإسلام.
وفي عام 1945 تم جلاء القوات الأجنبية عن سورية، وكانت بداية الحكم الوطني المستقل، وجرت في وزارة المعارف تنظيمات جديدة كان من جملتها إحداث لجنة فنية عليا في الوزارة تتألف من مختلف الاختصاصات لوضع الخطط والمناهج والأنظمة، كما تم إحداث هيئة تفتيشية للتعليم الثانوي في عموم سورية، فعين الأستاذ محمد المبارك عضواً في اللجنة الفنية للتربية ومفتشاً اختصاصياً لسورية لمادتي اللغة العربية والدين. وعن هذا الطريق عرف جميع المحافظات السورية التي كان يزورها وكثيراً ما كان يكلف بتفتيش مواد اللغة الفرنسية والفلسفة لعدم وجود مفتشين لهذه المواد يومئذ. وفي تلك الفترة كُلف بوضع مناهج اللغة العربية والدين للمدارس الثانوية منفرداً، وعمل في ذلك عملاً جاداً استغرق نحو شهرين أنجز خلالهما وضع مناهج المادتين لجميع سنوات التعليم الثانوي الست.
وفي سنة 1946 أقصي الأستاذ المبارك عن التفتيش واقتصر عمله على عضوية اللجنة الفنية وذلك بسبب ما قام به من نشاط إسلامي في المحافظات التي كان يزورها للتفتيش، وذلك بإلقاء المحاضرات العامة في أهم الموضوعات المتعلقة بالإسلام والتعريف بدعوته أو بالقضايا الإسلامية المعاصرة.
وفي عام 1947 قدم استقالته من وزارة التربية ليتمكن من ترشيح نفسه للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق تلبية لرغبة رابطة العلماء والجمعيات الإسلامية، وقد انتخب ثلاث مرات عن مدينة دمشق خلال الفترة من 1947 ـ 1958. كما عين المبارك خلال الفترة 1949 ـ 1952 وزيراً للأشغال العامة ثم وزيراً للمواصلات ثم وزيراً للزراعة. واستمر نشاطه الإسلامي السياسي حتى عام 1958 الذي تمت فيه الوحدة بين مصر وسورية وحينئذ انصرف إلى العمل الجامعي العلمي، وفضل التدريس والكتابة وإلقاء المحاضرات ليرفع مستوى الوعي الإسلامي العام عند الجماهير الإسلامية.
لم يمنع نشاط الأستاذ محمد مبارك السياسي منذ أواخر عام 1947 عن استمراره في التدريس، فقد كلف في أوائل عام 1948 بتدريس مادة فقه اللغة ثم الدراسات القرآنية في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، واستمر في تدريس هذه المواد نحواً من عشر سنوات. وانقطع فترة ثم عاد لتدريس فقه اللغة حتى عام 1966. كما عين أستاذاً في كلية الشريعة في جامعة دمشق منذ تأسيسها سنة 1954، وشارك مشاركة أساسية في وضع خطتها ومناهجها. وحين أنشئت الأقسام في الكلية كان رئيس قسم العقائد والأديان. كما تولى عمادة كلية الشريعة في جامعة دمشق (1958 ـ 1963) وذلك بعد عميدها الأول الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي. وكان مجلس جامعة دمشق قد اختاره عام 1960 ممثلاً له في المجلس الأعلى للتخطيط الجامعي للجمهورية العربية المتحدة في القاهرة لذلك العام.(4/105)
وتم انتدابه من جامعة دمشق إلى جامعة أم درمان الإسلامية في السودان تلبية لطلب مديرها، فعمل فيها من 1966 ـ 1969 أستاذاً ومشاركاً في التخطيط ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية، وفي خلال هذه المدة عام 1968 قدم استقالته من جامعة دمشق. كما أنه درّس في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم مادة السياسة الشرعية. وفي عام 1969 اقترح عليه وزير المعارف في المملكة العربية السعودية العمل فيها، فقبل واختار الإقامة في مكة المكرمة، وعُين أستاذاً ورئيساً لقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان عارفاً بوضعها لأنه كان قد اشترك في وضع خطتها وبعض مناهجها في عام 1964، وبقي في هذا العمل أربع سنوات ثم عُين أستاذاً باحثاً ومستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وفي أثناء تلك الفترة عمل أستاذاً زائراً في الجامعة الأردنية خلال الفصل الدراسي الثاني لعام 1977 وفي فصول دراسية أخرى. وبقي يمارس التدريس في الجامعات حتى وفاته.
كان الأستاذ المبارك عضواً في مجمع اللغة العربية (المجمع العلمي) بدمشق، وعضواً في المجلس الأعلى الاستشاري في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
الأستاذ محمد المبارك عالم متمكن وداعية مفكر، عمل في حقل الدعوة الإسلامية منذ ريعان شبابه، ووهب نفسه لها، وجعلها هدف حياته، وقد اختار مهنة التدريس ليشارك في إعداد الأجيال، وكان خلال فترة تدريسه إذا توسم في فتىً خيراً اتصل به ورعاه وغذاه بالنصائح، وكانت له حلقات يعالج فيها موضوعات إسلامية عملية ومشكلات اجتماعية مع طلاب ومدرسين وعمال، كما كان له نشاط متواصل في إلقاء محاضرات عامة في مختلف المستويات.
ولم يقتصر نشاطه على المدن بل كثيراً ما كان يخرج مع فريق من الشبان إلى القرى للدعوة والتوعية.
وكان للأستاذ محمد المبارك مشاركة في نشاط وتأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية فعندما تأسست جمعية الشبان المسلمين في دمشق كان هو رئيسها، ولما أسس الدكتور مصطفى السباعي مدرسة الدعوة في دمشق سنة 1947/1948 كان المبارك يحاضر فيها هو والسباعي وثلة من الأساتذة المرموقين.
والأستاذ المبارك من مؤسسي جماعة الأخوان المسلمين في سورية، وكان يمثلهم في البرلمان السوري، وكان الساعد الأيمن للسباعي ومستشاره السياسي والتنظيمي والاجتماعي. وكان دائماً عضواً في إدارة مركز دمشق أو رئيساً للإدارة، وكان يتناوب مع السباعي في إلقاء المحاضرات في المركز العام للإخوان في حي الشهداء بدمشق، أو في باب الجابية، وكان يصحب السباعي في رحلاته وزياراته لمراكز الجماعة.
وبعد أن غادر سورية بقي المبارك على صلات طيبة مع الإخوان حتى آخر لحظة من حياته... كان مع الإخوان السوريين حيث يوجد إخوان سوريون، وكان مع الإخوان في سائر الأقطار التي يزورها أو يقيم فيها، يقدم لهم إرشاداته ونصائحه، ويعطيهم تجاربه العلمية التي اكتسبها طوال عمره السياسي والتنظيمي. وكان له دور في ترشيد الحركة الإسلامية، وتقديم النصح والمساعدة المادية والمعنوية من خلال عمله في ميدان الدعوة الإسلامية على الصعيدين الشعبي والثقافي. وكانت له اتصالات بعدد من الشخصيات الإسلامية والعربية، ومشاركات مستمرة في المؤتمرات العالمية في ميدان الثقافة والدراسات الإسلامية والعربية والدولية، وساهم بفاعلية في توضيح مفهوم الإسلام ودوره الحضاري في عالم اليوم، كما كان له دور بارز ضمن الوفود الإسلامية التي شاركت في المؤتمرات الدولية لاسيما في الحوار الإسلامي المسيحي.
كان الأستاذ المبارك في أواخر حياته يعمل في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وبقي في هذا العمل حتى وافته المنية في المدينة المنورة عام 1981 ودفن في البقيع الطاهر.
من أشهر مؤلفاته
ـ الأمة العربية في معركة تحقيق الذات.
ـ المجتمع الإسلامي المعاصر.
ـ الأمة والعوامل المكونة لها.
ـ جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي.
ـ نحو صيغ إسلامية لعلم الاجتماع.
والعديد من الكتب عن نظام الإسلام في شتى المجالات.
المراجع:
ـ (محمد المبارك العالم والمفكر والداعية)، حسني أدهم جرار، دار البشير، عمان، الطبعة الأولى 1988.
ـ (موسوعة السياسة)، عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1990، ص(100).
==================
محمد بهجت البيطار
ولد محمد بهجت البيطار بدمشق سنة 1894 في أسرة دمشقية عريقة اشتهر كثير من أبنائها بالعلم والأدب والتقوى، وكان جدها الأعلى هبط دمشق مهاجراً من بليدة من أعمال الجزائر في المغرب العربي واختار لسكناه حي الميدان الكبير.
نشأ محمد بهجت البيطار في حجر والده الشيخ محمد بهاء الدين بن عبد الغني حسن إبراهيم الشهير بابن البيطار، كان والده هذا عالماً أديباً يقرض الشعر، محبوباً من الخاصة والعامة لمؤانسته إياهم، فقد تولى الإمامة فيهم بعد وفاة أبيه، وقد تزوج من ابنة عمه الشيخ عبد الرزاق ابن حسن البيطار الذي كان من كبار علماء دمشق العاملين على نشر المذهب السلفي، وكان بارعاً في علوم اللغة العربية وآدابها، حسن الرواية حاضر البديهة، ترك عدداً من المؤلفات أهمها كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر)، حققه وتولى التعليق عليه سبطه محمد بهجت البيطار وقام مجمع اللغة العربية بطبعه في دمشق في ثلاثة أجزاء.(4/106)
تلقى محمد بهجت البيطار مبادئ علوم الدين واللغة على والده الشيخ محمد بهاء الدين، وأتم دراستيه الابتدائية في المدرسة الريحانية والإعدادية في المدرسة الكاملية بدمشق، وتابع دراسته العالية في العلوم الدينية والعربية على والده وعلى جده لأمه الشيخ عبد الرزاق البيطار، وعلى كل من الشيوخ الأعلام في عصره جمال الدين القاسمي الدمشقي، محمد خضر حسين التونسي نزيل دمشق وعلى محدث الديار الشامية الكبير محمد بدر الحسيني، ونال الإجازة منهم في مختلف العلوم النقلية والعقلية.
تولى البيطار سنة 1910 الخطابة والتدريس في جامع القاعة بحي الميدان خلفاً لوالده، ثم تولى سنة 1917 الخطابة والتدريس في جامع كريم الدين الشهير بالدقاق خلفاً لخاله، وهذا الجامع هو مسجد المحلة التي تقطن أسرة البيطار فيها، وكانت الإمامة والخطابة فيه في أسلاف البيطار مما يمتد لأكثر من مائة عام، وظل محمد بهجت البيطار يخطب ويدرس الناس مختلف العلوم في مسجد محلته إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، ما انقطع عن ذلك إلا لمرض أو سفر.
عُين البيطار سنة 1921 من قبل مديرية معارف دمشق، معلماً في مدرسة الميدان الابتدائية حتى عام 1926، وفي نفس العام اشترك بمؤتمر العالم الإسلامي الذي دُعي إلى عقده في مكة المكرمة، وبعد انتهاء المؤتمر استبقاه الملك عبد العزيز آل سعود في مكة المكرمة ليشرف خلالها على المناصب القضائية والعلمية فيها.
في سنة 1931 عاد محمد بهجت البيطار إلى دمشق ليؤم أهل حيه كل يوم ويخطبهم كل أسبوع في جامع الدقاق بالإضافة إلى تدريس العلوم الدينية والعربية في المسجد وفي بعض المدارس الخاصة، كما تولى تدريس العلوم الشرعية سنة 1934 ولبعض الوقت في كليتي المقاصد الخيرية للبنين والبنات في مدينة بيروت.
وفي عام 1944 أوفد إلى الطائف مدة ثلاث سنوات ليتولى إدارة معهد (دار التوحيد السعودية) بناء على رغبة الملك عبد العزيز سعود.
وفي عام 1947 عهدت إليه جامعة دمشق القيام بتدريس مادتي التفسير والحديث في كلية الآداب، وفي سنة 1953 أُحيل محمد بهجت البيطار على التقاعد من وظيفته الحكومية، فقصر نشاطه على محاضرات في التفسير كلف بإلقائها في كلية الشريعة، وعلى التدريس الديني ووظائف وزارة الأوقاف، إلى جانب إلقاء الأحاديث الدينية والاجتماعية في الإذاعة السورية وعلى أعمال مجمعية عديدة حيث كان قد انتخب عضواً عاملاً في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1923.
كان محمد بهجت البيطار من أكثر أعضاء مجمع دمشق حيوية ونشاطاً، شارك زملاءه في إلقاء المحاضرات العامة والأبحاث المتعمقة، وفي تحرير مجلة المجمع وبالتعريف على صفحاتها بالكتب والمطبوعات التي تدخل موضوعاتها في اهتماماته الشخصية، كما شغل عضوية لجنة المطبوعات في مجمع دمشق منذ 1953، واستمر على القيام بمهامها في الإشراف على مجلة المجمع ومطبوعاته حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.
وفي عام 1954 انتخب عضواً مراسلاً للمجمع العلمي العراقي، عندما تم توحيد مجمعي دمشق والقاهرة سنة 1960 باسم مجمع اللغة العربية كان البيطار في مقدمة أعضاء المجمع الذين شاركوا في مؤتمر القاهرة سنة 1961.
جرى محمد بهجت البيطار على عادة علماء السلف، يقرض الشعر في ساعات الفراغ يؤرخ به لحادثة جرت، أو يهنئ صديقاً بنعمة، أو يعزيه بمصيبة ألمت به، ويستعين بالنظم أحياناً في تلخيص علم أو تدقيق قاعدة.
ترك البيطار ديواناً صغيراً فيه شعر يمدح به الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، كما يتضمن أبياتاً ومقطوعات ومساجلات مع بعض أصدقائه وزملائه المجمعين أمثال الأساتذة عز الدين التنوخي ومحسن البرازي بدمشق، وأحمد العزاوي في مكة ومحمد سعيد كمال في الطائف.
قام محمد بهجت البيطار برحلات علمية ودراسية عديدة، أرخ لها في نهاية كتابه (الرحلة النجدية الحجازية) وشملت رحلاته البلاد العربية والإسلامية والروسية والولايات المتحدة الأمريكية، موضحاً الدافع إلى كل منها، وأهم ما وقع له خلال بعضها.
توفي محمد بهجت البيطار يوم السبت 30 جمادى الأولى 1396هـ / 29 أيار 1976 إثر مرض لم يمهله طويلاً.
ترك الفقيد مؤلفات عديدة وبحوثاً كثيرة نشرت له في مختلف الصحف والمجلات السورية والعربية السعودية والمصرية والعراقية. طبع بعضها مستقلاً، ومازال الكثير منها شتيتاً في باطن المجلات، أما تآليفه وما طبع منها مستقلاً من أبحاثه فهو:
ـ رسالة (الثقافتان الصفراء والبيضاء).
ـ تفسير (سورة يوسف) حيث أكمل التفسير الذي بدأه السيد رشيد رضا مع التقديم له.
ـ كتاب (قواعد التحديث، من فنون مصطلح الحديث لجمال الدين القاسمي) حققه وخرج أحاديثه.
ـ كتاب (مسائل الإمام أحمد، لتلميذه الإمام أبي داود السجستاني)، وهو أقدم كتب المكتبة الظاهرية، حققه السيد محمد رشيد رضا.
ـ كتاب (المعاملات في الإسلام وتحقيق ما ورد في الربا) وقد بدأه محمد رشيد رضا وأكمله البيطار ووضع مقدمته.
ـ كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) تأليف جد البيطار الشيخ عبد الرزاق، تحقيق البيطار.
ـ رسالة (الإسلام والصحابة الكرام بين السنة والشيعة).
ـ بحث (الإنجيل والقرآن في كفتي الميزان).
ـ بحث (الاشتقاق والتعريب).
هذه المعلومات أخذت من:
ـ مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، عدد تشرين أول سنة 1976، ص(787ـ 804).
==================
محمد رشيد رضا(4/107)
ولد محمد رشيد رضا في قرية من قرى لبنان تسمى القلمون، في 27/جمادى الأولى/1282هـ، 1865م، وهو سليل بيت عربي عريق ينحدر من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب، اشتهر بيت آل الرضا بأنهم كانوا المثل الأعلى في الانقطاع للعبادة وتكريم العلماء والترحيب بأولي الفضل.
كان أبوه قوي الذاكرة، طلق اللسان، ومن قوة ذاكرته أنه كان يحفظ كل ما مر به في سفره، وكل ماله عند الناس، أو لهم عنده من الحقوق المالية وإن طال عليها الزمن، وكان حسن المجاملة، عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام والمناضلة عنه بما يقنع المناظر ولا يؤذيه، كما كان يتمتع بهيبة في نفوس أبنائه، حيث لجأ إلى الحزم والترهيب أحياناً في التربية، ولقيت هذه التربية استجابة من نفس محمد رشيد رضا، وورث عنه الكثير من الخصال الخلقية والعلمية.
التحق محمد رشيد بكتاب القرية، وتعلم فيها القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب، ثم التحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية التي أنشأها أحد علماء الشام الشيخ محمد حسين الجسر (وهو أحد رواد النهضة الثقافية والعربية، والذي اشتهر بإلمامه الواسع بالعلوم العصرية، وكان كاتباً وشاعراً عصرياً، درس في الأزهر الشريف على يد الأديب الكبير محمد حسين المرصفي) حيث اهتمت هذه المدرسة بالعلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، لكن الحكومة أغلقت هذه المدرسة، فانتقل محمد رشيد إلى المدارس الدينية في طرابلس، وظل على علاقة قوية بأستاذه الأول حسين الجسر الذي أحبه وتأثر به لما خصه به من الإهتمام والعناية منذ شاهده في السنة الأولى بالمدرسة الوطنية، لما كان يجد عنده من حب شديد للدراسة والمذاكرة والقدرة على التعبير عما يفهم، حتى صار يطلب رأيه في مؤلفاته خاصة الكبرى منها.
نال محمد رشيد الإجازة في دراسة العلوم العربية والشرعية والعقلية عام 1897،على يدي أساتذة كبار منهم الشيخ محمود نشابة من كبار علماء طرابلس، والشيخ عبد الغني الرافعي، والشيخ محمد القاوقجي، لكن بقي الشيخ الأكبر أثراً في نفس محمد رشيد هو أستاذه الشيخ الجسر.
وصف أحد العلماء محمد رشيد في مرحلة تلقيه العلم وما أفاده من دراسته، بأن علمه لدني أي (من لدن حكيم عليم)، فيقول إني أغيب عنه سنة فأجد عنده من العلم ما لا يمكن اكتسابه إلا في السنين الطوال.
عني محمد رشيد رضا بحفظ القرآن الكريم وحده دون أي معلم يعيد عليه ما يحفظ، وكان يفضل صلاة التهجد تحت الأشجار في بساتينهم الخالية، حيث وجد في البكاء من خشية الله، وتدبر كتاب الله في صلاة الليل لذة روحية قوية، وقرأ كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي وتعلق به، وحبب إليه التصوف، وهو في هذه السن المبكرة من الشباب، فسلك محمد رشيد طريقه إلى التصوف على يد رجل من النقشبندية، لكنه استطاع أن يقف على أسرار هذه الرياضة الروحية بمحاسنها ومساوئها، وهو الأمر الذي هيأه في المستقبل للمناداة بإصلاح الطرق الصوفية، حيث وجد بعضها طيباً والآخر لا يقبله العقل، بل يكون أحياناً مدخلاً إلى البدع ومثاراً إلى الفتن.
ألقى رشيد المواعظ والدروس في المسجد معتمداً فيها على جمع أكبر عدد ممكن من الآيات في الموضوع الواحد، حتى صار لمواعظه أعظم الأثر، وأشد الوقع في النفوس، واختار من كتب التفاسير أيسرها، على حين قام هو نفسه بدور كبير في شرح الآيات القرآنية واستخلاص العبر التي تفيد جمهور المستمعين منها، واستطاع في تلك الأيام الأولى من جهاده في سبيل الإصلاح أن يثبت قدرته على الاجتهاد في الفقه، الذي اعتبره مرتبة عالية من مراتب العلم الاستقلالي بالأحكام الشرعية، وأنه هام وحيوي لإرشاد الناس لما فيه من الخير والهداية.
في الوقت الذي دخل فيه محمد رشيد ميدان الإصلاح في قريته بدافع من ميوله الفطرية وقدراته العلمية، كانت أنظار العالمين والعربي والإسلامي قد اتجهت نحو مصر، حيث انطلقت منها حركة إصلاحية كبرى تولى زعامتها اثنان من خيرة علماء الشرق وأبطاله وهما: السيد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام محمد عبده، وترامت أنباء هذه الحركة إلى مسامع محمد رشيد عن طريق الجماعة المصرية التي أقامت في منزل والد رشيد عند نفيهم من مصر، لاشتراكهم في ثورة أحمد عرابي على الخديوي توفيق. وكانت تصل إلى هذه الجماعة المصرية جريدة العروة الوثقى سراً، وهي الجريدة التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بعد نفيهما من مصر، واجتماعهما في فرنسا.
قوي اتصال محمد رشيد رضا بجريدة العروة الوثقى، التي وجهته للسعي في الإصلاح الإسلامي العام، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً للإصلاح بعد أن عرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، وفتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئا ودفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه كبار المصلحين وقادة التحرير.
استطاع رشيد رضا أن يتصل بجمال الدين الأفغاني الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق السياسة، وكذلك اتصل بمحمد عبده الذي نادى بالإصلاح والتجديد عن طريق التربية والتعليم، وخرج رشيد بعد تعرفه على منهجي أستاذيه بمنهج خاص جعله يمزج بين المنهجين السابقين.
في ظل الأحداث التي وقعت في سورية، والتي حدت من انطلاقة رشيد رضا في الإصلاح بسبب تشدد الولاة العثمانيين. أخذ رشيد يتطلع إلى الهجرة نحو مصر.(4/108)
وهناك في أرض مصر، استقر العزم به على إنشاء صحيفة إصلاحية عام 1898، أسماها المنار وجعلها منبراً لبث أفكاره في الإصلاح الديني والاجتماعي والإيقاظ العلمي والسياسي، وكان يحرص على عرض كل ما يكتبه من مقالات على الإمام محمد عبده، ويستمع إلى توجيهاته وإرشاده، وظل قلم رشيد رضا يصول في المنار ويجول مرشداً المسلمين إلى النظر في سوء حالهم، وتذكيرهم بما فقدوه من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوه من مجد آبائهم الأولين، فنادى بأن يعلموا أن قيمة الدين ليست في أسراره الروحانية أو قواه الخفية، بل في الحقيقة التي يعلمها للإنسانية، وهي أن سعادة المرء في هذه الحياة والحياة الأخرى تتوقف على معرفته بسنن الله التي تضبط هداية البشر أفراداً وجماعات، وعلى المسلمين أن يدرسوا هذه السنن ثم يسيروا عليها في يقين وإيمان.
ونادى رشيد رضا في المنار بإصلاح التربية والتعليم، وبإنشاء المدارس الإسلامية ونبذ المدارس التبشيرية التي أكثر المستعمر منها في البلاد الإسلامية، ودعا إلى وجوب إدخال علوم أساسية في ميدان التربية والتعليم، مثل علوم أصول الدين وعلوم تهذيب الأخلاق، وعلوم فقه الحلال والحرام، وعلوم الاجتماع، وعلم تقويم البلدان، وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد، والتدبير المنزلي والحساب، وعلم حفظ الصحة، وعلم فن الخط وعلم لغة البلاد... لما في هذه العلوم من خير للناس في حياتهم العامة والخاصة.
أنشأ رشيد رضا دار الدعوة والإرشاد لتخرج المرشدين والدعاة، وذلك في ظل انتشار المدارس التبشيرية في البلاد الإسلامية، ودعوة المسلمين للتخلي عن دينهم واعتناقهم الدين المسيحي، وتابع رشيد رضا الإشراف على مدرسته بما يفرغ فيها من جهده وجهاده ما يستطيع، لكن تعطلت هذه المدرسة عند نشوب الحرب العالمية الأولى، ولم تفتح أبوابها مرة أخرى.
دخل رشيد رضا ميدان السياسة، وعمل على نقد الدولة العثمانية والاشتراك عملياً في محاولات إصلاح الأوضاع فيها، وترأس (جمعية الشورى العثمانية) المؤلفة من العثمانيين المنفيين إلى مصر، حيث كانت هذه الجمعية ترسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية حتى أقلقت مضاجع السلطان. كما أخذ رشيد رضا في مجلته المنار يهاجم استبداد الدولة، وكشف عن قدرة فريدة في فهم الأوضاع التي أحاطت بالدولة العثمانية والبلاد العربية.
بعد الثورة العربية الكبرى وهزيمة الأتراك، تم الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا على اقتسام الوطن العربي... وهذا ما سبق ونبه إليه رشيد رضا في مجلته المنار، كما حذر الزعماء العرب من الوقوع في حبائل الوعود البراقة والأماني الخادعة من فرنسا وبريطانيا، مما جعله يشرع بإرسال كتب إلى رؤساء وزارتي إنجلترا وفرنسا ينصحهم بالابتعاد عن المساس بحقوق العرب والغدر بهم، كما أتيحت له فرصة ذهبية ليندد بالاستعمار وأعماله في البلاد العربية حين قرر قادة العرب عقد مؤتمر في جنيف للدفاع عن القضايا العربية، ووقع الاختيار على رشيد رضا ليكون نائباً لرئيس هذا المؤتمر، حيث أسهم بقسط وافر من تجاربه وآرائه القيمة في وضع نداء للمجتمع الدولي وعصبة الأمم المتحدة للنظر في الحقوق العربية.
كما اشتهر رشيد رضا بالشدة في الحق والصدق في الحديث بكل ما يدلي به من آراءه، حين كان على رأس الوفد السوري الفلسطيني المبعوث إلى الأمم المتحدة لشرح القضايا العربية وكسب تأييدهم، وأكد لهم أن الشرق قد استيقظ وعرف نفسه ولن يرضى بعد اليوم أن تكون شعوبه ذليلة مستعبدة للطامعين المستعمرين.
ظل رشيد رضا يتابع رسالته في المنار بالدفاع عن الأمة العربية والأخذ بيدها، وتنبيه أبناء الأمة العربية إلى خطر الصهيونية، وإلى تبنى الاستعمار لها، ليجعل منها وسيلة لتحقيق مآربه في تحطيم وحدة الوطن العربي، ونادى في مقالاته بعد أن اشتد خطر الاستعمار والصهيونية، على ضرورة جمع كلمة العرب، وظل هكذا حاملاً لواء الجهاد في سبيل الإسلام والعروبة إلى أن انتقل إلى الملأ الأعلى في يوم22ـ 8 ـ1935، تاركاً وراءه تراثاً كبيراً من الأعمال العلمية نذكر منها: ـ
1. مؤلفه الأول الذي دونه أثناء طلبه للعلم في الشام "الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية".
2. مجلة المنار: وهي المعلمة الإسلامية الكبرى، والكنز الذي احتوى ثمار تجارب رشيد رضا وآرائه في الإصلاح الديني والسياسي.
3. تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وما جرى بمصر في عصره.
4. حقوق النساء في الإسلام.
5. الوحي المحمدي.
6. المنار والأزهر.
7. ذكر المولد النبوي.
8. الوحدة الإسلامية.
9. يسر الإسلام وأصول التشريع العام.
10. الخلافة أو الإمامة العظمى.
11. الوهابيون والحجازيون.
12. السنة والشيعة.
13. مناسك الحج، أحكامه وحكمه.
14. تفسير القرآن الكريم، المعروف بتفسير المنار.
15. حقيقة الربا.
16. مساواة الرجل بالمرأة.
17. رسالة في حجة الإسلام الغزالي.
18. المقصورة الرشيدية.
المرجع:
ـ من كتاب (رشيد رضا الإمام المجاهد)، المؤلف: إبراهيم العدوي
==================
الشيخ علي الطنطاوي
كأنه قبضة من أرض الشام، عُجنت بنهري النيل والفرات، لوحتها شمس صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفساً عزيزة أبية، تنافح عن الدعوة وتذود عن حياض الدين.
ذلكم هو العلامة الكبير، الفقيه النجيب، والأديب الأريب الشيخ علي الطنطاوي الذي فقدته الأمة قبل فترة، لتنثلم بذلك ثلمة كبيرة، ضاعفت آلامنا وأدمت قلوبنا.(4/109)
كان الشيخ الطنطاوي قوة فكرية من قوى الأمة الإسلامية، ونبعا نهل منه طالبو العلم، والأدب في كل مكان، كان قلمه مسلطا كالسيف سيالاً كأعذب الأنهار وأصفاها، رائعة صورته، مشرقا بيانه، وفي ذلك يقول عن نف سه ((أنا من "جمعية المحاربين القدماء" هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع، وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالاً، أقابل به الرجال، وأقاتل به الأبطال، فأعود مرة ومعي غار النصر وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل. قلم إن أردته هدية نبت من شقه الزهر، وقطر منه العطر وإن أردته رزية حطمت به الصخر، وأحرقت به الحجر، قلم كان عذبا عند قوم، وعذاباً لقوم آخرين)).ـ
ولد الشيخ علي الطنطاوي في مدينة دمشق في 23 جمادى الأولى 1327 هـ ((12 يونيو 1909 م)) من أسرة علم ودين، فأبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي من أهل العلم، وجده الشيخ محمد الطنطاوي عالم كبير، وخاله الأستاذ محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير والصحافي الشهير.ـ
تفتح وعيه على قنابل الحلفاء تدك عاصمة الأمويين وفلول الأتراك تغادر المدينة وديار الشام مقفرة بعد أن عز الطعام وصارت أوقية السكر (200 غرام) بريال مجيدي كان يكفي قبل الحرب لوليمة كبيرة. وكان أول درس قاس تعلمه وعاشه تفكك الدولة العثمانية وتحول ولاياتها السابقة إلى دويلات. فسوريا أصبحت أربع دول: واحدة للدروز والثانية للعلويين، والثالثة في دمشق والرابعة في حلب.ـ
كان الفتى علي الطنطاوي وقتها مازال تلميذا في المدرسة لكن وعيه كان يسبق سنه، فعندما أعلن في مدرسته عن المشاركة في مسيرة لاستقبال المفوض السامي الجديد الجنرال ويفان الذي حل محل الجنرال غورو، رفض ذلك وألقى خطبة حماسية، قال فيها: ((إن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا ولا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم)).ـ
لله درك يا فتى أدركت ما لم يدركه الكبار، فكيف تستقبل أمة عدوها الذي سلبها حريتها وكيف تنسى ما قاله قائد هذا العدو بعد معركة ميسلون ودخول الشام عندما زار الجنرال غورو قبر صلاح الدين وقال له: ها نحن عدنا يا صلاح الدين.. الآن انتهت الحروب الصليبية.ـ
تلك المعركة التي كانت نقطة تحول في وعي الفتى علي الطنطاوي، فقد خرج منها بدرس ممهور بدماء الشهداء واستقلال الأمة.. درس يقول إن الجماهير التي ليس عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة لا تستطيع أن ترد جيشا غازيا. أصبح الاحتلال الفرنسي واقعا جديدا في سوريا، وغدا حلم الدولة المستقلة أثراً بعد عين، وكما حدث في كل بقاع العالم الإسلامي كان العلماء رأس الحربة قي مواجهة المحتل وتولى الشيخ بدر الدين الحسيني شيخ العلماء في مدن سوريا قيادة ثورة العلماء الذين جابوا البلاد يحرضون ضد المستعمر، فخرجت الثورة من غوطة دمشق وكانت المظاهرات تخرج من الجامع الأموي عقب صلاة الجمعة فيتصدى لها جنود الاحتلال بخراطيم المياه ثم بالرصاص، والشاب علي الطنطاوي في قلب من تلك الأحداث.ـ
خطيب المقاومة
في أحد الأيام كان على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في دمشق فقال له أصحابه: إن المسجد قد احتشد فيه جمهور من الموالين للفرنسيين واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم فرأينا أنهم لا يقوى لهم غيرك، فحاول الاعتذار فقطعوا عليه طريقه حين قالوا له إن هذا قرار الكتلة ((كان مقاومو الاحتلال ينضوون تحت لواء تنظيم يسمى الكتلة الوطنية وكان الطنطاوي عضوا فيها)) فذهب معهم وكان له صوت جهور، فقام على السّدة مما يلي ((باب العمارة)) ونادى: إليّ إليّ عباد الله، وكان نداء غير مألوف وقتها، ثم صار ذلك شعاراً له كلما خطب، فلما التفوا حوله بدأ ببيت شوقي:ـ
وإذا أتونا بالصفوف كثيرة * * * جئنا بصف واحد لن يكسرا
وأشار إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد، وإلى صف إخوانه القليل، ثم راح يتحدث على وترين لهما صدى في الناس هما الدين والاستقلال، فلاقت كلماته استحساناً في نفوس الحاضرين، وأفسدت على الآخرين أمرهم، وصرفت الناس عنهم. ولما خرج تبعه الجمهور وراءه، وكانت مظاهرة للوطن لا عليه.ـ
في 1928 دعاه خاله محب الدين الخطيب للقدوم إلى مصر وكان قد أصدر مجلة "الفتح" قبل ذلك بعامين فسافر علي الطنطاوي إلى مصر للدراسة في كلية دار العلوم، لكن المناخ الثقافي في مصر في ذلك الحين شده للانخراط في العمل الصحفي الذي كان يشهد معارك فكرية وسجالات أدبية حامية الوطيس حول أفكار التقدم والنهضة والإسلام والاستعمار وغيرها، وكان طبيعياً أن يأخذ الشاب علي الطنطاوي موقعه في صفوف الذائدين عن حياض الإسلام المناوئين للاستعمار وأذنابه، وظل الطنطاوي في موقعه لم يتراجع أو يتململ أو يشكو تكالب الأعداء أو قلة الإمكانيات فكان الفارس الذي لم يؤت من ثغره.ـ
لم يكمل دراسته في كلية دار العلوم وعاد إلى دمشق ليلتحق بكلية الحقوق التي تخرج فيها عام 1933، ثم عمل مدرساً في العراق، ولما عاد إلى دمشق عمل قاضياً شرعياً، عن علم ودراسة وتدرج في الوظائف التعليمية والقضائية حتى بلغ فيها مكانة عالية، ثم درّس في العراق سنة 1936 ورجع إلى بلده فلم يلبث أن انتقل إلى القضاء فكان القاضي الشرعي في دوما، ثم مازال يتدرج في مناصب القضاء حتى وصل إلى أعلى تلك المناصب، وكان قد ذهب إلى مصر لدراسة أوضاع المحاكم هناك.ـ
ذهابه إلى السعودية(4/110)
ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية 1963 م فعمل في التدريس في كلية اللغة العربية وكلية الشريعة في الرياض ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة في مكة المكرمة ثم تفرغ للعمل في مجال الإعلام وقدم برنامجاً إذاعياً يومياً بعنوان "مسائل ومشكلات" وبرنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً بعنوان "نور وهداية".ـ
وظل طوال تنقله بين عواصم العالم الإسلامي يحن إلى دمشق ويشده إليها شوق متجدد. وكتب في ذلك درراً أدبية يقول في إحداها:ـ
ـ((وأخيراً أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني، حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبق لي عندك إلا حاجة واحدة، فلا تنصرف عني، بل أكمل معروفك، فصلّ الفجر في "جامع التوبة" ثم توجه شمالاً حتى تجد أمام "البحرة الدفاقة" زقاقاً ضيقاً جداً، حارة تسمى "المعمشة" فادخلها فسترى عن يمينك نهراً، أعني جدولاً عميقاً على جانبيه من الورود والزهر وبارع النبات ما تزدان منه حدائق القصور، وعلى كتفه ساقية عالية، اجعلها عن يمينك وامش في مدينة الأموات، وارع حرمة القبور فستدخل أجسادنا مثلها.ـ
دع البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة ممتدة الفروع، سر إلى الأمام حتى يبقى بينك وبين جدار المقبرة الجنوبي نحو خمسين متراً، إنك سترى إلى يسارك قبرين متواضعين من الطين على أحدهما شاهد باسم الشيح أحمد الطنطاوي، هذا قبر جدي، فيه دفن أبي وإلى جنبه قبر أمي فأقرئهما مني السلام، واسأل الله الذي جمعهما في الحياة، وجمعهما في المقبرة، أن يجمعهما في الجنة، {رب اغفر لي ولوالدي} {رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} رب ارحم بنتي واغفر لها، رب وللمسلمين والمسلمات)).ـ
ويعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم الإسلامي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظاً واسعاً من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين.ـ
كان يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه فيه أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكّنه أن يعرض أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي، ويفهمه من نال أيسر قسط من التعليم.ـ
اشتهر الشيخ الطنطاوي بسعة أفقه وكثرة تجواله وحضور ذهنه وذاكرته القوية ولذلك تجيء أحكامه متسمة بصفة الاعتدال بعيدة عن الطرفين المذمومين: الإفراط والتفريط.ـ
وقد كتب في صحف بلده في الشام، فاحتل مكانة مرموقة فيها، ثم أضحى من كبار الكتاب، يكتب في كبريات المجلات الأدبية والإسلامية مثل "الزهراء" و "الفتح" و "الرسالة" و "المسلمون" و "حضارة الإسلام" وغيرها، وكانت له زوايا يومية في عدد من الصحف الدمشقية.ـ
ومن المجالات التي سبق إليها الكتابة في أدب الأطفال والمشاركة في تأليف الكتب المدرسية. وتحقيق بعض كتب التراث، وله جولات في عالم القصة فهو من أوائل كتابها.ـ
كانت مساجلاته تملأ الأوساط الفكرية والأدبية طولاً وعرضاً، وكان لا يكف عن إصدار رسائله التي يحذر فيها من مغبة الانخداع بالنحل الباطلة.
ومن طريف ما تعرض له في إحدى مساجلاته ما يرويه عن نفسه ((كنا يوما أمام مكتبة "عرفة" فجاء رجل لا يعرفه فاندس بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلاما عجيبا، أدركنا منه أنه يدعو إلى نحلة من النحل الباطلة، فتناوشوه بالرد القاسي والسخرية الموجعة، فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي، فكفوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألف به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حجة أبلغ من الكلام، فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود. قال: حاضر، وأخرج ليرتين ذهبيتين يوم كانت الليرة الذهبية شيئاً عظيماً. مد يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعاً، وانصرف الرجل بعد أن عرفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرت الصدور بالضحك، وأقبلوا عليّ مازحين، فمن قائل شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بها وليمة، أو نزهة في بستان، قلت سترون ما أنا صانع، وذهبت فكتبت رسالة، تكلمت فيها عن الملل والنحل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها "سيف الإسلام" وكتبت على غلافها "طبعت بنفقة فلان" باسم الرجل الذي دفع الليرتين، وبلغني أنه كاد يجن ولم يدر ماذا يفعل، ولم يستطع أن ينكر أمراً يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردته بعد أن عاقبته)).ـ
كما كان الفقيد - يرحمه الله- داعية شجاعاً ثابتاً على مبدئه لا يلين، ولا يهادن، كما يقتحم الأهوال، وينازل الرجال، يلج عرين الآساد، وربما عرض نفسه -باختياره- لمخالب تمزق جلد التمساح، كل ذلك في سبيل إيمانه بفكرته الإسلامية، والتضحية من أجل إعلائها مهما كان الثمن.ـ
وقد ترك الشيخ علي الطنطاوي أثراً كبيراً في الناس وساهم في حل مشكلاتهم عن طريق كتابته ورسائله وأحاديثه، وقد كان له دور طيب في صياغة قانون الأحوال الشخصية في سوريا، وهو واضع مشروع هذا القانون على أسس الشريعة الإسلامية، كما وضع قانون الإفتاء في مجلس الإفتاء الأعلى، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي في بغداد. وفي كل أعماله كان يبتغي الأجر من ربه ويسعى إلى واسع مغفرته، يقول: ينجيني قانون {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إني والله أخشى ذنبي ولكني لا أيأس من رحمة ربي.. وآمل أن ينفعني إذا مت صلاة المؤمنين عليّ ودعاء من يحبني، فمن قرأ لي شيئاً أو استمع لي شيئاً فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولدعوة واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه.ـ
الطنطاوي مربياً(4/111)
رزق الشيخ الجليل خمساً من البنات، وقد كن لفقد إحداهن "بنان" -وقد قتلت اغتيالاً في مدينة "آخن" الألمانية مع زوجها عصام العطار- أكبر الأثر على نفسه ولكنه احتسب الله فيها وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله، وقد كان لفضيلته أسلوبه المتميز في التربية ومعاملة البنات.ـ
تقول حفيدته عبادة العظم: نشأت وترعرعت في كنف جدي وأمي وأنا أعتقد -كما يظن ويعتقد كل طفل- أن كل الناس يتربون ويتوجهون في بيئة إن لم تماثل بيئتي فهي مشابهة لها، وكنت أسمع الناس يمتدحون جدي فلا أدرك من الحقيقة إلا أن الناس عرفوه لنه يحدثهم في الراديو والتلفزيون، فأحبوه، فامتدحوه، وكنت أنا مثلهم أحبه كثيراً، لما أراه منه، فلم أعر الأمر اهتماما.ـ
وما لبثت أن كبرت قليلا، واختلطت بالناس فبدأت أدرك شيئاً فشيئاً الفروق الجوهرية بين جدي مربيا وبين سائر المربين، وكنت كلما اجتمعت مع أقراني لمست التباين بين أسلوبه في التوجيه وبين أسلوب بقية الوالدين، وكنت كلما سمعت مشكلات الآباء في تربية الأبناء، أعترف لجدي بالتميز والإبداع في معالجة الأخطاء وتعديل الطباع، وساهمت خالاتي وأمي في تبصيري، وذلك بما كنّ يقصصنه عليّ من قصصهن مع جدي، وبما كن يكننّه له من الاحترام والشكر والتقدير، وبما كنّ يحملنه من إيمان عميق بالله، ومبادئ عظيمة تعلموها من شرع الله.ـ
فلم أكد أتفهم هذه الحقائق، وأتبين الأثر الكبير الذي أوجده جدي فينا، حتى شرعت بكتابة المواقف المهمة العالقة في ذاكرتي، إذ أحسست بأن هذه التوجيهات حري بها أن لا تبقى حبيسة معرفة بعض الناس الذين هم أحفاد الطنطاوي بل ينبغي أن تنشر ليطلع عليها الناس، لتكون لهم عوناً في تنشئة أبنائهم وبناتهم ولهذا أصدرت عنه كتابي.ـ
وعن كتابها "هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي" تقول:ـ
لم اكن عند جدي عندما عرض الكتاب عليه لأول مرة. فقد حمله إليه زوج خالتي "نادر حتاحت" بصفته ناشر الكتاب، ولما قرأه جدي اتصل بي هاتفيا وقال: الكتاب جيد بل هو جيد جداً، وأسلوبه جميل. لكنه عقّب بقوله: ومن الصعب عليّ يا ابنتي أن أمتدح هذا الكتاب أو أدلي برأيي الصريح عنه، لأنه عني، وأخشى أن يظن الناس أني أفعل لأجل ذلك. ثم ختم كلامه بقوله: وأنا لست كما وصفت فأنت التي جملت الحوادث وصورتها بتلك الطريقة.ـ
وكان ذلك تواضعاً منه فأنا ما كتبت غير الحقيقة وما صورت إلا ما رأيته، وما قال ذلك جدي إلا تواضعاً.ـ
الطنطاوي والمرأة
وعن رؤية الشيخ الطنطاوي للمرأة وخصوصاً أنه لم يرزق بالبنين تقول:ـ
جدي إنسان كأي إنسان آخر يحب أن يرزق البنين، فيحملون اسمه ويتعلمون مما علمه الله ويكونون خلفاء له وهو لم يتوقع أصلا ألا يولد له ذكر، فلما جاءته ابنته الأولى رضي بقضاء الله وسعد بها، بل أحبها وأخواتها -من بعد- حباً شديداً، وأولاهن من العناية والرعاية والاهتمام ما لم يوله أب آخر ممن أعرف أو سمعت عنهم.ـ
أما احترامه للمرأة فهو شيء معروف عنه، وكان في أحاديثه يدافع عن النساء ويذبّ عنهن، ويحذر الرجال من الظلم والتعدي، وكان يردد دائماً: أن الدرجة للرجل على المرأة درجة واحدة، وليست سلماً. حتى لقّبوه بناصر المرأة، وهو كذلك معنا فقد كان يؤثرنا أحياناً -نحن الحفيدات- على الأحفاد، وقد بذل لنا الكثير، وأكرمنا زيادة عنهم في بعض المواقف ولكن دون أن يشعروا حتى لا يتسبب ذلك في أذاهم.ـ
وحول شخصية الشيخ علي الطنطاوي وكيف جمع بين العلم والدين والأدب والحياة تقول: ساءلت نفسي هذا السؤال مرة، ثم وجدت الجواب في سيرة جدي، فقد مر بظروف قاهرة ومؤلمة، فعوذه الله بمجموعة من العطايا، أهلته إلى النجاح.ـ
كان يتيماً وحيداً بلا أب ولا أم ولا سند مادي أو معنوي، فأعطاه الله العقيدة السليمة، وقوة الشخصية، فكان بلسانه وقلمه سيفاً مسلولاً على أعداء الله ورسوله، فان يترصد الباطل ويقتله، ينازل الفسوق فيقهره، ويبارز الكفر والانحلال والمجون فيغلبهم جميعاً، وكان صدّاعاً بالحق، لا يسكت عن إنكار منكر، ولا تمنعه منه هيبة ذي سلطان، جريئاً لا يهاب أحداً ولا يخشى إلا الله، متمرداً على العادات والتقاليد المخالفة للإسلام، فرفع الله بعمله هذا ذكره بين الناس.ـ
وكان محباً للعزلة والانفراد فأعطاه الله حب العلم، والشغف بالقراءة والاطلاع، ورزقه الذكاء والذاكرة العجيبة، وسرعة الاستيعاب فلم تكن إلا سنون حتى جمع علماً غزيراً متنوعاً، فهو أديب، ولغوي فقيه، وعالم نفس، وهو قارئ نشيط في الطب والفلك، فسهل الله له بعلمه الطريق إلى عقول الناس.ـ
وكان هيّاباً للاجتماع بالناس، فأعطاه الله القدرة على مخاطبتهم من بعيد، أي عن طريق وسائل الإعلام على اختلاف مشاربهم، وأعطاه روح الفكاهة، وحلاوة الأسلوب، والابتكار في العرض، والقدرة على الإقناع، والمرونة في الإفتاء فوصل إلى قلوب الكثيرين.ـ
وتقول أمان علي الطنطاوي ترثي والدها الفقيد:ـ(4/112)
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا عليك يا أبتاه لمحزونون، أبتاه أنت شمس حياتنا ونور أيامنا.. أبتاه يعز علينا الفراق، ويحز في النفس غياب صوتك ووجهك، لكنك في القلب أنت في العقل أنت.. أبتاه يا نبض أيامي، أبتاه ملهم أفكاري.. أبتاه يا أحب وأغلى الناس، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته. عن مجموع محبيك يدعون لك بالرحمة والمغفرة وأن يسكنك فسيح جناته ويجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ويجمعنا معك في جنة الخلد. أبتاه ها قد لحقت ببنان التي حزنت عليها دوماً ولم تذكر اسمها إلا هذا العام ولم تلح في طلبها إلا وأنت مريض بالإشارة، أشرت بإصبعك الثاني قلت لك: بنان، هززت رأسك، يا أحب الناس ها قد التقيت ببنان. جعلك الله وإياها من أهل الجنة.ـ
قالوا عنه
يقول الشيخ مجاهد محمد الصواف الذي رافق الشيخ علي الطنطاوي منذ كان في العاشرة من عمره: من أبرز سماته -رحمه الله- هدوء الشيخ وفهمه لما يجري في العالم وارتباطه العميق بالدعوة إلى الله والتزامه في ذلك بالقرآن والسنة مما مكنه من طرح موضوعاته وما يهدف إليه من نشر التوعية والدعوة بشكل يقبله الناس. وكان كاتباً رائعاً إذا أمسك القلم وإذا أراد أن يبكي أبكى، وإذا أراد أن يضحك أضحك فيجمع في أسلوبه الدعوي كل أساليب التربية، فكان يجيب عن أطنان من الرسائل ولم يكن يتحرج في الإجابة عن أي سؤال يطرح في مجتمعنا، واستطاع بحكمته ووسطيته وأسلوبه الرائع في طرح القضايا والمشكلات أن يكسب القبول من الناس جميعاً.ـ
أسلوب مميز
وقال الدكتور حسن محمد سفر أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة: بفقدان العلامة الشيخ علي الطنطاوي، فقد العالم الإسلامي علماً من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية وكان رحمه الله يطل على المسلمين من الشاشة أسلوب مبسط يبين فيه أحكام الإسلام ووجهة نظر المجتهدين من علماء الشريعة فيما يتعلق بالمسائل والأحكام والفتاوى وكان هذا الأسلوب الشيق مميزاً يضيف إليه سماحته من الطرف والقصص ما يربط به الموضوع فتستخلص منه العبر والعظات، وقد كان هذا الأسلوب محبباً لدى الشباب، فرحم الله هذه الثلة المباركة من علماء الإسلام وعوضنا في سماحته كل خير وحفظ الله علماءنا ليؤدوا الرسالة التي أنيطت بهم والحمد لله على كل حال.ـ
موسوعة
الشيخ محمد فيصل السباعي مدير إدارة النشر بجامعة أم القرى وأحد المقربين من الشيخ الطنطاوي يقول: لقد رافقت الشيخ علي الطنطاوي في كثير من الفترات عرفت فيها حماسه وغيرته على الإسلام وعرفت فيه رمزاً من رموز العلم والتعليم، عرفته رحمه الله قرابة نصف قرن، وكان عالماً عاملاً كثير التواضع للجميع وبخاصة في مجال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وكان رحمه الله موسوعة متنقلة وإنا لنشهد له بالخير والصلاح ولا نزكيه على ربه ونسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والمثوبة ويعوض العالم الإسلامي بفقده ويلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان وأن يسكنه فسيح جناته.
===================
علي الطنطاوي
هو علي بن مصطفى الطنطاوي، ولد في مدينة دمشق في 12 حزيران 1909، لأسرة ذات علم ودين. أصله من مدينة طنطا في مصر حيث انتقل جده محمد بن مصطفى في أوائل القرن التاسع عشر إلى دمشق، وكان عالماً أزهرياً حمل علمه إلى ديار الشام فجدد فيها العناية بالعلوم العقلية ولاسيما الفلك والرياضيات. وقد نزح معه ابن أخيه أحمد بن علي جدّ علي الطنطاوي وكان هذا إمام طابور متقاعد في الجيش العثماني.
أما أبوه الشيخ مصطفى فكان من العلماء المعدودين في الشام، انتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق. وكان مديراً للمدرسة التجارية في دمشق، ثم ولي منصب رئيس ديوان محكمة النقض عام 1918 إلى أن توفي عام 1925.
وأسرة أمه أيضاً من الأسر العلمية في الشام، كثير من أفرادها من العلماء المعدودين ولهم تراجم في كتب الرجال.. خاله محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتي (الفتح) و(الزهراء) وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين.
تلقى علي الطنطاوي دراسته الابتدائية الأولى في العهد العثماني، فكان طالباً في المدرسة التجارية، ثم في المدرسة السلطانية الثانية وبعدها في المدرسة الجقمقية، ثم في مدرسة حكومية أخرى إلى سنة 1923 حيث دخل مكتب عنبر الذي كان الثانوية الوحيدة في دمشق ومنه نال البكالوريا سنة 1928. ثم ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، ولكنه لم يتم السنة وعاد إلى دمشق في السن التالية فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس سنة 1933.
كان على الطنطاوي من الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ، والدراسة في المدارس النظامية، فقد تعلم في هذه المدارس إلى أن تخرج من الجامعة. وكان يقرأ معها على المشايخ علوم العربية والعلوم الدينية على الأسلوب القديم.
عندما عاد الطنطاوي إلى الشام دعا إلى تأليف لجان للطلبة على غرار تلك التي رآها في مصر فألفت لجنة للطلبة سميت (اللجنة العليا لطلاب سورية) وانتخب رئيساً لها وقادها نحواً من ثلاث سنين. وكانت هذه اللجنة بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي لسوريا.
ابتدأ الطنطاوي التدريس في المدارس الأهلية في دمشق وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقد طبعت محاضراته التي ألقاها على طلبة الكلية الوطنية في دروس الأدب العربي عن (بشار بن برد) في كتاب عام 1930.(4/113)
بعد ذلك عين معلماً ابتدائياً في مدارس الحكومة سنة 1931 حين أغلقت السلطات جريدة (الأيام) التي كان يعمل مديراً لتحريرها، وبقي في التعليم الابتدائي إلى سنة 1935. وكانت حياته في تلك الفترة سلسلة من المشكلات بسبب مواقفه الوطنية وجرأته في مقاومة الفرنسيين وأعوانهم في الحكومة.
عام 1936 انتقل الطنطاوي للتدريس في العراق، فعين مدرساً في الثانوية المركزية في بغداد، ثم في ثانويتها الغربية ودار العلوم الشرعية في الأعظمية، ولكن روحه الوثابة وجرأته في الحق فعلا به في العراق ما فعلا به في الشام، فما لبث أن نقل مرة بعد مرة، فعلم في كركوك في أقصى الشمال، وفي البصرة في أقصى الجنوب. وبقي يدرس في العراق حتى عام 1939، لم ينقطع عنه غير سنة واحدة أمضاها في بيروت مدرساً في الكلية الشرعية فيها حتى عام 1937.
ثم رجع إلى دمشق فعين أستاذاً معاوناً في مكتب عنبر، ولكنه لم يكف عن مواقفه التي سببت له المتاعب، فنقل إلى مدرسة دير الزور سنة 1940 ولبث فيها فصلاً دراسياً أبعد بعدها قسرياً بسبب خطبة حماسية ألقاها في صلاة الجمعة ضد المستعمر الفرنسي.
عام 1941 دخل الطنطاوي سلك القضاء، فعين قاضياً في النبك مدة أحد عشر شهراً ثم قاضياً في دوما (من قرى دمشق)، ثم قاضياً ممتازاً في دمشق مدة عشر سنوات فمستشاراً لمحكمة النقض في الشام، ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر.
وقد اقترح الطنطاوي ـ يوم كان قاضياً في دوما ـ وضع قانون كامل للأحوال الشخصية فكلف بذلك عام 1947، وأوفد إلى مصر مع عضو محكمة الاستئناف الأستاذ نهاد القاسم (الذي صار وزيراً للعدل أيام الوحدة) فأمضيا تلك السنة كلها هناك حيث كلف هو بدرس مشروعات القوانين الجديدة للمواريث والوصية وسواها. وقد أعد مشروع قانون الأحوال الشخصية كله وصار هذا المشروع أساساً للقانون الحالي في سورية.
وكان القانون يخول القاضي الشرعي في دمشق رياسة مجلس الأوقاف وعمدة الثانويات الشرعية، فصار الطنطاوي مسؤولاً عن ذلك كله خلال العشر سنين التي أمضاها في قضاء دمشق، فقرر أنظمة الامتحانات في الثانويات الشرعية، وكان له يد في تعديل قانون الأوقاف ومنهج الثانويات، ثم كلف عام 1960 بوضع مناهج الدروس فيها فوضعها وحده بعدما سافر إلى مصر واجتمع فيها بالقائمين على إدارة التعليم في الأزهر واعتمدت كما وضعها.
انتقل الطنطاوي عام 1963 بعد انقلاب الثامن من آذار، وإعلان حالة الطوارئ في سورية، إلى المملكة العربية السعودية ليعمل مدرساً في كلية الشريعة وكلية اللغة العربية في الرياض، ومنها انتقل إلى مكة، للتدريس فيها ليمضي فيها وفي جدة خمساً وثلاثين سنة.
بدأ الطنطاوي هذه المرحلة الجديدة من حياته بالتدريس في كلية التربية بمكة، ثم لم يلبث أن كلف ببرنامج للتوعية الإسلامية، فترك الكلية وراح يطوف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرغ للفتوى يجيب على أسئلة وفتاوى الناس في الحرم ـ في مجلس له هناك ـ أو في بيته ساعات كل يوم، ثم بدأ برنامجيه (مسائل ومشكلات) في الإذاعة، و(نور وهداية) في التلفزيون اللذين قدر لهما أن يكونا أطول البرامج عمراً في تاريخ إذاعة المملكة وتلفزيونها.
يعتبر الطنطاوي من أقدم المحاضرين الإذاعيين في العالم العربي، إذ بدأ يحاضر من إذاعة الشرق الأدنى من يافا من أوائل الثلاثينات، ومن إذاعة بغداد سنة 1937، ومن إذاعة دمشق سنة 1942 لأكثر من عقدين متصلين، وأخيراً من إذاعة المملكة وتلفزيونها نحواً من ربع قرن متصل من الزمان.
نشر الطنطاوي أول مقالة له في جريدة عامة في عام 1926، ولم ينقطع عن النشر في الصحف منذ ذلك التاريخ، فشارك في تحرير مجلتي خاله محب الدين (الفتح) و(الزهراء) حين زار مصر عام 1926، ثم كتب في جريدة فتى العرب ثم في (ألف باء)، ثم كان مدير تحرير (الأيام) التي أصدرتها الكتلة الوطنية سنة 1931 وخلال ذلك كان يكتب في (الناقد) و(الشعب) وسواهما من الصحف. وفي سنة 1933 أنشأ الزيات المجلة الكبرى (الرسالة) فكان الطنطاوي واحداً من كتابها واستمر فيها عشرين سنة إلى أن احتجبت سنة 1953. وكتب في مجلة (المسلمون) و(النصر) وفي مكة كتب في مجلة (الحج) وفي جريدة (المدينة)، ونشر ذكرياته في (الشرق الأوسط) على مدى نحو خمس سنين. وله مقالات متناثرة في عشرات الصحف والمجلات التي كان يعجز هو نفسه عن حصرها وتذكر أسمائها.
شارك الطنطاوي في طائفة من المؤتمرات منها حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية في دمشق في عهد الشيشكلي، ومؤتمر الشعوب العربية لنصرة الجزائر، ومؤتمر تأسيس رابطة العالم الإسلامي واثنين من المؤتمرات السنوية لاتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا. وأهم مشاركة له كانت في المؤتمر الإسلامي الشعبي في القدس عام 1953 والذي تمخضت عنه سفرته الطويلة في سبيل الدعاية لفلسطين، وقد جاب فيها باكستان والهند والملايو وإندونيسيا.
لما جاوز الطنطاوي الثمانين من عمره وبدأ التعب يغزو جسمه آثر ترك الإذاعة والتلفزيون واعتزل الناس إلا قليلاً من المقربين يأتونه في معظم الليالي زائرين، فصار ذلك له مجلساً يطل من خلاله على الدنيا، وصار منتدى أدبياً وعلمياً تبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ.
وفي الثامن عشر من حزيران عام 1999 توفي علي الطنطاوي في مستشفى الملك بجدة، ودفن في مكة في اليوم التالي بعدما صلي عليه في الحرم المكي الشريف.(4/114)
يعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم العربي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظاً واسعاً من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين.
كان الطنطاوي أديباً وداعية يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه به أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكنه من طرح أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي.
حمل الطنطاوي على كاهله راية الإصلاح الديني في الميادين كافة: التشريعي والسياسي والاجتماعي، فكان في ما يؤلف ويحاضر الداعية المسلم الذي يهجم على الخرافات والتقاليد البالية والسلوكيات المستوردة؛ فيصحح عقائد الناس ويقوم أخلاقهم، كما كان يتصدى لظلم رجال السلطان وأصحاب الدعوات الهدامة بمنطق الحق القويم وسلاسة الأسلوب وعذوبة العبارة مما قيض له قبولاً عند عامة الناس، كما نصب له في الوقت نفسه كثيراً من المعادين والشانئين. وكتبه في ميادين الإصلاح المختلفة كثيرة متعددة الاتجاهات تشهد له بعمق الفكرة وطول الباع وسلامة المنهج، وقد سبق زمانه في طروحاته الإصلاحية على صعيد التشريع والسياسة والاجتماع.
رزق الشيخ الطنطاوي خمساً من البنات، وقد كان لفقد إحداهن (بنان) ـ وقد اغتالتها يد الإرهاب الآثم في مدينة آخن الألمانية ـ أكبر الأثر في نفسه، ولكنه احتسبها عند الله. وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله.
ترك الطنطاوي عدة مؤلفات هي:
ـ هتاف المجد.
ـ مباحث إسلامية.
ـ فصول إسلامية.
ـ نفحات من الحرم.
ـ صور من الشرق.
ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق).
ـ فكر ومباحث.
ـ بشار بن برد.
ـ مع الناس.
ـ رسائل الإصلاح.
ـ مسرحية أبي جهل.
ـ ذكريات علي الطنطاوي. (ثمانية أجزاء).
ـ أخبار عمر.
ـ بغداد.
ـ حكايات من التاريخ (من أدب الأطفال).
ـ أعلام التاريخ (سلسلة للتعريف بأعلام الإسلام). ...
ـ تعريف عام بدين الإسلام.
ـ صور وخواطر.
ـ من حديث النفس.
ـ الجامع الأموي.
ـ قصص من التاريخ.
ـ قصص من الحياة.
ـ أبو بكر الصديق.
ـ عمر بن الخطاب. (جزآن).
ـ في إندونيسيا.
ـ في بلاد العرب.
ـ في سبيل الإصلاح.
ـ رسائل سيف الإسلام.
ـ رجال من التاريخ.
ـ الهيثميات.
ـ التحليل الأدبي.
ـ من التاريخ الإسلامي.
ـ دمشق.
ـ مقالات في كلمات. ...
المراجع:
ـ أحمد الجدع (معجم الأدباء الإسلاميين المعاصرين) الطبعة الأولى 1999، الجزء الثاني ص (800 ـ 805).
ـ علي الطنطاوي (ذكريات علي الطنطاوي، دار المنار للنشر، السعودية).
ـ مجلة الفيصل السعودية ، العدد 158، ص (17).
ـ مجاهد مأمون ديرانية (علي الطنطاوي 1909 ـ 1999) دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 2001).
==================
خير الدين الزركلي
هو خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزركلي الدمشقي، ولد في بيروت في 25 حزيران 1893م حيث كان والده تاجراً هناك، والده وأمه دمشقيان.
نشأ الزركلي في دمشق، وتعلم في مدارسها الأهلية، وأخذ عن معلميها الكثير من العلوم خاصة الأدبية منها، كان مولعا في صغره بكتب الأدب، وقال الشعر في صباه. أتم دراسته (القسم العلمي) في المدرسة الهاشمية بدمشق،ثم عمل فيها مدرساً بعد التخرج، كما أصدر مجلة (الأصمعي) الأسبوعية فصادرتها الحكومة العثمانية. انتقل إلى بيروت لدراسة الآداب الفرنسية في الكلية العلمانية (اللاييك)، بعد التخرج عين في نفس الكلية أستاذاً للتاريخ والأدب العربي.
بعد الحرب العالمية الأولى، أصدر في دمشق جريدة يومية أسماها (لسان العرب) إلاّ أنها أُقفلت، ثم شارك في إصدار جريدة المفيد اليومية وكتب فيها الكثير من المقالات الأدبية والاجتماعية.
على أثر معركة ميسلون ودخول الفرنسيين إلى دمشق حُكم عليه من قبل السلطة الفرنسية بالإعدام غيابياً وحجز أملاكه إلاّ إنه كان مغادراً دمشق إلى فلسطين، فمصر فالحجاز.
سنة 1921م تجنس الزركلي بالجنسية العربية في الحجاز، وانتدبه الملك حسين بن علي لمساعدة ابنه (الأمير عبد الله) بانشاء الحكومة الأولى في عمّان، حيث كلّف مفتشاً عاماً لوزارة المعارف ثم رئيساً لديوان الحكومة (1921ـ 1923).
ألغت الحكومة الفرنسية قرار الإعدام على الزركلي فرجع إلى سورية، ومن ثم غادرها إلى مصر، وهناك أنشأ (المطبعة العربية) حيث طبع فيها بعض كتبه وكتباً أخرى.
أصدر في القدس مع رفيقين له جريدة (الحياة) اليومية، إلاّ أن الحكومة الإنجليزية عطّلتها فأنشأ جريدة يومية أخرى في (يافا)، واختير عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1930.
عينه الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود سنة 1934 مستشاراً للوكالة ثم (المفوضية) العربية السعودية بمصر، كما عُيّن مندوباً عن السعودية في مداولات إنشاء (جامعة الدول العربية)، ثم كان من الموقعين على ميثاقها.
مثّل الأمير فيصل آل سعود في عدة مؤتمرات دولية، وشارك في الكثير من المؤتمرات الأدبية والاجتماعية، وفي عام 1946م عين وزيراً للخارجية في الحكومة السعودية متناوباً مع الشيخ يوسف ياسين، وكذلك متناوباً معه العمل في جامعة الدول العربية، واختير في نفس العام عضواً في مجمع اللغة العربية بمصر.
عام 1951م عين وزيراً مفوضاً ومندوباً دائماً لدى جامعة الدول العربية، فاستقر في مصر، وهناك باشر بطبع مؤلفه (الأعلام).
من عام 1957م وحتى عام 1963، عين سفيراً ومندوباً ممتازاً (حسب التعبير الرسمي) للحكومة السعودية في المغرب كما انتخب في المجمع العلمي العراقي سنة 1960.(4/115)
منحته الحكومة السعودية بسبب مرض ألمّ به إجازة للراحة والتداوي غير محدودة، فأقام في بيروت وعكف على إنجاز كتاب في سيرة عاهل الجزيرة الأول (الملك عبد العزيز آل سعود) وأخذ يقوم من حين لآخر برحلات إلى موطنه الثاني السعودية ودمشق والقاهرة وتركيا وإيطاليا وسويسرا. قام برحلات إلى الخارج يذكر أنها أفادته كثيراً.
ـ إلى إنجلترا سنة (1946) ومنها إلى فرنسا، ممثّلا للحكومة السعودية في اجتماعات المؤتمر الطبي الأول في باريس.
ـ إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة (1947) بمهمة رسمية غير سياسية، حضر خلالها بعض اجتماعات هيئة الأمم المتحدة.
ـ إلى أثينا العاصمة اليونانية سنة (1954) بصفة (وزير مفوض ومندوب فوق العادة) وجعل طريق عودته منها إلى استنابول لزيارة بعض مكتباتها.
ـ إلى تونس سنة (1955) مندوباً لحضور مؤتمر أقامه الحزب الدستوري فيها، ومنها إلى إيطاليا لزيارة أهم مكتباتها.
كان شاعراً مجيداً، ومؤرخاً ثقة، ويكفيه أنه صاحب الأعلام.
قام خير الدين الزركلي في مصر بدور مميز في تنفيذ المهمات القومية السياسية والإعلامية، وذلك من خلال اللقاءات والاجتماعات وكتابة المقالات ونشر الأشعار القومية والوطنية. وتناول الزركلي المستعمرين وأذنابهم بنبرة حادة خشيها الفرنسيون في سوريا كثيراً، فحكموا عليه غيابياً بالإعدام وبحجز أملاكه، وقد تلقى الزركلي النبأ برباطة جأش وقال:
نذروا دمي حنقاً علي وفاتهم أن الشقي بما لقيت سعيد
الله شاء لي الحياة وحاولوا ما لم يشأ ولحكمه التأييد
وعندا انطلقت الثورة السورية عام 1925م، انطلقت ثورة الزركلي الشعرية بكل لهيبها وروحيتها العربية، فأخذ ينظم القصائد ويرسلها إلى دمشق إماّ منشورة على صفحات الجرائد المصرية، وإماّ بوسائل النقل الأخرى، فأصبحت أبيات قصائده الوطنية على ألسنة الناس يتغنون بها في شوارع المدن السورية. وكانت ردود الفعل الفرنسية أقوى من ردود فعلها عام 1920م فأذاعت حكماً عليه ثانياً غيابياً بالإعدام، وطالبت الحكومة المصرية بإسكاته أو طرده من مصر غير أن الزركلي لم يكترث وظل يرسل قصائده الوطنية من القاهرة سراً، شاحذاً همم العرب حتى لا يسكتوا على الاستعمار ولا يتوانى أحدهم عن النضال. يقول:
تأهبوا لقراع الطامعين بكم ولا تغركم الآلاء والنعم
كان الزركلي يراقب ويتابع أحداث وطنه من بعيد، لذلك نراه يشارك إخوانه آلامهم حين ضربت دمشق بالقنابل عام 1925م، فيقول في قصيدته (بين الدم والنار):
الأهل أهلي والديار دياري وشعار وادي النيربين شعاري
ما كان من ألم بجلق نازل وأرى الزناد فزنده بي واري
ويحس الزركلي أن دم الثوار الذي يراق في دمشق هو دمه، فيقول:
إن الدم المهراق في جنباتها لدمي وأن شفارها أشفاري
دمعي لما منيت به جار هنا ودمي هناك على ثراها جاري
بنى الزركلي علاقات حميمة مع الكتاب والشعراء والمفكرين في مصر، من منطلق أهمية الكلمة التحضيرية في تعزيز الشعور الوطني والقومي في نفوس الجماهير العربية التي تعيش الهم القومي بكل جوانبه من هؤلاء الشاعر أحمد شوقي الذي ألقى قصيدته في حفل أقيم في القاهرة عام 1926، لإعانة منكوبي سوريا حين قامت بالثورة ضد المستعمر الفرنسي والتي مطلعها: سلام من صبا بردى أرقّ ودمع لا يكفكف يا دمشق
يشخص الزركلي صورة الدأب العلمي المنتج في كتابه الأعلام الذي جمع فيه فأوعى فكان بحق أيسر وأشمل معجم عربي مختصر في تاريخ الرجال. فكان الزركلي في حياته مثالاً: للثائر والشاعر والباحث.
في الخامس والعشرين من تشرين الثاني عام 1976، توفي أبو الغيث خير الدين الزركلي.
له من المؤلفات :
ـ كتاب (ما رأيت وما سمعت)، سجل فيه أحداث رحلته من دمشق إلى فلسطين فمصر فالحجاز.
ـ الجزء الأول من ديوان أشعاره، وفيه بعض ما نظم من شعر إلى سنة صدوره (1925).
كتاب (عامان في عمّان)، مذكرات الزركلي أثناء إقامته في عمّان وهو في جزآن.
ـ ماجدولين والشاعر، قصة شعرية قصيرة.
ـ كتاب شبه الجزيرة في عهد الملك بن عبد العزيز.
ـ كتاب (الأعلام)، وهو قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين يقع في ثمانية مجلدات.
ـ الملك عبد العزيز في ذمة التاريخ.
ـ صفحة مجهولة من تاريخ سوريا في العهد الفيصلي.
ـ الجزء الثاني من ديوان أشعاره (1925ـ 1970).
ـ قصة تمثيلية نثرية أسماها (وفاء العرب).
هذه المعلومات أخذت بتصرف عن:
ـ (الأعلام)، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة العاشرة، 1992، ح8/ (267ـ 270).
ـ (معجم أعلام المورد)، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، طبعة أولى 1992، ص(220).
=====================
الشيخ علي الدقر
صاحب أكبر نهضة علمية في بلاد الشام
بقلم الأستاذ الأديب : عبد الله الطنطاوي
تمهيد:
(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه) منهم، فيما أحسب، ولا أزكي على الله أحداً، العالم الرباني، والشيخ التقيّ النقي الداعي إلى الله على بصيرة، بالحكمة والموعظة الحسنة، علامة الشام وواعظها وباعث نهضتها العلمية في النصف الأول من القرن الماضي، الشيخ علي الدقر، والد الشيخين العالمين الجليلين:
أحمد وعبد الغني الدقر، رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة.
نشأته:
ولد الشيخ علي في دمشق عام 1294هـ - 1877م لأب تاجر صالح محسن، ومن أسرة دمشقية عريقة، ولأمّ صالحة محسنة، تنفق من مالها، كما ينفق زوجها التاجر الثري عبد الغني الدقر من ماله الكثير.(4/116)
وقد ورث الشيخ علي من أبيه خصلتي الصلاح والكرم، فقد كان الولد سرّ أبيه في هاتين الخصلتين اللتين سارت الأحاديث بهما فملأت ديار الشام؛ فقد كانت له مزرعتان في المزّة وداريّا، يؤمّهما الفقراء والمحتاجون، ليأخذ كل واحد منهم ما يحتاجه منهما، من دون استئذان، فقد أذن الشيخ مسبقاً لمن يريد، أن يأخذ منهما ما يريد، كما كانوا وطلبة العلم الفقراء يزورونه في بيته، وكانوا عندما يخرجون، يأخذون حاجتهم من أكياس الحنطة، والدقيق، والسكر، والزبيب، والعدس، والأرز، والشاي، ومن السمن، والزيت.. وعندما يمد الموائد، يفرح بازدحام المساكين عليها.
وكان لا يدخل إلى جيبه شيئاً من المعاش الذي يأتيه من الأوقاف، ولا يخلطه بماله، بل كان ينفقه على طلابه الفقراء بأريحية تذكّرنا بأجواد العرب في بوادي العرب، وكانت أيام الحرب الكونية الأولى وما تلاها من سنين عجاف، أشبه ما تكون بتلك البوادي القاحلة، وكان فيها الجواد.
صفته:
وصفه الشيخ علي الطنطاوي الذي رآه وتتلمذ عليه، وأعجب به، بقوله:
"وكان الشيخ علي الدقر- كالشيخ بدر الدين الحسني- جميل الصورة، ناصع البياض، أزرق العينين، حلو التقاسيم، له لحية بيضاء كبيرة تزيده جمالاً، وكان كلاهما يتخذ العمامة التجارية من القماش الهندي المطرّز، لا العمامة البيضاء، عمامة العلماء«. وهذه العمامة يسمّونها في الشام: (لفَّة لام- ألف) وهي التي كان يتخذها ولداه من بعده: أحمد وعبد الغني، مع أنها عمامة التجار، وليست عمامة العلماء البيضاء التي يُلَفُّ شاشها الأبيض، على طربوش أحمر.
تعليمه:
كدأب الناس في زمانه (القرن الرابع عشر الهجري) تعلّم في ( الكتّاب) القراءة والكتابة وشيئاً يسيراً من القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني، وأمضى فيها بضع سنين، أفاد منها شيئاً من علوم اللغة العربية، وعلوم الدين، ثم لازم الشيخ محمد القاسمي، وقرأ عليه من علوم العربية والدين ما أهّله لتدريس شيء من علم النحو ومن الفقه الشافعي، وشيخه سعيد بما يراه من نجابته وعلمه وورعه.
وصحب المحدّثَ الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني، وكان من أحبّ تلاميذه إليه، وأقربهم منه، وقرأ عليه الكتب الخمسة، كما قرأ على غيره من علماء الشام كالشيخ أمين سويد، ما جعله عالماً فقيهاً يشار إليه بالبنان.
وعظه:
وقد جمع الشيخ بين العلم والعمل، فكان نشاطه الدعوي مشهوداً حيثما حلّ وارتحل، في مساجد دمشق وغيرها من المدن والقرى السورية، وكان له تأثير كبير فيمن يلقاه من الناس، فازدحم على دروسه العلمية والوعظية كبار تجار دمشق وصالحوها، وكان يدعوهم إلى التعاون والتحابب والإيثار، ويحرّم عليهم وينهاهم عن الغش والاحتكار، ويرسخ قواعد التعامل بينهم في سائر علاقاتهم الأسرية والاجتماعية والتجارية، ويحضّهم على التمسّك بتعاليم الإسلام العظيم.. كل ذلك بأسلوب فريد من نوعه، وصفه الشيخ علي الطنطاوي بقوله:
"الرجل الذي هزّ دمشق، من أربعين سنة، هزّة لم تعرف مثلها من مئتي سنة، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان، فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشام، واستجاب لها الناس، يعودون إلى دين الله أفواجاً، يبتدرون المساجد، ويستبقون إلى حلقاتها..
وهو علامة الشام.. بل هو في الشام علم الأعلام، أعطي من التوفيق في العمل، والعمق في الأثر، ما لم يعط مثله الشيخ بدر الدين ولا غيره من مشايخ الشام في تلك الأيام."
كان المسجد الذي يدرس فيه الشيخ علي الدقر "يمتلئ كله، ويقف الناس على أبوابه وأمام نوافذه، ولم يكن في الدرس علم غزير، ولكن كان فيه شيء لا يجده سامعه عند ذوي العلم الغزير. فيه الموعظة التي تخرج من القلب، لتقع في القلب، فتحرك فيه خامد الشعور، وتثير فيه كامن الإيمان.. فيه يملأ بالدموع المآقي، ويبكي من الخشوع العيون، فيه ما يقيم ويقعد، ويلين أفئدة كانت أشدَّ من الصخر، ويستخلص من أيدي الشيطان نفوساً كان قد تملّكها وتحكّم فيها الشيطان. فيه ما يشعره حاضره أنه انتقل من هذه الدنيا، إلى مجالس الجنان.
فيه مالا أستطيع أن أعرّف القارئين به، لأنه شيء يُرى ولا يوصف،ويذاق ولا يُعرف، وكان الشيخ يُسأل: من أين يأتي بهذا الكلام الذي يلقيه على الناس؟ ومن أيَّ كتاب ينقله؟ فما كان يجيب، ولو أجاب لقال: إنه ينقله من الصلاة في ظلمات الليالي، ومن المناجاة في هدآت الأسحار، ومن حلاوة الإيمان التي يذوقها في ساعات الخلوة بالله، والتوجّه إليه، والقيام بين يديه.."
"إنه، إنْ وعظ، لم يأت بألفاظ حلوة تقرع الأذن، ثم لا تتجاوزها، بل بمعان تصل إلى القلوب، قبل أن تصل الألفاظ إلى الآذان."
عندما يقرر الدرس، ما كان يقتصر على عبارة الكتاب الذي يدرسّه، بل كان ينطلق لسانه بكلمات ترّقق القلوب، وتذكّر بالآخرة.. كان فيها روعة من التذكير، وشدة التأثير، ما ليس له نظير.
كان يخشع هو، فيخشع السامعون، ويبكي فيبكون..
وكان يرى إقبال الناس عليه فيعجب ويتساءل: نحن نحن، ما تبدّل فينا شيء، فما الداعي لهذا الإقبال والازدحام؟(4/117)
ويعجب تلاميذه وإخوانه من كلامه هذا، ولسان حالهم يقول: إنه الإخلاص.. إنه الورع والتقوى.. إنه صفاء القلب والعقل والنفس.. إنه حبّ الله وحّب رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي ملك عليه أقطار قلبه وعقله.. إنه الخشية التي جعلتك تقول: إن كلَّ علم لا يورث خشية، لا يزيد صاحبه إلا بعداً من الله تعالى، فوازنتَ بين العلم والعمل، وكنتَ مخبتاً لله، زاهداً، متقشّفاً، وقد أورثك هذا وسواه، إقبال الناس عليك، وازدحامهم على دروسك، وتأثّرهم بمواعظك، وامتثالهم لأوامرك وتعليماتك المستمدّة من كتاب الله وسنّة رسوله، البعيدة عن الهوى،العاملة على سرد الخرافات والبدع من حياة المبتدعين وأتباعهم الجهلة، حتى لا يفسدوا على الناس دينهم وعقيدتهم.
النهضة العلمية
أستطيع أن أؤكد أن الشيخ علي الدقر هو صاحب أضخم نهضة علميّة في بلاد الشام في القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي.
وسبب هذه النهضة التي دُعيتْ بنهضة العلماء، أن الشيخ علياً كان محبّاً للعلم، شغوفاً به شغفاً جعل أباه التاجر الكبير يأسى لحاله، ويشكو إلى بقّال صديق ما قد يؤول إليه مصير ولده عليّ الذي ترك التجارة، ولحق المشايخ ودروسهم في المساجد، وترك المال والعزّ والجاه الذي يرتع هو وأولاده الآخرون في نعيمه، فيما الشيخ علي زاهد في كلّ ذلك، مقبل على طلب العلم، والجلوس بين أيدي المشايخ.
وشاء الله أن يمتدّ العمر بذلك البقال، ليرى ما وصل إليه الشيخ علي من العزّ، وهو يراه من دكانه، وقد حفّ به أصحاب العمائم، فيتذكّر شكوى أبيه الحاج عبد الغني، وخوفه الفقر والعوز على ولده، يتذكّر هذا فيهتف بأعلى صوته:
"أين أنت يا أبا صادق، لترى العزّ الحقيقي لابنك الشيخ علي."
وثمة سبب آخر، هو ما كان عليه التعليم الرسمي من بُعْدٍ عن الله وعن تعاليم الإسلام ومبادئ الأخلاق، وتأثر بالغرب وعلومه.
فكّر الشيخ عليّ مليّاً فيما يعمل، واستخار الله تعالى، ثم هداه تفكيره إلى البديل عن تلك المدارس ذات المناهج العلمانية.. والبديل في إنشاء مدارس ومعاهد شرعيّة، تعلّم العقيدة، وأحكام الإسلام، والعلوم الشرعية، والعلوم العربية التي هي مفتاح العلوم الشرعية.
ولا بدّ لإنشاء المدارس والمعاهد من أموال، ورجال، ونظام، وهذا يتطلب إنشاء جمعية، فقرّر، بالتعاون مع التجار الذين يحبّونه، ويثقون به، وبصلاحه، وبسداد رأيه، وبتوفيق الله إياه لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، وبالتعاون مع بعض العلماء أيضاً، كالشيخ هاشم الخطيب، وبمباركة محدّث الشام الشيخ بدر الدين الحسني.. قرّر إنشاء (الجمعية الغرّاء لتعليم أولاد الفقراء) ثم انطلق يحشد الطلاب لدراسة العلم الشرعي من أولاد الفقراء في حوران، والأردن، وبعض المدن والقرى السورية.
الجمعية الغرّاء
كان لهذه الجمعية التي تأسست عام 1343هـ - 1924م آثار في النهضة العلمية في بلاد الشام، وقبل أن تتخذ لها مقراً تجتمع فيه إدارتها، ويرتاده الناس، أنشأت مدرسة في بناء المدرسة السميساطية لطلاب المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وصار مقرّ إدارة المدرسة مقرّاً لإدارة الجمعية، وانطلق تلاميذ الشيخ علي إلى قرى حوران، يأخذون من كل قرية واحداً أو أكثر من أبنائها الذين يتوسمون فيهم الذكاء والنجابة، حتى كثر الطلاب من الجنسين، وضاقت بهم المدرسة السميساطية، فبادرت الجمعية إلى اعتماد مراكز للتدريس في جامع العدّاس، والتكيّة السليمانية، والمدرسة الخيضرية، والمدرسة السباهية، وقد توزعت على عدد من أحياء دمشق القديمة، من الباب الشمالي للجامع الأموي، إلى باب الجابية، إلى سواهما.
"وفي سنة 1353هـ تقريباً - أواخر أيام الانتداب الفرنسي - استولت الجمعية على جامع تنكز بشارع النصر، فصار مقراً لها، وفيه أسست ثانوية شرعية سُمِّيت: معهد العلوم الشرعية الإسلامية. تكفّلت الجمعية لطلابها بالطعام، والكساء، والمبيت... وقامت بتعليم الفقراء مجاناً.. واهتمت بتعليم علوم الدين، والدنيا، والتوجيه الخلقي العام."
وكان يتبع لها من المدارس الابتدائية التي أنشأتها:
1 - مدرسة سعادة الأبناء. للذكور. فيها مئات الطلاب.
2 - مدرسة وقاية الأبناء. للذكور. فيها مئات الطلاب.
3 - مدرسة هداية الأبناء. للذكور. فيها مئات التلاميذ.
4 - مدرسة روضة الحياء. للإناث. فيها مئات التلميذات.
5 - مدرسة زهرة الحياء. للإناث. فيها أكثر من مئة تلميذة.
كما أسست من المدارس الثانوية ست مدارس ومعاهد للذكور والإناث منها:
1 - معهد العلوم الشرعية. للذكور. فيه مئات الطلاب.
2 - ثانوية السعادة. للذكور. فيها مئات الطلاب.
3 - معهد العلوم الشرعية. للإناث. فيها مئات الطالبات.
قال الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته 168/1:
" لقد أثمرت - الجمعية الغراء - خيراً كثيراً، وخرّجت علماء ودعاة، وأحيا بها الله أرض حوران والبلقاء – الأردن".
بل خرّجت مئات الدعاة، والعلماء، والخطباء، والأدباء، والوعاظ، والمعلمين، والمدرّسين، وأساتذة الجامعات، والمفكرين، أذكر منهم بعض العلماء الذين علّمونا في معهد العلوم الشرعية، وكانوا من فطاحل العلماء الذين سعدت بهم دمشق:
1 - الشيخ حسن حبنكة (العلامة المجاهد المربي).
2 - الشيخ عبد الوهاب الحافظ (دبس وزيت) (مفتي الأحناف بدمشق).
3 - الشيخ نايف عباس (علامة التاريخ والفرائض).
4 - الشيخ أحمد الدقر (مدير المعهد).
5 - الشيخ عبد الغني الدقر (الأديب، النحوي، الفقيه، المحدّث).
6 - الشيخ عبد الكريم الرفاعي (العالم الرباني).
7 - الشيخ أحمد منصور المقداد (الشافعي الصغير).
8 - الأستاذ محمد الدقر (محام وقاض).(4/118)
9 - الشيخ خالد الجباوي (سيبويه الصغير).
10 - الشيخ عبد الرؤوف أبو طوق (الخطيب المفوَّه).
11 - الدكتور الشيخ محمد أديب الصالح.
12 - الشيخ عبد الرحمن الزعبي (الطيبي) - المفسّر والمحدّث -.
13 - الدكتور محمد خير عرقسوسي.
14 - الشيخ عز الدين الحايك.
15 - الشيخ عبد الوهاب الصلاحي.
16 - الشيخ محمد كامل الخطيب.
17 - الشيخ محمد السيد.
18 - الشيخ عبد الله الراشدي.
19 - الشيخ محمد علي المصري.
20 - الشيخ عبد الرحمن بركات.
21 - الدكتور فتحي النحلاوي. طبيب المعهد.
وأمّا مئات العلماء الذين تخرجوا في معاهد الجمعية الغراء، فأكثر من أن يُحْْصَوا، وهم منتشرون في المدن والأرياف السورية والأردنية والفلسطينية والتركيّة واللبنانية و.. تخرجوا في معاهد الجمعية الغراء ومدارسها، وملؤوا الآفاق، منذ أوائل القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا.
وقد شاركت الجمعية الغراء في الحياة الاجتماعية والسياسية، والجهادية، وكان مقرّها يغصّ برجال السياسة، وعلماء الدين، ووجهاء دمشق، وكانت قوائم المرشحين للانتخابات النيابية يُتَّفَقُ عليها فيها، وقد حقَّقت نجاحات باهرة في الحياة العامة، والعلمية خاصة، فأثارت نجاحاتها حسد الحاسدين، وتآمر العلمانيين، ومن يسير في ركابهم من أدعياء التدين والدين، فاتّهموها باستغلال الدين من أجل مصالح سياسية ومالية، واتّهموا مؤسسها بما ليس فيه ولا في تلاميذه ومريديه، وأظهروا أشياء وأبطنوا أشياء، وكان الله لهم بالمرصاد، ففضح ما بيّتوا وتآمروا، وبرْأ الرجل الصالح، والعالم الربّاني الشيخ علي الذي كان ينفق من حُرّ ماله، وينأى بنفسه عن المناصب والأضواء، فقد كان أزهد الناس بها إلى أن وافاه الأجل عام 132هـ - 1934م، وكذلك استمرّت جمعيته تسير على خطاه، حرباً على الفساد والمفسدين، وحرباً على البدع والخرافات والمبتدعين، وتصدّياً لمدارس التبشير والتنصير التي وفدت مع الجيش الفرنسي المحتل، وحرباً على التعصب المذهبي.
لقد أسسها الشيخ علي، وأرسى دعائمها على أسس قويمة من الإسلام الصحيح، من أجل النهوض بالعلم الشرعي، ونشر الدين الحنيف كما جاء في الكتاب والسنة، وكان له ما أراد، بفضل الله المطّلع على نيّة الرجل الصالح، وعلى إخلاصه وتقواه وورعه.
بقي أن نعرف ونتأمل هذه الحادثة..
قلنا: إن الجمعية الغراء تأسست عام 1343هـ - 1924م ولم يكن لها مقر معروف، سوى ذلك الذي اتخذته مقراً في أول مدرسة أسستها، وبقي الأمر هكذا إلى أن جاءت سنة 1353هـ فاستولت الجمعية على مدرسة جامع تنكز في شارع النصر، قلب دمشق، فصارت مقراً لها، وأسست في رحاب المسجد وبنتْ معهد العلوم الشرعية الذي تخرج فيه عدد كبير من العلماء، وثانوية السعادة.
كانت هذه المدرسة (مدرسة صف الضباط) مدرسة عسكرية يشغلها الفرنسيون المحتلون، فتحيّنت الجمعية فرصة غياب الطلاب (ضباط الصف) في رحلة خارج المدينة، وأوعزت إلى طلابها أن يحتلوها، ووضعت لهم خطة محكمة يجري تنفيذها بعد صلاة العشاء، فجمع الطلاب حوائجهم وكتبهم، واقتحموا المدرسة، واحتلّوها، ووضعوا المسؤولين من الفرنسيين المحتلين تحت الأمر الواقع.
المجاهد
أكثر الذين أرّخوا للكفاح الدامي، والثورات المتلاحقة لتحرير سورية من الاستعمار الفرنسي (1920 - 1946) أغفلوا دور علماء الدين والمشايخ وطلاب العلم الشرعي في تلك الثورات، والحقيقة أن الدور الأكبر كان للعلماء وتلاميذهم ومريديهم في تحميس الناس، وحضهم على الجهاد بالأنفس والأموال، والخروج على المحتلين المستعمرين ومقاومتهم في ميسلون، والغوطة، وحمص وحماة وحلب وجبل صهيون وسواها، وقد تحدثنا في حلقة سابقة عن جهاد الشيخ عز الدين القسام وتلاميذه في شمال سورية، وفي فلسطين، وسوف نتحدث في حلقة لاحقة عن جهاد الشيخ المجاهد كامل القصاب، إن شاء الله تعالى، ولنستمع الآن إلى ما كتبه الشيخ علي الطنطاوي في (رجال من التاريخ) عن دور المشايخ عامة، والشيخ بدر والشيخ علي الدقر خاصة. قال:
"وأنا أحبّ أن أعرض صفحة مطوية من تاريخ الشيخ بدر الدين، هي رحلته في سنة 1924 مع الشيخ علي الدقر، والشيخ هاشم الخطيب، من دمشق إلى دوما، إلى النبك، إلى حمص، إلى حماة، إلى حلب، هذه الرحلة التي طافوا فيها بلاد الشام (سورية) كلها، وكانوا كلما وصلوا بلدة أو قرية، خرج أهلها على بكرة أبيهم، لاستقبالهم بالأهازيج والمواكب، ثم ساروا وراءهم إلى المسجد، فتكلموا فيه ووعظوا وحمّسوا، وأثاروا العزّة الإسلامية في النفوس، وذكّروا بالمجد الغابر، وحثّوا على الجهاد لإعلاء كلمة الله، فكانت هذه الرحلة هي العامل الأول والمباشر لقيام الثورة السورية التي امتدّتْ سنتين، وأذهلت ببطولتها أهل الأرض.
والثورة.. قد قامت في الغوطة - غوطة دمشق - قبل أن تقوم في الجبل - جبل الدروز - وقد بدأت بخروج طلبة العلم، بدافع الجهاد ".
كانت تلك الجولة في المدن السورية، هي الشرارة التي أشعلت الثورة، كما جاء في تقرير رسمي لمندوب المفوَّض السامي الفرنسي، نشرته جريدة ( الأحرار) في بيروت، في العدد 678 الصادر في الثاني من شهر شعبان 1354هـ. وقد بدأت الثورة في الغوطة عقب عودة المشايخ من حلب، فقد خطب الشيخ علي الدقر في مسجده (مسجد السنانّية) بدمشق، وكان مما قال: "يا إخواننا!. اللصّ دخل الدار، وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء: دينكم، ومالكم، وعرضكم."
ولما سئل الشيخ: من هو هذا اللص يا شيخنا؟
أجاب: إنه فرنسا.(4/119)
وعرف الفرنسيون المستعمرون دور الشيخ علي الدقر وتلاميذه في اندلاع الثورة، فأحرقوا مقرّ الجمعية الغراء، وجامع تنكز معاً، قبيل جلائهم عن سورية، انتقاماً وإجراماً، ولكن الجمعية أعادت بناء مقرها، مع معهد العلوم الشرعية، وثانوية السعادة التابعين لها، على طراز حديث، وجمعت في هذا المعهد سائر طلابها الشرعيين، كما عملت على إعادة بناء جامع تنكز بناء حديثاً جميلاً.
رحم الله الشيخ علي الدقر، فقد كان منارة علم، وفضل، وكرم، كما كان عالماً عاملاً بما علم، ساعياً إلى نشر العلم الشرعي الذي يورث الخشية من الله، فيبني الرجال، ويدفعهم إلى الجهاد في سائر ميادين الحياة، لينشروا نور الإسلام، وتعاليمه الخالدة، وأخلاقه الكفيلة ببناء المجتمعات على أسس سليمة، وتنفي منها الخبث والدنس.
لقد كان الشيخ علي شيخ شيوخ الشام، وعلم أعلامها الكبار، ولئن ندر الكاتبون عنه، فلم تتجاوز شهرته بلاد الشام إلا قليلاً، إنه لفي مقام كريم في قلوب العلماء الصالحين، ونحسبه عند الله مع المجاهدين، والعلماء والعاملين، وحسن أولئك رفيقاً.
* * * *
المراجع:
1 - علي الطنطاوي: رجال من التاريخ.
2 - علي الطنطاوي: ذكريات.
3 - د. محمد حسن الحمصي: الدعاة والدعوة الإسلامية.
4 - محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظة: تاريخ علماء دمشق.
5 – الزركلي: الأعلام
===================
القائد الشهيد : عبد القادر الحسيني
هو عبد القادر موسى كاظم الحسيني، ولد في استانبول في 8/4/1908م، توفيت والدته بعد مولده بعام ونصف فكفلته جدته لأمه، وما لبثت هي الأخرى أن فارقت الحياة ، فنشأ في كنف والده.
والده شيخ المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني، شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين أرجاء الدولة العثمانية، فعمل في اليمن والعراق ونجد واستانبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين.
ونظراً لخدماته الجليلة للدولة العثمانية، أنعمت عليه الحكومة بلقب (باشا)، وعندما انهارت الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ووقعت فلسطين في قبضة بريطانيا كان موسى كاظم (باشا) الحسيني يشغل منصب رئاسة بلدية القدس، كما تم انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني.
كان الأب موسى أول من رفع صوته في وجه الانتداب البريطاني، وأول من دعا أهل فلسطين إلى الاحتجاج والتظاهر وإعلان السخط والغضب ضد وعد بلفور، فتولى قيادة أول مظاهرة شعبية في تاريخ فلسطين عام 1920م، وبسبب ذلك عزلته سلطات الانتداب البريطاني عن رئاسة بلدية القدس، فلم يكترث واستمر في نضاله الدؤوب، واشترك في الكثير من المظاهرات، كانت آخرها المظاهرة الكبيرة في يافا في 27/10/1933، حيث أصيب فيها بضربات هراوات قاسية من قبل الجنود الإنجليز ظل بعدها طريح الفراش أياماً، حتى فارق الحياة سنة 1934م.
تربى الابن عبد القادر منذ نعومة أظفاره في بيت علم وجهاد، حيث كان هذا البيت بمثابة الحضن الأول له والذي كان يجتمع فيه رجالات العرب الذين يفدون إلى القدس، لأن والده موسى الحسيني كان رئيساً لبلديتها.
تعلم عبد القادر القرآن الكريم في زاوية من زوايا القدس، ثم أنهى دراسته الأولية في مدرسة (روضة المعارف الابتدائية) بالقدس، بعدها التحق بمدرسة (صهيون) الانجليزية، والتي كانت تعتبر المدرسة الوحيدة في القدس التي من الممكن أن يتناول منها العربي زاده الحقيقي من المعرفة، وأثناء فترة دراسته عكف على قراءة كتب التاريخ، وسير الأبطال والفاتحين.
أتم عبد القادر دراسته الثانوية بتفوق، التحق بعدها بكلية العلوم في الجامعة الأمريكية في مصر، وهناك التقى بالعديد من الشباب العربي وتوثقت صلته بهم، وتحول بيته إلى ناد نضالي، يناقش فيه مختلف القضايا القومية والدينية، وأثناء سنوات دراسته التي قضاها في الجامعة، استطاع عبد القادر أن يكشف الدور المريب الذي تقوم به الجامعة الأمريكية في مصر، ذلك الدور المقنع بالعلم والمعرفة، والذي يحمل وراءه بعض أوبئة الاستعمار الخبيثة.
بعد عودته للقدس، تلقفته السلطات البريطانية حين وصوله، ووضعت بين يديه عدة وظائف رفيعة المستوى وعليه انتقاء ما يلائمه منها ـ محاولة بذلك أن تضمه تحت جناحهاـ إلا أنه آثر العمل في مجال أكثر رحابة يستطيع به ومن خلاله أن يعبر عن آرائه، فالتحق بسلك الصحافة محرراً في جريدة (الجامعة الإسلامية)، وكان الاتجاه الوطني الذي نهجته الجريدة من أهم العوامل التي دفعته للعمل بها.
انضم عبد القادر إلى (الحزب العربي الفلسطيني) بالقدس، وتولى فيما بعد منصب السكرتير في هذا الحزب، وبدأت نشاطاته تبرز في الأفق الفلسطيني، مما أثار عليه حفيظة سلطات الانتداب، فأعادت عليه عرضها لشغل وظيفة (مأمور لتسوية الأراضي) بهدف اشغاله في شؤون الأرض والزراعة، وإبعاده عن مجال السياسة.
ارتضى عبد القادر هذه الوظيفة بعد أن أيقن بأهميتها، حيث استطاع تحت ستارها أن يتصل بإخوانه المواطنين في القرى الفلسطينية المختلفة، الذين يمثلون القاعدة الارتكازية للثورة، فتعرف عليهم وانتقى منهم خيرهم فاستقطبهم، وشكل منهم خلايا سرية، وبث فيهم روح الحمية والجهاد، وجمع الأموال من موسريهم، واشترى أسلحة ومعدات، وخزنها في أماكن أمينة، وتدرب بعض الشباب على استعمالها.
بعد أن تمادت بريطانيا في معاداتها للعرب، واستفحل الخطر اليهودي على فلسطين، وتنادى الشعب الفلسطيني بضرورة مواجهة المخططات الاستعمارية بصورة فعلية وعلنية... استقال عبد القادر من وظيفته الحكومية، ووهب الثورة جهده وشبابه.(4/120)
بأمر من سماحة الحاج محمد أمين الحسيني تشكلت منظمة واحدة من معظم التنظيمات السرية الفلسطينية، أُطلق عليها (منظمة الجهاد الإسلامي) كي يتسنى للمجاهدين تنظيم شؤونهم النضالية، ومواجهة المستعمر بصورة أكثر دقة وشمولاً، واختير عبد القادر الحسيني قائداً لهذه المنظمة.
قرر عبد القادر ولأسباب عديدة أن يتخذ بلدة (بير زيت) مقراً لقيادة الجهاد المقدس، كما قسم فلسطين إلى مناطق قتالية، وولى على كل منطقة منها قائداً من قادته، أما الخلايا السرية وقياداتها فظلت تابعة له مباشرة.
كان عبد القادر أول من أطلق النار إيذاناً ببدء الثورة على بطش المستعمر في 6 أيار 1936، حين هاجم ثكنة بريطانية (ببيت سوريك) شمالي غربي القدس، ثم انتقل من هناك إلى منطقة القسطل، بينما تحركت خلايا الثورة في كل مكان من فلسطين... وبلغت الثورة الفلسطينية أوج قوتها في تموز عام 1936، حيث انضم إليها من بقي من رفاق الشهيد عز الدين القسام، وبلغت أنباؤها العالم العربي كله، فالتحق بها المجاهدون العرب أفواجاً، وخاض الثوار العرب معارك بطولية ضد المستعمرين البريطانيين والصهاينة، ولعل أهم هذه المعارك كانت (معركة الخضر) الشهيرة في قضاء بيت لحم، وقد استشهد في هذه المعركة المجاهد العربي السوري سعيد العاص وجرح عبد القادر جرحاً بليغاً، وتمكنت القوات البريطانية من أسره، لكنه نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس، بعد مغامرة رائعة قام بها المجاهدون من رفاقه فهاجموا القوة البريطانية التي تحرس المستشفى وأنقذوه وحملوه إلى دمشق حيث أكمل علاجه.عاد عبد القادر إلى فلسطين مع بداية عام 1938، وتولى قيادة الثوار في منطقة القدس، وقاد هجومات عديدة ناجحة ضد البريطانيين والصهاينة، ونجح في القضاء على فتنة دينية كان الانتداب البريطاني يسعى إلى تحقيقها ليوقع بين مسلمي فلسطين ومسيحيها.
وفي خريف عام 1938، جُرح عبد القادر ثانية في إحدى المعارك، فأسعفه رفاقه في المستشفى الإنجليزي في الخليل، ثم نقلوه خفية إلى سورية، فلبنان. ومن هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي يحمل اسم محمد عبد اللطيف.
وفي بغداد عمل عبد القادر مدرساً للرياضيات في المدرسة العسكرية في معسكر الرشيد، وفي إحدى المدارس المتوسطة، ثم التحق بدورة لضباط الاحتياط في الكلية العسكرية.
أيد عبد القادر ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وشارك مع رفاقه في قتال القوات البريطانية، لكنه بعد فشل الثورة أُلقي القبض عليه مع رفاقه من قبل السلطات العراقية، وصدر عليهم الحكم بالسجن، وتحت ضغط الرأي العام العراقي والرموز الوطنية العراقية، استُبدل السجن بالنفي عشرين شهراً إلى بلدة زاخو في أقصى شمال العراق.
كما مثُلت أمام المحكمة السيدة (وجيهة الحسيني) زوجة عبد القادر بحجة مساعدتها وإيوائها للثوار، وتحريضهم على القتال، وحكم عليها بالإقامة الجبرية في بيتها ببغداد مدة عشرين شهراً.
وعلى أثر اغتيال فخري النشاشيبي في شارع الرشيد ببغداد، اتُهم عبد القادر بتدبير خطة الاغتيال هذه، فبقي موقوفاً في بغداد قرابة السنة بهذه التهمة .. ثم نقل إلى معتقل العمارة، وهناك أمضى ما يقرب من سنة أخرى، حيث أفرجت الحكومة العراقية عنه في أواخر سنة 1943، بعد أن تدخل الملك عبد العزيز آل سعود ملك العربية السعودية. فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته.
وفي مطلع عام 1944 تسلل عبد القادر من السعودية إلى ألمانيا، حيث تلقى دورة تدريب على صنع المتفجرات وتركيبها، ثم انتقل وأسرته إلى القاهرة وهناك وبسبب نشاطه السياسي وصلاته بعناصر من حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين، وتجميعه الأسلحة، وتدريبه الفلسطينيين والمصريين على صنع المتفجرات، أمرت حكومة السعديين المصرية بإبعاده.. لكن الضغوط التي مارستها القوى الإسلامية المصرية حالت دون تنفيذ ذلك الإبعاد.
عندما علمت الهيئة العربية العليا نية الأمم المتحدة تقسيم فلسطين، سارعت الهيئة برئاسة المفتي أمين الحسيني إلى الانعقاد، وقررت مواجهة الخطط الاستعمارية الصهيونية بالقوة المسلحة، وتقرر إنشاء جيش فلسطين لممارسة الجهاد الفعلي، واختير المفتي قائداً أعلى لهذا الجيش وأعاد تموين منظمة الجهاد المقدس، ثم حولها إلى جيش الجهاد المقدس الفلسطيني. وأسند قيادته العامة إلى عبد القادر الحسيني، بالإضافة لمهمة الدفاع عن القدس ورام الله وباب الواد.
وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947، تسلل عبد القادر إلى فلسطين سراً مع بعض رفاقه، وفي نفس الوقت اجتاز الحدود الفلسطينية عدد من المجاهدين القادمين من سورية ولبنان، والتقوا جميعاً بعبد القادر ، وأخذوا يرسمون خطة جديدة للبدء في المرحلة القادمة من الجهاد. فأعادوا تشكيل قوات الجهاد المقدس، واتخذت بلدة (بير زيت) مقراً رئيسياً لتلك القوات، وتألفت في حيفا والناصرة وجنين وغزة قوات أخرى تابعة لها.
تعتبر هذه القوات طليعة العمل النضالي العربي التي انبثقت تنظيماتها من صميم الشعب الفلسطيني، وكانت في الحقيقة أول مظهر من مظاهر القوات الشعبية التي تحمل في جوهرها صفة الجيش الشعبي في بلد كان يرزح تحت نير الاستعمار البريطاني.(4/121)
قامت هذه القوات بتنفيذ جزء كبير من واجباتها، فقد تمكنت من إجبار (115) ألف يهودي على الاستسلام في مدينة القدس نتيجة حصارهم باحتلال مضيق باب الواد وإقفاله، وقاموا بعدة معارك محلية، ونصبوا مئات الكمائن للقوافل اليهودية والإنجليزية، كما قامت فرق التدمير بنسف العديد من المنشآت والمباني مثل معمل الجير، عمارة المطاحن بحيفا، وعمارة شركة سولل بونيه اليهودية.
كما خاضت هذه القوات بقيادة عبد القادر أروع ملاحم البطولة والفداء مثل معركة بيت سوريك، ونسف شارع ابن يهوذا، ونسف مقر الوكالة اليهودية، ومعركة الدهيشة... وقد تكبد اليهود في هذه المعارك الخسائر الفادحة في الممتلكات، وقتل العدد الكبير منهم، وغنم المجاهدون الكثير من الأسلحة والعتاد والتي ساعدتهم على الاستمرار في نضالهم.
تكللت جميع معاركهم التي خاضوها ضد العدو الصهيوني والبريطاني بالنجاح، إلى أن كانت معركة القسطل التي دامت أربعة أيام بكاملها من 4ـ8 نيسان 1948، وانتهت بأن تمكن المجاهدون من انتزاع البلدة العربية من أيدي الصهاينة، إلا أنهم لم يمكثوا فيها سوى بضع ساعات، تمكن الصهاينة بعدها في خضم ذهول المجاهدين وتضعضعهم بسبب استشهاد قائدهم عبد القادر، من شن هجوم معاكس واحتلال البلدة من جديد.
استشهد عبد القادر صبيحة 8/4/1948، حيث وجدت جثته قرب بيت من بيوت القرية فنقل في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد... وسمي بطل القسطل، وقد استشهد رحمه الله وهو في الأربعين من عمره، أي في أوج عطائه الجهادي.
المراجع:
ـ (موسوعة رجالات من بلاد العرب)، د. صالح زهر الدين، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، طبعة أولى 2001، ص (445ـ452).
ـ (قضية فلسطين في سيرة بطل/ الشهيد الحي عبد القادر الحسيني) نبيل خالد الآغا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
===================
الحاج محمد أمين الحسيني
ولد في القدس سنة 1897، ونشأ في عائلة الحسيني العريقة، وتربى في بيت والده الشيخ طاهر الحسيني مفتي القدس، الذي عرف بالعلم الواسع والتقوى والصلاح.
تلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدارس القدس، التحق بكلية الفرير بالقدس لتعلم اللغة الفرنسية، بعدها التحق بجامعة الأزهر لتلقي المزيد من العلوم الدينية، وكان يتردد على (دار الدعوة والإرشاد) التي أنشأها محمد رشيد رضا (داعية الإصلاح) حيث نهل من علمه وسار في تياره الفكري الذي يمارس تأثيراً كبيراً على الجماهير. ومن خلال ذلك عرف الكثير عن الصهيونية وأطماعها في فلسطين، إلا أن دراسته في الأزهر لم تطل أكثر من عامين بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى.
التحق بكلية الآستانة العسكرية وتخرج منها ضابطاً، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل في مراكز عسكرية أخرى على البحر الأسود حتى نهاية الحرب مما أكسبه خبرة جيدة، كان لها الأثر الأكبر في شخصيته وحياته.
بعد نهاية الحرب، عاد الضابط الحسيني إلى القدس، وأصبح يعرف بين الناس بالحاج أمين الحسيني إذ كان قد اكتسب لقب الحاج عندما حج برفقة والدته. وهكذا كانت كتابات الحسيني تتلخص إثر عودته إلى بلده في كونه شاباً عربياً مؤمناً ومتعلماً، ملماً بالفكر الإسلامي النير، والعلوم المفيدة، والخبرة العسكرية، ويعرف من اللغات الأجنبية التركية والفرنسية، بالإضافة إلى ذلك كله كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني، ذات النسب والشرف مهيأ ليكون زعيماً وداعية مسموع الكلمة.
عندما احتل الإنجليز فلسطين، انصرف الحسيني إلى تنظيم الفلسطينيين في حركة وطنية شاملة ضد الاستعمار والصهيونية واستجاب له نفر من أصدقائه فكونوا في القدس أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين وهي (النادي العربي) وانتخب الحسيني رئيساً لها، وكان لهذا النادي أثر كبير في انطلاق الحركة الوطنية، وقيام المظاهرات العنيفة ضد الاحتلال الإنجليزي.
تسلم الحسيني منصب الإفتاء رسمياً ـ بالرغم من مقاومة الإنجليز لذلك ـ فأعاد تنظيم المحاكم الشرعية، واختار لها القضاة، ونظم الأوقاف، وعين فيها عدداً من الشبان المخلصين المثقفين، وأخذ يعمل على تقوية المدارس الإسلامية القليلة وتنظيم أمورها، كما أنشأ مجلساً شرعياً إسلامياً لفلسطين تألف من مجموعة من العلماء، وعين الحسيني رئيساً لهذا المجلس الذي سمي (المجلس الإسلامي الأعلى)، الذي أصبح على مرّ الأيام أقوى قوة وطنية إسلامية في البلاد، وقام بعدد من الأعمال والإنجازات الهامة منها: إنشاء دار الأيتام الإسلامية الصناعية في القدس وفتح عشرات المدارس في البلاد، وقام باسترجاع أراضي الوقف الإسلامي التي كانت حكومة الانتداب تسيطر عليها، وتولى إدارتها، وأنشأ العشرات من المحاكم الشرعية، وعين المئات من الوعاظ والمرشدين، فضلاً عن إنشاء فرق الجوالة والكشافة الإسلامية والجمعيات الخيرية والنوادي الأدبية والرياضية، وإصلاح المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وإنقاذها من الأخطار التي كانت تتهددها بالانهيار، وقد تم ذلك بأموال الأوقاف وتبرعات العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالم.(4/122)
استطاع الحسيني أن يجعل لنفسه من خلال المجلس نفوذاً سياسياً ساعد على مواصلة النشاط والجهاد، بالرغم من المعارضة القوية التي كانت موجهة إليه وإلى الحركة الوطنية معاً، وقد قامت هذه المعارضة في البداية على التنافس العائلي على منصب رئيس بلدية القدس، وكانت ركائز هذه المعارضة البلديات التي يسيطر عليها الإنجليز، وأركانها رؤساء هذه البلديات، والإنجليز كانوا يغذونها، وأطلق المعارضون على أنصار الحركة الوطنية اسم (المجلسيين) نسبة إلى المجلس الإسلامي الأعلى الذي رأسه الحاج أمين، واختاروا لأنفسهم اسم (المعارضون) ومن هؤلاء المعارضين عائلة النشاشيبي والشقيري، وهكذا انقسمت البلاد إلى فئتين وكان لهذا الانقسام أثره في حياة فلسطين، وفي حركتها الوطنية، حيث أثارت المعارضة الفتن، والشغب على المجاهدين، وكانت تستعين على هذا بما تتمتع به من عون من الإنجليز واليهود تحقيقاً لمبدأ فرق تسد !! فتستجيب لها وتقع في مصيدتها بعض النفوس الضعيفة.
كان الحاج أمين القوة الدافعة للحركة الوطنية، ومركز الثقل في المقاومة الفلسطينية، والعنصر الفعال الموجه في المحيط العربي الفلسطيني، السياسي والوطني على السواء، هذا بالإضافة إلى الدور العظيم الذي كان يقوم به في مضمار الشؤون الإسلامية، مما حفز الإنجليز وأعوانهم اليهود إلى مقاومته والتخلص منه.
في أواخر تموز 1929 وقع اصطدام عنيف بين الفلسطينيين واليهود في ساحة البراق الشريف بسبب محاولة اليهود اقتحامه وفرض سيطرتهم عليه، ووقف الإنجليز إلى جانب اليهود، وامتدت الاصطدامات وأخذت تتوالى حتى حصل الانفجار الكبير يوم الجمعة 23 آب والذي يعرف (بثورة البراق) حيث حدثت اشتباكات في جميع أنحاء المدينة وغدت الشوارع مسرحاً لقتال العرب واليهود، وكانت حصيلة هذه الاشتباكات التي انتهت في 30 آب مقتل وجرح 450 من اليهود و348 من العرب.
لما رأى الحسيني انحياز الإنجليز مع اليهود، لجأ إلى قوة العالم الإسلامي مستنداً إلى مكانته الدينية، ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي رسمي في القدس، يشعر سلطات الانتداب بأن عرب فلسطين ليسوا وحدهم، فهناك الملايين من العرب والمسلمين يساندونهم. وافتتح المؤتمر الإسلامي العام رسمياً يوم الإسراء 7/12/1931، حضره حشد كبير من العلماء والشخصيات السياسية، استنكروا فيه جميع أنواع الاستعمار وفي أي قطر من الأقطار الإسلامية، كما وضع المؤتمر قرارات رئيسية أهمها: وضع نظام لعقد المؤتمر كل سنتين، إنشاء جامعة إسلامية في القدس باسم (جامعة الأقصى)، التعاهد بالدفاع عن البراق، إيجاد دائرة معارف إسلامية، تأسيس شركة زراعية لإنقاذ الأراضي ومساعدة الفلاحين والقرويين وأرباب الحرف، وإيجاد شركات تعاونية للتسليف.
عندما تدفقت الهجرة اليهودية على فلسطين، ازداد نشاط الحركة الوطنية وقامت بعدة مظاهرات يترأسها الشيخ موسى كاظم الحسيني، وتعاقبت المظاهرات، وأخذ الوضع يتأزم بمرور الزمن خاصة بعد قيام اليهود بتهريب الأسلحة والأعتدة على نطاق واسع، وتوزيعها على المستعمرات اليهودية، وتشكيل عصابات سرية للإرهاب والتخريب، مما جعل الحاج الحسيني يؤلف لجان سرية من شبان فلسطين لشراء السلاح من داخل فلسطين ومن سورية ومن لبنان والعراق وشرق الأردن، ونقله إلى فلسطين، كما أقام المفتي مراكز سرية في عدة مناطق فلسطينية لتدريب الشبان المؤهلين على استعمال السلاح وحرب العصابات مستعيناً بعدد من كبار الضباط العرب المتقاعدين (من فئة الضباط الناجحين في العهد العثماني)، كما شكل مجموعات مسلحة من الوطنيين الصامدين في بعض أنحاء فلسطين في الشمال، وكان الشيخ علي رضا النحوي مسؤولاً عن هذا التنظيم، أما المناطق الجنوبية وخاصة القدس، فقد كون الشبان الوطنيون تنظيماً بقيادة عبد القادر الحسيني أطلقوا عليه اسم (الجهاد المقدس).
توالت الاشتباكات المسلحة بين العرب واليهود بسرعة فائقة، مما أدى إلى إعلان الإضراب العام الذي شمل البلاد كلها، وهو ردة فعل فورية إزاء الأخطار المحدقة بالبلاد إثر الهجرة المكثفة لليهود، وانتقال ملكية الأراضي لليهود، وحرمان العرب من أي نوع من أنواع الحكم الذاتي. واستمر الإضراب في تصاعد مستمر، ودعا المفتي إلى الوحدة الوطنية بين الأحزاب الفلسطينية وانتخبوا لجنة برئاسة الحاج الحسيني وعضوية ممثلي الأحزاب الستة أطلقوا عليها اللجنة العربية العليا، حيث أعلنت هذه اللجنة قرارها بالاستمرار في الإضراب العام إلى أن تمنع الحكومة البريطانية الهجرة اليهودية منعاً باتاً، وتمنع انتقال ملكية الأراضي لليهود، وتوافق على إنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي، إلا أن الحكومة البريطانية لم تأبه بمطالب اللجنة العليا، وأصدرت تقريراً يقتضي تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق (منطقة عربية تضم إلى شرق الأردن، منطقة يهودية تشمل أجود الأراضي الساحلية وتمتد من حدود لبنان إلى المجدل عبر سهل مرج بن عامر وبيسان والجليل، ومنطقة واقعة تحت الانتداب البريطاني).(4/123)
أعلنت اللجنة العربية العليا رفضها قرار التقسيم، لذا اعتبرت بريطانيا المفتي العقبة الوحيدة أمام حل القضية الفلسطينية والتفاهم مع اليهود، ورأت ألا تترك الساحة خالية لنشاطه، بل عليها أن تقيله من مناصبه وخاصة رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وأن تبطش به وبالفريق المتصلب من المتطرفين، فاقتحمت مقر اللجنة العربية العليا لاعتقال المفتي، لكنه نظراً للحراسة المشددة التي تحيط به تمكن من الإفلات والاختباء في بيته الواقع بين أروقة المسجد الأقصى مما تعذر على الإنجليز دخوله خوفاً من انتهاك حرمة المكان، ولفت الرأي العام العربي لعملهم هذا، واستمرت تحاصر المكان مدة 3 أشهر قطعت خلالها البريد والتلفون والكهرباء، فعاش المفتي في عزلة تامة عن العالم. وخوفاً من نشوب القتال في ساحة الحرم بين المجاهدين الذي جاؤوا لحماية زعيمهم وبين الأعداء، قرر المفتي مغادرة البلاد، وقبل مغادرته كان قد أعد بياناً دعا فيه الشعب لاستئناف حمل السلاح في 15 تشرين أول 1937.
استطاع المفتي التسلل والفرار ـ بعد تعرضه لمشاق كبيرة ـ إلى لبنان، وعند وصوله قامت مظاهرات تأييد له واحتجاجاً على السلطات الفرنسية التي قررت نفيه إلى باريس لكنهم تراجعوا، وفي هذه الأثناء حلت الحكومة البريطانية اللجنة العليا ونفت الزعماء إلى الخارج، لكن الحسيني قبل خروجه من فلسطين أعد لاستئناف الثورة، فلما نجح في الإفلات تفجرت الثورة مرة أخرى، وجعل يشرف على إدارتها من لبنان، ويتابع أخبار المجاهدين وبنفس الوقت يتابع أخبار وتحركات الإنجليز، كما كون اللجنة المركزية للجهاد من الشيخ حسين أبو السعود ومنيف الحسيني واسحق درويش في لبنان وعزة دروزة ومعين الماضي في دمشق، وقامت هذه اللجنة بتوجيه الثورة وإمدادها وإسعاف منكوبيها، كما أخذت تجهز بعض البارزين من المجاهدين وتسيرهم إلى فلسطين ليتولوا قيادة الحركة الجهادية في مرحلتها الجديدة، وتنشئ الصلات بين من بقي منهم في فلسطين وتمدهم بما تستطيعه من مال وسلاح، وتبذل جهودها في سبيل الحصول على التبرعات من مختلف البلاد العربية، ويذكر أنه تعاونت لجنة الدفاع عن فلسطين، برئاسة نبيه العظمة، والمجاهدون السوريون كل التعاون مع اللجنة المركزية، خاصة في المساعدات المادية وفي حماية رجال الثورة من عيون الفرنسيين.
تأزمت الحال في صيف 1939 في أوروبا، وتقاربت فرنسا وبريطانيا، وطلبت بريطانيا من فرنسا أن تضيق الخناق على المجاهدين الفلسطينيين في سورية ولبنان، ووضع المفتي تحت المراقبة الشديدة من مختلف طبقات المجتمع من موظفي الأمن العام حتى التجار إلى الباعة، لكن بفضل الله ورعايته استطاع في غفلة من الفرنسيين الفرار إلى العراق بعد مكوثه سنتين في لبنان.
كان العراق في تلك الفترة يتمتع باستقلال نسبي، وكان أكثر البلدان العربية ملاءمة لقبول لجوء المفتي إليه، وكان قد وصل إلى العراق قبله مائتا مجاهد فلسطيني، فأظهر لهم الشعب والحكومة العراقية كرماً عظيماً، وبانتقال سماحته إلى بغداد أصبح العراق مركز الثقل للقضية الفلسطينية. وفي العام الأول من وجوده في بغداد قام بتأسيس (حزب الأمة العربية) وقد كان للحزب دستور تلخصت أهدافه السياسية بالاستقلال للبلدان العربية من نير الاستعمار والوحدة بينها، وقد تألفت النواة الأولى للحزب برئاسة المفتي، فانضم إلى هذا الحزب السري عدد من السياسيين والعسكريين العراقيين وعدد من السياسيين العرب الذين كانوا في العراق في ذلك الوقت. حيث كان هذا الحزب القوة السياسية والأساسية المحركة للأحداث على الصعيدين السياسي والعسكري ومن هؤلاء العسكريين العراقيين: رشيد عالي الكيلاني، يونس السبعاوي، ناجي شكوت، وصلاح الدين الصباغ.
انتهز المفتي فرصة وجوده في بغداد، فطلب من السلطات العراقية أن تقوم بتدريب الفلسطينيين تدريباً عسكرياً، ودخل عدد كبير منهم في مدرسة ضباط الاحتياط وحصلوا على شهادتها، وكذلك في كلية الأركان والمعاهد العسكرية وأتموا تدريبهم فيها.
كان الحاج أمين يتمتع بسمعة وطنية كبيرة من جميع الأطراف في العراق، حيث قام بدور كبير في أحداث العراق، وعمد إلى إزالة أسباب الخلاف التي كادت تؤدي بالجيش إلى الصدام، الرابح منه الإنجليز وحدهم، حيث قامت في ذلك الوقت معركة سياسية ضارية قسمت الجيش إلى معسكر يتجمع حول (نوري السعيد) الذي يرى أن التعاون مع الإنجليز في الحرب يوصل العراق إلى حقوقه الوطنية، ومعسكر آخر يتجمع حول رشيد عالي الكيلاني الذي يرى أنه يستحيل الاعتماد على الإنجليز الذين تسيطر عليهم الصهيونية، وكان يذهب إلى التعاون مع الألمان. ازدادت نقمة الإنجليز على المفتي أمام هذا العمل الدؤوب الذي كان لصالح العراق وقضية فلسطين، وزاد هذه النقمة أنه استطاع أن يحسن الجو بين السعودية والعراق، مما أدى إلى تهيئة البلدين لتحقيق وحدة مستقبلية.
طلبت السلطات العراقية من المفتي الاتصال سرياً مع الألمان لطلب السلاح والحصول على تصريح من الحكومة الألمانية بشأن استقلال الأمة العربية وحريتها، وبالفعل تم ذلك حيث أرسل أمين وزارة الخارجية الألمانية رسالة إلى المفتي، بين فيها استعداد ألمانيا دعم الشعب العربي في حالة وقوع حرب مع الإنجليز، إذا مكنتها وسائل المواصلات من ذلك، وذكر أن الشعبين الألماني والعربي متفقان على الكفاح ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود، وطلب بقاء هذه الرسالة سرية.(4/124)
قامت الثورة العراقية في أيار عام 1941، وكان للمفتي دور كبير في الحث عليها والوقوف معها، حيث أقنع القادة العراقيين أن هذه حركة تحريرية وطنية هدفها تحرير العراق من براثن الاستعمار البريطاني، ليمارس سيادته واستقلاله الوطني كاملاً غير منقوص، وصمم العراقيون على الدفاع عن حريتهم وكرامتهم، في حين صمم الإنجليز على الاعتداء على العراق وقامت هذه الثورة بقيادة رشيد عالي الكيلاني، ووقف المفتي إلى جانبه فحشد المئات من المجاهدين الفلسطينيين والعرب الملتفين حوله، وكان يتصل بكبار الضباط ويقوم بتوجيههم، ويثير فيهم روح الجهاد ويعمل على تقوية روح المقاومة عند أبناء الشعب العراقي، إلا أنه ولأسباب عدة لم يكتب لهذه الثورة النجاح.
حاول الإنجليز اعتقال المفتي، لكنه استطاع الإفلات من أذاهم والهروب إلى إيران، ولم تطل إقامته هناك بسبب احتلال القوات الروسية والبريطانية المشتركة للعاصمة طهران حيث كان يقيم، واستطاع بعد جهد ومشاق، السفر إلى إيطاليا عبر تركيا بمساعدة الطليان، ومن إيطاليا توجه إلى ألمانيا، حيث حل ضيفاً على الحكومة الألمانية.
وأثناء إقامة المفتي في ألمانيا، وصل إليها رشيد عالي الكيلاني، فتقدم الاثنان بعدة مشاريع لتصريح رسمي أو معاهدة بين العرب والمحور تضمن للعرب الاعتراف من قبل المحور بالحرية والاستقلال للأقطار العربية الواقعة تحت الحكم البريطاني، وبالعمل للقضاء على الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وبعد موافقة هتلر تمكنا من الحصول على تعهد رسمي من ألمانيا وإيطاليا موقع عليه من وزيري الخارجية الألماني والإيطالي، مؤيداً مطالبهم وموضحاً استعداد الحكومة الألمانية للمشاركة مع العرب في الكفاح ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود حتى يتحقق النصر.
كما طلب المفتي من السلطات الألمانية أن توسع مجال عملها بشكل يتمكن فيه كل العرب المقيمين في بلاد المحور من الانضمام إلى الجيش الألماني للتدريب وتكوين جيش عربي، وبالفعل قررت الحكومة الألمانية إنشاء (الجيش العربي) ومد هذا الجيش بالأسلحة اللازمة، ولتحقيق هذا بنى الألمان مستودعاً كبيراً تخزن فيه الأسلحة الخفيفة، ووضعوا تحت تصرف الجيش أربع طائرات لنقل العتاد ووضعه في مخابئ سرية لتدريب المجاهدين في فلسطين.
أثناء إقامة المفتي في ألمانيا سمع بالمآسي التي حلت بالشعب البوسني المسلم عندما تصارعت عليه القوميتين الكرواتية والصربية، حيث اجتمع بزعماء بوسنة وهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على حياة البشانتة ومنع وقوع المذابح فيهم، وافقت الحكومة الألمانية على تجنيد الشبان منهم وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم، كذلك اتفق المفتي مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة لتوزيعهم على وحدات الفرق البوسنية الذين زاد عدهم عن 100 ألف مقاتل، وقد أنشأ المعهد واختير له عدد من علماء البشناق لتوجيه أولئك الأئمة، وأنشأ المفتي كذلك بالاتفاق مع الألمان معهداً آخر في (دردسن) لتخريج الأئمة الأذربيجانيين والقوقازيين وغيرهم، وبذلك زاد عدد المجندين في بلاد المحور من عرب وبوسنيين وأذربيجانيين وغيرهم على مائتي ألف مقاتل، استطاعوا أن يمنعوا المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا.
اشتدت غارات الحلفاء على ألمانيا عام 1943، فكانت بعض الغارات تهاجم برلين بألف طائرة أو أكثر، ولما شرع الحلفاء بالزحف على الأراضي الألمانية عام 1945 انتقل المفتي إلى باريس، ومن باريس إلى مصر حيث حل ضيفاً على الملك فاروق.
في مصر قام المفتي بتشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين برئاسته حيث نظم الحركة الوطنية الفلسطينية تنظيماً حديثاً، وقرر إعداد الشعب لخوض الكفاح المسلح ضد الصهيونيين والإنجليز، وألف لجنة من قادة المجاهدين الفلسطينيين وبعض الضباط السوريين والعراقيين والمصريين لوضع الخطط وتحديد المطلوب من الأسلحة والمعدات للجهاد الذي كان أوانه قد اقترب بعد بروز فكرة التقسيم من جديد في الأوساط الأمريكية والبريطانية والصهيونية ومحيط الأمم المتحدة، كما أعاد تنظيم جيش الجهاد المقدس وأسند قيادته إلى عبد القادر الحسيني وأنشأ المفتي كذلك منظمة الشباب الفلسطيني التي انصهرت فيها منظمات الفتوة والجوالة والكشافة وأسند قيادتها للمجاهد الصاغ محمود لبيب ـ وهو قائد بارز من قادة الحركة الإسلامية بمصرـ وكلفه بمهمة تدريب الشباب على القتال.
وبالرغم من الاستعدادات العربية إلا أن ميزان القوى بين العرب واليهود في كل النواحي لم يكن متكافئاً، وحدثت النكبة في 14 أيار 1948، ظل المفتي بعدها يعمل للدفاع عن قضية فلسطين حيث ألف حكومة فلسطينية في منطقة غزة برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي أطلق عليها (حكومة عموم فلسطين) لتتولى شؤون الكفاح. لكن التواطؤ والمؤامرات على القضية ظل مستمراً يجمد نشاط وعمل هذه الحكومة بعد أن أرغمت على الانتقال إلى مصر، وكذلك حُرمت الهيئة العربية العليا من حرية العمل والنشاط، وأغلقت في وجهها الصحف والمجلات ومحطات الإذاعة، بينما واصل الأعداء مساعيهم لتصفية القضية وكانت خطتهم الجديدة نقل القضية من أيدي أصحابها إلى الجامعة العربية، فتقرر إنشاء (إدارة خاصة بفلسطين) في مجلس الجامعة تتولى القضية الفلسطينية من جميع نواحيها.(4/125)
قامت في مصر ثورة يوليو 1952 فاستبشر المفتي خيراً، ورحب بالعهد الجديد برئاسة جمال عبد الناصر، إلا أن روائح الحل السلمي للقضية بدأت تطل من جديد، فخمدت قضية فلسطين وتحولت إلى قضية لاجئين، واتفقت الأمم المتحدة مع الرئيس جمال عبد الناصر على حل القضية خلال عشر سنوات مقابل ثلاثة آلاف مليون دولار تدفع لمصر وسورية والأردن ولبنان مقابل توطين اللاجئين من فلسطين.
وفجأة وبدون سابق إنذار، هبت الصحف المصرية الخاضعة لإشراف الحكومة تشن حملة قاسية ضد الهيئة العربية العليا ورجالها، وتعرضهم لاتهامات باطلة وافتراءات كاذبة جزاء تنبيههم الفلسطينيين والرأي العام العربي لذلك الاتفاق الذي تم بين عبد الناصر وهيئة الأمم المتحدة، مما اضطر المفتي ورجاله مغادرة القاهرة إلى لبنان عام 1959.
استأنف المفتي نشاطه في سبيل فلسطين من العاصمة اللبنانية، وظل ينبه الزعماء العرب إلى الخطر الصهيوني والمطامع اليهودية التي ستتعدى فلسطين إلى الأقطار المجاورة، ومد نشاطه إلى الدائرة الإسلامية حيث كان يرأس مؤتمرات إسلامية في مكة المكرمة، نشأت عنها مؤسسة دائمة باسم (مؤتمر العالم الإسلامي) برئاسته، وظل يشغل هذا المنصب طيلة حياته، إلى أن توفي ـ رحمه الله ـ في بيروت يوم الخميس 4/7/1974 ودفن في مقبرة الشهداء بالحرج.
عقبت الصحف البريطانية على وفاة الحاج المفتي أمين الحسيني ـ رحمه الله ـ بهذه الكلمات (مات عدو الصهيونية والإمبراطورية البريطانية).
المراجع:
ـ كتاب (الحاج أمين الحسيني، رائد جهاد)، للكاتب حسني أدهم جرار.
==================
أكرم زعيتر
ولد أكرم زعيتر في مدينة نابلس عام 1909، والده الشيخ عمر الجزائري من كبار رجالات نابلس، وترأس بلديتها في أوائل القرن العشرين. أخوه العلامة عادل زعيتر شيخ المترجمين العرب.
درس أكرم زعيتر الصفوف الابتدائية في مدينة نابلس، وأكمل دراسته الثانوية في كلية النجاح ثم انتسب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، والتحق بعدها بكلية الحقوق في القدس.
زاول زعيتر في بداية حياته مهنة التعليم في ثانويات فلسطين، وعلى اثر الثورة عام 1929 في فلسطين وحملة المندوب البريطاني على الثوار العرب استقال من مهنة التدريس ليتفرغ للعمل في الحقل الوطني، فتولى رئاسة تحرير جريدة (مرآة الشرق) في القدس، وبعد ثلاثة أشهر من عمله في الصحافة قبض عليه وأودع السجن نتيجة لانخراطه في العمل الوطني، وحوكم بالإبعاد مدة سنة إلى نابلس، وهناك قاد المظاهرات الوطنية خاصة يوم إعدام الشهداء الثلاثة: فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، ولدى عودته إلى القدس مرة أخرى تولى تحرير جريدة الحياة التي قامت بدور هام في تحريك أحداث عام 1931، لكن جرى اعتقال زعيتر وأُغلقت جريدة الحياة، وتم إبعاده مرة أخرى إلى مدينة نابلس حيث تولى التدريس في كلية النجاح، وألف مع نخبة من الأحرار جمعية (العناية بالمساجين العرب). وفي تلك الفترة أسس مع عدد من رفاقه حزب (الاستقلال) في فلسطين. وكان ينشر مقالاته الوطنية على صفحات جريدة (الدفاع) و(الجامعة الإسلامية) اليافية.
كما اشترك أكرم في تأسيس عصبة العمل القومي في سوريا، وكان نائباً لرئيس مؤتمرها التأسيسي الذي انعقد في لبنان عام 1933، وحينما توفي الملك فيصل الأول في بغداد، مثل أكرم حزب الاستقلال في مراسم جنازته، فالتقاه ياسين الهاشمي وطلب منه البقاء للعمل في معاهد العراق موجهاً قومياً، وهناك ساهم بتأسيس (نادي المثنى) و(الجوال القومي).
بعد عودته إلى فلسطين شرع في عقد الاجتماعات الشعبية في جميع أنحاء فلسطين داعياً للمقاومة ولمجابهة الانتداب البريطاني. وعلى أثر الصدام الذي وقع عام 1936 بين الوطنيين الفلسطينيين وقوات الأمن البريطاني دعا أكرم زعيتر إلى تأليف لجان قومية، وتولى هو أمانة سر لجنة نابلس.
تولت لجنة نابلس الاتصال بأحرار فلسطين والعرب ودعت إلى الاضراب العام الكبير الذي امتد ستة أشهر، والذي كان الممهد لثورة عام 1936، فاعتقل أكرم وكان أول معتقل في هذه الثورة، حيث أُرسل إلى سجن عوجا الحفير في صرفند، وبعد فترة لجأ إلى دمشق حيث حضر مؤتمر بلودان، وتولى العمل الإعلامي للقضية الفلسطينية في سورية والدول المجاورة.
وبعد مطاردة قوات الانتداب للأحرار العرب، اتجه أكرم إلى العراق حيث عمل مفتشاً في وزارة المعارف وأستاذاً في دار المعلمين العراقية إلى أن نشبت ثورة رشيد رضا الكيلاني عام 1941 فشارك فيها، وحين أخفقت الثورة لجأ أكرم وصحبه إلى بادية الشام واختفوا مدة فيها، ثم لجأ إلى حلب ومنها إلى تركيا ليقضى ثلاثة أعوام لاجئاً سياسياً في الأناضول.
بعد إعلان استقلال سوريا عام 1945 عاد أكرم إليها، وأصبح مقرباً من رئيسها شكري القوتلي، كما مثل سوريا في كثير ممن النشاطات القومية، وكان مستشاراً لوفدها لدى جامعة الدول العربية، وعضواً في لجنة فلسطين الدائمة في الجامعة العربية.
في عام 1947 ترأس وفداً عربياً إلى أمريكا اللاتينية لشرح قضية فلسطين والدفاع عنها، واشترك في معظم المؤتمرات الوطنية والإسلامية المنعقدة في الشرق العربي، ثم تولى أمانة سر الندوة الإسلامية في دوراتها الثلاث المنعقدة في بيت المقدس عام 1959، ومثل الأردن في الدورة السادسة عشر للأمم المتحدة، وفي عام 1963 عُين سفيراً للأردن لدى سورية حيث أمضى قرابة العام ثم سفيراً للأردن لدى إيران وأفغانستان، وفي عام 1966 عُين وزيراً للخارجية الأردنية، وفي عام 1967 أصبح عضواً في مجلس الأعيان الأردني، ثم وزيراً للبلاط الملكي.(4/126)
وفي عام 1971 أصبح سفيراً للأردن لدى لبنان واليونان حتى عام 1975، ثم عاد ثانية إلى عضوية مجلس الأعيان الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر.
أثناء إقامة أكرم زعيتر في لبنان في الثمانينات ساهم بنشاط في الحركة الثقافية، وكان رئيساً للمركز الثقافي الإسلامي لسنوات طويلة، كما شارك الشعب اللبناني آلامهم ومعاناتهم أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982، فقد أصيب منزله كما احترقت مكتبته التي تضم رسائل من كبار الشعراء والأدباء العرب في الوطن والمهجر، فسبب ذلك له حزناً عميقاً، فغادر بيروت إلى عمان، حيث تولى رئاسة اللجنة الملكية لشؤون القدس.
كان زعيتر عضواً في مجمع اللغة العربية الأردني، وعضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، كما كان عضواً في المجمع الملكي لبحوث الحضارات الإسلامية في مؤسسة آل البيت.
كان أكرم زعيتر خطيباً مفوهاً تأثر أدبه بالجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن حزم، كما تتلمذ على شقيقه عادل زعيتر، ومحمد إسعاف النشاشيبي وأمير البيان شكيب أرسلان، وخليل السكاكيني الذي ارتبط به أكرم بوثاق شديد، وظل طوال عمره يباهي بتلمذته على هذا الأديب الكبير، وبلغ من تأثره بعلمه وشخصه أن أطلق اسم (سري) على بكر أبنائه تشبهاً بأستاذه السكاكيني أبي سري.
توفي أكرم زعيتر بمنزله في عمان إثر إصابته بسكتة قلبية يوم الخميس الموافق الحادي عشر من نيسان سنة 1996، فصلي على جثمانه في مسجد مدينة الحسين الطبية، ووري الثرى في المقبرة الإسلامية في سحاب بالقرب من عمان.
احتلت مؤلفات زعيتر مكانة مرموقة في المكتبة العربية، وقد انفرد بتسجيل أدق تفاصيل الكفاح الفلسطيني لحظة حدوثها بأمانة وموضوعية، ومن أهم المؤلفات:
ـ أوراق أكرم زعيتر، وثائق القضية الفلسطينية (1918 ـ 1940).
ـ يوميات الثورة الكبرى والإضراب العظيم (1936 ـ 1939)
ـ وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1918 ـ 1939).
ـ يوميات أكرم زعيتر، وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1935 ـ 1939).
ـ من أجل أمتي، من مذكرات أكرم زعيتر (1939 ـ 1946).
ـ كتاب (بدوي الجبل وإخاء أربعين عاماً).
ـ كتاب (رسالة في الاتحاد) بالاشتراك مع الأستاذين ساطع الحصري وكامل مروة.
المراجع:
ـ (أعلام فلسطين من القرن السابع حتى العشرين ميلادي)، محمد عمر حمادة، دار قتيبة، طبعة أولى 1985، ص(350ـ 356).
ـ كتاب (ذكرى أكرم زعيتر) تقديم د. قسطنطين زريق.
=================
فوزي القاوقجي
ولد فوزي القاوقجي في مدينة طرابلس (لبنان) عام 1890، وخرج منها طفلاً إلى الأستانة للدراسة، وظل يتدرج في المدارس التركية إلى أن وصل إلى المدرسة الحربية حيث بدأت بواكير وعيه السياسي تتفتح.
تخرج القاوقجي سنة 1912 ضابطاً في سلاح الخيالة العثماني، وقد عمل أولاً في الموصل حيث ظهرت قدراته فغدا بعد وقت قصير معلماً للفروسية في الكتيبة كلها.
لما نشبت الحرب العالمية الأولى اتصل به بعض الساسة العرب ليقوم بالدعاية للثورة بين قبائل البدو التي يعرفها حق المعرفة وتكن له الحب والتقدير.
اشترك في الحرب ضد الإنجليز الذين احتلوا البصرة، وأصيب سنة 1914 في معركة القرنة، وأُدخل المستشفى للعلاج، ثم غادره سراً.
عُين في شهر أيار عام 1916 في فرقة الخيالة العثمانية الثالثة المرابطة على خط بئر السبع ـ غزة الدفاعي في وجه القوات البريطانية، وقد أكسبته أيامه في بئر السبع خبرة واسعة في أصول الاستطلاع ونصب الكمائن، ونال شهرة واسعة لجرأته وحصل على عدد من الأوسمة، وقويت صلته بالقادة الألمان وأصبح مرافقاً لهم.
آثر القاوقجي الولاء للجيش العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وظل يقاتل في صفوف الأتراك، رغم مضايقتهم له وكرهه لتسلطهم وتيقنه من خسارتهم. ويعلل ذلك بشكه في نوايا البريطانيين والفرنسيين الذين اعتمدت عليهم الثورة العربية.
عاد القاوقجي فور انتهاء الحرب إلى مسقط رأسه طرابلس عام 1918، وأقام هناك إلى أن زارها الملك فيصل بن الحسين ودعاه إلى العمل في خدمة الدولة العربية الجديدة فقبل الدعوة، وقد عُين في الشعبة الثالثة في ديوان الشورى الحربي، وهناك تكشف له غدر الحلفاء، فطلب نقله إلى إحدى الوحدات العاملة، فعُين آمر السرية الأولى من لواء الخيالة الهاشمي، ولدى دخول الفرنسيين دمشق كان القاوقجي يتولى حراسة قصر الملك وقلعة دمشق.
أصبح القاوقجي أيام الانتداب الفرنسي آمراً لسرية الخيالة في حماه، ومعاوناً للمستشار الفرنسي، فسعى جهده لاكتساب ثقة الفرنسيين والعمل على تخفيف مظالمهم، وقد أثرت أحداث ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي وشجعته على التفكير بثورة مماثلة.
بدأ القاوقجي يعد للثورة ويدعو لها وينظم الخلايا، ثم أطلق الشرارة في 5/10/1925 مغتنماً فرصة ثورات صالح العلي وإبراهيم هنانو وسلطان الأطرش، وكاد يستولي مع من معه على مدينة حماه لولا قصف الطائرات، فخرج إلى البادية حيث استثار القبائل ضد الفرنسيين وكان أبرز آثار حركته تخفيف الضغط على الثوار في جنوبي سورية.
انتقل القاوقجي مع نفر من المجاهدين إلى منطقة القلمون وغوطة دمشق وجبل العرب، وأسند إليه مجلس الثورة الوطني قيادة الثورة في منطقة الغوطة مع سلطات واسعة، واستطاع أن يحقق انتصارات كبيرة على الجيش الفرنسي، لكن نقص العتاد واستشهاد الكثير من رجاله اضطراه إلى الانسحاب باتجاه جبل العرب.(4/127)
استدعته اللجنة الثورية إلى عمّان والقدس سنة 1927، وكلف السفر إلى تركية لإقناعها بمساعدة الثورة السورية، ولكنه عاد إلى القاهرة حيث كانت الخلافات قد اشتدت بين الزعماء السياسيين للثورة، فلم يمكث فيها طويلاً وذهب إلى السعودية سنة 1928.
استطاع القاوقجي في السعودية بمساعدة الأمير فيصل بن عبد العزيز (الملك فيصل فيما بعد) إقناع الملك عبد العزيز بن سعود بتكوين جيش نظامي مدرب. وحاول تنظيم بعض الأمور ولكن العراقيل الكثيرة التي وضعت في طريقه والدسائس التي تعرض لها أجبرته على الاستقالة، وبعد ذلك عُين مستشاراً للأمير فيصل.
غادر القاوقجي السعودية سراً إلى مصر عقب اندلاع أحداث فلسطين سنة 1929، والتقى أعضاء الوفد الفلسطيني المسافر إلى لندن لمفاوضة الإنجليز محاولاً إقناعهم بعدم جدوى المفاوضة، وأن لا بد من العمل والإعداد العسكري كما يفعل الصهاينة، ولكنه أخفق في سعيه وعاد إلى السعودية.
ترك القاوقجي السعودية بعد سنتين ونصف، والتحق بخدمة الملك فيصل بن الحسين في بغداد أواخر سنة 1932. وعين معلماً للفروسية وأستاذاً للطبوغرافيا في المدرسة الحربية الملكية برتبة نقيب.
ومع تفاقم أحداث فلسطين مع الإضراب الكبير واشتعال نار الثورة فيها، كُلف القاوقجي من قبل زعماء الثورة الفلسطينية تجهيز قوة من المتطوعين لنجدة فلسطين. فبدأ الاتصال بالأردن وسورية ولبنان لاختيار الشبان العرب المجاهدين وتزويدهم بالسلاح وإرسالهم إلى جبهة الثورة في فلسطين، وفي 25/8/1936 وصل القاوقجي على رأس حملة من العراق واتخذ من مثلث نابلس ومنطقة جنين خاصة ساحة لنشاط حملته ووزع بوصفه القائد العام للثورة منشوراً ثورياً يدعو فيه الثوار إلى الالتفاف حوله والانضمام إليه ويقرر ميثاقاً له (الاستمرار في النضال إلى أن تتحرر فلسطين وتستقل وتلتحق بقافلة البلاد العربية المحررة).
خاضت قوات الثورة بقيادة القاوقجي معارك عدة هزمت فيها الإنجليز وألحقت بهم خسائر كبيرة، وعندما أُعلنت الهدنة بين الإنجليز والفلسطينيين وفُك الاضراب بقرار سياسي من اللجنة العربية العليا بعد وساطة ملوك العرب ورؤسائهم، أوعزت القيادة السياسية للقاوقجي بسحب قواته من فلسطين، فانسحب عبر نهر الأردن إلى الأردن، وهناك سرح معظم القوات وعاد مع المفرزة العراقية إلى العراق.
أقام القاوقجي في بغداد مدة، ثم نفته حكومة بكر صدقي في العراق إلى كركوك لتقييد حركته استجابة لطلب الإنجليز، ولاحتجاج السفير التركي على موقف القاوقجي من قضية لواء الاسكندرون. وهناك طفق يتصل من منفاه بعدد من الشخصيات السورية والأردنية والفلسطينية لتجهيز حملة تعيد تفجير الثورة، ولاسيما بعد إعلان مشروع التقسيم الذي أوصت به اللجنة الملكية سنة 1937.
أُفرج عن القازقجي بعد مقتل بكر صدقي فعاد إلى بغداد، ولما نشبت ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق سنة 1941، قاد القاوقجي فريقاً من المتطوعين السوريين والفلسطينيين والعراقيين وتصدى لقوافل الإنجليز العسكرية القادمة من الأردن عند الرطبة وخاض عدداً من المعارك الناجحة، ثم أصيب بجراح خطرة حين سارع إلى صد هجوم إنجليزي على تدمر، فنقل إلى مستشفى دير الزور ثم مستشفى حلب حيث تم تدبير نقله إلى برلين، وقد أُجريت له عدة عمليات جراحية استخرجت فيها 19 رصاصة وشظية من جسده وظلت رصاصة واحدة تسكن رأسه حتى أواخر حياته.
عندما دعا الألمان القاوقجي إلى العمل معهم أصر على أخذ اعتراف رسمي بحقوق العرب واستقلالهم قبل الالتزام بالعمل، وشعر أنهم يحاولون استغلاله واستغلال غيره من الزعماء العرب الموجودين هناك. وقد اتهم القاوقجي الألمان النازيين بتسميم ابنه مجدي (وكانت أسرته قد لحقت به إلى ألمانيا) لأنه، أي الأب، لم يتعاون معهم.
مع تراجع ألمانيا على مختلف الجبهات، أخذت آمال القاوقجي وبقية العرب تخبو، وبدخول السوفييت برلين عام 1946، اعتقل القاوقجي وزوجته ومرافقه ثم أُطلق سراحهم بعد شهر، وظل هناك تحت الرقابة ولكنه استطاع أن يصل إلى باريس عبر القطاع الفرنسي من برلين، ومن باريس طار إلى القاهرة ثم إلى مدينة طرابلس الشام وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في سنة 1947، تولى فوزي القاوقجي قيادة (جيش الإنقاذ) للدفاع عن فلسطين وذلك بتكليف من جامعة الدول العربية، وفي ظل ظروف شديدة الصعوبة منها عدم التكافؤ بين قوات الشعب الفلسطيني والمتطوعين من جهة والقوات الصهيونية من جهة أخرى من حيث الإعداد والتدريب والتسليح، إضافة إلى تحفظات الهيئة العربية العليا على قيادته، وتشكيل جيش الجهاد المقدس، إلا أنه أبلى بلاء حسناً في كل المعارك التي خاضها ضد الإنجليز والصهاينة، وكانت معركة (المالكية) من أهم المعارك وأشهرها والتي خاضها القاوقجي مع الجيش السوري واللبناني بتاريخ 6 حزيران 1948، وانتصروا فيها، فضمن من خلالها لجبل عامل بأسره البقاء في يد العرب.
أدرك فوزي القاوقجي بعد تلكؤ المسؤولين العرب عن نصرته، وتواطؤ البعض الآخر ونقص العتاد في جيشه، وبعد إبرام الهدنة بين الدول العربية والصهاينة، أن الاستمرار بهذا العمل غير مجد، ويؤدي إلى الكارثة، فقدم استقالته إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام، ثم انسحب إلى جنوب لبنان، وبعد ذلك انسحب عن مسرح الأحداث بمرارة وألم.(4/128)
شعر القاوقجي بمرارة الهزيمة حين وقعت الدول العربية اتفاقيات الهدنة الدائمة في رودس، فانتقل إلى دمشق ليعيش فيها فيما يشبه العزلة، ثم غادرها إلى بيروت تحت وطأة ظروف مادية ونفسية أليمة حتى وافاه الأجل عام 1977، وقد ترك مذكرات له بعنوان (مذكرات فوزي القاوقجي).
المرجع:
ـ (الموسوعة الفلسطينية)، إصدار هيئة الموسوعة الفلسطينية، دمشق، طبعة أولى 1984، المجلد الثالث، ص (480ـ 484)
================
الشيخ عز الدين القسام
ولد عز الدين القسام في بلدة (جبلة) التابعة لقضاء اللاذقية في سورية عام 1882، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين.
كان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية.
تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير.
بعد تفوقه في دراسته في الكتاب، التحق عز الدين للدراسة في الأزهر في مصر، فقد كان الأزهر في ذلك الوقت منارة كبرى لنشر علوم الشريعة والعربية، فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه. كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد.
تعرف القسام في مصر على الاستعمار الغربي وجهاً لوجه، حيث كانت مصر خاضعة للاحتلال البريطاني المباشر بعد ثورة عرابي عام 1882، وكان فيها تيار المقاومة الإسلامي للاحتلال قوياً، كما رأى القسام هجوم المفكرين المتغربين على الإسلام فكراً وحضارة وتاريخاً، وعايش بنفسه الصراع الدائر بين هؤلاء وبين المفكرين الإسلاميين، كما تعرف في مصر على المشروع الصهيوني بأبعاده، وأدرك خطره على الأمة الإسلامية، وأنه وليد الاستعمار الغربي، وسمع عن تطلعات الصهاينة وأطماعهم في فلسطين. وبين مدرسة الشيخ محمد عبده ومدرسة الشيخ رشيد رضا الشامي المقيم في مصر اتضح أمام عيني الشيخ عز الدين القسام الجهاد وسيلة للدفاع عن حقوق الأمة وللعودة بها إلى سابق مجدها.
عاد القسام إلى جبلة عام 1906 بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للإطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين. كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.
لماّ دخلت القوات الإيطالية طرابلس الغرب (ليبيا) عام 1911، قاد القسام مظاهرة طافت شوارع جبلة تأييداً للمسلمين هناك، ودعا الناس إلى التطوع لقتال الطليان، وجَمع التبرعات للأسر المنكوبة، إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر إلى ليبيا، فعادوا بعد أربعين يوماً من الانتظار، وبنوا مدرسة بمال المتبرعين لتعليم الأمّيين.
وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام 1920، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919ـ 1920) مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات موقع حصين.
حاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين.
عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين.
أبدى القسام اهتماماً حقيقياً بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى.
عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يكثر من القول: (بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم)(4/129)
كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين وصقل نفوسهم وتهيئتها للقتال، معتمداً اختيار الكيفية دون الكمية.
عمل على تأسيس جمعية الشبان المسلمين عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين وانتشرت الجمعيات التبشيرية التي تدعو إلى تنصير المسلمين، وقام القسام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد. وقد واظب القسام خلال وجوده في الجمعية على إعطاء محاضرة دينية مساء كل يوم جمعة، وكان يذهب كل أسبوع بمجموعة من الأعضاء إلى القرى، ينصح ويرشد ويعود إلى مقره. وقد تمكن من إنشاء عدة فروع للجمعية في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، وكانت الفرصة للّقاء بالقرويين وإعدادهم للدفاع عن أراضيهم.
عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية سنة 1930، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.
يعتبر القسام صاحب دعوة مستقلة وأسلوب متميز وحركة جهادية رائدة سبقت جميع الاتجاهات في ميدان الجهاد المعاصر في فلسطين.
ويتلخص هذا الأسلوب في تربية جيل من المجاهدين، فكان يعقد اجتماعات سرية مكتومة في بيته وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص المغمورين (غير البارزين أو المعروفين في ميدان الحركة الوطنية)، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، ويكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء.
وعندما تم إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، كانت مقسمة إلى وحدات مختلفة المهام، حيث لكل وحدة دور خاص بها تتولاه، وهذه الوحدات هي:
الأولى: وحدة خاصة بشراء السلاح.
الثانية: وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني واليهودي.
الثالثة: وحدة خاصة بالتدريب العسكري.
الرابعة: وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد.
الخامسة: وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية.
السادسة: وحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء.
ولماّ قطعت الحركة شوطاً من الإعداد تم فيه تهيئة المقاتلين للجهاد، ابتدأ رجال القسام بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية عن طريق إعداد كمائن والهجوم على أفراد محددين ومستوطنات معينة، بهدف دفع اليهود في الخارج إلى وقف الهجرة إلى فلسطين.
ولم تكن أعمال القسام مهاجمة المستعمرات فحسب وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين عاماً) فقال: (أماّ الأعمال التي قام بها القساميون فكانت من أروع ما قام به المجاهد في فلسطين، وعلى الرغم من كثرتها وتعدد أشكالها ومظاهرها، فإنها ظلت محاطة بالسرية والكتمان إلى مدى كان معه أكثر الناس يجهلون مصدر هذه الأعمال، بل كانوا لا يعرفون إطلاقاً بوجود حركة القساميين، وكان من هذه الأعمال: ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء. وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق، التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها).
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين... وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة.
لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم.
وأخيراً وفي أحراش يعبد في منطقة جنين يوم 20 تشرين ثاني عام 1935، حددت الشرطة البريطانية مكانهم وهاجمتهم بقوات عسكرية كبيرة ودارت معركة رهيبة بين المجاهدين والشرطة، صمد فيها رجال القسام، وقاتل شيخهم قتال الأبطال، وظل يكافح حتى خر صريعاً في ميدان الجهاد شهيداً كريماً في سبيل إعلاء كلمة الله فوق أرض فلسطين، واستشهد معه بعض إخوانه المجاهدين، وجرح آخرون وتم أسرهم.
نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشيعت جثامينهم الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى نادت بسقوط الإنجليز ورفض الوطن القومي اليهودي.(4/130)
كان لاستشهاد القسام أعمق الأثر في شباب فلسطين في الثلاثينات والأربعينات، كما أصبح القسام رمزاً للتضحية والفداء، مما جعل بعض المؤرخين يعتبرونه بحق شيخ ثوّار فلسطين.
هذه المعلومات أخذت بتصرف عن:
ـ (الشيخ عزالدين القسام قائد حركة وشهيد قضية)، حسني جرّار، (دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان، طبعة أولى، 1989)
ـ (موسوعة السياسة)، د.عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طبعة ثانية،1990 ج4 ص(101ـ 103).
================
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
1917-1997
محطات أساسية
ولد الشيخ عبد الفتاح بن محمد بشير بن حسن أبو غدة في مدينة حلب الشهباء، شمالي سورية سنة 1917، في بيت ستر ودين، فقد كان والده محمد رجلاً مشهوراً بين معارفه بالتقوى والصلاح والمواظبة على الذكر وقراءة القرآن. وكان يعمل في تجارة المنسوجات، التي ورثها عن أبيه، حيث كان الجد بشير من تجار المنسوجات والقائمين على صناعتها بالطريقة القديمة. ينتهي نسب الشيخ رحمه الله تعالى إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان لدى أسرته شجرة تحفظ هذا النسب وتثبته.
التحق الشيخ، متأخراً عن أقرانه، بالمدرسة العربية الإسلامية في حلب، ثم بالمدرسة الخسروية العثمانية، التي بناها خسرو باشا، والتي تعرف اليوم باسم الثانوية الشرعية، وتخرج منها سنة 1942، وانتقل إلى الدراسة في الأزهر الشريف، فالتحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها في الفترة ما بين (1944 ـ 1948)، وانتقل منها إلى التخصص في أصول التدريس في كلية اللغة العربية في الأزهر أيضاً وتخرج فيها سنة 1950.
بعد أن أكمل الشيخ دراسته في مصر، عاد إلى سورية وتقدم سنة 1951 لمسابقة اختيار مدرسي التربية الإسلامية لدى وزارة المعارف فكان الناجح الأول. ودرَّس أحد عشر عاماً مادة التربية الإسلامية في ثانويات حلب، كما شارك في تأليف الكتب المدرسية المقررة لهذه المادة. ودرَّس إلى جانب ذلك في (المدرسة الشعبانية) وهي معهد شرعي أهلي متخصص بتخريج الأئمة والخطباء، ودرَّس في الثانوية الشرعية (الخسروية) التي تخرج فيها، ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرس فيها لمدة ثلاث سنوات (أصول الفقه)، و(الفقه الحنفي) و(الفقه المقارن بين المذاهب). وقام بعد ذلك بإدارة موسوعة (الفقه الإسلامي) في كلية الشريعة بدمشق لنحو عامين، أتم خلالها كتاب (معجم فقه المحلى لابن حزم) وكان قد سبقه للعمل فيه بعض الزملاء فأتمه، وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين.
أدخل السجن سنة 1966 مع ثلة من رجال العلم والفكر في سورية، ومكث في سجن تدمر الصحراوي أحد عشر شهراً. وبعد كارثة الخامس من حزيران سنة 1967 اضطر الحاكمون إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ رحمه الله من بينهم.
انتقل إلى المملكة العربية السعودية، متعاقداً مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض حيث عمل مدرساً فيها، وفي المعهد العالي للقضاء، وأستاذاً لطلبة الدراسات العليا، ومشرفاً على الرسائل العلمية العالية، فتخرج به الكثير من الأساتذة والعلماء. وقد شارك خلال هذه الفترة (1385 ـ 1408 هـ) (1965 ـ 1988) في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضواً في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة كل تكريم وتقدير.
انتدب الشيخ أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية العلمية، التي تعقد على مستوى العالم الإسلامي. وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات. ثم عاد للعمل مع جامعة الملك سعود في الرياض وقبلها مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض كذلك.
كان رحمه الله شديد الاهتمام بأمر المسلمين ،وظف كثيراً من وقته وجهده لخدمة الشأن العام، وعندما أنهى إليه بعض العلماء في سورية أنه من الممكن إذا عاد إليها في ظل الظروف القائمة، أن يكون مفتاحاً للإفراج عن ألوف المعتقلين السياسيين هناك، وبذل له وعداً بمقابلة الرئيس حافظ أسد لحل الأزمة العالقة بين الحكومة والحركة الإسلامية، فقبل أن يقوم بالمهمة رجاء تحقيق شيء للمصلحة العامة.و بعودة الشيخ إلى سورية استقبل استقبالاً حافلاً على المستويين العلمي والشعبي ولكن دون أن يتحقق له ما عاد من أجله.
وفاته
وفي شهر شعبان 1417/ديسمبر1996 شعر الشيخ بضعف شديد في نظره فعاد من حلب إلى الرياض ليستأنف علاجه، في أواخر رمضان من العام نفسه اشتكى الشيخ من ألم في البطن، أدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال 1417 الموافق 16 من فبراير 1997 عن عمر يناهز الثمانين عاماً فرحمه الله رحمة واسعة . ودفن الشيخ قي المدينة المنورة في جنازة حافله من تلامذته ومحبيه.
ـ شيوخه:(4/131)
تتملذ الشيخ في بداياته على كبار علماء مدينة حلب، ثم على رعيل من كبار علماء مصر، كان من أبرز شيوخه في مدينة حلب: الشيخ راغب الطباخ، والشيخ أحمد الزرقا، والشيخ عيسى البيانوني، والشيخ محمد الحكيم، والشيخ أسعد عبجي، والشيخ أحمد الكردي، والشيخ نجيب سراج الدين، إلى جانب الشيخ مصطفى الزرقا رحمهم الله تعالى جميعاً. وكان من شيوخه في مصر أثناء دراسته في الأزهر: الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد المجيد دراز، والشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ محمود شلتوت، إلى جانب الشيخ عبد الله الصديق الغماري. والتقى في مصر بالشيخ مصطفى صبري شيخ الخلافة العثمانية ، وتتلمذ بشكل خاص على الشيخ محمد زاهد الكوثري من مشايخ الخلافة العثمانية ايضا، وسمى ابنه الأكبر على اسمه، كما التقى هناك بالإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى وأخذ عنه نهجه الدعوي.
ـ عبدالفتاح ابوغده: الفقيه الأصولي المحدث
كانت بداية الشيخ رحمه الله تعالى في التفقه على مذهب أبي حنيفة، سبر غوره وبرع فيه، ثم درّس مع تضلعه بفقه المذهب الفقه المقارن، فنال حظاً وافياً من فقه المذاهب الأخرى. كما درّس في جامعة دمشق علم الأصول وبرع فيه. واشتغل بالموسوعة الفقهية الإسلامية. وانتقل في مرحلة تالية للاشتغال بكتب الحديث الشريف فحقق جملة منها حتى برّز في علم الحديث واحتل مكانة متقدمة فيه.
قام الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى بالعديد من الرحلات العلمية والدعوية رحل إلى عدد من الأقطار الإسلامية، مفيداً ومستفيداً، فإلى جانب إقامته في مصر، رحل إلى الهند وباكستان والسودان والمغرب والعراق والتقى بعلماء هذه الأقطار، وطلاب العلم فيها، فأفاد منهم وأفادوا منه. ولقد حمل في زياراته المتعددة إلى الهند وباكستان كثيراً من علم القارة الهندية إلى المشرق العربي، وحقق العديد من الرسائل والكتب وشهرها بين أهل العلم، فنالت استحسانهم وإعجابهم. ومن أبرز العلماء الذين التقى بهم في تلك الديار: الشيخ محمد شفيع مفتي باكستان، والمفتي عتيق الرحمن كبير علماء دلهي، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والشيخ محمد إدريس الكاندهلوي، والشيخ محمد يوسف البنوري، والشيخ محمد لطيف، والشيخ أبو الوفا الأفغاني، والشيخ أبو الأعلى المودوي والشيخ أبو الحسن الندوي.
يعد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من العلماء الثقاة، الذين يفخر بهم العالم الإسلامي في القرن العشرين، وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث أكب منذ بداية حياته العلمية على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين.
ويمتاز تحقيق الشيخ عبد الفتاح بأنه يقدم مع الكتاب المحقق، كتاباً آخر مليئاً بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة، التي توضح الغامض، وتسدد وتصوب وترجح وتقرب العلم إلى طالبه وتحببه إليه.
وللشيخ رحمه الله تعالى ولع شديد بكتب العلم، يتتبعها في مظانها، مطبوعة ومخطوطة، ويصرف وقته وجهده وماله، في سبيل اقتنائها وخدمتها، وتقديمها للقارئ، غنية بمضمونها، راضية في شكلها، تنم على إحساس عال لدى الشيخ في تكريم الكتاب، وعلى ذوق رفيع في طريقة إخراجه. وللشيخ عشرات الكتب المؤلفة والمحققة.و هذا ثبت بمؤلفات الشيخ مرتبة حسب تاريخ النشر:-
1- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام عبد الحي اللكنوي وطبع 3 طبعات أولها سنة 1383-1963 بحلب
2- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للإمام اللكنوي وطبع 3 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب
3- رسالة المسترشدين للإمام الحارث المحاسبي وطبع 8 طبعات أولها سنة 1384-1964 بحلب، وترجم إلى اللغة التركية .وهو كتاب عميم الفائدة للخاصة والعامة فمع النصح المخلص للمؤلف المحاسبي رحمه الله ،الذي يقال ان كل من صنف في تهذيب النفس وتربيتها عيال عليه ،جاءت توشيحات الشيخ ابي زاهد لتزيده فائدة وحسن اثر.
4- التصريح بما تواتر في نزول المسيح لمحمد أنور الكشميري، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1385-1965 بحلب
5- إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة للإمام اللكنوي طبع بحلب سنة 1966-1386
6- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للإمام القرافي وطبع طبعتان أولاهما سنة 1387-1967 بحلب
7- فتح باب العناية بشرح كتاب النقاية في الفقه الحنفي للملا علي القاري الهروي المكي، طبع الجزء الأول بحلب محققاً سنة 1387-1967، ولم يقدر للشيخ أن يتمه تحقيقاً ثم طبع في لبنان دون تحقيق
8- قاعدة في الجرح والتعديل للحافظ تاج الدين السبكي، وطبع 5 طبعات أولها ببيروت سنة 1388-1968
9- المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن قيم الجوزية، وطبع 5 طبعات أولها سنة 1389-1969 في بيروت
10- المصنوع في معرفة الحديث الموضوع للإمام ملا علي القاري، وطبع 3 طبعات أولها سنة 1389-1969 بحلب
11- فقه أهل العراق وحديثهم للأستاذ محمد زاهد الكوثري و طبع ببيروت سنة 1390-1970
12- خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ الخزرجي طبع مصوراً أربع مرات أولها ببيروت سنة 1390-1970 مع مقدمة ضافية وتصحيح أغلاط وتحريفات كثيرة .
13- قواعد في علوم الحديث لمولانا ظفر الله التهانوي، وطبع 6 طبعات أولها ببيروت سنة 1392-1972 وترجم بعضه إلى التركية
14- المتكلمون في الرجال للحافظ السخاوي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980
15- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للحافظ الذهبي، وطبع 4 طبعات أولها ببيروت سنة 1400-1980
16- قصيدة عنوان الحكم لأبي الفتاح البستي أولها ببيروت سنة 1404-1984(4/132)
17- الموقظة في علم مصطلح الحديث للحافظ الذهبي وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1405-1985
18- سنن الإمام النسائي طبعه الشيخ مصوراً ومفهرساً، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1406-1986
19- الترقيم وعلاماته للعلامة أحمد زكي باشا، وطبع طبعتان أولاهما سنة 1407-1987 ببيروت
20- سباحة الفكر بالجهر بالذكر للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع 3 طبعات أولها ببيروت سنة 1408-1988
21- قفو الأثر في صفو علم الأثر ابن الحنبلي، وطبع طبعتان أولاهما ببيروت سنة 1408-1988
22- بلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب للحافظ الزبيدي، و طبع ببيروت سنة 1408-1988
23- جواب الحافظ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل، وطبع ببيروت سنة 1411-1991
24- التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن للعلامة الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي، و طبع ببيروت سنة 1412-1992
25- تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ومعه حاشيته نخبة الأنظار على تحفة الأخبار للإمام عبد الحي اللكنوي، وطبع ببيروت سنة 1412-1992
26- التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز للشيخ زاهد الكوثري، و طبع ببيروت سنة 1413-1994
27- تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة للعلامة أحمد شاكر، وطبع ببيروت سنة 1414-1994
28- تحفة النساك في فضل السواك للعلامة الميداني، و طبع ببيروت سنة 1414-1993
29- كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس للعلامة عبد الغني الميداني، وطبع ببيروت سنة 1414-1993
30- العقيدة الإسلامية التي ينشأ عليها الصغار للإمام ابن أبي زيد القيرواني و طبع طبعتان أولاها ببيروت سنة 1414-1993
31- الحث على التجارة والصناعة والعمل للإمام أبي بكر الخلال الحنبلي، و طبع ببيروت سنة 1415-1995
32- توجيه النظر إلى أصول الأثر تأليف الشيخ طاهر الجزائري وطبع ببيروت سنة 1416-1995
33- ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني للإمام عبد الحي اللكنوي وطبع ببيروت سنة 1416-1995
34- رسالة الألفة بين المسلمين للإمام ابن تيمية ومعها رسالة في الإمامة للإمام ابن حزم الظاهري، وطبع ببيروت سنة 1417-1996
35- مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث للشيخ العلامة المحدث محمد عبد الرشيد النعماني، وطبع ببيروت سنة 1416-1996
36- الحلال والحرام وبعض قواعدهما في المعاملات المالية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وطبع ببيروت سنة 1416-1996
37- شروط الأئمة الخمسة للحازمي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
38- شروط الأئمة الستة للحافظ ابن طاهر المقدسي، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
39- كتاب الكسب للإمام محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألحق الشيخ به رسالة الحلال والحرام وبعض قواعدهما، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
40- ثلاث رسائل في استحباب الدعاء ورفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
41- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء للإمام ابن عبد البر، وقد صدر بعد وفاة الشيخ سنة 1417-1997
42- خطبة الحاجة ليست سنة في مستهل الكتب والمؤلفات كما قال الشيخ ناصر الألباني، وهذه الرسالة نشرت بعد وفاة الشيخ ضمن مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر .
ـ الشيخ المعلم
كان الشيخ رحمه الله تعالى معلم أجيال، ومؤسس مدرسة علمية في مدينته حلب الشهباء، قامت على الوسطية والمنهجية والانفتاح. وعلى الرغم من أن الشيخ حنفي المذهب، ويعيش وسط بيئة يسود فيها المذهب الحنفي، إلا أنه أسس بمنهجيته العلمية لموقف علمي شعبي منفتح يتجاوز كثيراً من العنعنات والتعصبات المذهبية.
كان يصر في منهجيته على اعتماد الدليل، والمقارنة بين المذاهب، يربط الحكم بدليله، ويقارن بين أقوال العلماء وأصحاب المذاهب..(لا تقولوا قال الشيخ..) كانت تلك عبارته وإنما احفظوا الدليل لتقولوا (قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم).
في تعليمه وتربيته كان يذكر سلف الأمة أجمع بالخير والتقدير، ويغضي عن كل الخلافات التي كانت تكون في العصور.. كان ابن تيمية رحمه الله تعالى موضع ازورار البيئة العلمية التي يعيش فيها الشيخ، وكان مشايخ الدولة العثمانية الشيخ (مصطفى صبري) والشيخ (محمد زاهد الكوثري) من أشد الناس ازوراراً عن ابن تيمية، ولكن الشيخ أبا زاهد أماط كل هذا عن شخصية ابن تيمية، وقدمه لتلامذته عالماً عاملاً مجاهداً له مكانته (الإصلاحية) و(الفقهية) و(الجهادية). يقول في هذا راداً الفضل لأهله (والذي نبهني إلى مكانة ابن تيمية وعلمه وفضله شيخي الشيخ نجيب سراج الدين رحمه الله..) والشيخ نجيب سراج الدين من علماء حلب، بل عالم حلب في وقته، وقد ورّث العلم من بعده لولده عبد الله سراج الدين رحمهما الله تعالى.
كان الشيخ رحمه الله تعالى متواضعاً في تعليمه، متألفاً لقلوب متابعيه وتلامذته، فكان إذا شعر أن مسألة ما غمضت عليهم، وعجزوا عن استيعابها قال (أنا لا أُفهم.. أنا لا أُفهم، أُعيد)، ثم يعيد المسألة، فينسب التقصير لنفسه، ويبرأ منه تلامذته.
وإلى جانب هذا التواضع كان يقرن اللطف بالتنبيه والإرشاد.. كان كثيراً ما يروي حديث الأعرابي (الذي تكلم في الصلاة) وقول هذا الأعرابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فما زجرني وما نهرني وما زاد على أن قال إن الصلاة عبادة لا يصح فيها شيء من أمور الناس..)
إذا لحظ أن أحد المصلين لا يعطي الركوع حقه سأله بلطف: (هل تشتكي من ألم في الظهر..) وإذا رأى عالماً على غير مذهبه يخالف المشهور مما عليه العمل سأله برفق (هل عندكم في هذا الأمر شيء ؟!)(4/133)
وكان رحمه الله في فتواه معلماً وواعظاً، يتصدى لعادات المجتمع البالية بروح نقدية لاذعة. كانت (أيمان الطلاق) من أشد ما يحمل عليه الشيخ ويقرع الحضور من أجله محذراً ومستهجناً (يحلف أحدهم بالطلاق عدد حبات كيس الأرز ليمارس رجولته..) ثم يقف أمام الشيخ (دبرني..) وبعد أن يشدد النكير يطلب المستفتي ليلقاه على انفراد.
أسلوبه التعليمي المتفرد، ومزجه الجد بشيء من اللطائف المحببة، واستشهاده بالأبيات السائرة، جعل خطبه ودروسه قبلة الشباب والمثقفين، فربى جيلاً، وفتح أعيناً وقلوباً على مقاصد الشريعة، وقواعد العلم، وحقائق العصر ،من غير إفراط ولا تفريط. كان يعجبه أن يردد أمام (المقصر) و(الغالي): (هوناً ما..) مكرراً قول الإمام علي رضي الله عنه: (أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون عدوك يوماً ما. وابغض عدوك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما..).
كان يؤكد على السمو العقلي المتفتح في شخصية المسلم، وألا يترك نفسه تنحاز به إلى السفاسف والصغائر، حمل إليه أحد الخلطاء يوماً صورة لمقطع حبة بندورة ارتسم فيها صورة للفظة (الله)، وقد احتفت بها إحدى الصحف، ونسخت صوراً عنها ووزعتها.. قال الشيخ معلقاً (إن المسلم ينبغي أن يكون أعقل من أن يؤخذ بمثل هذا!! وإن الإسلام أعظم من أن يستدل على صحته بهذه الصورة !!)
وبين العقل والشرع يؤكد الشيخ على وزن الأمور بميزانها ويكثر من الاستشهاد بقول القائل..
وزن بميزان الشرع كل خاطر
وقول الآخر:
رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع
ـ الشيخ العامل:
العالم العامل، من الألقاب العزيزة في عصر قل فيه العلماء، وندر العاملون. فعلى الرغم من استغراق الشيخ رحمه الله تعالى في تحصيل العلم ونشره تأليفاً وتدريساً ومتابعة ؛ إلا أن ذلك لم يمنعه أن ينخرط في صفوف الدعاة العاملين، فكان منذ مبتدأ أمره أحد أركان دعوة الإخوان المسلمين في سورية. يمنحها وقته وجهده ومشورته وتأييده وتسديده وكلَّ ما تطلبه منه.
كان انتسابه إلى هذه الجماعة، وإيمانه بدورها، ومكانتها لا حدود له. يقول عنها أمام بعض إخوانه وقد دب إليهم النَّصَب وعوامل اليأس أثناء محنة طويلة (.. إنها غرسة يد مباركة هي يد الإمام الشهيد حسن البنا، وهي غرسة يجب أن تستمر..)
في إطار العمل الدعوي يلقى الداعية من إخوانه أحياناً بعض ما يذكر بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال (رحم الله أخي موسى فقد أوذي أكثر من ذلك فصبر). ولقي الشيخ رحمه الله تعالى في هذا الإطار الكثير. واحتسب ذلك عند الله تعالى من غير شكوى ولا هجر. كما لقي من أعداء الدعوة السجن والتشريد والإبعاد عن الوطن فاحتمل كل ذلك راضياً محتسباً.
في إطار العمل الدعوي وكان الشيخ رحمه الله تعالى خلال إقامته في سورية مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر فضيلة الشيخ عبد الفتاح.
وكانت له في مدينة حلب إلى جانب خطبة الجمعة الأسبوعية، التي كان يلقيها على منبر الجامع الحموي أولاً، وجامع الثانوية الشرعية ثانيا، ثلاثة دروس أسبوعية: مجلس للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة فيها أسئلة وأجوبة، تغطي حياة المسلمين الخاصة والعامة، يجيب الشيخ فيها على جميع التساؤلات بمنهج رشيد سديد، يربط الفتوى بدليلها الشرعي، وبالعصر الذي يعيشه المسلمون، ممعناً في الترغيب والترهيب والتوجيه. ودرس للفقه يوم الاثنين، حيث كان الشيخ يغمر الحاضرين بواسع علمه، في المقارنة بين المذاهب، وذكر الأدلة، والترجيح بين الأقوال. ودرس ثالث في الحديث والتربية والتهذيب يوم الخميس، وجمهور كبير من الشباب يواظب على هذه الدروس، يستفيدون من الشيخ تربية وتهذيباً وعلماً.
على ساحة العمل العام وصل الشيخ إلى مجلس النواب في أوائل الستينات. وكان رحمه الله في الحقل العام مثال السياسي المتبصر الجريء. وقد تشكلت يومها القائمة التعاونية في حلب، وكان في القائمة مسلمون ومسيحيون. وخطب الشيخ في المساجد كما في الكنائس مد للاً على رؤية وطنية شمولية راسخة. وكان تفاعل الشيخ وإخوانه في المجلس النيابي مؤكداً منهج جماعة الاخوان المسلمين الوطني، بالقبول بالتعددية السياسية، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
وفي إطار الجهد العام أيضاً سعى الشيخ أكثر من مرة لجمع كلمة العلماء في حلب، ولتشكيل رابطة حقيقية للعلماء تجمع شملهم وتوظف جهدهم في خدمة الشأن الإسلامي. ولكن هذا المنحى لم ينجح لأسباب وظروف عامة.
في بدايات عهد الاستبداد كان للشيخ جولات في صراع الباطل والتصدي للهجمة الانفعالية المضادة للإسلام، والتي مثلها فريق من الموتورين بطروحات وشعارات مغرقة في الكفر والاستفزاز لمشاعر الشعب العربي السوري. وكان يردد في مسامع الذين يتهددونه في شخصه صباح مساء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
في شخصيته القيادية كان الشيخ رحمه الله تعالى قائداً حازماً بصيراً، واضح الرؤية، بعيد الغور، حكيماً لا تستخفه المطامع القريبة، ولا المصالح العاجلة، امتلك ناصية فقه المصالح والمفاسد الذي لا يكون المرء فقيهاً إلا به، على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (لا يكون الرجل فقيهاً حقاً إلا إذا عرف أكبر المصلحتين ففوت عند التعارض أدناهما، وعرف أعظم المفسدتين فدرأ عند التعارض أعظمهما).(4/134)