هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . { إلا الذين ظلموا منهم } فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفاً كل ما قاله فيهم وهو في مكة! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .
{ وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون } . .
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .(1)
=============
تحريم طاعة الكافرين
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) ( الأحزاب)}
هذه الأشياء، التي وصف الله بها رسوله محمدًا صلى اللّه عليه وسلم، هي المقصود من رسالته، وزبدتها وأصولها، التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه { شَاهِدًا } أي: شاهدًا على أمته بما عملوه، من خير وشر، كما قال تعالى: { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول.
الثاني، والثالث: كونه { مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك.
فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم.
وذلك كله يستلزم، ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب.
والْمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية، المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل.
وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم، من الكتاب والسنة، المشتمل على ذلك.
الرابع: كونه { دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ } أي: أرسله اللّه، يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته، التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته، على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم [ ص 668 ] بصفاته المقدسة، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره.
الخامس: كونه { سِرَاجًا مُنِيرًا } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم، يستدل به في جهالاتها حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالا إلى الصراط المستقيم.
فأصبح أهل الاستقامة، قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة.
وقوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا } ذكر في هذه الجملة، المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة.
وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النعم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 467)(1/240)
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم، من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عونًا على الكف عما حرم اللّه.
ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه، من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهرًا وباطنًا، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك فقال: { وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له، ولأهله.
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.(1)
===============
الله يحكم بين الناس
قال تعالى :{ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) ( الزمر)}
يخبر تعالى عن عظمة القرآن، وجلالة من تكلم به ونزل منه، وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم، أي: الذي وصفه الألوهية للخلق، وذلك لعظمته وكماله، والعزة التي قهر بها كل مخلوق، وذل له كل شيء، والحكمة في خلقه وأمره.
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه، والكلام وصف للمتكلم، والوصف يتبع الموصوف، فكما أن اللّه تعالى [ ص 718 ] هو الكامل من كل وجه، الذي لا مثيل له، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له، فهذا وحده كاف في وصف القرآن، دال على مرتبته.
ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب، وبما نزل به، وهو الحق، فنزل بالحق الذي لا مرية فيه، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور، ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق، من جميع المطالب العلمية، وما بعد الحق إلا الضلال.
ولما كان نازلا من الحق، مشتملا على الحق لهداية الخلق، على أشرف الخلق، عظمت فيه النعمة، وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين للّه، فلهذا قال: { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } أي: أخلص للّه تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
{ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن اللّه بريء منه، وليس للّه فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، [معتذرين] (1) عن أنفسهم وقائلين: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } أي: لترفع حوائجنا للّه، وتشفع لنا عنده، وإلا فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئا.
أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء، الملك العظيم، بالملوك، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم، أن الملوك كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء، ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك، أن اللّه تعالى كذلك.
وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلا ونقلا وفطرة، فإن الملوك، إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاج من يعلمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة، فيحتاج من يعطفهم عليه [ويسترحمه لهم] (2) ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم، مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم، وهم أيضا فقراء، قد يمنعون لما يخشون من الفقر.
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 667)(1/241)
وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها، الذي لا يحتاج من يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو تعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحما لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم، وهو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق من أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلا منهم ما سأل وتمنى، لم ينقصوا من غناه شيئا، ولم ينقصوا مما عنده، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط.
وجميع الشفعاء يخافونه، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها.
فبهذه الفروق يعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدة جراءتهم عليه.
ويعلم أيضا الحكمة في كون الشرك لا يغفره اللّه تعالى، لأنه يتضمن القدح في اللّه تعالى، ولهذا قال حاكما بين الفريقين، المخلصين والمشركين، وفي ضمنه التهديد للمشركين-: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
وقد علم أن حكمه أن المؤمنين المخلصين في جنات النعيم، ومن [ ص 719 ] يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة، ومأواه النار. { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي } أي: لا يوفق للهداية إلى الصراط المستقيم { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي: وصفه الكذب أو الكفر، بحيث تأتيه المواعظ والآيات، ولا يزول عنه ما اتصف به، ويريه اللّه الآيات، فيجحدها ويكفر بها ويكذب، فهذا أنَّى له الهدى وقد سد على نفسه الباب، وعوقب بأن طبع اللّه على قلبه، فهو لا يؤمن؟"(1)
والخالص والمخلص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر ، واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون ، واعلم أن الضمير في قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله ، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء ، أما العقلاء فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيزاً والملائكة ، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة ، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام ، إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء ، أما بغير العقلاء فلا يليق ، وبيانه من وجهين الأول : أن الضمير في قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ } ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني : أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار في المسيح والعزيز والملائكة أن يشفعوا لهم عند الله ، أما يبعد من العاقل أن يعتقد في الأصنام والجمادات أنها تقربه إلى الله ، وعلى هذا التقدير فمرادهم أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله ، ويمكن أن يقال إن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر ، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية ، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صوراً لها .
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا : إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر لكن اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية ، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر ، فهذا هو المراد من قولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى } .
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه : الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وكان مصراً عليه ، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن قلبه ، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه ، فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود . والأطباء يقولون : لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام ، فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مجرى سقي المنضج أولاً ، وإسماع الدليل ثانياً يجري مجرى سقي المسهل ثانياً . فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 717)(1/242)
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ } والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية ، والمراد بهذا الكذب وصفهم لهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها ، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض ، وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الاعتقاد ، والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب ، واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر . ويحتمل أن يكون المراد كفران النعمة ، والسبب فيه أن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالاشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق .(1)
أى : أنزلنا إليك - أيها الرسول الكريم - هذا الكتاب بالحق الذى لا يشوبه باطل ، وما دام الأمر كذلك فعليك أن تخلص لربك عبادتك وطاعتك ودينك إخلاصا تاما ، لا يحوم حوله رياء أو تفاخر ، أو غير ذلك مما يتنافى مع إخلاص الخضوع لله - تعالى - وحده .
قال الشوكانى : وفى الآية دليل على وجوب النية ، وإخلاصها من الشوائب لأن الإِخلاص من الأمور القلبية التى لا تكون إلا بأعمال القلب ، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر فى الأقوال والأفعال النية ، كما فى حديث : " إنما الأعمال بالنيات " وحديث : " لا قول ولا عمل إلا بنية " .
وجملة { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } مؤكدة ومقررة لمضمون ما قبلها من وجوب إفراد العبادة والطاعة لله - تعالى - : وزادها تأكيداً وتقريراً لما قبلها تصديرها بأداة الاستفتاح { ألا } واشتمالها على أسلوب القصر .
أى : ألا إن الله - تعالى - وحده - وليس لأحد سواه - الدين الخالص من شوائب الشرك والرياء . والعبادة لوجهه وحده ، والخضوع لقدرته التى لا يعجزها شئ .
ثم بين - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . . }
فالمراد بالموصول المشركون ، ومحله الرفقع على الابتداء ، وخبره قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وجملة { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } فى محل نصب على الحال بتقدير القول ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل . والزلفى : اسم أقيم مقام المصدر الذى يتلاقى معه فى المعنى ، والمأخوذ من قوله { لِيُقَرِّبُونَآ } .
أى : لله - تعالى - وحده الدين الخالص ، والمشركون الذين اتخذوا معبودات باطلة ليعبدوها من دون الله ، كانوا يقولون فى الرد على من ينهاهم عن ذلك : إننا لا نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها ، لكى تقربنا إلى الله قربى ، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن .
{ إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أى : بين هؤلاء المشركون وبين غيرهم من المؤمنين الذين أخلصوا لله - تعالى -العبادة والطاعة { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر التوحيد والشرك ، بأن يجازى المؤمنين بحسن الثواب ، ويجازى الكافرين بسوء العقاب .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { لاَ يَهْدِي } أى : لا يوفق للاهتداء للحق { مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } .
أى : من كان دائم الكذب على دين الله ، شديد الجحود لآيات الله وبراهينه الدالة على وحدانيته ، وعلى أنه لا رب لهذا الكون سواه .(2)
إن القلب الذي يوحد الله ، يدين لله وحده ، ولا يحني هامته لأحد سواه ، ولا يطلب شيئاً من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه . فالله وحده هو القوي عنده ، وهو القاهر فوق عباده . والعباد كلهم ضعاف مهازيل ، لا يملكون له نفعاً ولا ضراً؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم . وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . والله وحده هو المانح المانع ، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء .
والقلب الذي يوحد الله ، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه . ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم ، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة .
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه؛ ويحس يد الله في كل ما حوله ، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله . خالق كل شيء ، ومحيي كل حي . ربه ورب كل شيء وكل حي . .
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ، كما تبدو في السلوك والتصرفات . وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً . ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان . ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله : وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ، في كل عصر ، وفي كل بيئة . فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك .
{ ألا لله الدين الخالص } . .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 13 / ص 224)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3641)(1/243)
يعلنها هكذا مدوية عالية في ذلك التعبير المجلجل . بأداة الافتتاح { ألا } وفي أسلوب القصر { لله الدين الخالص } . فيؤكد معناها بالبناء اللفظي للعبارة . . فهي القاعدة التي تقوم عليها الحياة كلها . بل التي يقوم عليها الوجود كله . ومن ثم ينبغي أن ترسخ وتتضح وتعلن في هذا الأسلوب الجازم الحاسم : { ألا لله الدين الخالص } . .
ثم يعالج الأسطورة المعقدة التي كان المشركون يواجهون بها دعوة التوحيد .
{ والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون . إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } . .
فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض . . ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة ، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك . إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه . ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها . ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة ليست عبادة لها في ذاتها؛ إنما هي زلفى وقربى لله . كي تشفع لهم عنده ، وتقربهم منه!
وهو انحراف عن بساطة الفطرة واستقامتها ، إلى هذا التعقيد والتخريف . فلا الملائكة بنات الله . ولا الأصنام تماثيل للملائكة . ولا الله سبحانه يرضى بهذا الانحراف . ولا هو يقبل فيهم شفاعة . ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق!
وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول . وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة أو تماثيل الملائكة تقرباً إلى الله بزعمهم وطلباً لشفاعتهم عنده . وهو سبحانه يحدد الطريق إليه . طريق التوحيد الخالص الذي لا يتلبس بوساطة أو شفاعة على هذا النحو الأسطوري العجيب!
{ إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } . .
فهم يكذبون على الله . يكذبون عليه بنسبة بنوة الملائكة إليه؛ ويكذبون عليه بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده! وهم يكفرون بهذه العبادة؛ ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح .
والله لا يهدي من يكذب عليه ، ويكفر به . فالهداية جزاء على التوجه والإخلاص والتحرج ، والرغبة في الهدى ، وتحري الطريق . فأما الذين يكذبون ويكفرون فهم لا يستحقون هداية الله ورعايته . وهم يختارون لأنفسهم البعد عن طريقه .(1)
=============
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
قال تعالى :{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) ( الشورى)}
{ فَلِذَلِكَ فَادْعُ } أي: فللدين القويم والصراط المستقيم، الذي أنزل الله به كتبه وأرسل رسله، فادع إليه أمتك وحضهم عليه، وجاهد عليه، من لم يقبله، { وَاسْتَقِمْ } بنفسك { كَمَا أُمِرْتَ } أي: استقامة موافقة لأمر الله، لا تفريط ولا إفراط، بل امتثالا لأوامر الله واجتنابا لنواهيه، على وجه الاستمرار على ذلك، فأمره بتكميل نفسه بلزوم الاستقامة، وبتكميل غيره بالدعوة إلى ذلك.
ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأمته إذا لم يرد تخصيص له.
{ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أي: أهواء المنحرفين عن الدين، من الكفرة والمنافقين إما باتباعهم على بعض دينهم، أو بترك الدعوة إلى الله، أو بترك الاستقامة، فإنك إن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين، ولم يقل: "ولا تتبع دينهم" لأن حقيقة دينهم الذي شرعه الله لهم، هو دين الرسل كلهم، ولكنهم لم يتبعوه، بل اتبعوا أهواءهم، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا.
{ وَقُلْ } لهم عند جدالهم ومناظرتهم: { آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } أي: لتكن مناظرتك لهم مبنية على هذا الأصل العظيم، الدال على شرف الإسلام وجلالته وهيمنته على سائر الأديان، وأن الدين الذي يزعم أهل الكتاب أنهم عليه جزء من الإسلام، وفي هذا إرشاد إلى أن أهل الكتاب إن ناظروا مناظرة مبنية على الإيمان ببعض الكتب، أو ببعض الرسل دون غيره، فلا يسلم لهم ذلك، لأن الكتاب الذي يدعون إليه، والرسول الذي ينتسبون إليه، من شرطه أن يكون مصدقا بهذا القرآن وبمن جاء به، فكتابنا ورسولنا لم يأمرنا إلا بالإيمان بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل، التي أخبر بها وصدق بها، وأخبر أنها مصدقة له ومقرة بصحته.
وأما مجرد التوراة والإنجيل، وموسى وعيسى، الذين لم يوصفوا لنا، ولم يوافقوا لكتابنا، فلم يأمرنا بالإيمان بهم.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 222)(1/244)
وقوله: { وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم، يا أهل الكتاب من العدل بينكم، ومن العدل في الحكم، بين أهل الأقوال المختلفة، من أهل الكتاب وغيرهم، أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل، { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي: هو رب الجميع، لستم بأحق به منا. { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } من خير وشر { لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي: بعد ما تبينت الحقائق، واتضح الحق من الباطل، والهدى من الضلال، لم يبق للجدال والمنازعة محل، لأن المقصود من الجدال، إنما هو بيان الحق من الباطل، ليهتدي الراشد، ولتقوم الحجة على الغاوي، وليس المراد بهذا أن أهل الكتاب لا يجادلون، كيف والله يقول: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وإنما المراد ما ذكرنا.[ ص 756 ]
{ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } يوم القيامة، فيجزي كلا بعمله، ويتبين حينئذ الصادق من الكاذب.(1)
قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَا أُمِرْتَ } يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين ، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها ، كما أمرك الله ، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة { وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب } أي بأي كتاب صح أن الله أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ونظيره قوله { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } إلى قوله { أولئك هُمُ الكافرون } [ النساء : 151 ] ثم قال : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي ، قل القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله ، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه ، لكني أسوي بينكم وبين نفسي ، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله .
ثم قال : { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير } والمعنى أن إله الكل واحد ، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه ، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله ، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه ، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ، ودخل فيه التوحيد ، وترك عبادة الأصنام ، والإقرار بنبوة الأنبياء ، وبصحة البعث والقيامة ، فلما لم يقبلوا هذا الدين ، فحينئذٍ فات الشرط ، فلا جرم فات المشروط .
وأعلم أنه ليس المراد من قوله { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ، ويدل عليه وجوه الأول : أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة ، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة ، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني : أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث : أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه ، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً ، فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة ، ومما يقوي قولنا : أنه لا يجوز تحريم المحاجة ، قوله { وجادلهم بالتي هِىَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ } [ النحل : 125 ] وقوله { ولا تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] وقوله { يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] وقوله { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 755)(1/245)
ثم قال تعالى : { والذين يُحَاجُّونَ فِي الله } أي يخاصمون في دينه { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد ليست متفقاً عليها ، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى ، وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى ، فبيّن تعالى أن هذه الحجة داحضة ، أي باطلة فاسدة ، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وفق قوله ، وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق ، فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته . وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً ، ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة ، فقال : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات ، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم ، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك ، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك ، وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية : فمتى تقوم القيامة ، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه ، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } والمعنى ظهر ، وإنما يشفقون ويخافون لعلمهم أن عندها تمتنع التوبة ، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف .(1)
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء . القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت . تدعو إلى الله على بصيرة . وتستقيم على أمر الله دون انحراف . وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك . القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق . والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد ، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد : { وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب } . . ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل . { وأمرت لأعدل بينكم } . . فهي قيادة ذات سلطان ، تعلن العدل في الأرض بين الجميع . ( هذا والدعوة بعد في مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها . ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة ) . وتعلن الربوبية الواحدة : { الله ربنا وربكم } . . وتعلن فردية التبعة : { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } . . وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل : { لا حجة بيننا وبينكم } . . وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير : { الله يجمع بيننا وإليه المصير } . .
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة ، في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق . فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر . وجاءت لتهيمن فتحقق العدالة في الأرض . وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات .(2)
==============
الصفح عن الكفار إلى حين
قال تعالى :{ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ( الجاثية)}
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها وما روى عن ابن عباس أنها نزلت فى عمر بن الخطاب ، شتمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهَّم أن يبطش به ، فنزلت .
ومقول القول محذوف لأن الجواب دال عليه . والرجاء هنا : بمعنى الخوف . والمراد بأيام الله : وقائعة بأعدائه .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لأتباعك المؤمنين ، على سبيل النصح والإِرشاد ، قل لهم : اغفروا يغفروا للمشركين الذن لا يخافون من وقائع الله ونقمته بأعدائه ، ولا يتوقعون أن هناك عذابا شديدا سينتظرهم ، ون هناك ثوابا عظيما سينتظر المؤمنين .
فالآية الكريمة توجيه حكيم للمؤمنين إلى التسامح والصبر على كيد أعدائهم ، حتى يأتى الله - تعالى - بأمره ، الذى فيه النصر للمؤمنين ، والخسران للكافرين .
وقوله - سبحانه - : { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } علة للأمر بالصفح والمغفرة ، وهو متعلق بما قبله ، والمراد بالقوم : المؤمنون الذين أمروا بالتسامح والعفو . . والتنكير فى لفظ { قَوْماً } للتعظيم .
أى : أمر الله المؤمنين بذلك ، ليجزيهم يوم القيامة بما سكبوا فى الدنيا من الأعمال الصالحة ، التى منها الصبر على أذى أعدائهم ، والإِغضاء عنهم ، واحتمال المكروه منهم .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لِيَجْزِيَ قَوْماً } تعليل للأمر بالمغفرة أى إنما أمروا بأن يغفروا ، لما أراده الله من توفيتهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة .
فإن قلت : قوله : { قَوْماً } ما وجه تنكيره ، وإنما أراد الذين آمنوا وهم معارف؟
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 13 / ص 424)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 318)(1/246)
قلت : هو مدح لهم وثناء عليهم ، كأنه قيل : لجيزى أيما قوم . أو قوما مخصوصين ، لصبرهم وإضائهم على أعدائهم من الكفار ، وعلى ما كانوا يجرعونهم من الغصص .
ثم عقب - سبحانه - على ذلك بما يؤكد عدالة الجزاء ، واحتمال كل نفس لما تعمله فقال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } .
أى : من عمل عملا صالحا ، فثواب هذا العمل يعد إلى نفسه ، ومن عمل سيئا فعقاب هذا العمل يعود عليها - أيضا - .
{ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } يوم القيامة فترون ذلك رأى العين ، وتشادون أن كل إنسان سوف يجازى على حسب عمله ، إن هيرا فخير ، وإن شراً فشر .(1)
وقال الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : نَسَخَتْهَا { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قُرِئَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } وقَوْله تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وقَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } .
قَالَ : نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ } الْآيَةُ ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } وقَوْله تَعَالَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وقَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُتَارَكَةً .
فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا أُنْزِلَتْ قَبْلَ لُزُومِ فَرْضِ الْقِتَالِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَضُ الدُّعَاءَ إلَى الدِّينِ حِينَئِذٍ بِالْحِجَاجِ وَالنَّظَرِ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ ، وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } وقَوْله تَعَالَى : { قَالْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَظْهَرْهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقِتَالِ بَعْدَ قَطْعِ الْعُذْرِ فِي الْحِجَاجِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَهُمْ حِينَ اسْتَقَرَّتْ آيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي وَالدَّانِي وَالْقَاصِي بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ الَّتِي لَا يُكَذَّبُ مِثْلُهَا وَسَنَذْكُرُ فَرْضَ الْقِتَالِ عِنْدَ مَصِيرِنَا إلَى الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .(2)
وقال ابن العربي :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ اغْفِرُوا ] يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3842)
(2) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 1 / ص 147)(1/247)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .(1)
في هذه الآية توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله . تسامح المغفرة والعفو . وتسامح القوة والاستعلاء . وتسامح الكبر والارتفاع . والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحياناً بحرمانهم من ذلك النبع الفياض ، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء . نبع الإيمان بالله ، والطمأنينة إليه ، والاحتماء بركنه ، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق . وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات . والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره ، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات .
هذا من جانب . ومن الجانب الآخر ، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته . ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات . ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض ، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال :{ ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون } . .
ويعقب على هذا بفردية التبعة ، وعدالة الجزاء ، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف :
{ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون } . .
بذلك يتسع صدر المؤمن ، ويرتفع شعوره؛ ويحتمل المساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين المطموسين ، في غير ضعف ، وفي غير ضيق . فهو أكبر وأفسح وأقوى . وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور ، وحامل بلسم الشفاء للمحرومين من النبع ، وهو مجزيٌّ بعمله ، لا يصيبه من وزر المسيء شيء . والأمر لله في النهاية ، وإليه المرجع والمآب .(2)
(((((((((((
عاشراً- الحكمة في الدعوة
1-الامتناع عن إثارة الخصم
قال تعالى :{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) ( الأنعام)}
قَالَ السُّدِّيُّ : لَا تَسُبُّوا الْأَصْنَامَ فَيَسُبُّوا مِنْ أَمْرِكُمْ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَيْبِهَا .
وَقِيلَ : { لَا تَسُبُّوا الْأَصْنَامَ فَيَحْمِلُهُمْ الْغَيْظُ وَالْجَهْلُ عَلَى أَنْ يَسُبُّوا مَنْ تَعْبُدُونَ كَمَا سَبَبْتُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ } .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحِقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ سَبِّ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ يَتَسَرَّعُونَ إلَى سَبِّهِ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ لَهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .(3)
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ ؛ فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ ، وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَسُبَّنَّ إلَهَكُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [ يَكُونُ ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ ؟ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ ، اخْتِصَارُهُ : أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(4)
================
2-الدعوة بلسان القوم وبما يفهمونه
قال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) ( إبراهيم)}
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 124)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 401)
(3) - أحكام القرآن للجصاص - (ج 6 / ص 222)
(4) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 3 / ص 440)(1/248)
وهذا من لطفه بعباده أنه ما أرسل رسولا { إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ما يحتاجون إليه، ويتمكنون من تعلم ما أتى به، بخلاف ما لو كانوا على غير لسانهم، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها، ثم يفهمون عنه، فإذا بين لهم الرسول ما أمروا به، ونهوا عنه وقامت عليهم حجة الله { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ } ممن لم ينقد للهدى، ويهدي من يشاء ممن اختصه برحمته.
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الذي -من عزته- أنه انفرد بالهداية والإضلال، وتقليب القلوب إلى ما شاء، ومن حكمته أنه لا يضع هدايته ولا إضلاله إلا بالمحل اللائق به.
ويستدل بهذه الآية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس بحالة لا يحتاجون إليها، وذلك إذا تمرنوا على العربية، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم.(1)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة : { كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان ، فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين . أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق ، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم ، فإنه متى كان الأمر كذلك ، كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل ، وعن الغلط والخطأ أبعد . فهذا هو وجه النظم .
المسألة الثانية : احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية . قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل ، وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم ، وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف ، فوجب حصولها بالإصطلاح .
المسألة الثالثة : زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ، ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه . الثاني : قالوا : إن قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم : 4 ] المراد بذلك اللسان لسان العرب ، وذلك يقتضي أن يقال : إنه ليس له قوم سوى العرب ، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط .
والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد من { قَوْمِهِ } أهل بلده ، وليس المراد من { قَوْمِهِ } أهل دعوته . والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] بل إلى الثقلين ، لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 421)(1/249)
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا بقوله تعالى : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } على أن الضلال والهداية من الله تعالى ، والآية صريحة في هذا المعنى . قال الأصحاب : ومما يؤكد هذا المعنى ما روي : أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال عليه السلام " ما هذا " فقال بعضهم : يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ، ويقول : عمر كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر ، فتعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ، ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال : " أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل ، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما " قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ } والمعنى : أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم ، فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل ، وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين ، فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود . والثاني : أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك ، وما المقصود من إرسالك ، وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل . الثالث : أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته ، وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وذلك لا يقوله عاقل . والرابع : أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدل على مذهب العدل ، وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه ، وهو قوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ } على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل ، وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [ البقرة : 26 ] ولا بأس بإعادة بعضها ، فالأول : أن المراد بالإضلال : هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال : فلان يكفر فلاناً ويضلله ، أي يحكم بكونه كافراً ضالاً ، والثاني : أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار ، والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة . والثالث : أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله ، والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه . قال صاحب «الكشاف» : المراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف .
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } لا يليق به أن يضلهم .
قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه ، وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته . ونظيره قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله } [ التوبة : 32 ] فقوله : { ويأبى الله } في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ، لأنه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ، ونظيره أيضاً قوله : { لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الأرحام } [ الحج : 5 ] ومن ذلك قولهم : أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ، ومثله قول الشاعر :
يريد أن يعربه فيعجمه ... إذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } ثم قال : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاءُ } ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى ، كأنه تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى . أما قوله ثانياً : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له : ما الفائدة في بيانك ودعوتك؟ فنقول : يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً ، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً . وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان ، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه . وأما قوله ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً ، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .(1/250)
قلنا : ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله ، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا ، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً . وأما قوله رابعاً : إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدل على صحة الاعتزال فنقول : قد ذكرنا أن قوله : { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } يدل على صحة مذهب أهل السنة . وأما قوله خامساً : أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له . فنقول : وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم ، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً . فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة .(1)
بين - سبحانه - منه أخرى من مننه على عباده فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ . . . } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر فى أول السورة { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور . . . } كان هذا إنعاما على الرسول ، من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم ، وإنعاما على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر . . .
ثم ذكر فى هذه الآية ما يجرى مجرى تكميل النعمة والإِحسان فى الوجهين :
أما بالنسبة إلى الرسول ، فلأن بعثته كانت إلى الناس عامة . .
وأما بالنسبة لعامة الخلق ، فلأنه - سبحانه - ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم . . . " .
والباء فى قوله " بلسان " للملابسة ، والمراد باللسان : اللغة التى يتخاطب بها الرسول مع قومه . .
قال ابن كثير : " هذا من لطفه - تعالى - بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغتهم ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم كما قال الإِمام أحمد .
حدثنا وكيع ، عن عمر بن أبى ذر قال : قال مجاهد : عن أبى ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يبعث الله - عز وجل - نبيا إلا بلغة قومه " .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا ، وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة - أيضا - قلت : لا يخلو إما أن ينزل لجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل ، فبقى أن ينزل بلسان واحد .
فكان أول الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أقرب إليه .
فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم فى كل أمة من أمم العجم ، مع ما فى ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة ، والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم فى تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والاختلاف . . . " وقال الشوكانى : ما ملخصه : " وقد قيل فى هذه الآية إشكال ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جمعيا ، ولغاتهم متباينة . . .
وأجيب : بأنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان مرسلا إلى الثقلين ، لكن لما كان قومه العرب ، وكانوا أخص به وأقرب إليه ، كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم ، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم .
ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم ، وبينه الرسول لكل قوم بلسانهم ، لكان ذلك مظنة للاختلاف ، وفتحا لباب التنازع ، لأن كل أمة قد تدعى من المعانى فى لسانها ما لا عرفه غيرها .
وربما كان ذلك - أيضا - مفضيا إلى التحريف والتصحيف ، بسبب الدعاوى الباطلة التى يقع فيها المتعصبون " .
وجملة { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } مستأنفة .
أى : فيضل الله من يشاء إضلاله ، أى يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه .
ويهدى من يشاء هدايته ، لاراد لمشيئته ، ولا معقب لحكمه .
" وهو " سبحانه " العزيز " الذى لا يغلبه غالب " الحكيم " فى كل أفعاله وتصرفاته .
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : وتفريع قوله " فيضل الله من يشاء . . . إلخ " على مجموع جملة { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ، ولذلك جاء فعل " يضل " مرفوعا غير منصوب ، إذ ليس عطفا على فعل " ليبين " لأن الإِضلال لا يكون معلولا للتبين ولكنه مفرع على الإِرسال المعلل بالتبيين .
والمعنى : أن الإِرسال بلسان قومه لعلة التبيين . وقد يحصل أثر التبيين بمعرفة الاهتداء ، وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت وظيفة القرآن الكريم ، ووظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما توعدت الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا فى كفرهم وغيهم ، كما وضحت بعض مظاهر قدرة الله - تعالى - ولطفه بعباده ، وفضله عليهم .(2)
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 206)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2402)(1/251)
وهذه نعمة شاملة للبشر في كل رسالة . فلكي يتمكن الرسول من إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ، لم يكن بد من أن يرسل بلغتهم ، ليبين لهم وليفهموا عنه ، فتتم الغاية من الرسالة .
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بلسان قومه وإن كان رسولاً إلى الناس كافة لأن قومه هم الذين سيحملون رسالته إلى كافة البشر . وعمره صلى الله عليه وسلم محدود . وقد أمر ليدعو قومه أولاً حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام . ومن ثم تكون مهداً يخرج منه حملة رسالة محمد إلى سائر بقاع الأرض . والذي حدث بالفعل وهو من تقدير الله العليم الخبير أن اختير الرسول إلى جوار ربه عند انتهاء الإسلام إلى آخر حدود الجزيرة ، وبعث جيش أسامة إلى أطراف الجزيرة ، الذي توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتحرك بعد . . وحقيقة إن الرسول قد بعث برسائله إلى خارج الجزيرة يدعو إلى الإسلام ، تصديقاً لرسالته إلى الناس كافة . ولكن الذي قدره الله له ، والذي يتفق مع طبيعة العمر البشري المحدود ، أن يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قومه بلسانهم ، وأن تتم رسالته إلى البشر كافة عن طريق حملة هذه الرسالة إلى الأصقاع . . وقد كان . . فلا تعارض بين رسالته للناس كافة ، ورسالته بلسان قومه ، في تقدير الله ، وفي واقع الحياة . { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } . . { فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } . .
إذ تنتهي مهمة الرسول كل رسول عند البيان . أما ما يترتب عليه من هدى ومن ضلال ، فلا قدرة له عليه ، وليس خاضعاً لرغبته ، إنما هو من شأن الله . وضع له سنة ارتضتها مشيئته المطلقة . فمن سار على درب الضلال ضل ، ومن سار على درب الهدى وصل . . هذا وذلك يتبع مشيئة الله ، التي شرعت سنته في الحياة .
{ وهو العزيز الحكيم } . .
القادر على تصريف الناس والحياة ، يصرفهم بحكمة وتقدير فليست الأمور متروكة جزافاً بلا توجيه ولا تدبير .وكذلك كانت رسالة موسى . بلسان قومه .(1)
----------------
وقال تعالى :{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44) ( فصلت)}
يخبر تعالى عن فضله وكرمه، حيث أنزل كتابا عربيًا، على الرسول العربي، بلسان قومه، ليبين لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به، والتلقي له والتسليم، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا، بلغة غير العرب، لاعترض، المكذبون وقالوا: { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي: هلا بينت آياته، ووضحت وفسرت. { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي: كيف يكون محمد عربيًا، والكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر، يكون فيه شبهة لأهل الباطل، عن كتابه، ووصفه بكل وصف، يوجب لهم الانقياد، ولكن المؤمنون الموفقون، انتفعوا به، وارتفعوا، وغيرهم بالعكس من أحوالهم.
ولهذا قال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي: يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب.
{ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي: صمم عن استماعه وإعراض، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي: لا يبصرون به رشدًا، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالا فإنهم إذا ردوا الحق، ازدادوا عمى إلى عماهم، وغيًّا إلى غيَّهم.
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي: ينادون إلى الإيمان، ويدعون إليه، فلا يستجيبون، بمنزلة الذي ينادي، وهو في مكان بعيد، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا. والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيرًا، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم.(2)
وقال ابن العربي :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالُوا : إنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا يَسَارُ أَبُو فَكِيهَةَ مَوْلًى مِنْ قُرَيْشٍ ، وَسَلْمَانُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَهَذَا يَصِحُّ فِي يَسَارٍ ، لِأَنَّهُ مَكِّيٌّ ، وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ ؛ وَأَمَّا سَلْمَانُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِالْمَدِينَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِإِجْمَاعٍ مِنْ النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْآيَةِ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَوْ نَزَلَ بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ لَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ : يَا مُحَمَّدُ ؛ إذَا أُرْسِلْت إلَيْنَا بِهِ فَهَلَّا فَصَّلْت آيَاتِهِ ، أَيْ بَيَّنْت وَأَحْكَمْت .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ، التَّقْدِيرُ : أَنَّى يَجْتَمِعُ مَا يَقُولُونَ أَوْ يَنْتَظِمُ مَا يَأْفِكُونَ ؟ يَسَارٌ أَعْجَمِيٌّ ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ ، فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ ،
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 388)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 751)(1/252)
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ تَرْجَمَةَ الْقُرْآنِ بِإِبْدَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا } : كَذَا لِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُجْمَةِ إلَيْهِ طَرِيقٌ ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ التِّبْيَانَ وَالْإِعْجَازَ إنَّمَا يَكُونُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، فَلَوْ قُلِبَ إلَى غَيْرِ هَذَا لَمَا كَانَ قُرْآنًا وَلَا بَيَانًا ، وَلَا اقْتَضَى إعْجَازًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ عَلَى التَّمَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ .(1)
لقد رد - سبحانه - على بعض الشبهات التى أثاروها حول القرآن الكريم ردا يخرس ألسنتهم فقال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ . . . } .
والأعجمى : يطلق على الكلام الذى لا يفهمه العربى ، كما يطلق على من لا يحسن النطق بالعربية . وقوله : { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } خبر لمبتدأ محذوف .
أى : ولو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم كما قالوا : هلا أنزل هذا القرآن بلغة العجم .
لو فعلنا ذلك - كما أرادوا - لقالوا مرة أخرى على سبيل التعجب : فلا فصلت ووضحت آيات هذا الكتاب بلغة نفهمها؟ ثم لأضافوا إلى التعجب والإِنكار ، تعجبا آخر فقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى؟
ومقصدهم من هذه الشبهة الداحضة ، إنما هو إنكار الإِيمان به سواء أنزل بلغة العرب أم بلغة العجم .
فهم عند نزوله عربيا قالوا من بين ما قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه ، ولو نزل بلسان أعجمى ، لاعترضوا وقالوا : هلا نزل بلسان عربى نفهمه .
ولو جعلنا بعضه أعجميا وبعضه عربيا لقالوا : أقرآن أعجمى ورسول عربى .
وهكذا المعاندون الجاحدون لا يقصدون من وراء جدالهم إلا التعنت والسفاهة .(2)
=============
3- دفع السيئة بالحسنة
قال تعالى :{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) ( الرعد)}
يقول تعالى: مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين ضدهم: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } ففهم ذلك وعمل به. { كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض، فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا وخير مآلا فيؤثر طريقها ويسلك خلف فريقها، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره.
{ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } أي: أولو العقول الرزينة، والآراء الكاملة، الذين هم لُبّ العالم، وصفوة بني آدم، فإن سألت عن وصفهم، فلا تجد أحسن من وصف الله لهم بقوله:
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ } الذي عهده إليهم والذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة، فالوفاء بها توفيتها حقها من التتميم لها، والنصح فيها { و } من تمام الوفاء بها أنهم { لا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } أي: العهد الذي عاهدوا عليه الله، فدخل في ذلك جميع المواثيق والعهود والأيمان والنذور، التي يعقدها العباد. فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم، إلا بأدائها كاملة، وعدم نقضها وبخسها.
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا عام في كل ما أمر الله بوصله، من الإيمان به وبرسوله، ومحبته ومحبة رسوله، والانقياد لعبادته وحده لا شريك له، ولطاعة رسوله.
ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل وعدم عقوقهم، ويصلون الأقارب والأرحام، بالإحسان إليهم قولا وفعلا ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك، بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية.
والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل، خشية الله وخوف يوم الحساب، ولهذا قال: { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي: يخافونه،
[ ص 417 ]
فيمنعهم خوفهم منه، ومن القدوم عليه يوم الحساب، أن يتجرؤوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به خوفا من العقاب ورجاء للثواب.
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا } على المأمورات بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها.
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 80)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3745)(1/253)
ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة.
{ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً } دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة، سرا وعلانية، { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي: من أساء إليهم بقول أو فعل، لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه.
فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء؟!
{ أُولَئِكَ } الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة { لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } فسرها بقوله: { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: إقامة لا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا؛ لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور، الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.
ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم { يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ } من الذكور والإناث { وَأَزْوَاجِهِمْ } أي الزوج أو الزوجة وكذلك النظراء والأشباه، والأصحاب والأحباب، فإنهم من أزواجهم وذرياتهم، { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ } يهنئونهم بالسلامة وكرامة الله لهم ويقولون: { سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي: حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم، وذلك متضمن لزوال كل مكروه، ومستلزم لحصول كل محبوب.
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } أي: صبركم هو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية، والجنان الغالية، { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }
فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قيمة، أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، لعلها تحظى بهذه الدار، التي هي منية النفوس، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون وفيها فليتنافس المتنافسون.(1)
ثم قال تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشي من غير قائد ، فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك ، وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة ، أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك .
ثم قال : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها ، ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه .
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا؟ فيه قولان :
القول الأول : إنها متعلقة بما قبلها ، وعلى هذا التقدير ففيه وجهان : الأول : أنه يجوز أن يكون قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } صفة لأولي الألباب . والثاني : أن يكون ذلك صفةً لقوله : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } [ الرعد : 19 ] .
والقول الثاني : أن يكون قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } مبتدأ : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ عقبى الدار } خبره كقوله : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله . . . أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة } [ الرعد : 25 ] واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة : شرط وجزاء ، وشرطها مشتمل على قيود ، وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود . أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة :
القيد الأول : قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } وفيه وجوه : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } والثاني : أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين : أحدهما : الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير . والآخر : التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام ، والحاصل أنه دخل تحت قوله : { يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } كل ما قام الدليل عليه . ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به ، إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع . ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل ، ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ، ويدخل فيه أداء الأمانات ، وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية .
القيد الثاني : قوله : { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } وفيه أقوال :
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 416)(1/254)
القول الأول : وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد ، فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد ، وهذا مثل أن يقول : إنه لما وجب وجوده ، لزم أن يمتنع عدمه ، فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان ، فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق .
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة . قال عليه السلام : « لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له » والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن .
والقول الثاني : أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه ، فالحاصل : أن قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء . وقوله : { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه : كالنذر بالطاعات والخيرات .
والقول الثالث : أن المراد بالوفاء بالعهد : عهد الربوبية والعبودية ، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره .
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع ، قال عليه السلام : « من عاهد الله فغدر ، كانت فيه خصلة من النفاق » وعنه عليه السلام : « ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ، ومن كنت خصمه خصمته . رجل أعطى عهداً ثم غدر ، ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره ، ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه » وقيل : كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول : وفاء بالعهد لا غدر . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء » قال من هذا؟ قالوا : عمرو بن عيينة فرجع معاوية .
القيد الثالث : { والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } وههنا سؤال : وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما؟
والجواب من وجهين : الأول : أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر . والثاني : أنه تأكيد .
إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في تفسيره وجوهاً : الأول : أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام : « ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول : أي رب قطعت ، والأمانة تقول : أي رب تركت ، والنعمة تقول : أي رب كفرت »
والقول الثاني : أن المراد صلة محمد صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهاد .
والقول الثالث : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد ، فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة ، وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم؟ قالوا : من خراسان . فقال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم ، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين ، وأقول حاصل الكلام : أن قوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله : { والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } إشارة إلى الشفقة على خلق الله .
القيد الرابع : قوله : { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } والمعنى : أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله ، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان : أحدهما : أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته ، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها . والثاني : وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة .
القيد الخامس : قوله : { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب ، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار .(1/255)
القيد السادس : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار ، والغموم والأحزان ، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات . ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه : أحدها : أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل . وثانيها : أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع . وثالثها : أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء . ورابعها : أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب ، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه ، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك ، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين ، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه ، وطلب رضا الله تعالى .
واعلم أن قوله : { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } فيه دقيقة ، وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه ، فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله : { ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } محمول على هذا المجاز ، يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه ، فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ، ويرضى به لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة .
القيد السابع : قوله : { وأقاموا الصلاة } .
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً .
القيد الثامن : قوله تعالى : { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الحسن : المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية . وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام ، وقال آخرون : بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله : { سِرّا } يرجع إلى التطوع وقوله : { علانية } يرجع إلى الزكاة الواجبة .
المسألة الثانية : قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً ، وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز .
القيد التاسع : قوله : { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } وفيه وجهان : الأول : أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل : « إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها » والثاني : أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله ، وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج ، لكن الحليم من قدر ثم عفا . وعن الحسن : هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ، ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً ، فقال من أين أنت؟ فقال : من بلخ ، فقال : وهل تعرف شقيقاً قال نعم ، فقال : كيف طريقة أصحابه؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا ، فقال عبد الله : طريقة كلابنا هكذا . فقال : وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون : هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا .
واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط . أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة :
القيد الأول : قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار } أي عاقبة الدار وهي الجنة ، لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها . قال الواحدي : العقبى كالعاقبة ، ويجوز أن تكون مصدراً كالشورى والقربى والرجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على فَعلى كالنجوى والدعوى ، وعلى فِعلى كالذكرى والضيزى ، ويجوز أن يكون اسماً وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة .
القيد الثاني : قوله : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الزجاج : جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند قوله تعالى : { ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ } [ التوبة : 72 ] وذكرنا هناك مذهب المفسرين ، ومذهب أهل اللغة .
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يَدْخُلُونَهَا } بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم .
القيد الثالث : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن علية ( صلح ) بضم اللام قال صاحب الكشاف : والفتح أفصح .
المسألة الثانية : قال الزجاج : موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله { يَدْخُلُونَهَا } ويجوز أن يكون نصباً كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيد .(1/256)
المسألة الثالثة : في قوله : { وَمَنْ صَلَحَ } قولان : الأول : قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج : بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة . قال الواحدي : والصحيح ما قال ابن عباس ، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به ، إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة .
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة ، لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ، ويقال : إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون : { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين } [ يس : 26 ، 27 ] .
المسألة الرابعة : قوله : { وأزواجهم } ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك ، كالدليل على ما ذكرناه .
القيد الرابع : قوله : { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم : { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } على أمر الله . وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى .
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة ، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ، ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ، ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية والسلام ويبشرونهم بقوله : { فَنِعْمَ عقبى الدار } ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول : « السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف ، منهم روحانيون ومنهم كروبيون . فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ، ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص؛ فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ، ومن ملائكة الشكر ، كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب .
المسألة الثانية : تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم فكانوا به أجل مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ، ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي ، فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا .
المسألة الثالثة : قال الزجاج : ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه ، وأما قوله : { بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } ففيه وجهان : أحدهما : أنه متعلق بالسلام . والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات ، وترك المحرمات . والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير : أن هذه الكرامات التي ترونها ، وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر .(1)
قال الإمام الرازى : " قوله - تعالى - { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى . . . } إشارة إلى المثل المتقدم ذكره - فى قوله - تعالى - { أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً } وهو أن العالم بالشئ كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ، لأن الأعمى إذا أخذ يمشى من غير قائد ، فربما يقع فى المهالك . . أما البصير فإنه يكون آمنا من الهلاك والإِهلاك .
والمراد بالأعمى هنا : الكافر الذى انطمست بصيرته ، فأصبح لا يفرق بين الحق والباطل .
والاستفهام للانكار والاستبعاد .
المعنى : أفمن يعلم أن ما أنزل إليك - أيها الرسول الكريم - من وحى هو الحق الذى يهدى للتى هى أقوم ، كمن هو أعمى القلب : مطموس البصيرة؟؟
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 169)(1/257)
فالآية الكريمة تنفى بأبلغ أسلوب ، مساواة الذين علموا الحق فاتبعوه ، بمن جهلوه وأعرضوا عنه ، وصموا آذانهم عن سماعه .
وقوله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } مدح لأصحاب العقول السليمة ، الذين ذكروا بالحق فتذكروه ، وآمنوا به ، وتعليل لإِعراض الكافرين عنه ، ببيان أن سبب إعراضهم ، أنهم ليسوا أهلا للتذكر ، لأن التذكر إنما هو من شأن أولى الألباب .
والألباب : جمع لب وهو الخالص من كل شئ .
أى : إنما يتذكر وينتفع بالتذكير ، أصحاب العقول السليمة وهم المؤمنون الصادقون .
ثم مدح - سبحانه - أصحاب هذه العقول السليمة ، بجملة من الخصال الكريمة فقال : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } .
وعهد الله : فرائضه وأوامره ونواهيه . والوفاء بها : يتأتى باتباع ما أمر به - سبحانه - باجتناب ما نهى عنه .
وينقضون : من النقض ، بمعنى الفسخ والحل لما كان مركبا أو موصولا .
والميثاق : العهد الموثق باليمين ، للتقوية والتأكيد .
أى : إنما يتذكر أولوا الألباب ، الذين من صفاتهم أنهم يوقنون بعهد الله - تعالى - ، بأن يؤدوا كل ما كلفهم بأدائه ، ويجتنبوا كل ما أمرهم باجتنابه ولا ينقضون شيئا من العهود والمواثيق التى التزموا بها . وصدر - سبحانه - صفات أولى الألباب ، بصفة الوفاء بعهد الله ، وعدم النقض للمواثيق ، لأن هذه الصفة تدل على كمال الإِيمان ، وصدق العزيمة ، وصفاء النفس .
وأضاف - سبحانه - العهد إلى ذاته ، للتشريف وللتحريض على الوفاء به .
وجملة { وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } تعميم بعد تخصيص ، لتشمل عهودهم مع الله - تعالى - ومع غيره من عباده .
ثم بين - سبحانه - صفات أخرى لهم فقال : { والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } .
أى : أن من صفات أولى الألباب - أيضا - أنهم يصلون كل ما أمر الله - تعالى - بوصله كصلة الأرحام ، وإفشاء السلام ، وإعانة المحتاج ، والإِحسان إلى الجار .
وقوله { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشية تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه .
{ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } أى : ويخافون أهوال يوم القيامة ، وما فيه من حساب دقيق ، فيحملهم ذلك على أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام ، والخشية والخوف قيل : بمعنى .
وفرق الراغب بينهما فقال : الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك من علم .
وقال بعضهم : الخشية أشد الخوف ، لأنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشية ، أى : يابسة .
ثم قال الآلوسى : والحق أن مثل هذه الفروق أغلبى لا كلى . . .
ثم أضاف - سبحانه - إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } أى : أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصيته ، وصبروا على المصائب وآلامها ، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم ، لا رضا أحد سواء .
أى : أن صبرهم فى كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك ، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله - تعالى - وطلب ثوابه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ } فيما يصبر عليه من المصائب فى النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولئلا يشمت به الاعداء ، كقوله :
وتجلدى للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتزعزع
ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مرد فيه للفائت .
وكل عمل له وجوه يعمل عليها ، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله - تعالى - وإلا لم يستحق به ثوابا؛ وكان فعلا كلا فعل .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة } أى : أدوها فى أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار ، بخشوع وإخلاص . { وَأَنْفَقُواْ } بسخاء وطيب نفس { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أى : مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم . { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أى : ينفقون مما رزقناهم سرا . حيث يحسن السر ، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره ، وينفقون { علانية } حيث تحسن العلانية ، كأن ينفقوا بسخاء فى مجال التنافس فى الخير ، ليقتدى بهم غيرهم { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } والدرء : الدفع والطرد . يقال : درأه درءاً ، إذا دفعه .
أى : أن من صفات أولى الألباب - أيضا - أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السئ ، كما فى قوله - صلى الله عليه وسلم - " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " أو أنهم يدعفون سيئة من أساء إليهم بالإِحسان إليه ، أو بالعفو عنه ، متى كان هذا الإِحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة .
قال صاحب الظلال ما ملخصه : " وفى الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة ، عندما يكون فى هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها ، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى .
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا فى المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما فى دين الله فلا .
إن المستعملى الغاشم لا يجدى معه إلى الدفع الصارم ، والمفسدون فى الأرض لا يجدى معهم إلا الأخذ الحاسم ، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب . "
وجملة { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } بيان الجزاء الحسن ، الذى أعده الله - تعالى - لهؤلاء الأخيار .
والعقبى : مصدر كالعاقبة ، وهى الشئ الذى يقع عقب شئ آخر .(1/258)
والمراد بالدار : الدنيا . وعقباها الجنة . وقيل المراد بالدار : الدار الآخرة . وعقباها الجنة للطائعين ، والنار للعاصين .
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، لهم العاقبة الحسنة وهى الجنة . والجملة الكريمة خبر عن { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله . . . } وما عطف عليها .
وقوله - سبحانه - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } تفصيل للمنزلة العالية التى أعدها - سبحانه - لهم .
أى : أولئك الذين قدموا ما قدموا فى دنياهم من العمل الصالح ، لهم جنات دائمة باقية ، يدخلونها هم { وَمَنْ صَلَحَ } أى : ومن كان صالحا لدخولها { مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } .
أى : من أصولهم وفروعهم وأزواجهم على سبيل التكريم والزيادة فى فرحهم ومسيرتهم .
وفى قوله - سبحانه - { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ . . . } دليل على أن هؤلاء الأقارب لا يستحقون دخول الجنة ، إلا إذا كانت أعمالهم صالحة ، إما إذا كانت غير ذلك فإن قرابتهم وحدها لا تنفعهم فى هذا اليوم الذى لا ينفع فيه مال ولا بنون { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } قال الإِمام ابن كثير : وقوله { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أى : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانا من الله وإحسانا ، كما قال - تعالى - { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } وقوله - سبحانه - { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم . . . } زيادة فى تكريمهم ، وحكاية لما تحييهم به الملائكة .
أى : والملائكة يدخلون على هؤلاء الأفياء الصابرين . . من كل باب من أبواب منازلهم فى الجنة ، قائلين لهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أى : أمان دائم عليكم { بِمَا صَبَرْتُمْ } أى : بسبب صبركم على كل ما يرضى الله - تعالى - .
{ فَنِعْمَ عقبى الدار } أى : فنعم العاقبة عاقية دنياكم ، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة المقام عليه ، أى : الجنة .
وفى قوله - سبحانه - { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } إشارة إلى كثرة قدوم الملائكة عليهم ، وإلى كثرة أبواب بيوتهم ، تكريما وتشريفا وتأنيسا لهم .
وجملة { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } مقول لقول محذوف ، وهو حال من فاعل يدخلون وهم الملائكة وهى بشارة لهم بدوام السلامة .
وفى قوله { بِمَا صَبَرْتُمْ } إشارة إلى أن صبرهم على مشاق التكاليف ، وعلى الأذى ، وعلى كل ما يحمد فيه الصبر ، كان على رأس الأسباب التى أوصلتهم إلى تلك المنازل العالية .
هذا ومن الأحاديث التى ذكرها الإِمام ابن كثير هنا ، ما رواه الإِمام أحمد - بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا : الله ورسوله أعلم : قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون ، الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتى هؤلاء فنسلم عليهم؟
قال : إنهم كانوا عبادا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته فى صدره ، فلا يستطيع لها قضاء . قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } " .
وبعد أن ذكر - سبحانه صفات هؤلاء الأوفياء ، وما أعد لهم من ثواب جزيل ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة الناقضين لعهودهم ، القاطعين لما امر الله بوصله . المفسدين فى الأرض فقال - تعالى - { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } .
ونقض العهد : إبطاله وعدم الوفاء به .
وقوله : { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } زيادة فى تشنيع النقض : أى : ينقضون عهد الله تعالى ولا يوفون به . من بعد أن أكدوا التزامهم به وقبولهم لهم .
وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } أى : ويقطعون كل ما أوجب الله - تعالى - وصله ، ويدخل فيه وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع والموالاة ، ووصل المؤمنين بالمعاونة ، والمحبة ، ووصل أولى الأرحام بالمودة والتعاطف ، فالجملة الكريمة بيان لحال هؤلاء الأشقياء بأنهم كانوا على الضد من أولئك الأوفياء الأخيار الذين كانوا يصلون ما أمر الله به أن يوصل .
وقوله : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } بيان لصفة ثالثة من صفاتهم القبيحة .
أى : أنهم كانوا يفسدون فى الأرض عن طريق حربهم لدعوة الحق ، واعتدائهم على المؤمنين ، وغير ذلك من الأمور التى كانوا يقترفونها مع أن الله - تعالى - قد حرمها ونهى عنها .
وقوله - تعالى - : { أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } إخبار عن العذاب الشديد الذى سيلقونه فى آخرتهم . أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الذميمة { لهم } من الله - تعالى - { اللعنة } والطرد من رحمته .
{ ولهم } فوق ذلك ، الدار السيئة وهى جهنم التى ليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها .(1)
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2377)(1/259)
إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا ، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق ، وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف . فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى . والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان : مبصرون فهم يعلمون ، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة ، وانطماس المدارك ، واستغلاق القلوب ، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح ، وانفصالها عن مصدر الإشعاع . .
{ إنما يتذكر أولو الألباب } . .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر ، وتنبه إلى دلائله فتتفكر .
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء :
{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } . .
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد ، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق . والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان .
وعهد الإيمان قديم وجديد . قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله؛ المدركة إدراكاً مباشراً لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود ، ووحدة الخالق صاحب الإرادة ، وأنه وحده المعبود . وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير . . ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه ، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه ، مع العمل الصالح والسلوك القويم ، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم . .
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر . سواء مع الرسول أو مع الناس . ذوي قرابة أو أجانب . أفراداً أم جماعات . فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود ، لأن رعايتها فريضة؛ والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس ، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق .
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله . يقررها في كلمات .
{ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب } . .
هكذا في إجمال . فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه . أي أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة ، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء . لهذا ترك الأمر مجملاً ، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل ، لأن هذا التفصيل يطول ، وهو غير مقصود ، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي ، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت ، والصلة المطلقة التي لا تنقطع . . ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة :
{ ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } . .
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب . وهم أولو الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب .
{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } . .
والصبر ألوان . وللصبر مقتضيات . صبر على تكاليف الميثاق . من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد . . الخ وصبر على النعماء والبأساء . وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر . وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور . . وصبر وصبر وصبر . . كله ابتغاء وجه ربهم ، لا تحرجاً من أن يقول الناس : جذعوا . ولا تجملاً ليقول الناس : صبروا . ولا رجاء في نفع من وراء الصبر . ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع . ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله ، والصبر على نعمته وبلواه . صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع . .
{ وأقاموا الصلاة } . .
وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه ، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء ، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله ، ولأنها الصلة بين العبد والرب ، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه .
{ وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية } . .
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل ، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق . ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله ، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة . والتي تزكي نفس معطيها من البخل ، وتزكي نفس آخذها من الغل؛ وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله . والإنفاق سراً وعلانية . السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة ، وتتحرج النفس من الإعلان . والعلانية حيث تطلب الأسوة ، وتنفذ الشريعة ، ويطاع القانون . ولكل موضعه في الحياة .
{ ويدرأون بالحسنة السيئة } . .
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله . ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة . فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شرة النفوس ، وتوجهها إلى الخير؛ وتطفئ جذوة الشر ، وترد نزغ الشيطان ، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية . فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيباً في مقابلة السيئة بالحسنة وطلباً لنتيجتها المرتقبة . .
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع ، ويحتاج الشر إلى الدفع ، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة ، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي .(1/260)
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالباً في المعاملة الشخصية بين المتماثلين . فأما في دين الله فلا . . إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم . والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم . والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف ، واستشارة الألباب ، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب .
{ أولئك لهم عقبى الدار : جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار } . .
{ أولئك } في مقامهم العالي لهم عقبى الدار : جنات عدن للإقامة والقرار .
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم . ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم ، وتلاقي أحبابهم ، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان .
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم ، في حركة رائحة غادية :
{ يدخلون عليهم من كل باب } . .
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضراً وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافاً أطوافاًً :
{ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } . .
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام .
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا . ولا بصيرة لهم فيبصروا . وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب :
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . أولئك لهم اللعنة ، ولهم سوء الدار } . .
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي؛ وينقضون من بعده كل عهد ، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس .
عى الله لا يبقى على عهد ولا ميثاق . ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق . ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سراً وعلانية ودرء السيئة بالحسنة . فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله ، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد .
{ أولئك } . . المبعدون المطرودون { لهم اللعنة } والطرد في مقابل التكريم هناك { ولهم سوء الدار } ولا حاجة إلى ذكرها ، فقد عرفت بمقابلها هناك!(1)
إن هناك علاقة وثيقة بين الفساد الذي يصيب حياة البشر في هذه الأرض وبين ذلك العمى عن الحق الذي جاء من عند الله لهداية البشر إلى الحق والصلاح والخير .فالذين لا يستجيبون لعهد الله على الفطرة ، ولا يستجيبون للحق الذي جاء من عنده ويعلمون أنه وحده الحق . . هم الذين يفسدون في الأرض؛ كما أن الذين يعلمون أنه الحق ويستجيبون له هم الذين يصلحون في الأرض ، وتزكو بهم الحياة :
* { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى؟ إنما يتذكر أولوا الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم ، ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ، وأقاموا الصلاة ، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار . . } . .
* { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } . .
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل حركة؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة؛ ويقيمون الصلاة؛ وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده؛ والتي تتبع من ثم مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! . . إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله ، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 363)(1/261)
وآية هذا الذي نقوله استمداداً من النص القرآني هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! . . وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي؛ غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط؛ ولم ترتفع « إنسانيتها » قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .
هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة ، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها ، ولكنها تشير إليها .(1)
-----------------
وقال تعالى :{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) ( المؤمنون)}
هذا من مكارم الأخلاق، التي أمر الله رسوله بها فقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } أي: إذا أساء إليك أعداؤك، بالقول والفعل، فلا تقابلهم بالإساءة، مع أنه يجوز معاقبة المسيء بمثل إساءته، ولكن ادفع إساءتهم إليك بالإحسان منك إليهم، فإن ذلك فضل منك على المسيء، ومن مصالح ذلك، أنه تخف الإساءة عنك، في الحال، وفي المستقبل، وأنه أدعى لجلب المسيء إلى الحق، وأقرب إلى ندمه وأسفه، ورجوعه بالتوبة عما فعل، وليتصف العافي بصفة الإحسان، ويقهر بذلك عدوه الشيطان، وليستوجب الثواب من الرب، قال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وقال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا } أي ما يوفق لهذا الخلق الجميل { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ ص 559 ]
وقوله { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } أي بما يقولون من الأقوال المتضمنة للكفر والتكذيب بالحق قد أحاط علمنا بذلك وقد حلمنا عنهم وأمهلناهم وصبرنا عليهم والحق لنا وتكذيبهم لنا فأنت -يا محمد- ينبغي لك أن تصبر على ما يقولون وتقابلهم بالإحسان (2)
وقال ابت العربي :
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ادْفَعْ بِالْإِغْضَاءِ وَالصَّفْحِ إسَاءَةَ الْمُسِيءِ .
الثَّانِي : ادْفَعْ الْمُنْكَرَ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ .
الثَّالِثُ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى : { ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ خَاصَّةٌ فِي الْعَفْوِ ، وَاَلَّتِي شَرَحْنَا الْكَلَامَ فِيهَا هَاهُنَا عَامَّةٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ حَسْبَمَا سَطَّرْنَاهُ آنِفًا ، وَهِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْكُفَّارِ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، بَاقِيَةٌ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عُمُومِهَا ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : ادْفَعْ سَيِّئَتَك بِالْحَسَنَةِ بَعْدَهَا فَيُشِيرُ إلَى الْغَفْلَةِ وَحَسَنَتُهَا الذِّكْرُ ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ : أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً .
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَتُوبُ إلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ادْفَعْ حَظَّ الدُّنْيَا إذَا زَحَمَ حَظَّ الْآخِرَةِ بِحَظِّ الْآخِرَةِ وَحْدَهَا .
قَالَ لِي شِيحُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : مَتَى اجْتَمَعَ لَك أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِلدُّنْيَا وَالْآخَرُ لِلَّهِ فَقَدِّمْ مَا لِلَّهِ فَإِنَّهُمَا يَحْصُلَانِ لَك جَمِيعًا .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 384)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 558)(1/262)
وَإِنْ قَدَّمْت الدُّنْيَا رُبَّمَا فَاتَا مَعًا ، وَرُبَّمَا حَصَلَ حَظُّ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَارَكْ لَك فِيهِ .
وَلَقَدْ جَرَّبْتُهُ فَوَجَدْتُهُ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ دَفْعُ الْجَفَاءِ ، لَا جَرَمَ ، كَذَلِكَ قَالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
وَفِقْهُ الْآيَةِ : اُسْلُكْ مَسْلَكَ الْكِرَامِ ، وَلَا تَلْحَظْ جَانِبَ الْمُكَافَأَةِ ، ادْفَعْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا تَسْلُكْ مَسْلَكَ الْمُبَايَعَةِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ : سَلِّمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْكَ ، وَتَكْثُرُ الْأَمْثِلَةُ ، وَالْقَصْدُ مَفْهُومٌ ، فَاسْلُكُوهُ (1)
وقال الرازي :
أما قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى ، وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه ، وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم ، فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظباً على هذه الطريقة ، قال صاحب «الكشاف» قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } [ المؤمنون : 96 ] أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل ، والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان ، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة . وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل محكمة ، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة .(2)
-----------
وقال تعالى :{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63) ( الفرقان)}
العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم { يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده. { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ } أي: خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف، { قَالُوا سَلامًا } أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.(3)
وقال ابن العربي :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { هَوْنًا } الْهَوْنُ : هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت : تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ } .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا .
وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { سَلَامًا } فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ : [ تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ ] وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ .
وَفِي الإسرائليات : إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ لَهُ : اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ .
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 5 / ص 473)
(2) - تفسير الرازي - (ج 11 / ص 204)
(3) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 586)(1/263)
فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ .
فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ : { قَالُوا سَلَامًا } الْمَصْدَرَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك .
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : سَلِمْت مِنِّي ، فَأَسْلَمُ مِنْك .(1)
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن : أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة ، ليس فيها تكلف ولا تصنع ، وليس فيها خيلاء ولا تنفج ، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية ، وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة ، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها ، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة ، وفيها جد وقوة . وليس معنى : { يمشون على الأرض هوناً } أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس ، متداعي الأركان ، متهاوي البنيان؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تكفأ تكفياً ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها ، قال أبو هريرة : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة ، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك ، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاماً } لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء ، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع . هذا نهارهم مع الناس فأما ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله ، والشعور بجلاله ، والخوف من عذابه .(2)
--------------
وقال تعالى :{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) ( فصلت)}
هذا استفهام بمعنى النفي المتقرر أي: لا أحد أحسن قولا. أي: كلامًا وطريقة، وحالة { مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها،والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ومن الدعوة إلى الله، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله.
ومن الدعوة إلى الله، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك، الحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين.
ومن ذلك، الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر.
ثم قال تعالى: { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي: مع دعوته الخلق إلى الله، بادر هو بنفسه، إلى امتثال أمر الله، بالعمل الصالح، الذي يُرْضِي ربه. { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبة، تمامها للصديقين، الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم، وحصلت لهم الوراثة التامة من الرسل، كما أن من أشر الناس، قولا من كان من دعاة الضالين (1) السالكين لسبله.
وبين هاتين المرتبتين المتباينتين، اللتين ارتفعت إحداهما إلى أعلى عليين، ونزلت الأخرى، إلى أسفل سافلين، مراتب، لا يعلمها إلا الله، وكلها معمورة بالخلق { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 6 / ص 171)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 5 / ص 330)(1/264)
يقول تعالى: { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ } أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ }
ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة.
{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي: كأنه قريب شفيق.
{ وَمَا يُلَقَّاهَا } أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟".
فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه، ليس بواضع قدره، بل من تواضع للّه رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك، متلذذًا مستحليًا له.
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ ص 750 ] لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.(1)
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدىء حيث قالوا للرسول { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة ، فقالوا { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية ، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ، ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة ، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة ، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات ، وعبّر عن هذا المعنى فقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صالحا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين } فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة . وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان : التام ، وفوق التام ، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملاً في ذاته ، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام ، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] إشارة إلى المرتبة الأولى ، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها ، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله } فهذا أيضاً وجه حسن في نظم هذه الآيات .
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصاباً وافياً من العلوم الإلهية الكشفية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن .
المسألة الثانية : من الناس من قال المراد من قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله } هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من قال هم المؤذنون ، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه ، والدعوة إلى الله مراتب :
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 749)(1/265)
فالمرتبة الأولى : دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها : أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولاً ، ثم الدعوة بالسيف ثانياً ، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها : أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة ، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء ، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها : أن نفوسهم أقوى قوة ، وأرواحهم أصفى جوهراً ، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل ، فكانت دعوتهم أفضل ورابعها : أن النفوس على ثلاثة أقسام : ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول : العوام والقسم الثاني : هم الأولياء والقسم الثالث : هم الأنبياء ، ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : « علماء أمتي كأنبياء إسرائيل » وإذا عرفت هذا فنقول : إن نفس الأنبياء حصلت لها مزيتان : الكمال في الذات ، والتكميل للغير ، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى ، وكانت درجاتهم أفضل وأكمل ، إذا عرفت هذا فنقول : الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان : العلم والقدرة ، أما العلماء ، فهم نواب الأنبياء في العلم ، وأما الملوك ، فهم نواب الأنبياء في القدرة ، والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح ، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد ، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح ، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد . وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء ، ثم العلماء على ثلاثة أقسام : العلماء بالله ، والعلماء بصفات الله ، والعلماء بأحكام الله . أما العلماء بالله ، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم { يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 229 ] وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول ، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا نهاية لها ، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجات لا نهاية لها ، وأما الملوك فهم أيضاً يدعون إلى دين الله بالسيف ، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار ، وإما بإبقائه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل ، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولاً ضعيفاً ، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة ، فكان ذلك داخلاً تحت الدعاء إلى الله ، وأما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطاً بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة ، فهذا هو الكلام ، في مراتب الدعوة إلى الله .
المسألة الثالثة : قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله } يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سوها ، إذا عرفت هذا فنقول : كل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجباً ، لأن كل ما لا يكون واجباً فالواجب أحسن منه ، فثبت أن كل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمتقضى هذه الآية ، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ، ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج الأذان واجب ، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب ، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية ، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال ، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال ، لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان .
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله ، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولاً ممن قال إني من المسلمين ، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ، ولو كان قولنا إن شاء الله معتبراً في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية .
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها : الدعوة إلى الله وثانيها : العمل الصالح وثالثها : أن يكون من المسلمين ، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية .
وأما قوله { وَعَمِلَ صالحا } فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة ، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات .
وأما قوله { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان ، فيكون هذا الرجل موصوفاً بخصال أربعة أحدها : الإقرار باللسان ، والثاني : الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث : الاعتقاد الحق بالقلب والرابع : الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله ، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم ، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم .(1/266)
ثم قال تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدىء من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردفها بالوعد والوعيد ، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم { لا تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] وأجاب عنها أيضاً بالوجوه الكثيرة ، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمداً صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولاً بأن قال : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات ، فصار الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب ، ثم كأن سائلاً سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة ، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به ، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام ، وترك الالتفات إليهم ، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } وما ذكروه في قولهم { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ } فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضد من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة .
ثم قال : { ادفع بالتي هِىَ أَحْسَنُ } يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق ، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة .
ثم قال : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان ، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } قال الزجاج : أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام .
ثم قال : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية ، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس ، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية ، وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام ، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات ، ويحتمل أن يكون المراد : وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة ، فعلى هذا الوجه قوله { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } مدح بفعل الصبر ، وقوله { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } وعد بأعظم الحظ من الثواب .(1)
أى . لا أحد أحسن قولا ، وأعظم منزلة ، ممن دعا غيره إلى طاعة الله - تعالى - وإلى المحافظة على أداء ما كلفه به .
ولم يكتف بهذه الدعوة لغيره ، بل أتبع ذلك بالعمل الصالح الذى يجعل المدعوين يزدادون استجابة له .
{ وَقَالَ } : بعد كل ذلك على سبيل السرور والابتهاج والتحدث بنعمة الله { إِنَّنِي مِنَ المسلمين } .
أى : من الذين أسلموا وجوههم لله - تعالى - وأخلصوا له القول والعمل .
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية ، أى : وهو فى نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه لازم ومتعد ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، يونهون عن المنكر ويأتونه . . وهذه الآية عامة فى كل من دعا إلى خير ، وهو فى نفسه مهتد .
وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء . . . والصحيح أن الآية عامة فى المؤذنين وفى غيرهم .
ثم أرشد - سبحانه - إلى ما ينمى روح المحبة والمودة . . بين الداعى والمدعوين بصفة خاصة ، وبين المسلم وغيره بصفة عامة ، فقال : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } .
أى : ولا تستوى الخصلة الحسنة ولا الخصلة السيئة ، لا فى ذواتهما ولا فى الآثار التى تترتب عليهما ، إذا الخصلة الحسنة جميلة فى ذاتها ، وعظيمة فى الآثار الطيبة التى تنتج عنها ، أما الخصلة السيئة فهى قبيحة فى ذاتها وفى نتائجها .
وقوله - تعالى - : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } إرشاد منه - تعالى - إلى ما يجب أن يتحلى به عباده المؤمنون .
أى : ما دامت الخصلة الحسنة لا تتساوى مع الخصلة السيئة ، فعليك - أيها المسلم - أن تدفع السيئة إذا جاءتك من المسئ ، بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، بأن تقابل ذنبه بالعفو ، وغضبه بالصبر ، وقطعه بالصلة وفظاظته بالسماحة .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 13 / ص 393)(1/267)
وقوله - سبحانه - : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } بيان للآثار الجميلة التى تترتب على دفع السيئة بالحسنة .
والولى : هو الصديق المحب الشفيق عليك ، من الولى بمعنى القرب .
والحميم : يطلق فى الأصل على الماء الحار . . والمراد به هنا : الصديق الصدوق معك .
أى : أنت إذا دفعت السيئة بالحسنة ، صار عدوك الذى أساء إليك ، كأنه قريب منك ، لأن من شأن النفوس الكريمة أنها تحب من أحسن إليها ، ومن عفا عنها ، ومن قابل شرها بالخير ، ومنعها بالعطاء .
ولما كانت هذه الأخلاق تحتاج إلى مجاهدة للنفس . . عقب - سبحانه - على هذه التوجيهات السامية بقوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .
والضمير فى { يُلَقَّاهَا } يعود إلى تلك الخصال الكريمة السابقة ، التى على رأسها الدفع بالتى هى أحسن .
أى : وما يستطيع القيام بتلك الأخلاق العظيمة التى على رأسها الدعوة إلى الله ومقابلة السيئة بالحسنة . . إلا الذين صبروا على المكاره وعلى الأذى .
وما يستطيعها - أيضا - إلا صاحب الحظ الوافر ، والنصيب الكبير ، من توفيق الله - تعالى - له إلى مكارم الأخلاق .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها قد رسمت للمسلم أحكم الطرق ، وأفضل الوسائل ، التى ترفع درجته عند - خالقه - تعالى - .(1)
وقال ابن العربي :
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا حَبِيبُ اللَّهِ ، هَذَا صَفْوَةُ اللَّهِ ، هَذَا خِيرَةُ اللَّهِ ، هَذَا وَاَللَّهِ أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ إلَى اللَّهِ .
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ ، وَهَذَا ذِكْرٌ ثَانٍ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَسَيَأْتِي الثَّالِثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ، وَالْأَذَانَ مَدَنِيٌّ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهَا بِالْمَعْنَى ، لَا أَنَّهُ كَانَ الْمَقْصُودَ ، وَيَدْخُلُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ قَالَ فِي النَّبِيِّ وَقَدْ خَنَقَهُ الْمَلْعُونُ : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ كَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَبَيَانُ الْإِيمَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَمِلَ صَالِحًا } .
قَالُوا : هِيَ الصَّلَاةُ ، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ أَجَلُّهُ ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَتْبَعَ الْقَوْلَ الْعَمَلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَقَالَ إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْقَوْلِ ، وَالسَّيْفُ يَكُونُ لِلِاعْتِقَادِ ، وَيَكُونُ لِلْحُجَّةِ ، وَكَانَ الْعَمَلُ يَكُونُ لِلرِّيَاءِ وَالْإِخْلَاصِ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالِاعْتِقَادِ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لِوَجْهِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ إنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَلَمْ يَقُلْ [ لَهُ ] إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَنَا مُسْلِمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ ؛ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ .
وَقِيلَ لَهُ : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اُخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ بِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ الْمُرَادُ بِهَا مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ : إنْ كُنْت كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك ، وَإِنْ كُنْت صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَهُ لِرَجُلٍ نَالَ مِنْهُ .
الثَّانِي الْمُصَافَحَةُ ، وَفِي الْأَثَرِ : { تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ } ، وَإِنْ لَمْ يَرَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ سُفْيَانَ فَتَكَلَّمَا فِيهَا ، فَقَالَ سُفْيَانُ : قَدْ صَافَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : ذَلِكَ خَاصٌّ لَهُ ؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ : مَا خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخُصُّنَا ، وَمَا عَمَّهُ يَعُمُّنَا ، وَالْمُصَافَحَةُ ثَابِتَةٌ ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهَا .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3740)(1/268)
وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : هَلْ كَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } .
وَفِي الْأَثَرِ : { مِنْ تَمَامِ الْمَحَبَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ } .
وَمِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ إمَامٌ مُقَدَّمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ ، فَقَرَعَ الْبَابَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ ، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ } .
الثَّالِثُ : السَّلَامُ ، لَا يُقْطَعُ عَنْهُ سَلَامُهُ إذَا لَقِيَهُ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ .وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1)
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله , في مواجهة التواءات النفس البشرية , وجهلها , واعتزازها بما ألفت , واستكبارها أن يقال:إنها كانت على ضلالة , وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها , وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد , كل البشر أمامه سواء .
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق . ولكنه شأن عظيم:
(ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله , وعمل صالحاً , وقال:إنني من المسلمين) .
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض , وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء . ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ; ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات . فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ .
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض , أو بسوء الأدب , أو بالتبجح في الإنكار . فهو إنما يتقدم بالحسنة . فهو في المقام الرفيع ; وغيره يتقدم بالسيئة . فهو في المكان الدون:
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) .
وليس له أن يرد بالسيئة , فإن الحسنة لا يستوي أثرها - كما لا تستوي قيمتها - مع السيئة والصبر والتسامح , والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر , يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة , فتنقلب من الخصومة إلى الولاء , ومن الجماح إلى اللين:
(ادفع بالتي هي أحسن , فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) .
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات . وينقلب الهياج إلى وداعة . والغضب إلى سكينة . والتبجح إلى حياء ; على كلمة طيبة , ونبرة هادئة , وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام !
ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجاً وغضباً وتبجحاً ومروداً . وخلع حياءه نهائياً , وأفلت زمامه , وأخذته العزة بالإثم .
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد . وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها . حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفاً . ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه , ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقاً .
وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية . لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها . فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها . أو الصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وهذه الدرجة , درجة دفع السيئة بالحسنة , والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب , والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى . . درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان . فهي في حاجة إلى الصبر . وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا , وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) . .
إنها درجة عالية إلى حد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يغضب لنفسه قط ; وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد . قيل له - وقيل لكل داعية في شخصه -:
(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله , إنه هو السميع العليم) . .
فالغضب قد ينزغ . وقد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة . أو ضيق الصدر عن السماحة . فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية , تدفع محاولاته , لاستغلال الغضب , والنفاذ من ثغرته .
إن خالق هذا القلب البشري , الذي يعرف مداخله ومساربه , ويعرف طاقته واستعداده , ويعرف من أين يدخل الشيطان إليه , يحوط قلب الداعية إلى الله من نزغات الغضب . أو نزغات الشيطان . مما يلقاه في طريقه مما يثير غضب الحليم .
إنه طريق شاق . طريق السير في مسارب النفس ودروبها وأشواكها وشعابها , حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه ; ونقطة القياد !!!(2)
=============
4 - ضرب المثل
قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) ( البقرة)}
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 75)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 295)(1/269)
يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا } أي: أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة، وإيضاح الحق، والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها، ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة.
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا } فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الآية].
ثم وصف الفاسقين فقال: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق.
[ ص 48 ]
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها.
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
فـ { فَأُولَئِكَ } أي: من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: { إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.(1)
فالله رب الصغير والكبير , وخالق البعوضة والفيل , والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل , إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب , وامتحان النفوس:
(فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) . .
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ; وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم , وحساسية في أرواحهم , وتفتحا في مداركهم , واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .
(وأما الذين كفروا فيقولون:ماذا أراد الله بهذا مثلا ?) . .
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته , المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو للهوقارا , ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار , أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
(يضل به كثيرا , ويهدي به كثيرا , وما يضل به إلا الفاسقين) . .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 47)(1/270)
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها , ويتلقاها عباده , كل وفق طبيعته واستعداده , وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا , وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس , فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . (يضل به كثيرا) . . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله , (ويهدي به كثيرا) ممن يدركون حكمة الله . (وما يضل به إلا الفاسقين) . . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق , فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !
ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء , كما فصل في أول السورة صفة المتقين ; فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف , التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل , ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون) . .
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ? وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ? وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ?
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة , وتصوير نماذج , لا مجال تسجيل حادثة , أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ; وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ; وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة , وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة , فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ; وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ; والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) . .
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة:إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه , وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله , ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء -: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده , وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه , فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) . .
والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية , التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى , وانحلت الروابط , ووقع الفساد في الأرض , وعمت الفوضي .
(ويفسدون في الأرض) . .
والفساد في الأرض ألوان شتى , تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله , ونقض عهد الله , وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما , فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض , ومنهج الله بعيد عن تصريفها , وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال , وللحياة والمعاش ; وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .(1)
==============
وقال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) ( إبراهيم)
والخطاب فى قوله { أَلَمْ تَرَ . . . } للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب ، والاستفهام للتقرير ، والرؤية مستعملة فى العلم الناشئ عن التأمل والتفكر فى ملكوت السموات والأرض .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 6)(1/271)
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب ، وقد يذكر لمن ليس كذلك ، فيكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهر فى ذلك حتى أجرى مجرى المثل فى ذلك ، بأن شبه من لم ير الشئ بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب .
والمثل : يطلق على القول السائر المعروف للماثلة مضربه لمورده .
وقوله { مثلا } انتصب على أنه مفعول به لضرب ، وقوله { كلمة } بدل منه أو عطف بيان .
والمراد بالكلمة الطيبة : كلمة الإِسلام ، وما يترتب عليها من عمل صالح ، وقول طيب .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والمراد بالشجرة الطيبة - المشبه بها - النخلة عند الأكثرين وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد . .
وأخرج عبد الرازاق والترمذى وغيرهما عن شيعب بن الحجاب قال : كنا عند أنس ، فأتينا بطيق عليه رطب ، فقال أنس لأبى العالية : كل يا أبا العالية ، فإن هذا من الشجرة التى ذكرها الله - تعالى - فى كتابه { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ . . . }
وأخرج الترمذى - أيضا - والنسائى وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس قال : " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقناع من بسر - أى بطبق من تمر لم ينضج بعد فقال : " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة . . قال : هى النخلة " " .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند .
وأخرج ابن حرير وابن أبى حاتم أنها شجرة فى الجنة ، وقيل كل شجرة مثمرة كالنخلة ، وكشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك ثم قال :
" وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغى العدول عنه " .
وكأن الإِمام الآلوسى بهذا القول يريد أن يرجح أن المراد بالشجرة الطيبة النخلة ، لتصريح الآثار بذلك .
وقد رجح ابن جرير - أيضا - أن المراد بها النخلة فقال ما ملخصه : " واختلفوا فى المراد بالشجرة الطيبة ، فقال بعضهم : هى النخلة . . وقال آخرون : هى شجرة فى الجنة . .
وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول من قال هى النخلة ، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك . . . "
والمعنى : ألم تر - أيها المخاطب - كيف اختار الله - تعالى - مثلا ، وضعه فى موضعه اللائق به ، والمناسب له ، وهذا المثل لكلمتى الإِيمان والكفر ، حيث شبه - سبحانه الكلمة الطيبة وهى كلمة الإِسلام ، بالشجرة الطيبة ، أى النافعة فى جميع أحوالها ، وهى النخلة .
ثم وصف - سبحانه - هذه الشجرة بصفات حسنة فقال : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } .
أى : ضارب بعروقه فى باطن الأرض فصارت بذلك راسخة الأركان ثابتة البنيان .
{ وَفَرْعُهَا } أى : أعلاها وما امتد منها من أغصان ، مشتق من الاقتراع بمعنى الاعتلاء { فِي السمآء } أى : فى جهة السماء من حيث العلو والارتفاع ، وهذا ما يزيد الشجرة جمالا وحسن منظر .
والمراد بالأكل فى قوله - تعالى - { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا . . } المأكول ، وهو الثمر الناتج عنها .
والمراد بالحين : الوقت الذى حدده الله - تعالى - للانتفاع بثمارها من غير تعيين بزمن معين من صباح أو مساء .
قال الشوكانى ما ملخصه : " قوله { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } كل وقت { بِإِذْنِ رَبِّهَا } بإرادته ومشيئته " .
وقيل : المراد بكونها تؤتى أكلها كل حين : أى كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار فى جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف . وقيل المراد فى أوقات مختلفة من غير تعيين .
وقيل : كل غدوة وعشية ، وقيل : كل شهر . . .
وهذه الأقوال متقاربة . لأن الحين عند جمهور أهل اللغة بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره .
وبهذا نرى أن الله - تعالى - قد وصف هذه الشجرة بأربع صفات ، أولها : أنها طيبة ، وثانيها : أن أصلها ثابت ، وثالثها : أن فرعها فى السماء ، ورابعها : أنها تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها .
وهذه الأوصاف تدل على فخامة شأنها ، وجمال منظرها ، وطيب ثمرها ، ودوان نفعها كما تدل على أن المشبه وهو الكلمة الطيبة ، مطابق فى هذه الأوصاف للمشبه به وهو الشجرة الطيبة .
وقوله - سبحانه - { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } بيان للحكمة التى من أجلها سيقت الأمثال ، وهى التذكر والتفكير والاعتبار . أى : ويضرب الله - تعالى - الأمثال للناس رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويتذكروا ما أمرهم - سبحانه - بتذكره إذ ضرب الأمثال تقريب للبعيد ، وتقرير للقريب ، وتصوير للمعانى المعقولة بالصور المحسوسة .
وبعد أن بين - سبحانه - مثال كلمة الإِيمان ، أتبعه بمثال كلمة الكفر فقال : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } وهى كلمة الكفر .
{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } أى قبيحة لا نفع فيها ، ولا خبر يرجى منها .
{ اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } أى : اقتلعت جثتها وهيئتها من فوق الأرض ، لقرب عروقها وجذورها من سطحها .
يقال : اجتثثت الشئ اجتثاثا ، إذا اقتلعته واستأصلته ، وهو افتعال من لفظ الجثة وهى ذات الشئ .
وقوله : { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } تأكيد لمعنى الاجتثاث لأن اجتثاث الشئ بسهولة ، سببه عدم وجود أصل له .
أى : ليس لها استقرار وثبات على الأرض ، وكذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد للكافر عمل ، ولا يتقبل منه شئ .
والمراد بهذه الشجرة الخبيثة : شجرة الحنظل فعن أنس بن مالك أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة هى الحنظلة . . . " .(1/272)
وقيل : شجرة الثوم ، وقيل : شجرة الشوك . . . وقيل كل شجر لا يطيب له ثمر ، وفى رواية عن ابن عباس أنها شجرة لم تخلق على الأرض . .
وقال : ابن عطية : الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف التى وصفها الله بها .
وقوله سبحانه - { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } بيان لفضل الله - تعالى - على هؤلاء المؤمنين ، ولحسن عاقبتهم . .
والمراد بالحياة الدنيا : مدة حياتهم فى هذه الدنيا .
والمراد بالآخرة : ما يشمل سؤالهم فى القبر وسؤالهم فى مواقف القيامة .
والمعنى : يثبت الله - تعالى - الذين آمنوا بالقول الثابت أى : الصادق الذى لا شك فيه ، فى الحياة الدنيا ، بأن يجعلهم متمسكين بالحق ، ثابتين عليه دون أن يصرفهم عن ذلك ترغيب أو ترهيب .
ويثبتهم أيضاً بعد مماتهم ، بأن يوفقهم إلى الجواب السديد عند سؤالهم فى القبر وعند سؤالهم فى مواقف يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله - تعالى - { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } أى : الذى ثبت عندهم وتمكن فى قلوبهم ، وهو الكلمة الطيبة التى ذكرت صفتها العجيبة . . . { فِي الحياة الدنيا } أى يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم ، فلا يزالون عند الفتنة . . { وَفِي الآخرة } أى بعد الموت وذلك فى القبر الذى هو أول منزل من منازل الآخرة ، وفى مواقف القيامة ، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ، ولا تدهشهم الأهوال . . . " .
وقوله : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } بيان لسوء عاقبة أصحاب المثل الثانى وهم الكافرون .
أى : ويخلق فيهم الضلال عن الحق بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان .
{ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ } فعله ، عن تثبيت من يريد تثبيته ، وإضلال من يريد إضلاله ، حسبما تقتضيه إرادته وحكمته ، لاراد لأمره ، ولا معقب لحكمه .(1)
إن مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . . والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة , اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . . هو مشهد مأخوذ من جو السياق , ومن قصة النبيين والمكذبين , ومصير هؤلاء وهؤلاء بوجه خاص . وشجرة النبوة هنا وظل إبراهيم أبي الأنبياء عليها واضح , وهي تؤتي أكلها كل فترة , أكلا جنيا طيبا . . نبيا من الأنبياء . . يثمر إيمانا وخيرا وحيوية . .
ولكن المثل - بعد تناسقه مع جو السورة وجو القصة - أبعد من هذا آفاقا , وأعرض مساحة , وأعمق حقيقة .
إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة . ثابتة سامقة مثمرة . . ثابتة لا تزعزعها الأعاصير , ولا تعصف بها رياح الباطل ; ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية , تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها , لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن . .
وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة ; قد تهيج وتتعالى وتتشابك ; ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة , وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض , فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب , ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة , ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان .
والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية , فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال .
إن الخير بخير ! وإن الشر بشر !
(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) . .
فهي أمثال مصداقها واقع في الأرض , ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة .
وفي ظل الشجرة الثابتة , التي يشارك التعبير في تصوير معنى الثبات وجوه , فيرسمها:أصلها ثابت مستقر في الأرض , وفرعها سامق ذاهب في الفضاء على مد البصر , قائم أمام العين يوحي بالقوة والثبات .
في ظل الشجرة الثابتة مثلا للكلمة الطيبة: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) . . وفي ظل الشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ما لها من قرار ولا ثبات: (ويضل الله الظالمين) . . فتتناسق ظلال التعبير وظلال المعاني كلها في السياق !
يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة بكلمة الإيمان المستقرة في الضمائر , الثابتة في الفطر , المثمرة بالعمل الصالح المتجدد الباقي في الحياة . ويثبتهم بكلمات القرآن وكلمات الرسول ; وبوعده للحق بالنصر في الدنيا , والفوز في الآخرة . . وكلها كلمات ثابتة صادقة حقة , لا تتخلف ولا تتفرق بها السبل , ولا يمس أصحابها قلق ولا حيرة ولا اضطراب .
ويضل الله الظالمين بظلمهم وشركهم [ والظلم يكثر استعماله في السياق القرآني بمعنى الشرك ويغلب ] وبعدهم عن النور الهادي , واضطرابهم في تيه الظلمات والأوهام والخرافات واتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله . . يضلهم وفق سنته التي تنتهي . بمن يظلم ويعمى عن النور ويخضع للهوى إلى الضلال والتيه والشرود .
(ويفعل الله ما يشاء) . .
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 2428)(1/273)
بإرادته المطلقة , التي تختار الناموس , فلا تتقيد به ولكنها ترضاه . حتى تقتضي الحكمة تبديله فيتبدل في نطاق المشيئة التي لا تقف لها قوة , ولا يقوم في طريقها عائق ; والتي يتم كل أمر في الوجود وفق ما تشاء .
وبهذه الخاتمة يتم التعقيب على القصة الكبرى للرسالات والدعوات . وقد استغرقت الشطر الأول والأكبر من السورة المسماة باسم إبراهيم أبي الأنبياء , والشجرة الظليلة الوارفة المثمرة خير الثمرات , والكلمة الطيبة المتجددة في الأجيال المتعاقبة , تحتوي دائما على الحقيقة الكبرى . . حقيقة الرسالة الواحدة التي لا تتبدل , وحقيقة الدعوة الواحدة التي لا تتغير , وحقيقة التوحيد لله الواحد القهار .(1)
==============
و قال تعالى :{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) ( الزمر)}
أي: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا } لأجل عنايتنا ورحمتنا ولطفنا وحسن تعليمنا { لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } تتضح به الحقائق وتعرف به الأمور وتنقطع به الحجة. وهذا عام في الأمثال التي يضربها اللّه في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة. وفي الإخبار بما سيكون وجلاء حقيقته [حتى] كأنه وقع.
ومنه في هذا الموضع ذكر اللّه تعالى ما يكون يوم القيامة وحالة المجرمين فيه وشدة أسفهم وأنه لا يقبل منهم عذر ولا عتاب.
ولكن أبى الظالمون الكافرون إلا معاندة الحق الواضح ولهذا قال: { وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أي: أي آية تدل على صحة ما جئت به { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ } أي: قالوا للحق: إنه باطل. وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ اللّه على قلوبهم وجهلهم المفرط ولهذا قال: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فلا يدخلها خير ولا تدرك الأشياء على حقيقتها بل ترى الحق باطلا والباطل حقا.(2)
بين - سبحانه - موقفهم من القرآن الكريم ، وأنهم لو اتبعوا توجيهاته لنجوا من العذاب المهين ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } .
أى : وبالله لقد ضربنا للناس فى هذا القرآن العظيم ، كل مثل حكيم ، من شأنه أن يهدى القلوب إلى الحق ، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها . .
{ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } أى ولئن جئت - أيها الرسول - هؤلاء المشركين بآية بينة تدل على صدقك فيما تبلغه عن ربك .
{ لَّيَقُولَنَّ } على سبيل التطاول والتبجح { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أى : ما أنتم إلا متبعون للباطل أيها المؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم يعقب - سبحانه - على هذا التطاول والغرور بقوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } . والطبع : الختم على الشئ حتى لا يخرج منه ما هو بداخله . ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه .
أى : مثل هذا الطبع العجيب ، يطبع الله - تعالى على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون ، ولا يعملون على إزالة جهلهم ، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء ، وهذا أسوأ أنواع الجهل ، لأنه جهل مركب ، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل .
فهو كما قال الشاعر :
قال حمار الحكيم يوما ... لو أنصفونى لكنت اركب
لأننى جاهل بسيط ... وصاحبى جاهل مركب (3)
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه , وهو بينهم موزع ; ولكل منهم فيه توجيه , ولكل منهم عليه تكليف ; وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ; ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد , وهو يعلم ما يطلبه منه , ويكلفه به , فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
(هل يستويان مثلاً ?) . .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه , ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى , لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق , ومصدراً واحداً للنفع والضر , ومصدراً واحداً للمنح والمنع , فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد , يستمد منه وحده , ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد , فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي , بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار . وهم مع هذا ينحرفون , وأكثرهم لا يعلمون . .
وهذا مثل من الأمثلة التي يضربها القرآن للناس لعلهم يتذكرون . وهو قرآن عربي , مستقيم , واضح , لا لبس فيه ولا عوج ولا انحراف . يخاطب الفطرة بمنطقها القريب المفهوم .(4)
=============
5 - المجادلة بالتي هي أحسن
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 289)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 645)
(3) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 3353)
(4) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 409)(1/274)
قال تعالى :{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ( النحل)}
أي: ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح { بِالْحِكْمَةِ } أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.
ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله وإهانة من لم يقم به.
وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق. أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا.
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } علم السبب الذي أداه إلى الضلال، وعلم أعماله المترتبة على ضلالته وسيجازيه عليها.
{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } علم أنهم يصلحون للهداية فهداهم ثم منَّ عليهم فاجتباهم.(1)
ومن لطائف هذه الآية أنه قال : { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة ، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة ، أما الجدل فليس من باب الدعوة ، بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فلهذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن ، بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة ، وإنما الغرض منه شيء آخر ، والله أعلم .
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها ، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار .
ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } والمعنى : أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة ، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين ، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية ، فبعضها نفوس مشرقة صافية قليلة التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها ، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها ، فلهذا قال تعالى : اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل ، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة ، كما قال : { فِطْرَةَ الله التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] ، والله أعلم .(2)
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها , ويعين وسائلها وطرائقها , ويرسم المنهج للرسول الكريم , وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن .
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله . لا لشخص الداعي ولا لقومه . فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله , لا فضل له يتحدث به , لا على الدعوة ولا على من يهتدون به , وأجره بعد ذلك على الله .
والدعوة بالحكمة , والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم , والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها , والطريقة التي يخاطبهم بها , والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها . فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق , وتتعمق المشاعر بلطف , لا بالزجر والتأنيب في غير موجب , ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة , ويؤلف القلوب النافرة , ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 452)
(2) - تفسير الرازي - (ج 9 / ص 489)(1/275)
وبالجدل بالتي هي أحسن . بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح . حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل , ولكن الإقناع والوصول إلى الحق . فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها , وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق , حتى لا تشعر بالهزيمة . وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس , فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها , والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة , ويشعر المجادل أن ذاته مصونة , وقيمته كريمة , وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها , والاهتداء إليها . في سبيل الله , لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر !
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين . فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله .
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة . فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير , فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق , ودفعا لغلبة الباطل , على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع , فالإسلام دين العدل والاعتدال , ودين السلم والمسالمة , إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) . وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه . فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها , فلا تهون في نفوس الناس . والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد , ولا يثق أنها دعوة الله . فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها , والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعا . ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس , وقيادة البشرية إلى الطريق القويم , فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون , ويعتدي عليهم فلا يردون ?! .
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل , فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر , حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان , في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا . وأكثر فائدة للدعوة . فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر . فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها , فالقاعدة الأولى هي الأولى .
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال , وضبط للعواطف , وكبت للفطرة , فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله) . . فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس , والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره .
ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي وصية لكل داعية من بعده , ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون , فإنما عليه واجبه يؤديه , والهدى والضلال بيد الله , وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال . وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله , فالله حافظه من المكر والكيد , لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه . .
ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره , ويبطيء عليه النصر لابتلاء ثقته بربه , ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون .
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله . والنصر مرهون بإتباعه كما وعد الله . ومن أصدق من الله ? .(1)
---------------
وقال تعالى :{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) ( الإسراء)}
وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال:
{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما.
والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره.
وقوله: { إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } أي: يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.
فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها، وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه فإنه يدعوهم { ليكونوا من أصحاب السعير }
وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم وسعى في العداوة فإن الحزم كل الحزم السعي في ضد عدوهم وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها فبذلك يطيعون ربهم ويستقيم أمرهم ويهدون لرشدهم.
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } من أنفسكم فلذلك لا يريد لكم إلا ما هو الخير ولا يأمركم إلا بما فيه مصلحة لكم وقد تريدون شيئا والخير في عكسه.
{ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } فيوفق من شاء لأسباب الرحمة ويخذل من شاء فيضل عنها فيستحق العذاب.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 302)(1/276)
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا } تدبر أمرهم وتقوم بمجازاتهم وإنما الله هو الوكيل وأنت مبلغ هاد إلى صراط مستقيم.
{ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } من جميع أصناف الخلائق فيعطي كلا منهم ما يستحقه تقتضيه حكمته ويفضل بعضهم على بعض في جميع الخصال الحسية والمعنوية كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم من الأوصاف الممدوحة والأخلاق المرضية والأعمال الصالحة وكثرة الأتباع ونزول الكتب على بعضهم المشتملة على الأحكام الشرعية والعقائد المرضية، كما أنزل على داود زبورا وهو الكتاب المعروف.
فإذا كان تعالى قد فضل بعضهم على بعض وآتى بعضهم كتبا فلم ينكر المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم ما أنزله الله عليه وما فضله به من النبوة والكتاب.(1)
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه . . بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيى ء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب , تندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .
(إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) . .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته .(2)
-------------------
وقال تعالى :{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) ( العنكبوت)}
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع.
{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم، وعلى أن الإله واحد، ولا تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب الإلهية، أو بأحد من الرسل، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم، يقدح بجميع ما معهم، من حق وباطل، فهذا ظلم، وخروج عن الواجب وآداب النظر، فإن الواجب، أن يرد ما مع الخصم من الباطل، ويقبل ما معه من الحق، ولا يرد الحق لأجل قوله، ولو كان كافرا. وأيضا، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب، على هذا الطريق، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن، وبالرسول الذي جاء به، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب، وتقررت عند المتناظرين، وثبتت حقائقها عندهما، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها، والرسل كلهم، وهذا من خصائص الإسلام.
فأما أن يقال: نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله، فهذا ظلم وجور، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها، المصدق لما بين يديه من التوراة، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن.
وأيضا، فإن كل طريق تثبت به نبوة أي: نبي كان، فإن مثلها وأعظم منها، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإن مثلها أو أعظم منها، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره، فإذا ثبت بطلانها في غيره، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر.
وقوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن [ ص 633 ] به، واتخذه إلها، وآمن بجميع كتبه ورسله، وانقاد للّه واتبع رسله، فهو السعيد، ومن انحرف عن هذا الطريق، فهو الشقي.(3)
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 460)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 306)
(3) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 632)(1/277)
لما بين الله طريقة إرشاد المشركين ونفع من انتفع وحصل اليأس ممن امتنع بين طريقة إرشاد أهل الكتاب فقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } قال بعض المفسرين المراد منه لا تجادلوهم بالسيف ، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا ، أي إذا ظلموا زائداً على كفرهم ، وفيه معنى ألطف منه وهو أن المشرك جاء بالمنكر على ما بيناه فكان اللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه ، ولهذا قال تعالى في حقهم { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [ البقرة : 18 ] وقال : { لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولهم آذان لا يسمعون بها } [ الأعراف : 179 ] إلى غير ذلك . وأما أهل الكتاب فجاءوا بكل حسن إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والحشر ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن ولا تستخف آراؤهم ولا ينسب الضلال آباؤهم ، بخلاف المشرك ، ثم على هذا فقوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } تبيين له حسن آخر ، وهو أن يكون المراد إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة فإنهم ضاهوهم في القول المنكر فهم الظالمون ، لأن الشرك ظلم عظيم ، فيجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم ، ثم إنه تعالى بين ذلك الأحسن فقدم محاسنهم بقوله : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فيلزمنا اتباع ما قاله لكنه بين رسالتي في كتبكم فهو دليل مضيء ، ثم بعد ذلك ذكر دليلاً قياسياً فقال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وهذا قياس ، ثم قال : { فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } لوجود النص ومن هؤلاء كذلك ، واختلف المفسرون فقال بعضهم : المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بنبينا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره وبقوله : { وَمِنْ هَؤُلاء } أي من أهل مكة وقال بعضهم : المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً من أهل الكتاب ، ومن هؤلاء الذين هم في زمان محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وهذا أقرب ، فإن قوله : { هَؤُلاء } صرفه إلى أهل الكتاب أولى ، لأن الكلام فيهم ولا ذكر للمشركين ههنا ، إذ كان هذا الكلام بعد الفراغ من ذكرهم والإعراض عنهم لإصرارهم على الكفر ، وههنا وجه آخر أولى وأقرب إلى العقل والنقل ، وأقرب إلى الأحسن من الجدال المأمور به ، وهو أن نقول المراد بالذين آتيناهم الكتاب هم الأنبياء وبقوله : { وَمِنْ هَؤُلاء } أي من أهل الكتاب وهو أقرب ، لأن الذين آتاهم الكتاب في الحقيقة هم الأنبياء ، فإن الله ما آتى الكتاب إلا للأنبياء ، كما قال تعالى : { أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 89 ] وقال : { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] وقال : { وَءاتَانِي الكتاب } [ مريم : 30 ] وإذا حملنا الكلام على هذا لا يدخله التخصيص ، لأن كل الأنبياء آمنوا بكل الأنبياء ، وإذا قلنا بما قالوا به يكون المراد من الذين آتيناهم الكتاب عبد الله بن سلام واثنين أو ثلاثة معه أو عدداً قليلاً ، ويكون المراد بقوله : { وَمِنْ هَؤُلاء } غير المذكورين ، وعلى ما ذكرنا يكون مخرج الكلام كأنه قسم القوم قسمين أحدهما المشركين وتكلم فيهم وفرغ منهم والثاني أهل الكتاب وهو بعد في بيان أمرهم ، والوقت وقت جريان ذكرهم ، فإذا قال هؤلاء يكون منصرفاً إلى أهل الكتاب الذين هم في وصفهم ، وإذا قال أولئك يكون منصرفاً إلى المشركين الذين سبق ذكرهم وتحقق أمرهم ، وعلى هذا التفسير يكون الجدال على أحسن الوجوه ، وذلك لأن الخلاف في الأنبياء والأئمة قريب من الخلاف في فضيلة الرؤساء والملوك ، فإذا اختلف حزبان في فضيلة ملكين أو رئيسين ، وأدى الاختلاف إلى الاقتتال يكون أقوى كلام يصلح بينهم أن يقال لهم هذان الملكان متوافقان متصادقان ، فلا معنى لنزاعكم فكذلك ههنا قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن آمنا بالأنبياء وهم آمنوا بي فلا معنى لتعصبكم لهم وكذلك أكابركم وعلماؤكم آمنوا ، ثم قال تعالى : { وما يجحد بآياتنا إِلاَّ الكافرون } تنفيراً لهم عما هم عليه ، يعني أنكم آمنتم بكل شيء ، وامتزتم عن المشركين بكل فضيلة ، إلا هذه المسألة الواحدة ، وبإنكارها تلتحقون بهم وتبطلون مزاياكم ، فإن الجاحد بآية يكون كافراً .(1)
إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم لهي دعوة واحدة من عند إله واحد , ذات هدف واحد , هو رد البشرية الضالة إلى ربها , وهدايتها إلى طريقه , وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات:كلهم أمة واحدة , تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان :صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان , بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 12 / ص 178)(1/278)
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ; والتي تقررها هذه الآية من القرآن ; هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب , أو جنس , أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله , ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ; وتختفي فيها القوميات والأوطان ; ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ; لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة , والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة , والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله , الموافقة لما قبلها من الدعوات , المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . (إلا الذين ظلموا منهم) فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ; وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم , مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم , ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .
وقولوا:آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم , و إلهنا وإلهكم واحد , ونحن له مسلمون . .
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع , والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد , والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم , وهو في صميمه واحد , والمنهج الإلهي متصل الحلقات .
(وكذلك أنزلنا إليك الكتاب . فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به , ومن هؤلاء من يؤمن به , وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) . .
(كذلك) . على النهج الواحد المتصل . وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل . وعلى الطريقة التي يوحي بها الله لرسله (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) . . فوقف الناس بإزائه في صفين:صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش , وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقة , وتصديقه لما بين أيديهم . . (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) . . فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنا ويسترها , فلا يراها ولا يتملاها ! والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي , وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير .
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك . إذن لارتاب المبطلون . .
وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بينهم فترة طويلة من حياته , لا يقرأ ولا يكتب ; ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين . ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئا كاتبا . فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم ?
ونقول:إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فحتى على فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارئا كاتبا , ما جاز لهم أن يرتابوا . فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر . فهو أكبر جدا من طاقة البشر ومعرفة البشر , وآفاق البشر . والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون . وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة , وبأن في عباراته سلطانا , لا يصدران عن بشر !
(بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم , وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) . .
فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم , لا لبس فيها ولا غموض , ولا شبهة فيها ولا ارتياب . دلائل يجدونها بينة في صدورهم , تطمئن إليها قلوبهم , قلا تطلب عليها دليلا وهي الدليل . والعلم الذي يستحق هذا الاسم , هو الذي تجده الصدور في قرارتها , مستقرا فيها , منبعثا منها ; يكشف لها الطريق , ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك ! (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) . . الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور , والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم .
(وقالوا:لولا أنزل عليه آيات من ربه . قل:إنما الآيات عند الله , وإنما أنا نذير مبين) . .
يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية . والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها . بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه ; والذي تتفتح كنوزه لجميع الأجيال ; والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم , يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها , وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب !
(قل:إنما الآيات عند الله) . . يظهرها عند الحاجة إليها , وفق تقديره وتدبيره . وليس لي أن أقترح على الله شيئا . ليس هذا من شأني ولا من أدبي (وإنما أنا نذير مبين) . أنذر وأحذر وأكشف وأبين ; فأؤدي ما كلفته . ولله الأمر بعد ذلك والتدبير .
إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة . وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار . فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار . ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية , حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات . ونشأت عنها الانحرافات .(1/279)
(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ; إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . .
وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير . أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن ? وهو يتنزل عليهم , يحدثهم بما في نفوسهم , ويكشف لهم عما حولهم ; ويشعرهم أن عين الله عليهم , وأنه معني بهم حتى ليحدثهم بأمرهم , ويقص عليهم القصص ويعلمهم . وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير . وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم . . ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله . والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم . ثم هم لا يكتفون !
(إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . .
فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم , وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ; ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير . وهم الذين ينفعهم هذا القرآن , لأنه يحيا في قلوبهم , ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره , ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور .
فأما الذين لا يشعرون بهذا كله , فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن ! هؤلاء المطموسون الذين لا تتفتح قلوبهم للنور . هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم ; وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله !
قل:كفى بالله بيني وبينكم شهيدا , يعلم ما في السموات والأرض . والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون . .
وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة . وهو الذي يعلم أنهم على الباطل: (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) . .
الخاسرون على الإطلاق . الخاسرون لكل شيء . الخاسرون للدنيا والآخرة . الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور .
إن الإيمان بالله كسب . كسب في ذاته . والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله . إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق , وثبات على الأحداث ; وثقة بالسند , واطمئنان للحمى , ويقين بالعاقبة . وإن هذا في ذاته لهو الكسب ; وهو هو الذي يخسره الكافرون . و(أؤلئك هم الخاسرون) . .(1)
==============
6 - وجوب التزام الحكمة
قال تعالى :{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) ( البقرة)}
يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة، ليس ذلك ببدع من إحساننا، ولا بأوله، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم، تعرفون نسبه وصدقه، وأمانته وكماله ونصحه.
{ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل، والهدى من الضلال، التي دلتكم أولا على توحيد الله وكماله، ثم على صدق رسوله، ووجوب الإيمان به، ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب، حتى حصل لكم الهداية التامة، والعلم اليقيني.
{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم، بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتكم من الشرك، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع، إلى التحاب والتواصل والتوادد، وغير ذلك من أنواع التزكية.
{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي: القرآن، ألفاظه ومعانيه، { وَالْحِكْمَةَ } قيل: هي السنة، وقيل: الحكمة، معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها، وتنزيل الأمور منازلها.
فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب، لأن السنة، تبين القرآن وتفسره، وتعبر عنه، { وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لأنهم كانوا قبل بعثته، في ضلال مبين، لا علم ولا عمل، فكل علم أو عمل، نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم، وبسببه كان، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق، ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها؛ فلهذا قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } فأمر تعالى بذكره، ووعد عليه أفضل جزاء، وهو ذكره لمن ذكره، كما قال تعالى على لسان رسوله: { من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم } .
وذكر الله تعالى، أفضله، ما تواطأ عليه القلب واللسان، وهو الذكر الذي يثمر معرفة الله ومحبته، وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر، فلهذا أمر به خصوصا، ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال: { وَاشْكُرُوا لِي } أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب، إقرارا بالنعم، واعترافا، وباللسان، ذكرا وثناء، وبالجوارح، طاعة لله وانقيادا لأمره، واجتنابا لنهيه، فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة، وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية، من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال، بيان أنها أكبر النعم، بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم، إذا زال غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل، أن يشكروا الله على ذلك، ليزيدهم من فضله، وليندفع عنهم الإعجاب، فيشتغلوا بالشكر.(2)
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 369)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 74)(1/280)
والذي يلفت النظر هنا , أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة , وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل . دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت , رسولا منهم , يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم , ووجودهم هم أنفسهم مسلمين , هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم . وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثا إنما هو قديم ; وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم , وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد .
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم , وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم , سبقتها نعمة إرسال رسول منكم:
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم) . .
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم , وأن يختار الرسول الأخير منكم , وقد كانت يهود تستفتح به عليكم !
(يتلو عليكم آياتنا) . .
فما يتلو عليكم هو الحق . . والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله . وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته . فمن هم هؤلاء الناس ? من هم وما هم ? حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته , ويتحدث إليهم بقوله , ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة ? من هم وما هم لولا أن الله يتفضل ? ولولا أن فضل الله يفيض ? ولولا أنه - سبحانه - منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام , وما يستقبل هذا الإفضال ?
(ويزكيكم) . .
ولولا الله ما زكي منهم من أحد , ولا تطهر ولا ارتفع . ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلميطهرهم . يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية , ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره . ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة . والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان , وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة , وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان ! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب . . وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر , ويلطخ المجتمع والحياة . ويطهر حياتهم من الظلم والبغي . وينشر العدل النظيف الصريح , الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام . ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم , وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور . .
(ويعلمكم الكتاب والحكمة) . .
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب ; وبيان للمادة الأصيلة فيه , وهي الحكمة , والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب ; وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة , ووزن الأمور بموازينها الصحيحة , وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات . . وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاهم بآيات الله .
(ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) . .
وكان ذلك حقا في واقع الجماعة المسلمة , فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة , تصلح لحياة القبيلة في الصحراء , أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء . فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة , خبيرة بصيرة عالمة . . وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم . وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة:القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل .
وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان , لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين , ولو آمنت حقا بهذا القرآن , ولو جعلته منهجا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الأذان !
وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلا آخر , وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره . يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه(1)
---------------
وقال تعالى :{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) ( البقرة)}
----------------
وقال تعالى :{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) ( البقرة)}
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 18)(1/281)
لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب } .(1)
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله تريجح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخايل والوهم .
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو وجه النظم " .
و { الْحِكْمَةَ } مشتقة من حكم بمعنى منع ، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس وحكمة لأنها تمنعه من الجموح . أو هي في الأصل مصدر من الإِحكام وهو الإِتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها .
والحكمة بالنسبة للإِنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق ، وتوجه الإِنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة .
وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل ، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به .
والمعنى : أن الله - تعالى - الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } لأن الإِنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع ، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه ، وإلى الإِيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر ، وبذل كيكون سعيداً في دنياه وأخراه .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد - أي لا غبطة - إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله - تعالى - الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإِنسان لأنه أنفع شيء فيه .
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ، ودوافع الشر ، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة .
أي : وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية ، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به ، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله ، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة ، وأن الإِنفاق في سبيل الله هو نوع من الإِسراف والتبذير .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم ، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم .(2)
إنما يعطي(الحكمة) وهي توخي القصد والاعتدال , وإدراك العلل والغايات , ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك:
(يؤتي الحكمة من يشاء , ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) . .
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود ; وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور ; وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . .
(وما يذكر إلا أولوا الألباب) . .
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى , ويتنبه فلا يغفل , ويعتبر فلا يلج في الضلال . . وهذه وظيفة العقل . . وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله ; وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا .
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده , فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي:
رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . .
__________
(1) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 115)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 499)(1/282)
وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى:أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها , بل يعينه عليها:(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) . . ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيهالحكمة , وتمنحه ذلك الخير الكثير .
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء , والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) . (يؤتي الحكمة من يشاء . . .) . .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما: طريق الله . وطريق الشيطان . أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان . ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده . . ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق . . المنهج الذي شرعه الله . . وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان .
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد . كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب . ليست هنالك شبهة ولا غشاوة . . الله . أو الشيطان . منهج الله أو منهج الشيطان . طريق الله أو طريق الشيطان . . ولمن شاء أن يختار . .
(ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) . .
لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة . . وإنما هو الهدى أو الضلال . وهو الحق واحد لا يتعدد . .
فماذا بعد الحق إلا الضلال ?!(1)
----------------
وقال تعالى :{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) ( آل عمران)}
----------------
وقال تعالى :{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164) ( آل عمران)}
قال الرازى : قال الواحدى : " لمن فى كلام العرب معان :
أحدها : الذى يسقط من السماء ، وهو قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } وثالثها : القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا " .
والمعنى : لقد أنعم الله على المؤمنين ، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر ، هو من العرب أنفسهم ، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب ، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب ، وقد بعثه الله عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته .
ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة ، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، وجعل رسالته عامة فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام ، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام .
والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير : والله { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } .
والتلاوة : هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض .
والتزكية : هى التطهير والتنقية .
أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسلا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب . أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية ، والاعتقادات الفاسدة .
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قدى تخفى على مداركهم . فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .
ويعلمهم كذلك { الحكمة } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب .
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
أى : إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره لعى أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 43)(1/283)
وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم .
والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل .
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .(1)
إن ختام هذه الفقرة بهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وقيمتها الذاتية , وعظم المنة الإلهية بها , ودورها في إنشاء هذه الأمة وتعليمها وتربيتها وقيادتها , ونقلها من الضلال المبين إلى العلم والحكمة والطهارة . . إن هذا الختام يتضمن لمسات قرآنية كثيرة منوعة عميقة:
إنها تجيء ابتداء تعقيبا على الغنائم والطمع فيها والغلول , والانشغال بهذا الأمر الصغير , الذي كان الإنشغال به هو السبب المباشر الذي قلب الموقف في المعركة , وبدل النصر هزيمة , وفعل بالمسلمين الأفاعيل . فالإشارة إلى حقيقة الرسالة الكبيرة , والمنة العظيمة المتمثلة فيها , لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية الفريدة . تبدو في ظلها غنائم الأرض كلها , وأسلاب الأرض كلها , وإعراض الأرض كلها , شيئا تافها زهيدا , لا يذكر ولا يقدر . شيئا تخجل النفس المؤمنة أن تذكره , بل تستحي أن تفكر فيه ! فضلا عن أن تشغل به !
وهي تجيء في سياق الحديث عن الهزيمة والقرح والألم والخسارة التي أصابت الجماعة المسلمة في المعركة . . فالإشارة إلى تلك الحقيقة الكبيرة , وما تمثله من منة عظيمة , لمسة عميقة من لمسات التربية القرآنية العجيبة , تصغر في ظلها الآلام والخسائر , وتصغر إلى جانبها الجراح والتضحيات . على حين تعظم المنة , ويتجلى العطاء الذي يرجح كل شيء في حياة الأمة المسلمة على الإطلاق .
ثم . . الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة , وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) . . وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال , ومن وضع إلى وضع , ومن عهد إلى عهد . فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض , وفي حياة البشر , والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لأمة هذا شأنها , أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم , ولا أن تجزع من التضحيات والآلام , التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة . .
هذه بعض اللمسات المستفادة من ذكر هذه المنة في هذا السياق . نذكرها باختصار وإجمال , لنواجه النص القرآني الحافل بالإيحاءات والظلال:
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) . .
إنها المنة العظمى أن يبعث الله فيهم رسولا , وأن يكون هذا الرسول (من أنفسهم) . . إن العناية من الله الجليل , بإرسال رسول من عنده إلى بعض خلقه , هي المنة التي لا تنبثق إلا من فيض الكرم الإلهي . المنة الخالصة التي لا يقابلها شيء من جانب البشر . وإلا فمن هم هؤلاء الناس , ومن هم هؤلاء الخلق , حتى يذكرهم الله هذا الذكر , ويعنى بهم هذه العناية ? ويبلغ من حفاوة الله بهم , أن يرسل لهم رسولا من عنده , يحدثهم بآياته - سبحانه - وكلماته , لولا أن كرم الله يفيض بلا حساب , ويغمر خلائقه بلا سبب منهم ولا مقابل ?
وتتضاعف المنة بأن يكون هذا الرسول "من أنفسهم" . . لم يقل "منهم" فإن للتعبير القرآني "من أنفسهم" ظلالا عميقة الإيحاء والدلالة . . إن الصلة بين المؤمنين والرسول هي صلة النفس بالنفس , لا صلة الفرد بالجنس .
فليست المسألة أنه واحد منهم وكفى . إنما هي أعمق من ذلك وأرقى . ثم إنهم بالإيمان يرتفعون إلى هذه الصلة بالرسول , ويصلون إلى هذا الأفق من الكرامة على الله . فهو منة على المؤمنين . . فالمنة مضاعفة , ممثلة في إرسال الرسول , وفي وصل أنفسهم بنفس الرسول , ونفس الرسول بأنفسهم على هذا النحو الحبيب .
ثم تتجلى هذه المنة العلوية في آثارها العملية . . في نفوسهم وحياتهم وتاريخهم الإنساني:
(يتلو عليهم آياته , ويزكيهم , ويعلمهم الكتاب والحكمة) . .
تتجلى هذه المنة في أكبر مجاليها . في تكريم الله لهم . بإرسال رسول من عنده يخاطبهم بكلام الله الجليل:
يتلو عليهم آياته . .
ولو تأمل الإنسان هذه المنة وحدها لراعته وهزته حتى ما يتمالك أن ينصب قامته أمام الله , حتى وهو يقف أمامه للشكر والصلاة !
ولو تأمل أن الله الجليل - سبحانه - يتكرم عليه , فيخاطبه بكلماته . يخاطبه ليحدثه عن ذاته الجليلة وصفاته ; وليعرفه بحقيقة الألوهية وخصائصها . ثم يخاطبه ليحدثه عن شأنه هو - هو الإنسان - هو العبد الصغير الضئيل - وعن حياته , وعن خوالجه , وعن حركاته وسكناته . يخاطبه ليدعوه إلى ما يحييه , وليرشده إلى ما يصلح قلبه وحاله , ويهتف به إلى جنة عرضها السماوات والأرض .
فهل هو إلا الكرم الفائض الذي يجري بهذه المنة , وهذا التفضل , وهذا العطاء ?
__________
(1) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 790)(1/284)
إن الله الجليل غني عن العالمين . وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج . . ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل , ويتلمسه بعنايته , ويتابعه بدعوته ! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته ! فيا للكرم ! ويا للمنة ! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء !
(ويزكيهم) . .
يطهرهم ويرفعهم وينقيهم . يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم . ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم . ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم . . يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة , وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته . . ويطهرم من دنس الحياة الجاهلية , وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم .
وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها , وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها .
من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه , وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده . . يقول جعفر:
"أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام ,ونسيء الجوار , ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا , نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده , ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان , وأمرنا بصدق الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الرحم , وحسن الجوار , والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقذف المحصنات , وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا , وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . .
ومن أرجاسها ما حكته عائشة - رضي الله عنها - وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية كما جاء في صحيح البخاري , في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية:
"إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء . فنكاح منها نكاح الناس اليوم:يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته , فيصدقها , ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها:أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ! ويعتزلها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه ! فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة , فيدخلون على المرأة , كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت , ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم , فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع , حتى يجتمعوا عندها , تقول لهم:قد عرفتم الذي كان من أمركم , وقد ولدت . فهو إبنك يا فلان . تسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها . ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل ! والنكاح الرابع:يجتمع الناس الكثير , فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا , كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما - فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها , جمعوا لها , ودعوا لهم القافة , ثم الحقوا ولدها بالذي يرون , فالتاطه , ودعي إبنه , لا يمتنع من ذلك ! " . .
ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق . ويكفي تصور الرجل , وهو يرسل امرأته إلى "فلان" لتأتي له منه بولد نجيب . تماما كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب , لتأتي له منه بنتاج جيد !
ويكفي تصور الرجال - ما دون العشرة ! - يدخلون إلى المرأة مجتمعين - "كلهم يصيبها ! " . . ثم تختار هي أحدهم لتلحق به ولدها !
أما البغاء - وهو الصورة الرابعة - فهو البغاء ! يزيد عليه إلحاق نتاجه برجل من البغاة ! لا يجد في ذلك معرة ! ولا يمتنع من ذلك !
إنه الوحل . الذي طهر الإسلام منه العرب . وزكاهم . وكانوا - لولا الإسلام - غارقين إلى الأذقان فيه !
ولم يكن هذا الوحل في العلاقات الجنسية إلا طرفا من النظرة الهابطة إلى المرأة في الجاهلية . يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين":
"وكانت المرأة في المجتمع الجالهي عرضة غبن وحيف , تؤكل حقوقها , وتبتز أموالها , وتحرم من إرثها , وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه وتورث كما يورث المتاع أو الدابة عن ابن عباس قال:" كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه , فهو أحق بامرأته , إن شاء أمسكها أو يحبسها حتىتفتدى بصداقها , أو تموت فيذهب بمالها " . . وقال عطاء بن رباح . . " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل , فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم " . . وقال السدي:إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو إبنه , فإذا مات وترك امرأته , فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه , أو ينكحها فيأخذ مهرها . وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها " . وكانت المرأة في الجاهلية يطفف معها الكيل , فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها , يؤخذ مما تؤتي من مهر , وتمسك ضرارا للاعتداء . وتلاقي من بعلها نشوزا أو إعراضا , وتترك في بعض الأحيان كالمعلقة . ومن المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث . وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما يشاء من غير تحديد .(1/285)
"وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد . ذكر الهيثم بن عدي - على ما حكاه عنه الميداني - أن الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة , فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة . فجاء الإسلام , وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد . فمنهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة ومخافة لحوق العار بهم من أجلهن . ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء . أو شيماء [ سوداء ] أو برشاء [ برصاء ] أو كسحاء [ عرجاء ] تشاؤما منهم بهذه الصفات . ومنهم كان يقتل أولاده خشية الإنفاق , وخوف الفقر . .
"وكانوا يقتلون البنات ويئدونهن بقسوة نادرة في بعض الأحيان , فقد يتأخر وأد الموءودة لسفر الوالد وشغله , فلا يئدها إلا وقد كبرت , وصارت تعقل . وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات . وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق" . .
ومن أرجاسها - وأصل هذه الأرجاس جميعا - الشرك والوثنية الهابطة الساذجة:كما يصورها في إجمال الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"انغمست الأمة في الوثنية وعبادة الأصنام بأبشع أشكالها . فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة , صنم خاص , بل كان لكل بيت صنم خصوصي . قال الكلبي:كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه , فإذا أراد أحدهم السفر , كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به , وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا" . واستهترت العرب في عبادة الأصنام , فمنهم من اتخذ بيتا , ومنهم من اتخذ صنما ; ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم , وامام غيره مما استحسن , ثم طاف به كطوافه بالبيت , وسموها الأنصاب . وكان في جوف الكعبة - البيت الذي بني لعبادة الله وحده - وفي فنائها ثلاثمائة وستون صنما . وتدرجوا من عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة جنس الحجارة . روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي , قال:كنا نعبد الحجر , فإذا وجدنا حجرا هو خيرا منه القيناه وأخذنا الآخر ; فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب , ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به . وقال الكلبي:كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا , أخذ أربعة أحجار , فنظر إلى أحسنها , فاتخذه ربا , وجعل ثلاث أثافي لقدره , وإذاارتحل تركه .
"وكان للعرب - شأن كل أمة مشركة في كل زمان ومكان - آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب . فكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله فيتخذونهم شفعاء لهم عند الله , ويعبدونهم , ويتوسلون بهم عند الله . واتخذوا كذلك معه الجن شركاء لله , وآمنوا بقدرتهم وتأثيرهم , وعبدوهم . قال الكلبي:كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . وقال صاعد:كانت حمير تعبد الشمس . وكنانة القمر . وتميم الدبران . ولخم وجذام المشتري . وطي سهيلا . وقيس الشعري العبور . وأسد عطاردا" .
ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية , ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة ! ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم , والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء . ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية , التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم ! ومن مفاخراتهم في أسواقهم ! من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة , التي تشغل اهتماماتهم , فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة:
"هانت عليهم الحرب وإراقة الدماء حتى كانت تثيرها حادثة ليست بذات خطر . فقد وقعت الحرب بين بكر وتغلب إبني وائل , ومكثت أربعين سنة أريقت فيها دماء غزيرة , وما ذاك إلا أن كليبا رئيس معد , رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ فاختلط دمها بلبنها ; وقتل جساس بن مرة كليبا , واشتبكت الحرب بين بكر وتغلب . وكانت كما قال المهلهل أخو كليب:"قد فني الحياة , وثكلت الأمهات , ويتم الأولاد . دموع لا ترقأ , وأجساد لا تدفن" .
"وكذلك حرب داحس والغبراء . فما كان سببها إلا أن داحسا فرس قيس بن زهير , كان سابقا في رهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر , فعارضه أسدي بإيعاز من حذيفة , فلطم وجهه وشغله , ففاتته الخيل . وتلا ذلك قتل , ثم أخذ بالثأر . ونصر القبائل لأبنائها , وأسر , ونزح للقبائل , وقتل في ذلك ألوف من الناس" .
وكان ذلك علامة فراغ الحياة من الاهتمامات الكبيرة , التي تشغلهم عن تفريغ الطاقة في هذه الملابسات الصغيرة . إذ لم تكن لهم رسالة للحياة , ولا فكرة للبشرية , ولا دور للإنسانية , يشغلهم عن هذا السفساف . . ولم تكن هناك عقيدة تطهرهم من هذه الأرجاس الاجتماعية الذميمة . . وماذا يكون الناس من غير عقيدة إلهية ? ماذا تكون اهتماماتهم ? وماذا تكون تصوراتهم ? وماذا تكون أخلاقهم ?
إن الجاهلية هي الجاهلية . ولكل جاهلية أرجاسها وأدناسها . لا يهم موقعها من الزمان والمكان . فحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهية تحكم تصوراتهم , ومن شريعة - منبثقة من هذه العقيدة - تحكم حياتهم , فلن تكون إلا الجاهلية في صورة من صورها الكثيرة . . والجاهلية التي تتمرغ البشرية اليوم في وحلها , لا تختلف في طبيعتها عن تلك الجاهلية العربية أو غيرها من الجاهليات التي عاصرتها في أنحاء الأرض , حتى أنقذها منها الإسلام وطهرها وزكاها .(1/286)
إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير ! ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها . ومسابقات جمالها , ومراقصها , وحاناتها . وإذاعاتها . ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري , والأوضاع المثيرة , والإيحاءات المريضة , في الأدب والفن واجهزة الإعلام كلها . . إلى جانب نظامها الربوي , وما يكمن وراءه من سعار للمال , ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره , وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون . . وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي , الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت , وكل نظام , وكل تجمع إنساني . . نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية .
إن البشرية تتآكل إنسانيتها , وتتحلل آدميتها , وهي تلهث وراء الحيوان , ومثيرات الحيوان , لتلحق بعالمه الهابط ! والحيوان أنظف وأشرف وأطهر . لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع , ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة , ومن نظام العقيدة , ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها , والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة:
(ويعلمهم الكتاب والحكمة) . .
وكان المخاطبون بهذه الآية أميين جهالا . أمية القلم , وأمية العقل سواء . وما كان لهم من المعرفة شيء ذو قيمة بالمقاييس العالمية للمعرفة , في أي باب من الأبواب . وما كان لهم في حياتهم من هموم كبيرة تنشىء معرفة ذات قيمة عالمية في أي باب من الأبواب . فإذا هذه الرسالة تحيلهم أساتذة الدنيا , وحكماء العالم , وأصحاب المنهج العقيدي والفكري والاجتماعي والتنظيمي , الذي ينقذ البشرية كلها من جاهليتها في ذلك الزمان . والذي يرتقب دوره في الجولة القادمة - بإذن الله - لإنقاذ البشرية مرة أخرى من جاهليتها الحديثة , التي تتمثل فيها كل خصائص الجاهلية القديمة ; من النواحي الأخلاقية والاجتماعية ; وتصور أهداف الحياة الإنسانية وغاياتها كذلك ! على الرغم من فتوحات العلم المادي والإنتاج الصناعي , والرخاء الحضاري !
(وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) .
ضلال في التصور والاعتقاد , وضلال في مفهومات الحياة , وضلال في الغاية والاتجاه , وضلال في العادات والسلوك , وضلال في الأنظمة والأوضاع , وضلال في المجتمع والأخلاق . .
والعرب الذين كانوا يخاطبون بهذه الآية كانوا يذكرون - ولا شك - ماضي حياتهم وأوضاعهم , ويعرفون طبيعة النقلة التي نقلهم إليها الإسلام , وما كانوا ببالغيها بغير الإسلام ; وهي نقلة غير معهودة في تاريخ بني الإنسان .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي نقلهم من طور القبيلة , واهتمامات القبيلة , وثارات القبيلة , لا ليكونوا أمة فحسب . ولكن ليكونوا - على حين فجأة ومن غير تمهيد يتدخل فيه الزمن - أمة تقود البشرية , وترسم لها مثلها , ومناهج حياتها , وأنظمتها كذلك , في صورة غير معهودة في تاريخ البشرية الطويل .
كانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي منحهم وجودهم القومي , ووجودهم السياسي ووجودهم الدولي . . وقبل كل شيء وأهم من كل شيء . . وجودهم الإنساني , الذي يرفع إنسانيتهم , ويكرمآدميتهم , ويقيم نظام حياتهم كله على أساس هذا التكريم , الذي جاءهم هدية ومنه من لدن ربهم الكريم . والذي أفاضوه هم على البشرية كلها بعد ذلك , وعلموها كيف تحترم "الإنسان" وتكرمه بتكريم الله . غير مسبوقين في هذا , لا في الجزيرة العربية , ولا في أي مكان . . وفي اللفتة السابقة إلى "الشورى " طرف من هذا المنهج الإلهي , الذي كانوا يدركون فيه عظم المنة عليهم من الله .
وكانوا يدركون أن الإسلام - والإسلام وحده - هو الذي جعل لهم رسالة يقدمونها للعامل , ونظرية للحياة البشرية , ومذهبا مميزا للحياة الإنسانية . . والأمة لا توجد في الحقل الإنساني الكبير إلا برسالة ونظرية ومذهب , تقدمه للبشرية , لتدفع بالبشرية إلى الإمام .
وقد كان الإسلام , وتصوره للوجود , ورأيه في الحياة , وشريعته للمجتمع , وتنظيمه للحياة البشرية , ومنهجه المثالي الواقعي الإيجابي لإقامة نظام يسعد في ظله "الإنسان" . . كان الإسلام بخصائصه هذه هو "بطاقة الشخصية " التي تقدم بها العرب للعالم , فعرفهم , واحترمهم , وسلمهم القيادة .
وهم اليوم وغدا لا يحملون إلا هذه البطاقة . ليست لهم رسالة غيرها يتعرفون بها إلى العالم . وهم إما أن يحملوها فتعرفهم البشرية وتكرمهم ; وإما أن ينبذوها فيعودوا هملا - كما كانوا - لا يعرفهم أحد , ولا يعترف بهم أحد !
وما الذي يقدمونه للبشرية حين لا يتقدمون إليها بهذه الرسالة ?
يقدمون لها عبقريات في الآداب والفنون والعلوم ? لقد سبقتهم شعوب الأرض في هذه الحقول . والبشرية تغص بالعبقريات في هذه الحقول الفرعية للحياة . وليست في حاجة ولا في انتظار إلى عبقريات من هناك في هذه الحقول الفرعية للحياة !
يقدمون لها عبقريات في الإنتاج الصناعي المتفوق , تنحني له الجباه , ويغرقون به أسواقها , ويغطون به على ما عندها من انتاج ? ? لقد سبقتهم شعوب كثيرة , في يدها عجلة القيادة في هذا المضمار !
يقدمون لها فلسفة مذهبية اجتماعية , ومناهج اقتصادية وتنظيمية من صنع أيديهم , ومن وحي أفكارهم البشرية ? إن الأرض تعج بالفلسفات والمذاهب والمناهج الأرضية . وتشقى بها جميعا غاية الشقاء !
ماذا إذن يقدمون للبشرية لتعرفهم به , وتعترف لهم بالسبق والتفوق والامتياز ?(1/287)
لا شيء إلا هذه الرسالة الكبيرة . لا شيء إلا هذا المنهج الفريد . لا شيء إلا هذه المنة التي اختارهم الله لها , وأكرمهم بها , وأنقذ بها البشرية كلها على أيديهم ذات يوم . والبشرية اليوم أحوج ما تكون إليها , وهي تتردى في هاوية الشقاء والحيرة والقلق والإفلاس !
إنها - وحدها - بطاقة الشخصية التي تقدموا بها قديما للبشرية , فأحنت لها هامتها . والتي يمكن أن يقدموها لها اليوم , فيكون فيها الخلاص والإنقاذ .
إن لكل أمة من الأمم الكبيرة رسالة . وأكبر أمة هي التي تحمل أكبر رسالة . وهي التي تقدم أكبر منهج . وهي التي تتفرد في الأرض بأرفع مذهب للحياة .
والعرب يملكون هذه الرسالة - وهم فيها أصلاء , وغيرهم من الشعوب هم شركاء - فأي شيطان يا ترى يصرفهم عن هذا الرصيد الضخم ? أي شيطان ?!
لقد كانت المنة الإلهية على هذه الأمة بهذا الرسول وبهذه الرسالة عظيمة عظيمة . وما يمكن أن يصرفها عن هذه المنة إلا شيطان . . وهي مكلفة من ربها بمطاردة الشيطان !(1)
-----------------
وقال تعالى :{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) ( النساء)}
أى : ولولا فضل الله عليك ورحمته بك - يا محمد - بأن وهبك النبوة ، وعصمك من كيد الناس وأذاهم ، وأحاطك علما بما يبيتونه من سوء لولا ذلك { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أى : من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم وهم طعمة وأشياعه الذين دافعوا عنه ، ومن كان على شاكلتهم فى النفاق والجدال بالباطل { أَن يُضِلُّوكَ } أى : لهمت طائفة من هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض أن يضلوك عن القضاء بالحق بين الناس ، ولكن الله - تعالى - حال بينهم وبين هذا الهم بإشعارهم بأن ما يفعلونه معك من سوء سكشفه الله لك عن طريق الوحى .
وقوله { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } أى : أنهم بمحاولتهم إخفاءالحق والدفاع عن الخائن ، وتعاونهم على الإِثم والعدوان ، ما يضلون إلا أنفسهم ، لأن سوء عاقبة ذلك ستعود عليهم وحدهم ، أما أنت يا محمد فقد عصمك الله من شرورهم ، وحماك من كل انحراف عن الحق والعدل .
وقوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } معطوف على ما قبله . أى هم بمحاولتهم إخفاء الحق ما يضرونك بأى قدر من الضر . لأنك إنما قضيت بينهم بما هو الظاهر من أحوالهم ، وهو الذى تحكم بمقتضاه ، أما الأمور الخفية التى تخالف الحق فمرجع علمه إلى الله وحده .
{ مِن } فى قوله { مِن شَيْءٍ } زائدة لتأكيد النفى . وشئ أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله { يَضُرُّونَكَ } . أى : وما يضرونك شيئا من الضرر وقد جر لأجل حرف الجر الزائد .
وقوله { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } معطوف على قوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } لزيادة التقري ، ولزيادة بيان ما وهبه الله- تعالى - لنبيه من خير ورعاية وعصمة أى : أن الله - تعالى - قد امتن عليك يا محمد بأن أنزل عليك القرآن الذى يهدى للتى هى أقوم ، وأنزل عليك الحكمة أى العلم النافع الذى يجعلك تصيب الحق فى قولك وعملك { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } من أخبار الأولين والآخرين ، ومن خفيات الأمور ، ومن أمور الدين والشرائع .{ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } أى وكان فضل الله عليك عظيما عظماً لا تحده عبارة ، ولا تحيط به إشارة .
فالآية الكريمة فهيا ما فيها من التنويه بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن مظاهر فضل اللهع ليه ورحمته به .
وبعد فإن المتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، ليراها تهدى الناس إلى ما يسعدهم فى كل زمان ومكان متى اتبعوا توجيهاتها وإرشاداتها .
إنها تأمرهم فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يتلزموا الحق فى كل أقوالهم وأعمالهم ، حتى ولو كان الذى عليه الحق من أقرب الناس إليهم ، وكان الذى له الحق من أعدى أعدائهم ، وتنهاهم عن الدفاع عن الخائنين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، وتبين لهم أن دفاعهم عنهم لن يفيده أمام الله - تعالى - .
ثم تفتح للعصاة باب التوبة لكى يفيئوا إلى رشدهم ويعودوا إلى طاعة ربهم وتخبرهم أن شؤم المعصية سيعود إليهم وحدهم . . وتنبههم إلى أن من أشد الذنوب عند الله - تعالى - أن يفعل الشخص فاحشة ثم يقذف بها غيره .(2)
ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة ، وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أنه سارق ، ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة ، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي ، ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ .
ثم قال تعالى : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان ، فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 71)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1068)(1/288)
{ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } فيه وجهان : الأول : قال القفال رحمه الله : وما يضرونك في المستقبل ، فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل . الثاني : أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل ، لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال ، وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر .
ثم قال تعالى : { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة }
وأعلم أنّا إن فسرنا قوله { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة } مؤكداً لذلك الوعد ، يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات ، وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذوراً في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى : وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر .
ثم قال تعالى : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً }
قال القفال رحمه الله : هذه الآية تحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المراد ما يتعلق بالدين ، كما قال { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] وعلى هذا الوجه تقدير الآية : أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما ، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك .
الوجه الثاني : أن يكون المراد : وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم ، ثم قال { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل ، كما قال { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلاً ، ثم أنه سمى ذلك القليل عظيماً حيث قال { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } وسمى جميع الدنيا قليلاً حيث قال { قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] وذلك يدل على غاية شرف العلم .(1)
---------------
وقال تعالى :{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) ( الأنعام)}
أى : فمن يرد الله أن يهديه للإسلام ، ويوفقه له ، يوسع صدره لقبوله ، ويسهله له بفضله وإحسانه .
وشرح الصدر : توسعته ، يقال : شرح الله صدره فانشرح ، أى : وسعه فاتسع ، وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها . مصفاة عما يمنعه وينافيه .
روى عبد الرازق أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : كيف يشرح صدره؟ فقال : " نور يقذف فينشرح له وينفسح ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافة عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " .
وقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } أى ومن يرد أن يضله لسوء اختياره ، وإيثاره الضلالة على الهداية يصير صدره ضيقا متزايد الضيق لا منفذ فيه للإسلام . والحرج : مصدر حرج صدره حرجا فهو حرج ، أى : ضاق ضيقا شديداً . وصف به الضيق للمبالغة ، كأنه نفس الضيق ، وأصل الحرج مجتمع الشىء ويقال : للحديقة الملتفة الأشجار التى يصعب دخولها حرجة .
وقرىء حرجا - بكسر الراء - صفة لقوله { ضَيِّقاً } .
روى أن جماعة من الصحابة قرأوا أمام عمر - رضى الله عنه - " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " بكسر الراء فقال عمر : يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التى لا تصل إليها راعية ولا وحشية . فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير " .
وقوله { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } استئناف ، أو حال من ضمير الوصف ، أو وصف آخر لقلب الضال ، والمراد المبالغة فى ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة .
أى : كأنما إذا دعى إلى الإسلام قد كلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيعه بحال . ويصعد أى : يتصعد ، بمعنى يتكلف الصعود فلا يقدر عليه .
وفيه إشارة إلى أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود .
وقوله : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } أى : مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، يجعل الله الرجس . أى : العذاب ، أو الخذلان ، أو اللعنة فى الدنميا على الذين لا يؤمنون بالإسلام .(2)
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ; وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء , وتصور كل شيء , وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
__________
(1) - تفسير الرازي - (ج 5 / ص 378)
(2) - الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1535)(1/289)
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية , التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال , واستمداد , واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية , وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ? إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود , فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله , والصلة في الله , لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج , وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب , الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فتتكشف له حقائق هذا الدين , ومنهجه في العمل والحركة , تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو "تصميما" واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة , وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ; فتتكشف له حقائق الوجود , وحقائق الحياة , وحقائق الناس , وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة , أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله , كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور , فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها , وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية:
(أو من كان ميتا فأحييناه , وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس , كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?) .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها , ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز , وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء , ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال , وتلتقط الشارد , وتطمئن الخائف , وتحرر المستعبد , وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ; الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة , وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات , لا مخرج له منها ? إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ?
(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) . .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة , تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ; ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود , ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً , ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور , يسمع في الظلمة للوسوسة ; ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .(1/290)
وبنفس الطريقة , ولنفس الأسباب , وعلى هذه القاعدة جعل الله في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . . ليتم الابتلاء ; وينفذ القدر ; وتتحقق الحكمة ; ويمضي كل فيما هو ميسر له , وينال كل جزاءه في نهاية المطاف:
(وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها , وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)
إنها سنة جارية أن ينتدب في كل قرية - وهي المدينة الكبيرة والعاصمة - نفر من أكابر المجرمين فيها , يقفون موقف العداء من دين الله . ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس , ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس , ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب , ويرد هذا كله إلى الله وحده . . رب الناس . . ملك الناس . . إله الناس . .
إنها سنة من أصل الفطرة . . أن يرسل الله رسله بالحق . . بهذا الحق الذي يجرد مدعي الألوهية من الألوهية والربوبية والحاكمية . فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله . ثم يمكرون مكرهم في القرى , ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ويتعاونون مع شياطين الجن في المعركة مع الحق والهدى , وفي نشر الباطل والضلال , واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي . .
إنها سنة جارية . ومعركة محتومة . لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل بين القاعدة الأولى في دين الله - وهي رد الحاكمية كلها لله - وبين أطماع المجرمين في القرى . بل بين وجودهم أصلاً . .(1)
-----------------
و قال تعالى :{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39) ( الإسراء)}
{ ذَلِكَ } الذي بيناه ووضحناه من هذه الأحكام الجليلة، { مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } فإن الحكمة الأمر بمحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والنهي عن أراذل الأخلاق وأسوأ الأعمال.
وهذه الأعمال المذكورة في هذه الآيات من الحكمة العالية التي أوحاها رب العالمين لسيد المرسلين في أشرف الكتب ليأمر بها أفضل الأمم فهي من الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا.
ثم ختمها بالنهي عن عبادة غير الله كما افتتحها بذلك فقال: { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ } أي: خالدا مخلدا فإنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
{ مَلُومًا مَدْحُورًا } أي: قد لحقتك اللائمة واللعنة والذم من الله وملائكته والناس أجمعين.(2)
-------------
وقال تعالى :{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) ( الأحزاب)}
---------------
وقال تعالى :{وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) ( الزخرف)}
----------------
أهمية الحكمة في الدعوة
يقول الله ـ تعالى ـ : ( يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب) البقرة: 269 ، إذا فالحكمة منة ، ونعمة عظيمة من الله ـ تعالى ـ يمتن بها على من يشاء من عبادة ، وهي من الأشياء التي يمكن اكتسابها بالمراس والمران.
ويعرف ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ الحكمة بأنها : ( فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ) مدارج السالكين .
يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسير : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) أي كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة، الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، و إلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر، والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ...
إذا فالحكمة في الدعوة أمر مطلوب ، والداعي إلى الله مأمور بتوخي الحكمة حين دعوته ومصداق ذلك قول الله ـ تعالى ـ : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) النحل: 125 ، وقوله ـ سبحانه ـ : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) يوسف: 108.
وحينما طبق الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الحكمة في دعوتهم ، وساروا على هدي المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهجه دخل الناس في الإسلام أفواجا ، وانتشر الإسلام في بقاع الأرض.
لكن لا يُفهم من الحكمة في الدعوة أنها تعني الرفق ، والحلم مع المدعو فحسب ، بل إن مراتب الحكمة تتجاوز ذلك كثيرا.
فمن الحكمة أن يكون الداعي رفيقا لينا مع المدعوين كما قال ـ تعالى ـ عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر... ) آل عمران : 159 ، وقال ـ سبحانه ـ مخاطباً موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) طه: 43-44.
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 170)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 458)(1/291)
و من الحكمة أحيانا استخدام الشدة والتأنيب أحيانا ، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه ، فهي لين في وقت اللين ، وشدة في وقت الشدة . يقول الله ـ تعالى ـ على لسان موسى ـ عليه السلام ـ مخاطبا فرعون لما طغى وتكبر : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) الإسراء: 102 ، ويقول ـ تعالى ـ : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين و اغلظ عليهم ومأواهم جهنم و بئس المصير ) التوبة: 73
وإن من الحكمة أيضا أن يكون الداعي قدوة في قوله وفعله ، يقول الله ـ تعالى ـ : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف: 2-3.
ومن أصول الحكمة مراعاة حال المدعوين ، إذ ليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الدعوة مع الكبير والصغير ، والرجل و المرأة ، والمتعلم والجاهل ، والرئيس والمرؤوس ، والهادئ والغضوب ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة كل بما يناسبه. يقول ـ تعالى ـ: ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ...) إبراهيم: 4.
إن الداعي الناجح هو الذي يعطي كل إنسان ما يلزمه من أفكار وتوجيهات، ويحاول أن يقنعه بالأسلوب الذي يناسبه ، ويناسب مداركه .
يقول سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ : ( ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر ) من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64
ومن مراتب الحكمة المجادلة بالتي هي أحسن من ضرب الأمثلة ، وبيان الحق بالأدلة العقلية والنقلية ، وإعطاء الحجج الصادقة، ونقض الحجج الباطلة، مع تحري الوصول إلى الحق ، يقول الله ـ تعالى ـ: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) العنكبوت: 26. وليحذر الداعي أن يتحول قصده من الدعوة إلى إظهار التفوق في النقاش، أو الغلبة في الجدل، ولكن ليكن القصد والغاية الإقناع والوصول إلى الحق.
كما أن من أعلى المراتب التي يجب أن يتحلى بها الداعي إلى الله دفع السيئة بالحسنة ، وهي مرتبة رفيعة لا ينالها إلا فئة نالت حظا عظيما كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت: 34-35.
وفي جميع الأحوال يجب على الداعي قول الحق، والصبر على الأذى، صبر المؤمنين العاملين، لا صبر الخانعين المستسلمين. روى البخاري عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==================
مفهوم الحكمة في الدعوة(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
فهذه كلمات في الحكمة والدعوة دعا إليها - في تقديري - ما يلحظ في الساحة من نشاط يقوم به رجال أفاضل يدعون إلى الله ، ويلاقون في دعوتهم ما يلاقيه من يقوم بمهمتهم في الماضي والحاضر وفي كل حين ، فهي سنة الله في الحاضرين والغابرين .
والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين . وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود والإباء والاستكبار من لدن فئات كثيرة ، وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }سورة يوسف ، آية : 158 .
وفي هذه الكلمات سوف ينحصر الكلام على الحكمة بيانا لمعناها وإيضاحا لمدلولاتها .
ذلك أن الحكمة إذا اقترنت بالدعوة فإنها تقوي الأمل واليقين ، وترتفع بالمدعوين إلى مستوى الشعور بالمسئولية والتكليف ، وإذا ما تأكد فيها هذا الشعور فسوف تتغير طباعهم وتعتدل مسالكهم ويصح توجيههم . فحق على الداعي إلى الله أن يعمل على إيقاظ هذا الشعور . هذا وسوف أعرض إلى تعريف كل من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، ثم العوامل التي تحقق مفهوم الحكمة : من ضرورة معرفة طبائع الناس ، وطبقات المدعوين ، والنظر في الظروف الزمانية والمكانية ، والأساليب القولية والعملية .
تعريف الحكمة :
الحكمة مأخوذ من الحكمة - بفتح الكاف والميم - وهو ما يوضع للدابة كي يذللها راكبها فيمنع جماحها . ومنه اشتقت الحكمة قالوا : لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل (2) .
والحكمة في حقيقتها : وضع الأشياء في مواضعها .
__________
(1) - المؤلف : صالح بن عبد الله بن حميد =الطبعة : الأولى =الناشر : وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية =تاريخ النشر : 1422هـ -
مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
(2) -المصباح المنير 56 .(1/292)
وهذا تعريف عام يشمل الأقوال والأفعال وسائر التصرفات ، ولعلك أخي الفاضل تدرك أن الحكمة التي نرمي إلى بيانها في هذه المقالة هي الحكمة التي ينبغي أن يتصف بها القائم بالدعوة إلى الله ، ومن أجل هذا فهي غالبا ما تكون قولا في علم وموعظة أو تصرفا نحو الآخرين من أجل دفعهم إلى الخير أو صرفهم عن الشر .
وفي هذا المفهوم . يقول ابن زيد : ( كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ) .
وأدق من هذا قول أبي جعفر محمد بن يعقوب : ( كل صواب من القول ورث فعلا صحيحا فهو حكمة ) . وفي تعريفات الجرجاني : ( كل كلام وافق الحق فهو حكمة ) .
وفي قوله تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } سورة البقرة ، آية : 269 . .
ربطت الآية الكريمة بين الحكمة والخير ، ووجه هذا الارتباط أن الحكمة تشمل المعاني الصائبة من السداد في القول والفعل .
وبمعنى آخر : فإن الحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم ، ومن شاء إيتاءه هذه الحكمة - أي خلقه مستعدا لذلك قابلا له ، من سلامة التفكير واعتدال القوى والطبائع - فيكون قابلا لفهم الحقائق منقادا إلى الحق إذا لاح له ، لا يصده عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة . ثم ييسر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من المعاندين العتاة ، فإذا انضم إلى ذلك توجهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ، ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير .
وحينئذ يتحقق له الخير الكثير في قوله سبحانه : { فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } .
فالخير الكثير منجر إليه سداد الرأي والهدى الإلهي ، ومن تفاريع هذا الخير ما يتولد من قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوكل في فهمها واستحضار مهمها . لأنك إذا تتبعت ما يحل بالناس من المصائب تجد معظمها من جراء الجهالة والضلالة والرأي الآفن ، وبعكس ذلك فإن ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات مجتلب من المعارف والعلم بالحقائق ، ولو علم الناس الحق على وجهه لاجتنبوا مواقع البؤس والشقاء (1) .
يتبين من مجموع ما سبق أن الحكمة كلمة عامة تشمل الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير ، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة ، وكليات جامعة لأصول الآداب . . . فهي معرفة خالصة من شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وتهذيبهم وتوجيههم .
إنها اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحا مستمرا لا يتغير (2) .
إطلاقات الحكمة :
وردت كلمة الحكمة في نصوص الشرع مرادا بها ما يخدم المعنى السابق .
فوردت مرادا بها : الكتب السماوية من القرآن والإنجيل وغيرها .
ومرادا بها : النبوة ، والهدى ، والرشاد ، والعدل ، والعلم ، والحلم والتفقه (3) .
الموعظة الحسنة :
يلحظ في التعريف السابق للحكمة أن الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن داخلان في مفهوم الحكمة .
ولكن يحسن تخصيصهما بمزيد تعريف وإيضاح لأن المقام مقام بسط لمفهوم الحكمة ، وقد جاءا مخصوصين بالذكر في قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } سورة النحل ، آية : 125 . .
وإذا كانا داخلين في معنى الحكمة بالمعنى السابق فيكون عطفهما في الآية الكريمة من عطف الخاص على العام .
والأصل في الموعظة أنها : القول الذي يلين نفس المخاطب ليستعد لفعل الخير والاستجابة له .
والموعظة في معناها تدل على ما يجمع الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة ولهذا قال ابن عطية :
( الموعظة الحسنة : التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ) (4) .
ويشير الزمخشري إلى معنى لطيف في هذا حين يقول : ( إن الموعظة الحسنة هي التي لا تخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم ) .
والخلاصة أنها : تذكير بالخير فيما يرق له القلب (5) .
وهذه إشارة جميلة عرض لها أهل العلم في السر في وصف الموعظة بالحسنة ولم يرد ذلك في الحكمة فقد قالوا : قيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة لأن الحكمة هي تعليم لمتطلبي الكمال من معلم يهتم بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة .
أما الموعظة الحسنة فلما كان المقصود منها غالبا ردع نفس الموعظ عن أعمال سيئة أو عن توقع ذلك منه ، كانت مظنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ .
ومن الوعظ الحسن إلانة القول وترغيب الموعوظ في الخير : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } سورة طه ، الآيتان : 43 ، 44 ..
الجدال بالتي هي أحسن :
الجدل في أصله : الاحتجاج لتصويب رأي ورد ما يخالفه . فهو حوار وتبادل في الأدلة ومناقشتها . وهو حال أوسع من الخصام والمخاصمة على أن المخاصمة نوع جدل من حيث هي تراد في الكلام والحجج .
ومن أجل هذا قال الجرجاني في تعريفاته :
الجدل : دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة أو بقصد تصحيح كلامه ، قال : وهو الخصومة في الحقيقة .
__________
(1) - التنوير والتحرير 3 / 64 .
(2) - التنوير والتحرير 3 60 - 63 ، 41 / 35 .
(3) - لسان العرب 12 / 140 -142 . المعجم الوسيط 1 / 90 . القاموس المحيط 4 / 98 .
(4) - التعريفات 132 .
(5) - البحر المحيط 5 / 549 .(1/293)
غير أن الذي نعنيه هنا هو الجدال والمحاجة والحوار بما لا يرقى إلى الخصومة ، إلا إذا اعتبرنا الجدال مع الظالمين خصومة ؛ لأنه قد تجرد منه نعت الحسن ، وإذا احتاج رجل الدعوة إلى الجدال فليكن بالتي هي أحسن .
وقريب من التوجيه المذكور في الموعظة الحسنة يقال هنا . ويكون حسن الجدال في الالتزام بموضوعيته ، وبعده عن الانفعال ، والترفع عن المسائل الصغيرة في مقابل القضايا الكبرى ، حفظا للوقت وعزة للنفس وكمالا للمروءة ، مع الحرص على الرفق واللين ، والبعد عن الفظاظة والتعنيف ، ويدخل في الجدل الحسن كما يقول الطاهر بن عاشور (1) :
( رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه : مثل قوله تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } سورة سبأ ، الآية : 24 . . وقوله : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ }{ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } سورة الحج ، الآيتان : 68 ، 69 .
إشارات في حلية الداعي من الصفات الباعثة للحكمة :
قبل الخوض في الكلام على الحكمة ومفهومها ، وبناء على الإشارات السابقة من معنى الحكمة ، وما يحتاجه صاحب الدعوة من سلامة التفكير واعتدال القوى والبعد عن العصبية والمكابرة :
أحب أن أشير إلى بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعي ، فمنها بتوفيق الله تنبعث الحكمة ويتحقق المقصود من تبليغ الحق على بصيرة . ومن ذلك :
أ - التقوى :
ويقصد بها كل معانيها من فعل المأمورات وترك المنهيات والتحلي بصفات أهل الإيمان . فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد ، فإنها تنير القلب وتفتح المدارك ، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق ، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص ، فالعاقبة للتقوى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } سورة الطلاق ، آية : وأولياء الله هم المتقون . .
ب - الإخلاص :
وهذا باب عظيم معلوم نظريا ولكن تحقيقه - والله - إنه لعزيز . ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس ولا إلى أشيائهم أو تلمس مراضيهم ، ويحضرني هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - : إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه .
وأعظم الناس مطالبة بهذه الخصلة وأشد الناس حاجة إليها العلماء والدعاة . ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة ، ولقد قال الغزالي - رحمه الله - في الإحياء محذرا من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي :
( إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين ، وذل غيره بالجهل والتقصير ، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره ، وإذلال المدعو بإشعاره - ولو من طرف خفي - بالجهل وخسة أهل الجهل والتقصير وسوء حال المقصرين ) .
قال : ( وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة ، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه ، وفتح بصيرته بنور هدايته . فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة ) .
ولم يقتصر الغزالي - رحمه الله - على هذا الإيضاح بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حيث قال : ( وهناك محك ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه ، وهو أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له . فإن كان يود أن يكفيه غيره فهو على خير ، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع هوى نفسه ، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته . فليتق الله تعالى فيه وليدع أولا نفسه ) (2) .
لكن قوله : ( أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته بنفسه ) هذا عندي محل نظر ، وبخاصة مع قوله عليه الصلاة والسلام : « فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم » متفق عليه من حديث سهل به سعد . .
فالتنافس في هذا تنافس على الخير ، ومع قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا } سورة فصلت ، آية : 33 . .
ويتلمس الإخلاص وصلاح النية في غير المنافسة المشروعة .
ج - العلم :
وهو المقصود الأعظم من البصيرة في قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } سورة يوسف ، آية : 108 ..
بل إن من معاني الحكمة البارزة - التي نحن بصدد الحديث عنها - العلم كما سبق .
فالبصيرة تجمع العلم والحكمة وهذه الخصلة لا تحتاج إلى مزيد من بسط فهي معلومة ظاهرة ، ويكفي في هذا التنبيه إلى ترجمة البخاري - رحمه الله - في صحيحه حين قال : باب العلم قبل القول والعمل ، مستدلا بقوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } سورة محمد ، آية : 19
قال رحمه الله : ( فبدأ بالعلم قبل القول والعمل ) .
وفي هذا يقول الحسن البصري - رحمه الله - ( العامل بغير علم كالسائر على غير هدى ) .
وفي مأثور الحكم : ( من تمسك بغير أصل ذل ومن سلك طريقا بغير دليل ضل ) .
ويشمل العلم الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة ، وسير السلف الصالح ، وفهوم أهل العلم والفقه علما وعملا .
د - التواضع :
__________
(1) - التحرير 14 / 325 - 330
(2) - بتصرف وحذف ، الإحياء 2 / 329 . وما بعدها .(1/294)
من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم ، ولو كان ما يقوله حقا وصدقا . بل إن الاستعلاء سبب ظاهر في كره الحق ورفضه .
ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس . يقول الخليفة أبو بكر - رضي الله عنه - ( لا يحتقرن أحد أحدا من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير ) وقد خاطب الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } سورة الكهف ، آية : 28 . .
ويقول ابن الحجاج : ( من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول . . ) .
ومما يلحق بهذا الباب العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه أو يستجلب الثناء عليها أو يستدر لها المديح .
فالفضل من الله ، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه .
هـ - الحلم :
ما الحلم إلا ضبط النفس عند الغضب ، والنزوع إلى العقل عند ثورة الانفعال . وما هذا - وربك - إلا شارات القوة وعنوان البطولة « ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » متفق عليه من حديث سهل بن سعد .
ومن أحوج بهذا الخلق من رجل الدعوة الذي ميدانه صدور الرجال ونفوس البشر .
ومن أبرز صور الحلم . . كظم الغيظ . . ثم يعقبه في الترقي العفو عن الناس ، وتلك صفات المتقين أهل الجنة التي عرضها السماوات والأرض .
ومن رزق الحلم ترقى في درجاته . . فيصل من قطعه ، ويعفو عمن ظلمه ، ويحسن إلى من أساء إليه . ويخطئ من يظن أن الحلم عجز ، وأن العفو ضعف ، وأن الإعراض عن الجاهل خوف وخور . ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم ، وهو خلق ذميم يتنافى مع الحلم كما ترى .
خرج زين العابدين بن علي بن الحسين - رضي الله عنه وعن آبائه - من المسجد يوما فسبه رجل فانتدب الناس إليه . فقال : دعوه . ثم أقبل عليه فقال : ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر . ألك حاجة نعينك عليها ؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل إذا رآه قال : إنك من أولاد الأنبياء .
الغلظة والفظاظة :
عن سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي قال : يعجبني من القراء (1) كل سهل طلق مضحاك ، فأما من تلقاه ببشر ويلقاك بضرس (2) ، يمن عليك بعلمه فلا كثر الله في الناس أمثال هؤلاء .
أيها الدعاة : الناس في حاجة إلى كنف رحيم وبشاشة سمحة . بحاجة إلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم . بحاجة إلى من يحمل همومهم ، ولا يثقل عليهم بهمومه . . يجدون في رحابه العطف والرضا .
من أجل هذا جاءت الرحمة الربانية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول القدوة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } سورة آل عمران , آية : 159 .
فما غضب لنفسه قط ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري . وأعطاهم كل ما ملكت يداه ، وما نازعهم في شيء من أعراضهم ، وسعهم حلمه وبره وعطفه .
حينما يوهب العبد قلبا رحيما وطبعا رقيقا مع العلم والحكمة . . فإنه لا يستكثر على الصغير والجاهل أن يصدر منهما صدود عن النصح ، والدنيا مليئة بمن لا يحبون الناصحين .
نعم إن الداعي الحق ذا الخبرة والمراس لا يعجب من صدود الناس ونفرتهم . . لكن رحمته بهم وشفقته عليهم لا تنفك تغريه بمعاودة الكرة تلو الكرة ، كما يعاود الوالدان الحريصان على أولادهما في الإلحاح بالغذاء والدواء في حالي الصحة والمرض . بل لقد جاء في حديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنما أنا لكم مثل الوالد لولده » .
وهل رأيت ، أعظم شفقة من الوالد على ولده . وكم قابل محمد صلى الله عليه وسلم إعراض قومه بابتهاله النبوي : « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » .
من معالم الحكمة في الدعوة :
وبعد هذه التقدمة التي أظنكم استشعرتم من خلالها بعض معالم تشير إلى مواطن الحكمة ومسالكها عن طريق معرفة حقيقة الحكمة وأبرز الصفات في رجل الدعوة . أحب أن أبسط بعض البسط في معالم أراها حقيقة بذلك :
وسوف يكون هذا البسط من خلال التعرف على طبائع النفوس ، وطبقات المدعوين ، وتخير الأوقات ، وانتهاز المناسبات . ثم النظر في طرائق الدعوة وأساليبها . . من إحسان في القول ، والحرص على التلميح إذا أمكن الاستغناء به عن التصريح ، والقصد إلى الستر والنصيحة ، والبعد قدر الإمكان عن التشهير الذي قد ينقلب إلى فضيحة مع سلوك المداراة المشروعة ، وإقالة العثرات ما أمكن ، وإليك أخي الفاضل بسطا لبعض هذه المعالم :
المعلم الأول : طبائع النفوس وطبقات المدعوين :
الناس متباينون في طبائعهم ، مختلفون في مدركاتهم ، في العلم والذكاء ، في الأمزجة والمشاعر ، مختلفون في الميول والاتجاهات . مما يدعو رجل العلم والدعوة إلى تخير المدخل . . بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة .
نعم ، إن فيهم الغضوب والهادئ ، وفيهم المثقف والأمي ، فيهم الوجيه وغير الوجيه .
بل إن ثمة كلمة لعلي - رضي الله عنه - يصف فيها القلوب ، كل القلوب بأنها وحشية فهو يقول : ( القلوب وحشية فمن تألفها أقبلت عليه ) .
__________
(1) - القراء : العلماء
(2) - ضرس : أي شرس لفظا ومعنى(1/295)
إنه يصورها رضي الله عنه وكأنها دواب متوحشة لا تعرف الألفة في طبعها ويبدو هذا والله أعلم في ميدان النصائح والتوجيهات . فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل أو عدم معرفة أو سوء في التصرف . إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل ، ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ ، ويجتهد في مجاهدة الحق بعد معرفته خيفة انكشاف جهله .
إنها في هذا الباب تنفر إذا قرب منها ، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي ، ومن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح بتوفيق الله في هداية الناس .
وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس ، وتقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم . . شيء من العناية - غير المتصنعة - باهتماماتهم وهمومهم . وسوف يصل إلى مصدر النبع الخير في نفوسهم ، وحينئذ يمنحونه حبهم وثقتهم .
إن شيئا من سعة الصدر ، والإحاطة بطبائع النفوس . . كفيل بتحقيق الخير في الناس بنتيجة لا يظنها الكثيرون ، ينبني على ذلك ملاحظة استيعاب المدعو وسعة مداركه ، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فيوقعه إما في النفرة والشرود ، وإما في التخبط الفكري والدخول في غياهب الفتن .
وفي ذلك يقول ابن مسعود - رضي الله عنه - . ( ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . ويقول علي - رضي الله عنه - : ( حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ) .
المعلم الثاني : تخير الأوقات وانتهاز المناسبات :
هذا معلم كبير ومؤثر من معالم الحكمة وتلمسها ، يبلور ذلك كلمة جامعة لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ( إن للقلوب شهوة وإقبالا وفترة وإدبارا ، فخذوها عند شهوتها وإقبالها ، وذروها عند فترتها وإدبارها ) وقد كان - رضي الله عنه - يذكرهم كل خميس ، فقال رجل : لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ، فقال : ( أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم ، وإني أتخولكم بالموعظة كما « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافة السآمة علينا » متفق عليه .
ولأمر ما ، كان نزول كتاب ربنا منجما ومفرقا على المناسبات والأحداث والأزمنة والأمكنة .
وأنت خبير أن إقبال الناس في رمضان يختلف عنه غيره ، وقل مثل ذلك في المناسبات المختلفة ، والأحداث المتجددة من وقائع الأفراح أو حلول المصائب ، فأخذ الناس بهذا ومراعاة تقلبات الدهر من حولهم يدرك به سرا عظيما في التأثير والاستجابة ، وإن شئت مزيدا في هذا فانظر في الأوقات والأحوال التي يتأكد فيها استحباب الدعاء . . كأوقات السحر ، ونزول الغيث ، والتقاء الجيوش
وإن رغبت في واقعة فانظر في حكمة يوسف عليه السلام حين استغل الفرصة مع الفتيين عند تعبير رؤياهما وظروف سجنهما فدعاهما إلى الله الواحد الأحد .
{ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سورة يوسف ، الآيتان : 39 ، 40 . .
يلتحق بذلك مراعاة الأعراف والتقاليد المرعية والطبائع في الحرف والصناعات . وقد يكون فيما أشار إليه أهل العلم رحمهم الله من تنوع معجزات أنبياء الله ومناسباتها مع ما يسود البيئات من علوم ومعارف كعصا موسى عليه السلام في بيئات السحرة ، وإبراء عيسى عليه السلام في بيئات الطب ، وكتاب محمد صلى الله عليه وسلم في بلاغة العرب ما يشير إلى ما قصدناه .
المعلم الثالث : مراعاة التدرج وترتيب الأولويات :
ما قيل في طبقات المدعوين ، وطبائع النفوس ، وملاحظة المناسبات . . يقابله نظر آخر في المدعو إليه فلا شك أن الحكمة تقتضي النظر في متدرجات أمور الدعوة ، لأخذ الناس بالأول فالأول . فقضايا العقيدة وأصول الملة والديانة تأتي في المقام الأول . فهي إن لم تصح في العبد ، فلن يجدي فيه الصنيع الحسن والعمل الطيب : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا }{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } سورة الكهف ، الآيات : 103 - 105 . .
ففي الدعوة كليات وجزئيات ، وواجبات ومستحبات ومحرمات ومكروهات ، وقضايا كبرى وصغرى . . كل يجب أن تعرف مواقعها وتوضع في مواضعها .
وأظن الأمر أوضح من أن يبسط القول فيه ، وخذوا دليلا : منهاج مندوب الدعوة ومبعوثها إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد رسم له الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج حين قال له :« إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . فإن هم أطاعوا لك بذلك . . فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك . . فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم » متفق عليه .
معالم الحكمة في أساليب الدعوة :
يقصد بالأساليب هنا ما يتعاطاه رجل الدعوة من طرق وصيغ يتوصل من خلالها إلى إبلاغ الحق إلى الناس ، وتبصيرهم بما ينفعهم ودفع ما يضرهم .(1/296)
وهذه الأساليب في جملتها قولية كلامية ، أو تعامل مباشر مع المدعوين في ترفق ولين ، وغض عن الهفوات ، وسلوك نهجي الترغيب والترهيب ، والشدة واللين .
وهذا شيء من بسط لهذه الأساليب :
المعلم الأول : القول الحسن :
إذا أحكم صاحب الدعوة قوله وسدد لفظه فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما . يقول الله عز وجل : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } سورة البقرة ، آية : 83 . .
ويقول طلحة بن عمر : قلت لعطاء : إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ ؟ فقال : لا تفعل . يقول الله تعالى : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } . يقول عطاء : فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي !!
وأورد القرطبي في تفسيره على هذه الآية حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا عائشة لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء » (1).
ويعلق القرطبي رحمه الله فيقول : وهذا حض على مكارم الأخلاق فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر ، والقريب والغريب من غير مداهنة . ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه . . إلخ (2) .
والقول يكون حسنا وحكمة بقدر ما يعتني بأصول الكلام ، ويبتعد عن فضوله . . يتحرك بنبضات القلب الحي ، وهواجس النفس الصادقة .
ويحسن الكلام حين يكون قصدا عدلا ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل ، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصدا كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه . وتأملوا في هذا الحوار الهادئ ، والقول الحسن في الجدال الحسن : « فهذا حصين الخزاعي والد عمران كانت قريش تعظمه وتجله فطلبت منه أن يكلم محمدا صلى الله عليه وسلم في آلهتها فقد كان محمد يذكرها ويسبها . فجاء حصين ومعه قريش حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوسعوا للشيخ ، فقال حصين : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟ أنك تشتم آلهتنا . فقال : يا حصين كم تعبد من آله ؟ قال سبعا في الأرض ، وواحدا في السماء . فقال : فإذا أصابك الضر فمن تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : فإذا هلك المال من تدعو ؟ قال : الذي في السماء . قال : يستجيب لك وحده وتشرك معه ؟ يا حصين أسلم تسلم ، فأسلم فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه . فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيعوه إلى منزله » (3) .
عجبا ! دخل كافرا ناقما منتقما . . فخرج مسلما صادقا . ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها !!
ويدخل في ذلك : القول اللين الذي يستثير النوازع البشرية ووشائج القربى ، وعبارات الحنو والشفقة ، فإبراهيم عليه السلام ينادي أباه بكلمات شفوقة . { يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا }{ يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا }{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا }{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا }{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } سورة مريم ، الآيات : 42 - 47 . .
وكل نبي يقول لقومه : يا قوم تذكيرا بأواصر القربى ومواطن الحب والشفقة .
ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لقومه في كلمة رقيقة في دعوة رفيقة : « إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم ولو غششت الناس جميعا ما غششتكم » .
المعلم الثاني : التصريح والتعريض .
ومن القول الحسن الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح .
فالتصريح يهتك حجاب الهيبة ، ويورث الجرأة على الهجوم ، والتبجح بالمخالفة ، ويهيج على الإصرار والعناد .
أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة ، والأذهان الذكية ، والبصائر اللماحة .
قيل لإبراهيم بن أدهم : الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه ، أيقوله له ؟ قال : هذا تبكيت ، ولكن تعرض .
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس ، واستثارة داعي الخير فيها . كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه : « ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا » .
المعلم الثالث : النصيحة لا الفضيحة .
أردت تخصيص النصيحة بالذكر هنا وإن كانت داخلة في كل ما سبق . . بل النصيحة مقصود أعظم في الدعوة . إن لم تكن هي الدعوة كلها .
ولكن المراد هنا الإشارة إلى آداب النصيحة كمظهر من مظاهر الحكمة في الدعوة ، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون تشهيرا وفضيحة . يوضح ذلك في ما رمناه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حين يقول : ( والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة والشفقة عليه والغيرة له ، وعليه فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة ، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه . . . ) .
فهي دعوة إصلاح يجب أن يتمخض فيها الإخلاص لله ، مع المحافظة على مشاعر المنصوح على نحو ما سبق في المعالم السابقة لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالا وشرا ونزاعا .
__________
(1) - القرطبي 2 / 16 .
(2) - القرطبي 2 / 16 .
(3) - أهل العلم مختلفون في إسلام حصين ، والأرجح القول بإسلامه كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره(1/297)
يؤكد جانب الدقة في هذا الأمر أن ذكر الإنسان بما يذكره هو على أصل التحريم . وقد قيل لبعض السلف : ( أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك فقال : إن كان يريد أن يوبخني فلا ) .
ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته - أي يلومها على ذنبها - فقال عليه الصلاة والسلام : « إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب » . . . " الحديث متفق عليه ..
يقول الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير ) وكانوا يقولون : ( من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره ) .
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة ، وإخراج أخيه من غوائلها .
وشتان بين من قصده النصيحة ، ومن قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى .
وكما قالت أم الدرداء : ( من وعظ أخاه سرا فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد شانه ) .
المعلم الربع : أدب التعامل .
كان الكلام فيما سبق تنبيها على مواطن الحكمة في القول والمخاطبة وحسن المجادلة .
وفي هذه الفقرات إشارات إلى بعض ما ينبغي من أدب التعامل مع المدعوين ، وبخاصة حينما يرى عليهم ما يستحق التنبيه ، ويستوجب الملاحظة والتغيير .
وسوف ينتظم هذا الحديث صورا من اللين في التعامل ، ثم المداراة وإقالة العثرات ، ومواطن الترغيب والترهيب .
صورة من اللين في التعامل
النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها ويتلقاها باللين ويبسط لها في المحيا .
والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار ، فتأخذ النفس العزة بالإثم . على نحو ما سبق بسطه ، فالتعامل المؤثر ما كان دمثا يفتح القلوب ويشرح الصدور فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم .
يروي معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال : « صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله . فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ، ما شأنكم تنظرون ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فعرفت أنهم يصمتونني فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت . قال : فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي ما ضربني ولا سبني » .
وفي رواية : « فما رأيت معلما قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن » .
وفي مدلولها قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد فقام الصحابة لينهروه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فلما فرغ دعاه عليه الصلاة والسلام قائلا له : « إن المساجد لا تصلح لهذا إنما هي لذكر الله والصلاة " . فولى الأعرابي وهو يقول : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك : " لقد حجرت واسعا » .
قال الحافظ معلقا على أمثال هذه الوقائع : والمراد من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء ، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل ، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج ، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط ، وكانت عاقبته غالبا الازدياد بخلاف ضده ، والله أعلم .
وفي هذا يقول الإمام أحمد : ( كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون : مهلا رحمكم الله ) .
ودعي الحسن البصري - رحمه الله - إلى عرس فجيء بجام من فضة ( أي قدح أو إناء ) عليه خبيص أو طعام ( والخبيص طعام من التمر والسمن ) فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه فقال رجل : هذا نهي في سكون .
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ له في القول فقال : يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق . فقال تعالى : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }{ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } سورة طه ، الآيتان : 43 - 44.
المعلم الخامس : المداراة .
المداراة صورة من صور التعامل الدال على الحكمة ، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة .
وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه فقال : المداراة مع الناس ، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها أنه « استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : " ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة . فلما دخل ألان له الكلام . تقول عائشة : فقلت يا رسول الله : قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال : أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه » .
قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين ، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلام وترك الإغلاظ ، وذلك من أقوى أسباب الألفة . قال : وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط ، لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة ، والفرق : أن المداهنة من الدهان : وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من كير إنكار عليه .
والمداراة : هي الرفق بالجاهل في التعليم ، وبالفاسق في النهي عن فعله ، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه ، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك . اهـ .
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله : كانوا يقولون : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول هي كل العقل .(1/298)
ومن الطريف قول أبي يوسف - رحمه الله - في تعداد من تجب مداراتهم فعد منهم : القاضي المتأول والمريض والمرأة والعالم ليقتبس من علمه . وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره .
وقد جاء في حكم لقمان : يا بني كذب من قال إن الشر بالشر يطفأ ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى ، وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار .
وسلوك المداراة مأذون فيه لأن الإنسان خلق للاجتماع لا للعزلة ، وللتعارف لا للتناكر ، وللتعاون لا للانفرادية . والإنسان تعرض له عوارض نفسية وطبيعية من الحب والبغض والرضى والغضب والاستحسان والاستهجان ، فلو سار على أن يكاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشئون في كل وقت وعلى أي حال لاختل الاجتماع ولم يثبت التعارف ولانقبضت الأيدي عن التعاون ، فكان من حكمة الله في خلقه أن هيأ الإنسان لأدب يتحامى به عما يحدث تقاطعا أو يدعو إلى تخاذل ، وهذه هي المداراة التي نعني .
إذن فالمداراة ترجع إلى حسن اللقاء ولين الكلام ، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار . . إلا في أحوال يكون الإشعار به خيرا من الكتمان وأرجح وأصلح .
ومن لطيف المنقول في سير المتقدمين المقتدى بهم ما جاء في وصية سحنون لابنه محمد : ( . . . وسلم على عدوك وداره فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس ) ويقول محمد بن أبي الفضل الهاشمي . قلت لأبي : لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته ؟ قال : أخبي نارا وأقدح ودا .
فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد . وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة ، ولا يقطع العضو المركب في الجسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الطب عن علاجه إلا بالبتر .
فالمداراة يقصد بها جمع الناس على الرضا والتآلف في حدود ما ينبغي أن يكون . وهي لا تمنع قضاء بالعدل ولا تحجب نصيحة بالرفق ، وينبغي أن يعلم أن لذكاء الرجل وحكمته مدخلا عريضا في فقه المداراة وحسن استخدامها وطريقة الإفادة منها .
وقد يكون للتنوع في طبقات الناس تنوع في مداراتهم ، فمداراة المنحرف عن الحق لسوء فهم أو خطأ في ظن ، أكبر من مداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته .
ومداراة من يرجى رشده وصلاحه أكبر من مداراة من شب متماديا في الانحراف ولؤم الطبع حتى يوشك أن ينقطع أملك في إصلاحه واستقامة أمره .
ومن كل ذلك تعرف أن المداراة مسلك كريم يتقنه الحكماء والأذكياء ولا يتعدى حدوده الفضلاء .
إذا رغبت في كلمة عن المداهنة لتميزها عن المداراة فلتعلم أن المداهنة إظهار الرضا عن الغلط من الظلم والفسق . . ومن قول باطل أو عمل ممنوع .
والمداهنة مسلك ذميم ينطوي تحت جناحيه الكذب ، وخلف الوعد .
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه عنه ، ومن دخل الكذب من باب ، سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة . وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده .
المداهنون يجعلون ألسنتهم طوع بغية الوجيه ، ويعجلون إلى قول ما يشتهي إن يقولوه .
قال الماوردي - رحمه الله - : إن الإنسان وإن كان مأمورا بتآلف الأعداء ، ومندوبا إلى مقاربتهم ، فإنه لا ينبغي أن يكون لهم راكنا وبهم واثقا بل يكون منهم على حذر ، ومن مكرهم على تحرز ، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعا لا يستحيل ، وجبلة لا تزول وإنما يستكفى بالتألف إظهارها ، ويستدفع به أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها ، ويستفاد به إنضاجها ، وإن كانت محرقة بطبع لا يزول وجوهر لا يتغير وقد قال الشاعر :
وإذا عجزت عن العدو فداره ... وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق
ومن كل ما تقدم يتبين واجب المصلحين من الدعاة والعلماء والمربين في هذا الباب . فواجب العناية بمحاربة المداهنة حتى تنفى من الأرض وتكون الأوطان ودور التربية منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة ، فيخاطبون الناس في رقة وأدب وشجاعة ، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق الكاذب ، ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لحديث المصارحة .
المعلم السادس : إقالة العثرات والغض عن الأخطاء .
وأسلوب المداراة المتقرر في الفقرة السابقة يقود إلى غض الطرف عن أخطاء المقصرين ما دام طريقا لاستصلاحهم ، وإقالة عثرات العاثرين إذا كانوا كراما ذوي هيئات أو كان ذلك سبيلا إلى دفنها وتقليلها .
وإن شئتم برهانا قريبا فاستذكروا قصة حاطب بن أبي بلتعة . . تلك الواقعة الصحيحة فهي صورة حية من صور الضعف البشري في لحظة من لحظات الزمن مع أنه الصحابي البدري ، ولكبر الزلة قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل حاطبا وأجابه . فقال عليه الصلاة والسلام : « لقد صدق ولا تقولوا إلا خيرا . أما علمت يا عمر أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » .
إن إقالة العثرة ليست إقرارا للباطل ولكنها إنقاذ للواقع فيه .
حكي أن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه : ألا تقطعه وتهجره ؟ فقال : أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه .
حق لمن غلط أو ذل أن يسمع كلمة حانية ، وأن يستضيء بشمعة أمل من أجل أن يرجع إلى الجادة ، ويسير مع الأخيار من الصحاب .(1/299)
يمر أبو الدرداء - رضي الله عنه - على رجل قد أصاب ذنبا ، والناس يسبونه ، فأنكر عليهم صنيعهم . فقال لهم : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ، ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا : بلى . قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم ، قالوا : أفلا تبغضه ؟ قال إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي .
المعلم السابع : الترغيب والترهيب ومواقف الشدة .
كل ما تقدم من التأكيد على مسالك اللين والرفق والمداراة ، والغض عن الهفوات ، وإقالة العثرات ، ليس معارضا لما هو معروف ومتقرر في مسالك الشرع من ضرورة سير الدعاة والمربين بين حالي الرغبة والرهبة ، والرخاء والشدة . لكن المقدم في التعامل هو الترغيب والرفق كما قال الإمام أحمد : ( والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق بلا غلظة ، إلا رجلا مباينا معلنا بالفسق والردى ، فيجب نهيه . لأنه يقال . ليس لفاسق حرمة ، فالمعلن المصر لا حرمة له ) .
وطريق أنبياء الله - عليهم السلام - المذكورين في القرآن مسلوك فيه النجدين : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } إلى قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } سورة نوح ، الآيات : 1 - 4 .
وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } سورة التغابن ، الآيات : 8 - 10 . .
ترغيب فيما وعد الله من حسن الجزاء في الدنيا ، وحسن العافية في الآخرة : { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } سورة الصف ، آية : 13 . .
وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته ، والخوف من أليم عقابه عاجلا وآجلا : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } سورة هود ، آية 102 .
وبعد أيها القارئ الكريم : فلعله بملاحظة هذه المعالم وأمثالها يتحقق الخير وترشد المسالك وتؤتي الحكمة خيرها : { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } سورة البقرة ، آية : 269 .
والنفوس تملك قدرا كبيرا من التأهيل في قبول ما عند الدعاة ، وهي تحب سماع كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستفيد من المواعظ ، وهي قريبة من الخير مستعدة له فليفقه هذه السنن الدعاة إلى الله ، وليحملوا الناس على توجيهات الشرع لا على جلبة الشارع وغوغاء العامة ، وليتجنبوا المزالق والمنعطفات الخطيرة التي يتعمد أعداء الملة من الكفار والمنافقين وضعها في الطريق .
((((((((((((((((((((
الحادي عشر- خصائص الدعوة إلى الله
الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي , أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله , وتزين لهم الكفر به أو الاعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد , ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر , ويحسنها للناس بوسائل التوجيه ; بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها .
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة , وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية . . هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام , ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني . فغاية الوجود الإنساني هي العبادة [ ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله ] . وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية , ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة , يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته . ومن ثم يدفعه بالقتل . . لذلك لم يقل:وقاتلوهم . إنما قال:(واقتلوهم) . . (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) . . أي حيث وجدتموهم .
في أية حالة كانوا عليها ; وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .
ولا قتال عند المسجد الحرام , الذي كتب الله له الأمن , وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم [ عليه السلام ] وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام . . لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته , فيبدأون بقتال المسلمين عنده . وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم . . فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين , الذين يفتنون الناس عن دينهم , ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام , الذي عاشوا في جواره آمنين .
(فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) . .(1/300)
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته , هو الانتهاء عن الكفر , لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين . فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون . ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته . فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان , لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان .
وما أعظم الإسلام , وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة , ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم , الذي قتلوا منه وفتنوا , وفعلو بأهله الأفاعيل !!!
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله , وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام , وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات . وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه , ويهابه أعداؤه , فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة , ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة . . والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة ; وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) . .
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة , وهي التي كانت تفتن الناس , وتمنع أن يكون الدين لله , فإن النص عام الدلالة , مستمر التوجيه . والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين , وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله , والاستجابة لها عند الاقتناع , والاحتفاظ بها في أمان . والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة ; وتطلق الناس أحرارا من قهرها , يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله .(1)
================
موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم , ضارب في شعاب الزمن , ماض في الطريق اللاحب , ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطي , ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل , ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون , ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة , وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة , مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائما في نهاية الطريق:
(ولقد كذبت رسل من قبلك , فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا , ولا مبدل لكلمات الله , ولقد جاءك من نبأ المرسلين) . .
كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله صلى الله عليه وسلم . . كلمات للذكرى , وللتسرية وللمواساة , والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقهم واضحا , ودورهم محددا , كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته , ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما انها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب , وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب , ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين ! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم , ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة , وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والأخرة . . لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم , أم تعلقت بالأجل المرسوم .
إنه الجد الصارم , والحسم الجازم , إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
ثم يبلغ الجد الصارم مداه , في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرغبة البشرية , المشتاقة إلى هداية قومه , المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون . وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين , والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق . وهي رغبة بشرية طبيعية . ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها , ودور الناس أجمعين , تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم:
(وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض , أو سلما في السماء , فتأتيهم بآية ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون) . .
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة . . وما يملك الإنسان إن يدرك حقيقة هذا الأمر , إلا حين يستحضر في كيانه كله:أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم . . النبي الصابر من أولي العزم من الرسل . . الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا , لم يدع عليهم دعوة نوح - عليه السلام - وقد لقي منهم سنوات طويلة , ما يذهب بحلم الحليم !
. . . تلك سنتنا - يا محمد - فإن كان قد كبر عليك إعراضهم , وشق عليك تكذيبهم , وكنت ترغب في إتيانهم بآية . . إذن . . فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء , فأتهم بآية !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 25)(1/301)
. . . إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية . فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول . . ولو شاء الله لجمعهم على الهدى:إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى - كالملائكة - وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه . وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا . وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها .
ولكنه سبحانه - لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله - خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان , لوظيفة معينة , تقتضي - في تدبيره العلوي الشامل - أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة . من بينها التنوع في الاستعدادات , والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان , والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات . في حدود من القدرة على الاتجاه , بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال . .
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده , ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية , وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف . . فأعلم ذلك ولا تكن مما يجهلونه .
(ولو شاء الله لجمعهم على الهدى . فلا تكونن من الجاهلين) .
يا لهول الكلمة ! ويا لحسم التوجيه ! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه . .
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها , ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى , الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل:
(إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون) . .
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان:
فريق حي , أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية , عاملة , مفتوحة . . وهؤلاء يستجيبون للهدى . فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه , فتستجيب له:
(إنما يستجيب الذين يسمعون) . .
وفريق ميت , معطل الفطرة , لا يسمع ولا يستقبل , ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب . . ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله - فدليله كامن فيه , ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه , فاستجابت إليه حتما - إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة , وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي ! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول , ولا مجال معهم للبرهان . إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله . إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم , وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا , وبقوا أمواتا بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة .
(والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون) . .
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة ! تكشف حقيقة الموقف كله , وتحدد واجب الرسول وعمله , وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد .(1)
================
طريق الدعوة إلى الله شاق
إن طريق الدعوة إلى الله شاق , محفوف بالمكاره , ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه , إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله , وفق علمه وحكمته , وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين:من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر , والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة . . ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه , وعرف طعمه , والحماسة للحق والرغبة في استعلانه ! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق !
والتوجيه القرآني في هذه الموجه من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها . . ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته , يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق , وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق . ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون , ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا , لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب ! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه , وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له , متى كانت هذه الفطرة حية , وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . . فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات . والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء . والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى . فذلك من شأن الله . . هذا كله من جانب , ومن الجانب الآخر , فإن نصر الله آت لا ريب فيه . . كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله , وكما أن سنة الله لا تستعجل , وكلماته لا تتبدل , من ناحية مجيء النصر في النهاية , فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم . . والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة , وصبره على الأذى بلا تململ , ويقينه في العاقبة بلا شك . . كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 153)(1/302)
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ , والمضي في الطريق , والصبر على مشاق الطريق . . أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته . . والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل , ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب , كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب . . إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية , وحسابه ليس على عدد المهتدين , إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم , وما استقام كما أمر . . وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس . . (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . . (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) . .
(إنما يستجيب الذين يسمعون) وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم . بما فيه الكفاية .
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين , أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة , في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ; ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم . . ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق - وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى , منها في هذه السورة (وقالوا:لولا أنزل عليه ملك !) . . (وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه) . . (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) . . وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات . ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: (وقالوا:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا , أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف , أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه !) . . وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق , لولا أنزل إليه ملك , فيكون معه نذيرا . أو يلقى إليه كنز , أو تكون له جنة يأكل منها ! . .
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجه من السورة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون . وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم:(وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية , ولو شاء الله لجمعهم على الهدى , فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون , والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون) . . وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ! قيل لهم: قل:إنما الآيات عند الله , وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة , ونذرهم في طغيانهم يعمهون . . ليعلموا أولاأن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق , ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون , وأنهم موتى , وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما اسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل , وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم !
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني . . إنه ليس خاصا بزمن , ولا محصورا في حادث , ولا مقيدا باقتراح معين . فالزمن يتغير , وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر . . إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة "نظرية مذهبية " على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة , التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ; ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات ! . . وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام [ لأن أهل هذه الجاهلية يقولون:إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة ! ] وتنظم لهم هذه الأوضاع ; بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت , ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . . وكلها محاولات ذليلة , لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة , التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله !(1/303)
وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى , ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . . كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . . ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة ! . . إن "الاشتراكية " مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر ; قابل للصواب والخطأ . وإن "الديمقراطية " نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك , يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا . . والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي , والنظام الاجتماعي الاقتصادي , والنظام التنفيذي والتشكيلي . . وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . . فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر ? بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد ?! . .
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه . . يتخذونهم أولياء:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . .) فهذا هو الشرك ! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده , ولكنهم - ويا للنكر والبشاعة ! - يستشفعون لله - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم ?!
إن الإسلام هو الإسلام . والاشتراكية هي الاشتراكية . والديمقراطية هي الديمقراطية . . ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له , والصفة التي وصفه بها . . وهذه وتلك من مناهج البشر . ومن تجارب البشر . . وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس . . ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله , أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب . وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله !
على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم , ولم يقدروا الله حق قدره . . إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية , وباسم الديمقراطية , لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة . فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي ! كما كانالحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلا ! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد , فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام ? لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس ?!
إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها - وفي غيرها كذلك - يشمل هذا كله . . إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه ; فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ; ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ; ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته . . إن الله غني عن العالمين . ومن لم يستجب لدينه عبودية له , وانسلاخا من العبودية لسواه , فلا حاجة لهذا الدين به , كما أنه لا حاجة لله - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة .
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه , التي يريد الله أن تسود البشرية . فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل , وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية . . إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه , وبمنهجه الحركي وأسلوبه , هو - سبحانه - الذي خلق الإنسان , ويعلم ما توسوس به نفسه . .
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية . . نموذج من نماذج متنوعة شتى . . فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني , ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية , ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات . . وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . .
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو:
(وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه ! قل:إن الله قادر على أن ينزل آية . ولكن أكثرهم لا يعلمون) . .
وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي . . ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب ! إنه الأخذ والتدمير ! والله قادر على أن ينزل الآية . . ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها , وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها . .
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير , إلى الكون الواسع . إلى الآيات الكبرى من حولهم . الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها . الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها:
(وما من دابة في الأرض , ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم . ما فرطنا في الكتاب من شيء . ثم إلى ربهم يحشرون) . .
وهي حقيقة هائلة . . هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها . . حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم . . لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك . . وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر , ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها ! وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها , وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء , وتدبير الله لكل شيء . . وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة . .
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون , أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون ?(1/304)
إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود , وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة , وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني . .
إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا . ولا يقدم لها جدلا كلاميا [ كعلم التوحيد ] الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية , إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب , وتتلقى عنه وتستجيب , ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب .
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى:
(والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله , ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . .
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم . . إنهم صم وبكم في الظلمات . . ويقرر سنة الله في الهدى والضلال . . إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك , وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد .
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله . إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة , وتقرير موقف صاحب الدعوة , وهو يتحرك بهذه العقيدة , ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل . .
ولعل هذه اللمسات - إلى جانب ما تقدم في مقدمة السورة - عن المنهج يكون فيها ما ينير الطريق . وبالله التوفيق (1)
==================
ولتستبين سبيل المجرمين
فهو شأن عجيب ! . . إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعني ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعني كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضا . . إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر ; والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص ; وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق ; ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين ; الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوا منهم (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) . . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين , أن الذين يعادونهم إنها هم المجرمون ; عن ثقة , وفي وضوح , وعن يقين .
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدغبشا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان , وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ; ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين , في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم , وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان , ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . .
وهذا التحديد كان قائما , وهذا الوضوح كان كاملا , يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين !
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة , وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس !
__________
(1) -في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 154)(1/305)
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين , في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للاسلام , يسيطر عليها دين الله , وتحكم بشريعته . . ثم اذا هذه الارض , واذا هذه الاقوام , تهجر الاسلام حقيقة , وتعلنه اسما . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقادا وواقعا . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا ! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - - فهي أرض لم تدن بدين الله , ولم تدخل في الإسلام بعد . .
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ; وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله , ومدلول الإسلام في جانب ; وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين , وطريق المشركين المجرمين ; واختلاط الشارات والعناوين ; والتباس الأسماء والصفات ; والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا . حتى يصبحالجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! . . تهمة تكفير "المسلمين" !!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم , لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله !
هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ; وألا تقعدهم عنها لومة لائم , ولا صيحة صائح:انظروا ! إنهم يكفرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ! إن الإسلام بين والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ; ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو , فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين
(وكذلك نفصل الآيات , ولتستبين سبيل المجرمين) . .
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ; وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ; كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة , ولا يعوقها غبش , ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق , وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين:(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) . .
. . وصدق الله العظيم . .(1)
================
إذا انحرفتم عن الطريق يلبسكم شيعا , ويذيق بعضكم بأس بعض
(أو يلبسكم شيعا , ويذيق بعضكم بأس بعض) . .وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ; الذي يذوقونه بأيديهم , ويجرعونه لأنفسهم ; إذ يجعلهم شيعا وأحزابا , متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض , ولا يفاصل بعضها بعضا , فهي أبدا في جدال وصراع , وفي خصومة ونزاع , وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب , كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ; يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ; ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر , والبعض الآخر يأبى ويعارض , وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض , ويحقد بعضهم على بعض , وينكر بعضهم بعضا , لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ; يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد , حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له , ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 157)(1/306)
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم , ثم يزاول هذا الحق فعلا ! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ; لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا , ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ; ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص . . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض ! وهم شيع ; ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة ! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد !
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها , ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ; باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية , والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام "دار إسلام" تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي "الأمة المسلمة " وأن ما حولها ومن حولها , ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه , جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ; وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة , ولم تتميز هذا التميز , حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع , شيعة تتلبس بغيرها من الشيع , ولا تتبين نفسها , ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ; دون أن يدركها فتح الله الموعود !
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه , ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله , يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره , وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة , قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتهالقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا , صلوات الله عليهم وسلامه:(انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) . .
والله نسأل أن يجعلنا ممن يصرف الله لهم الآيات فيفقهون . . (1)
==============
مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل
مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل (وكذب به قومك - وهو الحق - قل:لست عليكم بوكيل . لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) . .
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه , ويعطي المؤمنين من ورائه , الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة . الثقة بالحق - ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب - فما هم بالحكم في هذا الأمر , إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه . وهو يقرر أنه الحق . وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم !
ثم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من قومه , وينفض منهم يده , وأن يعلنهم بهذه المفاصلة , ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ; وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ , ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق , فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ; وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون !
(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) . .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ; الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح , الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم , الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر ; وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله - في مواجهة التكذيب من قومهم , والجفوة من عشيرتهم , والغربة في أهلهم , والأذى والشدة والتعب والأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب !(2)
=============
موقفنا من مقارنة الأديان
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 160)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 160)(1/307)
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة . . ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته , وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها . . وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك . فيهلك من يهلك , ويحيا من يحيا . والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة . هم الذين علموا أن لهم إلهاً واحداً , واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد . هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . . فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين الله كله , ويتعاقب بها الرسل جميعا على مدار التاريخ . . فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها , فنسوها وضلوا عنها , وأشركوا مع الله آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل . . وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين . . والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات الله عليهم - مع اختلاف لغاتهم . . يوحد حكاية ما قالوه , ويوحد ترجمته في نص واحد: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . . وذلك لتحقيق معني وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية ! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة , ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويراً حسياً . . ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة . .
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج "الأديان المقارنة " مع المنهج القرآني . . يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا "تطور" في مفهوم العقيدة الأساسي , الذي جاءت به الرسل كلها من عند الله , وأن الذين يتحدثون عن "تطور" المعتقدات وتدرجها ; ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج "والتطور" يقولونغير ما يقوله الله سبحانه ! فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائماً بحقيقة واحدة . وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو (رب العالمين) . . الذي يحاسب الناس في يوم عظيم . . فلم يكن هنالك رسول من عند الله دعا إلى رب قبيلة , أو رب أمة , أو رب جنس . . كما أنه لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة . . وكذلك لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى عبادة طوطمية , أو نجمية , أو "أرواحية ! " أو صنمية ! ولم يكن هناك دين من عند الله ليس فيه عالم آخر . . كما يزعم من يسمونهم "علماء الأديان" وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة , ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان , دون غيرها !
لقد جاءت الرسل - رسولاً بعد رسول - بالتوحيد الخالص , وبربوبية رب العالمين ! وبالحساب في يوم الدين . . ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد , مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة , بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها . . هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية . . هي هذه التي يدرسها "علماء الأديان ! " ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها !
وعلى أية حال فهذا هو قول الله - سبحانه - وهو أحق أن يتبع , وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية , أو صدد الدفاع عنها ! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن , فهم وما هم فيه . .والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
إن كل رسول من الرسل - صلوات الله عليهم جميعاً - قد جاء إلى قومه , بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه . . فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى . ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون . وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم . حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم . . حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم . . ثم تكررت القصة . . وهكذا . .(1/308)
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه . فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . . وقال كل رسول لقومه: إني لكم ناصح أمين , معبراً عن ثقل التبعة ; وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ; ورغبته في هداية قومه , وهو منهم وهم منه . . وفي كل مرة وقف "الملأ" من عليه القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ; ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين . وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت . . ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة . وتنبتٌ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية ; لتقوم وشيجة العقيدة وحدها . وإذا "القوم" الواحد , أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة ! . . وعندئذ يجيء الفتح . . ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة , ويأخذ المكذبين المستكبرين , وينجي الطائعين المستسلمين . . وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة , وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده . وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم . وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم . . وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ .
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد:هوتعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية لله الواحد , ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه , هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر . ولم يذكر القرآن إلا قليلاً من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعاً . ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين , إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها . وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا , ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان ; بل في القرآن كله . . ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله ; كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه .
إن لهذا الدين "حقيقة " ; و "منهجاً" لعرض هذه الحقيقة . "والمنهج" في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن "الحقيقة " فيه . . وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين . كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة . . وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية . . ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة . .
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ; ويعرض نموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للإيمان , ونموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للكفر أيضاً . . إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام لله والطاعة لرسوله ; ولم يعجبوا أن يختار الله واحداً منهم ليبلغهم وينذرهم . فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم , فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر , وأن يسمعوا لواحد منهم . . كانوا هم "الملأ" من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم . . ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين . . إنها عقدة الحاكمية والسلطان . . فالملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسولهم لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . .
(ولكني رسول من رب العالمين) . . كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم ; ورده إلى صاحبه الشرعي . . إلى الله رب العالمين . . وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين ! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر , وأن يسلك طريقه إلى الهلاك , كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك ! . . إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لاتتبدل:نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه . إنذار من الله للغافلين على يد رسول . استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين . اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب . طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين . ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة . . ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ !
وأخيراً فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق . . وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل - تاركاً مصيرهما لفتح الله وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف . بل يتابع الحق وينازله ويطارده . . ولقد قال شعيب لقومه:(وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا , فاصبروا حتى يحكم الله بيننا , وهو خير الحاكمين) . . ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة , ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ; ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه:لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) . . وهنا صدع شعيب بالحق رافضاً هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: قال:أولو كنا كارهين ? قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها(1/309)
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً , وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها . فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية , ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها . وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده . . فلا مفر من خوض المعركة , والصبر عليها , وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها ; وأن يقولوا مع شعيب:
(على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) . . ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ . .
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني , حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام , مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله . في الفقرة السابقة مباشرة:(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً , والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره , ألا له الخلق والأمر , تبارك الله رب العالمين) . .
وإن الدينونة لهذا الإله , الذي خلق السماوات والأرض , والذي استوى على العرش , والذي يحرك الليل ليطلب النهار , والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره , والذي له الخلق والأمر . إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة . هي التي يدعون إليها البشرية كلها , كلما قعد لها الشيطان على صراط الله فأضلها عنه ; وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ; ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية .
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله , ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه ; والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله ; والذي يتحرك مسخراً بأمره . ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزاً ; وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة ; فلا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله !
إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ ; إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله ; وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود . . وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر ; والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات , ولا يقودها الشيطان بعيداً عن حقيقتها الأصيلة . .
وهذه هي اللمسة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به .(1)
===============
طبيعة بني إسرائيل عبر التاريخ
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً ; عاشوا في ظل الإرهاب ; وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك . عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم . فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي , عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال .
وفسدت نفوسهم ; وفسدت طبيعتهم ; والتوت فطرتهم ; وانحرفت تصوراتهم ; وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب , وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر . . وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان . .
لقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينظر بنور الله , فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها ; وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس:" ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم " . . كان يعلم أن ضرب البشرة يذل الناس . وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله . فالناس في مملكة الله أعزاء , ويجب أن يكونوا أعزاء ; وألا يضربهم الحكام فيذلوهم , لأنهم ليسوا عبيداً للحكام . . إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله . .
ولقد ضربت أبشار بني إسرائيل في طاغوت الفرعونية حتى ذلوا . بل كان ضرب الأبشار هو أخف ما يتعرضون له من الأذى في فترات الرخاء ! ولقد ضربت أبشار المصريين كذلك حتى ذلوا هم الآخرون واستخفهم فرعون ! ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الفرعوني ; ثم ضربت أبشارهم في عهود الطاغوت الروماني . . ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام , يوم جاءهم بالحرية فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر . . فلما أن ضرب ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وحاكمها المسلم - ظهر ابن قبطي من أهل مصر - لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال - غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه - من ابن فاتح مصر وحاكمها - وسافر شهراً على ظهر ناقة , ليشكو إلى عمر بن الخطاب - الخليفة المسلم - هذا السوط الواحد الذي نال ابنه ! - وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان - وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر , وللنفوس في كل مكان - حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام - كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم , فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم ; وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح .
عملية استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذل الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام في هذه الحلقة - بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر - وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس , وهي تواجه الحرية بكل رواسب الذل ; وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية ; وتواجه موسى - عليه السلام - بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 185)(1/310)
وسنرى متاعب موسى - عليه السلام - في المحاولة الضخمة التي يحاولها ; وثقلة الجبلات التي أخلدت إلى الأرض طويلا , حتى ما تريد أن تنهض من الوحل الذي تمرغت فيه طويلا , وقد حسبته الأمر العادي الذي ليس غيره !
وسنرى من خلال متاعب موسى - عليه السلام - متاعب كل صاحب دعوة , يواجه نفوساً طال عليها الأمد , وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت - وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها , ثم طال عليها الأمد , فبهتت صورتها , وعادت شكلا لا روح فيه !
إن جهد صاحب الدعوة - في مثل هذه الحال - لهو جهد مضاعف . ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك . . يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات , وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ; ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة , والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة !
ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة , في هذه الصورة المفصلة المكررة . لترى فيها هذه التجربة . كما قلنا من قبل . ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل .(1)
===================
القرآن الكريم يخاطب الناس في كل جيل
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهداً يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر . . وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائماً في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج ? لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكوراً فقط أو إناثاً فقط . . ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل . . فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائما في الأجيال جميعاً ?
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعاً -لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها - إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة ! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء . . ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائماً لحظة ! فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعاً ?
وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء . . ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها ; وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق . ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقياً موحياً هادياً .
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته - وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه - إلى أن له إلهاً . ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة . إنما كان يخطىء في تحديد صفة الإله الحق , حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة . . فأما الملحدون الجدد - أصحاب "الاشتراكية العلمية " ! - فهم أمساخ شائهو الفطرة . بل إنهم إنما ينكرون الفطرة , ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها . . وعندما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي , ورأى ذلك المشهد الباهر - مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء - هتفت فطرته:ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء ? ولكنه حين هبط إلى الأرض , وتذكر إرهاب الدولة , قال:إنه لم يجد الله هناك ! وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه , أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض !
إن الله الذي يخاطب الإنسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الإنسان , والذي يعلم فطرة هذا الإنسان !
وأخيراً يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون مخبأ لهم - من قريب - في عالم المجهول المغيب ; وهم عنه غافلون:(وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) . .
فما يدريهم أن أجلهم قريب ? وما يبقيهم في غفلتهم سادرين ; وهم عن غيب الله محجوبون ? وهم في قبضته لا يفلتون ?
إن هذه اللمسة بالأجل المغيب - الذي قد يكون قد اقترب - لتهز القلب البشري هزة عميقة ! لعله أنيستيقظ ويتفتح ويرى . والله منزل هذا القرآن وخالق هذا الإنسان يعلم أن هذه اللمسة لا تبقي قلباً غافلاً . . ولكن بعض القلوب قد يعاند بعد ذلك ويكابر !
(فبأي حديث بعده يؤمنون ?) !
وما بعد هذا الحديث من حديث تهتز له القلوب أو تلين . .
إن هذه اللمسات التي تعددت في الآية الواحدة ; لتكشف لنا عن منهج هذا القرآن في خطاب الكينونة البشرية . . إنه لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه , ولا يدع وتراً منها واحداً لا يوقع عليه ; إنه لا يخاطب الذهن ولكنه لا يهمله ; ففي الطريق - وهو يهز الكيان البشري كله - يلمسه ويوقظه . إنه لا يسلك إليه طريق الجدل البارد , ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر وحرارة الحياة تسري فيه وتيارها الدافق . . وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة إلى الله دائماً . . فالإنسان هو الإنسان لم يتبدل خلقاً آخر . والقرآن هو القرآن كلام الله الباقي , وخطاب الله لهذا الإنسان الذي لا يتغير . . مهما تعلم ومهما "تطور ! " (2). .
================
الاعتصام بالله وتحدي الكفار
وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم:أن يتحداهم ويتحدى آلهتهم العاجزة - كلها - وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله - وحده - له:
(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا , وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 193)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 199)(1/311)
إنها كلمة صاحب الدعوة , في وجه الجاهلية . . ولقد قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه ; وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة:
(قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) . .
لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي . . وقال لهم:ألا يألوا جهداً في جمع كيدهم وكيد آلهتهم ; بلا إمهال ولا إنظار ! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه , ويحتمي به من كيدهم جميعاً:
(إن وليي الله , الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين) . .
فأعلن بها عمن إليه يرتكن . إنه يرتكن إلى الله . . الذي نزل الكتاب . . فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه ; كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين . . وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه .
وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وفي كل زمان:
(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) . .(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) .
إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض ; وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض . .
إنها في ذاتها واهية واهنة , مهما بدت قوية قادرة:(يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له:إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له , وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب !) . .(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون !) . .
وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله . فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن ? وماذا تساوي في حسه ; حتى لو قدرت على أذاه ?!إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاها . لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها _ سبحانه وتعالى _ ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه . . ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب . واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين !
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد , والمشركون يتناولونه بالأذى ; ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه , حتى تركوه وما يعرف له فم من عين ! . . كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:" رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! . . . " كان يعرف في قراره نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه ! لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه ; كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه !
ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول , وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته ! . . كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله:"والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك ! " . . كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله . فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله .
ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول , وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك , لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فكيف عنه الأذى , وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله . وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه . . كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره:" لأنا في جوار من هو أعز منك ! " . . وكان يرد على عتبة إذ قال له:" يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها ! " . . يقول:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله ! " . . كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد . وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه , ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب:" لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله " . .
هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد صلى الله عليه وسلم في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم:
(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب , وهو يتولى الصالحين) . .
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين . وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ?
كان ما يعرفه التاريخ ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله . وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون . وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين , الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع , وبعزمة في الله لا تلين !
إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة , وإلا بمثل هذه العزمة , وإلا بمثل ذلك اليقين:
(إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) . .
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين . فتحداهم . وأمر أن يبين لهم عجز آلهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم:
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) . .
(وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا , وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) . .
وإذا كان هذا التقرير ينطبق على آلهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة . . فإنه ينطبق كذلك على كل الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة . .(1/312)
إن هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الأرض ! ولكن هؤلاء الأولياء لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون . حين يجري قدر الله بما يشاء في أمر العباد في الموعد المرسوم .
وإذا كانت آلهة العرب الساذجة لا تسمع , وعيونها المصنوعة من الخرز أو الجوهر تنظر ولا تبصر ! فإن بعض الآلهة الجديدة كذلك لا تسمع ولا تبصر . . الوطن . والقوم . والإنتاج . والآلة . وحتمية التاريخ ! إلى آخر تلك الآلهة المدعاة في الجاهلية الحديثة ! والذي يبصر منها ويسمع - وهي الآلهة المدعاة من البشر , التي تعطى خصائص الألوهية فتشرع بأمرها وتحكم - هي كذلك لا تسمع ولا تبصر . . هي من الذين يقول الله فيهم:(ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس , لهم قلوب لا يفقهون بها , ولهم أعين لا يبصرون بها , ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام بل هم أضل , أولئك هم الغافلون) !
إن صاحب الدعوة إلى الله , إنما يصادف حالة واحدة من الجاهليات المتعددة . . وإنما ينبغي أن يقول ما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:
(قل:ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) . .
فإنما هم هم . . في كل أرض وفي كل حين !!!(1)
==============
الدعوة الإسلامية موغلة في القدم
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام) . . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 201)(1/313)
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .(1/314)
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ; ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ; ويحقق فيها وجوده الكامل ; بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا , بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي , مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة , أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة , ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ; ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ; ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع , لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:
(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر , إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) . .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ; ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . . ولكن هناك رابطة العقيدة ; وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ; اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ; فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا , كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم ! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً , حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا , ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
والتعقيب على هذا الحكم:
(والله بما تعملون بصير) . .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه , ومقدماته ونتائجه , وبواعثه وآثاره
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد , فكذلك المجتمع الجاهلي:
(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) . .
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ; إنما يتحرك ككائن عضوي , تندفع أعضاؤه , بطبيعة وجوده وتكوينه , للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . . ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص , ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض , فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ; وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ; ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد:
(إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير , ولا بعد هذا التحذير تحذير . . والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة , يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض , وتبعة هذا الفساد الكبير .
ثم يعود السياق القرآني ليقرر أن الإيمان الحق إنما يتمثل في هذه الصورة:
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) . .
أولئك هم المؤمنون حقاً . . فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الإيمان . . هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين . . إنه لا يوجد حقيقة بمجرد إعلان القاعدة النظرية ; ولا بمجرد اعتناقها ; ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها . . إن هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي , إلا إذا تمثل في تجمع حركي . . أما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي , لا يصبح [ حقاً ] إلا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية . .
وهؤلاء المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . . والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والإنفاق والإيواء والنصرة وتكاليف هذا كله . . وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم . بل هي أكرم الرزق الكريم .
ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين , كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد - وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى - إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:
(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) . .(1/315)
ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة ; حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته , وانتظم الناس في مجتمعه . فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً ; لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام , وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه . . فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية ; وارتفع حكم الله - سبحانه - عن حياة الناس في الأرض , وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها , ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها . . الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام - كالجولة الأولى - تأخذ - في التنظيم - كل أحكامها المرحلية , حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة ; ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى - بإذن الله - فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل ; كما حدث في الجولة الأولى . .
ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة , وتكاليفها الخاصة . . قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم , في كل صوره وأشكاله , وفي كل التزاماته ومقتضياته . بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم . . فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية , اللازمة لعملية البناء الأولى , المواجهة لتكاليفها الاستثنائية . وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة - ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . .
فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام , من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام . . إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية . ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية , ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي . . إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية ; ولكنه يضبطها . يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي ; فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها - في إطاره العام . ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة , التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام , التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية . . وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى ; وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى . .
إن الله بكل شيء عليم . .
وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر , وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها . فهي من العلم المحيط بكل شيء . علم الله تعالى . .
خاتمة الدرس
وبعد فإن الإسلام - وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج ; ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي ; ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة - إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان" وتقويتها وتمكينها , وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني . وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه
إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية - بل الكائنات المادية - في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية ! " مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان ; ومرة بأنه مادة كسائر المواد ! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده ; وتجعل منه كائناً فريداً - كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية ! " أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا , فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة !
والإسلام - بمنهجه الرباني - يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق ; فيبرزها وينميها ويعليها . . وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي , التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة , إنما يمضي على خطته تلك . فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص" . .
إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب , ولا اللغة , ولا الأرض , ولا الجنس , ولا اللون , ولا المصالح , ولا المصير الأرضي المشترك . . فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان . وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع , وإلى اهتمامات القطيع , وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع ! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده , ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً ; كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله , ومصيره ومصير الكون من حوله ; وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى , فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق , والذي ينفرد به عن سائر الخلائق ; والذي يقرر "إنسانيته" في أعلى مراتبها ; حيث يخلف وراءه سائر الخلائق .(1/316)
ثم إن هذه الآصرة - آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج - هي آصرة حرة ; يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية . فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً , لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها . . إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه ; ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه ; ولا تغيير اللون الذي ولد به . فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد , لم يكن له فيها اختيار , ولا يملك فيها حيلة . . كذلك مولده في أرض بعينها , ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد , وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين - ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره - كلها مسائل عسيرة التغيير ; ومجال "الإرادة الحرة " فيها محدود . . ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني . . فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج , فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني , ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره ; وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته ; فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه , أو الأرض التي ولد فيها , أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره .
. . وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي . .
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها , دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة ! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها , دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات , بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ; وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ; وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة ; وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة . على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان .
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما "عربية " إنما كانت دائماً "إسلامية " . ولم تكن يوماً ما "قومية " إنما كانت دائماً "عقيدية " . .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة , وبآصرة الحب , وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم , وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ; وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ; وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ; وتبرز فيها "إنسانيتهم" وحدها بلا عائق . . وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ ! . .
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة ; ولغات متعددة , وأرضين متعددة . . . ولكن هذا كله لم يقم على آصرة "إنسانية " ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية , وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى . . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي .
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه ! تجمعاً قومياً استغلالياً ; يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية , واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها:الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما , والإمبراطورية الفرنسية . . وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر , يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة . إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " . . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" ; وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [ البروليتريا ] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى !
وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية " للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام !!!(1/317)
لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال مفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر , يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً ! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله ; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق . . وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار ; ويعملون ضد خط الصعود الإنساني ; ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه "البهائم" من الحظيرة والكلأ ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه "الناس" !
وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية , وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة ; وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها ; لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة . . خصيصة الإنسان العليا . .
ولكن الله غالب على أمره . . وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء . . وسيكون ما يريده الله حتماً . . وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها . والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق . وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق , تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام .(1)
=============
مشهد من قصة نوح عليه السلام
قال تعالى :{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) [يونس/71-74] }.
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح , هي الحلقة الأخيرة:حلقة التحدي الأخير , بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل . ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان , ولا التفصيلات في تلك الحلقة , لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده , ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة , وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة . لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة . ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة , لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع .
(واتل عليهم نبأ نوح , إذ قال لقومه:يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات اللّه فعلى اللّه توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم . ثم لا يكن أمركم عليكم غمة . ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) . .
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق , فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم ; وتذكيري لكم بآيات اللّه . فأنتم وما تريدون . وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه:
(فعلى اللّه توكلت) . .
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء .
(فأجمعوا أمركم وشركاءكم) . .
وتدبروا مصادر أمركم وموارده , وخذوا أهبتكم متضامنين:
ثم ولا يكن أمركم عليكم غمة . .
بل ليكن الموقف واضحاً في نفوسكم , وما تعتزمونه مقرراً لا لبس فيه ولا غموض , ولا تردد فيه ولا رجعة .
(ثم اقضوا إلي) . .
فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم , بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه .
(ولا تنظرون) . .
ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد , فكل استعدادي , هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه .
إنه التحدي الصريح المثير , الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته , واثق كل الوثوق من عدته , حتى ليغري خصومه بنفسه , ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه ! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة ? وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً ?
كان معه الإيمان . . القوة التي تتصاغر أمامها القوى , وتتضاءل أمامها الكثرة , ويعجز أمامها التدبير . وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان !
إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه . فليس هذا التحدي غروراً , وليس كذلك تهوراً , وليس انتحاراً . إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان .
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه . . وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض . وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان !
ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه , ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه . ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف . ثم تعود الكرة للمؤمنين . ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 222)(1/318)
واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح . فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب ,
(فإن توليتم فما سألتكم من أجر . إن أجري إلا على اللّه . وأمرت أن أكون من المسلمين) . .
فإن أعرضتم عني وابتعدتم , فأنتم وشأنكم , فما كنت أسألكم أجراً على الهداية , فينقض أجري بتوليكم:
(إن أجري إلا على اللّه) . .
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي , فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه:
(وأمرت أن أكون من المسلمين) . .
وأنا عندما أمرت به . . من المسلمين . .
فماذا كان ?
(فكذبوه . فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف . وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) . .
هكذا باختصار . نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون . واستخلافهم في الأرض على قلتهم . وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم:
(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) . .
لينظر من ينظر (عاقبة المنذرين) المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين .
ويجعل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه , لأن نوحاً والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة . فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة , بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار ; واستخلافها في الأرض , تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها , وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان .
هذه سنة اللّه في الأرض . وهذا وعده لأوليائه فيها . . فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة , فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق , وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين , وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق . . واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته , ولا يسلمهم كذلك لأعدائه . . ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق . .
الدرس الثاني:74 إشارة إلى الرسل من بعد نوح
وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد نوح , وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:
ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات , فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل , كذلك نطبع على قلوب المعتدين . .
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات . والنص يقول:إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل . . وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون . فلم تحولهم الآيات عن عنادهم . كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم , لأنهم ذوو طبيعة واحدة . فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم , أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف ! فهم منهم , طبيعتهم واحدة , وموقفهم تجاه البينات واحد . لا يفتحون لها قلوبهم , ولا يتدبرونها بعقولهم . وهم معتدون متجاوزونحد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى , ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها اللّه لهم ليتدبروا بها ويتبينوا . وبمثل هذا التعطيل , تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:
(كذلك نطبع على قلوب المعتدين) . .
حسب سنة اللّه القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر , فلا يعود صالحاً للتلقي والاستقبال . . لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء . فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال .(1)
===============
المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) [هود/52، 60]
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقا . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة .
وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم . ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم ; كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم !
وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه . ومع ثقة الإيمان واطمئنانه !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 253)(1/319)
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى . يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي ; ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانا من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة , فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ; ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي . لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم , ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد . ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب . .
إنه الإيمان . والثقة . والاطمئنان . . الإيمان بالله , والثقة بوعده , والاطمئنان إلى نصره . . الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة . لأنها ملء يديه , وملء قلبه الذي بين جنبيه , وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب , إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب .
(قال:إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه) .
إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه . واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم:أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله . ثم تجمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء .
تجمعوا أنتم وهي - جميعا - ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل , فما أباليكم جميعا , ولا أخشاكم شيئا:
(إني توكلت على الله ربي وربكم) . .
ومهما أنكرتم وكذبتم . فهذه الحقيقة قائمة . حقيقة ربوبية الله لي ولكم . فالله الواحد هو ربي وربكم , لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة . .
(ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) . .
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض , بما فيها الدواب من الناس . والناصية أعلى الجبهة . فهو القهر والغلبة والهيمنة , في صورة حسية تناسب الموقف , وتناسب غلظة القوم وشدتهم , وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم , وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . . وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد:
(إن ربي على صراط مستقيم) . .
فهي القوة والاستقامة والتصميم .
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود - عليه السلام - في نفسه من ربه . . إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) . . وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا . فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ; وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ? وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ?
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه , لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره , ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه .
إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا .
وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله , وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة , يأخذ هود في الإنذار والوعيد:
(فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) . .
فأديت واجبي لله , ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه:
(ويستخلف ربي قوما غيركم) . .
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم .
(ولا تضرونه شيئا) . .
فما لكم به من قوة , وذهابكم لا يترك في كونه فراغا ولا نقصا . .
(إن ربي على كل شيء حفيظ) . .
يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع , ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هربا !
وكانت هي الكلمة الفاصلة . وانتهى الجدل والكلام . ليحق الوعيد والإنذار:
(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا . ونجيناهم من عذاب غليظ) .
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد , وإهلاك قوم هود , نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا , خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم , واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء . وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين . ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم , يتناسق مع الجو , ومع القوم الغلاظ العتاة .
والآن وقد هلكت عاد . يشار إلى مصرعها إشارة البعد , ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب , وتشيع باللعنة والطرد , في تقرير وتكرار وتوكيد:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة . ألا إن عادا كفروا ربهم . ألا بعدا لعاد قوم هود) . .
(وتلك عاد) . . بهذا البعد . وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق , وكان مصرعهم معروضا على الأنظار . . ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار . .
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله) . .
وهم عصوا رسولا واحدا . ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا ? فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعا . ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها . فهم جحدوا آيات , وهم عصوا رسلا . فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة !
(واتبعوا أمر كل جبار عنيد) . .
أمر كل متسلط عليهم , معاند لا يسلم بحق , وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين , ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم . ولا يكونوا ذيولا فيهدروا آدميتهم .(1/320)
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد . . كانت هي قضية الحاكمية والاتباع . . كانت هي قضية:من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره ? يتجلى هذا في قول الله تعالى:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله , واتبعوا أمر كل جبار عنيد) . .
فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين ! والإسلام هو طاعة أمر الرسل - لأنه أمر الله - ومعصية أمر الجبارين . وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان . . في كل رسالة وعلى يد كل رسول .
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله ; والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة ; وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية , واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة . . لقد خلق الله الناس ليكونوا أحرارا لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه , ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم . فهذا مناط تكريمهم . فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة . وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة , وتدعي الإنسانية , وهي تدين لغير الله من عباده . والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين . فهم كثرة والمتجبرون قلة . ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .
لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد . . هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة:
(وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) . .
ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال:
(ألا إن عادا كفروا ربهم) . .
ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد:
(ألا بعدا لعاد قوم هود) . .
بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد . كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا:
. . (ألا بعدا لعاد قوم هود) !!!
ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة , قبل أن ننتقل منها إلى قصة صالح . ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون . . ليس فقط في ماضيها التاريخي , ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان . وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة . وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك ; ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان . . وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد ; ودليلها في الحركة في كل حين .
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا . ولكنها مرت في مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق . وهي تحتاج إلى وقفات أمامها أطول في حدود الإجمال:
نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة . . دعوة توحيد العبادة والعبودية لله , المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: (قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . . ولقد كنا دائما نفسر "العبادة " لله وحده بأنها "الدينونة الشاملة " لله وحده . في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة . ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي . . فإن "عبد" معناها:دان وخضع وذلل . وطريق معبد طريق مذلل ممهد . وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذللا . . ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله ; وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره . . ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم "العبادة " نصا بأنها هي "الاتباع" وليست هي الشعائر التعبدية . وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا:" بلى . إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . . إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون . . صورة لا تستغرق مدلول "العبادة " بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة ! فلما بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة " في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله , كتقديمها للأصنام والأوثان مثلا ! وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح "مسلما" لا يجوز تكفيره ! وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله . . . إلى آخر حقوق المسلم على المسلم !
وهذا وهم باطل , وانحسار وانكماش , بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة " التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه - وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن . وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة , والذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا وهو يفسر قول الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) . . وليس بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .(1/321)
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي . . فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه ; وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها ; وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) . .
إنه لم يكن يعني:يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله ! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة "(1) يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الاستاذ السيد أبوالاعلي المودودي أمير الجماعة الاسلامية بباكستان بعنوان:" المصطلحات الاربعة في القران " . . "الاله . الرب . الدين . العبادةفي مفهوماتهم , وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية ! إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها ; ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها . . والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله . . فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده - أي الدينونة له وحده - إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي:جحودهم بآيات ربهم , وعصيان رسله . واتباع أمر الجبارين من عبيده:(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم , وعصوا رسله , واتبعوا أمر كل جبار عنيد) . كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين . .
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل , واتباع الجبارين . . فهو أمر واحد لا أمور متعددة . . ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله . ودانوا للطواغيت بدلا من الدينونة لله ; فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ; وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك - وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض ; فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض ; وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض . إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية , حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام . . وهكذا إلى يومنا هذا . .
والواقع إنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات , وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد . وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ; وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء .
إن توحيد الألوهية , وتوحيد الربوبية , وتوحيد القوامة , وتوحيد الحاكمية , وتوحيد مصدر الشريعة , وتوحيد منهج الحياة , وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . . . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل , وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه , فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة "بالإنسان" إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . [ وهذا ما نرجو أن نزيده بيانا - إن شاء الله - في نهاية قصص الرسل في ختام السورة ] . .
ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم:(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم , ولا تتولوا مجرمين) . . وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وذلك في قوله تعالى:(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى , ويؤت كل ذي فضل فضله , وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) . .
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية , وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت ; وبخاصة في نفوس الذينيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . .
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض , المتجلي في طبيعة هذا الكون و نواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض ; والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة , والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . . وذلك في مثل هذه النصوص:(1/322)
(وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . إن كنا فاعلين . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق , ولكم الويل مما تصفون , وله من في السماوات والأرض , ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا , فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي , بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . . . [ الأنبياء 16 - 25 ] .
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب , ثم من نطفة , ثم من علقة , ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة , لنبين لكم , ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى , ثم نخرجكم طفلا , ثم لتبلغوا أشدكم , ومنكم من يتوفى , ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم - من بعد علم - شيئا , وترى الأرض هامدة , فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت , وأنبتت من كل زوج بهيج . . ذلك بأن الله هو الحق , وأنه يحيي الموتى , وأنه على كل شيء قدير , وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) . . . [ الحج:7 - 5 ]
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم , وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ , لله يحكم بينهم , فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين . والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا , وإن الله لهو خير الرازقين . ليدخلنهم مدخلا يرضونه , وإن الله لعليم حليم . ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله , إن الله لعفو غفور . ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل , وأن الله سميع بصير . ذلك بأن الله هو الحق , وأن ما يدعون من دونه هو الباطل , وأن الله هو العلي الكبير . ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ? إن الله لطيف خبير . له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره , ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه , إن الله بالناس لرؤوف رحيم . وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم , إن الإنسان لكفور . لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه , فلا ينازعنك في الأمر , وادع إلى ربك , إنك لعلى هدى مستقيم . . . . . [ الحج:54 - 67 ] .
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق , وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق , وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق . وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق , وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق . . فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء , وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ; وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء . ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة , وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا . . . فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره , وفي تدبيره وتصريفه , وفي حسابه وجزائه , في الخير وفي الشر سواء . .
ومن هذا الارتباط يتجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس . فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة . سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم . أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك . وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان , من النتائج المحسوسة المدركة .
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة:إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع , وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة . . وحين قلنا مرة:إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة , لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب ! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس . فضلا على الكرامة والحرية و المساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد . . وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحق حقيقته في حياة الناس . . [ وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله ] .
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه ; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل , وفي تحد سافر , وفي استعلاء بالحق الذي معه , وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:(1/323)
(قال:إني أشهد الله , واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه , فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ) . .
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر . . رجل واحد , لم يؤمن معه إلا قليل , يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم , كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى:
(كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود:ألا تتقون ? إني لكم رسول أمين , فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون ? وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا:سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين) ! . . [ الشعراء:123 - 138 ]
فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة ; والذين أبطرتهم النعمة ; والذين يقيمون المصانع يرجون
من ورائها الامتداد والخلود ! . . هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة . في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه ; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال . وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال !
لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة , بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك ; وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد . . ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله . .
لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه , فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب ! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ; ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب ?! وان ربه هو الذي استخلفهم في الأرض , وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين ! للابتلاء لا لمطلق العطاء . وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء , ولا يضرونه شيئا , ولا يردون له قضاء . . ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه , وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء ? . .
إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية . وقوة الصناعة . وقوة المال . وقوة العلم البشري . وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة ; وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب !
وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان . . أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه . وأمة تتخذ من دون الله أربابا , وتحاد الله !
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه , والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه (1).
=============
الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة
قال تعالى :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف/108، 109]
(قل:هذه سبيلي) . .
واحدة مستقيمة , لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة .
(أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) . .
فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيدا , ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة , لا نخبط ولا نتحسس , ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته , وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
(وما أنا من المشركين) . .
لا ظاهر الشرك ولا خافيه .
هذه طريقي فمن شاء فليتابع , ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم .
وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز , لا بد لهم ان يعلنوا أنهم أمة وحدهم , يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم , ولا يسلك مسلكهم , ولا يدين لقيادتهم , ويتميزون ولا يختلطون ! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم , وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة ! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية ; وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة , وعنوانه القيادة الإسلامية . . لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي ; وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا !
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي , وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية , يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم , وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم , وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 264)(1/324)
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة , وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ !
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية , والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب ! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم ! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص ? وطريقهم الخاص ? وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية (1)
===============
سنة الله في الدعوات والهدف من القصص القرآني ?
ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته , وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين . . إن محمدا ليس بدعا من الرسل , ورسالته ليست بدعا من الرسالات . وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل , آيات معروضة في الأرض .
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم , ولدار الآخرة خير للذين اتقوا , أفلا تعقلون ?) .
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب . حتى قلوب المتجبرين . ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم ; وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون , يخافون ويرجون , يطمعون ويتطلعون . . ثم إذا هم ساكنون , لا حس ولا حركة . آثارهم خاوية , طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم , ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر . . إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا . ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين:
(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) . .
لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر . إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة , لا من أهل البادية , ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية , فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم . .
(أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ?) . .
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم ; وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم , وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب:
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار .
(أفلا تعقلون ?) . .
فتتدبروا سنن الله في الغابرين ? أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير ?
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل , قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله , وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد:
(حتى إذا استيأس الرسل , وظنوا أنهم قد كذبوا , جاءهم نصرنا , فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) .
إنها صورة رهيبة , ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل , وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل , وتكر الأعوام والباطل في قوته , وكثرة أهله , والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .
إنها ساعات حرجة , والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كذبوا ? ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ?
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه:متى نصر الله ? . . .) ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ , ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس , والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة , وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات , وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب , ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل , ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا:
(جاءهم نصرنا , فنجي من نشاء , ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) . .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد , ولا بد من الكروب , حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله , فينجو الذين يستحقون النجاة , ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين , وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين , مدمرا ماحقا لا يقفون له , ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 281)(1/325)
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا . فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج , ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة , لذلك يشفقون أن يدعوها , فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها , وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون ; الذين لا يتخلون عن دعوة الله , ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة !
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل ; إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض , وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة ! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة , ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل ! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود ! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله , باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات ! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف , وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا . وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة , إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله , التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة , وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا .
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق , بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا .
وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيرا للذين اتقوا - كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب - وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل , وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل , على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثا مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضا ولا تحقق هداية , ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة:
(لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب , ما كان حديثا يفترى , ولكن تصديق الذي بين يديه , وتفصيل كل شيء , وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) . .(1)
==============
طبيعة المواجهة بين الرسل والمشركين
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) [يونس/46]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وهكذا نلمس في هذه الطائفة من الآيات التي أوردناها طبيعة المواجهة التي كان المشركون يتحدون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدون بها هذا القرآن ; ثم دلالة هذا التحدي ودلالة التوجيه الرباني إزاءه على طبيعة الفترة التي نزلت فيها السورة من العهد المكي .
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر - في مواجهة الأعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق - بالحق الذي معه كاملا ; وهو أنه لا إله إلا الله , ولا رب إلا الله , ولا معبود إلا الله , وأن الله هو الواحد القهار , وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار . . وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها . . وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه ! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم ! . .
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها ! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين , وألا يخفوا منها شيئا , وألا يؤجلوا منها شيئا . . وفي مقدمة هذه الحقائق:أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا الله . ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله . . فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أيا كانت المعارضة والتحدي ; وأيا كان الإعراض من المكذبين والتولي ; وأيا كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك . . وليس من "الحكمة والموعظة الحسنة " إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجيله , لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه ! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين , أو يكيدون له وللدعاة إليه ! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئا من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه ; ولا أن يبدأوا مثلا من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي , متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية , ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 281)(1/326)
إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه ; ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه من ربه . . فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق ; وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج . . والله - بعد ذلك - متكفل بدينه , وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت !
والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلو - وهو هذا القرآن - وبين كتاب الكون المفتوح ; ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية ; بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره . كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري , وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضا . ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعا ; وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعا !(1)
==============
قصة الرسل مع الجاهلية
قصة الرسل مع الجاهلية . وهي الحقائق التي أشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني , ونرى أنها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مسقلة:
إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير . . إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول , يقوده رسل الله الكرام , داعين بحقيقة واحدة , جاهرين بدعوة واحدة , سائرين على منهج واحد . . كلهم يدعو إلى ألوهية واحدة , وربوبية واحدة ; وكلهم لا يدعون مع الله أحدا , ولا يتوكل على أحد غيره , ولا يلجأ إلى ملجأ سواه , ولا يعرف له سندا إلا إياه .
وأمر الاعتقاد في الله الواحد - إذن - ليس كما يزعم "علماء الدين المقارن" أنه تطور وترقي من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد ; ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد ; وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري , وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد . . .
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ ; ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات ; ولا في دين واحد من الأديان السماوية . كما يقص علينا الحكيم الخبير .
ولو قال أولئك "العلماء":إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول إلى عهد رسول ; وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين . حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت , بفعل توالي رسالات التوحيد ; وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير . . . لو قال أولئك "العلماء" قولا كهذا لساغ . . ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون ! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير ; وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند الله ; إنما كان اجتهادا من البشر , ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء . . ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن ; ويسمى مع ذلك "علما" ينخدع به الكثيرون !
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا "العلم" فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه , ويخترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة ; وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه , ومع منهجه الواضح في هذا الشأن الخطير . .
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة , وعقيدة واحدة . وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم , وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة , مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان , مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل , فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل !
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا ! . . إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان . . إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ; ولكنها وضع اعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات . .
والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد ; ومن تأليه غير الله . أو من ربوبية غير الله - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة ; أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى !
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة , وإخلاص الدين لله - أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية , أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية ; وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية . وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص , يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي ; وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد , ومن ناحية القيادة , ومن ناحية الولاء . . الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 284)(1/327)
وعندما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية ; كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له . . فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام !
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام ! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر . فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة , أو تعدد الأرباب , ومن ثم يدين فيه العباد للعباد . والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ; ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد . .
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي , في أول الأمر وهو في دور التكوين , ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه , وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . . لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح , فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام . . ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام ! . . إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح ; ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد !
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها , فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت , لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام ! . . إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة , وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة . .
(وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) . .
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم , أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص . إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم , ويندمجوا في تجمعهم , ويذوبوا في هذا التجمع . أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم . .
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي , ولا أن يذوبوا فيه , ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي . . ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام . . ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا ! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم !!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي , لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه . . وليس في ذلك اختيار . . إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . . هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده ; وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال . وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين ; والفصل بينهم وبين قومهم بالحق , لا يقع ولا يكون , إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم ; وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم . . فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي , ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته . . وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين . . وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله , وهم واعون مقدرون . .
وأخيرا . . نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان , وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان . . جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق , الواثق المطمئن , الرصين المكين:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض , يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم , ويؤخركم إلى أجل مسمى ?) . .
. . .(قالت لهم رسلهم:إن نحن إلا بشر مثلكم , ولكن الله يمن على من يشاء من عباده , وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله , وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . .
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية الموحدة ; ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة ; ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم , من وراء الزمان والمكان , ومن وراء الأجناس والأقوام !
ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام , والحق الكامن في كيان هذا الوجود:
(قالت رسلهم:أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ?) . .
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ?) . .
(ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق , إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد , وما ذلك على الله بعزيز) . .(1/328)
وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة , والحق الكامن في الوجود كله . ويبدو أنه حق واحد موصول بالله الحق , ثابت وطيد عميق الجذور: (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) . . وأن ما عداه هو الباطل الزائل (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) . .
أكذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم ; وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده:
(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا , ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . .
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد , لا تبلغ الإشارة مداه , ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه . .(1) .
=============
بيان طريق الدعوة والصبر على مشقاتها
ذلك بيان المشتبهات في العلاقة بين التوحيد الذي جاء بها إبراهيم من قبل , وكملت في الدين الأخير , والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود . وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه . فليأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة , ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن . فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا . إلا أن يغفروا ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل ; مطمئنا إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين . فلا يحزن على من لا يهتدون , ولا يضيق صدره بمكرهم به وبالمؤمنين:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة , وجادلهم بالتي هي أحسن , إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله , وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به , ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله . ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا , والذين هم محسنون) . .
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها , ويعين وسائلها وطرائقها , ويرسم المنهج للرسول الكريم , وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن .
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله . لا لشخص الداعي ولا لقومه . فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله , لا فضل له يتحدث به , لا على الدعوة ولا على من يهتدون به , وأجره بعد ذلك على الله .
والدعوة بالحكمة , والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم , والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها , والطريقة التي يخاطبهم بها , والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها . فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق , وتتعمق المشاعر بلطف , لا بالزجر والتأنيب في غير موجب , ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة , ويؤلف القلوب النافرة , ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ .
وبالجدل بالتي هي أحسن . بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح . حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل , ولكن الإقناع والوصول إلى الحق . فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها , وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق , حتى لا تشعر بالهزيمة . وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس , فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها , والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة , ويشعر المجادل أن ذاته مصونة , وقيمته كريمة , وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها , والاهتداء إليها . في سبيل الله , لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر !
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين . فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله .
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة . فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير , فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق , ودفعا لغلبة الباطل , على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع , فالإسلام دين العدل والاعتدال , ودين السلم والمسالمة , إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) . وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه . فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها , فلا تهون في نفوس الناس . والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد , ولا يثق أنها دعوة الله . فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها , والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعا . ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس , وقيادة البشرية إلى الطريق القويم , فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون , ويعتدي عليهم فلا يردون ?! .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 289)(1/329)
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل , فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر , حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان , في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا . وأكثر فائدة للدعوة . فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر . فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها , فالقاعدة الأولى هي الأولى .
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال , وضبط للعواطف , وكبت للفطرة , فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله) . . فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس , والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره .
ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي وصية لكل داعية من بعده , ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون , فإنما عليه واجبه يؤديه , والهدى والضلال بيد الله , وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال . وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله , فالله حافظه من المكر والكيد , لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه . .
ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره , ويبطيء عليه النصر لابتلاء ثقته بربه , ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون .
هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله . والنصر مرهون بإتباعه كما وعد الله . ومن أصدق من الله ? .(1)
==============
قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) [الشعراء/141-159]
(فاتقوا الله وأطيعون . ولا تطيعوا أمر المسرفين . الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) . .
ولكن هذه اللمسات وهذه النداءات لا تصل إلى تلك القلوب الجاسية الجافية , فلا تصغي لها ولا تلين:
(قالوا:إنما أنت من المسحرين . ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) . .
إنما أنت ممن سحرت عقولهم فهم يهرفون بما لا يعرفون ! كأنما الدعوة إلى الله لا يدعوها إلا مجنون !
(ما أنت إلا بشر مثلنا) . . وتلك هي الشبهة التي ظلت تخايل للبشرية كلما جاءها رسول . فقد كان تصور البشرية القاصر للرسول عجيبا دائما ; وما كانت تدرك حكمة الله في أن يكون الرسول بشرا , وما كانت تدرك كذلك تكريم هذا الجنس البشري باختيار الرسل منه ليكونوا رواد البشرية المتصلين بمصدر الهدى والنور .
وكانت البشرية تتصور الرسول خلقا آخر غير البشر . أو هكذا ينبغي أن يكون ; ما دام يأتي إليها بخبر السماء , وخبر الغيب , وخبر العالم المحجوب عن البشر . . ذلك أنها ما كانت تدرك سر هذا الإنسان الذي كرمه الله به , وهو أنه موهوب القدرة على الاتصال بالملأ الأعلى وهو على هذه الأرض مقيم . يأكل وينام ويتزوج ويمشي في الأسواق . ويعالج ما يعالجه سائر البشر من المشاعر والنوازع , وهو متصل بذلك السر العظيم .
وكانت البشرية جيلا بعد جيل تطلب خارقة معجزة من الرسول تدل على أنه حقا مرسل من الله: فأت بآية إن كنت من الصادقين . . وهكذا طلبت ثمود تلك الخارقة , فاستجاب الله لعبده صالح , وأعطاه هذه الخارقة في صورة ناقة ; لا نخوض في وصفها كما خاض المفسرون القدامى , لأنه ليس لدينا سند صحيح نعتمد عليه في هذا الوصف . فنكتفي بأنها كانت خارقة كما طلبت ثمود .
(قال:هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم . ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) . .
لقد جاءهم بالناقة , على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم , لا يجورون عليها في يومها , ولا تجور عليهم في يومهم , ولا يختلط شرابها بشرابهم , كما لا يختلط يومها بيومهم . ولقد حذرهم أن ينالوها بسوء على الإطلاق , وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم .
فماذا فعلت الآية الخارقة بالقوم المتعنتين ? إنها لم تسكب الإيمان في القلوب الجافة ; ولم تطلع النور في الأرواح المظلمة . على الرغم من قهرها لهم وتحديهم بها . وإنهم لم يحفظوا عهدهم , ولم يوفوا بشرطهم:
(فعقروها فأصبحوا نادمين) .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 302)(1/330)
والعقر:النحر . والذين عقروها منهم هم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ولقد حذرهم منهم صالح وأنذرهم فلم يخشوا النذير . ومن ثم كتبت خطيئتها على الجميع , وكان الجميع مؤاخذين بهذا الإثم العظيم .
ولقد ندم القوم على الفعلة , ولكن بعد فوات الأوان وتصديق النذير:
(فأخذهم العذاب) . . ولا يفصل نوعه هنا للمسارعة والتعجيل !
ثم يجيء التعقيب: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين . وإن ربك لهو العزيز الرحيم . (1).
============
فقر الناس وعجزهم أمام غنى الله وقوته
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) [فاطر/15-17]) . .
إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى , ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات الى نور الله وهداه . في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله . وأن الله غني عنهم كل الغنى . وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم , وهو المحمود بذاته . وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض , فإن ذلك عليه يسير . .
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة , لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله - جل وعلا - يعنى بهم , ويرسل إليهم الرسل ; ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة الى الهدى , ويخرجوهم من الظلمات إلى النور . ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئاً في ملكه تعالى ! والله هو الغني الحميد .
وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته , ويفيض عليهم من رحمته , ويغمرهم بسابغ فضله - بإرسال رسله إليهم , واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم , وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء . . إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلاً وكرماً ومناً . لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته . لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئاً بهداهم , أو ينقصون من ملكه شيئاً بعماهم . ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال , فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل .
وإن الإنسان ليدهش ويحار في فضل الله ومنه وكرمه , حين يرى هذا الإنسان الصغير الضئيل الجاهل القاصر , الضعيف العاجز , ينال من عناية الله ورعايته كل هذا القدر الهائل !
والإنسان ساكن صغير من سكان هذه الأرض . والأرض تابع صغير من توابع الشمس . والشمس نجم مما لا عد له ولا حصر من النجوم . والنجوم إن هي إلا نقط صغيرة - على ضخامتها الهائلة - متناثرة في فضاء الكون الذي لا يعلم الناس حدوده . وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إلا بعض خلق الله !
ثم ينال الإنسان من الله كل هذه الرعاية . . ينشئه , ويستخلفه في الأرض , ويهبه كل أدوات الخلافة - سواء في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللازمة له في خلافته - ويضل هذا المخلوق ويتبجح حتى ليشرك بربه أو ينكره . فيرسل الله إليه الرسل , رسولاً بعد رسول , وينزل على الرسل الكتب والخوارق . ويطرد فضل الله ويفيض حتى لينزل في كتابه الأخير للبشر قصصاً يحدث بها الناس , ويقص عليهم ما وقع لأسلافهم , ويحدثهم عن ذوات أنفسهم , ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات , ومن عجز وضعف , بل إنه - سبحانه - ليحدث عن فلان وفلان بالذات , فيقول لهذا:أنت فعلت وأنت تركت , ويقول لذاك:هاك حلاً لمشكلتك , وهاك خلاصاً من ضيقتك !
كل ذلك , وهذا الإنسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الأرض , التابعة الصغيرة من توابع الشمس , التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! والله - سبحانه - هو فاطر السماوات والأرض , وخالق هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة . بمجرد توجه الإرادة . وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه الإرادة . .
والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل الله ورعايته ورحمته , وليستحيوا أن يستجيبوا للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالإعراض والجحود والنكران .
فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية , الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة . والقرآن يلمس بالحقائق قلوب البشر , لأن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس , ولأنه هو الحق وبالحق نزل . فلا يتحدث إلا بالحق , ولا يقنع الا بالحق , ولا يعرض إلا بالحق , ولا يشير بغير الحق .(2) .
=============
دور المنافقين المسموم وسط المجتمع الإسلامي
( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) [المنافقون/7، 8]) . .
وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع , ولؤم النحيزة . وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان , في حرب العقيدة ومناهضة الأديان . ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يسحبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين .
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين !
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 353)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 395)(1/331)
وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه تحت وطأة الضيق والجوع !
وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين , ليموتوا جوعا أو يكفروا بالله , ويتركوا الصلاة !
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام , بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق . .
وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان , من قديم الزمان , إلى هذا الزمان . . ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية:
(ولله خزائن السماوات والأرض . ولكن المنافقين لا يفقهون) . .
ومن خزائن الله في السماوات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين , فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم . فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين !
وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة , التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم . ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع . والذي يعطي أعداءه لا ينسى أولياءه . فقد شاءت رحمته ألا يأخذ حتى أعداءه من عباده بالتجويع وقطع الأرزاق . وقد علم أنهم لا يرزقون أنفسهم كثيرا ولا قليلا لو قطع عنهم الأرزاق ! وهو أكرم أن يكل عباده - ولو كانوا أعداءه - إلى ما يعجزون عنه البتة . فالتجويع خطة لا يفكر فيها إلا أخس الأخساء وألأم اللؤماء !
===========
في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 495)
إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد , وكل هذا الصبر , وكل هذه المشقة , وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل !
ولعل استقرار هذه الحقيقة أكبر من وجود الإنسان ذاته ; بل أكبر من الأرض وما عليها ; بل أكبر من هذا الكون الهائل الذي لا تبلغ الأرض أن تكون فيه هباءة ضائعة لا تكاد تحس أو ترى !
وقد شاءت إرادة الله أن يخلق هذا الكائن الإنساني بخصائص معينة , تجعل استقرار هذه الحقيقة في ضميره وفي نظام حياته موكولا إلى الجهد الإنساني ذاته , بعون الله وتوفيقه . ولسنا نعلم لم خلق الله هذا الكائن بهذه الخصائص . ووكله إلى إدراكه وجهده وإرادته في تحقيق حقيقة الإيمان في ذاته وفي نظام حياته ; ولم يجبله على الإيمان والطاعة لا يعرف غيرهما كالملائكة , أو يمحضه للشر والمعصية لا يعرف غيرهما كإبليس .
لسنا نعلم سر هذا . ولكننا نؤمن بأن هنالك حكمة تتعلق بنظام الوجود كله في خلق هذا الكائن بهذه الخصائص !
وإذن فلا بد من جهد بشري لإقرار حقيقة الإيمان في عالم الإنسان . هذا الجهد اختار الله له صفوة من عباده هم الأنبياء والرسل . وثلة مختارة من أتباعهم هم المؤمنون الصادقون . اختارهم لإقرار هذه الحقيقة في الأرض , لأنها تساوي كل ما يبذلون فيها من جهود مضنية مريرة , وتضحيات شاقة نبيلة .
إن استقرار هذه الحقيقة في قلب معناه أن ينطوي هذا القلب على قبس من نور الله ; وأن يكون مستودعا لسر من أسراره ; وأن يكون أداة من أدوات قدره النافذ في هذا الوجود . . وهذه حقيقة لا مجرد تصوير وتقريب . . وهي حقيقة أكبر من الإنسان ذاته ومن أرضه وسمائه , ومن كل هذا الكون الكبير !
كما أن استقرار حقيقة الإيمان في حياة البشر - أو جماعة منهم - معناه اتصال هذه الحياة الأرضية بالحياة الأبدية , وارتفاعها إلى المستوى الذي يؤهلها لهذا الإتصال . معناه اتصال الفناء بالبقاء والجزء بالكل والمحدود الناقص بالكمال المطلق . . . وهي حصيلة تربى على كل جهد وكل تضحية ولو تحققت على الأرض يوما أوبعض يوم في عمر البشرية الطويل , لأن تحققها - ولو في هذه الصورة - يرفع أمام البشرية في سائر أجيالها مشعل النور في صورة عملية واقعية , تجاهد لتبلغ إليها طوال الأجيال !
ولقد أثبت الواقع التاريخي المتكرر أن النفس البشرية لم تبلغ إلى آفاق الكمال المقدر لها بأية وسيلة كما بلغتها باستقرار حقيقة الإيمان بالله فيها . وأن الحياة البشرية لم ترتفع إلى هذه الآفاق بوسيلة أخرى كما ارتفعت بهذه الوسيلة . وأن الفترات التي استقرت فيها هذه الحقيقة في الأرض , وتسلم أهلها قيادة البشرية كانت قمة في تاريخ الإنسان سامقة , بل كانت حلما أكبر من الخيال , ولكنه متمثل في واقع يحياه الناس .
وما يمكن أن ترتقي البشرية ولا أن ترتفع عن طريق فلسفة أو علم أو فن أو مذهب من المذاهب أو نظام , إلى المستوى الذي وصلت أو تصل إليه عن طريق استقرار حقيقة الإيمان بالله في نفوس الناس وحياتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم . . وهذه الحقيقة ينبثق منها منهج حياة كامل , سواء جاءت مجملة كما هي في الرسالات الأولى , أو مفصلة شاملة دقيقة كما هي في الرسالة الأخيرة .(1/332)
والدليل القاطع على أن هذه العقيدة حقيقة من عند الله ; هو هذا الذي أثبته الواقع التاريخي من بلوغ البشرية باستقرار حقيقة الإيمان في حياتها ما لم تبلغه قط بوسيلة أخرى من صنع البشر:لا علم , ولا فلسفة , ولا فن , ولا نظام من النظم . وأنها حين فقدت قيادة المؤمنين الحقيقيين لم ينفعها شيء من ذلك كله ; بل انحدرت قيمها وموازينها وانسانيتها , كما غرقت في الشقاء النفسي والحيرة الفكرية والأمراض العصبية , على الرغم من تقدمها الحضاري في سائر الميادين , وعلى الرغم من توافر عوامل الراحة البدنية والمتاع العقلي , وأسباب السعادة المادية بجملتها . ولكنها لم تنل السعادة والطمأنينة والراحة الإنسانية أبدا . ولم يرتفع تصورها للحياة قط كما ارتفع في ظل الحقيقة الإيمانية , ولم تتوثق صلتها بالوجود قط كما توثقت في ظل هذه العقيدة , ولم تشعر بكرامة "النفس الإنسانية " قط كما شعرت بها في تلك الفترة التي استقرت فيها تلك الحقيقة . والدراسة الواعية للتصور الإسلامي لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني تنتهي حتما إلى هذه النتيجة .
وهذا كله يستحق - بدون تردد - كل ما يبذله المؤمنون من جهود مضنية , ومن تضحيات نبيلة , لإقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض . وإقامة قلوب تنطوي على قبس من نور الله , وتتصل بروح الله . وإقامة حياة إنسانية يتمثل فيها منهج الله للحياة . وترتفع فيها تصورات البشر وأخلاقهم , كما يرتفع فيها واقع حياتهم إلى ذلك المستوى الرفيع , الذي شهدته البشرية واقعا في فترة من فترات التاريخ .
وستعرض البشرية كما أعرضت عن دعوة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم الكرام . وستذهب مع القيادات الضالة المضلة الممعنة في الضلال . وستعذب الدعاة إلى الحق أنواعا مختلفة من العذاب , وتنكل بهم ألوانا شتى من النكال . كما ألقت إبراهيم في النار , ونشرت غيره بالمنشار , وسخرت واستهزأت بالرسل والأنبياء على مدار التاريخ .
ولكن الدعوة إلى الله لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله . لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة , ولو صغرت فانحصرت في قلب واحد ينطوي على قبس من نور الله , ويتصل بروح الله !
إن هذا الموكب المتصل من الرسل والرسالات من عهد نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه أزكى السلام - لينبئ عن استقرار إرادة الله على اطراد الدعوة إلى حقيقة الإيمان الكبيرة , وعلى قيمة هذه الدعوة وقيمة الحصيلة . وأقل نسبة لهذه الحصيلة هي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوب الدعاة أنفسهم حتى يلاقوا الموت وما هو أشد من الموت في سبيلها ولا ينكصون عنها . وبهذا يرتفعون على الأرض كلها وينطلقون منجواذبها , ويتحررون من ربقتها . وهذا وحده كسب كبير , أكبر من الجهد المرير . كسب للدعاة . وكسب للإنسانية التي تشرف بهذا الصنف منها وتكرم . وتستحق أن يسجد الله الملائكة لهذا الكائن , الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء . ولكنه يتهيأ - بجهده هو ومحاولته وتضحيته - لاستقبال قبس من نور الله . كما يتهيأ لأن ينهض - وهو الضعيف العاجز - بتحقيق قدر الله في الأرض , وتحقيق منهجه في الحياة . ويبلغ من الطلاقة والتحرر الروحي أن يضحي بالحياة , ويتحمل من المشقة ما هو أكبر من ضياع الحياة , لينجو بعقيدته وينهض بواجبه في محاولة إقرارها في حياة الآخرين , وتحقيق السعادة لهم والتحرر والارتفاع . وحين يتحقق لروح الإنسان هذا القدر من التحرر والانطلاق , يهون الجهد , وتهون المشقة , وتهون التضحية , ويتوارى هذا كله , لتبرز تلك الحصيلة الضخمة التي ترجح الأرض والسماء في ميزان الله . . .(1)
=================
وجوب الصبر لله
ويوجهه أخيرا إلى الصبر . الصبر لربه:(ولربك فاصبر) . . وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت . والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة . معركة الدعوة إلى الله . المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب ; ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات وتدفعهم شياطين الأهواء ! وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله , ويتجه به إليه احتسابا عنده وحده .(2)
==============
زاد الداعية
( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) [الإنسان/23-26] . .
وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية . حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلا , وأن يتعمقوها تعمقا كاملا , وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 478)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 1)(1/333)
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده . وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة . ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيرا . فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة . إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة , التي شهدت بها الروايات التاريخية , وحكاها القرآن في مواضع منه شتى . . كانت المكانة الاجتماعية , والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة , وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية . . هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان , في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة . . ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة , وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة , لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات ; ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق .
وهذه الأسباب - سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح , وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية , وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية - كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى , وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل . وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة , التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب ; وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف .
ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلا في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات , وملابسات نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله , في أي أرض وفي أي زمان !
لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التكليف من ربه لينذر , وقيل له:(يا أيها المدثر . قم فأنذر) . . فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة , وتثير في نفوسهم التشبت بما هم عليه - على شعورهم بوهنه وهلهلته - وتقودهم إلى العناد الشديد , ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم . ومألوف حياتهم , ولذائذهم وشهواتهم . . إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد .
وأخذ هذا الدفاع العنيد صورا شتى , في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة , ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد . ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والأساليب . كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد . فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها !
وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم طرقا شتى من الإغراء - إلى جانب التهديد والإيذاء - ليلتقي بهم في منتصف الطريق ; ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم ; ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه ! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الإختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة .
وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل !
والنبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه رسول , حفظه الله من الفتنة , وعصمه من الناس . . إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف . والله يعلم منه هذا , فلا يدعه وحده , ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق .
وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه:
(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) .
وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة , وينبوع حقيقتها . . إنها من الله . هو مصدرها الوحيد . وهو الذي نزل بها القرآن . فليس لها مصدر آخر , ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع . وكل ما عدا هذا المصدر لا يتلقى عنه , ولا يستمد منه , ولا يستعار لهذه العقيده منه شيء , ولا يخلط بها منه شيء . . ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها . ولن يترك الداعي إليها , وهو كلفه , وهو نزل القرآن عليه .
ولكن الباطل يتبجح , والشر ينتفش , والأذى يصيب المؤمنين , والفتنة ترصد لهم ; والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه , فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه ! ثم هم يعرضون المصالحة , وقسمة البلد بلدين , والإلتقاء في منتصف الطريق . . وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصيبة !
هنا تجيء اللفتة الثانية:(1/334)
إن الأمور مرهونة بقدر الله . وهو يمهل الباطل , ويملي للشر , ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص . . كل أولئك لحكمة يعلمها , يجري بها قدره , وينفذ بها حكمه . . (فاصبر لحكم ربك) . . حتى يجيء موعده المرسوم . . اصبر على الأذى والفتنة . واصبر على الباطل يغلب , والشر يتنفج . ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك . اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) . . فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير . فهم آثمون كفار . يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق ! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك ! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان , وباسم شهوة المال , وباسم شهوة الجسد . فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء , حتى يكون أغنى من أغناهم , كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات , حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له:" ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي , فإني من أجمل قريش بنات ! " . . كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل !
(فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا) . . فإنه لا لقاء بينك وبينهم ; ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم , وتصورك للوجود كله عن تصورهم , وحقك عن باطلهم , وإيمانك عن كفرهم , ونورك عن ظلماتهم , ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم !
اصبر ولو طال الأمد , واشتدت الفتنة وقوي الإغراء , وامتد الطريق . .
ولكن الصبر شاق , ولا بد من الزاد والمدد المعين:
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا , ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) .
هذا هو الزاد . اذكر اسم ربك في الصباح والمساء , واسجد له بالليل وسبحه طويلا . . إنه الاتصال بالمصدر الذي نزل عليك القرآن , وكلفك الدعوة , هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد . . الاتصال به ذكرا وعبادة ودعاء وتسبيحا . . ليلا طويلا . . فالطريق طويل , والعبء ثقيل . ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير . وهو هناك , حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء , وفي تطلع وفي أنس , تفيض منه الراحة على التعب والضنى , وتفيض منه القوة على الضعف والقلة . وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل , وترى عظمة التكليف , وضخامة الأمانة . فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق !
إن الله رحيم , كلف عبده الدعوة , ونزل عليه القرآن , وعرف متاعب العبء , وأشواك الطريق . فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد . وهذا هو المدد الذي يعلم - سبحانه - أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك . . وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فهي دعوة واحدة . ملابساتها واحدة . وموقف الباطل منها واحد , وأسباب هذا الموقف واحدة . ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله . فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق .
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله . فهو صاحبها . وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم , أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل . فهما نهجان مختلفان , وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم , لحكمة يراها الله . . فالصبر حتى يأتي الله بحكمه . والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح - ليلا طويلا - هي الزاد المضمون لهذا الطريق
. . إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق . .(1)
===========
مبغض الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأبتر
(إن شانئك هو الأبتر) . .
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد إلى كائديه , ويؤكد - سبحانه - أن الأبتر ليس هو محمد , إنما هم شانئوه وكارهوه .
ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم , في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهدوه سامعوه الأولون !
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر . .
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور ! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم قولتهم اللئيمة , وينالون بها من قلوب الجماهير , ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق ? أين هم ? وأين ذكراهم , وأين آثارهم ? إلى جوار الكوثر من كل شيء , ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه:الأبتر ?!
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر , وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد ? إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله , مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور . .
وصدق الله العظيم . وكذب الكائدون الماكرون . (2)
===============
عموم الدعوة إلى الله
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 5)
(2) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 31)(1/335)
فليست دعوة للنخبة من المثقفين والمتعلمين، ولا لكبراء القوم وعليتهم، ولا للعرب، وليست الدعوة لفترة معينة أو جيل خاص؛ بل هي دعوة للأبد، لكل الناس، فلا يجوز أن نستثني من الدعوة أحداً، ولا أن نجاري بعض العادات الاجتماعية أو الموروثات العقلية، التي توهمك أن هناك من لا حاجة لدعوته؛ لأنه لا أمل في هدايتهم، فالله تعالى يهدي من يشاء، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل. لقد أسلم عمر، الذي كان يتربص بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعد العدة لقتله، فلما قرب من الصفا صفا. توجه الدعوة للنصارى بالأسلوب الشرعي، وتوجه الدعوة لليهود، مع ما عرف عنهم من خبث الطباع والتلون على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتوجه الدعوة للغارقين في الشهوات، فربما هداهم الله سبحانه وتعالى، وتوجه الدعوة للمنحرفين عن السنة.. توجه الدعوة للإسماعيلية، وتوجه للصوفية، وتوجه للشيعة وسائر الفرق. وأقول على سبيل المثال: الكتب التي تنتقد مذهب الشيعة الجعفرية الإمامية، كثيرة جداً ولا حرج في ذلك؛ فهذه بحوث علمية روعي فيها العدل والإنصاف؛ لكن كم من الكتب وكم من الأشرطة التي تخاطب هؤلاء بالدعوة، بالأسلوب العلمي الشرعي، وتدلهم على ما في المذهب مما يخالف القرآن ويخالف العقل، ويخالف ما تقتضيه الفطرة السليمة؟! كم يوجد من المواد التي تخاطبهم بالدعوة الصريحة الصادقة الناصحة، التي تريد لهم الهداية إلى الحق، والرجوع إلى السنة والوصول إلى الصواب؟! إنه ليس هناك خدمة يقدمها أحد لمثل هؤلاء؛ أعظم من أن يشيع أنه لا أمل في هدايتهم، وأنه لا ينبغي الاشتغال بدعوتهم. إن عموم الدعوة وشمولها أمر مسلم من الناحية النظرية؛ ولكني أسائل نفسي وأسائلكم: من منا يقوم بتأدية ذلك عملياً؟ وكم بذلنا من الجهد لذلك؟! إنني أستطيع أن أقول -وعن معرفة-: إن الدعوة إلى الله لا تزال محصورة بين فئة من الشباب الدارسين، الذين تظهر عليهم سمات الصلاح وقابلية الخير، أما هذا المجتمع الواسع العريض، برجاله ونسائه وأطفاله وتجاره، وفقرائه بموظفيه الكبار والمتوسطين، وبطبقاته الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة، بعوامه وفلاحيه؛ بل بمنحرفيه وشارديه، وبأقاليمه التي يفصل بعضها عن بعض حدود المكان، وحدود التقاليد والعادات والموروثات التاريخية والحساسيات السابقة؛ إن هذا المجتمع لا يزال بمنأى عن الدعوة الصادقة التي تكسر الحواجز والجدران، وتصل إلى كل العقول والقلوب، وتخاطب الناس بالأسلوب الحسن المثالي. فأسألكم أيها الأخيار.. أيها الأحبة.. أيها الدعاة: متى تتحول هذه النظرية المسلمة بعمومية الدعوة وشموليتها إلى واقع عملي؟ ومتى نفلح في تكسير الحواجز بيننا وبين الناس؟
البصيرة في الدعوة إلى الله
الخصيصة الرابعة: البصيرة، قال الله تعالى: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فهي ليست دعوةً عامية، ولا نعرة جاهلية، ولا تقليداً لفلان وفلان، بل هي دعوة مستبصرة؛ شعارها قوله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] وفيصلها: الحجة القاطعة اليقينية البينة. وهي بصيرة في كل شيء؛ بصيرة في حقيقة الدعوة، فيعلم الإنسان إلى ماذا يدعو، وماذا يريد من الناس. وبصيرة بطريقة الدعوة ومعرفة ما يحل وما لا يحل، وسلوك السبيل الأقوم لتحصيل المراد، وإدراك العوائق والعقبات التي تعترض سبيل الداعية؛ ليتسلح لها وستعد ولا يفجأ بها. وبصيرة بحال المدعوين، تعين على تلمس أسباب هدايتهم، وبصيرة بأعداء الدعوة؛ ليكون الداعي منهم على حذر، وبصيرة بالنفس؛ ليعرف الداعي مقصده ونيته ودافعه؛ فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تتداخل عنده المقاصد ولا يغالطه الشيطان فيزين له القبيح، أو يقبح له الحسن، ويغيريه بالتعصب والغضب والحمية للنفس أو للمذهب أو للطائفة أو للجماعة أو للإقليم أو للشيخ أو لغير ذلك.
====================
إخلاص الدعوة لله عز وجل(1/336)
الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] وقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]. إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص. فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [الجن:22] وكما قال أيضاً: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]. هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]. وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك. وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم: الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما.. من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله: بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم بني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم بني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم بني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم بني أبي بكر يرى العزم في الذي يزول ويفنى والذي تركه غنم بني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم بني أبي بكر كما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم بني أبي بكر وأمثاله غدا بفتواهم هذي الخليقة تأتم وليس لهم في العلم باع ولا التقى ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم فوالله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم ماذا تظن؟ هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟ كلا والله!.. بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه. إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر(1/337)
والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك. إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين. أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:29]. وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات: الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً. إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض. فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف.. وهذه نفسها كلمات السابقين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر. والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية... وهذا مقبول. نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى. إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وقال: وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]. إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]. وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] ويقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) [البقرة/84، 85]
==================
الدعوة في الناس كالروح في البدن(1/338)
إن الدعوة نقلة روح تسري في البدن، فيتبعها قلق وهم وتوتر وحركة وانزعاج في نفوس المدعوين.. وهذا يتفرع عنه عدة ملاحظات: الملاحظة الأولى: أن الداعية قلِقٌ لحال الناس، من غير يأس ولا قنوط، فهو لا يهدأ ولا يستقر. فمن جالسه أعداه، وصار يقلق لنفسه ويهتم لها؛ ولهذا قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إنا نجالس أقواماً يخوفوننا. قال: لأن تجالس أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن؛ خيرٌ من أن تجالس أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاف]] ولو رأى لقيط بن يعمر الإيادي حال الداعية الصادق وحرصه على الناس؛ لعلم أنه أحق بقوله إذ يقول: لا منزفاً إن رخاء العيش داخله ولا إذا عض مكروه به خشع مسهد النوم تعنيه أموركم يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبِعا طوراً ومتبَعا لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم تكاد حشاه تحطم الضلعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحماً ولا جزعاً الملاحظة الثانية: إن الطريق -طريق الدعوة والإيمان- يحفل بالمتراجعين والمتلونين والناكصين والناكثين والمترددين، فهذا النائم الذي أغراه وثير الفراش، واستغرق في حلم لذيذ؛ تأتيه يد تهزه وتقول له: استيقظ، كم سيكره هذه اليد، ويتمنى لو أسلمته لنومه الهادئ، وخلت بينه وبين إخلاده الهنيء؟! البعض يوقظه أبوه أو أمه ولهم عنده أرفع المكانة؛ فيصرخ في وجوههم بعنف ويتصرف بعصبية، وهكذا حال بعض المدعوين مع من يدعونهم، وآخرون قد يقومون من نومهم ويعركون عيونهم ويقتربون من أنبوب الماء؛ فإذا وجدوا أدنى مسوغ إلى معاودة النوم فعلوا. فقد يقول: بقي من الوقت خمس دقائق أو عشر، وقد يقول: دورة المياه مشغولة، أو الرقيب قد ذهب؛ فيرجع أدراجه، ويعود إلى فراشه. إنها حال بعض المدعوين الذين يحملهم الحنين إلى الماضي، إلى معاودة ما كانوا عليه؛ وهذا حال دعاة ومدعوين آخرين، وما أجمل بالداعي أن يصبر على ضعف الناس وتراجعهم، وأن يطيل النفس معهم، وألا يحملهم على ما لا تطيقه إمكانياتهم وطبائعهم! قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو داع يصدع بين أظهر قريش بمكة، قال له: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] قال الإمام الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في ذلك: فمنهم من قال: خذ العفو من أخلاق الناس، وخذ الفضل وما لا يجهدهم. ومنهم من قال: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] أي: الفضل الزائد من أموال الناس. ومنهم من قال: بل ذلك أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض عليهم القتال. قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم. ثم قال: أمر الله بذلك نبيه في شأن المشركين، ولا دلالة على أن ذلك منسوخ، وإنما هو في حق من لم يؤمر بقتاله من المشركين؛ إذ لا يجب استعمال الشدة والغلظة في حق جميعهم". هذا معنى ما قاله رحمه الله. إن العفو هو ما جاء بلا مشقة ولا عسر ولا تكلف، فالتيسير والسماحة والصبر والتغاظي؛ هي من المروءات التي يجب أن يلتزمها الداعية، والتي لا نجاح له إلا بها. فأنت حينما توقظ نائماً؛ حبذا أن تأتيه بلطف، وتحركه بهدوء وتصبر عليه ما دام النوم يثقل جفنه، وأنت ليس لك عليه سلطان، فإذا عاد ونام؛ فتلطف معه وعد إليه مرة أخرى، ولا يغلب جهله حلمك بحال من الأحوال!. الملاحظة الثالثة: ومما يتعلق بهذا: أن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس بالضرورة ولا تقريعهم، ولا يلزم أن يبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأنه بهذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعاداتهم ومذاهبهم، وأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم؛. وهذا مما تختلف فيه الأحوال، فمن الناس من يعرف أنه مخطئ، وأن ما يفعله ضلال أو معصية أو مخالفة، وأنه منحرف عن سواء القصد، فهذا تبدأ معه من حيث انتهى، وتبين له عواقب ما هو فيه، وأسباب الخروج منه، وتعينه على نفسه بكافة الوسائل. مثال: شارب الخمر يعلم أنه حرام، وأن الله تعالى قال: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] وأن العربي في جاهليته كان يسميها الإثم. سقوني الإثم ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور وأن العربي العاقل كان يتجنب الخمر؛ لأنها تذهب بلبه وعقله وتجعله كالصبيان أو كالمجانين. إذاً هو يعرف أنها حرام، وأنها إثم وزور، وأنها معصية لله عز وجل؛ وإنما غلبه هواه أو عادته أو شهوته أو إغراء قرناء السوء؛ فحينئذ هو قطع مرحلة، وعليك أن تأخذه من هذا؛ لتحمله على ترك هذا الحرام ومجانبته والعياذ بالله من شرها وإثمها. ومن الناس من يظن نفسه على صواب، وقد امتلأ قلبه وعقله بتصويب ما هو عليه؛ إما لأنه أُشرب الهوى وهو لا يدري، وإما أنه يقلد من هو أكبر منه وأعلم وأوسع، أو لغير ذلك من الأسباب، وبعضهم قد يتعصب لاسم أو لشيخ أو لمذهب أو لطريقة، وهو لا يعرف حقيقة هذا المذهب، ولا ماذا عليه ذلك الشيخ، وإنما أمرٌ ورثه. فمثل هذا قد ينفع فيه بيان الحق، فيكشف بنفسه زيف الباطل ولو لم تشر إليه بإصبعك. مثال: أعلم أن جماعات كثيرة من شباب طائفة الإسماعيلية ذكوراً وإناثاً، يزيد عددهم على أربعمائة أو خمسمائة، كل هؤلاء قد تسننوا وتركوا مذهبهم الفاسد. وأعتقد أن المذهب الإسماعيلي -حيث كان- يعاني في هذا الزمان انهياراً يهدد باندراس المذهب وانقراضه، والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً. تتساقط من هذا المذهب لا أقول: لبنات بل جدران ولوائح بأكملها، هذا مع الخلاف العميق الذي يعيشونه اليوم، ويعيشونه عبر التاريخ بعد وفاة كل زعيم من زعمائهم، أو مبايع من أئمتهم المتبوعين -كما يحدث الآن تماماً-(1/339)
والملاحظ أن أتباع المذهب الإسماعيلي يغلب عليهم الجهل بالمذهب؛ فالعصبية لهذا المذهب تثور حين تبدأ أن تعرفه بمذهبه، وتقول له: هل أنت إسماعيلي مثلاً؟ إذاً: مذهبكم يقول كذا ويقول كذا... فتعلمه من المذهب ما لم يكن يعلم، وربما أشرب حب التعصب؛ فأخذ هذه الأشياء التي تقول واعتقدها وآمن بها تكبراً وعناداً وهوىً. إذاً فمن المناسب ألا تفعل ذلك، بل تبين له الحق وتعظم الله تعالى في عينه، وتذكر أسماءه وصفاته؛ وتبين له مكانة الرسل عليهم السلام، وتعرفه بالإيمان والإسلام، وذلك هو المدخل الملائم، فإذا عرف الحق؛ انكشف له زيف الباطل وبان له عواره. وهذا -بلا شك- لا يعارض نقد المذهب علانية على المستوى العلمي والمستوى العام، إذ نقد المذهب ينفع طائفة أخرى ممن يعرفون المذهب ويبحثون عن الحق حيثما كان. إننا نريد نمطاً من الدعاة يتسلل إلى قلوب الناس وإلى عقولهم، ويدخل إليهم دخول الهواء البارد العليل، يلفح وجوههم برفق وسكينة، ويعمل على إيصال الحق كاملاً غير منقوص، دون أن يتعمد إثارة مشاعر الرفض أو الكراهية، أو استنفار عوامل التعصب والحمية الجاهلية عند المدعوين. الملاحظة الرابعة: إن طريق الدعوة مليء بالصعاب، قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان واللفظ له، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: {أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا وقد لقينا من المشركين شدة: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فجلس مغضباً محمراً وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليُسأل الكلمة فما يعطيها -رجل من المؤمنين يعذب على كلمة سوء أو باطل أن يقولها؛ فيرفض ويصر ولا يعطيهم تلك الكلمة- فيوضع عليه المنشار فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وإن كان أحدهم ليمشط ما دون عظامه من لحم أو عصب بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه}. سؤال: هذا الخبر: هل هو خاص بمن كانوا قبلنا من الأمم السالفة؟ كلا! وكيف يكون خاصاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به خباباً وأصحابه، وهم يلقون عنت قريش وأذاها؛ ليصطبروا ويعتبروا. هل هو خاص بالصحابة رضي الله عنهم؟ كلا! ولم يكن خاصاً بهم، فرسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وكما أن هذا البلاء يتعرض له كل داعية، فكذلك الوعد الرباني بالتمكين؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت.. من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هو قرينه وملازمه، فالعبد لا يُمَكَّنْ حتى يبتلى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والخراج بالضمان} شرط بشرط، فمن وفى بشرطه؛ وفى الله تعالى له بوعده، وأنجز له ما وعد. إذاً: فما هو الصبر؟ إنه ثلاث مسائل: أولها: ألا يشك ولا يرتاب في الحق الذي يحمل. ثانيها: أن يرضى لله تعالى ويسلم، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره. الثالثة: ألا يوافق المبطلين على مذاهبهم وما هم عليه من الزيف والضلال.
===================
تغيير حال المدعوين(1/340)
الخصيصة الأولى: أن الدعوة انتقال بالمدعوين من حال إلى حال؛ من الكفر إلى الإسلام، أو من الضلال إلى الهدى، أو من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة والرقود إلى التيقظ والانتباه. فالداعية كالسليم. يقول العرب: السليم لا ينام ولا ينيم، أي الملدوغ لا ينام ولا يدع أحداً ينام من صياحه وأنينه. فالداعية لا ينام ولا ينيم، قد غلبه هم الدعوة وأقلقه، وهذا القلق الذي يحدث للداعية -حرصاً على الناس- يصيب الآخرين، فيحدث عندهم قلق، والقلق الذي يحدثه الداعية في نفس المدعو؛ هو سبب من أسباب القبول والتصحيح، فالإنسان الراضي المطمئن بحاله، القانع بما هو عليه؛ قد لا يُطمع في انتقاله ولا قبوله، وأول مراحل قبول الدعوة هو تذمر الإنسان مما هو عليه، وتطلعه إلى حال أفضل وأحسن. مثال: الكافر الموسع عليه في الدنيا، الراضي بحياته، المعرض عن التفكير؛ هو بعيد عن الهداية، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8]. مثال آخر: النصراني الذي بدأ يضيق ذرعاً بتناقضات النصرانية المحرفة واختلافاتها، ويتبرم من تصرفات رجال الكنيسة وأَلاَعيبهم، ويتقلب على فراشه فلا ينام، لأنه يشعر أنه ليس على شيء؛ هذا مرشح للهداية وقبول الحق بإذن العزيز الحميد، وهذا القلق والتوتر هو أول آية وعلامة على قبول الهداية والتطلع إليها والشغف بها. وإذا كان الكفر موتاً ونوماً وعمىً؛ فإن الإيمان حياة ويقظة وإبصار. قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر:23] وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت} وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالذاكر ربه هو المؤمن، وهو المسلم المطيع القائم القانت الذاكر، والغافل الذي لا يذكر ربه؛ هو الكافر أو المنافق أو المعرض أو البعيد عن الهداية. إن دبيب الروح في الجسد الخاوي؛ يحدث الارتعاش والانتعاش والتوتر، كما أن خروج الروح من الجسد يستتبع الآلام العظام والكربات الجسام، هذا يقع في عالم الماديات كما يقع في عالم المعنويات. في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند على شرط الإمام مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما نفخ الله الروح في آدم، فبلغ الروح رأسه، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له ربه تبارك وتعالى: يرحمك الله} وهذا الحديث له شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي والحاكم وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. لماذا عطس؟ لأن الروح بلغت رأسه، والعطاس له معنى، فدبيب الروح -دبيب الحياة في الجسد- يحدث في الجسد زلزالاً.. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ما معناه: "العطاس زلزلة البدن، وهي كزلزلة الأرض؛ ولهذا شرع التشميت أو التسميت للعاطس، أن يقال له: يرحمك الله". {وإذا عطس فحمد الله فشمته أو فسمته} ما معنى التشميت أو التسميت؟ أي دعوة إلى رجوع هذا الإنسان إلى حالته من الدعة والسكون؛ فإن العطاس -كما يقول ابن القيم- يحدث في الأعضاء حركةً وانزعاجاً. والعرب تعتقد أن العطاس أمان من الموت للصبي بإذن الله تعالى؛ ولهذا تقول امرأة عن ولدها: أخذته بالفطسة، بالتثاؤب والعطسة؛ ويعتقد العوام أن الصبي إذا عطس ما فطس، أي: ما مات، وفطس أي: مات، وهذه لغة عربية صحيحة. إذاً: العطاس زلزال للبدن، ومن أسبابه تغلغل الروح وتخلخلها في البدن. قد تخللت مسلك الروح مني ولذ سمي الخليل خليلا فدخول الروح يحدث حركة وانزعاجاً، وكذلك دخول روح الإيمان أو روح البحث عن الحق، أو روح حب الخير، وحب الرجوع إلى الله تعالى والرغبة في التوبة؛ هي تحدث في العقل والبدن والقلب زلزالاً يقلق الإنسان، حتى يجد مستقره في الهداية بين صفوف التائبين، وبالمقابل: فإن خروج الروح ومغادرتها البدن يحدث أشد من ذلك وأعظم، وقد روت عائشة رضي الله عنها، كما في الصحيحين قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري؛ وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، ثم قالت: وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء -إناء فيه ماء- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله. إن للموت سكرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى... حتى قبض صلى الله عليه وسلم فمالت يده} وفي رواية لها رضي الله عنها قالت: {والله ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه} إنها معاناة خروج الروح من البدن، وما يستتبع ذلك من الآلام. وإذا كان هذا وذاك في دخول الروح وخروجها من الجسد فإن المادة واحدة، ولذلك يشعر الذين بدأ الإيمان يدب في قلوبهم، وبدأت التوبة تحادث عقولهم وأرواحهم؛ يشعرون بتلك الحركة وذاك الانزعاج، ويسرعون إلى الخير وقائلهم يقول:وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] كما يشعر أولئك(1/341)
الذين سلبوا الإيمان، أو سلبوا جزءاً منه، فنقص إيمانهم وقل يقينهم؛ يشعرون بهم عظيم وشقاء مرير؛ لأن الإيمان روح، قال الله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]. ولهذا لما جاء الملك بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غطه وضغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال: اقرأ فعل ذلك ثلاثاً، ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة؛ رجع متغيراً منتقع اللون، يقول: {زملوني دثروني، يا خديجة! لقد خشيت على نفسي}.
((((((((((
الفهرس العام
مقدمة
أهم الكتب والمؤلفات في الدعوة إلى الله
هذا الكتاب
الباب الأول- الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم
أولا- وجوبها على كل مسلم
عقوبة من قتل الدعاة إلى الله
وجوب وجود فئة من المسلمين تدعوا إلى الله
خيرية هذه الأمة على بقية الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يوجد من أهل الكتاب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
لا خير إلا في ثلاث
توبيخ أحبار اليهود على ترك الأمر والنهي
لعن من ترك الأمر والنهي
الإعراض عمن يخوض في آيات الله بغير علم
من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نجاة الذين ينهون عن السوء
الأمر بالعرف
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ
َالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
من صفات المجاهدين في سبيل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وجوب النهي عن الفساد
الأمر بالعدل والنهي عن الفحشاء والمنكر
أمر الأهل بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
من صفات المستخلفين في الأرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحث على فعل الخير
الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ
أمر الأولاد بالمعروف ونهيهم عن المنكر
وجب التذكير
ثانيا - مهمة الرسل عليهم السلام
مرسلون لهداية البشر
الرسول مبلغ عن ربه
الرسل مبشرون ومنذرون
الرسول ليس وكيلا عن الناس
جميع الكفار على باطل
الرسول عليه الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
وجوب التذكير بآيات الله
الرسول نَذِيرٌ مُّبِينٌ
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
صفات الذين لا يسمعون الآيات
الرسول منذر
وجوب الصبر على مشاق الطريق
ما على الرسول إلا البلاغ
قدرة الله تعالى على الانتقام من أعداء الدعوة
التذكير بالقرآن
لن يجير صاحب الدعوة سوى الله
وجوب االإقبال على من آمن بالدعوة
الرسول لا يسيطر على قلوب الناس
ثالثا-الترهيب عن التقصير في الدعوة إلى الله
تحريم كتم اعلم
أخذ الميثاق على أهل الكتاب بتبليغ الكتاب
وجوب البيان للناس لعلهم يتفكرون
وجوب تبليغ الدعوة للرجال والنساء
رابعا- لا إكراه في الدين
خامسا- لا تعصب فالتعصب من شيمة الكفار
سادسا- لا غلو في الدين
سابعا- الاضطهاد بسبب العقيدة ظلم لا يجوز
تحريم منع ذكر الله في المساجد
الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه
وجوب الهجرة في سبيل الله إلا على العاجز
الهجرة بسبب الظلم
تحريم إخراج الناس من ديارهم بغير حق
الرزق الحسن لمن هاجر في سبيل الله
وجوب الهجرة لمن اضطهد في دينه
قصة أصحاب الأخدود عبرة للمعذبين في الله
تحريم منع المسلم من أداء شعائر دينه
ثامنا- التشدد مع الكفار المقاتلين
وجب قتال الكفار حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ
تحريم اتخاذ المنافقين أولياء ووجوب معاداتهم
جواز قتال الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً
تحريم اتخاذ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء
جواز التنكيل بالكفار الناقضين للعهود
جواز قتال الكفار بعد انسلاخ الأشهر الحرم
تحريم اتخاذ الآباء والأقرباء أولياء إذا استحبوا الكفر على الإيمان
جواز قتال أهل الكتاب الذين لم يسلموا ويعاهدوا المسلمين
الأمر بجهاد الكفر والمنافقين
تحريم الاستغفار للمشركين
البدء بقتال الذين يلوننا من الكفار
تحريم مظاهرة المشركين
جواز ضرب رقاب الكفار حتى تزول شوكتهم
كبت من حاد الله ورسوله
تحريم موادة من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر
تحريم مواددة أعداء الإسلام
تحريم تولي من غضب الله عليهم
الأمر بجهاد الكفار والمنافقين معاً
تحريم المداهنة في دين الله
جواز الدعاء على الكفار بالهلاك
وجوب التبرؤ مما يعبد الكفار
تاسعاً- التساهل مع المسالمين
العفو والصفح عن أهل الكاتب حتى يأتي أمر الله
وجوب تبليغ أهل الكتاب هذه الرسالة
الحوار مع أهل الكتاب بشروط
أهل الكتاب ليسوا سواء
بعض أهل الكتاب يؤمن بالله وبما أنزل إلينا و إليهم
الراسخون في العلم من أهل الكتاب يؤمنون بالحق
وجوب الحكم بالتوراة والإنجيل قبل نسخهما وتحريفهما
النهي عن سب آلهة الكفار
لا يجوز إكراه الناس على الدخول في الإسلام
لو شاء الله لآمن الناس كلهم
جدال أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
تحريم طاعة الكافرين
الله يحكم بين الناس
لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
الصفح عن الكفار إلى حين
عاشراً- الحكمة في الدعوة
1-الامتناع عن إثارة الخصم
2-الدعوة بلسان القوم وبما يفهمونه
3- دفع السيئة بالحسنة
4 - ضرب المثل
5 - المجادلة بالتي هي أحسن
6 - وجوب التزام الحكمة
أهمية الحكمة في الدعوة
مفهوم الحكمة في الدعوة
المقدمة
تعريف الحكمة :
إطلاقات الحكمة :
الموعظة الحسنة :
الجدال بالتي هي أحسن :(1/342)
إشارات في حلية الداعي من الصفات الباعثة للحكمة :
الغلظة والفظاظة :
من معالم الحكمة في الدعوة :
معالم الحكمة في أساليب الدعوة :
الحادي عشر- خصائص الدعوة إلى الله
الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية
موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم
طريق الدعوة إلى الله شاق
ولتستبين سبيل المجرمين
إذا انحرفتم عن الطريق يلبسكم شيعا , ويذيق بعضكم بأس بعض
مفاصلة الكفار وتهديدهم بالمستقبل
موقفنا من مقارنة الأديان
طبيعة بني إسرائيل عبر التاريخ
القرآن الكريم يخاطب الناس في كل جيل
الاعتصام بالله وتحدي الكفار
الدعوة الإسلامية موغلة في القدم
مشهد من قصة نوح عليه السلام
المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة
الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة
سنة الله في الدعوات والهدف من القصص القرآني ?
طبيعة المواجهة بين الرسل والمشركين
قصة الرسل مع الجاهلية
بيان طريق الدعوة والصبر على مشقاتها
قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام
فقر الناس وعجزهم أمام غنى الله وقوته
دور المنافقين المسموم وسط المجتمع الإسلامي
وجوب الصبر لله
زاد الداعية
مبغض الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأبتر
عموم الدعوة إلى الله
إخلاص الدعوة لله عز وجل
الدعوة في الناس كالروح في البدن
تغيير حال المدعوين(1/343)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى(2)
الباب الثاني- أركان الدعوة
جمعهها وأعدها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثاني- أركان الدعوة
التلازم بين العقيدة والدعوة
الحديث عن الدعوة ذو شجون؛ لأنك تقتفي آثار المصطفى - عليه الصلاة والسلام - في أعظم أعماله، بل الهدف من بعثته وهو دعوة الناس إلى الخير. والعجيب أن أكثر الناس يحرصون على ترسُّم خطاه في كل صغيرة وهذا حق، مثل: تحريك الأصابع في التشهد، أو الإشارة بها؛ وهذا هو الصحيح، ولكن لا يتصورون أن التأسي يكون في حركته الدعوية في المجتمع، وتنقُّله بين الديار والقبائل والمجالس حاملاً همِّ الدعوة إلى الله تعالى.
إنها مفارقة عجيبة تحتاج إلى تأمل!
وعندما نبحث عن الأسباب نجدها كثيرة، يهمنا هنا الجهل بالترابط الوثيق بين العقيدة والدعوة إلى الله تعالى، لذلك نحاول الربط بين الأمرين من خلال مسائل معينة، من أهمها في نظري:
أولاً: كلمة العقيدة كما نفهمها من لغتنا العربية تُفيد الربط والإحكام، كما قال تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان}[المائدة:89]. وقال عز وجل: {أوفوا بالعُقُود}[المائدة:1]. فكيف يُتصوَّر أن ينطلق إنسان من دعوة لم تنعقد بعدُ في قلبه بشكل واضح وقوي؟ لأن الدعوة كما أنها تشريف؛ فإنها تكليف بأعباء وأثقال لا يقوى عليها إلا من تربَّى تربية عميقة على العقيدة. قال تعالى - بعد الأمر بقيام الليل -: {إنا سنُلقي عليك قولاً ثقيلاً}[المزمل:5].
وهذه فرصة للتذكير بأحد جولات النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية، من خلال الجهاد في غزوة أحد، حيث تجلت مواقف البطولة عند أصحاب العقيدة، وتكشفت صور النكوص والهزيمة عندما ضعفت العقيدة. أترك الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حول هذا، حيث ذكر بعد حصول رجوع رأس النفاق (عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول): "انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك؛ فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء المضروب به المثل. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام".
إذن طريق الدعوة طويل يحتاج إلى طول نفس وعمق في العقيدة، نسأل الله الثبات والإعانة.
ثانيًا: إذا لم تكن العقيدة واضحة في ذهن الداعية، فإلى أي شيء سيدعو الناس؟! .. هل سيدعوهم إلى قضايا وهمية؟ أم تناقضات عقلية؟ .. فما أجمل قوله عز وجل: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة}[يوسف:108].
لذلك رتب النبي صلى الله عليه وسلم الأولويات عند معاذ - رضي الله عنه - فقال: (وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله).. وهذا الترتيب الشرعي في الدعوة يؤدي إلى قبول الناس للدعوة، والعمل بمقتضاها من التشريعات والأحكام، وهذا مثل جذور الش
==========
اهدنا الصراط المستقيم
في كتابه الماتع "هموم داعية" كتب الشيخ محمد الغزالي ـرحمه الله ـ مقالا في غاية الأهمية مع غاية الروعة تحت عنوان "على مسار الدعوة" وضح فيه أسسا للداعية ينبغي أن يجعلها قواعد، ومنهجا ينبغي أن يتخذه طريقا إذا أراد أن تؤتي دعوته ثمارها ويجتني الناس بعد ذلك أكلها... يقول رحمه الله:
نحن ندعو ربنا في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، والصراط المستقيم ليس خطًّا وهميا ينشأ عن هوى الأفراد والجماعات، وإنما هو حقيقي يرسمه من الناحية العلمية: القرآن الكريم، ومن الناحية العملية: الرسول الذي حمل الوحي وطبقه وربى جيلا من الناس على عقائده وشرائعه.
والتاريخ الإنساني يشهد بقوة ووضوح أن قافلة الإسلام لزمت هذا الصراط حينًا من الدهر، وأنها قدّمت للعالم نماذج حية في بناء الخلق والمجتمع والدولة.
نعم .. كان السلف الأول عابدين لله، ذوي بصائر ترنو إليه وتستمد منه، وتنضح بالتقوى والأدب في كل عمل يباشرونه.
وكانوا - إلى ذلك- خبراء بالحياة يسوسونها بالعدل والرحمة، ويقمعون غرائز التطلع والحيف، ويرفضون ما سبق الإسلام في ميدان الحكم من فرعونية وكسروية وقيصرية، كما يرفضون ما سبق الإسلام في ميدان التديّن من شرك أو تجسيد أو تعطيل.
إن الصراط المستقيم ليس وقوف فرد في المحراب لعبادة الله وكفى، إنه جهاد عام لإقامة إنسانية توقر الله، وتمشى في القارات كلها وفق هداه، وتتعاون في السرّاء والضرّاء حتى لا يذل مظلوم، أو يشقى محروم، أو يعيث في الأرض مترف، أو يعبث بالحقوق مغرور.
السلف هم القدوة
وقد وقعت خلال القرون الطويلة انحرافات دقيقة أو جليلة! وقبل أن نتفرس في هذه الانحرافات ونتحدث عن مداها نريد أن نقرر حقيقة مهمة: إن السلف الأول وحدهم هم مصدر الأسوة، وما أجمل ما جاء عن ابن مسعود -رضى الله عنه- حين قال: "من كان مستنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة! أولئك أصحاب محمد (صلى الله عليه و سلم) كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
إن بعض الذين ضاقوا بالانحرافات المعاصرة في العالم الإسلامي فكروا في العودة إلى الأمس القريب، أو إلى بضعة قرون مضت! فقلت لهم: لا.. مثلنا الأعلى في القرن الأول وحده، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ".
معنى الاقتداء
والاقتداء بداهة ليس في ركوب الخيل والإبل، والحرب بالسيف والرمح!(2/1)
الاقتداء في التجرد والخشية وإيثار الآخرة!! أما تأمين الحقيقة فقد استحدثت له وسائل مدنية وعسكرية لا حصر لها، ويجب على حملة الرسالة إتقان هذه الوسائل..وقد بيّن أولو العلم ما يجب التزامه شكلا وموضوعًا من شئون العبادات المحضة أما غيرها فنسق آخر.
العدل هو العدل، ولكن ضمانات وصوله إلى ناشديه تكثر وتتغاير على مر العصور. والشورى هي الشورى بيد أن ضمانات التعبير عن الرأي وضمانات الوقوف أما الاستبداد تختلف باختلاف البيئات والملل.
وفي عصرنا هذا قامت أجهزة للدعاية تخدم شتى الملل والنحل بأساليب فاتنة، فإذا لم نسبقها ونسبق، ظلمنا ديننا، وأضعنا حقنا، وكان علينا وزر المفرطين.
الانحراف عن الصراط المستقيم
الصراط المستقيم إذن معروف بالعقل والنقل فلماذا يقع الانحراف عنه؟
والجواب: طبيعة البشر! إننا نخطئ وليس في ذلك عجب! ولكن العجب أن يبقى الخطأ وأن نُصرَّ عليه!!
والأعجب من ذلك أن يمضي البعض في طريق الانحراف وهو لا يدري! أو لعله يحسب نفسه على صواب..
وميلاد الانحراف خلقيّا كان أو اجتماعيّا أو سياسيّا يبدأ من نقطة ما، ثم يسير مشكلا مع الخط المستقيم زاوية حادة، فإذا قست المسافة بين خط الزيغ والخط المستقيم وجدتها قدر إصبع، ثم تمتد فتصير قدر شبر، ولا يزال الزمان يطيل المسافة بين الخطين حتى تصير قدر ميل أو أميال، ويكون البعد عن الحق شاسعًا!!
والانحراف المعيب لا يقع في مكان واحد بل قد تتعدد أسباب الميل، وتكثر المتعرجات التائهة، وتنحل عرا الإسلام عروة عروة بالصمت الجبان وترك الفتن تمشي حبلها على غاربها، بل إن معالم الصراط المستقيم تكاد تخفى مع توارث العوج وذيوع الجهل لولا أن الله سبحانه تعهد دينه بمن يجدد أمره، ويجلو بريقه، ويذود عنه الآفات..
إذا ذكرت كلمة "الدين" سبق إلى فكر الناس ما وراء المادة والبحوث الغيبية المحيرة في هذا المجال!!، فهل الأمر كذلك عندنا؟ كلا.
إن الفاتحين الأوائل ما أثاروا بين الشعوب قضية من هذا الطراز، لقد انطلقوا باسم الله الواحد ينقلون الجماهير من الظلمة إلى النور، من الظلم إلى العدل، من الخرافة إلى الحق فشغلوا الناس برؤية الميزان الذي أقاموه لكفالة معاشهم ومعادهم عن بحوث ما وراء المادة.
الكلام في العقيدة موجز مجمل: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهَ الأَسمَاءُ الحُسنَى) (طه:8)
والتفاصيل أعمال صالحة تبدأُ من إقام الصلاة وتنتهي بتنظيف الطرق! وتقصي من الحياة العامة أسباب الشكوى والهوان: (لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ)( الحديد:25) .
ما ينبغى أن يهتم به العقل الإسلامى اليوم
كان السلف الذين حملوا الإسلام قديًما واقعيين يعرفون مراد الله بذكاء وينفذونه بدقة، والإسلام – كما نعرفه من كتاب ربنا وسنة نبينا- فطرة سليمة لا فطرة ملتاثة وتعاليم يعيها أولو الألباب لا أولو الثقافة القاصرة والأحكام البلهاء.
وقد أحس ورثة المدنيات القديمة أنهم أمام عقل أذكى من عقولهم، وخلق أنبل من أخلاقهم، وبر بالشعوب أوسع من برهم، وأدركوا أن صفحتهم يوم تطوى، فلكي يرى العالم صفحة جديدة أملا بالرحمة والعدل يخطها أولئك الذين رباهم محمد (صلى الله عليه و سلم).
فهل كذلك الداعون إلى الإسلام في يوم الناس هذا؟
ــــــــــــــــ
انظر كتاب "هموم داعية" لمحمد الغزالي
===========
وحي الشياطين
قسم الشيطان الرجيم بعزة رب العالمين بأنه سيضل عباد الله أجمعين إلا عباد الله المخلصين، وقد اتخذ الشيطان منذ ذلك الحين كل الأسباب التي يبر بها قسمه، فما من سبيل يضل بها الناس عن الوصول لرضا الرب تعالى إلا سلكها، ولا طربق تبلغه مراده إلا طرقها.. ومن أساليب الشياطين في إضلال الخلق ما يمكن أن نسميه "بالوحي الشيطاني" وهو ما أثبته ربنا سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}[الأنعام:112].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال: يا أبا ذر، هل صليت؟ قال: لا يا رسول الله . قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلست إليه، فقال: يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ قال قلت:لا، يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن" [وقد صححه ابن كثير بمجموع طرقه].
وعن عكرمة قال: للإنس شياطين وللجن شياطين، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
ولما بلغ ابن عمر أن المختار الثقفي (الذي ادعى النبوة) يزعم أنه يوحى إليه قال: صدق، يقول تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}[الأنعام:121]. وقال: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}. أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة.
صور الوحي الشيطاني
وهذا الوحي أحيانًا يكون في صورة تشكل فيكلم الشيطان الناس فعلاً.. كما روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث.(2/2)
وقد يكون هذا الوحي وسوسة يريد من ورائها فتح باب الكفر والتشكيك وهز العقيدة في قلوب الخلق كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله هذا فمن خلق الله، فمن وجد من ذلك شيء فليقل آمنت بالله".
وقد تكون وساوس لتكذيب الحق والوعد بالشر كما في قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:268]".
وقد يكون الأمر أعظم من ذلك. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: "ومن أسباب عبادتها (الأصنام) أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على ما يخفى عليهم، وهم لا يشهدون الشياطين، فجهلتهم وسقطتهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم والمخاطب".
وربما ظن بعضهم أنها أرواح أصحاب هذه الأصنام، وربما ظن آخرون أنها الملائكة فيزيدهم ذلك اعتقادًا في الأصنام، وتمسكًا بعبادتهم لها.
وقد كانت شيطانة تعيش في صنم العزى الذي كانت تعبده العرب فكانوا يسمعون منه صوتا. قال ابن عباس: كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة، فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصر بأنيابها وخلفها ديبة السلمي، وكان سادنها؛ فقال خالد:
ياعزى كفرانك لا سبحانك.. ... .. إني وجدت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل ديبة السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب.
ومن صور الوحي الشيطاني وأكثرها تغريرا بالخلق أن يكون الوحي وحيًا فعليًا، يوهم به الموحى إليه أنه نبي من عند الله، وأن هذا هو وحي الله إليه:
يقول عكرمة رحمه الله: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كان يتعاهد مبيتي بالليل. فقال لي: اخرج إلى الناس فحدثهم، فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان. قال الله: {بما أوحينا إليك هذا القرآن}، وقال تعالى:{شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا}. قال: فهموا بي أن يأخذوني. فقلت: ما لكم ذلك أنا مفتيكم وضيفكم فتركوني.
وهذا الوحي الإبليسي ستجده مع كل من ادعى النبوة كذبا وزورا
فطليحة بن خويلد الأسدي: كان ينهى أتباعه عن السجود ويقول: إن الله لا يصنع بتعفر وجوهكم وتقبح أدباركم شيئًا، اذكروا الله، اعبدوه قيامًا.
وجاء رجل من أصحابه إلى أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا كان يقول لكم؟ قال: "والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام".
وعلى شاكلته كان مسيلمة الكذاب: قال ابن كثير في تفسيره: "ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة قبل أن يسلم عمرو فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم هذه المدة؟ فقال عمرو: لقد أنزلت عليه سورة وجيزة بليغة. قال: وما هي؟ قال: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. فسكت مسيلمة برهة ثم قال: وأنا انزل عليَّ مثلها. قال عمرو: ما هو؟ قال الكذاب: ياوبر ياوبر، إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حر نقر. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ قال عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.
وكان مما يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. (فأين هذا من مثل "والعصر"؟)
وقيل: جاء طلحة النمري إلى مسيلمة فسأله عن حاله؟ فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمته فقال: أشهد أنك كاذب وأن محمدًا صادق ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، فقتل معه يوم عرباء كافرًا.
وكان من وحي سجاح لأتباعها من بني تميم وهي متوجهة لليمامة لقتال مسيلمة: عليكم باليمامة، ذفوا ذفيف اليمامة، إنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ندامة.
فأتته فتزوجته وبقيت عنده ثلاثة أيام، فقال عطارد ابن الحاجب وكان من أتباعها
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها .. ... .. وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
ولما ظهر الميرزا علي محمد مخترع طائفة البابية زعم أنه أنزل عليه كتاب "البيان" من عند الله فنسخ القرآن. ومن نظر فيه علم فضائحه وسخافاته وأكاذيبه وقال: الحمد لله على نعمة الإسلام والشكر له على نعمة القرآن.
وعلى منواله نسج ميرزا حسين علي البهاء صاحب النحلة المنحرفة المسماة بالبهائية والذي زعم أن الله أوحى إليه بكتاب الأقدس.
يوحون إلي أوليائهم ليجادلوكم
ومن عجيب وحي الشياطين ما يلقونه على ألسنة أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين، فمنه ما جادل به المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ وقيل إن فارس أرسلت به إلى قريش ـ كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، فما قتل الله فلا تأكلونه وما قتلتم أنتم تأكلونه، فأنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121].(2/3)
قال ابن كثير في تفسيرها: "أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره وهذا هو الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31].
وقد روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: بلى أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم.
وزماننا أيضا
وهذا الوحي القديم مستمر في كل زمان فإن أولياء الشياطين ما خلا منهم زمن، ونحن نراه اليوم ونسمعه على ألسنة من يسمون بالمثقفين والمتنورين والموسومين بأفخم الألقاب ترهيبا وتخويفا للمخالف أو من تسول له نفسه الرد عليهم، فما زال الشيطان يوحي إليهم ويلقي على ألسنتهم أمورا كبَّارا ما أنزل الله بها من سلطان.. فهذا يطعن في الإسلام ويسم أصحابه بالتخلف والرجعية والإرهاب، وذاك يطعن في تاريخ الإسلام وعصر الراشدين ويزعم أن "السرقة كانت متفشية في المدينة في عهد عمر بن الخطاب!!"، " وحتى البغاء كان متفشيا في تلك الحقبة الذهبية"!!.. ولا مانع يمنعهم ولا رادع يردعهم عن مخالفة المعلومات من الدين بالضرورة وخرق الإجماع بالمناداة بزواج المسلمة من النصراني والتهكم بأركان الإسلام كالحج وما فيه من سعي ورمي جمار وطواف بالبيت الحرام، .. إلخ. وجعبتهم لا تفرغ أبدا إلا إذا تاب إبليس عن الوسوسة والوحي لهم، ولن يكون هذا حتى يشيب الغراب أو يعود اللبن إلى الضرع.
وقد وصف الإمام ابن القيم هذا الوحي الشيطاني وحال هؤلاء أجمل وصف وأبينه حين قال في إغاثة اللهفان: ومن حيله ومكايده (يعني إبليس): الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة التي هي زبالة الأذهان، ونجاسة الأفكار، والزَبَد الذي يقذف به في القلوب المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا}، وقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا، وقالوا من عند أنفسهم منكرًا من القول وزورًا، فهم في شكهم يعمون، وفي حيرتهم يترددون. نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل.
نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، ويحفظنا من كيد ووحي الشياطين، إنه على كل شيء قدير.
============ ...
همم الدعاة.. لا وقت للاسترخاء
قيمة المرء على قدر همته، وإذا علت الهمة لم ترض بالدون، ولا تقف همة إلا لخساستها، ولابد للسالك من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، والدعاة إلى الله أكثر السالكين حاجة إلى علو الهمم مع وجود البصيرة، وإذا جاز لهمة أي أحد أن يصيبها العجز والكسل أو الوقوف والسكون أو حتى قليل الملل والفتور فإن الداعية لا ينبغي له أن يدع لهمته الفرصة لذلك، إذ كيف يلتذ داعية براحة وهم قد لقنوه من أول يوم أن ينشد:
في ضميري دائماً صوت النبي * آمراً: جاهد و كابد و اتعب
صائحاً: غالب و طالب و ادأب * صارخاً: كن أبداً حراً أبي
و كيف يميل إلى استرخاء، و أصحابه يهتفون:
نَبني، ولا نتكل * نفني، ولا ننخذل
لنا يد والعمل * لنا غد والأمل
إن حرية الداعية، والأمل الذي يستيقنه: يدفعان به دفعاً إلى البذل السخي.
علو في الحياة:
حرية.... و أمل
حرية تكسر قيود الشهوات .. و أمل بالأجر، وثقة بالنصر
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في ميزان التصارع العقائدي، كانتا دوماً في تاريخ التوحيد الطويل، تأخذان التعب من أجيال الدعاة من النبيين والصديقين والراشدين و التابعين و من لحقهم بإحسان على مر القرون ، فكلهم بالتعب كانوا يفرحون يأبون إلا العلو في الحياة ونحن إن شاء الله بهم لمقتدون.
كان تعبهم يتمثل أحياناً بحركة يومية دائبة في الإنذار والتبشير، والتجميع والتبصير، أو سهراً على رعاية مصالح المسلمين. و يتمثل أحياناً في انكباب على التعلم واجتياز المفاوز لحيازة حديث أو كلمات فقه.
ويتجسد في أخرى قتالاً، وتحفيزاً دائماً لجهاد وعلو موت. وفي أخرى إشغالاً للفكر في التخطيط. فإن أخذوا راحة، واستلقوا على ظهورهم: لبث ذهنهم يصطاد الخاطر. وكل ذلك حكى التاريخ، ليتعلم الدعاة اليوم.
نطق بالليل والنهار:
فأول من يطالعنا: الأنبياء عليهم السلام. كان لسانهم ناطقاً بالليل والنهار، والإعلان والإسرار. قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} , ثم قال: {ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً}.
ونطق أثناء خطوات الهجرة:(2/4)
"والواقع أن الداعي إذا كان صادقاً في دعوته منشغلاً بها لا يفكر إلا فيها ولا يتحرك إلا من أجلها ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته لم يشغله عنها شاغل أبداً حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف، وهكذا كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقي في طريقه بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وهذ يدل أنه عليه الصلاة والسلام لم يغفل عن الدعوة إلى الله حتى وهو في طريقه مهاجراً إلى المدينة و القوم يطلبونه " .
و نطق في السجن:
"ويوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلوماً لم يشغله السجن و ضيقه عن واجب الدعوة إلى الله ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها، فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} "
الراشد يمنع النوم:
وقاربهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه حتى قال عند وفاته: "والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زغت". يعني أنه قد شغلته حروب الردة و الفتوح وأرهقه إرساء جهاز الدولة، حتى أنه ما كان ليستغرق في نومه ليتاح له أن يحلم، و ظل يزاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصديقية ليهبه الله تعالى يقظة أثناء هذا التعب تبعد عنه الوهم والسهو.
الترابي ...!
ويترجم عبدالله بن عباس رضي الله عنه انغماسه في صورة جمع بين التواضع والصبر على مشقة التعلم وجمع الحديث، حتى أن الريح لتسفي عليه التراب، يرجو بذلك أن يستنشق نسمات الجنة، ويجتاز الصراط بلا حساب.
واسمعه يروي ما كان منه ويقول: (أقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي التراب، فيخرج فيقول لي: يابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث). ولو شاء أن يوقظوه لأيقظوه له مع الفرح، ولكن الهمم العالية تطرب لصفير الرياح ولفحات التراب.
هواية رفع الأثقال
والداعية اللبيب يسابق أصحابه لحمل كل ثقيل من الأمور، فيكون يوم الجمع صاحب الميزان الثقيل، كما تسابق النخعيون يوم معركة القادسية. قال أحد الصحابة منهم: "أتينا القادسية، فقتل منا كثير، و من سائر الناس قليل، فسئل عمر عن ذلك فقال: أن النخَع ولوا عِظَم الأمر وحدهم ".
وما كان أحد ممن حضر القادسية إلا وأبلى، و لكن الدعاة إلى الله لهم هواية التسابق في رفع الأثقال.
حصن التربية الأسدية
والذروة يعلوها التابعي العابد الفقيه المحدث الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، نتاج تربية الأربعة الراشدين وابن مسعود و سعد بن أبي وقاص وغيرهم، فإنه عاف التجارات والبيوت وبنى له في الكوفة حصناً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس. تجرد حق التجرد، فأنتج حق الإنتاج ذرية تجرد تتبعه، يعلم الدعاة بذلك طريق إنتاج الرجال باستخدام وسائل الإيضاح البصرية المجسدة.
أنتج أبو وائل أمثال: سليمان الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن، وعمرو بن مرة، وغيرهم من فحول المحدثين.
إن من لا يفهم التربية يظن أن بناء هذا الحصن من التكلف والرياء، وما هو كذلك.
ذهب الفراغ....!
ويموت شقيق الأسدي مع نهاية قرن الخير الأول، فيبادر الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز إلى ضرب الأمثال. تصفه زوجه فاطمة بنت عبد الملك فتقول: " كان قد فرّغ للمسلمين نفسَه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه: وصل يومه بليلته". يضرب المثل بذلك لداعية الإسلام إن أراد أن يصدق دعوته و يؤدي الأمانة.
صدق الداعية: أن يجدد أطوار عمر فيفرغ نفسه للمسلمين، فلا تجد له حركة دنيوية إلا بمقدار ما توجبه ضروريات إطعام عياله. ويفرغ ذهنه، فليس فيه إلا تفكر بمصالح الدعوة.
ويتعرض أصدقاءٌ قدماء لعمر، من أصدقائه قبل الخلافة يوم كان فارغاً، يودون أن تكون لهم معه جلسة يعيدون فيها الذكريات، فيقولون: "لو تفرغت لنا"، فيقول: "وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله".. يلقنها لمن يدخل الدعوة بعده إذا دعاهم رفاق الأمس إلى قتل الأوقات.
موفق يجوب بحقيبة العلم راجلاً
ويستمر تلامذة أحمد بن حنبل، وأتباع مذهبه من بعده، يضعون وسائل الإيضاح البصرية في الاستخدام التربوي، فإنهم كما وصفهم الفقيه النحوي ابن عقيل: "غلب عليهم الجد، وقل عندهم الهزل".
فمن تلامذته: الحافظ الإمام الفقيه الزاهد المحدث: إسحاق بن منصور المعروف بالكوسج، شيخ البخاري ومسلم وغيرهما. كان يسكن نيسابور بخرسان، فرحل إلى بغداد ودوّن عن أحمد بن حنبل مسائل في الفقه كثيرة، ورجع إلى نيسابور، ثم إنه: (بلغه أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تلك المسائل، فحملها في جراب على كتفه، وسافر راجلاً إلى أحمد، ثم عرض خطوط أحمد على كل مسألة استفتاه عنها فأقرّ له بها وأعجب به).. وأحدنا الآن يجلس على أريكته وبجنبه مسند أحمد مطبوعاً محققاً مجلداً مذهباً يتكاسل أن ينظر فيه.
الحنابلة يحفظون السمت
ويرسم ابن عقيل، النحوي الفقيه الحنبلي، صورة الداعية الذي لا تكون خطراته وسبحات فكره - بل أحلامه إذ ينام - إلا في الدعوة، ويجلي ذلك بقوله: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة: أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".. فانظر، كم ساعة من نهارك وليلك تضيع سدى؟(2/5)
وخلفه الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي. قالوا: (لازم العبادة، والعمل الدائم والجد، واستغرق أوقاته في الخير.. صَلْبٌ في الدين، وينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان: عرف الجد في وجهه).
وهكذا يجب أن تكون دائماً علامة الدعاة سيماهم في الجد ظاهرة في وجوههم، لا يخطؤها النظر. ليس لهم نصيب من الهزل والضحك والبطالة.
ـــــــــــــــ
محمد أحمد الراشد: بتصرف يسير
==============
الطاعة في الدعوة
عن أبي الوليد عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"[رواه البخاري ومسلم].
فأول بند في بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن السمع والطاعة. ويصف هذه الطاعة بصفات محددة لا تتجلى الطاعة إلا فيها، فالدعوة تحتاج من جنودها طاعة لا تمتزج فيها الأهواء، ولا تؤثر فيها الأمزجة، ولا تغيرها حالات العسر واليسر التي يمر بها الداعية كأي إنسان يعيش على هذه الأرض، طاعة مطلقة مادامت في طاعة الله، حتى وإن كانت تلك الأوامر مما تكره النفوس، أو هي معاكسة للآراء والأهواء (في المنشط والمكره)، فالمنشط واليسر لا يدلان أبدًا على درجة طاعة الدعاة؛ لأن طاعة آنذاك سهلة على النفوس، إنما تبرز الطاعة الحقة لمتطلبات الدعوة، حينما تكون في العسر والمكره. على مثل هذا اللون من الطاعة بايع الرعيل الأول من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سعد يتذكر البيعة:
وفي اللحظات الحرجة التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل معركة بدر، وهو يعلم أن قريشًا يعدون له العدة لملاقاته في أول معركة بين الحق والباطل وهو لا يملك إلا نفسه والمهاجرين، فكان يردد: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، وكان الذي يرد عليه أصحابه من المهاجرين، فكلما انتهى أحدهم من بيان الاستعداد الخوض المعركة، كرر نفس السؤال "أشيروا عليَّ أيها الناس". هنا تنبه أحد قادة الأنصار الصحابي الجليل الذي اهتز له العرش عند موته "سعد بن معاذ" وقال له: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد".
وقول سعد رضي الله عنه: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟" ينبئ بأن سعدًا لم يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد جواب الأنصار على سؤاله المتكرر، لأن نصوص البيعة لا تلزم الأنصار بالحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمايته خارج المدينة، بل أنه اعتقد بأن أجوبة المهاجرين المتكررة كانت تمثل الجميع بما فيهم الأنصار، فلا داعي لسماع أجوبة الطرفين، ماداموا جميعًا يمثلون "كتلة المؤمنين". وفهم منذ البيعة الأولى التي تحدث عنها عبادة الصامت، بأنها تقتضي بأن يبيعوا بذلك الأموال والأنفس في سبيل الله، لا يخافون في الله لومة لائم، وأنهم يخوضون غمرات الموت في سبيل الله، ولا أدل على ذلك من قوله: "فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد". ومن المعروف أن الصحابة كان معظمهم لا يعرف السباحة، ولكنها الطاعة التي فهموها منذ اللحظات الأولى من البيعة.
دقة الجندية الإسلامية:
قال جندب بن مكيث الجهيني: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا كنا بالقديد.. فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه، وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر فرآني منبطحا على التل، فقال لامرأته: إني لأرى سوادًا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئًا. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي، فناولته فرماني بسهم في جنبي، أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أمَا والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ريبة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا تمضغهما عليَّ الكلاب. قال: فأمهلنا حتى إذا راحت روايحهم وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا واستقنا النعم".[البداية والنهاية 4/223].
إنها مثال الدقة بالطاعة والتحمل من أجل تنفيذ أوامر القيادة، فلو تحرك ربما فسد كل شيء.(2/6)
وفي غزوة الخندق قال حذيفة رضي الله عنه: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب. وأخذتنا ريح شديدة وقر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال (ألا برجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال (ألا برجل يأتينا بخبر القوم ، جعله الله معي يوم القيامة؟) فسكتنا فلم يجبه منا أحد فقال (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم) فلم أجد بدًّا، إذ دعاني باسمي، أن أقوم. قال (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي) فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله (ولا تذعرهم علي) ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت. فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال (قم يا نومان".[رواه مسلم].
لقد كانت ليلة من أشد ليالي الشتاء بردًا وظلمة، مما جعل الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟"[رواه مسلم]. ولكنه عندما وجه الأمر لأحدهم وهو حذيفة امتثل حالاً، ودونما تردد، وهو يعلم مشقة المهمة المرسل إليها، ويعلم أن نفسه تأبى الخروج في مثل هذه الليلة الشديدة البرد، ثم ترد دقة حذيفة رضي الله عنه في التنفيذ، إنه يرى أبا سفيان قائد جيوش الأحزاب بارزًا أمامه دون حائل، ويكاد أن يقتله، ولكنه يتذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتوقف عن الاجتهاد بما لم يؤمر به، لئلا يؤدي اجتهاده إلى ردود فعل غير متوقعة، أو إلى نتائج سلبية غير ما كان يرجو.
إن كثيرًا من الخطط يصيبها الارتباك وكثيرا ما يصيبها الفشل بسبب اجتهاد القائمين على التنفيذ بغير ما أمروا به، فيجرون على أنفسهم ومن معهم من البلاء الذي لم يُخَطط لمواجهته الكثير الكثير، بسبب اجتهاداتهم وخروجهم عمَّا أمروا به زيادة أو نقصًا أو تجديدًا كاملاً، يختلف تمامًا من الأوامر الأصلية.
الطاعة لماذا؟
إن طاعة القائمين على الدعوة مطلب متأكد إذ إن طاعة أمير الدعوة من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، كما ذكر ذلك في الحديث الشريف: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصيني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعصي أميري فقد عصاني"[رواه مسلم].
وليس مهمًا أن يكون الأمير فلان بن فلان أو فلان بن علان مادام يأمر بالحق وينقاد إليه، ذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة"[رواه البخاري]. وما ذاك إلا لأهمية الطاعة في حياة المجموعة، ليسهل سيرها، وتحقيق أهدافها "فالسمع والطاعة، من أهم حقوق القيادة في كل زمان ومكان، إذ بغير السمع والطاعة لا يمكن الضبط والربط، كما لا يمكن تكوين جيش رادع لعدوه، يدافع عن وطنه، وبغير السمع والطاعة تكون الفوضى التي لا نظام فيها، والاضطراب الذي لا استقرار معه".
حدود الطاعة:
عن علي بن أبي طالب قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال: فاغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا فقال: أوقدوا نارًا فأوقدوا"، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. قال: فسكن غضبه وطفئت النار، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف".[رواه البخاري].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين هنا حدود الطاعة، وهي ما كان بالمعروف، فإذا خرجت عن دائرة المعروف، وانتقلت إلى ما يغضب الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وعندما تسلم أبو بكر رضي الله عنه الخلافة قال في خطبته: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". وهنا يحدد الصديق حدود طاعة الشعب لخليفتهم كما فهمها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي ليست طاعة عمياء، إنما طاعة فيما أمر به الله أو ما هو في ضمن المعروف، أما إن خرجت عن المعروف فلا طاعة، فإذا أمر الخليفة أو المسؤول الأول في الدولة الشعب بمعصية بينة فلا طاعة للشعب له بذلك. وهكذا كل من له حق الطاعة من والد أو زوج أو غيره كلهم تجمعهم القاعدة الأصيلة والمبدأ العام أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
غياب الطاعة لماذا؟
الواقع الملموس يدل على تفريط كبير وعدم انصياعية عند كثير من المنتسبين إلى الدعوة، ولعل ذلك يرجع إلى عدة عوامل، منها :
أولا: غياب العمل المؤسسي المنظم والمتكامل عند كثير من أهل الدعوة.
ثانيا: عدم التربية على الطاعة منذ الصغر، فينشا الإنسان على ما تربي عليه.
ثالثا: الرغبة في التفلت خوفا من الالتزام وتحميل النفس الأعمال والأعباء التي تنتج عن الطاعة.
رابعا: اتباع هوى النفس وعدم الرغبة في الرضوخ لآراء الآخرين واعتداد كل شخص برأيه.
إن العمل الارتجالي لا يؤدي إلى ثمرة نافعة ولا يرجى من ورائه كبير فائدة، ولابد من وجود هيئات للتخطيط، وصف كامل للعمل يلتزم الطاعة التامة في المعروف، وإلا سنظل ندور في حلقة مفرغة ونزداد تخلفا عن الركب يوما بعد يوم .
============(2/7)
زوجة الداعية.. جندي مجهول في طريق الدعوة
الداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة. ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همّ ورسالة، هم على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمّ لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات وظلم وجوع وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، حيث إن هذا الوجوب على الجميع، ولكن الفرق بينه وبين الآخرين أنه هو الذي بادر من بينهم لحمل هذه الأمانة، وقبِل أن يتحمل تبعاتها ومشاقها.
ولا شك أن واجب الدعوة إلى الله يتطلب وقتًا طويلاً قد يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها، ما دام ذلك في سبيل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
ورجل مثل هذا لا تصلح له أي زوجة، وإن أوتيت من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميتها، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج، وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاق، فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه فيها، لا أن تقف عائقًا وشوكة وحجر عثرة في طريقه.
وقد رأينا في طريق الدعوة أناسا كانوا ذوي نشاط وهمة قبل زواجهم فانقسموا بعد الزواج إلى فريقين فريق ازداد نشاطا وعملا وهمة، وفريق خبت عزيمته وضعفت همته وانشغل عن الدعوة وأهلها وإنما سبب ذلك الأول هو فهم الزوجة وفكرها وهمها.
والناظر في تاريخ كبار الدعاة يجد أنهم ـ في معظم أحوالهم ـ قد حباهم الله بزوجات واعيات كان لهن أكبر الأثر في اشتهار أزواجهم وزيوع صيتهم وانتشار دعوتهم، وذلك بدعم الزوج وتحفيزه وتهيئة الجو العائلي المناسب وإعانته في أمور دعوته وعدم شغله بتوافه المتطلبات أو بسفاسف الأمور.
إن من أعظم نعم الله تعالى على من سلك سبيل الدعوة إلى الله أن يُرزق زوجة معينة تحمل معه همومه وتعيش معه آماله وآلامه وطموحه، بل وتحمل معه أعباء دعوته، ومن نظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول أمر دعوته وموقف أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة رضي الله عنها يعلم تمام العلم ما يمكن أن تؤديه زوجة الداعية.. لقد كانت أمنا خديجة مدرسة بحق تتعلم فيها زوجات هذا الزمان كيف تكون الزوجة الحقة.
إن مواقف خديجة رضي الله عنها كلها خالدة ويكفي موقفها من زوجها "النبي الجديد" حينما أتاها خائفا بعد أول نزول للوحي ليقول زملوني زملوني فتزمله، ثم يقول لقد خشيت على نفسي. فتطمئنه بل وتشجعه وتحفزه إن مثلك لا ينبغي أن يخاف بل أنت لها وإن لم تكن أنت فمن؟ "والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق"، لقد آمنت به فكانت أول المؤمنين والمؤمنات، وواسته بمالها وأعانته بحسن تبعلها وكريم معشرها وحسن مشورتها وكانت هي الصدر الحنون الذي يلقي عنده كل الهموم والغموم وينفس فيه عن نفسه مما يلقاه من أذى المشركين وما سمع منها يوما كلمة تضجر أو تبرم بل الرضا كل الرضا والمعونة الصادقة بكل ما تحمل كلمة الصدق من معان.
لقد كانت خديجة أكبر من أن تعد مآثرها أو أن تحاط مفاخرها .. فلا غرو أن أحبها المصطفى حبا لم يحبه أحدًا سواها، وما زال يذكرها بعد موتها بالحسنى حتى غارت أحب زوجاته إليه بعدها عائشة الصديقة بنت الصديق من كثرة ما يذكرها بالخير. وعلى خطا خديجة كانت زوجات رسولنا الكريم رضي الله عنهن أجمعين.
ولتعلم قيمة تلك النعمة تذكر نوحا ولوطا عليهما السلام وموقف زوجتيهما لقد وقفتا في طريق دعوتيهما وكانتا حجرا عثرة وردءًا للأعداء عليهما.. ومن يعش مع ما كانت تفعله هذه الزوجة وتلك ـ خصوصا زوجة لوط عليه السلام ـ يعلم يقينا أن مثل هذه الزوجة عدمها خير من وجودها، بل عدمها نعمة.. وشتان بين امرأة تكون هي النعمة في وجودها وأخرى يكون فقدانها نعمة.
وهكذا زوجات الدعاة على مر العصور ينتقلن بين القمة في المواساة كخديجة رضي الله عنها وبين القاع الذي تبوأته زوجتا نوح ولوط.. وقد خلد التاريخ لكل دورها وعند الله الملتقى ويومها "تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء"، وحينها "توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".
================
سر نجاح الدعاة
رسالة الداعية أسمى رسالة، وأي عمل ـ مهما بلغت قيمته ـ لا يرقى إلى مستوى عمل الدعوة، وهداية الناس إلى الله .
ومما يؤكد على هذا المعنى أن الله تعالى حين تحدث عن الدعوة والقيام بها صدَّرها بأسلوب الاستفهام المفيد للنفي، فقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33)، أي: لا أحد أحسن ممن يفعل ذلك .
ومعلوم أن عمل الداعية ليس مجرد الكلام والوعظ، فما أيسر أن يعتاد الإنسان ـ بكثرة المران ـ على الألفاظ الجذلة، والعبارات الرصينة، بحيث يطلب منه الحديث في أي موطن، فيفيض به كأحسن ما يكون .
رسالة الإسلام
إن رسالة الداعية في الحقيقة هي رسالة الإسلام، بكل ما تحتويه هذه الكلمة من شمول وعموم .
فإن قلنا إن الإسلام يهتم بالفرد: تربية لنفسه، وتهذيبًا لسلوكه، وتوطيدًا لعلاقته بربه، كان الداعية هو القائم ببيان هذه الحقائق، والأخذ بيد الناس إليها .
وإذا قلنا إن الإسلام ينظم شؤون المجتمع، ابتداء بالأسرة، وانتهاء بالأمم فيما بينها وبين بعضها، كان الداعية ـ أيضًا ـ هو صاحب الدعوة لهذا الشمول، وهو القوى المحركة التي تحث الناس على أن تأخذ هذه المبادئ صورتها العملية في واقع المجتمع .(2/8)
وباختصار فإن رسالة الداعية هي رسالة الخير للفرد والمجموع على السواء .
ولا يتأتى للداعية القيام بهذا الواجب الضخم حتى يكون ـ في نفسه وأهله ـ أحرص الناس عليه، وأقوى الناس التزامًا به. وصدق الله إذ يقول: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت) (الشورى/15)
يقول ابن جماعة الكناني : " إن العلماء هم القدوة، وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدى بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به " .
ويقول الشاعر محمود بن الحسن الوراق :
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد...لعلمك مخلوقًا من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملته ... وجدت له من يجتنيه ويحمله
الدعوة بالصمت والسمت
هكذا تبدو أهمية الجانب الخلقي في حياة الدعاة، ذلك الجانب الذي بدونه تصبح الدعوة قليلة الفائدة، ضعيفة الأثر.
ولمزيد التأكيد على أهمية هذا الجانب في حياة الدعاة نسوق هذه الحقائق :
1- إن تعلق الناس بأحوال الداعية أقوى من تعلقهم بكلامه، بل إن الداعية قد لا يتكلم كثيرًا، ولكن أخلاقه وسيرته الحسنة تجعل الدعوة تسري بأقل مجهود يُبذل .
يقول لقمان الحكيم: "إن العالم يدعو الناس إلى علمه بالصمت والوقار" .
وقيل: "من لم تهذبك رؤيته، فاعلم أنه غير مهذب، ومن لم ينعشك عبيره على بُعد فاعلم أنه لا طيب فيه، ولا تتكلف لشمه".
وقال الإمام الشافعي: "من وعظ أخاه بفعله كان هاديًا".
وقيل أيضًا: "من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه".
فبهداهم اقتده
هذا ويزخر التاريخ بالكثير من القدوات الصالحة ـ لأفراد وجماعات ـ تدل بشكل قطعي على تأثير الداعية بالقدوة فيمن حوله بصورة أبلغ من الكلام .
قال ابن وهب: "ما تعلمت من أدب مالك أفضل من علمه".
وقال يونس بن عبيد: "كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله، ولم يسمع كلامه".
هذا على مستوى الأفراد . وكذلك على مستوى المجموع رأينا القدوة الصالحة قد راعت نظر كثير من الأمم في مطلع الدعوة من خلال سلوك السلف الصالح، مما نتج عنه إسلام الكثيرين. يقول الإمام مالك: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا".
2- إن تخلق الداعية بالأخلاق الإسلامية التي يدعو الناس إليها يجعل في دعوته حرارة وحيوية؛ لأنها تخرج من قلب منفعل بها، ويعبر عنها لسان صادق اللهجة، وبذا تتأثر بكلامه القلوب، وتنفعل بصدق حديثه النفوس، بعكس ما لو عرى عن هذه الأخلاق، وجاء يدعو الناس إليها، فإن دعوته ـ مهما كان فصيح اللسان، بليغ العبارات ـ لا تعدو أن تكون حرثًا في ماء، أو نفخًا في رماد، وبذا يزول أثرها، ولا يدوم نفعها .
يقول مالك بن دينار: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلَّت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا".
وقال شهر بن حوشب: "إذا حدث الرجل القوم، فإن حديثه يقع في قلوبهم موقعه من قلبه"
وسئل الحسن البصري رحمه الله: ما بالنا نعظ الناس فنبكيهم، وأنت تعظ الناس فتبكي؟ فقال : ليست النائحة كالثكلى.
3- إن صلاح الفرد في ذاته دافعه ما يتمسك به من أخلاق .
يقول أبو حامد الغزالي : " كل من أراد النجاة لا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة " .
ويقول أحمد شوقي :
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم
ونستنتج من هذه المقدمة أن صلاح الداعية في خلقه طريق إلى إصلاح نفسه، وإن فساده في خلقه طريق إلى فساده في كله . فلو حدث ـ لا قدر الله ـ أن تولت فئة من الدعاة مهمة الإصلاح وهي تفتقد الأخلاق فإنها ـ والحال هكذا ـ سيفشو فسادها، ويعم خطرها ويستبيح الناس الحرمات وهم يجدون من يبرر أخطاءهم، ويبارك فيها خطواتهم. ولذا يعظم خطر علماء السوء في المجتمع .
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون " .
وجاء في مأثور الحكم: "زلة العالم كالسفينة، تغرق ويغرق معها خلق كثير".
وقال معاذ رحمه الله: "احذروا زلّة العالم؛ لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعونه على زلته " .
وقال الشاعر :
وكنا نستطب إذا مرضنا فصار هلاكنا بيد الطبيب
وقال غيره :
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟
فمن نصَّب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم " . وقال الفراء : " أدب النفس ثم أدب الدرس " .
وقال الليث وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئًا : " أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم " .
وعن مالك بن أنس قال : قال ابن سيرين : " كانوا يتعلمون الهدى، كما يتعلمون العلم " .
قال : وبعث ابن سيرين رجلاً فنظر كيف هديُ القاسم وحاله " .
ونخلص من هذه النقاط الثلاث إلى أهمية الأخلاق في حياة الداعية، فهي حجر الزاوية في نجاحه في دعوته، وبقدر اهتمامه بها، وحرصه عليها، يكون توفيق الله له .
{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب}.
===============
التشويق في الدعوة
يبحث الداعية الموفق دائمًا عن كل سبيل ووسيلة يستهوي بها قلوب المدعوين، ويستميل بها عقولهم وعواطفهم، ويجتذب بها انتباههم؛ نصرة لدعوته، ورغبة في استقطاب أكبر عدد إليها.(2/9)
ومن أهم وسائل الداعية في استمالة عقول وقلوب وعواطف المستمعين إخراج الحديث عن الجفاف، وتجنيب مجلسه الجمود، والبعد بموعظته عن أن تكون باهتة مملة مما يضعف ـ بل يقتل ـ حيوية المتلقي وفعالية التأثر، ويؤدي في النهاية إلى انفضاض الناس عنه وعن دعوته.
ومن هنا تظهر أهمية قدرة الداعية على إضفاء روح التشويق والتحبيب والحيوية على حديثه وأسلوبه لامتلاك نواصي المدعوين.
وللوصول إلى ذلك يلزم أن يتوفر عدة شروط في الموضوع وفي الأداء أيضًا منها:
أولاً: ربط الموضوع بواقع المدعوين:
فعند اختيار الداعية لموضوع يعالجه، أو مشكلة يبحث لها عن حل، أو فكرة يطرحها، أو فضيلة يدعو إليها ينبغي أن يكون ذلك مستوحى من واقع الناس المعاش، ومستمدًا من روح بيئتهم وصميم حياتهم، خصوصًا عند ضرب الأمثال وسرد القصص، وكذا عند اختيار الكلمات والجمل بالبعد عن غريب اللفظ وعالي الأساليب، مع اعتبار تفاوت المستوى العلمي والثقافي والاجتماعي للمستمعين.
وتعتبر معالجة المشكلات الطارئة والحوادث المستجدة في حياة الناس ومناقشة أسبابها وبيان عواقبها وذكر طرق علاجها من أهم أسباب التشويق والانتباه وتحصيل الفائدة والثمرة المرجوة والأثر الطيب لدى المستمع.
في حين أن تجاهل أحداث المجتمع والتغافل عن حل مشكلات الناس يوقع الداعية فيما يسمى "بالعزلة الفكرية" ويضرب بينه وبين الناس بسور ليس له أبواب، ويتسبب في فض الناس عنه ورفضهم دعوته، وهي أكبر خسارة للداعية على الإطلاق.
ثانيًا: تجديد وتنويع الأساليب:
إذا دخل الملل على السامع أو المتلقي خرج بقلبه عن مجلس الوعظ وسبح في أحلام اليقظة، أو استسلم لخفقات النعاس.. ورشاقة الداعية وتنقُّله بين أساليب الدعوة واختراع أساليب جديدة والتنويع في ذلك في اللقاء الواحد يثير شهية المدعوين إلى الاستماع وينفي عنهم الملل الذي يفقد المجلس حلاوته ويعدم فائدته.
فالداعية الموفق كالفراشة التي تنتقل من شجرة إلى شجرة، وكالنحلة التي تستقي من كل زهرة أطايبها، فهو يتنقل بين بساتين الوعظ وطرقه يرشف من كل منها ليكوّن في النهاية خليطًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء لقلوب السامعين.
فينبغي على الداعية أن يتنقل بين أسلوب القصة المسلية التي يحرك بها العاطفة ويسلي بها النفوس، ويأخذ مواطن العبر والعظة، ثم ينتقل إلى ضرب الأمثال تقريبًا للمفاهيم، وتيسيرًا على السامعين، وتجسيدًا للوقائع، وتصويرًا للمَشاهِد، وإلباسًا للخيال لباس المحسوس المشاهَد، فيكون أقرب للفهم وأيسر في استخراج الفوائد، وهو من أساليب القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ففي القرآن في الحث على النفقة: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ...}[البقرة:261].
وفي فضل الإخلاص: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:265].
وفي بيان أعمال المشركين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[النور:39].
وفي التخويف من الرياء: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:266].
وكذا السنة فيها بيان فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ... الحديث "(رواه البخاري عن النعمان بن بشير).
وفي فضل قراءة القرآن: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب... إلى آخر الحديث". (رواه البخاري)... وغير هذا في القرآن والسنة كثير.
ومن ضرب الأمثال إلى الحوار إن أمكن لتنبيه الغافل وإيقاظ الوسنان، وتفتيح الأذهان كمثل قول العدنان صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتدرون ما الإيمان بالله؟" متفق عليه. وكقوله: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقى من درنه شيئا ..." (متفق عليه). وفي صحيح مسلم: "أتدرون ما المفلس ؟".
على ألا يكون الحوار بابًا لإخراج المتحدث عن موضوعه أو لكثرة المداخلات أو الإخلال بنظام المجلس أو الدرس.
ولا مانع من استعمال أسلوب المداعبة أحيانًا لإذهاب الكآبة والسآمة وتنشيط الروح، وإراحة العقل لحظيا، وتفتيح النفوس للتقبل، وقد قال جرير بن عبد الله: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم"، وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره.
لكن ليحذر الدعاة المغالاة في الدعابة حتى تصبح عادة، فتسقط المهابة ويضعف التأثير، وإنما كالملح في الطعام لا غنى عن قليله، وكثيره يفسده.
ثالثًا: انتهاز المناسبات والفرص:(2/10)
وذلك باستغلال المواقف في إصلاح الناس وتوجيههم، فيكون التعليق أبلغ في التأثير، وأقرب للفهم والمعرفة، مع استغلال استعداد المدعوين النفسي وتهيئهم للقبول، كما روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسُّوق داخلاً من بعض العاليةِ والناسُ كنفتهُ، فمرَّ بجَدْي أسَكَّ ميِّتٍ فتناولَهُ، فأخذ بأُذُنِه، ثم قال: أيكم يُحبُّ أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نُحبُّ أنه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟! قال: أتُحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه لأنه أسكُّ، فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله للدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم".
ومنه قصة المرأة وولدها في السبي، ومناديل سعد في الجنة.
ولا شك أن انتهاز المناسبة له أثره في تربية الأمة وهداية الأفراد، مع وجود عنصر التشويق لدى السامعين.
رابعًا: استعمال وسائل الإيضاح:
وهذه أبلغ ما يكون في تجسيد الفكرة، وترسيخ العلم، والتشويق إلى الموعظة بالتجديد. واستغلال وسائل الإيضاح حسب المتاح طالما لا يخالف الشريعة، وهي تختلف باختلاف الأزمان، وكذلك الأماكن والأفهام، وهي وسيلة نبوية ينبغي للدعاة عدم إغفالها، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال ( هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا".
خامسًا الاقتصاد في الموعظة:
وهذا يكون على قسمين: الأول: الاقتصاد في الكثرة: فلا يكثر من المواعظ وإنما يتخول الناس بها بين الفينة والفينة، حتى يشتاق الناس إليه ولا يملون حديثه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة خشية السآمة.
و الثاني: الاقتصاد في وقتها: فتكون الموعظة قصدًا عدلاً، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا، وقد جاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه".
فالبعد عن الثرثرة، وتجنب الحشو وتكرر الأفكار، وإطالة المقدمات، والاسترسال في سرد الأدلة والتفاصيل المملة يفقد الموعظة كثيرًا من فوائدها، وإنما القصد القصد.
فبهذه الخصال - وربما هناك غيرها - يملك الداعية زمام القلوب، ويؤثر على النفوس، ويرجى له القبول والانتشار بما يعود بالخير على الدعوة وعلى الناس بالمنفعة، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
==============
حيل أهل الباطل لفتنة الدعاة
صراع الحق مع الباطل قديم، قدم هذا الإنسان على هذا الكوكب، بل أقدم من ذلك، فمنذ أن خلق الله الإنسان وأمر الملائكة، ومن ضمنهم إبليس، بالسجود لآدم (فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[البقرة:34]، ومنذ تلك اللحظة حقد إبليس على بني آدم، بسبب تكريم الله لهذا المخلوق على باقي خلقه لما ميزه عنهم بالعقل والعلم، وأقسم الشيطان بالانتقام من هذا المخلوق وتسخير جميع ما أعطاه الله من قدرة لإغواء بني آدم ثم إلقائهم جميعًا في جهنم إلا فئة قليلة منهم وهم "المخلصون" المتبعون لمنهج الحق، فقال بحقد: (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء:62] أي لأستولين على ذريته إلا أولئك القليل.
ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك صراع بين هذه القلة التي تتواجد في كل عصر وبين أولئك الكثير الذين أضلهم إبليس وقادهم إلى جهنم، والصراع سببه إصرار إبليس على فتنة معظم بني آدم بكل ما يملك من الوسائل، وإصرار العصبة القليلة من أتباع الحق السائرين على منهج الهداية، على الثبات على هذا المنهج خوفًا من جهنم، وبين هذين الإصرارين ينتج الاحتكاك، ويكون الصراع بين الفريقين متخذا أشكالاً عدة، ومن أبرز أساليب اتباع الباطل والفساد هو إلقاء الشبهات واختلاق الأكاذيب واستعمال الحيل لتشويه نصاعة مسيرة أصحاب الحق حتى ينفر الناس منهم ولا يصدقوهم بما يقولون، لأن الناس جبلوا على كراهية من يخالف قوله فعله، هذا جانب من جوانب الحرب التي لاقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة.
حرب المصطلحات
جاء في السيرة النبوية: "وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله"، وكان يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه." [انظر البداية والنهاية:3/141].
فوصف الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والشعر والكهانة ليفضوا الناس من حوله ويصدوا المدعوين عن دعوته وينفروهم من الجلوس معه أو الاستماع منه.
تكرر الصورة:
هذه الصورة تتكرر في كل عصر يشتد فيه ويعلو صوت الباطل، تتكرر في جميع زواياها، مع اختلاف فقط في الأوصاف والحيل لتلائم العصر المعاش.. فإذا كان أهل الباطل في الماضي يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه مجانين وسحرة وكهنة، فاليوم لا تتناسب هذه الشبهات مع عصر العلم الحديث، وإنما يقولون: "متعصبون"، والناس يكرهون التعصب، ويقولون: "طائفيون" والناس يكرهون التفرقة. ويقولون: "رجعيون" والناس يحبون التقدم. ويقولون: "إرهابيون، ومتطرفون، وانتحاريون"، ويقولون: "يريدون قلب نظام الحكم" لتخويف الأنظمة فتتسلط عليهم بالتضييق والتذبيح والسجن، ويخوفون الشعوب لأن الناس لا يحبون القلاقل والفوضى، ويحبون الاستقرار والنظام.
أنواع من الحيل(2/11)
كانت "حرب المصطلحات" إحدى الحيل المستخدمة في ميدان المعركة الدائمة بين أصحاب الحق وزمرة الباطل، وللباطل حيل أخرى كثيرة فهم يدرسون كل فرد، أو كل مجموعة على حدة، دراسة مستفيضة يعرفون نقاط الضعف، ونقاط القوة في كل فرد وفي كل جماعة، ومن خلال هذه الدراسة يبدؤون بحياكة هذه الألاعيب، ونصب هذه الشباك، ليقع فيها من يقع من الدعاة، ومن أهم هذه الألاعيب:
الترغيب في المناصب والأموال
ويكون هذا باتجاهين إما بإعطائه أو منعه:
فالأول: يكون بعرض هذه المناصب العالية والدرجات على الداعية والتلميح له بها من أجل التنازل عن مبادئه، وقد حاول المشركون ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم حين عرضوا عليه الملك والجاه والمنصب، والمال والثراء، والزواج ممن يحب ويرغب.. فعرضوا عليه كل ما يتمناه المرء في دنياه كل ذلك ليغروه عن دينه ويبعدوه عن دعوته فما اغتر ولا انخدع، ولكنها تبقى حيلة يتصيد بها أهل الباطل أصحاب الدعوات.
فإذا لم تنجح تلك الحيلة في استمالة الداعية أو على الأقل تحييده استبدلوا التلويح بالعطاء بالتلويح بالمنع فتتوقف الدرجات والعلاوات، ويحرم من المناصب التي هو أهل لها، وتعطى لمن هو دونه لإغاظته، وربما عملوا على حرمانه من عمله بالكلية، وضيقوا عليه فيه كما هو الواقع في منع قبول الملتزمين والملتحين في الوظائف، وهو ما يسمونه باستراتيجية تجفيف المنابع .
هذا الوضع يجعل البعض يفكر جديًّا بتغيير هويته الإسلامية، والتنازل عن مبادئه في سبيل الحصول على ما فقده بسبب التزامه، وكم رأينا من أثرت فيه هذه الحيلة وابتعد عن الطريق، ولعمر الحق إن هذه لفتنة عظيمة في صورتيها.. ونسأل الله الثبات.
التخويف والتهديد:
وهي من الحيل التي يتبعها أهل الباطل في مواجهة أهل الحق خصوصا في بداية الدعوات وقد هُدد أصحاب الدعوات من الأنبياء والمرسلين.. فهؤلاء قوم نوح يقولون لنبيهم: "لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين"، وقال قوم لوط له: "لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين"، وقال قوم شعيب: "لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريبتنا أو لتعودن في ملتنا" ، وكذلك قال كل أهل الباطل: "وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أول لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين"، وقال فرعون لموسى : " لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين" وهكذا تسير هذه القافلة المباركة لتتلقى نفس هذه الحيل الإرهابية من أهل الباطل لتخويفهم وردهم عن طريق دعوتهم والله من ورائهم محيط "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
البعثات الخارجية:
ومن حيل أهل الباطل أنهم إذا رأوا نشاطا من بعض الدعاة وأن من وراء عمله ثمرة ظاهرة وأثرا كبيرا أرسلوه للخارج لبعثة دراسية، أو لتمثيل بلده بمؤتمر، أو دورة، أو تمثيلاً دبلوماسيًا، أو لأي غرضٍ من الأغراض، ويتفقون هناك مع بعض من يقوم بإغرائه بشتى المغريات، أو أن الجو هناك يكون بذاته فتنة له، ويبعده عن الجادة التي تربَّى عليها، أو أنهم يرسلون له من يخلصهم منه هناك بحادث ضد مجهول، بعيدًا عن غضبة جمهوره في بلده.
تشويه السمعة وإلصاق التهم
وهذه الوسيلة هي أكثر الوسائل والحيل انتشارًا، خصوصا مع المشهورين من الدعاة والذين التف حولهم الناس، ويراد تفريق الناس عنهم.. فعندئذ تبدأ حملات الاستهزاء والتهكم والاتهام بالباطل من خلال الحملات الصحفية بمناسبة وبغير مناسبة، وافتعال قصص وهمية أشهرها القصص الغرامية والتهم الجنسية لأنها الأسرع في الانتشار بين الناس.. وهذا لا شك يشكل ضغطًا نفسيًا على بعض الدعاة، وربما يؤثر على سيرهم في الدعوة، وثباتهم على طريق الحق.
وقد ضرب لنا المنافقون قديما مثلا في اتهام أشرف الخلق في عرضه الذي هو أطهر عرض وأشرفه وأكرمه.. ومع علمهم بهذا لكنه الحقد على الدعوة وأصحابها وكمد صدورهم وغيظ قلوبهم من انتشارها.
وسار إخوانهم على الدرب وسلكوا نفس السبيل، فكم من داعية في زماننا حورب بهذه الحيلة الدنيئة فاتهموه في نفسه أو في أهل بيته زورا وبهتانا حتى أسقطوه من أعين الناس؛ فانزوى عنهم، أو حملوه على ترك البلاد فرارًا من قذارتهم ودناءتهم.
القتل أو الحبس
فإذا فشل جند إبليس في صد الداعية عن دينه ورده عن دعوته وعمله لنصرتها، أوعز إليهم إمامهم إبليس بآخر الحيل وهي الأذى في البدن أو النفس بالحبس أو التصفية الجسدية لإيقاف دعوته وإنهاء أثره كما خطط المجرمون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ليلة الهجرة بمباركة من الشيطان الرجيم الذي حضر الندوة في صورة شيخ نجدي.
وكانت الخيارات الحبس أو النفي أو القتل وهي الخيارات الموجودة في زماننا وفي كل زمان فيه حق وباطل.. ولكن يذهب دعاة وينبت آخرون ويختفي مجاهدون ويظهر آخرون، ويفوز شهداء وينتظر الدور آخرون ..
هذه بعض الحيل التي يستخدمها أهل الباطل لفتنة الدعاة، ولكنها جميعها تتكسر أمام الرجال الذين ربوا أنفسهم على التضحية في سبيل الله، بعد أن قبلوا ببيع النفس والمال ابتغاءً لوجه الكريم وجنته، والابتعاد عن ناره، وعرفوا حقيقة الدنيا وزينتها، فلم تغرهم بعد أن زهدوا فيها، ورغبوا فيما عند الله، ولابد في النهاية أن ينتصر الدين فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
=================
لا مناصب في الدعوة(2/12)
يقول ابن إسحاق: حدثني الزهري أنه – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك".[البداية والنهاية 3/139، 140].
وهكذا يجب أن يدرك كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا، لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء.
والداخل في الدعوة، إنما يريد ابتداءً وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه. لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: "لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة".
يوسف يطلب الرئاسة:
وربما عللت النفس وشيطانها صاحبها بما فعل يوسف عليه السلام وإنما هذا من تسويل الشيطان، فالرئاسة لا تطلب إلا إذا تعذر وجود البديل أو الأكفأ، عندها يكون لزامًا عليه طلبها، لا لذاتها إنما كي لا يستلمها من هو دونه بالكفاءة فيضيع الأمانة، وهذا يوسف عليه السلام مثالاً لذلك، عندما رأى أنه لا يوجد من هو أكفأ منه، قال للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف:55]. يقول سيد قطب – رحمه الله -: "إنه لم يسجد شكرًا كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين كما يقول المتملقون! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوَّل بها رؤيا الملك، خيرًا مما ينهض بها أحد في البلاد، وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحًا من الموت وبلادًا من الخراب، ومجتمعًا من الفتنة – فتنة الجوع".[في ظلال القرآن 4/2005].
فالذي يلتحق بركب الدعوة، عليه ألا يتوقع رئاسة، أو منصبًا ما، فضلا عن أن يسعى إليه ويفرح به، إنما يجب أن يوطن نفسه من أول يوم يضع فيه قدمه على باب الدعوة، بأن يكون جنديًا لها، فإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في المقدمة كان في المقدمة، ليس له هدف سوى مرضاة الله، إنما يحدث التعثر إذا التفت لغير الله، وحدثته نفسه بأمر من حظوظها. ولهذا السبب جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس للذين بايعوا بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية بقوله: "فإن وفيتم فلكم الجنة".[البخاري 1/54].
فلم يعدهم بمنصب ولا بجاه ولا بمال، أو بأي لون من ألوان الدنيا، إنما علقهم بالآخرة، لترتفع نفوسهم وآمالهم، وهممهم من وحل طين الدنيا، إلى السموات العلا.
طوبى لعبد:
ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس لهم سوى رضى الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فليس مهمًا لديهم مواقع عملهم سواء كانت في المقدمة أو المؤخرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".[رواه البخاري في الفتح 2887].
يقول ابن الجوزي: "المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو، فإن اتفق له السير سار، فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها".[فتح الباري 6/83].
ويقول ابن حجر: "فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع".[فتح الباري 6/83].
هذا الصنف من الدعاة هو الذي تنجح الدعوة به، أما المتطلعون للرئاسة والمناصب والشهرة فإنهم من دون شك يكونون أحجار عثرة في طريق نجاح الحركة الإسلامية.
=================
الدعاة .. والحرص على هداية الخلق
إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيه" هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه البخاري ومسلم رحمهما الله . وفي رواية: "أنا آخذ بحجزكم عن النار : هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها" صححها الألباني في صحيح الجامع.
لم تكن هذه مجرد كلمات لوصف حال، وإنما زفرات حري، خرجت من أصدق قلب، لبيان أشرف مهنة ومقصد عرفه الوجود.
إنها صورة الدعاة إلى الله حين يرون الناس يقتحمون النار بانصرافهم عن الله وبعدهم عنه، فيتحركون ليمنعوهم عنها ويحجزوهم منها، ضنا منهم على هذه النفوس أن تذهب إلى النار.
ولا يمكن لدعاة الحلق أن يحققوا ذلك إلا بالحركة إلى الخلق، ودعوتهم حيث كانوا، وغشيان مجالسهم، وحضور مجتمعاتهم، والذهاب إليهم حيث كانوا، لا بالجلوس والخلوة وانتظار مجيء الناس إليهم، فإن أئمة الدعاة من السلف الصالح كانوا يسيحون في الأرض لنشر الدعوة وتبليغها، يبادؤون الناس بالكلام ويحتكون بهم احتكاكًا هادفًا ولا ينتظرن مجيء الناس إليهم ليسألوهم.(2/13)
إن هذه الحركة لدعوة الخلق لا يشمر لها العبد إلا إذا استشعر ابتعاث الله له ـ هو بعينه ـ لإنقاذ الناس، وهداية قلوبهم، وإنارة بصائرهم، كما قال ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فاستمع إليه وهو يقول: "ابتعثنا لنخرج" وانظر إلى ما فيها من إحساس بعظم الأمانة على عاتقه وعواتق أصحابه وشعورهم بأنهم هم المكلفون بها دون غيرهم.
ومن دون أن يستشعر الدعاة هذه المسؤولية فالأصل الركود والخمود والعزلة المذمومة. يظن الواحد أنه ينأى بنفسه عن المنكر وهو واقع فيه.. يقول الغزالي رحمه الله: "اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف. فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد (المدن)، فكيف في القرى والبوادي".
الدعاة دلالون على الله
إن المسلم الحق والداعية الصدق هو الذي يدل الخلق على الله وهي أعظم وظائف الأنبياء، والدعاة ورثتهم فيها، وهذه الدلالة إنما تكون بالتقدم لإمامة الناس وقيادتهم: (واجعلنا للمتقين إمامًا)[الفرقان:74]، و(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)[السجدة: 24]. فالمختفي عن الخلق لا يمكن أن يكون لهم إمامًا، وغير المخالط للمدعوين كيف يكون على الله دلالا، إنما الدلالة والقيادة بالمعرفة ثم البلاغ "فمن كملت معرفته بالله صار دالا عليه، يصير شبكة يصطاد بها الناس من بحر الدنيا".
يقول ابن الجوزي رحمه الله لراغبي القرب من ربهم: "ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد لعلمهم أن ذلك أثر عند حبيبهم، وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق، وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر"؟!
وهذا نوح يقول: (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا)[نوح:5 ـ9]... فهل كان ينتظرهم ليأتوه، أم كان يخرج لمجالسهم ومجامعهم وأسواقهم، بل وبيوتهم فيدعوهم إلى الله. كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل وكل الأنبياء قبله.
العزلة دفن للنفس
إن العزلة والانفراد والزهد في معاناة العباد، إنما هو في الحقيقة دفن للنفس وقطع للنفع، وهي مباحة إذا لم تمنع من خير كحضور جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. ومع هذا فإنها كما يصفها ابن الجوزي: "حالة الجبناء فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء".
السلف والنزول إلى الناس:
قال الوزير ابن هبيرة في قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل) وقوله عز وجل: (وجاء رجل من أقصى المدينة) قال: "تأملت ذكر أقصى المدينة فإذا الرجلان جاءا من بعد للأمر بالمعروف ولم يقعدا لبعد الطريق".
فلا يكون المؤمن عامر القلب إلا متحركًا محركا، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسله ليسيحوا في البوادي يبلغون الناس دعوة الحق ويعلمونهم سنة سيد الخلق، كمعاذ وأبي موسى وغيرهم.
وقد تعلم السلف هذا وفقهوه وعلّموه الناس وحثوهم عليه.. فهذا التابعي الجليل عامر الشعبي يخبر أن "رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: "ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا".
ومازال أهل الفضل يعملون بهذا ويتعرضون لهداية العباد، ويبذلون الجهد في نقل الدين إليهم، ونشر العلم بينهم، نصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين. فهذا مالك بن دينار يقول: "لو وجدت أعوانًا، لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس النارَ .. النارَ".
وعن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا".
وكان الإمام الزهري ينزل إلى الأعراب فيعلمهم.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إني رأيت وقوف الماء يفسده.. ... ..إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأُسد لولا فراق الأرض ما افترست... ..والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة.. ... .. لملها الناس من عجم ومن عرب
وقال آخر:
كن مشعلا في جنح ليل حالك.. ... ..يهدئ الأنام إلى الهدى ويبين
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً.. ... .. واعمل على تحريك ما هو ساكن
وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم.. ... .. أولى الورى بالنصح منك وأقمن
والله يأمر بالعشيرة أولاً .. ... .. والأمر من بعد العشيرة هين
فهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم.. وليس القعود والتمني من طرق الوصول، فافقه سير سلفك وقلدهم تصل وإلا فراوح مكانك فلن تبرحه.
===============
التربية .. طريق التمكين(2/14)
ذكر عبد بن حميد في مسنده، والطبري في تفسيره، وأهل التفسير عند سورة الإسراء: أن أشراف قريش وعظماءها اجتمعوا عند الكعبة يوماً بعد غروب الشمس فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يامحمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت قد جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رأيا تراه قد غلب عليك (وكانوا يسمون التابع من الجن رأيًّا) بذلنا لك أموالنا في طلب رآه حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.
وقد تكرر هذا العرض أو شبهه عندما ذهب إليه عتبة ابن ربيعة مبعوثًا من قريش، ورد عليه بأول سورة فصلت.
لقد كانت فرصة العمر التي فاتت من أجل الإسراع بإقامة دولة الإسلام وتمكين دين الله في الأرض، لقد كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل الملك والرئاسة ومن موقع القيادة يقيم الأمة ويبلغ الدين ويفعل ما يريد.. أليس كذلك؟!
فلماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا العرض الفائق وهذا الكرم الزائد؟ ولماذا فوت هذه الفرصة السانحة؟ لماذا ترك عرض صناديد قريش وأشرافها، وذهب يبحث عن بلال وعمار وزيد بن حارثة، ويفتش في الخبايا والزوايا عن مؤمن يؤمن به ويتبعه ويقبل دين الله الذي أرسل به؟
لأن الذي لا ينطق عن الهوى ولا يتصرف إلا بوحي كان يعلم أن هذا الدين لا يقيمه إلا أناسٌ تربوا في محضنه، وتشربوا بعقيدته، وتأدبوا بأخلاقياته، قوم خلت قلوبهم عن كل شيء إلا محبة هذا الدين، محبة خالقهم وعبوديته، محبة نبيهم ورسولهم وتعزيره وتوقيره، وإرخاص نفوسهم قبل أموالهم من أجل هذا الدين. أناسٌ حياتهم بالدين ومماتهم للدين، يصدق فيهم قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162]. وبغير هذه الأمة المرباة على التوحيد الخالص والولاء الكامل لهذا الدين فلا قيام لهذه الأمة التي تسمى بأمة الإسلام.
لزوم التربية الإيمانية
ومن هنا يعلم كل فرد في هذه الأمة أهمية التربية، والتي يأتي على رأسها التربية العقدية والتربية الإيمانية، إذ هي الركيزة الأساسية في حظيرة الإيمان، وقنطرة الإسلام، وبدونها لا ينهض العبد بمسؤولية ولا يتصف بأمانة، ولا يعرف لرعاية، ولا يعمل لمثل أعلى أو هدف أو غاية. بل بدونها يعيش عيش البهائم لا هم له إلا أن يسد جوعته ويشبع غريزته، وهل هذه إلا معيشة الأنعام: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)[محمد:12].
وهذه حال كل من أشرك مع الله سواه أو عبد معه غيره أيًّا كان هذا الغير فهو أضل من الأنعام، فهماً وأقلُّ منهم عقلاً، قال الله تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10].
وهذه التربية العقدية هي أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى، والتي خلاصتها توحيد الرب سبحانه بأفعاله من خلق ورزق وملك وتدبير، وهو ما يسمى بتوحيد الربوبية، ثم توحيده سبحانه بأفعال الخلق من صلاة وصيام وذبح ودعاء ورجاء واستغاثة، وتوكل وخوف واستعانة، وغيرها مما يدخل تحت مفهوم العبادة، إذ لا معبود بحق إلا الله، وهذا ما يسمى بتوحيد الإلهية.
ثم توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته، وأنه موصوف بكل صفات الكمال، ومنعوت بكل نعوت الجلال، لا يشبه أحدًا من خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو ما يسمى بتوحيد الأسماء والصفات.
ثم قبول كل ما جاء به رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه دون غيره، وهذا معنى الشهادة التي هي عنوان الإسلام وأصل التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
لا معبود بحق إلا الله، ولا متبوع بحق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التربية النبوية للمؤمنين
روى الإمام الدارمي في سننه عن مجاهد قال: حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: فمنعني أن آكل الزبد لمخافتها، قال: فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم وهو أساف ونائلة.
وقال هارون بن معاوية: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر يحمل معه أربعة أحجار، ثلاثة لقدره، والرابع يعبده، ويربي كلبه ويقتل ولده.
وعن أبي الرجاء قال: كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجرًا حسنا عبدناه، وإن لم نصب حجرًا جمعنا كثبة من رمل ثم جئنا بالناقة الصفي (كثيرة اللبن) فنفاج عليها (نفرج بين رجليها) فنحلبها على الكثبة حتى نرويها ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان.(رواه الدارمي)(2/15)
هذه النوعية من البشر رباها محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان حتى صارت لا تعبد إلا الله ولا تغضب إلا لله، ولا تفعل إلا له وبه، وإلا لدينه ولرسوله.
لقد ظل رسول الله سنوات يدعوهم ويربيهم ما يدع فرصة إلا ويرسخ في أذهانهم أن الأمر كله لله والكون كله لله، من خلال الأقوال والأفعال والمواقف.
فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم. قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال : بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.
وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم ومشكاة المصابيح : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين، مر بشجرة للمشركين، يقال لها : ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، ويعكفون حولها؛ قالوا : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله وفي رواية : الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى : (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، والذي نفسي بيده؛ لتركبن سنة من كان قبلكم سنة سنة".
هذه التربية هي التي أخرجت المحبين لله ولرسوله كما ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" قال: "ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له أشيع فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وأنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني؛ ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا . قال فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أي عدو الله . قال فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر يارسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال وضربت وجهه . فجحد ذلك فنحاص وقال ما قلت ذلك . فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقا لأبي بكر (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ).
فانظر كيف أن أبا بكر لم يستطع أن يتحمل سماع تنقص الرب تعالى حتى تفاعل لها وغضب لربه تعالى وانظر كم يسب الله علانية في زماننا ولا يتحرك لنا ساكن.
نحن في أشد الحاجة والله لأن نتربى على العقيدة، ونربي عليها أبناءنا؛ لأنهم العدة والمستقبل وعلى حسب تنشئتهم ستكون حال الأمة
================
الدعوة إلى رعاية المسنين
الإنسان الضعيف سواء في جسمه أو عقله يحتاج إلى عون الآخرين من الأصحاء حتى يقفوا معه ويشدوا من أزره، والإسلام جاء بمبادئه العظيمة في هذا الجانب، ففي الحديث الصحيح: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) رواه مسلم.
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم حث على رحمة الصغير، وتوقير الكبير؛ حيث قال: ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقَّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف ، وينْهَ عن المنكر ) (رواه الترمذي وأحمد) .
بل خص الكبير بمزيد الرعاية فقال: ( إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ) (رواه أبو داود)
ولما أهمل الناس اليوم الكثير من القيم والمبادئ العظيمة الجليلة، ووجد التقاطع وانتشر العقوق، ووجدت دور ومؤسسات لرعاية المسنين، لزم التذكير ببعض الجوانب المهمة، فعقدت المؤتمرات، وأقيمت الندوات، وتحرك الدعاة والمصلحون، والكل ينادي رفقا بالآباء والأمهات والمسنين والمسنات:
ونحن من خلال هذا المقال نتناول بعض الجوانب المتعلقة بهذا الشأن :
أولاً- أهمية الموضوع:
إضافة إلى ما سبق تأتي أهمية تناول هذا الموضوع كونه عبادة من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله، فدين الإسلام يحث على احترام الكبير ورعايته والاهتمام به، وخاصة إذا كان من ذوي القربى، وهو في حال الكبر التي هي مظنة الإهمال والضجر والغضب، ولذلك جاء التنبيه من عند الخالق سبحانه ملفتا للأنظار، وموجها للأبناء: ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِ ارحمهما كما ربياني صغيراً). (الإسراء: 23 - 24) .
ومما يزيد الأمر أهمية وجود التفريط لدى بعض المجتمعات نحو رعاية المسنين.
ثانيا- مجالات الاهتمام والرعاية:(2/16)
1- الرعاية الدينية: وهي في المقدمة باعتبارها أهم مجالات الرعاية، وذلك أن المسن أقرب من غيره إلى الرحيل من الحياة الدنيا، والانتقال إلى الآخرة التي لا نجاة فيها بغير الدين، والإسلام هو الدين الخاتم الذي ينفع صاحبه، وينجيه من النار إلى الجنة، حيث يعود المسن سليما معافى من كل الأمراض والأسقام.
ومن الرعاية الدينية للمسن أن الإسلام خفف عنه في العبادات، قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر(185) {البقرة: 185}.
فشرع التيمم بدل الوضوء، والجلوس في الصلاة بدل القيام، وشرع الإطعام بدل الصيام ونحو ذلك.
2- الرعاية الصحية
وهي مطلوبة وخاصة في مثل هذه الفترة؛ حيث يصبح المسن عرضة للأمراض وكثرة الأسقام، مما يتطلب مزيد اهتمام ورعاية، سواء كانت رعاية بدنية أو نفسية.
3- الرعاية التعليمية والثقافية
وذلك من أجل تنمية قدراتهم المتبقية، والاستفادة من خبراتهم العلمية، وبث الشعور الإيجابي لديهم بأن المجتمع لا يستغني عنهم وعن ثقافتهم.
وقد يكون بعض المسنين فاتهم ركب التعليم فيحتاجون إلى التوجيه والرعاية مع مراعاة ما هم عليه في مثل هذه الفترة.
4- الرعاية الترفيهية
وذلك من أجل إدخال السرور إلى نفوسهم، وإبعاد الهموم والأفكار السلبية التي قد تصيب البعض منهم.
5- الرعاية الإعلامية
فلا بد من تخصيص برامج متنوعة تتعلق بالمسنين، تتناول قضاياهم، وتعالج مشكلاتهم، وتحسس المجتمع بهم، وتهدف إلى رفع معنوياتهم، وخاصة أن الإعلام في تطور مستمر.
6- الرعاية الاجتماعية
وخاصة لمن فقد الابن والقريب الذي قد يرعاه ويعتني به، إضافة إلى استغلال قدرات بعض المسنين والاستفادة منهم، ومن تجاربهم.
والإسلام جاء بالتراحم والتعاون بين أفراد المجتمع الإسلامي، قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم {الفتح: 29}.
7- الرعاية التشريعية
وذلك بتفعيل التشريعات والقوانين التي تعتني بهذه الفئة، والتجديد في الأنظمة المتبعة من أجل تحسين الأداء، وإتقان التعامل، وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
ثالثاً- دور الأبناء
دين الإسلام قرن بين توحيد الله سبحانه وتعالى وبين بر الوالدين في أكثر من موضع، مما يدل على مكانة ذلك، واعتبر العقوق جريمة وعاقبته مخزية أليمة، فشددت التعاليم الإسلامية في هذا الجانب حتى لا يقع التفريط من الأبناء نحو الآباء، فالأصل عندنا معشر المسلمين أن يتنافس الأبناء في خدمة الآباء ورعايتهم، والتقرب إلى الله بذلك من أعظم القربات.
=================
الإمام والدعوة
من المؤسسات القائمة على الدعوة إلى الله إن لم تكن من أهمها المساجد، تلك التي يرتادها المصلون عدة مرات في اليوم، والإمام هو صاحب الدور الفعال في هذه المؤسسة الدعوية الفعالة. فهل يستشعر الإمام ذلك؟ أم أنه كما يظن البعض غير مطالب بشيء سوى إمامة المصلين لا يتعداها؟ وكيف يقوم الإمام بالدعوة، وما هي المجالات التي يمكن أن يمارسها في الدعوة إلى الله؟ وماهي العقبات التي قد تعترضه؟ وكيف يتغلب عليها؟
هذا ما سنعالجه في هذا المقال.
أولا- أهمية دور الإمام في الدعوة إلى الله:
لا يخفى على كل مسلم دور الإمام في الدعوة وأهميته، فهو محل ثقة عند أغلب الناس، وذلك أدعى لقبوله وسماعه، ألا تراهم يصلون وراءه، ويستفتونه، ويستشيرونه، ويسرون إليه بأمورهم وأحوالهم، ويطلبون منه مساعدتهم وقت الملمات والشدائد بالدعاء وغيره، ويضعون معه أبناءهم وفلذات أكبادهم ليعلمهم الكتاب والسنة والفقه في الدين، إلى جانب الآداب والأخلاق.
ثانياً- مجالات الدعوة لدى إمام المسجد:
وتتوزع مجالات الدعوة لدى الإمام على الآتي:
1- الدعوة إلى الله من خلال التلاوة الطيبة، والصوت الحسن، مما يعين على الخشوع والتأمل والتدبر في كلمات الله، ويترك الأثر البالغ في نفوس المصلين، ومن ثم أولى بالإمام أن ينوّع في قراءته للقرآن، ويتخيَّر ما يرتله بناء على موضوعات محدده بالاستناد إلى معاجم موضوعات القرآن الكريم.
2- الدعوة إلى الله من خلال التزامه بالمواعيد، وعدم التفريط بمسؤوليته من الاهتمام بالمسجد، وتشويق الناس إلى ارتياده بكل الوسائل المتاحة، والعمل على جعل المسجد كما ينبغي مكان راحة نفسية، وسعادة روحية، وروائح زكية، ونظافة ملموسة، والتعاون مع غيره من القائمين على المسجد وأهل الحي.
3- الدعوة إلى الله من خلال تقوية علاقته بالمصلين، والبشاشة في وجوههم، والأنس بهم، وإشعارهم بمحبته لهم، والاهتمام بأمورهم، والعمل على حل مشكلاتهم من خلال ربطهم بدينهم وعبادتهم، واللجوء إلى خالقم سبحانه الذي بيده كل الأمور، إضافة إلى السؤال عن غائبهم، وعيادة مريضهم، وتشييع ميتهم، ومشاركتهم أفراحهم، مع ربط ذلك كله بالهدي النبوي الكريم.
4- الدعوة إلى الله من خلال دروسه ومواعظه التي يتخول الناس فيها مخافة السآمة والملل، ويوازن بين الأمور من غير إفراط ولا تفريط، ويعمل على التجديد والتنويع، والإتيان بالنافع المفيد، سواء من خلال الإلقاء تارة، أوالقراءة في بعض الكتب تارة أخرى، أودعوة شيخ فاضل أو داعية بعض الأحيان، مع عدم تجاهل المصلين وأهل الحي في المشاركة إن وُجد أهلٌ لذلك.
5- الدعوة إلى الله من خلال إقامة حلقات القرآن للصغار والكبار، من أجل كسب ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) رواه البخاري، وقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) رواه مسلم.(2/17)
ولا يخفى ما لتلك الحلقات من أثر عظيم، يعود نفعه على الفرد والجماعة والأمة، فينشأ الجيل تحت كنف الملائكة، وحفظ الله، فلا يستطيع الشيطان إليهم سبيلا، فيأمن الناس والمجتمع الضرر والإجرام والوقوع في الحرام.
6- الدعوة إلى الله من خلال زيارة أهل الحي بالتعاون مع إخوانه رواد المسجد، والتركيز على غير المصلين من المسلمين وغيرهم، سعياً لهدايتهم، وإيصال الخير لهم، مع مراعاة الظروف والأحوال، واختيار الأوقات المناسبة، والكلمة الطيبة، والعبارة المؤثرة، وقبل ذلك سؤال الله لهم الهداية والصلاح.
7- الدعوة إلى الله من خلال أنشطته المتعددة في المسجد، فلا يقتصر على الإمامة والموعظة، والتعليم، والتوجيه، بل يسعى إلى إنشاء مكتبة مسموعة ومقروءة - ولو مصغرة -، يستفيد منها رواد المسجد، وغيرهم من أهل الحي، من خلال السماع والقراءة، أو الإهداء والإعارة، وعمل المسابقات في حفظ القرآن، والحديث، وغير ذلك من النافع المفيد.
ثالثا- عقبات تواجه الإمام:
أما العقبات التي قد تعترض الإمام عند قيامه بهذا الواجب الشرعي فهي في الغالب نفسها التي تواجه الدعاة، والتي نذكر منها:
1- جهل الناس وبعدهم عن تعاليم الإسلام وفهمه الصحيح، واختلاط المفاهيم لدى البعض، مما يشكل عقبة أمام الدعوة وقبولها، والتفاعل مع الدعاة.
2- تعدي بعض المصلين على صلاحيات الإمام، مما يجعلهم يتدخلون في توجيهه حسب رغباتهم وأهوائهم.
3- قلة المصلين في بعض المساجد، وعجلة البعض في الخروج من المسجد مما لا يشجع بعض الأئمة على القيام بالدعوة بينهم.
4- كثرة النقد وتتبع المثالب عند البعض مما يجعل بعض الأئمة يحجم عن القيام بجهد خوفا من التجريح والتشويه.
5- قلة المؤيد والمعين في بعض المساجد.
رابعا- وسائل التغلب على العوائق:
لا بد أن يعرف الدعاة وخاصة الأئمة أن طريق الدعوة إلى الله ليس مفروشا بالورود والرياحين، فقد يواجه الدعاة صعابا متعددة كما واجه الأنبياء والرسل، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على الصبر، واحتساب الأجر عند الله، فهم أصلاً لا يريدون أجرا من الناس، بل يريدون لهم الخير والهداية والصلاح، ومما يوصى به في هذا الموضع:
1- كثرة اللجوء إلى الله، وطلب العون منه.
2- الإكثار من العبادة بأنواعها من صلاة وذكر وإخلاص وغيره.
3- الارتباط بالعلماء العاملين، والدعاة الربانيين، والتنافس معهم على الخير والبر.
4- القراءة في سير السلف الصالحين من الأنبياء والصحابة والتابعين.
5- عدم التوقف أو الضعف في الدعوة إلى الله.
6- تنمية مفهوم الاحتساب وترسيخه في النفوس.
وأخيرا نقول إن دور الإمام في الدعوة إلى الله كثير سوى ما ذكرنا، ويعرفه كل صاحب همة ونشاط، وبذل وعطاء، وهم لا شك يتفاوتون في ذلك، حسب قدراتهم وإمكاناتهم العلمية والعملية، وحسب موقع مساجدهم، ونوعية المصلين عندهم، والمؤمن قوي بإخوانه، سائلين الله العون للجميع، والحمد لله رب العالمين.
================
ضرورة الدعوة إلى الله
حاجة الإنسانية إلى الرسل ماسة، وضرورة الدعوة إلى الله مُلحّة، والدعوة في صدر الإسلام أدت مهمتها وحققت غايتها، فأخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وجعلت من الحفاة العراة أئمة ودعاة، وفي غزوة تبوك لما تأخر عليهم صلى الله عليه وسلم في وضوئه لصلاة الصبح وكان من عادته صلى الله عليه وسلم في ذلك أن يبعد وكان معه المغيرة بن شعبه، ولما استبطئوا عودته صلى الله عليه وسلم وخافوا خروج الوقت قدموا ابن عوف فصلى بهم، وقد وصل صلى الله عليه وسلم بعد صلاتهم ركعة، فَهَمَّ المغيرة أن يشعرهم ليتأخر إمامهم فمنعه صلى الله عليه وسلم وقام في الصف مع المصلين، ولما أنهوا صلاتهم قام فأتى بالركعة التي سبقوه بها، فرأى منهم تحسرًا وأسفًا فقال: "إن الله لم يقبض نبيًا حتى يصلي خلف رجل من أصحابه"، ففيه إشعار أن دعوته قد أثمرت وأصبح أصحابه مؤهلين لإمامة العالم وقد كان.
وواصلت الدعوة إلى الله مسيرتها إلى العالم، فمن استقبلها وقبلها بقبول حسن فقد فاز وسعد، ومن عارضها ووقف في طريقها أزيل وأبعد حتى طبقت بتعاليمها المشرق والمغرب، واستوى فيها العرب والعجم، وتوحد تحت لوائها سائر الأمم، وأصبحوا بنعمة الله إخوانًا متعاطفين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، متعاونين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ولما طال الزمن وتعددت أساليب الحياة، وخالطت عادات الشعوب مع تعاليم الإسلام، وبَعُدَ الناس عن مشارق نور الهداية ومرضت النفوس بالأهواء، وأحضرت الأنفس الشح، ودب في الناس الوهن. وتغلبت الشهوات، وتألهت الرغبات، كما جاء في الأثر: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فدبت العصبية وظهرت الحزبية، وتعددت الطائفية – مزقتهم السياسة دويلات – وتقسمت الدول جماعات، وصارت الحزبية مبدأ، والتعصب لها وفاء، يكيد بعضها لبعض، فأصبحوا غثاء كغثاء السيل، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتهم.
وكذلك الحال في الأفراد؛ فقد غرهم شيطان الحضارة وإبليس المدنية، وزينوا لهم ما ليس بحسن حتى رأوه حسنًا، فاعتبروا تقليد العدو حضارة وتطورًا، والحفاظ على الدين جمودًا وتعصبًا، فأخرجوا المرأة من خِدرها، وأسقطوا عنها حجابها.(2/18)
اعتبروا الربا تطورًا اقتصاديًا، والزنا وشرب الخمر حرية شخصية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدًّا من الحريات وتدخلاً في شؤون الآخرين، فالتبس الحق بالباطل، واستبدل الهدى بالهوى، حتى تكاد بعض بلاد المسلمين تنعزل فيها الدنيا عن الدين، ونادى فيها دعاة السوء "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وقد عادت بعض البلاد في حافرتها، فاستبدلت بوحي السماء قوانين الأرض، وبتحكيم الشرع موازين العقول، فما أشبه الليلة بالبارحة، حتى قيل جاهلية القرن العشرين.
وبناءً على هذا كله فإن ضرورة الدعوة اليوم أشد وألزم من أي يوم كان؛ لأن الباطل ألبس ثوب الحق، والفساد زين بما يشبه الإصلاح، والبدع زاحمت السنن، والتقاليد أفسدت المعتقدات.
وهذا يكفي لإطلاق صرخة تملأ الآفاق.. أين الدعاة إلى الله؟ فضلاً عما دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من القيام بالدعوة.
ضرورة الدعوة إلى الله في الكتاب والسنة
أولاً: الإشارة لذلك في الأمم قبلنا:
لقد نبهت الكتب السابقة قبل نزول القرآن الكريم على أن شعار هذه الأمة وميزتها إنما هي الدعوة إلى الله، كما جاء في قوله تعالى عن مؤمني أهل الكتاب: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف:157].
فقد وصف الله لهم نبينا صلى الله عليه وسلم في كتبهم المنزلة على رسلهم موسى وعيسى، بأنه صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى آخره. ونلحظ تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقدمًا على تشريع الحلال والحرام، مما يفيد أنه الأصل في دعوات الرسل؛ لأنه يتضمن إصلاح العقائد، وتوحيد المولى سبحانه، وترسيخ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو ما كان من حال النبي صلى الله عليه وسلم أول أمره: مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يشرع فيها حلال ولا حرام من أركان الإسلام إلا الصلاة ليلة الإسراء في أواخر العهد المكي. مما يدل دلالة قاطعة على ضرورة الدعوة وشدة حاجة الإنسانية إليها. وهذا لقمان الحكيم؛ قال ابن كثير: وكان قاضيًا على بني إسرائيل زمن داود عليه السلام، يقول الله تعالى عنه في وصاياه لابنه: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [لقمان:17].
وقد كانت بقية باقية من أهل الكتاب قائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى عنهم: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران:113، 114].
إذا كان هذا النص يعطينا تاريخًا سابقًا لقيام أمة من أهل الكتاب قائمة تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، فإنا نأخذ منه أيضًا ما يُسمى بمقومات الآمر الناهي: تلاوة القرآن والصلاة به، والمسارعة في الخيرات، ومعلوم أن قيام الليل من أقوى وسائل الإعانة على أمور الدين والدنيا، ونلحظ ذلك من خلال خطاب الله تعالى في أول سورة المزمل: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل:1-6].
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وترتيل القرآن، وأُعلم بأن ناشئة الليل هي التي تعين وتساعد على تلقي وتنفيذ وأداء القول الثقيل الذي هو الوحي بالتكاليف، فيكون هذا المنهج متحدًا للدعاة إلى الله قديمًا وحديثًا.
ونظير تلك الأمة من أهل الكتاب ما جاء التكليف به لهذه الأمة في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران:104].
ثانيًا: ضرورة الدعوة في هذه الأمة:
جاء في حق الأمم السابقة قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [النساء:164، 165].(2/19)
ونظير إقامة تلك الحجة قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15]. وقد جاء في حق إمام الدعاة وقدوتهم وقائدهم صلوات الله وسلامه عليه قوله تعالى في سبيل الدعوة: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً } [الأحزاب:45، 46]. وفي هذا النص نجده صلى الله عليه وسلم قد شارك الرسل قبله في البشارة والنذارة وزاد عليهم أنه كان شاهدًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما الشهادة فقد بينها سبحانه وتعالى في قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [النساء:41]. أما كونه داعيًا إلى الله فكما جاءت النصوص: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } [النحل:125]، وقوله: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف:108]. ثم يأتي الخطاب إليه من الله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل:125-128].
إنه تكليف وتوجيه، تكليف بصيغة الأمر (ادع) ومنهج بالخطوات التي يسلكها مع من يدعوهم، والتنويه على أن هذا العمل سيلقى معارضين وقد يناله منهم ما يستلزم عقوبة فاعله وكيف يكون التعامل مع هذا الصنف من الناس، وأن الصبر عليهم هو سبيل الإحسان والله يحب المحسنين.
وفي موضع آخر: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت:33-35].
ثم جاء ما يشبه ترسيم الدعوة إلى الله في قوله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104].
قال ابن كثير: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال الضحاك: "هم خاصة الصحابة" إلى قوله: "والمقصود من هذه الآية الكريمة أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن مع عموم قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]. والنظر في هذا النص يكون من عدة جهات:
أ - التعبير عن القائمين بالدعوة إلى الخير "بأمة" بدلاً من جماعة مثلاً مما يشعر بنوعية أولئك الدعاة من أن كل واحد منهم يصلح للإمامة: على حد قوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120]، وقول ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة، فقيل له: هذا في إبراهيم عليه السلام؛ فقال ابن مسعود: إن الأمة معلم الناس الخير، وهكذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه.
ويؤيد ذلك ما جاء في الآية الأخرى في حق الذين ينفرون لطلب العلم في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } [التوبة:122]، فسماهم طائفة لأنهم لم يتفقهوا بعد، فلم يستوجبوا الوصف بالأمة.
ب - وفي قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ) أمر مؤكد باللام، التعبير هنا: ولتكن فيه معنى التكوين بدلاً من ولتقم من القيام، لأن معنى التكوين يشعر بما يسمى تشكيل الجماعة، والتشكيل يكون عن طريق جهة مسؤولة، وهو ما سميناه الترسيم، بتخصيص وتفريغ أولئك الأشخاص، وهذا من شدة ضرورة الدعوة إلى الله.
ج - الجمع بين (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مشعر بتلازمهما، وقد يُدعى بأن أحدهما أعم من الآخر، وأعتقد أن الدعوة إلى الخير أعم؛ لأن الخير أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا، كما قيل: خير وشر، والخير عام، كما قال سبحانه وتعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة:7]، وقد اعتمدت ذلك في هذا المبحث من أن كل أمر بمعروف ونهي عن منكر من منهج الدعوة إلى الله؛ لأن مؤداها الإرشاد إلى الصراط المستقيم.
د - وهناك جهة قلَّما يراعيها الكثيرون من الكتاب والدارسين في تسلسل الآيات الكريمات في المصحف الشريف، مع شدة أهميتها، وهي ربط النص بما قبله وبعده؛ لأنه هنا يشعر بأثر الدعوة؛ فقبله قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران:103]، وبعده قوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } [آل عمران:105].(2/20)
وهكذا السياق: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً) ثم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ) ثم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا).
ونأخذ من هذا النسق أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبقي على عصمة الله للأمة بكتاب الله ووحدة كلمتها وتوحيد صفها. وأن تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تفرقة الأمة واختلافها.
المصدر: ضرورة الدعوة إلى الله وأثرها/ الشيخ عطية محمد سالم (بتصرف)
===============
صيام يوم عاشوراء
الصيام عبادة عظيمة لها آثارها الجليلة، وهي لا تقتصر على الواجب كرمضان، بل تتعدى ذلك إلى المستحب والمندوب كصيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام عاشوراء، وذلك حتى يبقى المؤمن على اتصال بمولاه من خلال هذا الباب العظيم، طمعاً في القرب منه، والفوز بمحبته ورضاه: ( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) رواه البخاري.
ونحن من خلال هذا المحور ندعو المسلمين إلى التسابق في الخيرات، وتحصيل الحسنات قبل الممات.
وصيام يوم عاشوراء أحد مجالات الطاعة، والقرب من الله، وسبيل إلى حمل الزاد إلى دار المعاد، ووسيلة لتكفير السيئات ورفع الدرجات.
فضله
صيام يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية، لقوله: صلى الله عليه وسلم قال: (...صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) رواه مسلم. قال ابن حجر في الفتح: (وظاهر أن صيام عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أفضل.
مراتب صيامه
فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: " حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه مسلم، وعند الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود: صوموا قبله يوماً، وبعده يوماً ) .
وعند الإمام أحمد أيضاً وابن خزيمة ( صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده ) كما عزاه ابن القيم في زاد المعاد.
وعليه تكون مراتب صوم يوم عاشوراء ثلاثة وفق كلام الإمام ابن القيم في زاد المعاد:
1- أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم.
2- أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
3- إفراد العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع، والله الموفق للصواب.
حكم صيام يوم عاشوراء لو وافق يوم الجمعة، أو السبت
لا بأس بصيام يوم عاشوراء وإن وافق الجمعة أوالسبت فالصوم المندوب إليه - شرعاً - لا يترك لموافقته يوماً يكره أن يفرد بالصيام لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه ) رواه مسلم، فدلّ الحديث على أن من اعتاد صياماً ثابتاً ثم وافق ذلك يوماً يكره الصيام فيه منفرداً ، فإنه يصومه ولا حرج عليه في ذلك.
ويوم عاشوراء قد ورد الحديث بالأمر بصيامه ويستحب أن يضاف إليه وفق المراتب المتقدمة.
=================
فبمَ تدخل الجنة إذًا ؟!
ترسخ في فهوم الناس أن معنى الجهاد يتمثل في شعبة واحدة وهي مقارعة العدو في ساحات الوغى والقتال، وغاب مفهوم الجهاد بمعناه الواسع عن كثير من المتحدثين في الإسلام.
والجهاد بالمال لا يقل أهمية عن الجهاد بالنفس في كثير من الأحايين، إذ كيف يستطيع المجاهد أن يقوم بمهمته العظيمة دون توفر آلات القتال، وعدم توفر من يكفل أهله وعياله في غيبته، أو في حال استشهاده؟.
وقد وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأبلغ بيان؛ فعن زيد بن خالد الجهني قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله فقد غزا"[رواه البخاري ومسلم واللفظ له]. وأوضح من هذا وأصرح مارواه الإمام أحمد وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" . رواه أيضا أبو داود والنسائي والدارمي وصححه الألباني.
والقرآن الكريم أولى الجهاد بالمال أهمية فائقة، فدائمًا يقرن الجهاد بالنفس مع الجهاد بالمال، فهما صنوان متلازمان؛ بل إن الجهاد بالمال جاء مقدمًا على الجهاد بالنفس في جميع الآيات التي تتحدث عن الجهاد بالنفس والمال سوى آية واحدة، وهي قوله تعالى في سورة التوبة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التوبة:111] مما يدل على الأهمية البالغة للجهاد بالمال.(2/21)
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بأهمية الجهاد المالي، ففي خبر مبايعته صلى الله عليه وسلم للصحابي بشير بن الخصاصية، واعتذار بشير بأنه لا يستطيع الجهاد والصدقة، يأتي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم حاسمًا.. فعن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لا بايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يارسول الله أما اثنتين فوالله لا أطيقهما الجهاد والصدقة فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت تلك جشمت نفسي وكرهت الموت والصدقة فوالله مالي إلا غنيمة وعشر ذُودٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهن قال فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حركها ثم قال: فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا قلت يارسول الله أبايعك فبايعته عليهن كلهن. [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط واللفظ للطبراني ورجال أحمد موثقون.. وضعفه الألباني].
وثواب الباذل وأجره جزيل؛ فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة ففرغها عثمان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد هذا اليوم". قالها مرارًا.[أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: صحيح].
ولا يجد المتأمل أبلغ من الصورة التعبيرية لأولئك النفر الذين انفعلت نفوسهم فظهرت آثار الحزن على قسمات وجوههم، وأمطرت عيونهم لؤلؤًا تعبيرًا عمَّا يجيش في صدورهم. قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)[التوبة:91، 92].
الجود بالمال جود فيه مكرمة .. ... .. والجود بالنفس أقصى غاية الجود
تنافس الصحابة
والتنافس في مرضاة الله شيمة الصحابة، والمسارعة بالخيرات صفة ملازمة لهم، وقصة عمر وأبي بكر رضي الله عنهما دلالة أكيدة على ذلك. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله! قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا". [قال الألباني: حسن].
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفرق في المجلس ثلاثين ألفًا، ثم يأتي عليه شهر ما يأكل مزعة لحم.
ويخبر عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: "لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفًا وهي ترقع درعها".
قال الإمام الذهبي: الشجاعة والسخاء أخوان، فمن لم يَجُدْ بماله فلن يجود بنفسه.
ويقول يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه؛ فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: وما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية أهمية الجهاد بالمال فقال: "والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[التوبة:41]، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أعظم درجة عند الله)[التوبة:20]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[الأنفال:72]. وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم، فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله، والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة، لا يوافق أنه يُقتَل في الجهاد، ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله، ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم، ومنهم من كان جهاد بالنفس أعظم".
فمن هذه النصوص يتضح خطر الجهاد بالمال ومدى أهميته، فإذا كان الكافرون ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله وهم لا يجنون من وراء ذلك سوى الحسرة والهزيمة في نهاية المطاف، أفلا ينفق ويبذل المؤمنون من أموالهم لإرساء قواعد الدين والتمكين له في الأرض؟.
(هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).
===============
خطر الوقوع في العلماء(2/22)
من علامات تقوى القلب تعظيم شعائر الرب، قال تعالى : " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" … ومن أجلِّ من أمر الله بتوقيرهم وإكرامهم وتعظيمهم أهل العلم ؛ فهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.. قيضهم الله لحفظ الدين، ولولا ذلك لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، وهم في كل زمان الأصل في أهل الحل والعقد، وهم المعنيون مع الأمراء في قوله تعالى: (وَأَولي الأمر)[النساء:] ولذلك كان الوقوع فيهم من أكبر الذنوب وفاعله لا يفلح أبدًا".
ولما كان للعلماء هذا المقام الرفيع وتلك المنزلة السامية في الدين كانت الوقيعة فيهم ليست كالوقيعة في غيرهم والطعن فيهم أكبر إثما وأعظم ضررا وخطرا عند الله من الطعن في غيرهم من الناس؛ ومن ثم أعلن الله الحرب على منتقصيهم وأهل الوقيعة فيهم كما في الحديث القدسي : "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" . والوقيعة في أهل العلم والدين مسلك أعداء الرسل والدين وقد سلك المنافقون قديما هذا السبيل وما زال أعداء الله يسلكونه لما له من أثر على الدعوة وأهلها وتنفير الناس عن فرسانها .. وهذا السبيل فيه من المضار ما لا يحوطه حد ولا يأتي عليه عد .. فمن ذلك:
هدم القمم هدم للإسلام:
فمن هدم عالما أو انتقصه فقد أعان على هدم الدين، فلا عجب في أن تجري ألسنة الحاقدين والحانقين بالطعن والسب والسلب في أهل الدين والوجاهة
* فمن ذلك: ما جرى من المنافقين في حادثة الإفك في حق الطاهرة البتول، المبرأة من فوق سبع سموات. وإنما كان الإفك في حقيقته طعنة موجهة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، ثم للرجل الثاني رضي الله عنه، ثم لهذه الصديقة رضي الله عنها، التي حمل عنها ربع الشريعة.
* ومن ذلك: محاولة أعداء السنة من المستشرقين وأذنابهم الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه راوية الإسلام الأول، ولماذا أبو هريرة؛ لأنه قمة، فإذا انهدم انهدم معه قسم كبير من السنة.
* ومنه طعن الدجاجلة في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله، وطعن الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرد ما جاء عنهم إذ إن الطعن في الراوي لا شك طعن في مروياته فيضيع الدين.
تجريح العالم فض للناس عنه:
وإذا انفض الناس عن العلماء فكيف يعيشون وكيف يتعاملون، ومن يدلهم على الحلال والحرام، والخير والشر، وقد قال الأولون: لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
فما أسهل وقوع الناس في الأخطاء والعلل، وما أيسر تعرضهم للأخطار والزلل.
وإذا كان موت العالم ثلمة في الإسلام، فإن جرحه كقتله، ولنحن في أشد الحاجة في هذا الزمان للعلماء الراسخين، فما أكثر الفتن وما أعظم البلايا التي نتعرض لها، ولا يقوم لها إلا أهل العلم.
تصدر غير المتأهلين:
فإن خلو الساحة حقيقة أو حكما من المتأهلين للصدارة المستحقين لها يورث ظهور طائفة من أنصاف المتعلمين أو المتعالمين غير المتأهلين ليحتلوا مكانا ليسوا أهلا له .. وهذا يكفي في بيان خطره حديث النبي صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ".[رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو].
فلا تسل بعد ذلك عن الحرمات التي تستباح، والأعراض التي تنتهك، والدم المعصوم الذي يهراق، والمال الذي يهدر.. مع الحيرة الشديدة في كل ملمة أو مهمة تتعرض لها الأمة .
جرح العالم رد لعلمه:
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن هؤلاء الذين يقعون في أهل العلم ويتطاولون عليهم فقال: الذي أرى أن هذا عمل محرّم، فإذا كان لا يجوز لإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟! والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين. قال الله تعالى: "ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم". وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرّح العالم فسيكون سبباً في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرّح العالم، لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصياً بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لا يثقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح." اهـ.
إن جرح العالم ليس جرحًا شخصيًّا كجرح العامي، ولكنه طعن يصل إلى ما يحمله من العلم، ولذلك كان الطعن في العلماء بابًا من أبواب الزندقة. وقال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام، فإنه كان شديدًا على المبتدعة". وقال يحيى بن معين: "إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة وعكرمة مولى ابن عباس فاتهمه على الإسلام". وقال سفيان بن وكيع: "أحمد عندنا محنة، به يعرف المسلم من الزنديق".
قال بكر أبو زيد: بادرة ملعونة وهي تكفير الأئمة ... أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال، كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، ولكن الأغرار لا يفقهون.(2/23)
انزواء العلماء والدعاة:
ومن أضرار الطعن في العلماء والدعاة إنزواؤهم طلبا للسلامة وصيانة لأعراضهم، وحفظًا لحياة قلوبهم. فإذا انزوى هؤلاء خلت الساحة عن الأخيار الذين يجلون الناس ويعلمونهم ويدعونهم إلى الله تعالى.
تمرير مخططات الأعداء:
لأن العلماء هم أول من يهتك ستر الأعداء ويكشف عوارهم، فإذا فقد الناس الثقة في علمائهم فمن يبصرهم بما يحاك لهم ويراد بهم؟ ومن هنا كان فقد العلماء وسيلة لتحقيق الأعداء إلى مرادهم . ونظرة إلى الواقع تنبيك.
إن العلماء هم عقول الأمة ونورها، وكل أمة لا تحترم عقولها لا تستحق الحياة. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============
الدعاة .. وتفجير الطاقات الكامنة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فيكثر الحديث عن القوة الكامنة في النفس، وعن الشرارة التي تفجر هذه الطاقات، ويُثنى على بعض الأشخاص بأن لديهم القدرة على تفجير الطاقات لدى الجماهير والشعوب. وقد لوحظ في حياة الأفراد والدول والجماعات طفرات في السلوك والتصرف نتيجة ظروف وحوادث تستلفت الأنظار، فمثلا مع مجيئ رمضان تتغير صورة البلاد والعباد؛ فأكثر الناس يحرصون على تلاوة القرآن وسماعه، ويصومون النهار، ويقومون الليل، وتلمس الحرص على النفقة والسؤال عن الحلال والحرام، وتجنب الكثير من المعاصى والذنوب، فهذا يغض بصره عن النساء والأجنبيات، والمتبرجة تعود للحجاب الشرعى خشية أن يخدش الصيام، وتارك الصلاة يواظب على الصلاة، حالة شفافية لا تخطؤها العين في رمضان.. وهؤلاء الأشخاص لو قيل لهم في غير رمضان: صوموا النهار وقوموا الليل وتعاهدوا المصحف لقالوا: لا نستطيع ولا نقدر، وكأن هذا الشهر المبارك هو الذي أطلق هذه الطاقات الكامنة، فالقدرة والقوة موجودة في النفس ولكنها كانت بحاجة لشرارة تفجرها.
وقد وردت الأخبار المتواترة تفيد ظهور المهدي في آخر الزمان وهو من علامات الساعة العشر الكبرى وأنه يصلحه الله في ليلة، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا، نقلة كبيرة تحدث لمحمد بن عبد الله - مهدى هذه الأمة- بين عشية وضحاها.. فالشخص هو هو ينصلح حاله في ليلة فيملأ الأرض عدلا، وربنا قدير يحيى العظام وهى رميم ويكور الليل على النهار ويكور النهارعلى الليل.
لقد دبت المعاني الإيمانية في نفوس سحرة فرعون فتحولوا من طلاب للدنيا يلهثون وراء الحطام الفاني إلى طلاب للآخرة يتهددهم فرعون: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، فيقولون له:"اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا"، فخروا لله ساجدين وقالوا: "آمنا برب العالمين". تغير عظيم وإيمان عمره لحظات صنع الأعاجيب.
ويوم بدر خرج الصحابة الأفاضل طلبا للعير فكان النفير، قال تعالى :(ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) كان عدد المشركين يزيد على ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، وقد خرج المشركون في خيلهم وخيلائهم يحاربون الله ورسوله ويواجهون المسلمين العزَّل ـ تقريباـ إلا من سلاح الإيمان – وهم يومئذ في قلة عدد وعتاد، وعلى الرغم من ذلك انتصروا على عدو الله وعدوهم، قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)، وقال: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (لأنفال:26).. وكانت المشاهد الإيمانية التي انطلقت شرارتها في هذه المعركة الفاصلة على الرغم من مفاجأة الحدث واستعداد المشركين للقتال واستئصال شأفة المسلمين.
ويحكى أن الخنساء لما مات أخوها صخر رثته وأنشدته معلقات الشعر الباكية وكانت يومئذ شابة، ثم لما أسلمت قتل أولادها الأربعة يوم القادسية وعلمت بمصرعهم فلم تزد على قولها: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو أن يجمعني بهم في دار كرامته.
إنه الايمان الذي يصنع الأعاجيب ويحول الحياة إلى خيرات وبركات وثبات في مواجهة المحن، واستعلاء كريم لا تقوى زخارف الدنيا وزينتها على زحزحته، ولا يخفى عليك مدى محبة الأم لأولادها، الأمر الذي لا ينهض أمامه محبة الأخ، ثم هي كان قد كبر سنها ورق عظمها حين فجعت في أولادها الأربعة.. قوة وطاقة كامنة في النفوس لا يمكن حسابها بالمعانى المادية ولا يصلح تفسيرها بقوة العضلات والأيادي.
لقد استولى القرامطة على الحجر الأسود وانتزعوه من مكانه أكثر من اثنتين وعشرين سنة، ثم أعيد مكانه مرة ثانية، واستولى التتار على بغداد عاصمة الخلافة ولم يستطع الناس الخروج للمساجد أربعين يوما، وكانت الجبال من الجماجم والضحايا وأشلاء المسلمين لا يتصور معها كيف ينتهي هذا البلاء والكرب، وعلى يد من يتم الخلاص من هذه الفتنة، وقيض الله لهذه الامة أمثال قطز وبيبرس وتم النصر في عين جالوت وخرج شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه لقتال التتار وكان يستحث الأمراء والخلق على الجهاد في سبيل الله.(2/24)
ولما داهم الصليبيون البلاد والعباد واستولوا على بيت المقدس، ظهرت معالم النخوة والغيرة الإيمانية على صلاح الدين، وكان قد تولى زمام مصر، فقال لوزيره ابن شداد: أما أسرُّ لك حديثا؟ إني أتمنى إن فتح الله علي بيت المقدس أن أركب البحر أقاتل كل من كفر بالله حتى يظهر دين الله أو أهلك دونه". وقد نصره الله على الصلبيين في موقعة حطين واسترد بيت المقدس بعد أن احتله الصليبيون أكثر من تسعين سنة.
والناظر في الصحوة الإسلامية في الآونة الأخيرة، وهذه الصحوة التي نشاهدها في امتلاء المساجد بالمصلين وكثرة الحجاج والمعتمرين والحرص على ارتداء الحجاب الشرعي، وتعليم العلم الشرعي، والعودة لمثل ما كان النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، يحدث ذلك على مستوى الكبار والصغار والرجال والنساء، ولا يكاد يخلو بيت الآن من ملتزمين متدينين، هذه الصحوة التي أربكت الأعداء وأرهبت الكفار وكأنها لم تكن في الحسبان، فقد رأوا المارد يستيقظ، بعد أن ظنوا أن أمره قد انتهى إلى غير رجعة، فتيقنوا أنها أمةٌ ولادةٌ، لا يدرى أولها خير أم آخرها؟ شأنها كشأن المطر سرعان ما تتفجر فيها الطاقات والقوى الكامنة، ولذلك فكثرة المصائب والأحزان، وفجيعتنا في المسلمين هنا وهناك، وتسلط الأعداء على رقابنا لا يدعو ليأس ولا لقنوط: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) فنحن نستبشر الخير، والفجر قادم بإذن الله، حتى وإن طال الظلام، وإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا. فألم المخاض تعقبه فرحة الولادة، ومقدمات الخير موجودة بكثرة في هذه الأمة، والمستقبل لدين الله بغلبته وظهوره على الأديان كلها، بذلك نطقت نصوص الشريعة، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، وقد حدث ذلك وسيكون منه ما شاء الله أن يكون، فمن تعجب كيف يفتح بيت المقدس وتنصر الأمة على يهود وعلى الروم، من تعجب لورود النصوص بفتح القسطنطينية ورومية، قلنا له: الأمور على ما عند ربك، وأخبار الصادق المصدوق لابد أن تتحقق، ولا تغتر بواقع الأمة المؤلم أو بقوة أعدائها، فهذا الواقع سيزول ويتغير بإذن الله، فالأمة لديها طاقات كامنة هائلة، وفضل الله أعظم، فقد قضى سبحانه ألا تهلك الأمة بسنة عامة؛ لأنها أمة دعوة أنيط بها إبلاغ الحق إلى الخلق. والصدمات التي تتعرض لها قد تكون سبب يقظتها وعودتها لدين ربها: (ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء). وما يحدث للمهدي في آخر الزمان، وما يحدث للأمة في رمضان من تحول إيمانى يقرب لك ما نقول.
واجب الدعاة
والواجب علينا أن نغتنم مواسم الخيرات وكذلك أيام المحن في تفجير الطاقات الكامنة في النفس والأمة عن طريق الاستعانة بالله تعالى في تعلم العلم النافع ومتابعته بالعمل الصالح،والقيام بواجب الدعوة إلى الله والصبر على ذلك كله.
نحن لا نخلق الفرص وأيضا لا نضيعها، فإذا رأينا النفوس تهفو لطاعة ربها والأمة تخطو الخطوات الأولى في طريق العودة لدين الله في وقت تتنزل بها الشدائد والمحن، فلا أقل من أن نتواكب معها حتى تكون الصحوة مستبصرة بمواضع الأقدام ومعالم الطريق، تعرف التوحيد وما ينافيه من الشرك، والفرائض ما تصح به وما تبطل، والحلال والحرام والأمور التي تستصلح بها القلوب، كما تتعرف على الشبهات وطريقة دفعها عن النفس. وقد حكى لنا القرآن دعوة نبي الله يوسف – عليه السلام – لصاحبي السجن لما سألاه عن الرؤى لم يبادر بتعبيرها وقدم لهما بقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:39 ، 40) في مواجهة طوفان التدمير:
لابد من ترسيخٍ لمعاني الإيمان واليقين في النفوس، والتركيز على مسائل العقيدة ودعوة التوحيد، فهي دعوة الأنبياء والمرسلين ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين، وهي الدعوة الكفيلة بتفجير طاقات الخير والبركة في هذه الأمة واستعادة المجد والعز المفقود، وردّ البلاد والعباد إلى خالق الأرض والسماء رداً جميلا, لابد من مواجهة طوفان الهدم والتدمير، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
4.7مليون زائر يدخلون أحد المواقع الإباحية كل اسبوع، 83.50 % من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية، 63 % من المراهقين الذين يرتادون صفحات ومواقع الدعارة لا يدري آباؤهم
وهذه عينة من صور الهدم، ومن المعلوم أن الهدم سهل يسير والبناء صعب عسير، وما يحدث من إقبال الناس على دين ربهم لا يخضع لحسابات البشر، ومكر الأعداء إلى بوا؛ فتدبيرهم تدميرهم وكيدهم يرتد إلى نحورهم، والخير ينبت ويترعرع وسط عواصف الأهواء والإغراء، والأمة تولد من رحم المحنة، ومسيرة آلاف الأميال تبدأ بخطوة واحدة ، لابد من الوصول إلى جميع فئات المجتمع بالدعوة سواء كانوا رجالا أو نساءً، كبارًا أو صغارًا، والتركيز على كل القطاعات: الأطباء والمهندسين والمدرسين والموظفين والعمال والطلبة؛ فالأمة مستهدفة.(2/25)
ولننتبه فإن البعض أصبح صورة منفرة للإسلام؛ يصد عن سبيل الله بفعله في الوقت الذي يدعوهم فيه بقوله، فلا بد من جهاد كبير: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا يزال العبد يتأخر حتى يؤخره الله، ولا يجعل الله عبدًا سارع اليه كعبد أبطا عنه.
إن الطاقات والقوى الكامنة هائلة فلا بد من علو الهمة، فدعوتك دعوة عالمية، وأنت تتشرف بالانتساب لخير أمة أخرجت للناس، ونبيك صلى الله عليه وسلم هو سيد الأولين والآخرين، دعوتك هي دعوة الحق ، والمرجع والمآب إلى الله. والسلوك مرآة الفكر.. فكيف لا تنفجر الطاقات الكامنة وتكون الاندفاعه الإيمانية التي تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد، ولسان حالها ينطق: (وعجلت إليك رب لترضى)؟!.
===============
الدعاة بين القول والعمل
أراد الإسلام من الإنسان المسلم في حياته العامة والخاصة أن يعيش إيمانه ويجسده في كل عمل، كمسلم يعتقد أن الإسلام عقيدة وعمل، كلاهما يرتبط بصاحبه، ولذلك رأينا القرآن الكريم يقرن الإيمان بالعمل الصالح في كل آية يذكر فيها الإيمان كقيمة أخروية كبيرة، للإيحاء باقترانهما في مجال العقيدة والحياة، وقد تردد كثيراً في الآثار أن الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثمر، مما يوحي بأن الإيمان في ديننا يعبر عن مضمون عملي، كما يعبر عن مضمون قلبي كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن"متفق عليه.
سيرة الداعية وتجاوب الناس مع فكرته
هذا بالنسبة للمؤمن بشكل عام.. أما إذا انطلق المسلم في مجال الدعوة إلى الله فإن القضية تأخذ بعداً جديداً، ووضعاً خاصاً، لأن الجانب العملي لا يتمثل ـ فقط ـ في الحياة الخاصة التي تحدد للإنسان مصيره في الدنيا والآخرة، بل ينعكس على حركة الدعوة ومسيرتها الظافرة، لما للسيرة العملية للداعية من تأثير على تجاوب الناس مع الفكرة، وانفعالهم بها وإيمانهم بجديتها وواقعيتها، بينما تعطي السيرة المضادة، تأثيراً عكسياً يوحي بالابتعاد عنها نظراً إلى فقدان الانسجام في حياة الداعية بين النظرية والتطبيق فيولد في نفوس الآخرين انطباعاً بأن هذه النظرية لم تطرح للتطبيق، بل لتبقى فكرة حالمة خيالية، كبقية الأفكار الحالمة الخيالية التي عاشت في إطار المثال ولم تقترب من إطار الواقع، لأنها لم تستطع أن تغير حياة أصحابها، فكيف يمكن أن يطلب منها تغيير حياة الآخرين..
تجسد الإسلام في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم:
ولهذا كانت الرسالات السماوية تستمد قوتها في الدعوة من طبيعة الفكرة ومن تجسيدها واقعاً حياً في سلوك النبي وعمله، ليسمع الناس حديث الدعوة من جهة، ويتلمسوا واقعها في حركة الحياة الممتدة من جهة أخرى.
وقد قال بعض الناس: إن الله لو أرسل القرآن في كتاب مجموع منزل، ولم يرتبط بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ي وسلوكه لما استطاع الإسلام أن يخطو خطواته الكبيرة في الحياة، ولكن الناس كانوا يستمعون إلى القرآن من النبي عليه الصلاة والسلام من جهة، ويشاهدونه كصورة حية متحركة في حياته من جهة أخرى فتجسدت لهم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله قرآنا يتحرك على الأرض كما حدثت عنه زوجته "عائشة" رضي الله عنها بقولها: "كان خلقه القرآن".
وقد كان حديث القرآن عن علاقة سلوكه القرآني بنجاحه في الدعوة، صريحاً واضحاً وذلك هو قوله تعالى:(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)(159:3) (وإنك لعلى خلق عظيم) (4:68). (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (128:9).
عنصر القدوة وعنصر الدعوة
وقد ركز الإسلام على القدوة في عنصر الرسالة، كما ركز على عنصر الدعوة. فاعتبر عمله وتقريره سنة.. كما اعتبر قوله سنة. فأوجب اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه في سلوكه كما في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر كثيراً) (21:33) كما أوجب اتباعه في دعوته كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذ دعاكم لما يحييكم) (24:8)
وربما كان هذا التركيز ـ من الإسلام ـ على عنصر القدوة، إلى جانب تأكيده على عنصر الدعوة إيحاء للعاملين بأن من واجبهم أن يقتدوا بالنبي في ذلك. ليكون سلوكهم دعوة، كما يكون كلامهم دعوة، فيرتبط الناس بأشخاصهم من ناحية عملية، كما يرتبطون بأفكارهم من ناحية عقدية..
وقد أنذر الله المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون إنذاراً صارخاً، بأسلوب حازم وذلك قوله تعالى:(يا أيها الذين أمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (3:61). وأنكر على أهل الكتاب هذه الازدواجية بين الأمر بالخير وبين العمل بالشر.. وذلك هو قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (44:2)
فعل المستحبات وترك المكروهات(2/26)
ربما كان فعل الواجبات وترك المحرمات يمثل قيمة دينية في مجال التقييم الإسلامي الذاتي للإنسان العادي، ولكنه لا يجسد القيمة الكبيرة في حياته كداعية، بل ينبغي أن يضيف إلى ذلك الأخذ بالمستحبات الشرعية، التي تمثل المنهج العملي الإسلامي المرتبط بالجانب الأخلاقي، الذي لا يلزم الإسلام به أتباعه بل يترك لهم أمر ممارسته بشكل اختياري، مع التلويح بالثواب عليه، والسلامة من العقاب في حال الترك؛ لتكون الأخلاق الإسلامية نابعة من صميم الذات لا من طبيعة الإلزام.. ثم قد يلزم الأمر أن يترك الداعية بعض المكروهات، التي هي عكس المستحبات.
وقد تدعو الحاجة إلى أن يترك بعض المباحات إذا كان فعلها غير مألوف في حياة الناس مما يوجب الإضرار بالدعوة وبصاحبها.. وهكذا نجد أن مسؤوليته كداعية تقتضيه أن يجسد المثل الرائع للإنسان المسلم في نظر الناس، فيحبه الناس من خلال سلوكه، ويتحول ذلك الحب، إلى إخلاص لدعوته عندما يجدون الانسجام الكامل بين الدعوة وبين العمل.
ممارسة الداعية لما يقول
إننا نحاول التأكيد على هذا الجانب من الممارسة في حياة الداعية لأن الدعاة حين يستسلمون للحياة استسلام المشغوفين بها، المندفعين إليها، بكل شوق ولهفة، ويعبون منها بلا حساب، ويستنزفون رخصها حتى آخر قطرة، ويقتربون من محرماتها حتى تراهم يفتشون عن وجوه الإباحة في كل مجال، ويترخصون للغاية في ترك المستحبات فلا يتعبون أنفسهم بها، لأنها لا تستتبع العقاب في تركها. وأما المكروهات والمباحات فما دامت القضية لا تستتبع عقاباً في الفعل فلماذا يحرمون أنفسهم من الاستمتاع بعنصر الإباحة في الشرع فإن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.
وتستمر الحياة بهم هكذا... ويستمرون في مواعظهم ونصائحهم وإرشاداتهم، ويتحدثون عن الزهد في الدنيا وما أعد الله للزاهدين، ويقصون على الناس قصص الزهاد الذين يقتصرون على القليل القليل من الطعام، وعلى قدر الضرورة من أغراض الحياة.. ولكنهم لا يزهدون في الدنيا هذا الزهد الذي يحدثون الناس به.. وتسألهم عن تفسير لذلك فيجيبونك بأن هذا الزهد ليس بواجب فلماذا نلزم أنفسنا به، لأن الواجب علينا هو الزهد عن الحرام، وهذا ما نفعله..والرد الطبيعي هو أنه هو نفس الزهد الواجب على المدعوين فلماذا تحدثونهم عن الزهاد الأوائل إذا؟! وهكذا في بقية أبواب الدعوة.
وما أجمل ما صور ابن القيم به هذا الواقع المتضارب، وهذه الانفصالية بين الأقوال والأفعال وأثرها في المدعوين فقال رحمه الله: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قال قائلهم للناس هلموا، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق".
وهذا عين ما ذكره صاحب حلية الأولياء عن مالك بن دينار :" العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.
وقال الشافعي الإمام: "من وعظ أخاه بفعله كان هاديا".
قال عبد الواحد بن زيد: "ما بلغ الحسن في الناس ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء كان أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء كان أبعدهم منه".
وكان البر فعلا دون قول .... فصار البر نطقا بالكلام
===============
متى نسد هذه الثغرة؟
من طالع تاريخ الإسلام منذ بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم حتى اليوم يرى ظاهرة واضحة كل الوضوح وهي أن الإسلام ما برح يخوض معارك متعددة النواحي تستهدف القضاء عليه أو تشويهه أو صرف المسلمين عنه، وهذه المعارك تتسم من جهة أعدائه بالدقة والتنظيم والكيد المحكم كما تتسم من جهة المسلمين بالبراءة والغفلة عن هذه المؤامرات والدفاع العفوي دون إعداد سابق أو هجوم مضاد، ولولا أن الإسلام دين الله الذي تكفل بحفظه لكانت بعض مؤامرات أعدائه كافية للقضاء عليه ومحو أثره.
ومن الواضح أن المؤامرات العدائية للإسلام تلبس في كل عصر لبوسها، فهي حين يكون المسلمون أقوياء تأخذ طريق التهديم الفكري والخلقي والاجتماعي، وحين يكونون ضعفاء تتخذ طريق الحرب والتجمع وتستهدف الإبادة والإفناء، فإذا عجزت طريق الحرب عن تحقيق أهدافها انقلبت إلى طريق فكري خداع تستهوي الغافلين أو المغفلين، فينبت للإسلام في داخل أسواره نابتة تنحرف شيئاً فشيئاً عن عقيدة الإسلام السمحة المشرقة المحررة حتى تنتهي إلى عقائد وأفكار تخالف المبادئ الأساسية للإسلام، وتحقق الأهداف الرئيسية التي يسعى إليها أعداؤه من حيث يبدو أنهم لا علاقة لهم بهذا التخريب والتهديم.
ونسوق مثلاً آخر على يقظة أعداء الإسلام وإحكام المؤامرات عليه، وهو استغلال الخلاف الذي وقع في صدر الإسلام بين الصحابة رضوان الله عليهم حول الخلافة، إن مثله يقع في كل أمة وفي كل عصر، ولكنا لم نر أمة من الأمم غيرنا عنيت بإثارة مثل هذا الخلاف أربعة عشر قرناً!..(2/27)
إن المؤامرة تبدأ من اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ ثم يتلقفها قادة الفرس الوثنيون الذين خلص الإسلام شعوبهم من حكمهم الظالم وعقيدتهم الوثنية، وفتح عقولها وعيونها لرؤية النور والتعرف على الحق، فهؤلاء حين انهزموا أمام الجيش الإسلامي المنقذ لم يجدوا وسيلة للانتقام من هؤلاء المحررين إلا أن يشوهوا سمعتهم وسيرتهم في بث الأخبار الكاذبة عنهم مما يزري بمكانتهم حقاً لو صحت هذه الأخبار، ومما يحط من شأن هذا الدين وحضارته إذ كان هؤلاء حملته وقادة جيوشه، وليس أدل على ذلك من أن نقمة أولئك الحاقدين قد انصبت على مفاخر الحضارة الإسلامية علماً وحكماً وقيادة، أي على جميع القادة العسكريين الذين كانوا يوجهون هذه الحملات التحريرية، وعلى علمائهم الذين نشروا علم الإسلام وشريعته وأدوا أمانة العلم إلى من بعدهم بتجرد لا يعرف أولئك الحاقدون له مثيلاً في تاريخهم أو تاريخ غيرهم.
لقد حصل هذا كله وأثر أثراً بالغاً في تشتيت كلمة المسلمين ووهن قوتهم فيما بعد، وكان الظن أن يعي المخلصون المثقفون من المسلمين في هذا العصر هذه الدروس المؤلمة، ولكن الأسف أن كثيراً من هؤلاء لم يمسكوا القلم ليرفعوا أمتنا من حضيض الجهالة والتأخر، وليدفعوها إلى ميادين العلم والقوة والحضارة، بل أعادوها جذعة من جديد، فاقتصرت كل كتاباتهم وأقاصيصهم على تصوير الخلاف القديم بأسلوب يزيد في الفرقة، ويؤجج نار الضغائن، ويشمت أعداء الإسلام بنا، ويحقق لهم أهدافهم في منعنا من الالتقاء من جديد على الحب والخير والتعاون على البر والتقوى.
ولو سألت هؤلاء الذين يزيدون النار اشتعالاً، فيم هذا الجهد الضائع؟ وفيم هذه المساعي التي تلهي أمتنا عن بناء المجد من جديد وعن تحرير أوطانها من الاستعمار وآثاره، وتمكن الاستعمار الجديد أن يتمم رسالة الاستعمار القديم في إذلالها واستلاب خيراتها والحيلولة دون تجمعها ووحدتها؟ ولو سألتهم فيم هذا كله لما كان جوابهم إلا جواب واحد: إننا ندافع عن حق سلب من أصحابه!.. هل في تاريخ العالم كله أن أمة شغلت بنزاع بين أجدادها مضى منذ أربعة عشر قرناً وقد انتهوا إلى ذمة الله وهو وحده الذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ هل في العالم اليوم أمة تحترم نفسها وتغار على كرامتها تشغل بخلاف عفى عليه الزمان عن أخطار محدقة بها من كل مكان؟
هذه بعض الأمثلة على يقظة أعدائنا وسهرهم على إحكام المؤامرات على أمتنا وشريعتنا وتاريخنا، وغفلتنا نحن عن ذلك كله، وانسياقنا مع الأهواء والعواطف التي يعرف أعداؤنا كيف يثيرونها في كل عصر بما يلائم روح العصر ومقتضيات مصالح أولئك الأعداء..
ترى، لم فاض تاريخ الإسلام بهذه الظاهرة المؤلمة: يقظة أعدائه ودأبهم على حبك المؤامرات لتهديمه، وغفلة أبنائه عن ذلك كله فلا يشعرون بالخطر إلا بعد أن يقع بهم فعلاً، وبعد أن تنهكهم الجهود في دفعه وتقليل أخطاره؟ أهو ناشئ من براءة الإسلام وخبث أعدائه؟ أم هو ناشئ من طبيعة الخير وطبيعة الشر في كل زمان؟ أم هي طبيعة العصور الماضية التي لم تكن تتقن وسائل اكتشاف المؤامرات والجرائم والخيانات؟ قد يكون من هذه الأمور كلها، فهلا آن الأوان لأن تقوم فينا مجامع ومؤسسات لتتبع آثار المؤامرات وأهدافها ووسائل تنفيذها، كما تقوم في كل دولة من دولنا الآن دوائر لتتبع آثار المؤامرات السياسية والعسكرية على أوطانها وشعوبها؟
إن استمرارنا في هذه الغفلة جريمة لا يغفرها الله، ولا يعذرنا فيها التاريخ، ولا يحترمنا معها الأحفاد، ولو أن دولة إسلامية خصصت عشر ميزانيتها لفضح هذه المؤامرات لكان أعظم شرف في تاريخ الإنسانية: شرف القضاء على الشر المتربص بالخير تربصاً يؤدي إلى شقاء الإنسانية ودمارها.
وهل لنا أن ننادي جميع عقلاء المسلمين ومفكريهم وكتابهم ـ ممن لا يتاجرون بالخلافات المذهبية ـ بأن يلتقوا من جديد على كلمة سواء: أن يدفنوا آثار الماضي كله، وأن يعملوا على ما يدفع عن أمتهم الأخطار المحدقة بهم من كل مكان، متعاونين بصدق وإخلاص، تعاون الذين لا تعرف الأهواء إلى قلوبهم سبيلاً، ولا الدسائس إلى عقولهم منفذاً، وأن يجعلوا قدوتهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وهدفهم تخليص المسلمين من أوزارهم وأغلالهم، وتبليغ رسالة الإسلام ونشر هدايته ونوره في العالمين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟ اللهم إننا بلغنا فاشهد..
ـــــــــــــــــــــــــ
* (حضارة الإسلام) العدد التاسع.
==============
أفكار دعوية (1)
من فضل الله على العباد أن يسر لهم فعل الخيرات، وكسب الحسنات، حتى بمجرد التفكير، والنية في الإسلام لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة )متفق عليه، والدعوة إلى الله من أعظم الأعمال الصالحة، ونفعها يتعدى إلى الغير، ومجالاتها وسبلها كثيرة ومتجددة، والأفكار فيها أكثر وأرحب.
ومن بين الأفكار الدعوية التي قد تكون نزلت إلى واقع ملموس، وشئ مشاهد محسوس، أو أنها ما زالت في الأذهان تدور، أو مدونة بين السطور، ما سنتناوله بإذن الله تعالى في هذا المقال:
أولا- أفكار تتعلق بالدعوة في البيت:(2/28)
البيت هو أول المؤسسات التي ينشأ فيها الدعاة إلى الله منذ نعومة أظفارهم، وفيه ينبغي أن يبدأ الدعاة دعوتهم، فيمارسون الدعوة فيها، سواء كانوا آباء أو أبناء، ومن الأفكار الدعوية في هذا المجال:
1-إقامة حلقة القرآن الكريم في البيت، حيث يجتمع أفراد الأسرة على كتاب الله، مما يكون له الأثر في النفوس، وهو في الوقت نفسه زاد إلى الآخرة.
2-تدارس بعض الكتب المفيدة، وتدريب الأبناء على القراءة.
3-نشر الحرص والاهتمام بالصلاة بين أفراد الأسرة، والمحافظة عليها في أوقاتها دون تأخير.
4-الاهتمام ببقية العبادات كالزكاة والصوم والحج والعمرة وغيرها.
5-الاهتمام بالأذكار الثابتة، وخاصة أذكار النوم والاستيقاظ، والأكل والشرب، والدخول والخروج، وأذكار الصباح والمساء.
6- التركيز على زيارة الأرحام، وصلتهم، وبيان فضل ذلك.
7-حضور الأسرة بكل أفرادها في بعض المحاضرات والندوات الهادفة.
8-الخروج في بعض الرحلات العائلية الهادفة.
ثانياً- أفكار تتعلق بالدعوة في المسجد:
فالمسجد له دور بارز في مجال الدعوة إلى الله، بل إن البداية الحقيقية تكون من هذا البيت العظيم، فمن أفكار الدعوة المتعلقة بالمسجد:
1-إقامة حلقات للقرآن العظيم، والتي هي مجال رحب للدعوة إلى الله، يتم فيها احتضان الشباب.
2-عمل لوحات خاصة بالفتاوى والفوائد والإعلانات مثل المحاضرات والدروس العلمية، والمساهمة في برامج المسجد والتبرعات........
3- قراءة يومية في أحد الكتب المختارة، يراعى فيها عدم الإطالة، ويكون بعد إحدى الصلوات مباشرة وقبل خروج المصلين.
4- إقامة درس أسبوعي في المسجد، يقوم عليه إمام المسجد، ويتم فيه تبادل الحوار، لتقوية العلاقة بين الشيخ وجماعة المسجد.
5-عمل برنامج استضافات أسبوعي أو نصف شهري أو شهري، وحث الجماعة على المشاركة والحضور، مع مراعاة التنوع والتجديد فيها، كاستضافة طبيب، مسؤول، طيار، مرشد من مستشفى، أوشعبة مكافحة المخدرات....... وغيرهم.
6- توزيع مطويات شهرية خلال العام، وخاصة فيما يتصل بالمناسبات الشرعية ( رمضان- عاشوراء -الحج ) أو المناسبات العادية ( نهاية العام - الامتحانات... وغيرها ).
7- تشجيع من عنده قدرة من المصلين على المشاركة في إلقاء الكلمات في المسجد، وذلك بالتنسيق مع إمام المسجد.
8- عمل برنامج لزيارة جيران المسجد من المسلمين وغيرهم، وترغيب المسلمين في صلاة الجماعة.
ثالثا- أفكار تتعلق بدعوة المعلمين:
وهنا يأتي دور المؤسسة الثالثة بعد البيت والمسجد، حيث يقوم المعلم المسلم بتكملة المشوار، وأداء دوره، نحو من هم أمانة في عنقه، وهناك العديد من الأفكار الدعوية فيما يتعلق به، ومن ذلك:
1-التعاون مع إخوانه المعلمين على إيجاد روح التآلف بينهم، وإبعاد أي بادرة شحناء.
2-التناصح الودي بين المعلمين بالأسلوب المناسب، وذلك عند وجود أي خطأ سواء في المظهر أو الملبس أو الكلام أو غير ذلك، ووجود النصح يضفي على المدرسة طابع التدين مما يجعل كثيراً من المعلمين يعمل، ويتعاون على ذلك.
3-الاهتمام بالمدرسة بشكل عام وغرف المعلمين بشكل خاص، وإظهارها بالمظهر الجميل الرائع، وتزويدها بعدد من الوسائل الجيدة والمفيدة.
4-الارتقاء بفكر وثقافة المعلم وتطلعاته، وذلك من خلال:
أ - تعريف المعلم ببعض أحوال إخوانه المسلمين في العالم الإسلامي في الأحاديث والجلسات بين المعلمين أو اللوحات الحائطية أو النشرات المدرسية.
ب -طرح دورات تعليمية وتدريبية للمعلمين داخل المدرسة، أو المشاركة في الدورات المقامة خارج المدرسة.
5- طرح مسابقة خاصة بالمعلمين تناسب ومستوى المعلم.
6- رسالة إلى المعلم وذلك بواسطة ظرف فيه بعض المطويات والكتيبات أو بعض المجلات، أو غير ذلك من الأشياء المناسبة والمفيدة للمعلم، وتكون هذه الرسالة كل شهر مثلا.
7- استضافة أحد العلماء - أحيانا - عند لقاء المعلمين خارج المدرسة، وإن لم يكن لقاء خارج المدرسة فيستضاف في بعض الاجتماعات المدرسية.
8- إقامة بعض المحاضرات في المدرسة خاصة بالمعلمين مع استضافة معلمي المدارس الأخرى، وذلك خارج وقت الدوام الرسمي.
9- عرض فكرة الاشتراك في الشريط الخيري، حيث يوفر للمدرس المشترك شريط كل أسبوعين، أو كل شهر.
10- استغلال مجلس الآباء عند اجتماعه كأن تلقى كلمة توجيهية أو توزع بعض النشرات التوجيهية.
11-عرض المشاريع الخيرية على المعلمين مثل ( كفالة الأيتام - بناء المساجد - الاشتراك في المجلات الإسلامية - تفطير الصائمين - دعم المشاريع الخيرية ).
رابعاً- أفكار تتعلق بدعوة الطلاب:
1-أن يكون المدرس قدوة حسنة للطالب.
2-استقطاع بعض الوقت من الحصة لتوجيه خاطرة، أو نصيحة، أوتعليق، كخمس دقائق.
3-استخدام أسلوب التعزيز اللفظي ( ثناء ومدح ) من قِبَل المعلم تجاه الطالب .
4- وضع جوائز للطلاب المتميزين.
5- وضع لوحة في الفصل ولوحة في مدخل المدرسة بها أسماء الطلاب المميزين.
6- غرس المعاني الطيبة واستعمال الألفاظ الحسنة والعبارات الصحيحة حتى يعتاد عليها الطالب وترسخ في ذهنه .
7-جعل الحصص الأولى من العام الدراسي مداًّ لجسور الثقة والألفة بينه وبين الطالب، والعمل على إدخال السرور إليهم، وتحبيب الدراسة والمدرسة والمعلم في نفوسهم، وخاصة إذا كانوا صغارا في مراحلهم الأولى.
8-على المدرس بيان أهمية مادته مع التركيز على بيان حاجة الأمة لها .
9-تفعيل حصة النشاط الثقافي .
10-الاعتناء بإقامة معرض دائم في المدرسة، وتدريب الطالب من خلاله على معايشة القضايا المهمة مثل :
أ-المآسي التي تحل ببلاد المسلمين من حروب ومجاعات.(2/29)
ب-العقوبات الإلهية التي تحل ببعض البلدان.
ج-أخبار الجهاد والمجاهدين .
د-المخدرات والمسكرات والدخان وآثارها .
هـ-الحوادث المرورية .
و-المشاريع الدعوية .......
11-تشجيع الطلاب وتدريبهم على الأنشطة الدعوية فيما بينهم وغرس محبة ذلك في قلوبهم.
12-تكليف الطلاب ببعض البحوث الصغيرة لتدريبهم على ذلك.
13- معايشة أحوال الطلاب، وإشعارهم بالمشاركة في أفراحهم وأحزانهم.
14- اكتشاف مواهب الطلاب ومعرفة ميولهم، وتفجير الطاقات لديهم كل في مجاله وحسب قدراته.
15-استغلال الإذاعة المدرسية والاستفادة منها في الدعوة إلى الله.
16- تفعيل دور مسجد المدرسة، وإقامة حلقات القرآن الكريم به.
17-إقامة صلاة الظهر جماعة بالمدرسة.
18-الاهتمام بالمحاضرات العامة .
تلك هي بعض الأفكار الدعوية، والتي نسأل الله أن تكون موجودة ومعمولاً بها في أوساط أمة الدعوة التي أثنى الله عليها بقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }(آل عمران: 110)، سائلين الله العون للدعاة والهداية للجميع، والحمد لله رب العالمين.
أفكار دعوية (2)
بعد أن تناولنا بعض الأفكار الدعوية في مقال سابق نواصل الحديث- بإذن الله تعالى- عن أفكار أخرى تكملة لما سبق، ولما كانت الأفكار كثيرة ومتجددة، فنأخذ منها، ونقتطف بعضها، سائلين الله التوفيق والسداد، والعون والرشاد:
أولاً- أفكار تتعلق بالدعوة إلى الله في العمل:
فالواحد منا يقضي ساعات طويلة في عمله، وقد تمر على البعض أوقات فراغ لا يحسن استغلالها، أو قد يكون معه في مجال العمل من غير المسلمين فلا يستغل قربه منهم، وهذه الأفكار منها ما هو قابل للأخذ والتنفيذ، أو الرد والتأجيل، ومنها ما لا يقبل إلا المبادرة والتطبيق، وذلك حسب الظروف والأحوال، فمن الأفكار الدعوية في هذا المجال:
1-الاعتناء بالإتقان في العمل، وحسن الأداء، وعدم التفريط فيه بأي شكل من الأشكال.
2-الالتزام بالمواعيد المحددة للعمل، سواء من حيث الحضور، أو الانصراف.
3-عدم الخروج من العمل إلا بعد الإستئذان، وعدم الإكثار من ذلك.
4-طاعة المسؤول واحترامه، وتقبل التعليمات والتوجيهات منه وإن كانت مخالفة للنفس، مادامت بعيدة عن معصية الله تعالى.
5- العمل على حسن العلاقة مع الزملاء وإيجاد جو من المودة والمحبة والألفة.
6-الاعتناء بالنظافة والأناقة والترتيب والتنظيم، وخاصة إذا كان المكان عرضة للزائرين والمراجعين.
7-حسن التعامل مع غير المسلمين رغبة في كسب قلوبهم وتحبيب الإسلام إليهم.
8-العمل على تيسير أمور العباد، وإنجاز معاملاتهم، وإنهاء ما أوكل إليك من مهام بدقة وعناية وسرعة إنجاز.
9-الاعتناء بالإبتسامة واليشاشة والكلمة الطيبة والرد الحسن لمن تتعامل معهم.
10-الاعتناء بذكر الله عز وجل، والصلاة في وقتها.
ثانياً- أفكار تتعلق بالدعوة إلى الله في الأسواق:
وما أدراك ما الأسواق؟ فهي التي يكثر فيها الجدال والخصام، والتنافس على الأموال، والغفلة ووجود الشيطان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق )رواه الطبراني وابن حبان والحاكم وصححاه، فالدعوة إلى الله والتذكير بالله أمر مهم في مثل هذه الأماكن، ومن الأفكار الدعوية المتعلقة بالأسواق:
1-الإكثار من ذكر الله عز وجل، وخاصة دعاء السوق: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال حين يدخل السوق: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبني له بيتا في الجنة ) رواه الترمذي وابن ماجه.
2-الاعتناء بالصدق وحفظ اللسان.
3-غض البصر، ومراقبة الله عز وجل.
4- الاعتناء بالأمانة وعدم الغش في التعامل مع الناس بيعاً وشراءاً.
5-أداء الصلوات في أوقاتها، والتذكير بها والدعوة إليها.
6-إيجاد مساجد أو مصليات في الأسواق، مع تخصيص أماكن للنساء.
7-إيجاد تسجيلات إسلامية تحتوي الأشرطة النافعة والمفيدة.
8-البعد والتحذير من منكرات الأسواق، وخاصة فيما يتعلق ببيع المحرمات.
9-الإعتناء بالتصيحة الطيبة والدعوة بالأسلوب الحسن.
10-الاعتناء بحجاب المرأة والدعوة إليه.
11-التحذير من الربا والمعاملات المحرمة.
12-الاعتناء بالملصقات واللوحات التوجيهية والإرشادية.
ثالثاً- أفكار تتعلق بالدعوة في المنتزهات والأماكن العامة:
1-الاعتناء بنظافتها والمحافظة عليها.
2-التأمل والتدبر والتفكر في خلق الله عز وجل ونحن نرى الأشجار المتنوعة، والزهور اليانعة، والأرض الخضراء، والسماء الزرقاء، والليل والنهار، وآيات الله الكثيرة.
3-تذكَّر الجنة بأشجارها وأنهارها وأجوائها وخيراتها ونعيمها، وتذكير الآخرين بها.
4-مراعاة شعور الآخرين وعدم إيذائهم.
5-الاعتناء بالمساجد وأماكن الصلاة، وأداء الصلاة في أوقاتها.
6-إدخال البرامج المفيدة والنافعة من خلال الإذاعات الخاصة بهذه الأماكن، وإبعاد المحرمات والمنهيات عنها، والبدائل متوفرة بفضل الله كالأناشيد واللقاءات والمسابقات وبث التعليمات والتوجيهات بالأسلوب الشيق والمحبب.
7-تخصيص أماكن خاصة للعائلات، وأخرى للنساء والأطفال، وثالثة للشباب.
8-تنظيم بعض المحاضرات والندوات والفعاليات الهادفة.
رابعاً- أفكار تتعلق بالدعوة في الأندية ومراكز الشباب:
1- التركيز على الأهداف والغايات في هذا الجانب، وربط ذلك بمقاصد الإسلام العظيمة.(2/30)
2- الاعتناء بالمسابقات الهادفة مع مراعاة التنويع والتحسين.
3- الاعتناء بالجانب الثقافي من خلال إيجاد المكتبات وتزويدها بالكتب القيمة والمجلات النافعة.
4- الاعتناء بالوسائل العلمية والثقافية الحديثة كالانترنت مع توجيه الشباب نحو المواقع الطيبة والمفيدة.
5- تنظيم المحاضرات والندوات مع مراعاة الانتقاء والتجديد، وتلمس حاجات الشباب لتناولها.
6-الاعتناء بالبحث العلمي وتوفير الدعم المادي والمعنوي.
7-تشجيع الإبداع والابتكار، وتنمية المواهب وخاصة لدى الشباب.
8-إظهار الاهتمام والعناية، وعدم الاستهانة بقدراتهم.
9-ربط الشباب ببيوت الله، وغرس محبة المساجد في قلوبهم، من أجل إيجاد التوازن في حياتهم، وتأدية رسالتهم.
10-الاعتناء بأنواع الرياضة، فتقوية الأبدان مطلب شرعي، مع مراعاة النواحي الشرعية فيها.
وهكذا أخي المسلم الكريم، والداعية الحبيب نصل معك إلى ختام هذا اللقاء حول تلك الأفكار في الدعوة إلى الله المولى الغفار، سائلين الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، والله يحفظك ويرعاك، ويسدد خطاك، والحمد لله رب العالمين.
================
الدعوة ومواجهة مؤامرات الأعداء
لا ريب في أن العالم الإسلامي اليوم يعيش أيامه ولياليه في مغارة مظلمة من المؤامرات والدسائس التي تستهدف عقيدته وما يملكه من المقومات الثقافية والحضارية. فقد أنهكته المؤامرات وعمّق جرحه مكر الليل والنهار. فقد تداعت عليه الأمم من كل الأفق كما تداعى الأكلة على قصعتها.
فجُلّ ما نرى هنالك من اضطرابات طائفية وحروب أهلية مدمرة، وصراعات بين الدول المسلمة بعضها مع بعض، وحركات متطرفة قاتلة لبر هذه الأمة وفاجرها إلا وتقف من ورائها في - غالبيتها ومعظمها - الدوائر الغربية الحاقدة التي تسهر على صنع المؤامرات بأنواعها وأشكالها وتعمل على تمريرها بصورة ذكية ومدروسة.
وإذا كانت مسألة المؤامرات مسألة معروفة لا يرتاب فيها أحد، وقد شمر الكثيرون عن سواعدهم لدراسة أنماطها وطرق تمريرها، فإن الذي نود أن نشير إليه هنا هو أن ثمة أسبابًا تقود القوم إلى ممارسة هذا النوع من الأعمال المشينة، وإلا فإن النصارى، وهم غالبية الغربيين، من المفترض أن يكونوا ـ إن كانوا حقا نصارى ـ أقرب الناس مودة للإسلام والمسلمين كما ورد في القرآن الكريم وأدناهم حبًا لمبادئه وترحابًا بحقائقه.
التركيز على هذه الأسباب دراسة وتحليلاً يستحق منا اهتمامًا أكثر من التعرف على مظاهر المؤامرات وأشكالها التي لا تعد ولا تحصى والتي ترجع جميعها في النهاية إلى ذات الأسباب وذات العلل، فلو أننا تمكنا من معرفة العلل التي تنبع منها كل هذه المكايد أمكننا إيجاد العلاج المناسب لها، ولو على المدى البعيد، وحسب زعمي فإن من السهولة بمكان معرفة هذه الأسباب المحفزة للغربيين على التعامل مع العالم الإسلامي بالمؤامرات والدسائس والتي من أهمها :
1- الصورة المشوهة للإسلام عند الغربيين: فمن المعلوم أن هناك صورة مشوهة للإسلام والمسلمين قامت الكنيسة بصياغتها وترويجها في الغرب في القرون الوسطى لاستنفار الأوروبيين للمشاركة في الحروب الصليبية، وقد قام "علم الاستشراق" الذي تأسس في الغرب بغية استيعاب الإسلام ومقاومته، عبر تحطيم بنيته التحتية، بإضفاء صبغة بحثية على تلك الصورة المشوهة، مما ألقى على عيون الغربيين أغشية من الظلام بحيث لم يعودوا يرون في الإسلام أي قبس من النور، فقد غدت معلومات الإنسان الغربي العادي عن الإسلام ـ إثر رواج تلك الصورة ـ سيئة جدًا.
وبسبب غياب الحركة القوية لتبليغ رسالة الإسلام في المحيط الغربي، ظلت تلك الصورة السيئة قابعة في الذهن الغربي حتى أصبحت مع الأيام صورة راسخة في لاشعور الإنسان الغربي وإرثه الفكري والمعرفي، الأمر الذي جعله، رغم تقدمه المذهل في مجال ترويض العقل والفكر على قواعد المنهج العلمي والموضوعي في البحث والدراسة، يتخوف من الإسلام ويعتبره خطرًا عظيمًا على حضارته التي يظنها مثالية في إطار التنظير والتطبيق مما يحيد به إلى مقاومة الإسلام بأية وسيلة من الوسائل.
2- يُؤْلَف في غالبية الشعب الأمريكي البساطة في التفكير بحيث يصدق الكثيرون منهم كل ما يسمعون، وهذه البساطة تستغلها الصهيونية العالمية، عدوة الإسلام، أبشع استغلال بوضعهم تحت تأثير وسائل إعلامية متعددة تعتبر في معظمها ملكًا لها. فالعدو الصهيوني، من سياسته، الاهتمام بأي حدث سلبي يحدث في هذه البقعة من العالم الإسلامي، أو تلك ثم عرضه في ساحة الإعلام الأمريكي على اعتبار أن هذا الحدث نابع عن الإسلام وأنه يمثل المجتمعات الإسلامية جميعها.
فعلى سبيل المثال يهتم الإعلام الغربي الصهيوني اهتمامًا متزايدًا بما يحدث في بعض المناسبات المبتدعة من قيام بعض المنتسبين للإسلام بضرب رأسه ووجهه بالسكاكين والسلاسل، كما يهتم بأحداث العنف والقتل وإراقة الدماء التي تقع في بعض البلاد الإسلامية، - والتي هي الأخرى أيضًا من صنع الدوائر الصليبية والصهيونية - كل ذلك بأسلوب التهويل والتعميم لإقناع الشعب الأمريكي على الأخص وبقية العالم على أن الإسلام دين العنف والقتل وإراقة الدماء حتى يقاوموه بكل ضراوة ويعملوا على اتخاذ تدابير لازمة لتدمير مقوماته والحد من انتشاره.
ولعله من نافلة القول أن نعلن بأن الإعلام الصهيوني قد استطاع تحقيق السيطرة المطلقة على الضمير الأمريكي الذي أصبح يعتبر النهضة الإسلامية المتوقعة كابوسًا مزعجًا. فيشغل ليله ونهاره في صنع المكائد لإحباط مشاريع الإسلام النهضوية، ولتفتيت عراه حتى لا يبقى له أي صوت مسموع.(2/31)
وليس الأمر بمقتصر على النفوذ الذي يمارسه الصهاينة على ساحة الإعلام الأمريكي، بل إن اليهود أصبحوا في أمريكا "اليد التي تعبث بأيدي السياسة الداخلية والخارجية معًا"، وهم الذين يتحكمون في كراسي الرئاسة والحكم ولا يستطيع أي حاكم هناك - مهما كان - أن يتحدث بغير ما يريده اليهود، وإلا عملوا على إسقاطه وربما حدث له كما حدث لجون كنيدي الذي اغتاله اليهود بعد ما تحدث بحقوق العرب في فلسطين وندَّد بتصرفات اليهود".
وليس هذا فحسب، بل إن الأخطبوط الصهيوني قد استطاع إحكام قبضته على معظم الدول الأوروبية، وفي هذا يقول الصهاينة: "حتى اليوم تمكنا من قلب الأنظمة القائمة في معظم ممالك أوروبا، والبقية آتية لا ريب عما قريب، وثمة دول عديدة علاوة على الولايات المتحدة الأمريكية واقعة في شراكنا". كما أن الصهاينة لم يألوا جهدًا للتغلغل إلى المراكز الحساسة في المؤسسات الدولية،
على ضوء هذه الحقائق أظننا ندرك بكل سهولة بأن الصهيونية العالمية هي التي تستثير الروح الصليبية في المسيحيين، وهي التي تلقنهم فنون صناعة المؤامرات وكيفية تمريرها، فجلّ ما نرى في عالمنا الإسلامي من مظاهر الفحش والمجون وتفكك الأسرة والصراع بين الأقطار المجاورة، والاضطرابات الطائفية والتطرف والقتل باسم الدين هي ،في غالبها، مما خرج من مختبر المؤامرات الصهيونية، وذلك حتى يفقد المسلمون مقوماتهم وتندثر معنوياتهم ويتهدم ما لديهم من روح المقاومة، فيصبح اليهود هم السادة والمسيطرون بدون منازع.
هذه كانت مجموعة من الأسباب التي تقف وراء المؤامرات على اختلاف أنواعها وأشكالها. ولكن لما كانت معرفة الأسباب لا تكفي وحدها لرفع الأزمة كان لابد من محاولة إيجاد الحلول الجادة لمواجهة هذه المؤامرات من اليهود وغيرهم ممن يكيدون لهذا الدين وأهله والنزول بها إلى الواقع العملي التنفيذي دون الوقوف عند مجرد الفكر النظري .. فلابد من:
1ـ أن تنهض في المحيط الغربي حركات دعوية قوية تحمل على عاتقها مهمة توضيح حقائق الإسلام ومبادئه السامية إلى كل شخص غربي أيًّا كان وأينما كان وذلك باستخدام كافة الوسائل والأساليب المتاحة والمشروعة.
2ـ أن ننشئ في المحيط الغربي شركات إعلامية ضخمة يكون من همها نشر حقائق الإسلام ومبادئه ووجهات نظره في القضايا العالمية عبر قنوات متعددة، كالصحف، والجرائد والإذاعة المسموعة والمرئية، والبث المرئي القضائي.
3ـ أن نقوم بتحصين الداخل ببرامج تربوية واسعة من شأنها أن تشيع التقوى بين المسلمين وتحرضهم على التزام الصبر والتحمل فالتقوى والصبر سبيلان مهمان لإبطال فعل المؤامرات أيًّا كان مصدرها. مصداقًا لقوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)[آل عمران: 120].
4ـ السعي في نشر المنهج النبوي في التربية والتوعية، فقد كان من أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم أنه على الرغم من قضاء عمره كله في خضم المؤامرات الآتية من الجهات المختلفة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُذكّر الصحابة بتلك المؤامرات إلا نادرًا، بل كان صلى الله عليه وسلم دائم الاهتمام بغرس عظمة الله وجبروته في قلوبهم وتحبيب الإسلام والآخرة إلى نفوسهم، ومن عجب أنه في أول خطبه في المدينةلم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى ما لاقاه هو وأصحابه من قريش طيلة السنوات الماضية.
ولم يكن هذا شأن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم هذه فقط، بل إننا لو قمنا باستقراء شامل لما سجل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث والخطب نجد أنه لا يركز على سرد المؤامرات إلا نادرًا، مما يعني أن السنة النبوية في تحقيق الحصانة الداخلية، هي السير على منهج تربوي إيجابي من شأنه أن يجعل كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، من حيث التقوى والصلاح، كالصخرة الصامدة التي لا تقدر حتى أشد تيارات المياه عتوًا من أن تزحزحها ولو قيد شعره.
5ـ إشاعة اليقين في المسلمين بموعود الله بالنصر إذا هم عادوا لدينه وتمسكوا به وعملوا بمقتضاه وقاموا لله بحق العبودية الصحيحة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) .
كان هذا جزءًا من حقيقة المؤامرات التي تحاك ضد الدعوة وأصحابها، وكانت هذه بعض سبل المواجهة لتلك المؤامرات، ولا شك أن هناك سبلا أخرى يمكن سلوكها وكل إنسان يخدم دينه بقدر طاقته وبحسب ما يفتح الله عليه ... نسأل الله أن ينصر الدين ويخذل الكافرين والمغرضين ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============
قيام الليل.. مشروعيته ومقداره(2/32)
سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيما يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم أهل الدنيا أن اللذة والجنة في الأموال والنساء وفي البيت الجميل والفراش الوثير، فإن جنة المؤمن في محرابه ولذته في مناجاته لربه سبحانه وتعالى حين يقوم فيترك فراشًا وثيرًا وزوجة حسناء، ويلقى عن نفسه التعب والكسل ليجيب نداء ربه وهو يدعوه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً)، يا أيها الملتف في ثيابه المستدفئ في فراشه: قم فإنك على موعد مع ربك وخالقك، وهو ينادي على محبيه: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له.
قيام الليل .. وما أدراك ما قيام الليل ؟
سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ولكننا ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكننا ما دخلناها ولا رأيناها .
قيام الليل مدرسة تربي فيها النفوس، وتهذب فيها الأخلاق، وتزكى فيها القلوب .
قيام الليل عمل شاق وجهاد عظيم لا يستطيعه من الرجال إلا الأبطال الأطهار، ولا من النساء إلا القانتات الأبرار.. (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)(آل عمران:17) .
قيام الليل دأب الصالحين قبلنا، ومكفرة لسيئاتنا، وقربة لنا إلى ربنا، ومطردة للداء عن أجسادنا.
لماذا الحديث عن قيام الليل
الحديث عن قيام الليل له أسباب كثيرة ..
أولها: أنه بداية الطريق لإعادة بناء الأمة، وتأهيلها مرة أخرى لقيادة العالم وسيادته وريادته .. فبهذا الأمر ربى الله تعالى الرعيل الأول وجهزهم لتحمل مشاق الرسالة والقيام بأمر الدعوة؛ لأن العبد إذا قام الليل طهر قلبه، وإذا طهر القلب فلن تجد منه إلا السمع والطاعة.
ولذلك لن تعجب إذا علمت أن الله افترض على المسلمين قيام الليل قبل أن تنزل الأحكام وقبل أن تفرض الفرائض وقبل فرض الصلوات الخمس كما جاء في حديث حكيم بن حزام أنه جاء إلى السيدة عائشة رضي الله عنها يسأل عن قيام النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ سورة المزمل؟ قال: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً (سنة كاملة) وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعًَا بعد فريضة .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قيام الليل كان فريضة في أول الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة كاملة حتى نسخ الله هذا في آخر السورة.
فطهارة القلب وزكاة النفس لا تكون إلا بقيام الليل .
الثاني: تبدل أحوالنا عن أحوال السلف، وانقلاب ليالينا إلى لهو ولعب وتفريط في الأعمار وتضييع للأوقات.. وبدلا من أن تقضى ساعات الليل في صلاة ومناجاة لله صار الأعم الأغلب يقضيها في معاص أضاعت على المسلمين دينهم.
وغاب عن الكثير منا حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له؟".(رواه الجماعة) .
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " .
الثالث: هو قسوة في القلوب، وجفاف وجفاء في الباطن طفح على الظاهر فأورث النفوس عدم تلذذ بالقرآن والآيات، وعدم تأثر بالمواعظ والبينات، ومن كان هذا حاله فلا بد له أن يقوم الليل ليسأل ربه أن يمن عليه بقلب خاشع رقيق فما استجيبت الدعوات بمثل دعاء الأسحار.
الرابع: رغبة في إحياء سنة من سنن النبي صلوات الله وسلامه عليه، تركها الناس ورغبوا عنها، وفي إحياء سننه أجر عظيم وثواب كبير.
قيام الليل في القرآن
لقد تنوعت صور دعوة القرآن المسلمين لقيام الليل ما بين الأمر به، وبيان فضله، وامتداح أهله، وعاقبه أصحابه ترغيبًا وتحبيبا، وهذه الآيات منها المدني والمكي:
فأمر الله به في سورة المزمل كما سبق، وفي سورة الإسراء: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)(الإسراء:78، 79).
قال الحسن ومجاهد: أي أن القيام في حق النبي نافلة؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في حق المسلمين فريضة، فقالا: لابد من قيام الليل ولو ركعتين في السحر .
وفي سورة ق قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (ق:39، 40) .
وفي وصف أهل الإيمان امتدح الحق تبارك وتعالى المتقين المحسنين داعيا للاقتداء بهم فقال عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(الذريات:15 - 18).(2/33)
وقال : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(الفرقان:63، 64) . فجعل من صفات عباده الذين شرفهم بنسبتهم إليه أنهم يبيتون ليلهم سجدًا وقيامًا.
وفي بيان ما أعد للقوام من الجزاء والنعيم قال تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(السجدة:15 - 17) . وكل هذه السور مكية باتفاق المفسرين
أما السور المدنية فقد تابع الله فيها التنبيه على تلك الشعيرة العظيمة كما في قوله سبحانه: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)(آل عمران: 17) .
وقال أيضا: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(آل عمران:113) .
وفي سورة الإنسان قال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(الإنسان:25، 26) .
القيام في السنة
لقد تواطأت السنة المطهرة مع الكتاب العزيز في الدعوة لهذه الفضيلة العظيمة وحث المؤمنين عليها وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله هو الحادي لأمته في اقتفاء أثره، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل".
ولذلك كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: "لأن أصلي في جوف الليل ركعة أحبَّ إليَّ من أن أصلي بالنهار عشر ركعات".
وعندما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما كلمهم، أمرهم بقيام الليل، قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".(رواه ابن حبان) .
وكان صلوات الله عليه وسلامه يتعهد المسلمين ويحثهم على قيام الليل، فعن أبيّ بن كعب قال رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى ثلثا الليل نادى بأعلى صوته: أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". وطرق عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلا وقال: ألا تصليان؟".
وقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل". قال سالم بن عبد الله: فكان ابن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً. (متفق عليه). وقال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل ".(متفق عليه) .
وفي وصية جبريل للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم قال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" .
والنساء أيضا
ولم يقتصر الأمر بقيام الليل على الرجال فحسب وإنما أيضا دعيت إليه المسلمات.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء".(رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح) .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات " .
وذكر أن العبد إذا فعل ذلك أو فعلته امرأته ضحك الله من فعلهما. وفي المسند: "إذا ضحك الله من عبد فلا حساب عليه".
مقدار قيام الليل:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل أحد عشر ركعة، أو ثلاث عشر ركعة، ولا يزيد على ذلك، وكان يقول: " صلاة الرجل مثنى مثنى"، وروت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: "فصلى أربعًا، لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم صلى أربعًا لا تسل عن طولهنَّ وحسنهنَّ، ثم أوتر بثلاث .
هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه، وكل إنسان يفعل ما تيسر له قدر استطاعته، والمقصود هو وجود قيام الليل وإحياء تلك السُّنَّة فيصلي العبد ما شاء ثم إذا تعب نام. وفي الحديث: "ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد"، وقال: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا".(رواه البخاري ومسلم) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، ورغب فيه حتى قال: "عليكم بصلاة الليل ولو ركعة".
وقال رضي الله عنه: ذكرت قيام الليل فقال بعضهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصفه، ثلثه، ربعه، فواق حلب ناقة، فواق حلب شاة". والفواق: هو مقدار ما يرفع الحالب يده عن الضرع ثم يعيدها إليه ، وقيل مدة الحلب ... والمقصود أنها مدة قصيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". يعني الذين يوفون أجرهم بالقناطير. (رواه أبو داود، ابن خزيمة وهو في صحيح الجامع).
يا رجال الليل جدوا .. ... .. رب داع لا يرد(2/34)
لا يقوم الليل إلا .. ... .. من له عزم وجد
===============
المناصب المؤثرة
يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه ( حصوننا مهددة من داخلها ) بعد أن استعرض جهود الدول الغربية الكبرى - كأمريكا - في تغريب المناهج التعليمية والتربوية والاجتماعية السائدة في العالم الإسلامي، وعقدها لمؤتمرات حاشدة تدعو فيها مسئولي التعليم في الدول الإسلامية منفقة على هذه المؤتمرات ببذخ شديد، يقول - رحمه الله -: "ثم إن هذه المؤتمرات هي - من ناحية أخرى - وسيلة للاتصال القريب المباشر بالمسئولين، يعجمون عودهم، ويدرسونهم عن قرب، ويختبرون مدى مناعتهم ومدى استعدادهم للتجارب مع الأهداف الخفية للسياسة الاستعمارية، كما يختبرون مواطن القوة ومواطن الضعف في كل واحد منهم لمعرفة أنجح الوسائل للاتصال بهم والتأثر عليهم …… ثم يقول: "وهدف آخر من هذه الأهداف الواضحة هو السيطرة على توجيه المجتمع، عن طريق هؤلاء الأصدقاء من أصحاب النفوذ". أهـ
وفي مجلة سان دياجو عدد شهر أغسطس 1985م يقول جيمس ميلز الرئيس السابق لمجلس الشيوخ: "إن الرئيس ريجان أظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تمشيا مع إرادة الله، وذلك كأي مواطن آخر يحتل منصبا عاليا". وقال ميلز أيضا في المقال: "إن ريجان كان يشعر بهذا الالتزام خصيصا وهو يعمل على بناء القدرة العسكرية للولايات المتحدة ولحلفائها. وقال: إذا كان ريجان يؤمن بما قاله لي في عام 1971 وسواء كان أو لم يكن موضع تخمينات معلقي الصحف في السنوات القليلة الأخيرة، لا يخامرني شك في أنه ينظر إلى مسؤولياته كقائد للعالم الغربي، ويبدو لي أن معظم قراراته السياسية متأثرة بهذا المفهوم.
وقال أيضا: إن سياسات الرئيس ريجان الداخلية والمالية منسجمة مع التفسير اللفظي للنبوءات التوراتية - الإنجيلية. أهـ
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}: وفي الحديث "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع أهـ
إن مناصب الحكم قد جعل الله تبارك وتعالى فيها من التسلط والقهر - بحكم عرف الناس ومواثيقهم التي جبلوا عليها - ما لم يجعل في غيرها من المناصب. وإذعان الناس لرأي السلطان والقوة أعم وأفشى من إذعانهم لرأي ذي الحجة والبينة.
ولما أراد الله تبارك وتعالى انقياد القلوب إليه بالرسالة الخاتمة لم يرسل رسولا مَلِكا بل عبدا رسولا متواضعا، يأمر من موقع رساليته، ويوجه من منطلق نبوته البشرية عامة، وما ذلك إلا ليكون إقبال الناس بقلوبهم لا بأبدانهم.
ولكن ذلك لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بأسباب القوة ويقيم قواعد الحكم والسياسة الشرعية التي ألزم الناس أن ينضووا تحت لوائها، ولم يترك لأحد الاختيار في شأن الطاعة المطلقة له كرسول وحاكم يحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى.
ومجتمعاتنا الإسلامية في الغالب ما زالت تحافظ على الشعائر الظاهرة أو تحترمها في الجملة، كالصلاة والحج ونحو ذلك، ولا بد أن يستغل الدعاة هذه العقيدة الاجتماعية في إحياء شعائر الإسلام ليصطبغ المجتمع بصبغة الدين، وتعلو كلمة الله على الدين كله.
وأقوم ما يمكن سلوكه لبث هذه الشعائر في ميادين المجتمع أن نستعين بأولياء الأمور من ذوي المناصب الرفيعة والنافذة، ونحفز غيرتهم على الدين، ونستنفر شعورهم الإسلامي الدفين، مطالبين إياهم القيام بأمر الله تبارك وتعالى في حق الممكنين في الأرض حيث قال عز من قائل: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور }. قال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة.. وقال ابن أبي نجيح: يعني الولاة.. وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك، وهذا حسن.
قال سهل بن عبد الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له واجب عليه ولا يأمر العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم.
وقد خبرت عن كثير من الدعاة أخذهم بمبدأ مجانبة السلطان وعدم الدخول عليه، ولا شك أن هذا منهج السلف، ولكنه ليس مطردا في كل الأحوال، بل كان السلف لا يدخلون على السلاطين في أمور الدنيا زهدا فيما في أيديهم، أمّا إن كان ألمَّ بالمسلمين رزيئة أو حدث منكر متعاظم فتكاسل السلطان عن إنكاره نصحه العلماء سرا فإن أبى أعلنوا وقاموا هم بالأمر دونه.
كما أنه ليس صحيحا أن الأصل في نصيحة ولاة الأمر أن تكون في السر، بل قد يحتاج الأمر إلى المناصحة في الجهر كما لو جحد الحاكم حكم الشرع وأبى تطبيقه، أو علم جهله وعمايته عن النصيحة بالتفاف بطانة السوء حوله.
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين نماذج تبيح مبدأ المناصحة من قبل المتأهل لها، وأنها الأصل فيما بين الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم لو جحد هذا الأصل جاز للناصح بل استحب - وربما وجب - أن يناصحه رغما عنه ما دام قد رآه على منكر لا يجوز السكوت عليه.
ومن أقل أحوال المناصحة أن نحض أولي الأمر على التمسك بشرع الله، والمبادأة بهذه النصيحة لا تحتاج إلى وجود سبب أو مناسبة، فكيف لو كانت هناك أسباب كثيرة تدعونا إلى الإكثار من مناصحة أولي الأمر حول هذا الفرض المهجور (أعني تطبيق شرع الله والتمسك به).
ــــــــــــــ
30 طريقة لخدمة الدين
==============
أخلاقُ أهل القرآن(2/35)
قال الله تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا "
وسئلت أم المؤمنين السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ( كان خلقه القرآن ) .
قال بشر بن الحارث : سمعت عيسى بن يونس ( ت 187 هـ ) يقول :
إذا ختمَ العبدُ قبّل الملَك بين عينيه، فينبغي له أن يجعلَ القرآن ربيعاً لقلبه، يَعْمُرُ ماخرِبَ من قلبِهِ، يتأدبُ بآدابِ القرآن،ويتخلّقُ بأخلاقٍ شريفةٍ يتميّز بها عن سائرِ النّاس ممن لايقرأ القرآن .
فأول ماينبغي له أن يستعملَ تقوى الله في السّرّ والعلانية: باستعمال الورع في مطعمه ومشربه ومكسبه، وأن يكونَ بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه؛ مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح مافسد من أمره، حافظاً للسانه، مميِّزاً لكلامه؛ إن تكلّم تكلّم بعلم إذا رأى الكلامَ صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليلَ الخوض فيما لايعنيه.. يخاف من لسانه أشدّ مما يخاف من عدوّه، يحبس لسانه كحبسه لعدوّه، ليأمن شرّه وسوءَ عاقبتِه؛ قليلَ الضّحك فيما يضحك منه النّاس لسوء عاقبة الضّحك، إن سُرَّ بشيءٍ مما يوافقُ الحقَّ تبسَّم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسطَ الوجه، طيّب الكلام، لايمدحُ نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه، يحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يُسخط مولاه، ولايغتابُ أحداً ولا يحقر أحداً، ولايشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد، ولا يحسده، ولا يسيءُ الظنّ بأحدٍ إلا بمن يستحق؛ وأن يكون حافظاً لجميع جوارحه عمّا نُهي عنه، يجتهد ليسلمَ النّاسُ من لسانه ويده، لا يظلم وإن ظُلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بُغي عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربّه، ويغيظَ عدوّه. وأن يكون متواضعاً في نفسه، إذا قيل له الحق قَبِله من صغيرٍ أو كبير، يطلب الرفعة من الله تعالى لامن المخلوقين .
وينبغي أن لا يتأكلَ بالقرآن ولا يحبّ أن تُقضى له به الحوائج، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك، ولا يجالس الأغنياء ليكرموه، إن وُسِّع عليه وسَّع، وإن أُمسِك عليه أمسَك. وأن يُلزم نفسه بِرَّ والديه: فيخفضُ لهما جناحه، ويخفصُ لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، ويشكر لهما عند الكبر. وأن يصلَ الرحم ويكره القطيعة، مَن قطعه لم يقطعه، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه، مَن صحِبه نفعه، وأن يكون حسن المجالسة لمن جالس، إن علّم غيره رفق به، لايعنّف من أخطأ ولا يخجله، وهو رفيقٌ في أموره، صبورٌ على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المجالس، مجالسته تفيد خيراً .
عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما): "كنّا صدرَ هذه الأمّة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما معه إلا السّورة من القرآن أو شبه ذلك؛ وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل به. وإنّ آخر هذه الأمّة يُخفّف عليهم القرآن حتّى يقرأه الصّبيّ والأعجميّ، فلا يعملون به".
وعن مجاهد (رضي الله عنه) في قوله تعالى: "يتلونه حقّ تلاوته". قال: "يعملون به حقَّ عمله".
وعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): "ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ نائمون، وبنهاره إذا الناسُ مُفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناسُ يختالون، وبحزنه إذا الناسُ يفرحون، وببكائه إذا الناسُ يضحكون، وبصمته إذا الناسُ يخوضون".
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "حامل القرآن حامل رايةِ الإسلام .. لا يينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع مَن يلهو".
جعلنا الله تعالى ممن يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاقه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
===============
دور الترجمة في الدعوة إلى الله
ما زالت الدعوة الإسلامية تخطو خطوات وئيدة في نشر الدين على مستوى الشعوب، فلو ارتضينا المقارنة بين ترجمات معاني القرآن وترجمات الإنجيل لوجدنا أن الفاتيكان قد قام بترجمة الإنجيل المعتمد لديه إلى كل اللغات الحية تقريبا، وكان ذلك قبل أن تبدأ حركة ترجمة معاني القرآن لدى المسلمين بصورة منظمة ذات أثر.
أما إذا أتينا لنقارن بين صراع نشر ثقافة الحضارات لوجدنا أن المسلمين لا يعدون أن تكون حضارتهم مثل حضارة الهند والصين اللتان ينتقي منهما الغرب ما شاء ليترجمه دون أن تكون تلكما الحضارتان ذاتي ثقافة غازية.
والواقع أن الحضارة الإسلامية عريقة العلوم والمعارف أصيلة المثل والقيم، بهرت العالم كله بمنظومتها المعرفية، وأقامت للبشرية صرحا من المعارف والعلوم مازال شاخصا شامخا في ضمير العقل الإنساني.
ومثل هذه الحضارة الشماء لا يليق بها أن تتوارى عن أعين الخلق وتتشرنق مستترة عن احتياجات الإنسانية بزعم اعتزازها باللغة العربية الأصيلة، أو بزعم أنها غنية بنفسها، أو بزعم عدم قدرتها على منافسة الزحف الحضاري الغربي.
فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم ترجمانا هو زيد بن ثابت أمره أن يتعلم السريانية فتعلمها في بضعة عشر يوما. واستطاع القرآن أن يكون كتاب البشرية الأول في خلال عشر سنين عندما استقر في وجدان الشعوب التي فتح بلادها المسلمون الأول.
وكان ترجمة التراث العربي هو السلاح الثاني في الفتوح الإسلامية حتى غدت اللغة العربية هي لغة الثقافة والمعرفة، لأنها صارت اللغة الوسيطة بين كل الشعوب لنوال العلوم الراقية.(2/36)
وبدأ الضعف يدب في أوصال الثقافة الإسلامية يوم انتدب بعض ضعاف النفوس أنفسهم لترجمة علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية، واشتغلت الحركة الثقافية بهذا الزخم الفارغ، الذي كان نفعه في ميزان الحضارات الأخرى؛ إذ جعلت المعايير الفلسفية اليونانية هي الحاكمة على الحق المطلق في النظام المعرفي الإسلامي.. وصار القرآن نفسه يحاكم إلى منطق أرسطو وأفلاطون، وشغل المسلمون دهورا بالنزاع بين الإشراقيين والرواقيين، وكان الجاهل بعلوم تلك الحضارات الوافدة معدودًا فيمن لا يوثق بعلمه أصلا وإن كان إماما من أئمة الدين.
كل ذلك حينما انعكس الدور الأصيل الذي كانت تقوم به الفتوحات الإسلامية ألا وهو غزو العقول والقلوب بإيصال معاني هذا الدين المتين .
وقد فطن الاستعمار (وإن شئت فقل: الاستخراب) لدور الترجمة في توطين الثقافة الغازية، فأسس بجوار الترسانات العسكرية الجرارة هيئات علمية راقية المستوى كانت مهمتها مساعدة الزحف العسكري عبر استعراض ثقافة المستعمر بلغة الدولة المغزوة، وعندما ظهر الفرق جليا بين تخلف الدول المغزوة وإمكانيات الدول الاستعمارية في المجال الاقتصادي والعسكري وفي المجالات المدنية المتنوعة تقبلت الناس هزيمتهم باقتناع وراحت نفسية الهزيمة تتغلغل في جذور الضمير حتى مسخت الأفئدة ووجدنا من أفراد الأمة الإسلامية من ينادي بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية ومن يطلب الكفران بكل منتمٍ إلى الإسلام .
تلك الهيئات العلمية هي المحافل الاستشراقية التي كانت تلعب دورا لا يقل خطورة عن الدور التنصيري الذي صاحب الاستعمار في مراحله المختلفة.
والغريب أن جل الباحثين لم يفهموا أو لم يحاولوا أن يتفهموا أسباب قيام المحافل الاستشراقية بترجمة كثير من المراجع العربية إلى لغاتهم اللاتينية على اختلافها. فبلغت سذاجة البعض إلى الزعم أن المستشرقين قد انبهروا بالثقافة العربية فكانوا خداما في محرابها وسدنة في معبدها هياما بجمالها وعظمتها. ونحن لا ننكر وجود المستشرقين المنصفين لكن عددهم أو انتماءاتهم لا تمت بصلة للدور الجمعي الذي كان يقوم به جل المستشرقين ألا وهو القيام بحركة ترجمة واسعة النطاق من وإلى اللغة العربية بغرض أن يتخصصوا هم في اللغة العربية فيحتلوا مرجعيتها دون علماء المسلمين أنفسهم.
وهذا ما قد حدث بالفعل ، فمن الذي ينكر عظمة مشروع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، أو مَن من الأدباء يستطيع أن يتعامى عن الدور الأدبي للمستشرقين؟!
وفي غضون بضعة عقود أواخر القرن التاسع عشر كانت الأكاديميات الغربية موئلا لكثير من الباحثين العرب والمسلمين لدراسة اللغة العربية والإسلام نفسه ، وصارت دكتوراه السوربون أو دكتوراه الدولة من فرنسا وأكسفورد وهارفارد من إنجلترا تهيؤ صاحبها لتبوئ أعلى المناصب العلمية في جامعات بلاده.
وصار بعض الأكاديميين يتفاخرون أنهم درسوا آداب اللغة العربية في أروقة جامعات أوروبا، والأنكى أن منهم من يزهو أنه درس الحديث أو التاريخ الإسلامي أو سيرة الخلفاء على يد أساتذة الكراسي في الجامعات المسيحية.
لكن المشاهد لكل ذي لب أن الدراسات العربية والإسلامية في تلك الجامعات لا تتم باللغة العربية، كما ندرس مثلا الأدب الإنجليزي باللغة الإنجليزية، بل إن كل الدراسات بما في ذلك البحث الذي يتقدم به الباحث تتم بغير اللغة العربية، لا لشيء إلا لأن المشرفين أعاجم، والمراجع التي يطالب الباحث العربي والمسلم بالرجوع إليها جلها كتبه المستشرقون بلغاتهم الأعجمية.
وهكذا نرى كيف أن حركة الترجمة التي قام بها المستشرقون كان لها دور واسع بعد ذلك في تبوء الثقافة الغربية منصب المرجعية في العلوم اللغوية العربية والإسلامية أيضا.
ونحن إذا أردنا أن نستعيد المرجعية العلمية للحضارة الإسلامية (في إطار لغتنا وديننا على الأقل) فلابد من القيام بحركة ترجمة واسعة لعلومنا الإسلامية واللغوية بحث نكون - نحن - المتحدثين باسم لغتنا وديننا لا أن يكون وسطاء أعاجم أعلاج هم الناطقون الرسميون باسم الإسلام .
إن طموح الدعاة يجب أن يتجاوز مجرد ترجمة معاني القرآن إلى ترجمة التراث الإسلامي الأصيل، حتى يقرأ العالم عن ديننا كما نفهمه نحن لا كما يفهمه الأعاجم.
وهذا يستتبع بالضرورة أن يكون من بين أبناء الأمة عامة والدعاة المخلصين خاصة من يتقن لغات الأمم حتى تأخذ حركة الترجمة جانب الأصالة، وتأمن التحريف، وتضمن الأمانة في النقل والصياغة.
ولا ريب أن حركة الترجمة التي نعنيها تحتاج إلى دعم دولي أو معونة هيئات إسلامية عالمية، وهي أشبه بالدور الجهادي الذي تقوم به هيئات الإغاثة في المناطق الإسلامية المنكوبة، لأننا لا نرى نكبة أعظم من أن نتعلم الدين واللغة من غيرنا.
وإضافة إلى ذلك لا بد أن يتجاور مع حركة الترجمة حركة علمية بحثية راقية المستوى تقوم بتعقب كتابات المستشرقين والرد عليها بنفس اللغة سواء عبر طبع كتب مستقلة أو في دورياتهم العلمية أو على صفحات الإعلام أو حتى على صفحات الإنترنت.
وحديثنا على الترجمة لا يتطرق إلى محاربة الاستشراق والتنصير فقط،بل إلى مواجهة كل المذاهب الهدامة والمنحرفة أيضا من حيث إن خطرها على الدين الحق لا يقل تشويها عن الكفر الصراح.
وهاهي ذي قوى الرفض والمجوسية المتشيعة تنفث سمها بكل لغات العالم عبر المجلات التي تصدرها سفاراتها بلغات تلك البلدان، وترصد ميزانيات ضخمة لمساعدة أقلياتها في كل العالم عبر المنح الدراسية.(2/37)
وهاهي ذي القاديانية والبهائية تحرص على طبع أدبياتها بكل لغات العالم مع الاهتمام باللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والعربية، مما ينبيك - أيها الغيور على دينك - أن الترجمة سلاح ماض في نشر الأفكار.
ويمكننا صياغة الأفكار المهمة بالنسبة لهذه الطريقة من طرق الدعوة فيما يلي:
(1) إيجاد الكوادر التي تتقن اللغات العالمية، ومخاطبة الدعاة في كل بلدان العالم ممن يتقنون لغة بلدانهم مع اللغة العربية، وتكوين جبهة عالمية للتعريف بالإسلام، تمولها الحكومات والدول والهيئات الإسلامية والأفراد، على أن يترك إشرافها للدعاة.
(2) عقد مؤتمرات عالمية أو محلية لمناقشة هذا الموضوع، ومساهمة الدعاة في تقديم الأبحاث التي تخص هذا الصدد، مع تقديم خبرات ذوي الخبرة في هذا المجال.
(3) تكوين مكاتب ترجمة لدى كل حركة أو اتجاه دعوي يقوم بترجمة الكتب التي تشرح حقائق الإسلام مع التنسيق بين تلك المكاتب حتى لا يحصل التكرار.
(4) تنمية مهارات الترجمة لدى الدعاة بعقد دورات تدريبية للترجمة، واستضافة المتخصصين في هذا المجال لتدريس أحدث تقنيات الترجمة.
(5) صقل لغات المترجمين والرقي بمستواها حتى تكون ترجماتهم محل احترام أصحاب تلك اللغات، ويكون ذلك بمزيد من التخصص في أدبيات اللغة الثانية التي يتقنها المترجم.
(6) إنشاء صحف ومجلات بلغات مختلفة تترجم فيها كتابات علماء العصر وفتاواهم، ويوقف الناس من خلالها على أخبار المسلمين برؤانا وليس برؤى رويتر وأسوشيتدبرس.
(7) المسارعة في استكمال ترجمة معاني القرآن الكريم إلى كل لغات العالم سدا للفرض الكفائي العالق بكاهل الأمة.
(8) البدء في مشروع ترجمة الحديث النبوي إلى لغات العالم الحية، واختيار الكتب المعتمدة مثل الصحاح أو رياض الصالحين ونحوها من الكتب التي عم نفعها بين المسلمين.
(9) البدء في مشروع جاد لترجمة عقائد أهل السنة والجماعة إلى كل لغات العالم، في مواجهة الحملات الشرسة التي تقوم بها المذاهب الضالة في دعوة غير المسلمين، وإنقاذًا لأولئك الأفراد الذي وقعوا في براثن تلك المذاهب جهلا منهم بحقيقة الإسلام .
(10) تلافي القصور الإعلامي، والبدء في مشروع جاد لقناة إسلامية دعوية عالمية تستخدم اللغات العالمية الحية في عرض الإسلام وتبيان حقائقه.
إن هذه الأفكار - أيها القارئ العزيز - قد تبدو لك ضربا من الأحلام الشاردة، ولكنني أجزم لك غير شاك، أن إمكانياتنا تستطيع أن تفعل ما هو أكثر من ذلك، ولكن المطلوب: أن تحصل البداءة، وتنشأ المبادرة الأولى، وستجد الأمر بعد ذلك توجها يتصاعد، ومسلكا يرتاده كل المخلصون.
===============
خواطر حول الإجازة الصيفية
في مثل هذه الأيام من كل عام يتجاذب الناس أطراف الحديث عن أمر مهم هو في الحقيقة أهل للحديث عنه، وكثرة المطارحات عنه، بل ينبغي أن يطرح عبر المنابر والأندية ووسائل الإعلام لتصحيح الفهم حوله وضبط التصور نحوه، ذلكم - يا عباد الله - هو موضوع العطلة الصيفية لأبنائنا الدارسين، والتي يلازمها في كثير من الأحيان الإجازات السنوية للآباء العاملين، والتي أصبحت جزءًا من الصبغة الواقعية للحياة السنوية لا يمكن تجاهلها، خصوصًا وأنها تقضى عند معظم الناس وفي معظم أحيانها في غوغائية ارتجالية، ينقصها الهدف السليم، وتفتقر إلى الضوابط الشرعية، ونحن نحاول أن نتناول هذا الموضوع من خلال خواطر هي في الحقيقة حقائق ونصائح:
الحاجة إلى الراحة والاستجمام:
إن حاجة الجسم إلى الراحة بعد الكد، وإلى الهدوء بعد الضجيج، وإلى نوع استرخاء واستجمام بعد عام من الشد العصبي والضغط النفسي، والجهد البدني؛ هو من الأمور المسلّمة التي لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل. والإسلام في حقيقته لم يفرض على الناس أن يكون كلُّ كَلامهم ذكرًا، ولا كلُّ شرودهم فكرًا، ولا كل أوقاتهم صلاة وعبادة؛ بل جعل للنفس شيئًا من الترويح والإراحة المنضبطين بشرعة الإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة: "ساعة وساعة". وقال على فيما ذكره عنه الإمام ابن عبد البر: "أجمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان".
وقال ابن الجوزي: "لقد رأيت الإنسان قد حمل من التكاليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة النفس وتكليفها الصبر عمَّا تحب وعما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس".
وبهذا يؤخذ مفهوم عام حول تخلل جدِّ المرء واجتهاده شيء من الراحة والسكون والاستجمام.
والخلاصة: أن الإسلام لا يمنع أهله وأتباعه من الترويح عن أنفسهم وإدخال السرور على أهليهم وذويهم، بشرط أن يكون هذا منضبطًا بضوابط الشريعة، منطويًا تحت أصولها وعدم الخروج عنها.
الناس ومفهوم العطلة:
كثيرون هؤلاء الذين ينظرون إلى الإجازة على أنها عطالة وبطالة، ويرتبط مفهوم العطلة عندهم ارتباطًا وثيقًا لا يكاد ينفك بأنها النوم، واللهو، وحضور الأفراح والأعراس، والخروج إلى أي مكان مع الأصحاب، وانقلاب الليل إلى نهار والعكس، فليلهم نهار ونهارهم ليل، حالهم كحال القائل:
يا ليل هل لك من صباح.. ... ..أم هل لنجمك من براح
ضل الصباح طريقه.. ... ..والليل ضل عن الصباح(2/38)
فنهارهم نوم وخمول، وليلهم طرب وطبول، وضجيج وطنين، أو تسكع في الأسواق وأماكن التجمعات، أو سعي وراء الفاتنات المفتونات، أو مطالعة لما تبثه وسائل الإعلام والفضائيات أو شبكات الإنترنت الغازية من صور الإغراء والافتتان، ومشاهد تئد الفضيلة وتبرز الرذيلة، وبث مكثف لما ينقض عرى الأخلاق عروة عروة، فهي برامج مطلقة لا تحكمها رقابة الواعين، ولا ضمائر ذوي الغيرة والدين، فتجتث جذور الإيمان وأصول المكارم ومحاسن الأخلاق إلى جانب لصوصية الفكر والثقافة والتراث والعقيدة والتي هي أكبر من كل ما سبق.
وبهذا الفهم الخاطئ لمعنى الإجازة تتحول العطلة إلى مأدبات شيطانية، وصفحات سوداوية في سجل العام الحافل بالعمل، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو عين ما حذر منه ربنا تعالى بقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً)[النحل:92].
إن مفهوم الإجازة وإن كان في حقيقته فترة توقفٍ للطلاب عن الذهاب إلى دور الدراسة، وتوقف البعض عن عملهم الوظيفي؛ لكنه لا ينبغي أبدًا أن يحملك على أن تستشعر معه أنك في فترة توقف عن العبودية لله رب العالمين؛ فإنه وصف لا ينفك عنك في صيف ولا شتاء، ولا عطلة ولا دراسة، ولا عمل ولا إجازة؛ بل أنت عبد لله في كل زمان وفي كل مكان، وهذا سر وجودك ووسام عزك، وتاج شرفك، وأكسيد حياتك، وسبيل سعادتك، فينبغي لك ألاَّ تغفل عنه طرفة عين.
إن أمارة المسلم الحق بقاؤه ثابتًا على مبادئه، وفيًا لدينه وعقيدته، معتزًا بثوابته لا يحده عن القيام برسالته زمان دون زمان، ولا يحول بينه وبين عبوديته لربه مكان دون مكان، بل هو حيث حل وارتحل؛ فالعبودية شعاره، وطاعته لله دثاره، محياه لله، ومماته لله، وأعماله كلها لمولاه، شعاره الذي لا يفارقه (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162، 163].
الفراغ نعمة:
لئن كان الإنسان يحصل في الإجازة شيئًا من الفراغ فليعلم أن هذا من نعم الله عليه، فكم ممن يتمنى الوقت فلا يجده لضيق رزق أو كثرة شغل، أو سعى على أهل وعيال، فاشكر الله على هذه النعمة. واعلم أن الوقت مادة الحياة ووعاء العمر، وهو رأس مالك الذي تتاجر فيه مع الله، وتحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، وبقدر ما يفوت من هذا الوقت في غير طاعة وقربة لله تعالى، بقدر ما يفوت من سعادة الدارين.
قالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام، كلما مضى يومٌ مضى بعضُك.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها.. ... ..وكل يوم مضى يدني من الأجل
يسر المرءَ ما ذهب الليالي.. ... ..وكان ذهابهن له ذهابا
قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمسلم أن يعرف شرف زمانه وقيمة وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة.
وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه". فإذا كان الأمر كذلك:
فإياك والتسويف:
واعلم أن سوف من جند إبليس، فإن كنت اليوم في فراغ فربما تنشغل غدًا، وإن كنت في عافية فلربما تمرض غدًا، وإن كنت اليوم حيًّا فما تدري ما يأتي به غد. وكم ممن أمل بعيدًا، وبنى مشيدًا، وسوَّف مديدًا، فاجأه الموت فعاين حسرة الفوت، فنادى: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:99، 100].
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك".[رواه الحاكم والبيهقي بسند حسن].
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو تنتظرون الساعة فالساعة أدهى وأمر".
يقول ابن القيم رحمه الله: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها.. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرة شجرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ (الحصاد) يوم المعاد، فعندئذ يتبين حلو الثمار من مرها".
فمن ضيع يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو فعل محمود حصله، أو علم اقتبسه، فقد فَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي". نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة العمل..
فإياك أن تفوتك شهور الإجازة سبهللا من غير نفع في دينك ودنياك، وإياك أن تضيعها فتكون المغبون الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"[البخاري عن ابن عباس].
التخطيط لا التخبيط:
إن من أعظم أسباب حفظ الوقت والعمر وحسن استغلاله أن يكون هناك تنظيم وحسن ترتيب وتخطيط مسبق لما تريد فعله، وتوزيع ذلك على ساعات النهار وأوائل الليل، وأعظم ما يرتب لك ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها في المسجد في جماعة، ثم توزع أعمالك وأوقات راحتك بينها.
فبعد الفجر قرآن وحفظ الأحاديث، وبعد الظهر غداء وقيلولة، وبعد العصر... وهكذا.
ولابد أن يكون لك تصور لما تريد أن تفعله في هذه الإجازة أو تحصله، وأنا أذكرك هنا ببعض المهم من الأعمال:(2/39)
• قال عليه الصلاة والسلام: "من قرأ حرفًا من كتاب الله كانت له به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها... الحديث". فاقرأ من القرآن طاقتك، واحفظ منه ما استطعت؛ فإنه رفعة يوم القيامة "يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن مقامك عند آخر آية تقرؤها". "والجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب".
• قال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءًا سمع منَّا شيئًا فحفظه وأداه كما سمعه". إن حفظ حديث واحد كل يوم من أمثال: "من كذب عليَّ متعمدًا.."، "كلمتان خفيفتان..." يجعلك في نهاية الإجازة حافظًا لأكثر من 100 حديث عن رسولك عليه الصلاة والسلام.
• وهناك صلة الأرحام ، وحضور المراكز الصيفية النافعة ، وحضور بعض الدورات في اللغات أو الكمبيوتر، أو الاستعداد للعام القادم نفسيا وعلميا.. إلى غير ذلك من النافع المفيد.
رسالة إلى المسافرين:
قال ابن الجوزي: السياحة في الأرض لا لمقصود كعلم أو دعوة أو نحو ذلك منهي عنها".
هذا قولهم في السياحة التي لا معصية فيها، فكيف بسياحة التحلل والتفسخ.
إن السفر في الإسلام له حدود مرعية وضوابط شرعية؛ منها:
- أن يكون إلى بلد مسلم يحفظ الإنسان دينه وعرضه، أما السفر إلى بلاد الكافرين فمنهي عنه ومشدد فيه.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا برئٌ من رجل يبيت بين ظهراني المشركين". وإنما رخص أهل العلم فيه بشروط.. منها:
- أن يكون السفر لمطلب شرعي كعلم يحتاجه المسلمون ولا يوجد عندهم، أو لعلاج لا يوجد إلا في تلك البلاد ، أو لدعوة للمتأهلين لها.
- أن يكون لدى المسافر من التقوى ما يحجبه عن الوقوع في الشهوات.
- أن يكون لديه من العلم ما يحفظه عن الشبهات.
إننا نقول: إذا كان لابد من السياحة فنعم لسياحة التأثير لا التأثر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفلات، أما سياحة الخنا والزنا، والهربس والإيدز، والمخدرات والخمور، فلا يرضاها عقل ولا دين.
رسالة إلى الشباب:
أنتم والله عماد الأمم، وقلوبها النابضة، وشرايينها المتدفقة. أنتم جيل اليوم ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد وثمرات الفؤاد، اعلموا أن صلاحكم فيه منافع كثيرة لكن ولأمتكم، واعلموا أنكم مستهدفون من قبل أعدائكم؛ فاحذروا مكر الكائدين. أنتم في فورة القوة، وزهرة العمر؛ فلا يفوتنكم عمر الشباب، ولا تضيعوه فتندمون.
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإني وجدت العمل في الشباب.
إنها فرصة لتحصيل العلم، وبناء الجسم، وتنمية الثقافة والفكر، وإثراء العقل، فعليكم بكل نافع مفيد، وإياكم والجلوس ببلاهة أمام الشاشات الغازية والصور العارية، والأفلام الهابطة، ففيها فساد الخلق والدين.
وختاما نتمنى للجميع قضاء إجازة نافعة، وأوقاتا سعيدة في طاعة الله تعالى .
===============
حتى يغيروا ما بأنفسهم
يتطلع كثير من الإسلاميين إلى السماء مبتهلين إلى الله تعالى أن يرزقهم قائداً كصلاح الدين.. ويرى الكثيرون أنه لا ينقصنا إلا القيادة الحكيمة، وأن هذه الصحوة الإسلامية التي تملأ الآفاق لا ينقصها إلا القائد المتميز فقط !!
ولا شك أن هذه هي إحدى طرقنا الخاطئة في التفكير والنظر وهي (النظرة الأحادية) .. فنحن نتعلق دائماً بما يمكن أن نسميه (الرجل الوحيد) .. رجل أسطورة يغير واقعنا في لحظة ويتحول بنا من مؤخرة القافلة البشرية إلى قيادتها بضربة واحدة من عصاه السحرية؟!!. ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز الرجل الوحيد عن حل مشاكلنا وتغيير واقعنا؟!.
إن هذا الفهم الخاطئ لدور القائد والأمة في تحمل المسئوليات يضر بالقادة ويضر بالأفراد، فعلى مستوى القادة ينمي فيهم هذا الفهم الفردي في التخطيط ويجعلهم يتصارعون مع كل من يحاول المشاركة في الرأي أو العمل، وفي نفس الوقت فإن هؤلاء القادة لا يستطيعون عمل كل شيء بمفردهم فينتهي الأمر إلى الفشل والإحباط. ثم لنفرض أن لديهم إمكانية القيادة بمفردهم إلا أن هذا النوع من التفكير والعمل يسبب وأد القيادات الوسيطة .
وأما على مستوى الأفراد فإن هذا الفهم يطمس في عقولهم مفهوم المسئولية الجماعية، ويشيع فيهم روح التواكل على القيادات وحدها .. فإذا دعاها الداعي إلى التضحية أجاب لسان حالها ((اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)) ومهما كانت قسوة الهزيمة أمام عيونها فإنها تظل تنتظر حدوث المعجزة وظهور القائد المخلِّص!! بل وينفق الأفراد أوقاتهم في الحديث عن هويته وشخصيته؟!.
وغاب عن هؤلاء أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لم يقم بما قام به بمفرده، ولم ينتصر وحده والناس يتواكلون لا يريدون بذل جهد ولا تقديم تضحية، وإنما كان مع صلاح الدين رجال يعملون ويضحون..
وإذن، فالاعتقاد بأن حاجتنا هي فقط لقائد مسلم ملهم أمر وفهم خطر وضار لأسباب كثيرة أولها وأهمها:
أنه يصطدم بالقوانين القرآنية التي تقرر أن التغيير إلى الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به (القوم) (الأفراد) لما بالأنفس من مفاهيم واتجاهات.. قال عز وجل:(إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). فالآية كما نرى تربط التغيير بتغيير ما (بالقوم) (الأمة)، وليست فرد واحد ..
شطر القضية فقط(2/40)
وإذن فوجود القائد ليس هو كل القضية وإنما هو شطر القضية، وشطرها الآخر هو وجود (الأمة)، ولابد من شروط في القيادة وشروط في الأفراد أو(الأمة) والتفاعل بين الجانبين والانسجام بينهما .. فأمر القيادة منوط بتلك (الصفوة) المؤمنة من العلماء المخلصين والقادة القادرين، وهي العناصر ذات الخبرة والوعي الشمولي والتي تتوفر فيها ملامح العمل القيادي، والتي تستطيع العمل في مستوى قيادي أدنى من القيادة الرئيسية حتى لا يكون هناك ثغرات أثناء العمل.. بالإضافة إلى أن إعدادهم يهيئهم ويؤهلهم لاستلام القيادة مستقبلاً، وهؤلاء هم الذين يشكلون الحلقات القيادية الوسيطة التي تسد الفجوة بين القاعدة العريضة من الجماهير المسلمة، وبين القيادة وهى التي عبرها تتم عملية (بعث الأمة) بدعوة التوحيد بمفهومه السلفي الواضح على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب الأهواء واختلاط العقائد.
وكأني برسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقضى ثلاثة عشر عاماً يربي هذه الفئة، ويصنع الرجال، ويدرب القادة لتحمل مسئولية نشر دعوة الحق بعده - صلى الله عليه وسلم، لقد كان - صلى الله عليه وسلم- يصنع رجالاً يحملون هذه العقيدة فكراً وشعوراً وممارسة، ويربي (أمة) تتلقى أمر الله فيغدو لديها فعلاً وتطبيقاً ويتحول إلى وقائع وأحداث، فلابد أن يلتزم الدعاة إلى الله الآن هذه الخطوة...
فهذه حقيقة يجب على الدعاة اليوم أن يقفوا أمامها كثيراً، إن الدعوة لابد لها من (صفوة) تحملها و(أمة) تحميها.. (أمة) تحمل هذا الدين، وتهدي به وتحاول أن تقول: ((ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)). (أمة) قال الله عنها: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))، (أمة) رعيلها الأول أبو بكر العربي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وإخوانهم الكرام، (أمة) تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع.. الجنسية فيها للعقيدة، والوطن فيها دار الإسلام، والحاكم فيها هو الله، والدستور فيها هو القرآن.
إلا بما صلح به أولها
وإذن فلابد من بعث (الأمة) لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى.. وبعث آخر هذه الأمة إنما يكون بما بعث الله به أولها، فحين ولدت هذه (الأمة) كان ذلك الميلاد صادراً عن عقيدة واضحة قوية ولسان يستمد من القرآن سحره وتأثيره وهذا هو الطريق اليوم .. تصحيح مفهوم العقيدة وتخليصها من كل ما شابها وتجليتها ناصعة واضحة، ودعوة الناس إلى أن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام الأولى وتجريدها من التلبس بغيرها من المفاهيم الغريبة عليه.
ثم الانطلاق بهذا المفهوم انطلاقاً جاداً يتربى خلاله الأفراد على الأخلاق الإسلامية ويدرسون الحركة الإسلامية وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة، وبخاصة من المعسكرات الصهيونية والصليبية.
فإذا وصل الأفراد إلى ذلك المستوى من الخلق والفهم فلربما يتكون لدينا جيل (الصفوة) الذين على أكتافهم تقع مسئولية تكوين وتربية الدعاة الصادقين الذين عبرهم يتم بعث الأمة وإحياؤها من جديد.
وختاماً نؤكد أننا لن نستطيع أن ننقذ ذريتنا من الأجيال القادمة من براثن الجاهلية إلا بالعمل الشاق وتربية جيل مسلم و(أمة) مسلمة وعندما نحقق ذلك نكون قد انتصرنا على الجاهلية من حولنا وشرعنا في بناء حياة جديدة إذ بدأنا عملنا بجهود جماعة و(أمة) وليس جهد فرد واحد (قائد)..
================
نحو عالمية الدعوة
ليست شخصية حالمة تلك التي تتطلع في بذلها للدين أن يصل مجهودها إلى المستوى العالمي. وليست من الأماني الكاذبة أن يتمادى الدعاة في تمني اليوم الذي تصبح دعوتهم الإسلامية شأنا عالميا يحسب له ألف حساب .
ونحن في حديثنا عن قضية خدمة الدين نحاول أن نجمع بين الواقعية والطموح العالي، ونجنح عن الدعة والخطط الساذجة بقدر جنوحنا عن التهور والخيال المستحيل . وفرق بين يقين النصر الذي يمثل دعامة أساسية في عقيدة الداعية، وبين مصادمة السنن الكونية بل والشرعية بزعم أن الله سينصر عباده المؤمنين .
تلك الكلمات السابقة وإن كانت صارمة فهي ضرورية قبل أن نشرع في تفصيل العنوان، ذلكم أن من بدهيات العقول أن النتائج رهينة الإمكانيات، والنجاح قرين البذل المتاح، وتحقق الغاية مرتبط بتحقق الوسيلة، وكل ذلك لا يقدح في كرامة الله لأوليائه بالنصر مع الذلة والقلة، فحديثنا عما يجب أن يعتمل في صدر الداعية من حرص على اتخاذ الأسباب .
حقيقة شرعية
إن عالمية الدعوة الإسلامية هاجس ينبغي أن يلح في طموح كل داعية إلى دين الله تبارك وتعالى، ومشروع ينبغي ألا يغيب عن أذهان الغيورين على دين الإسلام. فهي حقيقة شرعية بلا امتراء، قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله له ) وقال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) رواه مسلم .(2/41)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز به الإسلام، وذلا يذل به الكفر). رواه أحمد والحاكم .
ضرورة إنسانية
وفوق كونها حقيقة شرعية هي ضرورة إنسانية تستنهض همة كل مشفق على حال البشر وسكان الكرة الأرضية، فالكفر يلف أرجاء الأرض، والفجور يستعلن على حين غفلة من القيم والمثل، وأضحى للكفر والفجور دولة وسلطان، وصارت ممارسات الفسقة تتحلى بغطاء الشرعية، فالكفر يتزيا بحلة حرية الفكر، والشذوذ الجنسي ينافح عن حقوقه تحت غطاء الحرية الشخصية، والمرأة تريد أن تتبرأ من الحياء بزعم التحرر من القيود الجائرة، بل إن براءة الأطفال تغتال بالخطف والاستغلال الجنسي تحت أضواء المدنية الكاذبة .
كل ذلك ألا ينادي على النفوس الأبية أن تسعى لخلاص لتلك البشرية المغلولة، أو تنافح عن القيم والمثل الضائعة في غابة الشهوات والغرائز البهيمية؟!.
لم تعد مسؤولية الدعاة محصورة في نطاق المسجد الذي يخطبون فيه أو يلقون محاضراتهم، وفي حدود قاطني الحي الذي يسكنون فيه، إن حزام المسؤولية يتمادى في الاتساع ليصل إلى كل نفس منفوسة تدب على هذه الأرض. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء) رواه الترمذي، وإسناده حسن. قال العلماء في تفسير هذه الحديث: إن العلماء لهم دور في الوصية بالكائنات الحية، حتى إنهم يوصون الناس بإحسان الذبحة كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنفعهم عام على كل الخلاق، ولذلك تتذكرهم بالخير والدعاء.
وإذا كان هذا حال الحيتان فما بال البشرية التي التائهة في سرداب شهواتها؟! إنها أحرى بأن تحتل مساحة من اهتمامنا معاشر الدعاة. وقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنا على الناس ألا يكونوا مؤمنين، وسهر الليالي ساجدا يدعو ربه متضرعا: أمتي أمتي! فصلى الله وسلم على ذلك النبي الشفيق الذي حمل هم توصيل الدين إلى كل البشرية.
الواقعية لا الأحلام
وإذا كانت هذه الهمة العالية تمثل نسيجِ طموحِ كل داعية إلى الله تعالى، فإنه إزاء تعظيمه لشعائر الله وفرائضه يأبى أن يكون مجرد مراهق ينشغل بالأحلام والأماني الخادعة، ويجمح وراء خيال هاو وسراب كاذب.
إنه يمزج هذا الطموح بتخطيط واقعي، ويبني آمالا صادقة على جهود مخلصة، ثم يكل النتائج إلى الله تبارك وتعالى. هو لا ينظر إلى كراسي الحكم والسلطة بقدر ما يتمنى أن يحوز كرسيا واحدا في جنة الخلد. يحدوه الطمع في رضا الله فيبذل حق البذل ليحوز السلعة الغالية {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}.
إنه قليل الكلام كثير العمل، سريع التأثر بواقع المسلمين والاستجابة لنداء البذل، إذا ما أقبل على عمل دعوي تسامى في العطاء له، وإذا فكر في مشروع أعد له العدة الكاملة، يتخذ الأسباب التامة محاطة بتوكل على الله وثيق، يحترم التخصصات ويأبى الفوضى والارتجالية، إنه مثال الداعية الذي يحمل هما عالميا، ويغذيه طموح عال، ومثل هذا تفتقر إليه الدعوات العالمية، ويعد طاقة دفاقة لكل من حوله من العاملين .
عالمية الدعوة في عالمية الداعية
إن نصف مساحة العالم الإسلامي دخلت في الإسلام صلحا ودعوة ومعاشرة لا عنوة وحربا، مما يثبت أن عالمية الإسلام في عالمية الداعية، وأن السيف لم يرفع إلا على الظالمين والغاصبين لحق البشرية أن تؤمن بربها وإلهها.
وإن تغلغل الإسلام في أوروبا والأمريكتين بل وفي روسيا والصين وإفريقيا وأستراليا مع قلة الدعاة وضعف الإمكانيات لدليل على أن هذا الدين الحق لو قُيض له من الحملة من يجهرون به في كل ميدان ويطوفون به في كل صقع لتغيرت خريطة العالم في سنوات معدودة .
إن طرق خدمة الدين كثيرة، وأساليب نشره بين الناس وفيرة، وميادين النداء إليه شاسعة، وما سطرناه في هذه الأوراق مساهمة متواضعة نحو عالمية الدعوة، فمن أمانينا أن تتجيش كل الطاقات في خدمة الدين فنفاجيء الباطل بجندي للحق في كل شبر على وجه الأرض، ونجابه الظلم والطغيان، ونواجه الكفر والفجور، ونضيق الخناق على إبليس وجنوده، ونحكم الحصار على إغواءات الشياطين.
إن عالمية الدعوة ستتحقق بجلاء ويقين يوم نرى كل مسلم يساهم بأي جهد في سبيل دينه وأمته، يوم نرى كل مسلم يحاسب نفسه: ماذا قدم لدينه وأمته؟ يوم نرى حديث الناس في المقاهي والطرقات والبيوتات ومجالس السمر يدور حول هم الدين وشأن المسلمين، يوم نرى الأسرة تَدَّخِرُ من قوتها رغيفا تبذله لجائع أو محتاج ، يوم نرى الأغنياء يتبارون في أَرْيَحِيَّة صِدِّيقِيَّة نحو الإنفاق في سبيل الدين، يوم نرى الدعاة قدوة لغيرهم في حمل أمانة الدعوة وتبليغها للناس.(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) .
===============
ولكُنَّ في أسماء .. عبرة
وجود القدوة أمر ضروري يعين الناس على العمل والتشبه بهم، وهو أيضا لإقامة الحجة على الناس، ولذا أمر الله نبيه- وهو قدوة القدوات - أن يتخذ له من النبيين قبله قدوة فقال: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، وقال لأمته: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه"، ولابد أن يكون المتخَذ قدوة من جنس من يقتدون به حتى لا يكون لهم على الله حجة؛ ولذلك لما طلب المشركون أن يرسل الله لهم ملكا رسولا بدلا من البشر رد عليهم سبحانه بقوله : " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا"..(2/42)
وقد جعل الله في هذه الأمة وسابقاتها قدوات كثيرين من الرجال وكان النساء في هذا الجانب أندر وأعز، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ... ولكن الله لم يحرم نساء هذه الأمة من نماذج تقتدي بهن المؤمنات وهن والحمد لله كثيرات كأمهات المؤمنين، وصحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيرهن من التابعيات الجليلات .. ونحن هنا نقدم للمؤمنين والمؤمنات واحدة من هؤلاء الفضليات:
إنها أسماء بنت أبي بكر الصديق .. أم عبد الله القرشية التيمية المكية ثم المدنية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير وأخت أم المؤمنين عائشة وآخر المهاجرات وفاة، روت عدة أحاديث وعمرت دهرًا وتعرف بذات النطاقين.. الصادقة الذاكرة، الصابرة الشاكرة، أسماء البطولة، أسماء الصدق ، أسماء الطهر أسماء الجود أسماء الكرم أسماء الشجاعة أسماء الفداء... وغيرها من المعاني التي تجدها في ترجمتها، وكيف لا تكون كذلك وهي سليلة بيت الخير، ومجاورة بيت النبوة، وأخت عائشة الصديقة الكبرى، والتي كانت تكبرها أسماء بعشر سنين؟!
أسماء العبادة والجود
يقول ابن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسماء، وجُودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه، وأما أسماء فكانت لا تدخر شيئا إلى غد.
وعن فاطمة بنت المنذر : أن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها .
ويقول ابن أبي مليكة عنها: كانت أسماء تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.
يقول ابنها عروة: دخلت على أسماء وهي تصلي فسمعتها وهي تقرأ هذه الآية "فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم" فاستعاذت فقمت وهي تستعيذ، فلما طال عليّ أتيت السوق ثم رجعت وهي في بكائها تستعيذ.
أسماء الكرامة والإباء
إنها الكريمة الأبية واضعة قاعدة الكرامة حين قالت لابنها عبد الله بن الزبير، وقد أحاطت به جنود الحجاج : يا بني عش كريما ومت كريما، لا يأخذك القوم أسيرًا.
ولما قتل الحجاج ابنها عبد الله دخل عليها فقال : يا أمه .. إن أمير المؤمنين قد وصاني بك فهل لك من حاجة ؟
قالت : لست لك بأم ولكني أم المصلوب على راس الثنية، ومالي حاجة.. ولكن أحدثك .. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج من ثقيف كذاب ومبير: فأما الكذاب فقد رأيناه - تعني المختار الثقفي - وأما المبير فأنت .
وقال القاسم بن محمد: جاءت أسماء بنت أبي بكر مع جوار لها، وقد ذهب بصرها، فقالت: أين الحجاج؟ قلنا ليس ههنا ، قالت: فمروه فليأمر لنا بهذا العظام فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المثلة .. قلنا إذا جاء قلنا له.. قالت إذا جاء فاخبروه أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن في ثقيف كذابا ومبيرًا.
أسماء والهجرة
وإذا ذكرت الهجرة فحيهلا بأسماء .. كانت وقتها ما زالت فتاة صغيرة يافعة، ولكنها حملت أمانة أشفق من حملها الرجال، عندما دخل النبي وصاحبه إلى الغار كانت تقطع ثلاثة أميال في جوف الليل ووحشة الطريق بين أسنة الصخر ومساحات الرمال الشاسعة حتى تصل إلى الجبل فتصعد إلى قمته منحدرة إلى الغار لتقوم بمهمة الفدائي وحمل أمانة الإمداد والتموين للرحلة المباركة ـ فبارك الله فيها وعليها:
روى البخاري وأحمد عنها قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى المدينة صنعت سفرته في بيت أبي بكر، فقال أبو بكر: ابغيني معلاقا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصاما لقربته فقلت ما أجد إلا نطاقي!! قال: فهاتيه.. قالت: فقطعته باثنين فجعل إحداهما للسفرة والأخرى للقربة؛ فلذلك سميت ذات النطاقين.
وانطلق النبي وصاحبه مهاجرين وجاء المشركون للبحث والتنقيب ومعرفة الطريق ولكن أنى لمثل أسماء أن تخبرهم وتفشي خبر النبي صلى الله عليه وسلم!! تقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر قالت:" قلت: لا أدري والله أين أبي. قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي، قالت ثم انصرفوا.
وبعد درس الصبر هذا وحفظ الدعوة وأهلها يأتي درس آخر أجمل حيث تقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه، فدخل علينا جدي أبو قحافة ـ وقد ذهب بصره ـ فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟! قلت: كلا يا أبت!! إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرا.. فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت ـ كان أبي يضع فيها ماله ـ ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك يا أبت على هذا المال، فوضع يده فقال: لا بأس.. إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، ففي هذا لكم بلاغ .. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
رسالة إلى كل زوجة(2/43)
وفي زمان تتفنن فيه الزوجات للتهرب من أداء واجبهن نحو الأزواج تأتي الرسالة إليهن من أسماء ليعرفن ماذا ينبغي أن تفعل الزوجات.. تحكي أسماء عن نفسها فتقول: تزوجني الزبير، وكان له فرسه فكنت أسوسه وأعلفه وأدق لناضحه النوى وأستقي وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي ـ وهي على ثلثي فرسخ ـ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر، فدعاني فقال: إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت وذكرت الزبير وغيرته. قالت فمضى، فلما أتيت أخبرت الزبير فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني .
وللأمهات أيضا
لقد كان موقف أسماء مع ابنها عبد الله بن الزبير شامة في جبينها ورسالة أرسلت بها إلى كل أم مسلمة درسا في كيفية التربية والحث للأبناء على الرفعة ورباطة الجأش وذلك خلال حرب الحجاج له، فما زالت تقف بجانبه تشد أزره وتقوي قلبه وتقول له وقد أحاطت به جنود الحجاج: يا بني عش كريما ومت كريما، لا يأخذك القوم أسيرًا.
قال عروة دخلت أنا وأخي قبل أن يقتل على أمنا بعشر ليال وهي وجعة، فقال عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت وجعة. قال: إن في الموت لعافية . قالت: لعلك تشتهي موتي فلا تفعل. وضحكت وقالت: والله ما أشتهي أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك: إما أن تقتل فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني.. إياك أن تعرض على خطة فلا توافق فتقبلها كراهية الموت. وكان عمرها عند ذلك مائة سنة.
وقتل الحجاج عبد الله بن الزبير وصلبه، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟! فقال المنافق؟ قالت: والله ما كان منافقا، كان صواما قواما برا. قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت. قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله يقول في ثقيف كذاب ومبير.
وجاء ابن عمر ليعزيها عندما قيل له: إن أسماء في ناحية المسجد، فمال إليها فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري. فقالت: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
قال ابن أبي مليكة: دخلت علي أسماء بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقالت: بلغني أنهم صلبوا عبد الله منكسا، اللهم لا تمتني حتى أوتى به، فلم يلبث أن أتيت به فغسلته بيدها وطيبته ثم حنطته ثم دفنته وصلت عليه. بعد ما ذهب بصرها. قال أيوب فحسبته قال فعاشت بعد ذلك ثلاثة أيام.
قال ابن سعد ماتت بعد ابنها بليال وكان قتله لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.
قال الإمام الذهبي في السير: قلت كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات.
فرضي الله عن أسماء ورضي عنهم جميعا من آل بيت.
==================
الحركة في قاموس الدعاة
الحركة كما يقولون ولود، والسكون عقيم، والحركة في قاموس الدعاة هي الحياة، والسكون هو الموت، والحركة هي الحد الفاصل بين عهد الرخاوة، وبين عهد حمل الأمانة بعزم وحزم ووفاء.
وبالحركة انتشر المسلمون الأوائل مثل شعاع الشمس في أقطار الأرض، يفتحون البلاد، وقلوب العباد، ويدعون إلى التوحيد، ويحطمون الطواغيت، ويقودون الناس إلى الجنة. وبالحركة صاروا في ظلمات الحياة سراجًا وهَّاجًا، فإذا الباطل رماد بعد التهاب، وخمود بعد حركة.
والماء إذا سكن فسد ، والأسد إذا توقفت عن الصيد ماتت جوعا، والسهم لا يصيب إلا إذا أطلق من كنانته وقوسه كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
إِني رأيتُ وقوف الماء يفسده.. ... ..إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يطب
والأُسْدُ لولا فراق الأرض ما افترست.. ... ..والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة.. ... ..لملَّها الناس من عجم ومن عربِ
فعلى الداعية أن يتحرك، ويحرك الآخرين، مبتدئًا بعشيرته الأقربين:
كُنْ مشعلاً في جُنْح ليلٍ حالكٍ.. ... ..يهدي الأنَامَ إلى الهدى ويُبيِّنُ
وانشط لدينك لا تكنْ متكاسلاً.. ... واعمل على تحريك ما هو ساكنُ
وابدأ بأهلك إنْ دعَوَتَ فإنهم.. ... ..أولى الورى بالنصح منك وأَقْمَنُ
والله يأمر بالعشيرة أوَّلا.. ... ..والأمر من بعد العشيرة هَيِّنُ
الحركة قيامة وبعثُ للرُّوح:
"لا يكون المؤمن العامر القلب إلاَّ متحركًا محركًا، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعد ما تظهر بوادر النجاح، فإنما يعد وعد الضعاف. فلا تؤجل الانضواء تحت لواء الحق، وإلاَّ عضضت أسنة الندم.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الجوشن الضبابي إلى الإسلام بعد بدر؛ فقال له: "هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا. قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك، فانظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك". فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فكن رائدًا، وأجب داعي الله، بلا تلكؤ ولا تلعثم، ولا تردد، فهذا هو شأن المؤمنين.
قال إبراهيم عليه السلام: "يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر". قال: "فاصنع ما أمرك ربك". قال: "وتعينني؟". قال: وأعينك".
وقد كان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ينادي في موسم الحج: "من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي؟". وهاهو صلى الله عليه وسلم يناشدك: "بلِّغوا عني ولو آية". ويدعو لمن يبلغ عنه: "نضَّر الله امرءًا سمع منَّا شيئًا، فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبلِّغٍ أوعى من سامعٍ". ورُوي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".
واسمع إلى الغزالي رحمه الله وهو يقول:(2/44)
"اعلم أن كل قاعدٍ في بيته أينما كان فليس خاليًا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه - فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شراعهم"اهـ.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يفسر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ)[المدثر:1،2] فيقول:
"فواجب على الأمة أن يُبَلِّغوا ما أُنزل إليه، وينذروا كما أنذر، قال الله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة:122].. والجن لما سمعوا القرآن: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)[الأحقاف:29]"اهـ.
وهذا تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله يقول: "وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلاَّ ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه"اهـ.
إن سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن، ومن أراد المنزلة العليا القصوى من الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا، واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن.
إذا ما علا المرء رام العلا.. ... ..ويقنع بالدون من كان دونا
وليست هذه المنزلة العليا في الدنيا إلاَّ منزلة الدعوة إلى الله، ووراثة وظائف النبوة، التي ليس أشرف منها إلاَّ منزلة النبوة نفسها، وهذا الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى يناديك:
"ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم". و"هل كان شغل الأنبياء إلاَّ معاناة الخلق، وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر"اهـ.
وهاهو رحمه الله يقارن بين الشجعان الذين يخالطون الناس لدعوتهم، ويصبرون على أذيتهم، وبين المتخاذلين المعتزلين القاعدين عن الدعوة إلى الله تعالى، فيقول:
"الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، ومن جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. إلاَّ أنها حالة الجبناء. فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام".
ويقول الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو في شيخوخته: من كملت معرفته لله عز وجل صار دالاًّ عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا، يعطي القوة حتى يهزم إبليس وجنده، يأخذ الخلق من أيديهم. يا من اعتزل بزهده مع جهله؛ تقدم واسمع ما أقول، يا زهاد الأرض تقدموا. خربوا صوامعكم، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل، ما وقعتم بشيء، تقدموا".
وكذلك فهم العالِم العامل، وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا. هكذا كان شأن الدعاة دومًا، وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحًا في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.
انظر مثلاً كيف كانت رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام، وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألاَّ ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: "لا أزيد عليهن ولا أنقص" كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد! أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟".
أتاهم رسوله داعيًا، وكذلك الناس تُؤتى، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية، ولو فصَلت كلمة هذا الأعرابي، لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها، لا بد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم، ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلاَّ فراوح في مكانك، فإنك لن تبرحه..".
ويروي لنا التابعي الكروفي، الفقيه النبيل، عامر الشعبي، أن رجالاً "خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبًا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟. قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم؛ فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا.
كان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله.
لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس، فالداعية يفتش عن الناس، ويبحث عنهم، ويسأل عن أخبارهم، ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته، فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب.
نماذج من حركة السلف(2/45)
عن جعفر بن سليمان قال: "سمعت مالك بن دينار يقول: لو استطعت أن لا أنام؛ لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعوانًا، لفرَّقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس! النارَ النارَ".
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: "كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ، ويذكر ويبكي، حتى لكأنه يودِّعُ أصحابه ذاهبا إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس فكأنه بين الموتى حتى يقوم، ولكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها".
وعن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبًا وراجعًا".
والإمام الزهري: "لم يكتف بتربية أجيال وتخريج أئمة في الحديث، بل كان ينزل إلى الأعراب، يعلمهم".
أما الشيخ أبو إسحاق الفزاري رحمه الله: فقد "كان رجل عامة، وهو الذي أدَّب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلَّمهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه".
وأما الإمام الجليل الخِرقي صاحب "المختصر" فقد قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "وسمعت من يذكر أن سبب موته، أنه أنكر منكرًا بدمشق، فضرب، فكان موته بذلك".
وقال جعفر بن برقان: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز، وقال في كتابه: "ومُرْ أهل الفقه من جندك، فلينشروا ما علمهم الله في مساجدهم ومجالسهم، والسلام".
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: "إن أوثق عملي في نفسي نشري العلم". وعطاء بن أبي رباح مفتي مكة هو القائل: "لأن أرى في بيتي شيطانًا؛ خير من أن أرى فيه وسادة، لأنها تدعو إلى النوم".
وما أجمل ما قال الشيخ القرضاوي وهو يجادل الخاملين، ويحاج الخامدين، ويوبخ الهامدين:
قالوا: السعادة في السكون.. ... وفي الجمود وفي الخمود
في العيش بين الأهل .. ... ..لا عيش المهاجر والطريد
في المشي خلف الركب في .. ... دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال.. ... ..فلا اعتراض ولا ردود
في أن تسير مع القطيع.. ... .. وأن تقاد ولا تقود
في أن تصيح لكل وال:.. ... .. عاش عهدكم المجيد
قلت: الحياة هي التحرك.. ... ..لا السكون ولا الهمود
وهي الجهاد، وهي يجا.. ... ..هد من تعلق بالقعود؟
وهي التلذذ بالمتاعب.. ... ..لا التلذذ بالرقود
هي أن تذود عن الحياض.. ... ..وأي حر لا يذود؟
هي أن تحس بأن كأس.. ... ..الذل من ماء صديد
هي أن تعيش خليفة .. ... في الأرض شأنك أن تسود
وتقول: لا، ونعم، إذا ما.. ... ..شئت في بصر حديد
ــــــــــــــــــــ
انظر "علو الهمة" للشيخ محمد إسماعيل
==============
الدعاة وحمل هم الأمة
لم تكن صرخة حبيب النجار بقومه حين جاء من أقصى المدينة يسعى بالنصيحة لهم مجرد حادثة من رجل أحب الخير لأهله وخشي عليهم الهلاك والعذاب، كما لم تكن صيحة مؤمن آل فرعون بقومه كذلك .. وإنما كان ذلك علامة على أن من أعظم ما يهتم به الداعية المؤمن المشفق هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، كما يتضح ذلك جليًّا لمن تدبر سيرة سيدنا نوح على سبيل المثال، وكذا قصص سائر المرسلين، حتى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا أتباعهم إلى يومنا هذا .
وأنت إذا تأملت قوائم عظماء رجالات الإسلام من الرعيل الأول فمن بعدهم لرأيت أن "علو الهمة" هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز بهم الإسلام، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مجددين أو مجاهدين أو مربين أو عُبَّاد صالحين، ولو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء ملتهم، ولا تزينت بذكرهم صحائف التاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.
لقد كانت أسوتهم في حمل هَمِّ الأمة - بل في كل باب من أبواب الخير - هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الذي شارك المسلمين آلامهم، وكان في حاجتهم حتى حطمه الناسُ صلى الله عليه وسلم.
فعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: "أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالسًا؟" قالت: "بعد ما حطمه الناس". أي حملوه أثقالهم حتى صار شيخا محطوما. والحديث رواه أحمد ومسلم.
وتأمل استنكاره صلى الله عليه وسلم دعاء الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا" وقوله له: "لقد حجَّرت واسعًا". وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة". وقوله صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الجنة: "ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم".
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي.. ... ..سحائبُ ليس تنتظم البلادَ
والداعية إلى الله الكبير الهمة يقدر تبعات هذا المقام الرفيع، فهو يظمأ حيث يروي الناس، ويسهر حيث ينامون، ويجوع حيث يشبعون، ويتعب حيث يستريحون، ويقدم حيث يحجمون.
عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "كنا إذا احمَّر البأسُ، ولقي القومُ القومَ اتَّقَيْنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحدٌ أدنى من القوم منه".
وعن البراء رضي الله عنه قال: "كنا والله إذا احمَّر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به صلى الله عليه وسلم".(2/46)
وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وأجودَ الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناسُ قِبَلَ الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناسَ إلى الصوت، وهو يقول: "لم تُراعوا؛ لم تراعوا(أي لا تخافوا)، وهو على فَرَسٍ لأبي طلحة عُرْي ما عليه سَرْجٌ، في عنقه سيف، فقال: "لقد وجدته بحرًا، أو: إنه لَبحر".
قال صلى الله عليه وسلم: "...ولأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته - وأشار بأصبعيه - أفضل من أن يعتكف في مسجدي - أي مسجد المدينة - هذا شهرين".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
وعن عبد الكريم أبي أمية قال: "لان أردَّ رجلاً عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر".
وتصف فاطمة بنت عبد الملك زوجها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فتقول: "كان قد فرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه؛ وصل يومه بليلته".
وقال أبو عثمان شيخ البخاري رحمه الله: "ما سألني أحد حاجة إلاَّ قمت له بنفسي، فإن تَمَّ؛ وإلاَّ قمت له بمالي، فإن تمَّ، وإلاَّ استعنا له بالإخوان، فإن تم، وإلاَّ استعنت بالسلطان".
وكان الليث بن سعد رحمه الله: "يجلس للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت".
واعتادت أم الشيخ "محمد رشيد رضا" رحمه الله أن تراه مهتمًّا لأحوال المسلمين إذا ألمَّت بهم أو بأحدهم نائبة، ورأته ذات يوم على هذه الحال، فقالت له: "مالك؟ هل مات مسلم بالصين؟". وهذا يدلك على مدى اهتمامه الشديد بأحوال المسلمين في كل أرض الله الواسعة وليس في جهة بعينها وهذه قومية الإسلام ورابطته العظيمة.
إن هذه العلاقة بين الداعية وقومه دائمة وقائمة في كل الأوقات وعلى كل الأحوال، ولا يجد الداعية مناصا عنها ولا مفرا مهما كان حاله وهذا ما صوره شاعر الدعوة الإسلامية المعاصر عمر بهاء الدين الأميري، وهو في جناح طب القلب، موصول الصدر إلى جهاز المراقبة الإلكتروني بأسلاك تفل من حركته، يُحقن في البطن كل يوم مراتٍ بإبر لإماعة الدم، وقد جاء الطبيب، يسأل القائم على التمريض عن استراحة شاعرنا، فيرد عليه باستغراب، وبفهم يختلف عن فهمه، فيقول الشيخ:
كلا رويدك يا طبيب.. ... ..وقد سألتَ: أما استراحْ؟
هل يستريح الحُرُّ يوقد.. ... ..صدرَه العبءُ الرزاح؟
ـــــــــــــــــــــــــ
انظر "علو الهمة" للشيخ محمد إسماعيل المقدم
==============
كاد أن يبيع الإسلام بعشرين بنساً..!!
منذ سنوات، انتقل إمام أحد المساجد إلى مدينة لندن في بريطانيا، وكان يركب الباص دائماً من منزله إلى البلد، وخلال تنقله كان أحياناً كثيرة يستقل نفس الباص بنفس السائق.
وبعد انتقاله بأسابيع ركب الباص، وبعد أن دفع الأجرة وجلس، اكتشف أن السائق أعاد له 20 بنساً زيادة عن المفترض من الأجرة.
فكر الإمام وقال لنفسه: إن عليه إرجاع المبلغ الزائد لأنه ليس من حقه.. ثم فكر مرة أخرى وقال في نفسه: "إنسَ الأمر، فالمبلغ زهيد وضئيل، ولن يهتم به أحد ... كما أن شركة الباصات تحصل على الكثير من المال من أجرة الباصات ولن ينقص عليهم شئ بسبب هذا المبلغ، إذن سأحتفظ بالمال وأسكت.
توقف الباص عند المحطة التي يريدها الإمام، ولكنه قبل أن يخرج من الباب، توقف لحظة ومدّ يده وأعطى السائق العشرين بنساً وقال له: تفضل، أعطيتني أكثر مما أستحق من المال.
فأخذها السائق وابتسم وسأله: " ألست الإمام الجديد في هذه المنطقة؟ إني أفكر منذ مدة في الذهاب إلى مسجدكم للعبادة، ولقد أعطيتك المبلغ الزائد عمداً لأرى كيف سيكون تصرفك"
وعندما نزل الإمام من الباص، شعر بضعف في ساقيه وكاد أن يقع أرضاً من هول الموقف فتمسك بأقرب عامود ليستند عليه، و نظر إلى السماء ودعا باكيا: "يا الله، كنت سأبيع الإسلام بعشرين بنساً!!!"
أنت أيضا لا تبعه
أيها الأخ الحبيب إننا قد لا نرى ردود فعل البشر تجاه تصرفاتنا، لكننا ربما نكون القرآن الوحيد الذي سيقرؤه الناس، أو الإسلام الوحيد الذي سيراه غير المسلم؛ لذا يجب أن يكون كلٌ مِنَّا مثَلاً وقدوة للآخرين ولنكن دائماً صادقين، أمناء لأننا قد لا نُدرك أبداً من يراقب تصرفاتنا، ويحكم علينا نحن المسلمين... وبالتالي يحكم على الإسلام من خلال تصرفاتنا.
إن أعمال الداعية هي الجزء المرئي من هذه الدعوة، واللسان الناطق الذي يراه ويسمعه الناس فيتأثرون به، ولذلك لم يفهم السلف الفصل بين وظيفة رجل الدولة ووظيفة التعليم والتربية، وكانوا يرون أن رجل الدولة رجل تربية أيضا .
والدعاة الربانيون كما قال الأئمة: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها .
دقة مركز القدوة .
مركز القدوة حساس جدا ، ويجب أن لا يوضع فيه إلا من كان مستعدا للأخذ بالعزيمة والبعد عن الرخص، وإلا من كان يغلب عليه الجد والزهد والتجرد، ويشتاق إلى التعب والبذل، لأنه إمام لمن حوله يقلدونه، ولابد أن يكون فعله أبلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله، لأن المنظر أعظم تأثيرا من القول .
ومن هنا، لما هم إمام مصر الليث بن سعد بفعل مفضول ينافى العزيمة قال له إمام المدينة يحيي بن سعيد الأنصاري: (لا تفعل ، فانك إمام منظور إليك)
ومعلوم أن جميع من يساهم في أعمال الدعوة إنما هو في الحقيقة يمثل قدوة لطائفة من الناس يتحمل تأثيرها، فيجب أن يحوز شرط القدوة العملية.(2/47)
إن الرجل الصادق يكلم الناس بلسان فعله أكثر مما يكلمهم بلسان قوله، فإذا نظروا إلى تصاريفه في مورده ومصدره، وخلوته وجلوته، وكلامه وسكوته، ينتفع بالنظر إليه، فهو نفع اللحظ.. ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضا لا ينفع، لأنه يتكلم بهواه، ونورانية القول على قدر نورانية القلب، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها؛ وقد قيل قديما: من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه. قال الشافعي: "من وعظ أخاه بفعله كان هاديا". وكان عبد الواحد بن زيد يقول: (ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه) .
والداعية الصادق تستمر هيبته الإيمانية في تعاظم، وتظل في تصاعد ما تصاعدت هيبته لله تعالى وتعاظمت اهتمامات قلبه بدعوته، حتى يغدو منظره قاطعا لغفلة ناظره .
فلكل هذا كان من فقه الدعوة دقة اختيار من يكون قدوة، ولا تساهل في الأمر، ولا نخدع أنفسا فنبرر التساهل تجاه البعض بعدم تسميتهم قدوات، وبوصف مهمتهم بغير وصف التربية، فإن كل من يتعامل مع الدعاة فإنما الداعية قدوة لهم، من حيث إمكانية رؤيته وسماع قوله، ووجود تأثر السمع به، فإن انضاف لذلك إيحاء وصف الداعية بأنه من المربين زاد التأثير ولا شك، وتفتحت القلوب لقبول كلامه ومواعظه، فإن عضدها فعله فنعمت المواعظ منه، وإن لم تترجمها حياته اليومية معهم إلى أفعال فإنها لا تعدوا أن تكون هذرًا منفرًا.
إن الموعظة إن لم تتأدّ في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وإنه لا يغير النفسَ إلا النفسُ التي فيها قوة التحويل والتغيير، كنفوس الأنبياء ومن كان في طريقة روحهم.. وإن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام، وليس وضع القياس والحجة، وإن الرجل الزاهد الصحيح الزهد إنما هو حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئا في الحياة والعمل، لا شيئا في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار، من واتاها أحسها .
ولعمري، كم من فقيه يقول للناس: هذا حرام، فلا يزيد الحرام إلا ظهورًا وانكشافا ما دام لا ينطق إلا نطق الكتب، ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع ، وقد خلا من القوة التي تجعله روحا تتعلق الأرواح بها، وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ قريب راجع إليها بعد قريب
وبإيجاز شديد: إن الأسوة وحدها هي علم الحياة، وعلم الدعوة كله هو الأسوة الصادقة
============
قل هو من عند أنفسكم
كلنا يدرك خطورة المرحلة التي نمر بها وتمر بها الأمة الإسلامية اليوم, وعلى كثرة النوازل والقوارع التي تقرع الأمة وتلم بها وتتسارع عليها, إلا أن كثيرًا من المسلمين ما زالوا يقيمون هذه القواصم وينظرون إليها من جهات متفاوته, فهذا ينظر إليها من منظور اقتصادي, وآخر من منظور سياسي, وثالث من منظور اجتماعي. وقل من ينظر إليها من منظور شرعي .
لقد أغفل الكثير من المسلمين ثوابت أدلت بهذا الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم وأدت إليه. أولها الغفلة عن علم الله السابق لكل ما يقع في الكون, ثم الغفلة عن أن النصر من عند الله, ثم الغفلة عن أن النصر لا يطلب إلا من الله, ثم الغفلة عن أن العزة لله جميعا ومن طلبها من سواه ذل, ثم الغفلة عن أن ما يصيب المسلمين إنما هو بسبب ما كسبت أيديهم, والبعد عن دين الله وتطبيقه في حياة المسلمين, ومنها غير ذلك.
1 ـ فالغفلة عن علم الله السابق تجعل المسلم يشعر بفجاءة الأحداث والنوازل, فتبدو له كأنها وليدة ساعتها وهو لا يدري أن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, كما ورد في الحديث الصحيح عند مسلم. فينصرف ذهنه إلى عالم الـ (لو), ويفتح على نفسه بابا من أبواب الشيطان, فيقول: "لو كان كذا لكان كذا.." وهو عين ما حذرنا منه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
2 ـ وأما الغفلة عن أن النصر من عند الله, فهذه مسألة فرضها على كثير من الخلق الواقع المر الذي يعيشونه والتفاوت الكبير في القدرات العسكرية والقوى المادية، فغفل العامة عن مصدر النصر الأساسي وبابه الأصلي، ولو رجع الناس لكتابهم، كما أمروا في النوازل وغيرها، لوجدوا آيات كثيرة تؤكد هذه الحقيقة, منها ما ذكر بها الله المؤمنين بحالهم يوم الأحزاب وما ابتلاهم . ثم أشار جلت قدرته إلى نصرة المؤمنين يوم الفرقان - يوم بدر- هذه المعركة التي تشتاق لسماعها الآذان, وتختلج القلوب فرحا بنصر المؤمنين على المشركين, أما أن نقول: تتعظ بها النفوس« فهذا أمر بالنسبة لنا لا يعول عليه اليوم, ذلك بأن واقعنا ومنهاج حياتنا ليس فيهما ما يدل على الاتعاظ بها. قال ابن كثير: وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله, ودفع الشرك وخرب محله وحزبه, وبيض وجه النبي وقبيله, وأخزى الشيطان وجيله, ثم قال: وأنتم أذلة أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. واستشهد ابن كثير كذلك بما رواه الإمام أحمد: أن عياضا الأشعري قال: "شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء.. وقال عمر - رضي الله عنه: إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة, قال فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت, واستمددناه, فكتب إلينا أنه قد جاءني كتابكم تستمدونني, وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا, وأحصن جندًا , الله عز وجل فاستنصروه, فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نُصر في يوم بدر في أقل من عدتكم. فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني, قال: فقاتلناهم فهزمناهم".(2/48)
فانظر إلى واقعنا وكيف غفلنا عن حقيقة أن العزة لله جميعا. وصار من المسلمين من يبتغي العزة عند الكافرين.
3 ـ وأما الغفلة عن أن ما يصيب المسلمين من مصائب هو عدل من الله. ذلك بأن الله جلت قدرته قد شهد لنفسه وشهدت له ملائكته وأولو العلم أنه قائم بالقسط. لذا فإن ما يصيب العبد إنما يكون بسبب إتيان الذنوب كما في التنزيل: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)[الشورى:30] قال جمع من المفسرين: إن المصائب هي الأحوال المكروهة كالأمراض, والصواعق, والبلاء, وغير ذلك من النوازل بسبب السيئات التي يقترفها العباد, فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها, وقالوا: ونظير مقدمة الآية قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم)[النساء: 160] قال ابن كثير: فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود, ولا اختلاج عرق, ولا عثرة قدم إلا بذنب, وما يعفو الله عنه أكثر.
يا قومنا ألم يمسخ قوم قبلنا قردة وخنازير لما باتوا في لهو وطرب? ألم يغرق الله أقواما ويخسف بآخرين كل ذلك بسبب المعاصي والذنوب، ثم بعد كل هذا نتساءل: لم لا ينصرنا الله على أعدائنا? ومن أين أتانا كل هذا؟..(قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيئ قدير)[آل عمران: 165] .
==============
مقولات في فقه الموقف
الكتاب الذي أصدره الشيخ سلمان بن فهد العودة بعنوان "مقولات في فقه الموقف" هو تعبير عما أطلقنا عليه جدلية الوعي والحكمة ، يناقش الكتاب رغم صغر حجمه قضايا جديدة وهامة ، ففي المقولة الأولى يشير إلى خطر وأهمية أحكام النوازل الكبرى التي تواجهها الأمة (الفواصل في تاريخ الأمة ) وأن هذه النوازل تحتاج ممن يتعرض لها أن يتسلح بما تقتضيه أصولها وقواعدها من الفقه والاستنباط ، وأنها بحاجة إلى إمعان النظر وإعمال العقل بقدر ما تمثله من خطر ، فالهجوم عليها وإصدار الأحكام فيها من غير أهلها المقدرين لخطرها والمتمرسين بمقاصدها ومآلاتها هو تعبير عن غياب الوعي والحكمة ، وفي هذا يقول الشيخ سلمان : " قضايا النوازل تصبح مادة لحديث كل أحد في أسبابها ومفاصلها ومآلاتها ، ويصدق هنا قول ابن عمر رضي الله عنه لبعض أهل العراق: " ما أسألكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة .
ويشير المؤلف إلى أن قضايا النوازل الكبيرة التي تتصل بمستقبل الأمة وحاضرها تقتضي اعتبار حقوق الأمة الكلية والضرورات التي جاءت الشريعة بحفظها وتحصيلها ، ويسوق المؤلف حديث الصحيحين في حصار الطائف لما قال النبي صلي الله عليه وسلم: " إنا قافلون غداً إن شاء الله ، فثقل ذلك على الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم " اغدوا على القتال فغدوا فأصابهم جراح ، فقال صلي الله عليه وسلم : إنا قافلون غداً إن شاء الله.. فأعجبهم .. فضحك صلي الله عليه وسلم .
وهنا.. فإن طلب مقام الصبر والابتلاء في ذات الله قد لا يكون مطلوباً للشريعة إذا تعارض مع مقصود أهم وهو الحفاظ على قوة المسلمين وجهدهم لمواقف أخرى خاصة لو كان مقام الصبر والابتلاء لا يحقق النكاية في العدو بما يكافئ نتائج القتال والجهاد .
الاجتهاد للنوازل :
ينتقل المؤلف إلى المقولة الثانية وهي الاجتهاد للنوازل، حيث يرى أن مسائل النوازل تحتاج إلى إعمال قواعد الشريعة ومقاصدها الكلية وليس مجرد الاستدلال من حوادث فرعية واجتهادات جزئية لعلماء متقدمين في مسائل سابقة مختلفة عن النازلة الجديدة، وهنا فإن مراعاة الأحوال والملابسات التي تجري النوازل في سياقها مسألة هامة للاجتهاد فيها ، فسياق النازلة هو جزء من فهمها والاجتهاد بشأنها والحكم عليها حكماً صحيحاً .
ويشدد المؤلف على أن الاجتهاد لنوازل الأمة يحتاج لمقام العلم أكثر من حاجته لمقام الإرادة ، فحسن القصد وصلاح النية لا يشفع لمن تعرض للاجتهاد في النوازل الكبرى دون علم " فالتقصير في تحقيق العلم والفقه ونقص قيمة الوعي وسلامة التفكير هو من موارد الفتنة وموجبات الفساد ، ويشير المؤلف إلى أن المجتهد في النوازل لابد له من علم خاص يرفعه عن علم العامة ، ويوضح أن طبيعة موقف النازلة قد يكون من التعقيد والتركيب بحيث تتعدد أنظار المجتهدين بشأنه وهذا لا يوجب منازعة بين أهل العلم والاجتهاد ، ويقول المؤلف: " إن الوجه المحكم في الشريعة الذي لا تنفك عامة الأحداث عنه يجب أن يبقي لحمة أهل الاسلام وعصمة اجتماعهم لكن يبقي لخاصتهم حق النظر في إحكام الموقف وتسديده على وفق قواعد الشريعة التي جاءت بتحقيق المصالح ودرء المفاسد .
ويشير المؤلف إلى قصة صلح الحديبية وكيف أن الشروط التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم بدت لكبار الصحابة مفارقة لمقام الجهاد وعلو الإيمان لكنه كان الخير والحق والصواب وسماه الله فتحاً ، وأشار إلى غزوة مؤتة وكيف كان تحيز خالد بن الوليد عن العدو وانسحابه من المعركة نصراً وفتحاً .. فمقام الصبر وبذل النفس وحسن القصد لا يحكم وحده الموقف بل هناك قواعد كلية ومصالح ضرورية وعامة تتصل بالأمة والإسلام لابد من إعمالها وأخذها في الحسبان ، فبسط الإسلام وهدايته وسلطانه وتديين الناس لرب العالمين ورفع الظلم عن المظلومين كلها اعتبارات كلية عامة لابد من أخذها في الحسبان .
الاختلاف المعتبر :(2/49)
يشرح المؤلف الاختلاف المعتبر بين العلماء وهو تعدد أقوال العلماء في المسائل الخلافية والاجتهادية كل حسب نظره وفقهه ، وليس من قدر الله ولا شرعه أن يتفق علماء الأمة في سائر مواضع الاجتهاد ومن لم يقدر هذا المقام قدره فقد اتخذ العلم بغياً ، وإذا تحولت الآراء المتعددة إلى ولاءات خاصة وتعبيرات للحزبية والطائفية فإنها تكون تمزيقاً للأمة وردة للجاهلية وانحرافا عن السنة ، وحيث أن تعدد الاجتهادات في المسائل الخلافية هو أمر تفرضه طبيعة هذه المسائل فإن الواجب على المجتهدين والمختلفين التزام أحكام الإسلام في التزام القواعد الأخلاقية للاختلاف بحيث لا يتحول الخلاف إلى محادة ومشاقة تنتهك قواعد الأخوة الدينية التي تنتظم كل من صح له عقد الإسلام كائناً ماكان خطؤه .
ضبط القصد والولاء :
الولاء والقصد هما من باب الإرادة والهم ولابد لهما من العلم كما أن العلم تلزمه الإرادة والقصد ، والمطلوب هو الضبط والموازنة بين الولاء والقصد والفقه والعمل ، فالحكم على الحدث يحتاج إلى ضبط مادة الولاء مع مادة العلم والفقه وإلا صار الحكم عاطفياً ، كما أن مقام العلم والنظر مع التقصير عن القيام بما يوجبه هذا العلم من الهم والإرادة والعمل هو تقصير وتأخر عن موافقة الشريعة .
ويوضح المؤلف أن بعض النفوس فيها ميل للشوكة والمنعة والتحريب والنكاية وربما غلب عليها ذلك من باب الإرادة والفعل فلا تنظر ما عداه ، كما أن بعض النفوس فيها ميل للعلم والمعرفة فيجعلها ذلك تقصر عن العمل والحركة مما تريده الشريعة ، ومعلوم أن تجريد النفوس عن ميلها الفطري ليس مقدوراً عليه في الجملة ولا هو مناسب ؛ لذلك جاءت الشريعة تأمر بالموازنة بين ما هو حق لذاته والأمر بدفع ما ليس بحق ، فلا يجب اتخاذ الاختلاف النفسي سبباً للبغي والعدوان كما لا يجب اتخاذ العلم بغياً بين أهله . ومن الناس من يتخذ ما معه من العلم سببا للبغي ومنهم من يتخذ طبيعة النفس سبباً للظلم والعدوان .
التفاضل في التكليف :
ليست كل التكاليف على مرتبة واحدة من حيث هي خطاب الشارع للمكلفين ، فالله خلق بني آدم وجعلهم درجات فيما آتاهم ، وفي المواقف العامة فإن التكاليف تتفاوت بقدر سعتها وتعددها ، ولا يجب على أهل الدعوة أن يحصروا أنفسهم في تكليف واحد فسعة الموقف العام والنازلة الكبيرة تحتاج لتعدد المكلفين والعاملين وتكاملهم ، وعدم حصر أنفسهم في دائرة واحدة فقط .
ويقول المؤلف: "حين نعتبر معنى تفاضل التكاليف فمن اللازم ألا يفتأت على الشرع بإيجاب مالم يتحقق إيجابه على المسلمين أو نوع منهم ، والأقدار الربانية التي يبتلي بها أهل الإسلام تدفع بما تأذن به الشريعة وليس بما يفرض مناسباً لدفعها ولو كان فيه شئ من التخطي لحدود الشرع والعقل .
والاستطاعة شرط لوجوب التكليف في حق المكلف ، وغير المقدور عليه ليس من موارد التكليف الشرعي .
القدر الشرعي والكوني
وأشار المؤلف إلى نقطة هامة وهي العلاقة بين القدر الشرعي والكوني وأن الأحكام الشرعية لا تجرد عن اعتبار السنن القدرية الكونية، بيد أنه لا تلازم بين الأمرين كما هو الحال بين الحق والنصر ، فالكثير يتصور أن هذا حق إذن لا بد من النصر لكن النصر قدر الله وقضاؤه لا تدخل فيه اجتهاداتنا وتقديراتنا الذاتية ، لذا لا يجب أن نعطي للناس نبوءات بناء على اجتهاداتنا لأن أمر المستقبل لله وحده ، فالرسل لم يتجاوزوا برسم الوعد الذي يختصر الخيارات ويجعل الإنسان انتظارياً خلاصياً .
كتاب "مقولات في فقه الموقف" رغم صغره لكن يعكس ما يمكن أن نطلق عليه أسس في قواعد التفكير الشرعي والعلمي الصحيح ، ولا تزال مشكلة الحركة الإسلامية الأساسية هي غياب قواعد المنهج في التفكير والنظر والعمل ، وهو تعبير عما أطلقنا عليه جدلية الوعي والحكمة ، والتي تعني الموازنة والاعتدال والضبط بين أطراف المسائل وردها إلى وسطها، فالولاء بحاجة لعلم والعلم بحاجة لإرادة ، والاجتهاد لا يوجب النزاع والتعدي على الأخوة الدينية ، والاختلاف النفسي لا يقود إلي البغي ، والنظر في القضايا النازلة يحتاج إلى مراعاة سياقاتها والتأمل العميق في شأنها ،كلها قضايا هي تعبير عن علاقة جدلية بين الوعي أو المعرفة الحذرة وبين الإرادة والعمل والهم المنضبط بالشرع والحق
===============
اليهود والدعوة والدعاة
اليهود هم أعداء الدعوات، بل قل قادة العداء، ومثيرو البلاء، وأعداء الأنبياء، وهم أهل الفتنة والخسة ، وقبل الكلام عنهم وبيان دورهم في مواجهة الدعوة الإسلامية لابد وأن نبين عدة أمور :
أولا: اليهود الذين لم يؤمنوا بالإسلام بعد مبعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم كفار إلى النار خالدين مخلدين فيها إن ماتوا على كفرهم وعنادهم كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار " ، وقال كذلك : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَو أَنَّ مُوسَى ابن عمران كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي ".
وتعجب كل العجب ممن يدعى أنه مسلم ثم يقول: إن النصارى واليهود إن آمنوا بدينهم دخلوا الجنة وإن لم يدخلوا الإسلام!!!!. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في نواقض الإسلام : ( من لم يكفر الكفار أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعا ) . كمن قال إن اليهود أو النصارى ليسوا كفاراً أو ما عندهم من التوراة أو الإنجيل مثل القرآن .(2/50)
ثانيا : أنهم أعداء لهذه الأمة.. فهم يبغضونها ، قال تعالى : "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا " و اليهود عادوا الإسلام من أول اليوم، فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني لم ألقها في ولد لهما أهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما جاء النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قباء غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلى أحد منهما فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم والله . قال : تعرفه بنعته وصفته ؟ قال : نعم والله . قال : فما في نفسك منه ؟ قال عدواته والله ما بقيت) !!!! . قال تعالى: " الَّذِينَ ءَاتينَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "، وقال تعالى : " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ " ، وكادوا له ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ المكائد وحاولوا عدة مرات اغتياله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ، واستمروا على هذا العداء إلى يومنا هذا .
ثالثا: إن من اتخذ اليهود أنصاراً وأعواناً فهو جاهل أخرق عدو لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " ، وهو لا يعرف التأريخ ، فإن في التأريخ عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وقد أخرج الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (إن لي كاتباً نصرانياً ) فقال : ( ما لك قاتلك الله أما سمعت الله يقول : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالمينَ " ألا اتخذت حنيفياً ؟ ) قلت : ( يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه ) قال : ( لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أقربهم إذ أبعدهم الله ).. هذا كان موقف عمر ـ رضي الله عنه ـ وهكذا يجب أن تكون مواقفنا .
رابعا: إن بغض اليهود وعداوتهم ومخالفتهم ـ عقيدة لنا وشريعة ـ هي من الثوابت التي لا يمكن أن تتغير أو تتبدل بتغير الزمان أو المكان ، ولو لبسوا المسوح وادعوا أن الأمس قد مضى . وكم من حديث قد قال فيه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " خَالِفُوا الْيَهُودَ "، حتى إنهم قالوا: ( مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ )، بل إن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان يكره أن يصلي إلى قبلة يهود وكان دائم السؤال لربه أن يغيرها ، وخاصة إلى المسجد الحرام كعبة إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى : " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"
أسباب العداء
أولاً: الكبر.. فهم يظنون في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، بل قالوا: " نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" فرد الله ذلك عليهم وقال : " قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ "، وهم يرون أن غير اليهود هم مجرد عبيد خلقوا ليخدموهم ، وحمير ليركبوا عليها .
ثانياً: حب الدنيا.. فهم يعشقون هذه الحياة ويحبونها حباً جماً قال تعالى : "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىحَيَاةٍ " ونكر الحياة للدلالة على أنهم يحبون أي حياة ولو كانت حقيرة ، والمراد أن حب الحياة لا يجتمع مع دين الله .
ثالثاً : الحسد.. فهم يريدون كل شيء لهم ولكبرائهم قال تعالى : " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ "، بل هم كذلك حسدوا العرب على هذه النبوة التي ظهرت فيهم قال تعالى : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا " .
أعمال اليهود قاتلهم الله:
1- التكذيب لكل الرسل والدعاة المصلحين؛ ولا يؤمنون إلا قيلاً قال تعالى : " وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ " وهذا هو دأب يهود فالإيمان الحقيقي قليل فيهم ، وهذا فعلهم ودأبهم على مر الأيام وكر الأعوام ، ومع كل الدعوات والأنبياء وإلى يوم الناس هذا.(2/51)
2. قتل الأنبياء والدعاة: وقد قتل اليهود عامة أنبيائهم والدعاة والمصلحين فيهم، بل إن الله جل وعلا حصر موقفهم بين التكذيب والقتل فقال تعالى : " أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ " ، وبين جل وعلا أنه غاضب عليهم إلى يوم البعث لقتلهم الأنبياء فقال تعالى : "وَضُرِبَتْ علَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ " ، ثم توعدهم تعالى بالعذاب لقتلهم الأنبياء والدعاة المصلحين فقال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "، وإن اليهود ـ لعنهم الله ـ قتلوا غير ما نبي ، وهذه أسماء بعض من قتلوا من الأنبياء : ( حزقيال) و( أشعيا بن آموص ) و( يحي ) و( زكريا ) ـ عليهم الصلاة السلام ـ بل إنهم قتلوا محمداً ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فداه أبي وأمي ونفسي فقد قال : فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ " يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ " .
3. تحريف أوامر الله: إن اليهود قد حرفوا دينهم من قبل قال تعالى : " مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا … " ، وقال تعالى : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " ،وقد حاولوا تحريف دين الإسلام ، فلما لم يقدروا لوعد الله بحفظه عملوا على إيقاع الفتن والضغائن بين أهله كما فعل عبد الله بن سبأ (ابن السوداء) ، وعملوا على أن يدخلوا في الإسلام ما ليس منه .
4. الدخول في الإسلام نفاقاً فإن اليهود كما ذكرنا عجزوا عن تحريف الإسلام فدخلوا فيه ثم بدؤوا في الإفساد، وإن المتتبع للعقائد الداخلة على المسلمين يجد لها أصلا عند اليهود فانظر إلى الرافضة أو الصوفية في عامة اعتقاداتهم فهم أشبه ما يكونون باليهود .
5. الدخول في الإسلام ثم الردة عنه : فقد اجتمع عبدالله بن ضيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف فقالوا دعونا ندخل في الإسلام نهارا ثم نكفر بليل فأنزل الله جل وعلا يفضحهم فقال : " وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " ومرادهم التشكيك في الإسلام وزعزعة ثقة المسلمين بدينهم ففضحهم الله .
6. أسئلة التعنت : فقد كان يهود يسألون النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أسئلة لا يريدون بها الفائدة بل محض التلبيس والتضليل على المسلمين ونذكر مثالاً على هذا فقد جاء رافع بن حُريملة إلى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وقال : ( يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامهم ) فأنزل اللهُ تعالى قوله : " وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا ءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" وليس هذا مستغرب عليهم فقد قالوا أكبر منه قال تعالى : "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ "(2/52)
7. التحريش بين المسلمين: فإن اليهود كانوا ـ وما زالوا ـ يحرصون على التفريق بين المسلمين ، فعن زيد بن أسلم أنه قال : مر شاس بن قيس اليهودي - وكان شيخا قد غبر في الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي وأَحد بني حارثة من الأوس ، وجابر بن صخر وأَحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت رددتها جذعا، وغضب الفريقان جميعا وقالا: السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة وهي حرة ، فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: "يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله " فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ" (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " (آل عمران : 100ـ103).
إن اليهود يحاولون دائماً تمزيق دين الإسلام فهم الذين حاولوا قتل عيسى ـ عليه السلام ـ ، وهم الذين حزّبوا الأحزاب يوم الخندق على النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ، وهم الذين أغروا الجهلة بالخروج على عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، وقد استطاعوا بمساعدة قوى الكفر الصليبية للفتك بالخلافة الإسلامية وتغيير معالم الإسلام في العالم ، ثم أن اليهود يحزبون الأحزاب على المسلمين في كل مكان على وجه الأرض . وقد أخبر الله تعالى أن عداءهم للمسلمين لن ينتهي ، وأنهم لا يرضون من غيرهم إلا الدخول في دينهم كما قال تعالى : "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُو الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" .
..........................
عن الهرفي بتصر
==============
أنواع الدعوات والدعاة
شؤون الحياة، وسبلها، وغاياتها، والسعي فيها، والدعوة إليها كثيرة ومتشعبة يجمعها ضربان: الحق والباطل. فالدعوة فيها إلى الله تعالى هي الحق وهي دعوة واحدة لا تشعب فيها ولا تناقض. والدعوة فيها إلى غير الله تعالى هي الباطل، وهي دعوات شتى كثيرة ومتناقضة، يقول الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ )(الحج:62)، والباطل كله ضلال : (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ)(يونس:32).
فالله سبحانه وتعالى هو الإله الخالق، وكل ما عداه مخلوق له (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ)(مريم:65)، فالدعوة إما أن تكون له وحده، وهذه هي دعوة الحق، ودعاتها دعاة الحق، وإما أن تكون دعوات لغيره أيًا كان من المخلوقات: ملك، أو جن، أو نجم، أو جماد، أو حيوان، أو إنسان، أو شهوة، أو أوهام، فتلك هي دعوات الباطل والضلال، على رأس كل منها شيطان، ودعاتها دعاة الباطل والضلال (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(الأعراف:194) .(2/53)
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده، ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيمًا، وخط عن يمينه وشماله ثم قال : هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:153)، وإنما وحّد ( سبيله ) لأن الحق واحد، وجمع ( السبل ) لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة:257) .
فقد وحّد سبحانه لفظ ( النور ) وجمع ( الظلمات ) لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة، إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتشعبه .
وقد ميز الله تعالى بين الدعوتين والداعين إلى كل منهما، فقال تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً) (مريم:48) ، وميز بين مصير دعوات المبطلين وهي باطل، وبين مصير دعوة الله تعالى وهي الحق، فقال تعالى : (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(البقرة:221) .
دعوات الباطل
الدعوات إلى غير الله تعالى هي الباطل وهي الضلال، وقد نهى الله تعالى عنها فقال سبحانه: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)(يونس:106) .
وبيَّن سبحانه أن الدعوات إلى غيره لا تصح، ولا ثمرة لها إلا لخسران، فقال تعالى: (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ )(غافر: 42، 43) . أي لا يصح أن يُدعى ويحث عليه إذ هو ليس بذي بال ولا قدر .
وبيّن سبحانه أن دعاة الباطل لا سند لهم ولا برهان، وأنهم لا يفلحون أبدًا : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(المؤمنون:117) .
وبيّن جماع صفات دعاة الباطل وهي الكفر، ومصير دعواتهم وهو الضلال والضياع، فقال تعالى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(الرعد:14) ، وقال سبحانه: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)(الأحقاف:5) .
ونهى عن مشاركتهم في منهجهم وسلوكهم فقال تعالى آمرًا: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(غافر:66) .
وبيّن حقيقة ما يدعون إليه من دون الله تعالى ونهجهم وهدفهم فقال تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:13) ، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:74) ، وقال عز من قائل : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً)(النساء:117 - 121) ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(النحل:20، 21) ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)(غافر:20) .
دعوة الحق
والدعوة إلى الله تعالى وحده هي دعوة الحق، يقول الله تعالى (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ)(الرعد:14)، أي الدعوة الحق لله وحده .
وقد بيّن سبحانه أنها طريق الاستقامة والمغفرة: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(المؤمنون:73) وقال تعالى : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)(إبراهيم:10).(2/54)
وقد وجّه الله سبحانه رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إلى الدعوة إليه وحده فقال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:25) ، وقال تعالى : (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)(القصص: 87، 88) ، وقال تعالى : (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ)(الحج:67) ، وقال سبحانه : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ)(الحديد:8) .
ودعا المؤمنين ليكونوا دعاة إلى الله تعالى وحده وأن تقوم أمة منهم على أمر الدعوة إليه فقال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104) . وعرّفهم منهجهم وسبيلهم في الدعوة إلى الله تعالى وحده فقال تعالى : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(يوسف:108) .
وبيّنن منزلة الدعوة إلى الله تعالى وأنها بمكان لا يدانيها مكان (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33) .
ودعا إلى الاستجابة لدعوته سبحانه ولدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال:24)
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بصبر النفس مع الذين يدعون ربهم : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْد عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)(الكهف:28) .
وبيّن أن الدعاة إلى الله تعالى إنما يدعون بدعوة الله إلى الجنة والمغفرة بإذنه : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ)(البقرة:221) ، وقال تعالى : (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ)(يونس:25) .
.............................
"فصول في الدعوة الإسلامية
===============
الملأ
الملأ هم أشراف القوم وقادتهم ورؤساؤهم وسادتهم، وهم البارزون في المجتمع، وأصحاب النفوذ والسيادة، هم أشراف المجتمع وسادته، أو هكذا يعتبرهم العامة، وهم أهل الزعامة والقيادة والرئاسة .
هذا خلاصة ما قاله المفسرون في معنى الملأ، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في العديد من السور عند الحديث على قصص الأنبياء، وما جرى بينهم وبين قومهم، وإطلاق القرآن لهذا اللفظ وهذا الوصف على هؤلاء الناس هو من قبيل بيان الواقع لا من قبيل الاستحقاق .
ومن خلال تتبع آيات القرآن وقصص المرسلين نجد أن الوصف الغالب على هؤلاء القوم ( الملأ ) هو معاداتهم للدعوة وأصحابها، ومقاومتهم لانتشارها وتعذيبهم لأتباعها، وعادة ما يقودون حملات التكذيب والافتراء والتضليل ضد الأنبياء أو ورثتهم الدعاة إلى الله ، قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سبأ:34، 35) .
فأعلنوا منذ اللحظة الأولى كفرهم، وأظهروا معاداتهم، ثم جاهروا بسب الأنبياء ووصفهم بما ليس فيهم تنفيرًا للناس منهم وصرفًا لهم عنهم .
فنوح عليه السلام : (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(الأعراف:60) .
وهود عليه السلام لما أرسل إلى قوم عاد : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)(الأعراف:66) .
وعلى هذا سار الملأ من قوم كل نبي في إيذاء الأنبياء والدعاة إلى الله : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذاريات:52) .
وكان إيذاء الملأ من قريش لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أعظم الإيذاء ، فمرة يمشي عمه خلفه ليصرف الناس عنه ويقول : لا تطيعوه ولا تسمعوا منه .ومرة يلقون سلى الجزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة . ومرة يرده سادة ثقيف أقبح رد ويغرون به سفهاءهم فيرمونه بالحجارة ويخرجونه من ثقيف . ومرة يخرجونه وأصحابه من بلده الكريم . هذا إلى جانب التشنيعات والافتراءات التي افتروها عليه، كما افترى كل ملأ على إخوانه المرسلين من قبله ، فهي سنة ماضية، ورثها عن الأنبياء أتباعهم وورثتهم الذين ورثوا عنهم العلم والعمل والدعوة إلى الله تعالى .
أسباب العداوة
والمتأمل في أسباب مخاصمة الملأ لرسلهم ورفضهم لدعوتهم يمكنه إرجاع ذلك إلى عدة أسباب أهمها :
أولاً : الكبر
وهو آفة مهلكة، وخُلقٌ ذميم، يقود صاحبه إلى رؤية النفس واحتقار الآخرين، فيمنع المتكبر عن معرفة الحق، أو عدم الانقياد له بعد معرفته، فهو من أهم أسباب الحجب عن الهداية وسلوك سبيلها، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)(الأعراف:146) .(2/55)
وفي الملأ من قوم نوح عليه السلام عبرة وعظة، فقد قالوا لنوح ٍعليه السلام لما دعاهم إلى الله : (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)(هود: من الآية27) ، وقالوا له : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)(الشعراء:111) .
وإنما حملهم على قول ما قالوه الكبر الذي ملأ قلوبهم، ومثلهم قوم فرعون الذي علا في الأرض وعتى حتى قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)(النازعات:24) ، وتابعه قومه على كبره وعلوه فكان الكبر سبيلهم إلى الهلاك : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ)(المؤمنون:46 - 48) .
وقد عانت قريش من نفس المرض ، وشربت من هذا الورد ؛ فأعماهم الكبر عن رؤية نور الحق، وأنساهم وقائع الدهر وتاريخ الأمم فقالوا لداعي الإيمان صلوات الله وسلامه عليه : (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ)(ص:7) .
فصدهم الكبر كما صد من سبقهم عن معرفة الحق واتباعه، وحملهم على جحده وإنكاره، وصدق الله إذ يقول : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوّاً) (النمل:14) ، ويقول: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)(الأنعام:33) .
ثانيًا : حب الرياسة والجاه
الملأ كما قدمنا هم أهل السيادة والشرف، ولهم الملك على الناس، وهم بهذه السيادة وذاك الملك يجلبون المكانة لأنفسهم والرفعة ، فجلبت لهم الرياسة والملك مكانة في قلوب مرؤوسيهم تسلطوا بها على رقابهم، وصارت لهم بها وجاهة دنيوية وسلطان .
ومعلوم أن دعوات الحق لا تفرق بين الخلق على اختلاف طبقاتهم وأشكالهم وألوانهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس سواسية إلا من رفعه دينه وقدمته تقواه، وهذا ما يرفضه ذوي السلطان الزائف والجاه ، أن يفقدوا سلطانهم ويذهب عنهم جاههم، فرفضوا لذلك دعوات المرسلين، وظنوا أنهم إنما أتوا ليسلبوهم ملكهم وجاههم ورئاستهم . فقال قوم نوحٍ عنه : (مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)(المؤمنون:24) . وقال ملأ فرعون لموسى عليه السلام : (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)(يونس:78) . وقالت عاد لنبيهم هود عليه السلام : (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)(هود:53) .
وبمثل ذلك قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)(ص:6) .
قال القرطبي : (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) : كلمة تحذير، أي إنما يريد محمد صلى الله عليه وسلم بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ونكون له أتباعًا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.(القرطبي 15/151، 152) . وقال ابن كثير عند هذه الآية : "قال ابن جرير : إن الملأ قالوا : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباعًا ولسنا نجيبه ". وهكذا كان حب الشرف والجاه سببًا في صد الملأ عن سبيل الله .
ثالثًا : الجهالة
رغم أن الظاهر في أمر الملأ أنهم أصحاب الوجاهة والعقل السليم والفكر السديد، ومنهم المفكرون والمنظرون والمبدعون، و .. و .. إلا أن الجهل كان من أهم سمات القوم وصفاتهم، حين عموا عن إدراك الحق الذي جاءت به الرسل فردوه، واستحسنوا الباطل فدافعوا عنه وقبلوه، فلم يقبلوا حجج المرسلين على كثرتها ووضوحها ( كناقة صالح، ونار إبراهيم، وعصا موسى، ومعجزات عيسى) ، ووصفوها بأنها " سحر مبين " أو " أساطير الأولين " ، وكذا حملهم الجهل على رد رسالات الرسل ودعوات الدعاة لبشريتهم : (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ )(الأنعام:8) ، وقالوا : (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(فصلت:14) وقالوا : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)(المؤمنون:24) . أو لأن أتباعهم من الضعفاء الفقراء ، كما قالوا لنوحٍ ولغيره، وزعموا لجهلهم أنهم أفضل عند الله لكثرة أموالهم ووفرة عددهم : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(سبأ:35) .
رابعًا : التقليد
كان تقليد الآباء - ومازال - سببًا من أكبر أسباب الضلال، وسبيلاً من سبل الصد عن اتباع الحق والرشاد، وقد عاش الملأ من أقوام المرسلين هذا الأمر فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، أي بصَّرهم الله سبل الهدى فتركوها ، وسلكوا سبل الردى لا لشيء إلا أنها كانت منهج الآباء .(2/56)
من لدن نوح وإبراهيم عليهما السلام وإلى نبينا خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، وحجة كل قوم في ترك الإيمان هي تقليد الأولين السابقين من الآباء والأجداد، وهل أهلك أبا طالب إلا التقليد . وكذا كل معاند كما قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(البقرة:170) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(المائدة:104) ، وقال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(لقمان:21) .
وقد لخص الله كلامهم وجمع حجتهم في قوله : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(الزخرف:23) .
وهكذا عاش الملأ في كل قومٍ بتلك الأوصاف وهذه الأخلاق في كل زمان فحاربوا كل دعوة بدافع الكبر، وعاندوها بدافع حب الرياسة، خوفًا على مراكزهم وترفهم، ووقفوا في وجهها لسوء فهمهم ولجهلهم الذي عشش في عقولهم وخيم على نفوسهم، والذي حملهم على تقديم فعل الآباء ومعتقدهم على ما جاء به المرسلون من عند ربهم .
وقد تنبه المفسرون إلى أن الملأ يبقون معارضين للدعوة إلى الله تعالى ، يقول ابن كثير عند قوله تعالى : (قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(الأعراف:60) قال : "وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة" .(2/440) .
وقال في مكان آخر : "ثم الواقع غالبًا أن يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته" .(2/441)
==============
العصاة
هم صنف من أصناف المدعوين، نعني بهم من كان عنده أصل الإيمان، ويشهدون الشهادتين، ولكنهم لا يقومون بحقوق الشهادة فيخالفون في بعض الأوامر الشرعية، ويرتكبون بعض ما نهى عنه، وهم في ذلك بين مُقلٍ ومُكثر .
ومعلوم أن هذا الصنف هو أكثر أصناف المدعوين من المسلمين، فالمسلم غير معصوم بل جاء في الحديث : " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " ، والإيمان يزيد في قلب العبد وينقص، ووازع الله في قلب العبد قد يضعف مع طروء الغفلة وغلبة الشهوة، فيقبل الإنسان إغراء الشيطان وإغواءه فيقع في المعصية.
والمعصية تدل على جهل صاحبها، فلولا جهله ما عصى الله تعالى، إذ هو جاهل بقدر ربه وعظمته، وكمال إنعامه عليه وتمام فقر العبد إليه، جاهل باطلاع الله عليه وتمكنه منه، جاهل بضرر المعاصي وعواقب الذنوب، ولو علم ضررها واستحضر خطرها لفر منها أشد مما يفر من الأسود والعقارب والحيات .
وقد بين ربنا جهل العصاة في كتابه فقال : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)(النساء:17) ، قال مجاهد وغير واحد من أهل العلم : " كل من عصى الله خطأً أو عمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب" . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "من جهالته عمل السوء" . وقال مجاهد أيضًا : "كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها" .
ومما يدل على جهل العاصي اتكاله على عفو الله ورحمته، ونسيانه أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن من يرجو رحمة ربه يأخذ بأسبابها والتي من أهمها ترك الذنوب والمعاصي، فإن رجاءك رحمة من تعصيه خذلان وحماقة، وإنما يعظم الرجاء في حق من عمل له وسعى إليه كما قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(البقرة:218) .
موقف الداعية من العصاة
إذا كان هذا حال العصاة فإن على الداعي أن ينظر إليهم نظرة إشفاق ورحمة، فهو يراهم كالواقفين على حافة وادٍ عميق سحيق في ليلة ظلماء، فهو يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك، حاله كحال الدعاية الأول r ، حيث يقول : " إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تفلتون مني .. أو قال تقحمون فيها ... " الحديث .
فليس من حق الداعي ولا ينبغي له أن يحتقر العصاة وأن يفتخر بنفسه عليهم، ويُدِلَّ عليهم بطاعته، وإنما يستحضر فضل الله عليه وحفظه وستره إياه، فلولا نعمة الله عليه لكان مثلهم أو أسوأ منهم، ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه لو اختلفت الأدوار.
والخلاصة أن إخراج أهل المعاصي من معاصيهم وتخليصهم منها وفتح طريق النجاة والتوبة والأوبة والعودة إلى الله أمامهم هي غاية الداعي وما يسعى له.
والداعية - وإن كان الأصل فيه عدم الغضب لنفسه أو لهواه - إلا أنه ينبغي أن يغضب إذا انتهكت محارم الله، لحديث عائشة رضي الله عنها : " ما انتقم رسول الله لنفسه قط ... " الحديث .(2/57)
فإذا كان العاصي ممن يؤذي الدعاة وأهل الإيمان ويحاربهم وجب نصحه بما يغلب على الظن قبوله، فإذا تجبر ولم يقبل النصح جاز للداعية في هذه الأحوال أن يسلك معه ما يكف به ضرره عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع، دون تجاوز القدر، وأن يتوسل بالأسهل فالأسهل من الوسائل، مع الرغبة التامة في هدايتهم وصلاحهم، آخذًا بالسبب، تاركًا النتيجة على الله الذي بيده مفاتيح قلوب العباد (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(القصص:56)
....................................
بتصرف من كتاب " أصول الدعوة " . لعبد الكريم زيدان
==============
مصادر الدعوة في أساليبها ووسائلها
المصادر التي تستمد منها الدعوة أساليبها ووسائلها متعددة، ولكنها تعود إلى أصول يمكن جمعها فيما يلي :القرآن الكر يم ، السنة النبوية المطهرة ، سيرة السلف الصالح ، استنباط الفقهاء ، التجارب ، ونتكلم فيما يلي بشيء من الإيجاز عن كل مصدر .
أولاـ القرآن الكريم
ففي كتاب الله آيات كثيرة تتعلق بأخبار الرسل الكرام وما جرى لهم مع أقوامهم . وما خاطب الله تعالى به خاتمهم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من أمور الدعوة إليه . وهذه الآيات الكريمة يستفاد منها أصول الدعوة ووسائلها التي يجب أن يفقهها المسلم كما يتفقه أمور الدين الأخرى ، لأن الله جل جلاله ما قصها علينا وأخبرنا بها إلا لنستفيد منها ونتزود من معانيها ما يعيننا على الدعوة إلى الله تعالى ، ونلتزم بنهجها . قال ربنا تبارك وتعالى : (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120) .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( كل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين . كل هذا مما نثبت به فؤادك يا محمد أي قلبك ليكون لك ممن مضى من إخوانك المرسلين أسوة ) .
ولا شك أن المسلمين يقتدون برسولهم صلى الله عليه وسلم وفيما كان يتأسى به من سيرة المرسلين في أمور الدعوة إلى الله . قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف:111) .
ففي قصص السابقين من أمم الأرض وما جرى عليهم وما جرى لأنبيائهم معهم عبرة وموعظة لأصحاب العقول السليمة، وهداية ورحمة للمؤمنين بالله ورسوله؛ فهم الذين يعتبرون بما قصة الله عن الماضين ويتعظون به؛ لأن الإيمان قد فتح قلوبهم للحق وأرهف حسهم لمواضع العبرة ومعاني الموعظة . وقال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ َ) (الأنعام:90) . فهذه الآية الكريمة تشير إلى لزوم الاقتداء بنهج رسل الله في الدعوة إليه .
ثانيا: السنة النبوية
السيرة النبوية وحياة الرسول صلىالله عليه وسلم هي الدعوة ، وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تتعلق بأسلوب دعوة الناس ووسائلها . كما أن السيرة النبوية المطهرة ، وما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة ، وكيفية معالجته للأحداث والظروف الني واجهته ، كل ذلك يعطينا مادة غزيرة جداً في هذا الجانب ، لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها الداعي في كل زمان ومكان ، فما من حالة يكون فيها الداعي ، أو أحداث تواجهه ، إلا ويوجد نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريب منها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيستفيد الداعي منها الحل الصحيح والموقف السليم الذي يجب أن يقفه ما فقه معاني السيرة النبوية ، وقد يكون من حكمة الله ولطفه أن جعل رسوله الكريم يمر بما مر به من ظروف وأحوال حتى يعرف الدعاة المسلمون كيف يتصرفون ، وكيف يسلكون في أمور الدعوة في مختلف الظروف والأحوال اقتداء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالسيرة النبوية والتوجيهات النبوية الكريمة تطبيقات عملية لما أمر الله به رسوله في أمور الدعوة وتبليغ الرسالة ، وما ألهم رسوله في هذا المجال ، فلا يجوز للداعي أن يغفل عن سيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
ثالثا: سيرة السلف الصالح
سيرة سلفنا الصالح من الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان هم نتاج دعوة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وهم الثمرة اليانعة لشجرة الدعوة المباركة ، وخلاصة جهد النبي صلىالله عليه وسلم ، ولا شك أن الصحابة رضوان الله عليهم عايشوا المصطفى عليه السلام وعلموامنه مقاصد الدعوة ووسائلها وكيفية تطبيق ذلك واقعيا فطبقوه على من بعدهم من التابعين ونقلوه إليهم فأخذ هؤلاء عنهم وتعلموا منهم ، وللفريقين ـ الصحابة والتابعون ـ سوابق مهمة في أمور الدعوة يستفيد منها الدعاة إلى الله ، لأن السلف الصالح كانوا أعلم من غيرهم بمراد الشارع وفقه الدعوة إلى الله ، وما زال أهل العلم يستدلون بسيرتهم ، وطريقتهم .
رابعا: استنباطات الفقهاء(2/58)
الفقهاء يعنون باستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها الشرعية ومن هذه الأحكام ما يتعلق بأمور إلى الله ، مثل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد والحسبة ، وقد أفردوا لهذه الأحكام أبوابا خاصة في كتبهم الفقهية . وما قرروه من اجتهادات في أمور الدعوة ومجالها ، حكمة حكم اجتهاداتهم الأخرى ، التي يجب ابتاعها أو يندب لأن الوسائل والأساليب في الدعوة من أمور الدين مثل مسائل العبادات والمعاملات .
خامسا: التجارب
التجربة مُعلِّمٌ جيد للإنسان، لا سيما لمن يعمل مع الناس ، وللدعاة تجارب كثيرة في مجال الدعوة هي حصيلة عملهم المباشر مع الناس ومباشرتهم للوسائل فعلا في ضوء ما فهمه من المصادر السابقة ، لأن التطبيق قد يظهر له وجه خطئه فيتجنبه في المستقبل ، وقد يكون الثمن غاليا ولكن ما يتعلمه من التجارب أغلى من الثمن المدفوع إذا انتفع من التجارب حقا ، وهذا هو المأمول من المؤمن فإنه لا يلدغ من جحر مرتين . وكما أن الداعي يستفيد من تجاربه الخاصة ، يستفيد أيضا من تجارب الآخرين فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت .
.....................................
أصول الدعوة: عبد الكريم زيدان(بتصرف)
=============
أهداف الدعوة إلى الله تعالى
جاءت الدعوة الإسلامية واضحة جلية لا غموض فيها ولا إبهام ، وظهرت أصول الدعوة فرآها الناس شاملة لكل فرع من فروع الحياة ، فأوضحت أصول الدين القويم وقواعد العلم الصحيح وأسس الأخلاق الفاضلة وأركان النظم الاجتماعية الرشيدة ، ومبادئ القوانين السديدة ، والتشريع الحكيم .
فتغلب الإسلام بأصوله على جميع الأصول التي كانت قائمة على عهده ، فآمن الناس بأن القرآن " مثل كامل " " في كل شيء " ، وقواعده التي قام عليها هي أكبر شاهد على ما نقول .
هذه الدعوة إلى الله تعالى تنحصر أهدافها في أمرين أساسين :
الأول : دعوة غير المسلمين للإسلام
معنى هذا الأمر هو أن نعمل على نشر الدعوة الإسلامية بين أهل الكتاب وغيرهم ممن لا دين لهم إلا بعض التقاليد والعادات التي لا تمت إلى الدين بصلة ، وهؤلاء هم أغلبية شعوب العالم ، وقد سن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السنة الحسنة وهي دعوة غير المسلمين إلى الدخول في الإسلام عن طريق مكاتبة الملوك والأمراء ، وأمرهم أن يبلغوا أممهم ، ومن هذه الكتب كما ثبت في الصحيحين كتابه - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )) .
وهكذا أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - كتبه إلى كسرى ملك الفرس ، والمقوقس عظيم القبط بمصر ، وملكي عمان ، وملك اليمامة ، كذلك عرض الدعوة بالإسلام الملائم على أولئك الذين لم يتعرفوا على الإسلام ، كما هو موجود في أوروبا وأمريكا من المسيحيين وغيرهم .
فإن انتشار العلوم والمعارف بين أولئك القوم قد كشف مزايا الإسلام وتطور تشريعه .
والدليل على أن هذا الأمر من الممكن أن يصل إلى مستوى أصلي في نشر الدعوة لو صدقت النيات ، ما نراه في هذا العصر - مع ضعف المجهود الذي يبذل في إشاعة الإسلام - من إقبال الكثير على هذه الرسالة الخالدة في الداخل والخارج ، فإذا ما اتجهنا إلى مكتب الشؤون الدينية بمديرية أمن القاهرة ، ومكتب شيخ الأزهر لوجدنا الإعداد الهائلة التي تعلن إسلامها لله تعالى ، ومن حوالي سبع سنين توجهت بأحد القمامصة الذي كان في البلدة ، التي كانت أعمل فيها داعية إلى الله تعالى إلى مكتب الأمن ، ومكتب شيخ الأزهر لأجل أن يعلن إسلامه ، وتم ذلك بعون الله وعنايته .
أما في الخارج فكثيرًا ما تطالعنا الصحف والمجلات والإذاعات وغيرها تحت باب " لماذا أسلمت " الكثير ممن تشرفوا برسالة المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، ومن الأسباب التي أخرت مسيرة الدعوة الإسلامية على غير ما ترجو لها من المضي إلى كل جزء في هذه الأرض ، هو أن أوروبا إلى عهد الحروب الصليبية كانت تصور للعالم بأن هؤلاء العرب الذين حملوا راية الإسلام ما هم إلا مجموعة من قطاع الطرق ورعاة الأغنام ، لا قيمة لها ولا حضارة ترفع من شأنها .
فائدة دعوة غير المسلمين
على هذا فإن الدعوة إلى الله تعالى لغير المسلمين تؤدي إلى هدفين أساسيين :
أحدهما : محو الواجهة السيئة التي ألصقها أعداء الإسلام من المبشرين والمستشرقين وغيرهم بالمسلمين ورسالتهم .
والآخر : الكشف عن محاسن الإسلام ، وكيف أن العالم كله لو أخذ به لوصل بتوفيق الله تعالى إلى بر الأمان .
الثاني : دعوة المسلمين إلى الخير
وهذا يكون في ضوء قوله تعالى : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون َ)( التوبة: 122 ).
وفي ضوء قوله تعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ( العصر:1 - 3)(2/59)
ومعنى هذه الدعوة هو إرجاع المسلمين إلى جوهر الإسلام وتشريعه الحكيم ، وتعميق ذلك في نفوسهم ، ونفي ما علق بالإسلام من خرافات وأوهام ، مثل : ما يسمى بضرب الودع ، والطيرة ، والعيافة ، والطرق ، وزجر الطير ، وقراءة الكف ، وفتح الكتاب ، والمصحف ، وكتابة الأحجبة والتمائم ، وما يسمونه تحويطات ، والإخبار بالغيب ، وادعاء رفع الصلاة عن الإنسان إذا بلغ إلى قدر معين من الإيمان ، إلى غير ذلك من هذا السيل الجارف من الخرافات والأوهام التي علقت بهذا الدين الحنيف وهو منها براء .
ولو شئنا تقصيها مع الأدلة التي وردت في النهي عنها ، لكنا في حاجة على مجلدات ، ولكن على سبيل المثال ، نذكر شيئًا مع أدلة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ترشدنا إلى البعد عن هذا الضلال المبين .منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( العيافة ، والطيرة ، والطرق من الجبت)) .
وقول ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن " .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من آتى عرافًا أو كاهنًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا )) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن للشيطان لمة بابن آدم ، وإن للملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الآخر فليستعذ بالله من الشيطان )) .
ولقد وصل أمر الخرافات والأوهام لدرجة أن المنجمين كانوا يتدخلون في شؤون الدولة في يوم من الأيام ، ولكن الخلفاء النابهين ما كانوا يستمعون إليهم ، بل كانوا يخالفونهم .
ومن ذلك حادئة الخليفة المعتصم بالله حينما قام بفتح عمورية ، فأخذوا يحذرونه من سوء العاقبة بأن الحساب الفلكي والطوالع النجومية قد اتفقت على ساعة هذه النتيجة المشؤومة ، فلم يعبأ بما قالوه ، وخرج من فوره وانتصر على أعدائه انتصارًا عظيمًا ، وفي ذلك يقول أبو تمام من قصيدة سبعين بيتًا حتى أخذ على كل بيت ألف درهم ، والتي مطلعها :
السيف أصدق أنباء من الكتبِ.... في حدِّهِ الحدُّ بين الجدِّ واللعب
وفيها :
أين الرواية أم أين النجوم وما....صاغوه من زخرف فيها ومن كذبِ
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة.... ما دار في فلك أو كان في قطب
لو أثبتت قط أمرًا قبل موقعة.... لم يخف ما حل بالأوثان والصلب
من كل هذا وغيره نعلم أن دعوة المسلمين بعضهم بعضًا لابد منها لتطهيرهم من الخرافات والأوهام وربطهم بالله الملك الديان .
............................
من كتاب " ادع إلى سبيل ربك"
===============
مكانة الداعية وفضله
الدعاة إلى الله هم الشموع ، التي تحترق لتضيء للناس طريق الهدى والحق والضيا ، وهم وعي الأمة المستنير ، وفكر الأمة الحر ، وهم قلب الأمة النابض ، وأطباء القلوب المريضة ، والنفوس الجريحة ، بل هم قادة سفينة النجاة في وسط الرياح الهوجاء ، والأمواج المتلاطمة .
والداعي إلى الله هو المبلغ للإسلام ، والمعلم له ، والساعي إلى تطبيقه ، وهو الذي يدل الناس على ربهم ، ويحدو بهم لتطبيق مبادئ الإسلام ، التي هي ـ في خلاصتها ـ دعوة إلى مكارم الأخلاق ، وإقامة العدل بين الناس .. ومن ثم كانت الدعوة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله ، ولذلك اختار الله للقيام بها صفوة الخلق وأحبهم إليه وهم الأنبياء والمرسلون ، وأقربُ الناس إليه تعالى بعدهم أمثلُهم بهم طريقة وأشبههم بهم سلوكًا في العلم والعمل .
ومكانة الداعي في الإسلام مكانة عظيمة ، وقوله في الدعوة أحسن الأقوال في ميزان الله الذي هو أصدق وأعدل الموازين، قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت/33) .
روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الحسن أنه قال في تفسير هذه الآية : " هذا حبيب الله ، هذا وليُّ الله ، هذا صفوةُ الله ، هذا خيرةُ الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته ، وعمل صالحًا في إجابته ، وقال إنني من المسلمين، هذا
خليفة الله" .(ابن كثير : 4/102) .
وفضل الدعاة ظاهر في كل جانب من جوانب دعوتهم ووظيفتهم : فموضوع دعوتهم هو الدلالة على الله وكيفية الوصول إلى جنته ورضاه ، والنجاة من سخطه وغضبه ، كما قال مؤمن آل فرعون : {ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ، تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} (غافر:41،42) .. ولذلك كان قولهم أحسن الأقوال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ }
وأما وظيفتهم ومهمتهم فهي أشرف الوظائف على الإطلاق ؛ لأنها وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أشرف البشر وأكرمهم عملا : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (الأنبياء:25) ، { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء:165) .
فمهمة الدعاة هي مهمة الأنبياء والمرسلين ، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم من المصلحين { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} ( يوسف 108)(2/60)
وأما من حيث الأجر والثواب : فقد وعدهم الله بالأجر الكبير والفضل الكثير ، بالغلبة في الدنيا ، والفلاح يوم الدين : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } (غافر:51) .. وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعلي يوم خيبر: [انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا ].
وقال صلى الله عليه وسلم : [معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر ](رواه الطبراني وغيره وهو صحيح) .
ولما كان الدعاة الصادقون المخلصون قوما يعيشون لدعوتهم ، ولأمتهم ، ولمجتمعهم ، فدعوتهم همهم بالليل والنهار ، وهي فكرهم في النوم واليقظة ، وشغلهم الشاغل في السر والعلن، يؤثرون من أجلها التعب والنصب ، ويضحون في سبيلها بالوقت والجهد والمال ، بل وبالمهج والأرواح ، ويستعذبون ، في سبيل نشرها وإبلاغها ، البلاء الشديد والعذاب الأليم ، لسان حالهم:
مناي من الدنيا علوم أبثها ... وأنشرها في كل باد وحاضر
دعاء إلى القرآن والسنن التي ... تناسى رجال ذكرها في المحاضر
فقد استحقوا بذلك تكريم الله لهم ، وتشريفه إياهم بقوله تعالى فيهم: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } ( فصلت 33). وكفى بهذا فضلا وكرما.. والحمد لله رب العالمين.
===========
أهمية إعداد الدعاة
الدعاة إلى الله هم طليعة صلاح الأمة ، ومبتدأ هدايتها ، ودليلها إلى طريق الله الذي هو طريق العز والنصر والتمكين، وطريق الفوز في الدنيا والآخرة .. هذا أمر يكاد أن يكون محل إجماع أولي العقل والنهى ، وأصحاب البصائر والبصر بوقائع الدهر وتصريفات الأيام والدول .
فالداعية هو العامل الفذ الذي ينفرد بالتأثير والتوجيه في عملية الدعوة ؟ إذ لا يشاركه في ذلك ـ عادة ـ منهج موضوع، ولا كتاب مقرر ، ولا إدارة ، ولا توجيه . فالداعية وحده هو ـ في غالب الأمر ـ الإدارة والتوجيه ، والمنهج والكتاب والمعلم ، وعليه وحده يقع عبء هذا كله .
وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة ، وإعدادهم الإعداد المتكامل ، أمرًا بالغ الأهمية ، وإلا أصيبت كل مشروعات الدعوة بالخيبة والإخفاق ، في الداخل والخارج ؛ لأن شرطها الأول لم يتحقق ، وهو الداعية المهيأ لحمل الرسالة " .
وإذا كان الأمر كذلك فإن من الواجب على أولي الأمر في كل قطر إسلامي أن يعملوا على تكوين أجيال من الدعاة ذوي الكفاءات العالية والمستوى الراقي في العلم والعمل وحمل أمانة تبليغ هذا الدين والخوف على الناس والشفقة عليهم من أن يكونوا من أصحاب الجحيم ، وعلى ولاة الأمر أن يعلموا أن هؤلاء الدعاة هم الذين يشكلون عقول الناس إذا أتيحت لهم الفرصة الصالحة لذلك ، وبقدر وعي الداعي وفطنتنه وإحاطته بعلوم الدين ومجريات الأحداث تكون ثقافة الأمة ، ولذا ينبغي على ولاة الأمور ـ والمسؤولين عن الدعوة والعاملين فيها ـ ألا يتهاونوا في تكوين الدعاة وحسن تنشئتهم علميا وثقافيا حتى لا تضيع الأمة بأسرها .
يقول الشيخ الغزالي : " إن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة ، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض ، وأثر الشعاع في المكان المتألق ، والأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموفقين ".
إن عوام الناس وجماهيرهم في عامة الأحايين لا وزن لهم ، ولا تأثير حقيقيا في واقع الحياة وتاريخ الناس ، بل يظلون في أماكنهم حيارى حتى يجيء القائد الممتاز فيوجههم هنا وهناك .
ومن ثم فإن سبيل النهضة الناجحة لا يتمهد إلا إذا استطعنا بناء جماعات من الدعاة تكون بمثابة طلائع النور في أمة طال عليها الليل ، وبوادر اليقظة في أمة تأخر بها النوم ، وأمل العالم في عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة واليقين ، وامتلأت بزبانية الأثرة والإلحاد " .
إن عبء الدعوة ثقيل ، ومهمة هداية الناس عمل جليل ، ومن ثم وجب أن يختار الدعاة من بين صفوف الأمة وفق معايير معينة ، وألا يترك هذا الأمر للظروف تفرضه ، مما يدفع بالعجزة والقاصرين والجاهلين إلى هذا المجال الحسَّاس فيكون الضرر لا النفع .
أمور ينبغي توفرها
ولهذا العامل في حقل الدعوة أمور ينبغي أن تتوفر فيه بداية حتى يتهيأ لهذا العمل الجليل وذاك الجهد الشاق:
أول هذه الأمور: الإحساس بعظمة هذا الدين وأنه هو الدين الحق الذي يلزم الناس اتباعه ، والعلم بأن كل من لم يكن من أتباعه فهو من أهل النار{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (آل عمران:85) .
ثانيها : الغيرة على التوحيد ، والغضب لله تعالى أن يشرك به أو أن يعصى ، والشفقة على الناس ، والخوف عليهم من الوقوع في غضب الجبار وإرث عذاب النار، فلا يكون أقل من هدهد سليمان الذي ارتعدت فرائصه لما وجد قوما يسجدون للشمس من دون الله وقال متعجبا : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم } (النمل:25)(2/61)
الثالث : علو الهمة ، لأن خسيس الهمة لا يصلح لمثل هذا الأمر ، لأنه عمل شاق يحتاج إلى بذل وتضحية ، بالوقت والمال ، وربما بالنفس في كثير من الأحيان ، وهذا أمر لا يقدر عليه كل إنسان ولا يوفق له كل أحد ، وإن لم يكن الداعية على قدر المسؤولية: ثابتا عند الشدائد ، رابط الجأش عند النوائب فإن ضرر مثله على الدعوة أكثر من منفعته .
الرابع : الرغبة في حمل الرسالة ، والتيقن بأن الانتساب إلى الدعوة شرف ورفعة قدر ، وأن نكوصه عن العمل لن يضر الدعوة بل يضره هو : { وإن تتولوا يستبدل قوما غركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد:38) .
وروى عن عكرمة قال : قال عيسى ـ عليه السلام ـ : " لا تطرح اللؤلؤ إلى الخنزير ، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا ، ولا تعط الحكمة لمن لا يريدها ، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ، ومن لا يريدها شر من الخنزير " .
ومنها : حسن السيرة ، والحرص على المبادرة بالعمل بما يسمع ويقرأ ، وذلك حتى لا تؤثر فيه عاداته السيئة بعد انتسابه للدعوة ، وانضمامه إلى صفوفها ، فيصير فتنة تصُدُّ الناس عن طريق الله تعالى . إلا أن يتوب منها توبة نصوحا ، ويتبرأ من سالف سيئ الأخلاق ، فإن التوبة تجب ما كان قبلها.
يقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه : " لا يؤخذ العلم من أربعة ، ويؤخذ ممن سوى ذلك ، لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه ، وإن كان أروى الناس ، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس ، إذا جُرِّب ذلك عليه ، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله ، ولا من صاحب هوىً يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة ، إذا كان لا يعرف ما يُحَدِّث ".
فإذا روعي في الداعية هذه المواصفات عند اختياره ، فإن من الواجب ـ بالإضافة إلى ما سبق ـ مراعاته بالتجارب العملية ، واختباره قبل تقليده المسؤولية ، حتى يتخير له المكان المناسب لإمكاناته ، ليتمكن من الإبداع فيه، والانتفاع به قدر الطاقة.
إن اختيار الداعية أمر خطير له أثره على الدعوة والمدعوين ، فلزم أن يحتاط في اختيار العاملين في هذا الحقل الهام ، وإذا كانت بعض المؤسسات تعقد اختبارات لاختيار المتقدمين للعمل فيها ، وبعض الكليات تقيم اختبار هيئة ولا تقبل إلا من توفرت فيه شروط خاصة ، فليس العمل في الدعوة بأقل من هذا ، بل هي أحرى فإن الدعاة هم لسان الأمة ، وقلبها النابض ، ومظهر عزتها وكرامتها في الدنيا والآخرة.
إن المجتمع لا يسند جليل المهام لمغفل أو أحمق ، ولا يعرف لهؤلاء في المجتمع مكان ، فهل من اللائق أن ينفوا من دنيا الناس ، ليتصدروا في دين الله ؟ إن دين الله أرقى وأشرف من أن نتعامل معه بهذا الأسلوب .
==============
عدة الداعي .. الإيمان العميق
يقول ربي وخير القول قول ربي : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } (الحج: 11).
لئن كان هذا هو وصف بعض أهل الشك والنفاق، فإن وصف الداعية إلى الله على عكس ذلك تماما .. فإنما هو على يقين بأن الإسلام ـ الذي هداه الله إليه وأمره بالدعوة إليه ـ حق خالص ، وهذه بدهية لا تحتمل نقاشا ولا شكا ولا جدلا ولا مراجعة وإعادة نظر ، وأي تحول عن هذا اليقين أو ميل إلى غيره إنما يعني اتباع الأهواء الباطلة : {قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين * قل إني على بينة من ربي وكذبتم به } ( الأنعام : 56، 57).
وإيمان الداعية ويقينه بأحقية الإسلام قائم على علم قطعي وبينة راسخة ، تجعل هذا الإيمان يسري في دمه ، ويعيش في وجدانه ، فلا ينقطع عن العمل له أبدا .
وهذا الإيمان هو باب الثبات ومفتاح الرسوخ مهما كانت حال العاملين ـ أو حال الدعوة ـ من ضعف في الإمكانات ، أو قلة في الأعداد والإمداد ، أو اضطهاد من أهل الكفر والعناد ، أو انصراف الناس عن دعوته .. وللدعاة أسوة حسنة في سيدنا نوح عليه السلام ، وكذلك في نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حبسهم في الشعب ، وفي الهجرة للحبشة ، والخروج من مكة ، والهزيمة في غزوة أحد ، والحصار في الخندق ، .. ، .. ، فخرجوا من كل هذه المحن سالمين ، بفضل الله تعالى ، ثم بفضل إيمانهم الذي لا يتزعزع بهذا الدين الحق .
والدعاة في زماننا هذا أحوج ما يكونون إلى هذا الإيمان الوثيق، وذاك اليقين الكامل، خصوصا مع صولة الكفر وجولته، وارتفاع صوت الباطل وكلمته، واضطهاد أهل الإيمان المتمسكين بأوامره ، المحاولين إظهار شعائره ، وبعد إعلان أهل الكفر عداءهم ، وإظهارهم مكنونات صدورهم من حقد على الإسلام وأهله ، وخاصة الداعين إليه المجاهدين في سبيله ، وبعد تمالؤ أهل النفاق مع إخوانهم الذين كفروا في تضييق الأرض على المؤمنين ، ومطاردتهم في أي مكان نزلوا أو أي موطن حلوا ، فلم يعد لأهل التقوى إلا الاعتصام بالله والركون إليه ، والرجوع إلى ذخيرة الإيمان، وسلاح اليقين ، حتى يأتي الله بأمره ـ وهو آت ولابد بإذن الله رب العالمين : {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } (البقرة:214).
ثمرات الإيمان
هذا الإيمان بالله له ثمرات لابد أن تظهر على صاحبه.. منها :
ـ محبة الله ، ورجاء رحمته ، وخوف عقوبته .
ـ الولع بذكره سبحانه في كل لحظاته ، والأنس به في خلواته وجلواته ، والتلذذ بطاعته الموصلة إلى تحصيل مرضاته ، وإيثار ما يحبه الله على جميع مستحباته هو ورغباته .(2/62)
ـ الحسرة على فوت الحظ منه جل وعز ، فإذا حصله فكل ما سواه غير مأسوف عليه .
ـ الغيرة على ضياع الدين ، الغضب عند انتهاك محارم العزيز الحكيم ، والحزن على عدم تمكن المؤمنين والشرع المتين ، والانبعاث لأثر الغيرة والغضب والحزن للعمل على نصر الله ودينه .
{يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
{وجعلناهم أئمة لماصبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} .
==============
عدة الداعي .. الاتصال الوثيق
عبء الدعوة عبء ثقيل ، وحملها حمل كبير ، تعجز قدرة الفرد عن تحمله والقيام به ، لولا توفيق الله تعالى وعونه ؛ ولذلك كان لابد للداعي إلى الله تعالى أن يتعرض لتوفيق ربه ، وأن يستمد منه عونه ، ويطلب منه مدده .
وإنما يكون هذا الاستمداد بحسن الصلة به سبحانه ، وأن يكون بين العبد وبين الله حال يصبح معها من أوليائه ، فلا يسلمه معها إلى أعدائه .
وهذه العلاقة بالله لازمة وضرورة للداعية من هذا الجانب ، وأيضا من جانب آخر وهو أن الداعي دلاّل على الله يدعو الناس في الأصل لتحسين علاقتهم بربهم . فكيف يدل على الله من لا يعرفه ، وكيف يربط الناس بمولاهم من هو مقطوع الصلة به ؟!!
وما أجمل ماقاله العبد الصالح شعيب عليه السلام جامعا هذين الأمرين : {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } (هود : 88).
ولن تنجح الدعوات إلا أن يتأتى نصر الله وتوفيقه ، ولا يتأتى النصر والتوفيق ما لم تكن هناك صلة وثيقة ، وعلاقة وطيدة بالله رب العالمين. قال قتادة : "من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ".
حسن الصلة في أمرين
وجماع حسن الصلة بالله في أمرين : ترك المعاصي ، والتزام الطاعات .
فأما ترك المعاصي فأصل لا غنى عنه ؛ إذ هي مجلبة العناء ، وأصل الشقاء في الدنيا والآخرة ، وهي أكبر أسباب الخذلان في أشد أوقات الحاجة ، وتأثيرها على قلب الإنسان ـ الداعية وغيره ـ وبدنه ونفسه وماله لا ينكره إلا ميت القلب أو جاهل بربه ودينه ..
قال ابن عباس : إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق . وإن للسيئة سوادًا في الوجه ، وظلمة في القلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق ".
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " إنكم لن تلقوا ربكم بشيء خير لكم من قلة الذنوب ، فمن سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف نفسه عن كثرة الذنوب."
وقال سفيان بن عيينة : " لم يجتهد أحد قط اجتهادًا ، ولم يتعبد أحد قط عبادة ، أفضل من ترك ما نهى الله عنه ".
ومن عجب أن يتعود العبد ترك السيئات وهجرها حتى يصل إلى حال لا يعرف كيف يعصي الله ، كذا ورد عن عدد من السابقين رحمهم الله تعالى:
فعن شعيب بن حرب قال : " جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد خمسمائة مجلس ، فما أحسب صاحب الشمال كتب شيئا ".
وعن عمرو بن مرة قال : " حدثني رجل من أهل الربيع بن خثيم ، فقال : ما سمعنا من ربيع كلمة نراه عصى الله فيها منذ عشرين سنة ".
وليس المطلوب من الداعية فقط ترك المعاصي ـ فإن هذا يطلب من كل أحد ـ بل عليه بما هو أكبر من ذلك وهو الورع ، فلا يتتبع الرخص ، ولا يقع في الشبه ؛ فإنه يقتدى به ويؤخذ عنه ، فإذا لم يستعمل هو الورع فمن يستعمله ؟!!
قال الحسن : مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة .. وفي خير الورى خير قدوة حين مر بتمرة في الطريق فقال : لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها .
وأما فعل الطاعات : فهو زاد المسلم الذي يغذيه ، ويقوي قلبه وبدنه ، ويشد أزره ، وينهض بهمته في طريق دعوته .
وعلى الداعية أن يحرص على الكمال في العبادات ، فلا يكتفي بالفرائض ، بل عليه الإكثار من النوافل فهي باب الهداية ، ومنشور الولاية ، والمدخل إلى حفظ الله تعالى كما في الحديث القدسي : %[ من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه …]%%( رواه البخاري)
فإذا حصلت للداعية هذه الصلة كانت معها المعية الخاصة من الله سبحانه التي جعلها لأوليائه الصالحين ، وعباده المخلصين ، قال تعالى : {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ، وقال سبحانه : {إن الله يدافع عن الذين آمنوا } ، وقال عز وجل لموسى وهارون : { لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى }
وهذا الاتصال بالرب جل جلاله ضروري جدا للداعية المسلم ، فبه تهون الصعاب ، وتخف الآلام ، وتنتزع من القلب الخشية من الناس ، ويحس الإنسان بعزة الإسلام ؛ لأنه موصول بالقوي العزيز {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، فلا يعظم في عينه باطل ولا مبطل لأن الباطل وأهله من التافه الحقير فلا يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين .
==================
عدة الداعي .. الشجاعة والإقدام
طبيعة الشر وأهله العنف والحدّةُ مع أهل الخير والدعاة إلى الله ، وتاريخ دعوة المرسلين شاهد قوي في هذا الباب ، ولو ترك الأمر لأهل الشر لما رضوا بغير إبادة الحق وأهله ، ولكي يبقى للحق والخير ذكرٌ ووجود لابد أن يكون الإيمان قادرًا على الظهور والحركة، قادرًا على المقاومة ، متصفًا بالشجاعة في جميع المواقف والتصرفات؛ فإن البواعث الضعيفة لا تجدي أمام عواصف الحقد وعرامة البطش المنبعثة من أعماق الباطل .(2/63)
وإذا لم يفلح الإيمان في تكوين أسس للخير قوية التيار ، غلابة النفوذ ، شديدة النفاذ ، فلن يكسب في ميدان الحياة معركة . فلكي ينتصر الطهر وتسود العدالة لابد أن يتعلق بهما الدعاة أشد من تعلق أهل العهر بعهرهم وأهل الظلم بظلمهم. وإذا كانت هناك نفوس درجت على العسف ، وتوحشت حتى لكأنها سباع مفترسة ، فلن يغني في صدها المقاومة المستأنسة ، أو دعوة يقوم بها صاحبها على استحياء . من أجل ذلك كانت الشجاعة خلقًا أصيلاً وشيمةً لا تنفك عن الداعية إلى الله وهو يتقلب بين الناس .
يقول الله تبارك وتعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }، فكلف الله الأمة ـ لتنال الخيرية ـ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كلفها أن تكون شجاعة في حماية الدين ، وردّ العادين المعتدين على حدوده ، فإذا انخذلت الأمة عن القيام بواجبها ، وتخلت عن أداء رسالتها سقطت من عين الله ، وأوشكت أن يعمها الله بعذاب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقدتودع منها ] ,, وإذا كان هذا حق الأمة عامة ، فإن واجب الدعاة في هذا التكليف أثقل وأعظم وأجل ؛ إذ هم جيش الإسلام وحراس الإيمان ، وحاجتهم إلى الشجاعة للدفاع عن الحق لازم من لوازم وظيفتهم ، وواجب من واجبات دعوتهم .
الشجاعة لماذا؟
يحتاج الداعية إلى الشجاعة خاصة في موطنين :
الأول : الدفاع عن الدعوة ضد أعدائها في ميادين الجهاد ، وساحات الوغى ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه] ( رواه أحمد ). وكم للإسلام في هذا الباب من فارس همام وبطل مقدام ، يعجز القلم عن وصفهم والحساب عن عدهم .
الثاني : الصدع بالحق والجهر به دون خوف أو رهبة ، وهنا لابد للداعية أن يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [لا يمنعن أحدًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذاعلمه ]، وقوله عليه الصلاة والسلام : [ سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ]، وقوله : [أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر].
فالشجاعة في النطق بالحق والجهر به سيادة وريادة وجهاد وشهادة ، وإنما تنبعث هذه الشجاعة من اجتماع خلقين عظيمين:
أولهما: إيثار ما عند الله ، والاعتزاز بالعمل له ، وتفضيل ما عنده على أعطيات المغدقين ، والركون إلى جنابه عند تجبر الجبارين ؛ فهو صاحب القهر والسلطان ، والجلال والإكرام والجناب الذي لا يضام {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير }، وهذه ثمرة من ثمار العلم بالله ، ومعرفةصفات جماله ونعوت جلاله . فمن عرف قدر ما له عند الله آثره على ما سواه ، وقدمه على من عداه، ومن صدقت صلته بربه لم يبالِ أن يفتدي الحق بعمره ، مفضلاً أن يُقتَل شهيدًا على أن يُدفَن الحقُّ ،ولا يجد من ينصفه ويشرفه ويُعلي رايتَه .
وأما الخلق الثاني الباعث علىالشجاعة فهو : اليأس مما في أيدي الناس ، والانطلاق من قيود الرغبة والرهبة ، والتخلص من ذل الطمع وشهوة التنعم . فكم ممن حرم الدعوة للحق طمعًا في نفع دنيوي ، أو بحثًا عن رضا من لا ينفع رضاه ولا يضر غضبه ، مؤثرًا شهوة النفس ومتع الحياة على الصدع بالحق ، ولو كان عفيف النفس ، راضيا بحظه من الله لتغير أمره ولتبدل حاله .
فاليأس مما في أيدي الناس هو العز والغنى ، والطمع فيما عندهم هو الفقر والعنا ، ولا يزال الرجل كريًما على الناس حتى يطمع في دينارهم ودرهمهم ،فإذا فعل استخفوا به ، وكرهوا حديثه ، وملوه وأبغضوه.
وعندما سئل أهل البصرة : بم سادكم الحسن ؟ قالوا : احتاج الناس علمه ، واستغنى عن دينارهم .. فقيل : ما أحسن هذا .
أمت مطامعي فأرحت نفسي ... فإن النفس ما طمعت تهون
وما أجمل ما قال علي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله :
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزةُ النفس أُكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمعٌ صيرته لي سُلَّما
وما كل برق لاح لي يستفزني... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهل قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
أنهنهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العدا فيم أو لم ؟
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ؟ ... إذًا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا... محياه بالأطماع حتى تجهما
===============
عدة الداعي .. الفهم الدقيق
تقديم العلم على العمل ضروري للداعية حتى يعلم ما يريد ليقصده ويصل إليه ، وما يقوم به الداعية ينسب لله رب العالمين ؛ فكان لزاما على من يدعو إلى الله أن يكون على علم وبصيرة بما يدعو إليه ، وعلى دراية بمشروعية ما يقول ويفعل ؛ حتى لا يقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير علم .
فالعلم لازم من لوازم الدعوة ، وأصل في تكوين الداعية ، وضابط العلم المقصود هنا هو ما قام عليه الدليل الشرعي.
وإذا كان فضل العلم مذكورا ، فكذلك الداعي إليه مكان غير منكور { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } (الجادلة :11)(2/64)
وفي الحديث عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ] (رواه الترمذي وأبو داود وأحمد ).
وقال الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب . لأنهم يحتاجون إليهما في اليوم مرة أو مرتين، وحاجتهم إلى العلم بعدد أنفاسهم .
مقصود الفهم الدقيق
إنما نعني بالقهم الدقيق هنا ما وراء مجرد العلم والحفظ ، ألا وهو الغاية من العلم والمقصود من وراء تعلمه ، وهو أثر العلم على صاحبه .
يقول الشيخ عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة : ومن العلم العزيز النادر الذي يغفل عنه الكثيرون ـ مع دلالة القرآن عليه وتصريحه به والدعوة إليه ـ علم طريق الآخرة الذي يهيج القلب ويزعجه ويدفعه إلى سلوكه ، ويشعر صاحبه بغربته في الدنيا وقرب رحيله عنها إلى سفر بعيد لا يرجع بعدة إلى دنياه ولا ينفع فيه زاد إلا التقوى، ولذلك فهو دائما مشغول بإعداد هذا الزاد { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } متطلعا إلى ما هناك ، إلى مايؤول إليه أمره بعد سفره البعيد ، أيكون مصيره إلى نار جهنم ، وفي ذلك شقاؤه العظيم ، أم يكون مصيره في دار النعيم بجوار الرب الكريم ؟ إنه لهذه العاقبة المجهولة يكون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكنه خوف العارف لا الجاهل ، ورجاء العامل لا الخامل ..
إن هذا العلم هو الذي قل وجوده بين الناس وبين طلاب العلم ، وبدونه لا يعتبر العالم عالما ، وإن حفظ الشروح والمتون والأحكام وملأ رأسه منها ورددها على لسانه ..
إن هذا العلم هو لب العلم وغايته ، وكل مسلم محتاج إليه ، والعالم أشد حاجة إليه ، والداعي أحوج من الجميع إليه..
إن هذا العلم هو الذي نسميه (الفهم الدقيق ) وهو الذي فقهه الصاحبة الكرام ، وأشربت به عقولهم وقلوبهم فضنوا بوقتهم أن يذهب سدى في غير طاعة الله والدعوة إليه ، فنشطت جوارحهم في العبادة والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه حتى أتاهم من ربهم اليقين .
تدبر القرآن والسنن
يقوم الفهم الدقيق على تدبر معاني القرآن ومداومة النظر فيها ،والوقوف عندها والتغلغل في مراميها ومقاصدها ، فإن القرآن الكريم لهذا أنزل { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب }( ص:29) .
وبهذا التدبر سيقف الداعي على دعوة الرحمن وعاقبتها ، ودعوة الشيطان ومآل أهلها ، وهذه المعرفة تميز للداعي بين الحق والباطل ، وتجعل له فرقانا وتضيء له نورًا يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد ، فينشرح صدره ، ويبتهج قلبه ، ويتعلق بالآخرة الباقية ، ويعزف عن الدنيا الفانية ، ويصير له شأن وللناس شأن آخر .
وإنما يتأتي هذا الفهم ويتم مقصوده إذا عرف المرء غايته في الحياة وعمل بهذه المعرفة .
فمهمة العبد في هذه الدنيا وغايته منها هو عبادة الله وحده ، والجهاد في سبيله ، يجاهد نفسه حتى يحملها على الطاعة ويبعدها عن المعصية ، ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام ، ولا مجال للتخلي عن هذه المهمة الشريفة ، وهذه المكرمة العظيمة التي أكرمه الله بها
وهذه المعرفة لابد لها من عمل وأثر ؛ فيكون معها قطع التسويف وقصر الأمل مع الإحساس بالغربة في هذه الحياة ، فليس أفسد للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها وإيثارها على الآخرة ، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إلى الله تبارك وتعالى {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} … صدق الله العظيم .
=============
من أخلاق الدعاة ,, (1) الإخلاص والصدق
الإخلاص هو روح الإعمال ، وبه تقبل وبدونه لا وزن لها ولا قيمة عند الله تعالى ، ولئن كان الإخلاص مطلوبًا وأمرًا رئيسًا وركنًا ثابتًا في قبول أي عمل ليس للدعاة فقط ، وإنما لكل مكلف ، كما هو ثابت ومعلوم في كلام الله وسنة رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البينة:5) ، وقال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(الزمر/3) ، وقال الله تعالى : (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)(الزمر/2) ، وقال تعالى : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف/110) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى … " . إلا إنه للداعية يمثل شيئا آخر أكبر من مجرد أنه سبب قبول العمل .(2/65)
فهذا الإخلاص الذي تكلمنا عنه هو الإخلاص بالمعنى العام ، وليس هذا الذي أقصد توفره في الداعية ، وإنما المقصود في الداعية إخلاص من نوع خاص ، وهو أن يعمل لدعوته بالصدق ، ويعيش معها بأحاسيسه ومشاعره ، فيمرض لضعفها ، وينتشي ويفرح بقوتها ، إذا دعا لم تكن دعوته لمجرد أداء واجب أو إسقاط تكليف أو تخلص من تبعة المساءلة ، وإنما يدعو بحرقة للدين وشفقة على المدعوين ، واستنقاذًا لهم من النار ، وغضب الجبار ، فمثل هذا إذا تكلم خرج الكلام من قلبه فنفع وانتفع ، فإن الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب ، وإذا خرجت من اللسان دخلت من أذن وخرجت من الأخرى ، والعالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا .
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : " والدعوة النابعة عن إخلاص مع القوة والعزيمة والاعتماد على الله لابد أن تؤثر وتعمل عملها .. ألا ترى إلى قصة موسى حين حشد الناس له ضحىً يوم زينتهم ، وجمع له فرعون كيده ، ثم أتى بأبهته وعزته وكبريائه (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)(طه/61) فماذا فعلت هذه الكلمة ؟ لقد فرقت كلمتهم وشتتت شملهم في الحال (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ )(طه/62) والتنازع أكبر أسباب الفشل .(رسالة إلى الدعاة/27) .
كان محمد بن واسع يجلس قريبًا من أحد الوعاظ وهو يعظ الناس ويقول: مالي أرى القلوب لا تخشع ، والعيون لا تدمع ، والجلود لا تقشعر ؟ فقال له محمد بن واسع : " ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك ، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع في القلب " .
نعم : فكم من كلمات ولدت يوم ولدت ميتة ثم ذهبت مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور ؟ وكم من كلمات ولدت حية وبقيت فيها الحياة حتى بعد وفاة أصحابها؟ (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)(إبراهيم/24 ، 25) .
واسمع إلى ابن القيم - رحمه الله - وهو يقول : " كلام الأولين قليل كثير البركة ، وكلام المتأخرين كثير قليل البركة " .
والسر هو الإخلاص والصدق الذي يمنح الكلمات روحًا فتبقى سرمدًا أبدًا .
بين الجوانِحَ في الأعماقِ سُكْنَاهَا ... فكيف تُنسى ومن في الناس ينساها
الأذن سامعةٌ والعينُ دامعةٌ ... والروحُ خاشعةٌ والقلبُ يَهْوَاهَا
فيا معاشر الدعاة إذا أردتم أن تنفعوا وتنتفعوا فعليكم بالإخلاص، وإياكم والأخرى فتكون العاقبة : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود/15 ، 16) ، وقال تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً)(الفرقان/23) .
==============
عدة الداعي .. الصبر والتحمل
من المعلوم أن إسداء النصيحة والصبر على الأذى في سبيلها هو أعظم معين ـ بعد الله تعالى ـ في تبليغ دينه وإعلاء كلمته، وأنه لا حظَّ في النصيحة لمن لا يتحمل الأذى الناجم عن قيامه بأدائها، واستمع لقوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)(المدثر:1 - 7) . قال ابن كثير رحمه الله تعالى (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي شمّر عن ساق العزم وأنذر الناس . وقال مجاهد رحمه الله: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عز وجل. وقال سبحانه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(العنكبوت:1- 3) وقال تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف: من الآية35) .
وقال تعالى عن مواقف بعض الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إذ قالوا لأقوامهم لما آذوهم: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم:12) .
فحري بنا أن نصبر في دعوتنا ونتبصر في حال ودعوة الرسل عليهم السلام، لاسيما دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه، أُخرج من داره من مكة، رجم بالحجارة في الطائف حتى سال دمه، وهاجر إلى المدينة فارًا بدعوته، جاهد حتى كسرت رباعيته، وشج وجهه، وكان يؤذى في صلاته وهو بمكة قبل الهجرة، ويوضع السلى على ظهره أثناء ركوعه وسجوده، وما زاده ذلك إلا إصرارًا وعزمًا وثباتًا وصبرًا . قُذف عرضه وما ذلك والله إلا من أجل دعوته، فلولا تلك الدعوة لما أخرج ولما حورب، ولما قُذف عرضه، ولم ترده حادثة الإفك ولا غيرها عن دعوته، بل زادته صبرًا ويقينًا وثباتًا، وهذا هو حال كل نبي وكل عالِم رباني وكل داعية إلى الله آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ناصحًا للأمة .(2/66)
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)(الفرقان:31) ، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النحل:127) . فبالتقى والثبات والصبر يحصل الفلاح والنصر، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(النحل:128) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران:200) ، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة:24).
قال سفيان: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، أي في العلم والقدوة، فلولا الصبر والمصابرة والتضحية لما وصَلَنا هذا الدين إلا أن يشاء الله تعالى، وكان فضل الله علينا عظيمًا ، إذ قيض لهذا الأمر رجالاً حملوه ونشروه ونصحوا له ودافعوا عنه وصبروا وقدموا جماجهم وأرواحهم رخيصة في سبيل نصرة وعزة وإبلاغ دين الله عز وجل.
الأسوة الطيبة
والمتأمل في حال وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم يجد في ذلك أعظم الأسوة والقدوة والتضحية والصبر، فهم كما قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(الأحزاب:23) .
فينبغي عليك أيها الداعية وأيها الناصح وأيها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن تعلم أن الصبر واجب عليك، وأي واجب، بل هو من أعظم الواجبات التي تكرر ذكرها في القرآن العزيز في كثير من المواضيع حين قال سبحانه مبينًا أن الإنسان خاسر لا محالة إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع، ولا يجزي بعضها عن بعض، فقال جل شأنه: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(العصر:1 - 3) . وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة:155) ، وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(الشورى:43) . وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:153) ، وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)(محمد:31)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(آل عمران:142) . وقال لقمان لابنه وهو يعظه ويحثه علىالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في ذلك: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(لقمان:17) .
والآيات والأحاديث في فضل الصبر وثماره كثيرة، فالصابرون على الحق وتبليغه والثابتون أمام العقبات الصعاب قد نالوا أجورًا عظيمة، فقد نجوا من الخسارة والحسرات، ونالوا البشائر من رب الأرضين والسماوات،ووعدوا بمعية الله لهم، وذلك في قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: 153)، ووصفُوا بأنهم هم المجاهدون حقًّا، ووعدوا بأن يُوفَّوا أجورهم بغير حساب، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10) .
فما أعظمها من نعمة إذا حصلت، وما أكبرها من حسرة إذا مُنعت وما حيزت، فمن صبر ظفر، ومن استعجل خسر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " . رواه الترمذي وحسنه .
فعليك أخي الناصح بالصبر، خاصة إذا لم يُقبل منك، فإنما عليك البلاغ والنصح، وليس عليك الإكراه أو النتائج إذا كنت قد أديت ما يلزمك شرعًا من اتباع هدي الكتاب والسنة في دعوتك، فقال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)(ق:45) ، وقال سبحانه: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(الرعد: من الآية7) ، وقال عز وجل: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(الغاشية:21، 22) .
عاقبته خير
والصبر وإن كان فيه مرارة ولكن عواقبه كلها خيرٌ وكما قيل:
الصبر مثلُ اسمه مرٌ مذاقتهُ .. .. لكن عواقبهُ أحلى من العسل(2/67)
وتأمل حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه ،حيث قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط من حديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " . رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم : " الصبر ضياء " . رواه الترمذي وحسنه. وللبخاري ومسلم مرفوعًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : " وما أُعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر " .
وقال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر .
وقال علي رضي الله عنه : إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له .
فلا تكن أيها الناصح عجلاً فتخسر ولا ترتكب ما يسبب لك النقد، وذلك بسبب التهور أو العجلة ويكون الحق عليك، أما إن انتقدك ناقد وأنت على الحق المبين فلا تعبأ بقوله، فقد قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(الروم:60) . وكن كما قيل:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا .. .. يؤذى فيعطي أفضل الثمر.
أما إن حدت عن الطريق فتحمل نتائج فعلك، والله المستعان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
=============
من أخلاق الدعاة .. (2) التعالي على متع الحياة
ليس المؤمن موجودًا في هذه الحياة لكنز الأموال ولا لتعمير الدور ولا لبناء القصور ، وجمع الأثاث ، والفرش ، والخدم ، والحشم ، فيضيع في ذلك عمره ، ويقضي فيه حياته ، وإنما ينبغي أن تنصرف همته إلى ما هو أعظم من ذلك ، وإن حصَّل من هذه الأمور شيئًا تقرب إلى الله به ولا يشغله عن وظيفته الأساسية وهي عبادة الله .
أما الدعاة فنفوسهم أعلى من أن تستميلها هذه الأمور ، فيكفيهم من هذا ما يسد الخلة ، وتنقضي به الحاجة وتحفظ به النفس من الاستشراف والتطلع إلى ما عند الناس ، ولست أعني أن الداعي يجب أن يعيش معدمًا صفرًا ، ولكن أعني أن يكون عالي النفس ، عزيزًا ، عفيفًا ، فإن حصل له خير بكسب طيب فنعم المال الصالح للعبد الصالح ، وقد عرف تاريخ الدعوة دعاة عظماء ذوي غنى كان مالهم عونًا لدعوتهم وخدمة للإسلام كعثمان ، وابن عوف ، والليث بن سعد ، وعبد الله بن المبارك - رضي الله عنهم - فالمال إن وجد للداعية فهو معين على الدعوة ، وإلا سما بنفسه وعف عما في أيدي الناس .
وبقدر ما تركن نفسه لهذه الأشياء بقدر ما يضيع عليه ويضر دعوته . وانظر إلى النبي - صل الله عليه وسلم - وقد أتاه عتبة بن ربيعة يغريه بهذه المغريات ليثنيه عن دعوته ويقول : " يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك ، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا " .
هذه رواية ابن إسحاق ، وفي مسند عبد بن حميد وأبي يعلى : " قال : أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا ، فقال : فرغت ، قال : نعم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)(فصلت/13) ، فقال عتبة : حسبك ، حسبك " .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " مالي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر - رضي الله عنهما - كما في البخاري : " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " .
ومن كان هذا حاله فإنما يأخذ من الدنيا بقدر ما يتبلغ به فقط ، ولذلك قال الحسن : " دخلت بيوت أزواج النبي ولو أردت أن أمس السقف بيدي لمسسته"
فالداعية يترفع عن تضييع العمر في تحصيل هذا الحطام ، وبقدر ما يتعالى على هذه الأشياء بقدر ما يعز ويرتفع عند الله والناس ، وبقدر ما ينجح في دعوته .
قيل لبعضهم : بم سادكم الحسن ؟ قال : " احتجنا لدينه واستغنى عن دنيانا".
وكان الحسن يقول : " من نافسكم في الآخرة فنافسوه ومن نافسكم في الدنيا فألقوها في نحره " .
وكان أبو جعفر المنصور يرسل إلى سفيان الثوري ، وسفيان يتهرب منه ويأبى أن يذهب، حتى جاءه المنصور يومًا فقال : سلنا حاجتك ، قال : أوَتجيبني ؟ قال : نعم ، قال : لا تأتي حتى أُرسل إليك، ولا تُعطني حتى أسألك.. فخرج المنصور يقول : كل الطيور علفناها فالتقطت إلا سفيان " .
وقال ابن عيينة : " دخل هشام الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله ، فقال : سلني حاجة ، قال : إني أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره ، فلما خرج قال : الآن فسلني حاجة ، قال : من حوائج الدنيا ؟ أم من حوائج الآخرة ؟ قال : من حوائج الدنيا ، قال : والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها ،
فكيف أسألها مَنْ لا يملكها".(سير 4/466) .
================
من أخلاق الدعاة .. (4) التواضع وهضم النفس(2/68)
هذا الخُلق لازم للداعية مع نفسه ، ومع من يدعوهم ، ومع من تبعه على دعوته، ولا يتخيل داعية من الدعاة بغير هذا الخُلق ؛ لأن التواضع يقابله الكبر ، والمتكبر لا يوفق للخير والإيمان ، فضلاً عن أن يكون في مرتبة الدعاة ، قال سبحانه: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَق) (الأعراف/146) ، وقال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ) (القصص/83) .
وليعلم الدعاة أن الناس لا يتبعون من يتكبر عليهم ويرى لنفسه الفضل دونهم، وإنما يتبع الناس من يرفق بهم ويشفق عليهم ويرحمهم ويتودد إليهم ، ولذلك قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر/88)، وقال تعالى فيه أيضًا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/128) .
وعن عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد ] (رواه مسلم وأبو داوود).
وفيه أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله تعالى ].
وإنما يحمل على التواضع أمران
- معرفة قدر النفس ، ومعرفة فضل الرب .
- ثم النظر في أحوال السلف ، ومقارنة أحوالنا بأحوالهم لنقف على حقيقة الحال.
فأين أنت لولا فضل الله عليك وتوفيقه لك ؟ ومن الذي هداك لطريق العلم ويسر لك أسبابه ، وفتح لك أبواب الفهم ، وأعطاك القدرة على الحفظ ؟ شطارة من نفسك ؟ أو نعمة من الله ؟ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(النحل/53).
ومن لم يعرف قدر نفسه ، ويوقفها عند حدها ، وترك لخياله العنان ، قادته نفسه حتى يعيش في الوهم ، فيظن نفسه في مرتبة شيوخ الإسلام والأئمة الأعلام . فتجده يسب ويقبح ويرد ويجرح ، وربما غلا في نفسه فنال من الصحابة ـ رضي الله عنهم - وتسمعه يقول : ومَنْ أبو بكر وعمر ؟ وهم رجال ونحن رجال؟.. وهذا كثير للأسف .
وما هذا البلاء الذي نعيشه إلا لأن كل طويلب علم ظن نفسه حافظ العصر وواحد الدهر وفقيه الملة ، فلا يترك قوله لقول أحد ، ولا يرجع عن قوله ، وإن خالف السابقين واللاحقين .
فأين هذا مما جاء عن الإمام مالك في " مقدمة الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم قال : قال ابن وهب : سمعت مالكًا سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، فقال ليس ذلك على الناس ، قال : فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، قال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدلِك بخنصره ما بين أصابع رجليه ، فقال مالك : إن هذا لحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة ، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع .
هذا هو التواضع وبهذا تنال الإمامة .
فاعلم أخي الداعية : أن الاعتراف بالحق فضيلة ، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، ولأن يكون الإنسان ذيلاً في الحق خيرًا من أن يكون رأسًا في الباطل ، فعليك بالتواضع فالزمه فإنه أعظم رأس مالك ، وتأسِ بأخلاق سلفك - عليهم رضوان الله - .
يقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعًا لله " .
قال يونس بن الصرفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يومًا في مسألة ، ثم افترقنا فلقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة ؟
وهذه نسوقها للذين يقاطعون إخوانهم لأول خلاف أو مخالفة في رأي .
قال ابن المديني : كان ابن عيينة إذا سئل عن شيء قال : لا أحسن فنقول: من نسأل فيقول سل العلماء ، وسَلِ الله التوفيق .(سير 8/467) .
وسألوه أن يحدث فقال : ما أراكم للحديث موضعًا ، وما أراني أن يؤخذ عني أهلاً ، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال الأول : افتضحوا فاصطلحوا .
قال الشافعي : التواضع من أخلاق الكرام ، والتكبر من شيم اللئام ، التواضع يورث المحبة ، والقناعة تورث الراحة .
قال عباس الدوري : حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال : كانت أمي مقعدة من نحو عشرين عامًا فقالت لي يومًا : اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي ، فأتيت فدققت عليه ، وهو في دهليزه ، فقال : من هذا ؟ قلت : رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء ، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال : نحن أحوج أن تدعو الله لنا ، فوليت منصرفًا ، فخرجت عجوزٌ فقالت : قد تركته يدعو لها ، فجئت إلى بيتنا فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي .(سير 11/211) .
قال المرُّوذي : قلت لأبي عبد الله : ما أكثر الداعي لك ؟ قال : أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا ؟ .(سير 11/210) .
قال الشافعي : أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره ، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله .
هذا هو التواضع وهؤلاء هم الناس : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه) (الأنعام/90) .
===============
من أخلاق الدعاة .. (5) الطموح وعلو الهمة
قال عبيد بن زياد : كان لي خال من كلب فكان يقول لي : يا عبيد هم ؛ فإن الهمة نصف المروءة .(2/69)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " تقول العامة : قيمة كل امرئ ما يحسن ، والخاصة تقول : قيمة كل امرئ ما يطلب ".
ولابد للداعية أن تكون همته في الثريا ، وأن يكون ذا طموح وتطلعات وآفاق أن يصل بدعوته إلى أبعد الأماكن وأعلى المستويات ، ولا يستبعد على دعوته شيئًا ، وهذا الطموح لا يتأتى إلا باليقين بأن النصر لهذا الدين وأن العاقبة للمتقين .
في صحيح مسلم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زري لي منها ].
وعن تميم الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر ] (رواه أحمد)
فلو أن داعية بَشَّر أصحابه بفتح البيت الأبيض أو الكنيست أو البيت الأحمر لكان له في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة يوم بشَّر أصحابه بامتلاك كنوز كسرى وقيصر، وهو يحفر الخندق ويضرب الصخرة بمعوله ، وقد ربط على بطنه حجرين من شدة الجوع ، والحال كما وصفه الله تعالى : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً)(الأحزاب/10 ، 11) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لسراقة بن مالك حين كاد يدركه في الهجرة: [ ارجع ولك سواري كسرى ].
وقد شهد التاريخ لدعاة الحق من الصحابة فمن بعدهم بعلو هممهم ، وعظم طموحهم :
فهذا خالد بن الوليد يقول لأعدائه وقد تحصنوا منه في حصون منيعة : أين تذهبون منا ، والله لو كنتم في السحاب لأصعدنا الله إليكم أو لأمطركم علينا .
وهذا الرشيد لما نكث الناكث عهده وكتب إليه : من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب .. بلغنا أن الإمبراطورة إيرين كانت ترسل لك أموالا (جزية ) ، فإذا جاءتك رسالتي هذه فرد إلينا أموالنا وإلا فالسيف بيننا وبينك . فلما قرأ الرشيد الرسالة استشاط غضبا ، ثم كتب على ظهرها : من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم .. يا ابن الكافرة .. الجواب ما ترى لا ما تسمع .. لآتينك بجيش أوله عندك وآخره عندي . وجهز الرشيد جيشا عظيما ، وغزا به نقفور وهزمه ، حتى دفع كلب الروم الجزية عن يد وهو صاغر.
ولما حاصر محمد الفاتح السلطان العثماني العظيم مدينة القسطنطينية ، واستعصت عليه بعض الوقت ، وقف أمام أسوارها وقال : حسن والله ليكونن لي فيك قصر أو قبر . وكان له ما أراد ، وفتحها الله عليه بعد أن تأبت على قادة كثر قبله .
وتارخنا الإسلامي زاخر بهذه النوعية من الدعاة والقادة الذين قاموا لهذا الدين ونصروه ، وكانت هممهم أعلى من أوكار النسور ، وأرسخ من الجبال الرواس ، ولا شك أن بين المسلمين من يحمل بين جوانحه مثل هذه الهمة ولكنهم قليل .
في كتاب علو الهمة للدكتور الشيخ محمد بن إسماعيل : أن مؤذنًا بلغه أن برج " بيزا " يميل وأنه يكاد يسقط فبدا عليه الحزن وقال : كنت أتمنى أن أؤذن للصلاة من فوقه " .
وهذه همة عالية وطموح جيد وطيب ، ونحن لا نشك في فتح هذه البلاد وظهور الإسلام عليها ، وإنما متى يكون ذلك ؟ هذا تحدده همة الدعاة وعطاؤهم لهذا الدين للتحقق شروط التمكين.
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف/21) .
=================
من أخلاق الدعاة .. (6) الثبات على المبادئ
الثبات على المبادي من أهم أخلاق الدعاة إلى الله، وهو الخلق الذي يحدو بقلوب المدعوين إلى اتباعهم وسلوك سبيلهم واتباع طريقهم.. ومعناه أن يلتزم الداعية بالمبادئ التي يدعو إليها ، فلا ينبغي أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه في قليل أو في كثير ، بل يجب أن يكون أكثر الناس التزامًا بدعوته، وثباتا عند الفتن والملمات ، وعند مواطن الابتلاءات.
فمثلاً لا يجوز أن يأمر أتباعه باتباع السنة والتمسك بها ثم يجدونه مفرطًا في بعض السنن، وإن ظنها هو بسيطة ، كذلك لا ينبغي أن يأمرهم بالصدق ثم يسمعونه يكذب ولو مازحًا ، أو يأمرهم بالأمانة ويخون ولو مرة ، وينهاهم عن أخذ جوائز السلطان ثم يقبلها ، كما يلزمه أن يكون مثالا في الصبر والتحمل من أجل دعوته ، فإذا كان خوّارا هيابا عند طروء المحنة ووقت الشدة والفتنة، فهذا يقدح في شخصه وفي دعوته .
وإنما تظهر حقيقة الثبات عند أمرين :
1- طروء المغريات من مال ومنصب وجاه .
2- أو عند مقابلة المحن والابتلاءات .
فالمغريات أكثر ما يرد الدعاة عن وجهتهم ويثنيهم عن مبادئهم ، خصوصًا إذا لاح من وراء ذلك مصلحة ومنفعة للدعوة .
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما رواه أهل التاريخ أن قتيبة بن مسلم دخل سمرقند دون أن ينذر أهلها ، فعلم أهل سمرقند أن الإسلام يخير أهل البلدة قبل دخولها بين الإسلام أو الجزية أو الحرب ، فأرسلوا إلى عمر بن عبد العزيز ، فبعث عمر يحيل الأمر إلى جندي من الجيش اسمه "جُميع الباجي" فصار قاضيًا بين قادة الجيش بما فيهم قتيبة بن مسلم وبين أهل سمرقند ، وبعد سماع الفريقين أمر "جُميعٌ" القاضي " قتيبةَ بن مسلم قائد الجيش" أن يخرج بجيشه من البلد ، وينذر أهلها ، فإن أجابوا وإلا استأنف حربهم.
وبالفعل أمر قتيبة جيشه بالخروج من البلدة بعد فتحها ، وعندما بدأ الجيش الخروج ، أسلم أهل سمرقند ، أو أكثرهم .(2/70)
وانظر لو حدث هذا لغير المسلمين ، أو حتى لمسلمي هذا الزمان ، ثم قارن لتعرف كيف يكون الثبات على المبدأ .
ويظهر الثبات على المبادئ بصورة أوضح عند مواجهة الابتلاءات ، خاصة إذا كان ثمن الصبر هو حياة الداعية نفسه .
- ومما يروى عن عبد الله بن حذافة السَهمي - رضي الله عنه - أنه لما أسروه جوعوه أيامًا ثم أحضروا له طعامًا فيه لحم خنزير ، وخمرًا بدل الماء ، فأبى أن يأكل وأشرف على الموت ، فأحضروه وسألوه فقال: والله لقد كان لي في أكلها رخصة ولكن أردت ألا أشمتكم في الإسلام " .
- ولما سئل بلال بن رباح - رضي الله عنه - : لماذا كنت تقول أحدٌ أحد ؟ قال : والله لو علمت كلمة أغيظ لهم منها لقلتها .
- وبلغ المعز العبيدي حاكم مصر الباطني كلام عن الإمام أبي بكر النابلسي فأحضره المعز وقال له : بلغنا انك تقل لو أن عندك عشرة أسهم لوجهت تسعة منها للكفار وواحدا إلينا . قال الشيخ ما قلت هكذا .. ولكن قلت : لو أن عندي عشرة سهام لوجهت بواحد إلى الكافرين وتسعة إليكم (أي الرافضة) .، فأمر المعز جزارا يهوديا بسلخه حيا ، فما زال يسلخه والشيخ يقرأ القرآن حتى بلغ قلبه فأشفق اليهودي عليه فطعنه في قلبه فقتله .
بهذا تنتصر الدعوات
بهذا الوضوح ـ أيها الدعاة ـ تنتصر الدعوات .. بوضوح أحمد بن حنبل يوم المحنة ، وبوضوح سيد قطب حين سئل عن النظام في المحكمة فقال كافر ، وحين قيل له: لو قدمت استرحامًا ؟ قال : إن أصبع السبابة التي شهدت لله بالوحدانية لترفض أن تكتب حرفًا واحدًا تقر فيه حكم الطاغية .
لماذا أسترحم ؟ إن كنت محكومًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق ، وإن كنت محكومًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل .
بمثل هذه النماذج تتأثر الجماهير ، وتتبع الأجيال ، ويقلد الشباب .
بمثل هذه النماذج تنتصر الدعوات ، بالدماء التي تراق ، وبالأرواح التي تزهق ، وبالأشلاء التي تتناثر ، لا باللف والدوران والمخادعة الجاهلية والنفاق والتقية ، وعدم معرفة الباطن من الظاهر ، والتلون بتلون الحرباء ، فهذا لا يقيم دعوة ولا ينصر دينًا .
{يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون }(آل عمران :200)
==================
الدعاة بين رجل ورويجل
الأحداث في العالم الإسلامي تتلاحق، والمتغيرات السياسية تتابع، والصراع بين الإسلام والكفر ينتقل من طور إلى طور، ومن دائرة إلى أخرى.. والمسلمون في جميع الأحوال كالأيتام على موائد اللئام!
ولقد ورثت الصحوة الإسلامية المعاصرة تركة مهترئة من الانحراف والتخلف الذي أصاب الأمة الإسلامية بعامة، نتيجة قرون متتابعة من العجز والضعف، ولن ينهض بها من هذه الكبوة جهود أفراد معدودين مهما بلغت إمكاناتهم وقدراتهم. بل هي في حاجة لكل الطاقات والجهود، يُكمل بعضها بعضًا، ويُسدد بعضها بعضًا.. والعمل الإسلامي بفضل الله - تعالى - سائر بكل ثقة واطمئنان، يشق طريقه على الرغم من كثرة العراقيل والعقبات، ولكن ألم يسأل الواحد منا نفسه في يوم من الأيام: ما دوري في هذه المسيرة؟! وماذا قدمت لخدمة هذا الدين؟!
هل يكفي أن يبقى الإنسان مشاهدًا، متابعًا لمسيرة الصحوة الإسلامية من بُعد، لا يتجاوز دوره التشجيع والتعاطف؟! هل يكفي أن يكون دور الإنسان تكثير سواد الصالحين فحسب؟! أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع إذا أصاب الدعوة ما أصابها؟!
لا شك بأن هذه سلبية مفرطة، أقعدت كثيرًا من الناس عن الإنتاج والعطاء، وإننا نملك طاقات هائلة والحمد لله تعالى، ولكنها طاقات كامنة خاملة، لم تُسخر التسخير الأمثل لخدمة الأمة، ولقد كُبِّلت كثير من هذه الطاقات بآصار من العجز والضعف، حتى أصبحنا نرى جموعًا غفيرة من الصالحين، ولكن مع الأسف الشديد حالهم كما وصفهم الشاعر:
يُثقلون الأرض من كثرتهم.. ... .. ثم لا يُغنون في أمر جلل
ومثله قول الشاعر:
وبعضُ الرجال نخلةٌ لا جنى لها.. ... ..ولا ظل إلا أن تُعدَّ من النخلِ
إن الثروة الحقيقية التي تملكها الأمة المسلمة ليست فقط في الأموال والأجهزة والمعدات ونحوها، وإنما هي في الإنسان المؤمن الجاد الذي يشعر بالمسؤولية وعظم الأمانة.
إن الثروة الحقيقية في تلك النفوس الحية المتقدة النابضة بروح العطاء والبذل، وما أروع تلك الصورة التي جاء وصفها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيْعَة أو قَزْعة طار عليه يبتغي القتل أو الموت مظانه".[أخرجه مسلم].
فهو رجل حي نذر نفسه لله تعالى، قد هيأها للانطلاق في سبيله، لا تحده الحدود، ولا تعوقه العوائق. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "يطير على متنه". وقوله "طار عليه" فهما جملتان تدلان على سرعة المبادرة، وحيوية الحركة.
إننا في مرحلة تقتضي أن يُفكر الإنسان كيف يستطيع أن ينتج، بل كيف ينتج بأكثر من طاقته! ولن يكون ذلك ممكنًا إلا إذا وجدت الهمة العالية والعزيمة الصادقة التي تتطلع إلى أفق عال وقمة سامقة من العطاء والإبداع، ولا ترضى بالقليل من العمل.
فكنْ رجلاً رِجْلُه في الثرى.. ... ..وهامةُ همَّتِه في الثريا
قال الإمام ابن القيم: "النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار".(2/71)
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يُتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض. ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن. والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل".
فلا يقتل الطموحات إلا استصغار الإنسان نفسه، يُكبلها بالعجز، حتى يصل إلى حد الشلل الذي يعوقه عن الحركة والإنتاج، وإن طاقة الإنسان تتآكل غالبًا حينما يزدري الإنسان نفسه، ويشعر أنه ضعيف لا يستطيع أن ينجز عملاً أو يبدع أمرًا. وفي كثير من الأحيان لا يكتشف الإنسان طاقاته ومواهبه إلا من خلال التجارب.
وإنتاج المرء غالبًا يعتمد على مقدار طموحه وحمته، فالإنسان الطموح هو الذي يجعل أمامه هدفًا عاليًا، حتى لو كانت قدراته لا تؤهله لذلك الآن؛ لأنه سوف يحرص على تنمية قدراته للوصول إلى هدفه، فإذا نمت القدرات فإنه لن يبقى عند هدفه الأول، بل سوف تنمو طموحاته وتزداد، وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يُحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب".
ومَن يتهيَّب صعودَ الجبالِ.. ... ..يعش أبد الدهر بين الحُفَر
وقال حوط بن رئاب الأسدي:
دببتَ للمجد والساعون قد بلغوا.. ... ..جهْد النفوسِ وألقوا دونه الأُزُرَا
فكابَروا المجدَ حتى ملَّ أكثرهم.. ... ..وعانق المجدَ من أوفى ومَن صَبَرا
لا تحسبِ المجدَ تمرًا أنت آكله.. ... ..لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصَّبِرا
وقال أبو القاسم الشابي:
إذا صغرت نفسُ الفتى كان شوقُه.. ... ..صغيرًا فلم يتْعَب ولم يَتَجشَّم
ومَن كان جبَّار المطامع لم يزل.. ... ..يلاقي من الدنيا ضراوة قَشْعَمِ
ــــــــــــــــ
من كتاب: "في البناء الدعوي"
================
الثقافة اللغوية والأدبية للدعاة
كم يقشعرّ جلد الإنسان، ويتأذّى سمعه حين يسمع داعية ينصب المرفوع، ويرفع المنصوب، ولا يفرّق بين الفاعل والمفعول… فلا يكاد يُنهي كلمة من كلماته إلا أصابك ذهول ووهلة، أو لطمك - ولطم الخليل وسيبويه معك- لطمة أيَّ لطمة!!..
ومن ثم كانت الثقافة الأدبية واللغوية واحدة من أهم الثقافات اللازمة للداعية لزوم غيرها من الثقافات بل ربما أشد.
واللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان، وصحة الأداء، وجودة التعبير... فضلاً عن حسن أثرها في السامع، فالأخطاء اللغوية -إن لم تُحَرِّف المعنى، وتشوّه المراد- يمجّها الطبع، وينفر منها السمع.. وشر ما يكون ذلك إذا كان اللحن في كتاب الله تعالى، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر القرطبي في تفسير الآية الثالثة من سورة براءة أن أعرابيًّا قدم المدينة المنوّرة فقال: من يُقرئني مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[التوبة:3] فقرأها عليه بالجر (رسولِه)، فقال: وأنا أيضاً أبرأ مما برئ الله منه!! فاستعظم الناس الأمر وبلغ عمر - رضي الله عنه- فدعاه فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمتُ المدينة فأقرأني رجل سورة براءة، فقلت: إن يكن الله بريئًا من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر: ما هكذا الآية يا أعرابي قال: فكيف يا أمير المؤمنين؟! فقرأها عليه بالضم "ورسولُه)، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يُقرئ الناس إلا عالم بلغة العرب.
والأدب بشعره ونثره وأمثاله وحِكمه ووصاياه وخطبه… مهم جداً للداعية، يثقف به لسانه، ويجود أسلوبه ويرهف حسه، ويوقفه على أبواب من العبارات الرائقة، والأساليب الفائقة، والصور المعبرة، والأمثال السائرة، والحكم البالغة، ويفتح له نافذة على الروائع والشوامخ، ويضع يده على مئات بل ألوف من الشواهد البليغة التي يستخدمها الداعية في محلها فتقع من القلوب أحسن موقع وأبلغه… وفي طليعة ذلك القرآن الكريم المعجز للبشر في أسلوبه وبيانه، وكذلك السنة النبوية التي تحاكي إعجاز القرآن الكريم في جمال تعبيرها وبلاغتها….
ومما يؤكد هذه المعاني الشواهد التالية:
جاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة"، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر من أكثر من شاعر، واستجاده واستزاد منه، وكان من أصحابه شعراء معروفون مثل: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة… رضي الله عنهم، وأذن لحسان - رضي الله عنه- أن يذود عن الإسلام بلسانه وشعره، ويردّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجو شعراء قريش، وكان يقول له: "اهجُهم وروح القدُس معك، إن كلامك أشدّ عليهم من وقع النبْل"
وروى مؤرخو الأدب كثيرًا من الشعر للخلفاء الراشدين، وخصوصًا لعليٍّ كرٍّم الله وجهه، فقد روى عنه كثير من الشعر الجيد البليغ، كما رووا أيضًا لكثير غيرهم.
ومن لم يقل الشعر منهم فقد رواه ورغّب في روايته:
فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: (علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وروّوهم ما جمل من الشعر). وقالت عائشة رضي الله عنها: (روُّوا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم).
وقال المقداد بن الأسود: (ما كنتُ أعلم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بشعر ولا فريضة (علم المواريث) من عائشة رضي الله عنها).(2/72)
وكان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- من أروى الناس للشعر، حتى حكوا أنه كان يحفظ رائية عمر بن ربيعة، وكان يستند إلى الشعر في تفسيره للقرآن، كما يعرف ذلك مما يروى من محاورته لنافع بن الأزرق.
ويروى أن زيادًا بعث بولده إلى معاوية -رضي الله عنه- فكاشفه عن فنون من العلم، فوجده عالماً بكل ما سأل عنه، ثم استنشده الشعر فقال: لم أرْوِ منه شيئًا، فكتب معاوية إلى زياد يقول له: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ ليرويه فيبرّ، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل….
وهذا يدلنا على مقدار ما للأدب عامة، وللشعر خاصة من تأثير في النفس البشرية، كما يدلنا على أن العناية بالأدب، والتضلع منه، والاطلاع على مصادره، والحرص على ترديد فوائده، والاستفادة منها عند الحاجة أمر لازم للداعية الناجح الموفق.
ولنضرب على ذلك مثلاً:
هب أنك تتحدث إلى الناس عن حقوق القرابة، وصلة الرحم، وذكرت من الشواهد ما تيسّر من الكتاب والسنة، أفلا يكون مما يوسّع أفق حديثك، ويزيده تأثيرًا أن تذكر بعض ما حفلت به كتب الأدب في ذلك من شعر ونثر…
فمن ذلك: قول علي رضي الله عنه: (أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير).
وقول طرفة في معلّقته:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة.. ... ..على المرء من وقع الحسام المهنَّد
وقول الآخر:
أخاك أخاكَ إن مَنْ لا أخًا له.. ... ..كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عمِّ المرء فاعلم جناحُه.. ... ..وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقول الحماس:
وإن الذي بيني وبين بني أبي.. ... ..وبين بني عمِّي لمختلف جدّا
إذا أكلوا لحمي وفَرتُ لحومهم.. ... ..وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ.. ... .. وليس كبير القوم مَنْ يحمل الحقدا
وقول الآخر:
قومي هُمُ قتلوا أُمَيْمَ أخي.. ... ..فإذا رميتُ يصبني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفَونَّ جَلَلاً.. ... ..ولئن رميتُ لأُوهننَّ عظمي
حتى الطرائف والمُلح الأدبية يجد الداعية الموفق لها مكانها ووقتها، فينتفع بها، ليثبت بها معنى معينًا، أو ليروّح بها عن سامعيه.. كما قيل: "إن القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة".
وكثيرًا ما استعار أهل المحبة لله أشعار المدح والثناء.. فاستعملوها في أغراضها الربانية، ولم يلتفتوا إلى المناسبة التي قيل بها الشعر..
وقد أنشأ أبو فراس الحمداني أبياتًا من قصيدة يخاطب بها أميره وابن عمه سيف الدولة، فنقلها الصالحون إلى مخاطبة الحق جلَّ جلاله، وهي قوله:
فليتك تحلو والحياة مريرة.. ... ..وليتك ترضى والأنام غضاب
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ.. ... ..وبيني وبين العالَمين خرابُ
إذا صحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هينٌ.. ... ..وكل الذي فوقَ التُّرابُ تُرابُ
ولكن على الداعية أن يتجنب أشعار الفُحش، وطرائف الغيبة، ومُلَح التعريض بالناس؛ حتى لا يقع في مخالفات شرعية، أو يثير في النفوس أحقادًا نفسية، أو يسبب في الأمة انقسامات اجتماعية.
=================
الثقافة التاريخية للدعاة
يحتاج الداعية خلال مسيرته الدعوية إلى إثراء مجموعة ثقافات تلزمه في دعوته .. ومن هذه الثقافات الثقافة التاريخية .. فالتاريخ هو ذاكرة البشرية، وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشاهد العدل لها أو عليها، ويهمنا في ذلك تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة، وتاريخ الإنسانية بصفة عامة، أعني المواقف الحاسمة منه، والملامح الرئيسية فيه.
لماذا دراسة التاريخ؟!!
• لأن التاريخ يوسع آفاق الداعية في اطلاعه على أحوال الأمم، وتاريخ الرجال.. فيرى الإنسان من خلال دراسة التاريخ بعين بصيرته كيف تعمل سنن الله في المجتمعات بلا محاباة ولا جور؟ وكيف ترقى الأمم وتهبط، وكيف تقوم الدول وتسقط، وكيف تنتصر الدعوات وتنهزم، وكيف تحيا الحضارات وتموت، وكيف ينجح القادة ويفشلون، وكيف تنام القلوب وتصحو. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46].
• ولأن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم، فهو مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى، ونهاية الكفر والفجور، وجزاء الشاكرين لأنعم الله، وعقوبة الكافرين بها.. وكيف يجني من يغرس الخير، ويحصد من يزرع الشوك، ولذا عني القرآن الكريم بذكر قصص السابقين، وتواريخ الغابرين، لما فيها من عِبر بليغة، وعظات حية.. كما قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق:36، 37].
والداعية يحتاج إلى أن يستشهد للمعاني والقيم التي يدعو إليها بأحداث التاريخ، ومواقف الأبطال، وأحوال الأمم.. فهذا أعون على تثبيتها في العقول والقلوب..
• ولأن التاريخ كثيرًا ما يعين على فهم الواقع الماثل، ولا سيما إذا تماثلت الظروف، وتشابهت الدوافع، وهذا ما جعل العرب قديمًا يقولون: "ما أشبه الليلة بالبارحة"، وجعل الغربيين يقولون: "التاريخ يعيد نفسه"، بل القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى كما في قوله: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)(البقرة:118].
حقائق ينبغي أن ينتبه لها الداعية(2/73)
1- أن يستخرج المغزى الأخلاقي للتاريخ، واتجاهات الأحداث فيه، وحصادها الناطق بلسان الحال؛ وأن يستنبط منه رؤوس العبر، ومواقع العظمة.. لا أن يستكثر من الجزئيات، ويُسهب بالتفصيلات والوقائع.
2- أن يكون ذا وعي يقظ للوقائع التاريخية التي تخدم موضوعه، وتعمق فكرته، وتقدم لها الشواهد الحية.. وليس من اللازم أن يجد هذه الوقائع في كتب التاريخ المتخصصة، بل كثيرًا ما يلتقطها بحسه الواعي من مصادر قد لا يلتفت إليها كثيرًا رجال التاريخ، فقد يلتقطها من القرآن الكريم فيما قصّ علينا من أخبار الأمم، وقد يلتقطها من كتب الحديث والآثار.. وقد يلتقطها من بعض كتب الأحكام مثل كتاب "الخراج" لأبي يوسف، وكتاب "الأموال" لأبي عبيد، وقد يلتقطها من كتب الأدب، أو كتب الحسبة، أو كتب الرحلات، أو كتب الفتاوى.. أو غيرها.
3- أن يعني بسيَر الرجال، ومواقف الأبطال، وبخاصة العلماء، والدعاة، والمرشدون الربَّانيون، والأئمة المجتهدون.. وفي تاريخنا ثروة من السِّيَر تتمثل فيها الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، وتبرز الشخصية المسلمة مجسدة في مواقف وأعمال.. كما نلمس ذلك في كتب الطبقات والتراجم، ونجد ذلك في " سير أعلام النبلاء" ، و"وفيات الأعيان" ، و"طبقات ابن سعد" و"تهذيب التهذيب" و"حلية الأولياء" و"صفة الصفوة".
4- أن يهتم بربط الحوادث والوقائع بأسبابها وعللها المعنوية والأخلاقية، فالذي يطالع تاريخنا الإسلامي بعمق، ويتأمل سيره بدقة، يجد أن المد والجزر، والامتداد والانكماش، والنصر والهزيمة، والازدهار والذبول.. كلها ترتبط بمقدار صلة الأمة بالإسلام أو انفصالها عنه، وقربها من تعاليمه أو بعدها عنها، وحسبنا أن ننظر نظرة عَجلى إلى عصر الراشدين، أو عصر عمر بن عبد العزيز، أو عصر الرشيد، أو عصر نور الدين وصلاح الدين.. لنرى تمسكًا بالدين أو رجعة إليه، ونرى ثمارها عزًّا وازدهارًا، والعكس بالعكس في عصور أخرى.
5- أن يكون محور التاريخ الإسلامي هو الإسلام نفسه دعوة ورسالة، وأثره في تربية الأجيال، وتكوين الأمة المسلمة، وإقامة الدولة الإسلامية، وبناء الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية، وتأثير الإسلام في العالم كله، وقدرته على الانتشار عند القوة، والمقاومة عند الضعف، واستطاعته التأثير في الناس ليعتنقوه عن رضىً واختيار - كما تم ذلك مع السلاجقة والتّتار - واختزانه أيضًا كل أسباب الحيوية، وطاقات القوة لإمداد أمة الإسلام بروح الجهاد، وعنصر المقاومة.. لإثبات الذات، واستعادة المجد.
وينبغي للداعية أن يركز على الحقائق التاريخية التالية:
1- يجب إبراز الجاهلية العالمية والعربية بكل أفكارها، وتصوراتها، ودعواتها، وأساليبها.. بلا إفراط ولا تفريط.
ذلك أن النزعات التبشيرية والاستشراقية.. تريد أن تُلبس الجاهلية الحاضرة لبوسًا حسنًا، مضخّمة ما كان لها من حسنات، متغاضية عمَّا عجّت به من مثالب، وقد طرب لذلك القوميون، وخصوصًا من العرب، فحرصوا على عرض الجاهلية العربية مبرّأة من كل عيب.. كما يبدو ذلك في دراسة التاريخ والأدب، وما سمي "المجتمع العربي".. متجاهلين ما كان عليه العرب قبل الإسلام من فساد العقائد والأخلاق والأنظمة والتقاليد!
ورضي الله عن عمر الذي قال: "إنما تنقض عُرا الإسلام عُروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".. وهذا بشرط ألاَّ يمسّ ذلك ما تميزت به أمة العرب، ولغة العرب، وأرض العرب.. من خصائص ومزايا رشحتها لحمل الرسالة الإسلامية الخالدة إلى الناس (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)[الأنعام:124].
2- ينبغي الاهتمام بحركات الإصلاح والتجديد في تاريخ الإسلام، وبرجال التجديد الذي يبعثهم الله بين حين وآخر ليجدِّدوا لأمة الإسلام أمر دينها، كعمر بن عبد العزيز، ونور الدين الشهيد، وصلاح الدين، والشافعي، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وحسن البنا.. وقد يكون المجدد فردًا أو جماعة أو مدرسة إصلاحية، يبرز بها اتجاه في الإصلاح له سماته وخصائصه.
3- كما يجب الالتفات إلى دور الإسلام ورجاله وأثره في حركات المقاومة والتحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي، منذ وطئت أرضه جيوش الاستعمار، فرغم المكر الصليبي، ومحاولات التخدير والتضليل.. لم يسلم الاستعمار من المقاومة الباسلة في كل بلد دخله، وأريقت الدماء، وسقط الشهداء تلو الشهداء.. ولم تزل المقاومة على مر الزمن حتى كان التحرير، وكان الإسلام وعلماؤه ودعاته وراء هذا الجهاد للاستعمار بريطانيًّا كان أو فرنسيًّا أو إيطاليًّا أو أسبانيًّا؛ كأمثال الشيخ ابن باديس في الجزائر، والشيخ عمر ا لمختار في ليبيا، والشيخ العربي الدرقاوي في المغرب، والشيخ عز الدين القسّام في فلسطين.. ومئات غيرهم، وقد شهد بذلك مؤرخون غربيّون مثل "برنارد لويس" في كتابه "الغرب والشرق الأوسط".
وعلى الداعية أن يحذر في المجال التاريخي من أمرين هامين:
• أولا: أن يحذر الروايات التاريخية التي دُوّنت بلا تمحيص ولا تحقيق:
فليس كل ما تحويه كتب التاريخ صحيحًا تامًّا.. فكم حوت مراجع التاريخ من مبالغات وتشويهات وتحريفات تكذبها الحقائق الثابتة بالاستقراء أو بالموازنة بالأدلة الناصعة في مصادر أخرى؟!!(2/74)
وكم لعبت الأهواء والعصبيات السياسية والدينية والمذهبية دورها في كتابة التاريخ وفي رواية وقائعه، وتلوين أحداثه، وتصوير أبطاله مدحًا أو ذمًّا، إيجابًا أو سلبًا! وخصوصًا إذا علمنا أن التاريخ يكتبه عادة المنتصرون الغالبون، والغلبة لها بريق وأضواء كثيرًا ما تعشَى أعين المؤرخين عن سوءات الغالبين، في حين تُضَخَّم أخطاء المغلوبين، وتطمس فضائلهم عن قصد أو غفلة.
وإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي الذي يتعلق بأمثل عصور الإسلام وأفضلها وهو تاريخ العصور الأولى التي شهد لها الرسول - صَلى الله عليه وسلم - بالخيرية، والتي انتشر فيها الإسلام في الآفاق، وانتشرت معه لغته وفقهه، واتّسع فيها تعلم كتابه وسنة نبيه، وهو تاريخ عصر الصحابة ومن تبعهم بإحسان.. إذا نظرنا إلى هذا التاريخ وجدناه قد ظُلم وشُوّه في كتب التاريخ أي ظلم وتشويه؟!! ثم يجيء المعاصرون ليأخذوا من تلك الكتب بِعُجَرها وبُجَرها، وبغثها وسمينها.. ويقولون: نحن لم نحد عن الطريقة العلمية الموضوعية، فمصدرنا فيما ننقل من نصوص تاريخية: الواقدي، أو الطبري، أو ابن الأثير.. نعزو فيما نأخذ إلى جزء كذا، صفحة كذا، طبعة كذا..
هكذا يصنع المستشرقون، وهكذا يفعل أساتذة التاريخ في الجامعات، وهكذا يسير الذين يكتبون عن التاريخ ممن يريدون أن يشوّهوا تاريخنا الناصع، ويطعنوا بعظمائنا الأفذاذ.
كان لزامًا على علماء الإسلام، ورجال الاختصاص، وأهل التحقيق.. في كل زمان ومكان.. أن يكلفوا أنفسهم في البحث عن النصوص التاريخية، والتحقق من أسانيدها، والعوامل السياسية التي أثرت فيها.. ولا سيما المطاعن التي سددت لجيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
وعذر الأئمة كالطبري وأمثاله في أمرين :
الأول : أنه يروي الحوادث بسندها إلى من رواها ، وقد قيل :" من أسند فقد حمّل " وكان هذا مقبولا في زمنه لكثرة العلماء.
وقد قال الطبري نفسه في مقدمة تاريخه:" .. فما كان في كتابي هذا مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة فيعلم أنه لم يؤت من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقله إلينا ، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا .." ، وهكذا أخرج نفسه من العهدة وألقاها على القارئ.
والثاني : أنه لم يهتم بتمحيص ما روي؛ إذ موضوعه التاريخ ولا يترتب عليه حكم شرعي من تحليل أو تحريم أو غيرها .. وقد قال عن نفسه مسوغا هذا التساهل بقوله : " ... إذ لم نقصد بكتابنا هذا الاحتجاج" يقصد الاحتجاج للأحكام.
الأمر الثاني : الحذر من التفسيرات المشوهة للتاريخ
في عصرنا اليوم الذي هو عصر الأهواء والعصبيات والتيارات الفكرية يتعرض تاريخنا الإسلامي لتفسيرات مشوّهة مغرضة من قِبل أناس قلبوا الحقائق، وحرّفوا الكَلِمَ عن مواضعه، وإليك - أخي الداعية - نماذج من هذا القلب والتشويه:
فالمستشرقون والمبشرون.. حين يبحثون في التاريخ يخدمون به فكرة بيّتوها عن محمد صَلى الله عليه وسلم ودينه وأصحابه، فمحمد صَلى الله عليه وسلم عند هؤلاء ليس برسول الله، والإسلام ليس بدين الله، وأصحابه ليسوا إلا عصابات من المغامرين المتنافسين على الدنيا، المتعطشين لإراقة الدماء، المكرهين الأمم بالقوة على الإسلام.. لا يعتقدون بدين سوى اليهودية والنصرانية، أما الإسلام في زعمهم نسخة محرَّفة منهما، وتعليم بشر، حتى الحضارة الإسلامية فإنها طبق الأصل عن حضارة اليونان والرومان.. (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)[التوبة:30].
وفي سبيل هذا يغفلون أحداثًا قيمة، ويضخمون أحداثًا تافهة، ويعتمدون أخبارًا ضعيفة أو مكذوبة، يتصيدونها من أي كتاب، ولو كان كتاب "الأغاني" للأصفهاني. ويوجهون هذا كله توجيهًا مغرضًا مسمومًا يؤيد اعتقادهم السابق عن الإسلام وكتابه ورسوله وأصحابه وأمته.. كأمثال المبشرين: جرجي زيدان، وفيليب حتى، وسلامة موسى..
والماركسيون الشيوعيون .. يفسرون التاريخ - وفقًا لفلسفتهم المعروفة - تفسيرًا ماديًّا طبقيًّا، ويحاولون أن يطبقوا ذلك على نشأة الإسلام وظهوره، ويسفُّون في ذلك غاية الإسفاف، ويحمّلون الوقائع والأحداث ما لا تحتمل، ويقسِّمون الصحابة - رَضي الله عنهم - إلى يمين ويسار، ويديرون صراعًا موهومًا بينهم..
وكثيرٌ من كتّاب المسلمين أنفسهم - ويا للأسف - يخلعون على حوادث التاريخ، ومواقف رجاله ما عرفوه وخبروه من ألاعيب السياسة، ومواقف رجالها في هذا.. ويتخيّلون العلاقة بين عمر وخالد، أو بين عثمان وعلي، أو بين علي ومعاوية وطلحة والزبير - رَضي الله عنهم جميعًا - من أمثال العلاقة بين الطامحين والطامعين من رجالات الأحزاب، وتجّار السياسة في عصرنا، ويفسِّرون المواقف والأحداث تبعًا لهذا التصور الظالم، والمتجنِّي على هذا الجيل المثالي الذي لم تكتحل عين الدنيا برؤية مثله، بل عقمت أم التاريخ أن تلد جيلاً مثل هؤلاء!!
والقوميون من العرب .. يوجهون التاريخ الإسلامي كله وجهة قومية بحتة، فالإسلام في نظرهم انتفاضة عربية أو وثبة من وثبات العبقرية.. ورسول الإسلام - صلوات الله وسلامه عليه - بطل قومي، جادت به أمة العرب على الإنسانية!!(2/75)
فمن الطبيعي بعد هذا التفسير المشوّه للتاريخ أن يغدو أبطال الإسلام، وعلماؤه، ورجالاته الكبار على مدار الزمن في نظر هؤلاء أبطالاً عربًا، وأن تُسمى الحضارة الإسلامية أيضًا "حضارة عربية".. وذلك لقطع الصلة بين العرب وبين الإسلام.. علمًا بأنه لولا الإسلام لما كان للمسلمين في التاريخ بطولات ولا حضارة ولا أمجاد.. ورحم الله الفاروق عمر أمير المؤمنين القائل فيما رواه الحاكم: "نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام؛ فمهما ابتغينا العزة بغير الإسلام، أذلنا الله".
فعلى الداعية أن يحذر مثل هذه التشويهات والتفسيرات للتاريخ الإسلامي، بل عليه أن يحذِّر الجيل المسلم من أن يقعوا في شراكها، ويتأثروا بمفاهيمها..
=================
من لهؤلاء .. ؟!!
كان يأتي إلى المسجد الوحيد في المدينة من مكان بعيد جدًّا لأداء صلاة الفجر، وعلى الرغم من المخاطر التي كانت تقابله وكانت تمنع كثيرًا من الناس من الحركة في هذه الساعة المبكرة من اليوم، فقد كان حريصًا أشد الحرص على ذلك، وسمعته يقول: "منذ أن قرأت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بشر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"، وأنا حريص على أن أكون من أهل هذا الحديث، إن شاء الله.
سألته: ما الذي دعاك إلى الإسلام .. ؟!
فقال: ولدت في جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي لأب مسلم وأم نصرانية، كنت أرى أبي يؤذن في البيت ويصلي، ولكني ما كنت أعرف ماذا يفعل، فقد توفى وعمري سبع سنين فقط لا غير، كل الذي أدريه أنه أسرَّ إلى في مرض وفاته قائلا: (أنت مسلم يا ولدي .. إياك أن تذهب إلى الكنيسة مع أمك .. أنت مسلم، أليس كذلك ؟ !!) ثم فارق الحياة ..
نسيت وصية أبي .. أو قل: لم أكن أفهمها . وذهبت إلى الكنيسة، فقد كانت أمي كاثوليكية متدينة، وما كنت أقتنع بكثير مما أسمعه أو أراه هناك.. فلما كبرت كنت أتفلت من قيود الكنيسة، واشتغلت بالتجارة، فانفتحت على الدنيا، فازدادت غفلتي وبعدي عن التفكير في الأديان جميعها.
حتى جاء اليوم الذي سافرت فيه إلى جزيرة (جاميكا) لغرض التجارة، كنت أسير في أحد شوارع العاصمة , وفجأة .. سمعت صوتا رخيما متخشعا ينادي بالأذان، ما كنت أعرف ماذا يقول، ولكني تذكرت والدي، تذكرته وهو يشدني على صدره، والدموع تملأ عينيه، ويقول لي: ( أنت مسلم .. أليس كذلك ؟!) وكأنه يستعطفني أو يستجديني، أحسست برعدة شديدة تسري في حسدي، لا أدري لماذا اقترن الإسلام عندي بالأذان، فما كنت أعرف عنهما شيئا . وأخذت أرتجف، حتى انفجرت بالبكاء .. مشاعر كثيرة اختلطت في ذهني، وكأني وجدت شيئا عزيزًا على نفسي طالما افتقدته .. بكيت، وبكيت.. وما كنت أبالي بنظرات المارة الذين ينظرون إلي ويتعجبون.
ذهبت أبحث عن مصدر الصوت، حتى دلوني على المسجد، فوجدت المؤذن رجلا كبيرًا أميا لا يعرف شيئا كثيرًا عن الإسلام، فعاجلته بالسؤال بعد السؤال، لكنه لم يشف غليلي، وإنما دلني على مكتبة المسجد، فما وجدت فيها شيئا أقرؤه إلا ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية .. فأخذت أقرأ بنهم شديد حتى وقفت على قول الله تعالى:)لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73) .. فأحسست بهزة عنيفة أيقظتني من سبات عميق، وما بت تلك الليلة إلا وأنا أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
تأملت هذه القصة، ثم رجعت إلى نفسي، وقلت: كم هم أولئك الحيارى الذين يتخبطون في ظلمات الجاهلية شرقا وغربا، بل وفي ديار الإسلام، ومنهم من كانت أمهاتهم غير مسلمات ومع ذلك لم نحسن عرض الإسلام عليهم بصفائه ونقائه ومحاسنه العظيمة؛ على الرغم من التقنيات الهائلة التي تميز بها هذا العصر، حتى إن القرآن العظيم لم تتيسر لنا ترجمة معانيه ترجمة سليمة خالية من الأخطاء المنهجية واللغوية إلى اللغات الحية فضلا عن اللغات الأخرى.
إن البشرية .. كل البشرية متعطشة إلى هذا القرآن العظيم لينقذها من حيرتها وتخبطها، وإنه أمانة عظيمة، فهل نعي هذا ..؟!!
================
دور المسجد في بناء الشباب
مرحلة الشباب هي المرحلة الحرجة التي يمر فيها الشباب بتغيرات جسمية ونفسية وعاطفية، ويتعرض فيها للصراع بين المثل العليا والسقوط في حمأة الرذيلة، وللتناقض والازدواجية بين ما يلقنه وما يعيشه وبين ما يسمعه وما يراه.
المسجد طوق النجاة
والمسجد بالنسبة للشباب في هذه المرحلة هو طوق النجاة، والداعية الناجح هو السباح الماهر الذي يستطيع أن ينتشل هذا الغريق من بين أمواج الفتن والظلمات التي تكتنفه من كل جانب..
ونحن نوجه الحديث هنا إلى الدعاة فقط، ولا نخاطب الموظفين من أجل "لقمة العيش" فهؤلاء نسقطهم تمامًا من الحساب.. نتحدث مع الدعاة الذين حملوها أمانة ملكت عليهم أنفسهم، وسرت في شرايين أجسامهم، فأصبحت هي شغلهم الشاغل وهمهم المُقعِد المقيم.. لا عن الذين قال فيهم الشاعر:
فأما القتال فلا قتال لديكم.. ... ..ولكن سيرًا في عراض المواكب(2/76)
إن الداعية الذي أخلص لله نفسه هو الذي يجعل من رسول الله r قدوته ومثله الأعلى، فقد كان رسول الله r هو المحور الذي تدور عليه الحياة من حوله، فقد كان أباً لكل صغير، وأخًا لكل كبير، وملاذًا يلجأ إليه الناس لحل ما استعصى عليهم من مشاكلهم، وقد كان المعلم والمشرف الاجتماعي والطبيب النفسي، ولن يستطيع الداعية إلى الله تمثُّل هذه القدوة إلا بثقافته العالية التي تنمو يومًا بعد يوم، فرسالته وعلمه هما اللذان يفرضانه على الناس، والعمل الجيد يفرض نفسه.
وبالطبع لن نستطيع استيعاب دور المسجد في هذا المجال الضيق، ولكننا سنركز على ما يمكن أن يقدمه المسجد للشباب، فالمسجد وحده هو الذي يستطيع أن يقدم للشباب ما عجزت أن تقدمه لهم المدرسة والبيت والشارع ووسائل الإعلام.
يقول علماء النفس في هذا المجال: إن مرحلة المراهقة هي الفترة التي يكون الدين فيها بالنسبة للشاب، هو المخرج والمتنفس الوحيد، الذي يحقق له الأمان من الضغوط النفسية والمشاكل الانفعالية، التي تقع عليه من داخل نفسه وخارجها.
فنذكر إخواننا الدعاة أن المعركة ميدانها عقول الشباب، والشباب الذي يعاني من الفراغ الديني يقع فريسة لا تكلف شيئًا للشيوعية والمذاهب التي تدعو إلى ا لتحلل من ضوابط الدين.
وإن الشيوعيين (وكل أصحاب الأفكار الهدامة) على ما عندهم من البضاعة المزجاة، فإنهم عرضوها على الشباب عرضًا أنيقًا منمقًا، جعل بعضهم يفتتن بهذا المسخ المنحرف للفطرة البشرية.. فكيف بنا ونحن أصحاب الدين الحق نفشل في عرض ديننا عرضًا قويًّا مغريًا ينبئ عن حقيقته الرائعة..؟
وإن نصيبًا كبيرًا من هذا التحلل الذي ينتاب الشباب يقع العبء فيه والمسؤولية عنه أمام الله في ساحات القيامة على عاتق الذين يخذلون دينهم ودعوتهم ، أو الذين يسيؤون طريقة عرض الدين على الناس ، أو يعرضونه بطريقة منفرة
ما الذي يمكن أن يقدمه الداعية إلى الشباب؟
إن شبابنا في طول الوطن الإسلامي وعرضه ما زال بخير رغم حملات التضليل الضارية التي تشن عليه من كل الجبهات المعادية للإسلام.. وشجرة الإيمان مازال أصلها ثابتًا في قلوبهم، ولكنهم يفتقدون القيادة.. يفتقدون القدوة، بعد ما أصيبوا بالإحباط وبالغصص في حلوقهم وهم يرون الأكابر كل يوم يقولون ما لا يفعلون.. يسمعون كلامًا رنانًا ووعودًا جوفاء يصرح بها اليوم لتبتلع غدًا.
والشخصية الوحيدة التي يمكن أن تقدم هذه القدوة حية متجسدة هي شخصية الداعية المخلص، فيصبح بذلك أجمل عنوان لأعظم رسالة. ومهمة الداعية هي أن يقوم بعملية حصار للأباطيل والمبادرة إلى الرد على محاولات النيل من العقيدة، وتصحيح مفاهيم الشباب من الخلط والخبط الذي تمارسه وسائل الإفساد.
نريد أن تتحول خطبة الجمعة إلى "مدرسة الجمعة" مدرسة تعالج فيها موضوعات الساعة وقضايا الشباب، مدرسة تعرض عظمة الإسلام في معالجة مشاكل العصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ونحن لا نلقي بالاً للذين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون بفصل الدين عن الدولة. (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)[الأنعام:91].
ولا نريد من الداعية أن يكون دوره هو الدور الإيجابي الوحيد.. فما المانع أن يكون الداعية مكتبة في مسجده بالجهود الذاتية يستطيع كل رواد المسجد الاستعارة منها بموجب إيصال مطبوع يكتب عليه المستعير بياناته فتكون استعارة الكتب منها خالية من تعقيدات المكتبات العامة.. إننا بمثل هذا العمل نستطيع جذب المزيد من السباب المسلم إلى المسجد وربطه به.
ما المانع أن يتنازل الداعية عن الدرس بعد صلاة الجمعة، ليقدم أحد الشباب من رواد المسجد ليلقي موعظة يكون هو قد أشرف على أعدادها أو يقدم طالبًا من كلية الزراعة، أو الطب، أو الصيدلة، ليقدم إلى جماهير المصلين وجبة علمية إسلامية من خلال تخصصه يفيد منها المسلمون في حياتهم العامة.. إن هؤلاء الشباب سيكونون صفًا ثانيًا للدعوة إلى الله..
ومن أجل الأعمال التي يمكن أن يقدمها المسجد للفتاة المسلمة أن يخصص الداعية ساعة معينة في يوم معين من أيام الأسبوع لتكون درسًا للمرأة المسلمة، والمرأة ليست أقل تأثرًا من الرجل في شؤون العقيدة، وليس هذا بدعًا من الأعمال، فعن عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال جاءت امرأة إلى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُول اللَّهِ ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك اللَّه. قال: "اجتمعن يوم كذا وكذا". فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمهن مما علمه اللَّه، ثم قال: "ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار". فقالت امرأة: واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واثنين".
ومما يزيد من حيوية المسجد وإشعار المسلمين بعظمة الإسلام أن تقدم من خلال المسجد نماذج تطبيقية للسلوك الإسلامي في مجال التكافل الاجتماعي، بأن يقوم الداعية بمساعدة شباب المسجد بقيادة حملة لجمع التبرعات من الملابس والأغطية وغيرها، وذلك في بداية فصل الشتاء، ثم يقوم بعد ذلك بتوزيعها على الفقراء.
كل هذا النشاط يمكن أن يقوم به الداعية لمزيد من ربط الشباب بالعقيدة من خلال المسجد، ونحن نقدمها كأمثلة ولكنها ليست نظرية، لأنها طبقت وآتت ثمارًا طيبة والحمد لله رب العالمين. ولعل بعض الأخوة الدعاة قد تجاوزوا هذه المرحلة فهنيئًا لهم توفيق الله لهم.
المسجد ومشكلات الشباب العاطفية:(2/77)
الإسلام لا يدفن رأسه في الرمال، ولا يعامل البشر كملائكة، ولم يجعل الجنس عيبًا ولا دنسًا ولا قذرًا إذا كان في إطار من الحدود التي حدها الله عز وجل، وتأسيسًا على ذلك فليس هناك مانع على الإطلاق من التعرض لمشكلات الشباب الجنسية والعاطفية، سواء أكان ذلك على المنبر أو في الدرس بعد الجمعة.
وليس من المعقول أن تعرض الفضائح على الشاشات، وعندها نأتي لنعالج نتحرج من العلاج، فنكون قد أخلينا الميدان تمامًا لهذه الوسائل لتمارس الهدم كما يحلو لها..
ولأن الكلام في الجنس سلاح ذو حدين، فإننا سنضع بعض الضوابط التي تساعد الداعية في هذا المضمار:
أولاً: توعية المستمعين بأن الكلام في الجنس للإصلاح أو للتعليم ليس حرامًا، فإن العلم يضيع بين الكبر والحياء، وهذا رسول الله r يقول: "أيها الناس.. إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهنَّ".
ثانيًا: معالجة الموضوعات الجنسية بصورة مهذبة، وألفاظ غير جارحة للحياء والمشاعر، ولنا في كتاب الله وسنة رسوله - عندما يتحدث عن الجنس - أسوة حسنة ومنهج راشد.
ثالثًا: عدم تسليط الأضواء القوية على الأفعال الجنسية والدخول في التفصيلات التي تثير الشهوات، فإن الله عز وجل عرض في القرآن قضية الشذوذ الجنسي، وتحدث عن اللحظات الحرجة التي يعلو فيها نداء الغريزة فوق كل نداء، تحدث عن يوسف وامرأة العزيز، مشهد جرت تفاصيله داخل حجرة نوم امرأة العزيز، ومع ذلك لم يكن تركيز القرآن على أنواع العطور التي وضعتها، ولا الملابس التي لبستها، ولا على صنوف المغريات والمهيجات، ولكن التركيز كان مسلطًا على موقف الترفع والتسامي والاعتصام بالله، وتفضيل النوم وراء القضبان على النوم على الأثاث والرياش ونيل المتعة، فينبغي على الداعية أن يكون غاية همه ليس الفعل في ذاته، وإنما في الأضرار المترتبة عليه.
رابعًا: على الداعية أن يكون محيطًا بالموضوع الذي يتحدث فيه إحاطة كاملة من شتى جوانبه، وأن تكون عنده خلفيات عنه يحتفظ بها لنفسه، فليس كل ما يقرؤه أو يعلمه يتحدث به إلى الناس، وذلك لأن نسبة عالية من الشباب الذي يستمع إليه قرأ الكثير عن الموضوع الذي يعرضه، فإذا لم يشعر الشباب الذين يستمعون إليه أنهم أضافوا إلى معلوماتهم جديدًا، وصححوا مفاهيمهم الخاطئة من منطق الإقناع والحجة، فإن النتيجة ستكون فقدان الثقة بالداعية ومعلوماته معًا. ولعل في الكتاب الذي بين يديك وفي المراجع التي رجع إليها ما يعينك على كثير مما تريد، وفقني الله وإياك إلى سبيل الرشاد.. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]
ـــــــــــــــ
بقلم/ عبد الرحمن واصل
===============
الدعاة .. ورعاية مقتضى حال المدعوين
الذكاء في الدعوة إلى الله له دوره الكبير والمؤثر في نشر هذه الدعوة بين الناس وفي مدى قبولهم لها وانتفاعهم بها .. ومن أكبر ما يعين الداعية على ذلك مراعاة حال المدعوين وما يناسبهم في لحظتهم من أنواع الخطاب وهو ما يسمى بمراعاة مقتضى الحال.
فينبغي للمرشد (الداعية) النابه أن يلاحظ ما تقتضيه أحوال الأشخاص والمجتمعات الخصوصية والعمومية، ويراعى أيضًا الزمان والمكان من إلقاء درس أو خطابة أو شدة أو لين أو جدل بالحسنى أو ضرب مَثَل أو رواية قصص أو إيجاز أو إطناب فيما يقول إلى غير ذلك مما يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والجامع لهذه المتفرقات قول الله جل ثناؤه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125]، فإنه تعالى أمر النبي صَلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الإسلام - الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم، وأخرى بملة إبراهيم - بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبهة، وذلك بالنسبة لأولى النفوس القويةِ الاستعداد لإدراك المعاني الطالبين للحقائق وهم الخواص، وبالخطابيات المقنعة والعبر النافعة على وجه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتتوخى الخير لهم، وذلك بالنسبة لذوي النفوس الكدرة ضعيفة الاستعداد الشديدة الألف للمحسوسات القوية التعلق بالرسوم والعادات، ولكن لا عناد عندهم وهم العوام، وبأحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر، واستعمال المقدمات تسكينًا لشغْبهم وإطفاءً للهبهم، كما فعل الخليل عليه السلام، وهذا بالنسبة للمعاندين المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، لما غلب عليهم من تقليد الأسلاف، ورسخ في نفوسهم من العقائد الباطلة فصاروا بحال لا تنفع فيه المواعظ والعبر، بل لابد من إلقامهم الحجر، لكن بأحسن طرق الجدال لتلين عريكتهم وتزول شكيمتهم.
أحوال المدعوين
ويصح أن يقال: إن هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن المدعوين على ثلاثة أحوال:
منيب متذكر: ، وهذا شديد الحاجة إلى معرفة الأوامر والنواهي.
ومعرض غافل: ، وهذا شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب.
ومعارض متكبر: وهذا شديد الحاجة إلى المجادلة .
فجاءت هذه الآية الكريمة في حق هؤلاء الثلاثة، ولم يقيد الحكمة بوصف الحسنة؛ إذ كلها حسنة بخلاف الموعظة، إذ ليس كل موعظة حسنة، وكذلك الجدال.. وهذا قد يرجع على حال المجادل وغلظته ولينه وحدته ورفقه، فهو مأمور بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن.(2/78)
والحاصل أن طرق الدعوة إلى الله تعالى تتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل نفس إعراضًا وإقبالاً، فقد يكون الدرس أنفع للقوم لاشتماله على الأخذ والرد والوقوف على ما عساه أن يكون غامضًا على السائل، فلا يعدل عنه إلى الخطابة، وقد تفضل الخطبة الواحدة ألف درس في بعض المجتمعات والأوساط، فلا يعدل عنها إلى الدرس. وقد يكون اللين أفضل من الشدة، فقد تكره الموعظة لما فيها من الغلظة أو الخُرْق والحمق. قال رجل للرشيد: يا أمير المؤمنين! إني أريد أن أعظك بعظة فيها بعض الغلظة فاحتملها. قال: كلا، إن الله أمر مَن هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني، قال لنبيه موسى، إذ أرسله إلى فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:44]، فإن ظاهره عرض ما فيه الفوز العظيم والسعادة الدائمة بالنسبة إلى فرعون، والترجي بالنسبة لهما، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجهد طاقته ويبذل أقصى وسعه.
بين الإيجاز والإطناب
كذلك الإيجاز لا يكون إلا للخواص وأولي الألباب الراجحة والقلوب الحاضرة. وأما الإطناب فهو مشترك بين الخاصة والعامة ويكون مع الغبي والذكي. وليجعل القرآن الحكيم في ذلك إمامًا يقتدى به ومرشدًا يهتدى بهديه، ألا ترى أنه إذا خاطب العرب أخرج الكلام مخرج الوحي والإشارة لشدة ذكائهم وقوة فطنتهم ورجاحة عقولهم، وإذا خاطب غيرهم كبني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مطولاً مبسوطًا معادًا في مواضع كثيرة لبعد فهمهم وتأخر معرفتهم واحتياجهم إلى الإكثار والإطالة، فما خاطب به مشركي العرب في مقام الاستدلال على قدرة الله ووحدانيته قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج:73، 74].
بيانه أن أقل درجة المعبود القدرة على جلب ما ينفع العابد، ودرء ما يضره، والآلهة التي عبدها المشركون لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه. ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب وهو أضعف الحيوانات، ولا على استرجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها، فكيف يليق بعاقل أن يعبدها من دون الله، والمعبود في الضعف والعجز فهو عاجز متعلق بعاجز..
وقيل هو تسوية بين السالب والمسلوب الذباب والآلهة في الضعف والعجز، فالطالب الإله الباطل، والمطلوب الذباب يُطلب منه ما يأخذه مما هو عليه، ولفظ الآية يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود والمستلب، فمن جعل هذا إلهًا مع القوي العزيز؟! فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه.
وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتسفيه أحلامهم والشهادة على أن الشيطان قد لعب بهم أعظم من لعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، فأعطوها صورًا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإله الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه. وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء إلهيتهم أن هذا المخلوق الأقل الأذل العاجز الضعيف، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستردوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه.
ومما جاء في مقام الرد على منكري البعث قوله تعالى: (أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)[مريم:67]، فإنه لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الإيجاز لم يقدروا - ونظيره قوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)[يس:79]، وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)[الروم: 27].
فإن هذا معلوم لكل صانع يتكرر منه عمل؛ لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة الخيال، والثاني قد ارتسم وثبت له مثال، وإذا كان هذا في حق من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل، كذلك فما ظنك بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية؟ فهذه الآيات الكريمة على إيجازها برهان قائم على أن البعث مما يدخل تحت سلطان قدرته تعالى من باب أولى، وغير خاف عليك ما جاء فيه عن بني إسرائيل.
وعلى الجملة فللإيجاز موضع كما أن للإطناب موضعا، فاستعمال أحدهما موضع الآخر خطأ واضح وعي فاضح، كما روي عن جعفر بن يحيى البرمكي أنه قال: "متى كان الإيجاز أبلغ كان الإكثار عيًّا". وقال الخليل: يختصر الكلام ليحفظ ويبسط ليفهم - وقد كانت العرب تطيل ليسمع منها وتوجز ليحفظ عنها - فالإطناب إذا لم يكن منه بد فهو إيجاز وهو في الوعظ خاصة محمود، كما أن الإيجاز في الإفهام محمود. والداعية الحازم هو الذي يتفرس في حال القوم ويأتي في كل حال ما يناسبه.
================
الاستبداد الدعوي..!!(2/79)
الاستبداد صفة من صفات التسلط وفرض الرأي بالقوة، وهو يقتضي تكميم الأفواه، وقطع الألسن، فلا تتحدث إلا في مجال محدود لا تتجاوزه وبطريقة معينة لا تتغير.. بل ينطلق الاستبداد أحيانًا ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل أنفاسه وزفراته..!
إذا كان هذا هو معنى الاستبداد، فهل يمكن أن يتجرأ أحد على وصف الدعاة بذلك..؟!
معاذ الله! فليس هذا حكمًا عامًا يتساوى فيه جميع الدعاة، ولكن البعض قد يأخذ بنصيب وافر أحيانًا من هذه الصفة، وهذه الشريحة الدعوية لا ينبغي إغفالها أو تجاهلها.
ممارسة خطيرة
والاستبداد الدعوي - إن صحَّ التعبير - ممارسة تربوية ذات أبعاد خطيرة، تقتل ملكات الإبداع والإنتاج، وتعطل الطاقات؛ لذا كان لزامًا علينا أن نسلط الضوء عليها بجرأة، لعلاجها والتخلص منها.
وذكر الحقيقة كاملة قد يتبعها مرارة وحزن، ولكنها تنتهي بالسعادة، وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية: "المؤمن للمؤمن كاليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقطع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة، ما نحمد معه ذلك التخشين".
أرأيت إلى ذلك المربي الذي لا يُحب أن يسمع رأيًّا غير رأيه، ولا يرضى باقتراح أو نصح من أحد، فإذا تكلم؛ فمَن حوله سكوت، وإذا أشار فالناس له تبع، أتباعه ومريدوه حقهم السمع والطاعة، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في الخير والشر..!!
مفهوم الشورى عنده: إخبار الآخرين بما يرى، فإن وافقوه فبها ونعمت، وإن خالفوه فالشورى مُعلمة لا ملزمة.
إذا نظر إلى وجه مريده طأطأ المريد رأسه حياءً وخجلاً، واحمرَّ وجهه وفرقع أصابعه؛ حتى إذا اشتد عوده، واستوى ساقه، أصبح بارعًا في اجترار الأفكار، وترديد الكلمات، لا يباريه أحد في فن التقليد، ليس له عقل يفكر، فقد ضمر وتآكل مع طول العجز، واستفحال المرض، أقرب الأمثال إلى عقله: (من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا)، ولماذا يفكر ويجهد ذهنه، ويضيع وقته وبين يديه شيخه الجهبذ الذي أبصر الحقائق، وأدرك الأمور، وانكشفت له المعضلات...؟!
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد الدعوي..؟!
أرأيت إلى طالب العلم الذي يظن أن رأيه هو عين الحق الذي لا حق غيره، ولا حق لأحد أن يخالفه أو يعترض عليه، اجتهاده قاطع لكل اختلاف، ورأيه جامع لكل خير، فهو البحر الذي تجتمع عنده الأنهر، والوادي الذي تصبُّ فيه الشُّعَب..!
إذا خالفه أحد ضاق صدره، واضطربت نفسه، وتزلزت قدماه، وإذا أفاق من هول الصدمة، سلَّ سيوفه مستعدًا للمبارزة والطعان، دون أن ينظر أحقٌّ هو أم باطل.
كل مخالف له مبطل..مهما كان دليله..!
وكل معارض له مفسد.. مهما كان حجته..!
همُّه أن يتلقى عنه الأتباع، ومراده أن يستمع له الناس، كل تقليد مذموم إلا تقليده..! أحكامه صارمة قاطعة، لا تقبل المناقشة أو المحاورة، ومن لم يقبل هذه الأفكار فلينطح برأسه الجدار..!
جلوا صارمًا، وتلوا باطلاً.. ... ..وقالوا صدقنا؟ فقلنا: نعم!
أرأيتم كيف نمارس الاستبداد العلمي..؟!
أرأيتم كيف تُوأد الأفكار، وتُخنق الأصوات، وتُحطَّم ملكات الإبداع والإنتاج، ويُربَّى الخانعون..؟! أخزى الله الاستبداد، فكم قتل من الطاقات، وكم قطع من طرقٍ للتصحيح والتغيير..!
أدب الخلاف عند السلف
كان السلف الصالح والأئمة الأخيار يختلفون فيقول قائلهم: "جائز ما قلتَ أنت، وجائز ما قلتُ أنا، وكلانا نجم يهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا". ويقول الآخر: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة؟".
أما نحن إذا اختلفنا فلسان حالنا: (ما أريكم إلا ما أرى)[غافر:29].
إن مصادرة آراء الآخرين، وغلق الأبواب في وجوههم؛ يجعل جذور الخطأ تمتد إلى الأعماق، ثم يصعب تصحيحها أو على الأقل تخفيفها؛ ولهذا فنحن نحتاج إلى ترويض ومتابعة لكي نتعلم كيف نقدّر الرأي الآخر، وننجو من مصادرة عقول الآخرين، والمنهج الشرعي يقتضي أن نقطع في الأمور القطعية التي قطع بها السلف الصالح، وأما المسائل الاجتهادية في فروع العلم سواء في الفقهيات، أو في فروع العمل الدعوي المتجددة، فالأمر فيها واسع ولله الحمد والمنة، والاختلاف فيها أمر وارد لم يسلم منه جيل الصحابة رضي الله عنهم، وما وسعهم يسعنا، وما قد يكون واضحًا عندك قد لا يكون كذلك عند غيرك، وما يتبين لك صوابه الآن قد يتبين لك خطؤه غدًا، لأمر ينقدح في ذهنك، ولهذا تواتر عن علمائنا وأئمتنا أنهم يقولون في المسألة الفرعية الواحدة قولاً، ثم يقولون بخلافه بعد ذلك.
وهاهو ذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يريد أن يحمل الناس على كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، ويوحدهم على رأي، فيقول له الإمام مالك: "لا تفعل! فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم ما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من قِبَل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإنَّ ردهم عمَّا اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم". قال الحافظ ابن عبد البر القرطبي: "وهذا غاية في الإنصاف لمن فهم".
ورحم الله الإمام الشاطبي، حيث يقول: "فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع الملة قابلة للأنظار، ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النُظَّار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات؛ فلذلك لا يضر هذا الاختلاف".
إن الاستبداد خصلة لا يعجز عنها أحد في الغالب، وهو دليل على العجز والضعف. ولكن فتح أبواب المشورة، والتراجع عن الخطأ، واتساع الصدر للرأي المخالف، منزلة لا يرقى إليها إلا عباد الله المخلصون.(2/80)
ــــــــــــــــــــ
* "في البناء الدعوي" .. بتصرف يسير
===============
وأخيرا.. أسلم أستاذ الجامعة الأمريكية في مصر
لا حديث في الجامعة الأمريكية في القاهرة هذه الأيام إلا عن أستاذ علم الأجناس صاحب الوسامة الزائدة، وأحد أبرز الأساتذة في مجاله.
لكن الضجة التي يثيرها حاليًا ليست لأي من السببين (لا لوسامته ، ولا لأستاذيته)، وإنما لأنه أسلم أمام شيخ الأزهر.. فبعد 35 عامًا من الحياة والبحث والتدريس في العالم العربي الإسلامي نطق الدكتور دونالد كول (سابقًا) عبد الله طالب دونالد كول (حاليًا)، بالشهادتين في مشيخة الأزهر الشريف التي لا تبعد عن مقر عمله في الجامعة الأمريكية في القاهرة سوى 20 دقيقة، لكنها تبعد عن تكساس آلآف الأميال وتفصلهما فجوة حضارية فكرية أخذة في الاتساع.
كان إشهار "عبد الله طالب كول" إسلامه مفاجأة للكثيرين من طلابه ومعارفه، لكن أصدقاءه المقربين توقعوا ذلك، وإن كان توقعهم تأخر بعض الشيء. صديق قريب منه باغته حين أخبره بإشهاره إسلامه قبل أيام بقوله: "حقيقي؟" هذا غريب.. كنت أعتقد أنك أسلمت قبل سنوات".
قال عبد الله كول: تمكنت من الفرار من المشاركة في حرب فيتنام، وبدلاً منها أمضيت الفترة بين عامي 1968و 1970 في ربوع المملكة العربية السعودية، والحمد لله الذي مكنني من العيش في الرياض القديمة، حيث كان أذان الصلاة المنطلق من مآذانها الألف من القوة بحيث يدفعني دفعًا إلى التفاعل معه".
يتذكر عبد الله كول الليلة الأولى من الشهور الـ18 التي أمضاها مع البدو في الربع الخالي والمنطقة الشرقية، إذ وجد نفسه يقوم من دون تفكير إلى صلاة الجماعة: "لم أكن مسلمًا وقتها، لكني في قرارة نفسي كنت على يقين بأن الإله الخاص بهم هو ربي أنا كذلك". لكن الحياة في "بيركلي" الأمريكية - التي عاد إليها - كانت مختلفة، صحيح أن العبارة الأولى التي تفوه بها في المحاضرة الأولى التي ألقاها هي أن الإسلام دين جميل، لكنه سرعان ما عاد إلى العالم الإسلامي، وهذه المرة إلى مصر، تحديدًا إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، لكنها كانت في السبعينات مكانًا علمانيًا بحتًا، كما يقول: "حتى اللغة العربية نادرًا ما كانت تسمع في ممرات الجامعة، كان الإسلام في الجامعة تاريخ وفن وعمارة، ورحلات ميدانية إلى المتحف والمساجد القديمة.
وفي الثمانينات تسلل عدد من أصحاب الذقون ومرتديات الزي الإسلامي إلى حرم الجامعة، فحدث ما لم يكن في الحسبان: طالب الطلاب بمصلى يصلون فيه، وكنت مراقبًا للوضع آنذاك، لكني في قرارة نفسي كنت سعيدًا لما يحدث، وربما هذا بسبب خلفيتي عن الإسلام في السعودية".
ومنذ أسلم أقبل عبد الله كول على الفروض والصلاة في أحد المساجد، ونظرًا لمظهره الغربي البحت، بعينيه الزرقاوين وبشرته الشقراء، سألته "الحياة" عن رد فعل المصلين تجاهه، قال: "داخل المسجد نقف جميعًا سواسية،لكن الأمر يختلف في المقهى".
وعن يوم إسلامه أمام شيخ الأزهر يقول: "استقبلني شيخ الأزهر بنفسه، وأسلمت على يده، وحين سألني عن رحلتي إلى الإسلام وسبب استغراقها وقتًا طويلاً، أوجزت في الرد، فقال: أنت أستاذ جامعي، ونحب أن نسمع منك باستفاضة، فاستفضت وبكى صديقي المصري الذي اصطحبني تأثرًا".
كان أجداد عبد الله كول بين المستوطنين الأوروبيين الأول في فيرجينيا، وقد فروا من الاضطهاد الديني والكبت السنياسي، وجاهدوا لتأسيس مجتمع جديد يرتكز على الاحترام والحرية "وأنا أسير على خطاهم، لقد هاجروا عبر المحيطات والقارات، وكذلك أنا. هم اتبعوا الإنجيل المقدس، لكنهم لم يعرفوا القرآن، أما أنا فعرفته، ومهمتي حاليًا هي نشره".
في غضون أيام سيتوجه مسلمنا الجديد إلى الولايات المتحدة، وهو ليس قلقًا من ردود فعل أصدقائه وأقاربه، لكنه سعيد بأن الفرصة ستكون متاحة لينظر إلى الإسلام في أمريكا من وجهة نظر مسلم.
===============
أيها الدعاة !! الإصلاح .. الإصلاح 1/2
خلق الله أمة الإسلام أمة واحدة، وربط بينها برابط الأخوة الإيمانية، ووصل بينها بصلة الولاء التي لا تنقطع ولا ينبغي لها أن تنقطع. قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)[التوبة:71]. وفي حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: " "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَىَ مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَىَ لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىَ".
ورغم هذه الوشائج والروابط، إلا أن الاختلاف بين الناس أمر وارد، ووقوع الشقاق بين البعض محتمل، وربما تقاتل فئام من الناس وهم من أهل الإسلام وليس هذا بالمحال، ولكنه أمر طبيعي وواقعي، كما نوه إلى ذلك ربنا تعالى بقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)[الحجرات:9]، فقد يكون الرجلان مسلمين ويختلفان، وتكون الطائفتان مؤمنتين وتقتتلان، وإنما يقع ذلك لاختلاف الأخلاق، وتباين الأفكار، وتفاوت مدارك الناس بين القوة والضعف، واختلاف وجهات النظر، وربما يقع الشقاق والخلاف والنزاع بسبب سعي الوشاة والنمامين الذين يفسدون في الأرض شرار الخلق كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الذين إذا رُؤوا ذُكر الله عز وجل. ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى. قال: المشَّاؤُونَ بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت".[صحيح الأدب المفرد].(2/81)
هؤلاء المفسدون في الأرض أصحاب القلوب المريضة والألسنة البغيضة، التي تسعى للتفريق بين الناس، والإفساد بين الأحباب، يفرقون بين المرء وزوجه، والابن وأبيه، والأخ وأخيه، ويوقعون بين الصاحب وصاحبه، والجار وجاره، وبين المرء وإخوانه.
مفاسد التدابر:
إن التنازع والتقاطع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، مبدد للأموال والثروات، ذلك لأنه إذا دب الخلاف واشتدت الخصومة، فسدت النيات، وتغيرت القلوب، وتدابرت الأجساد، فوقعت الحالقة التي لا تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ." [صحيح أبي داود]. وقال عليه الصلاة والسلام : "والذي نفسي بيده ! لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، و لا تسلموا حتى تحابوا، و أفشو السلام تحابوا، و إياكم و البغضة ؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، و لكن تحلق الدين" [صحيح الأدب المفرد]
فإذا وقع التدابر أظلمت الوجوه وساء ظن المسلم بأخيه (والظن أكذب الحديث)، وتفوهت الأفواه بفاحش القول وألوان البهت، وربما امتدت الجوارح بالضرب والقتل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ ". ويحتقر كل واحد أخاه و"بِحسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلمَ ". وربما تهاجرا "وَلا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ". ناهيك عن الأسر التي تتهدم، والأطفال التي تشرد، والمحرمات التي تنتهك، والمظالم التي ترتكب.
فإذا وقع ذلك فسد العباد وساءت البلاد، وفشلت الأمة، وذهب ريحها (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].
الإصلاح .. الإصلاح
فإذا كان الاختلاف بين المسلمين وما ينتج عنه من الهجر والقطيعة يتسبب في كل هذه المفاسد العظيمة والعواقب الوخيمة، لذا كان الصلح بين المتخصامين (سواءً كانوا أزواجًا وزوجات، أو أفرادًا أو جماعات) من أجل القربات وأعظم الطاعات، وحث عليه الشارع ورغب فيه، وجعله خير ما يتناجى به المتناجون (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء:114].
فعظَّم الله ثوابه، وثرى أجره حتى جعله أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصّيَامِ وَالصّلاَةِ وَالصّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قال: صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ".[صحيح الترغيب:2827].
وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين".[صحيح الترغيب:2817]. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن".
ولقد باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلح بين أهل الخصومة بنفسه، فلما بلغه أن بني عوف بن عمرو بينهم شر قال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم". وخرج يصلح بينهم في أناس، وتأخر عندهم حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك.وفي الصحيح: "سَمِعَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُمَا، وَإذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ. وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لاَ أَفْعَلُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: "أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ قَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ". وفي بعض الروايات: "فوضع عنه شطر المال".
يقول الإمام الأوزاعي - رحمه الله - : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين.
فإذا علم المسلمون فساد سوء ذات البين، وعظيم مساويها، ووخيم عواقبها على الأفراد والأمم لزمهم أن يعلموا على إصلاح نفوسهم، وقطع دابر القطيعة فيما بينهم، وألا يكون في قلب أحدهم لأخيه شحناء ولا بغضاء .
وإذا عرف المسلمون ـ والدعاة منهم خاصة ـ عظيم أجر الساعين بين الناس بالإصلاح وما لهم من عظيم الأجر وعميم الثواب عند الله تعالى دعاهم ذلك وحفزهم للسعي في هذا الباب الفضيل إذ لا يعقل أن يزعم زاعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويشفق على الدين وأهله، ثم هو يعلم أن بين اثنين -من إخوانه - شحناء أو قطيعة ثم لا يسعى غاية سعيه، ويبذل غاية جهده، ليصلح بينهم رحمة بهم وشفقة عليهم، وطمعًا في فضل الله ورحمته، ورغبة في عظيم أجره ومثوبته.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات:9].
=================
أيها الدعاة !! الإصلاح .. الإصلاح 2/2
من فقه الإصلاح(2/82)
كتبنا في مقال سابق عن الدعوة إلى الإصلاح بين الناس ، وكون ذلك من أفضل أبواب البر لما لفساد ذات البين من أضرار على الأفراد وعلى الأمة ككل.. ونحن في هذا المقال نتحدث عن شئ من فقه الإصلاح فإن للإصلاح بين الناس فقه ينبغي أن يدرى ويعقل، وسبيل ينبغي أن ينتهج ويسلك، حتى يؤتي المسعى مبتغاه ، ويبلغ طريق التوفيق بين المتشاحنين منتهاه ..
_ فمن فقه الإصلاح: النية الخيرة، وابتغاء مرضات الله، وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية. قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[النساء:114].
فمن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، وحقق الإخلاص، حلَّ التوفيق وجرى التوافق وأصلح الله الأحوال.
وأما من قصد بإصلاحه الترؤس والرياء، وارتفاع الذكر والاستعلاء، أو أي مطلب غير وجه الله، وطلب النصح للمتخاصمين، فبعيد أن ينال ثوابا في أخراه، وحري ألا يحالف التوفيق مسعاه. قال تعالى: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً)[النساء:35].
_ ومن فقه الإصلاح : سلوك سبيل السر والنجوى، فإن النجوى وإن ذُم أصحابها إلا إنه استثنى منها ما كان أمرًا بصدقة أو معروف أو سعي بالإصلاح بين الناس (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).
فإن من الخير في باب الإصلاح أن يسلك المصلح مسلك النجوى والمسارة؛ لأن من عرف أحوال الناس في المنازعات والخصومات أدرك ما تسعى إليه النفوس، وينادي به الهوى والشيطان، من حب الغلبة وانتصار النفس وعدم الظهور أمام الناس بمظهر المتراجع وإن كان على غير الحق. وهنا يأتي مسلك السرية فيذهب أهل المروءات إلى هذا في بيته فيكلمونه بعيدًا عن عين الخصم وأعين الناس، فيكون هذا أرجى للإصلاح بإذن الله.
_ ومن فقه الإصلاح : استعمال المعاريض في الكلام والكذب إذا لزم الأمر، فقد أجاز الشارع الحكيم للساعي بالإصلاح أن يكذب لهذه المصلحة الكبرى، خصوصًا ما يحتاجه من مسالك السر لتحسين صورة الخصم أو لتقريب ما بين الخصوم؛ ففي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمي خَيْراً أوْ يَقُولُ خَيْراً". وروى الترمذي وقال: حديث حسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يصلح امرأته".
فالكذب كله حرام إلا في هذه المواطن لحاجة الناس إليه فيها للإصلاح لا للإفساد، ولذا رخص فيه الشارع في هذه المواطن دون غيرها. قال نعيم بن حماد: سألت سفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله، فيحرف فيه القول ليرضي صاحبه. أعليه فيه حرج؟ قال: لا.
_ ومن فقه الإصلاح: أن يتحمل الساعي بالصلح بين الخصمين عن أحدهما أو عنهما حمالات للإصلاح بينهما كدية قتيل أو غرم مالي أو غير ذلك، فله أن يأخذ من الزكاة، فإنه مصرف من مصارفها، كما قال تعالى: (والغارمين).
_ ومن فقه الإصلاح: حكمة المنهج، وجميل الصبر، وطيب الثناء، وخبرة بأحوال الناس، ومعرفة بأدواء النفوس، وإحاطة بخواطر المتخاصمين، وعقول المتباغضين.
على أن هذا الذي ذكرناه لا يقدر عليه إلا ذوو المروءات من المسلمين الذين شرفت أقدراهم وكرمت أخلاقهم وطابت منابتهم.. أصحاب العزيمة الراشدة، والنوايا الخيرة، والإرادة المصلحة، فكن منهم وعش في أكنافهم.
==================
آداب الداعي مع السامعين
جبلت النفوس على الميل إلى العظمة وحب الكرامة، وشبت في الغالب على الأنفة والرعونة، ونشأت على التقيد بالإلف والعادة، فمن أراد صرفها عن غيها إلى رشادها، وحاول الخروج بها عن مألوفاتها وعاداتها ولم يَمزُج مرارة الحق بحلاوة التلطف، ولم يسهل صعوبة التكليف بطلاوة الرفق واللين، كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول، ودعوته أجدر بالرفض من القبول، وكان كمن رام أن يطهر ثوبًا من الدنس فأوقد فيه نارًا فأحرقته، ألا ترى قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:44]، فإنه يفيد أن لين القول محل رجاء التذكر والاتعاظ، والمعد للنفوس للخوف والانزجار.
روى أبو أمامة: أن غلامًا شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نبي الله، أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قربوه، أدن. فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداءك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ - وزاد ابن عوف أنه ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحدة: لا، جعلني الله فداءك - فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه. فلم يكن شيء أبغض إليه منه، يعني الزنا".[رواه أحمد بإسناد جيد، رجاله رجال الصحيح].(2/83)
فكان لهذا التلطف في القول والرفق في المعاملة مع تحري الإقناع شأنه في نجاح المرشد في مقام الدعوة إلى الخير، والقرآن الكريم يرشد إلى ذلك في مواضع كثيرة، تأمل قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل:125]، أي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين، ليسكن شغبهم وتلين عريكتهم، وهذا بالنسبة للمعاندين المجادلين بالباطل، وهو مثل قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[سبأ:24]، أي: وإن أحد الفريقين من الموحدين والمشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال الواضح، فإن هذا بعد ما تقدم من التقرير البليغ الناطق بتعيين من هو على الهدى، ومن هو في الضلال أبلغ من التصريح بذلك لجريانه على سنن الإنصاف المسكت للخصم الألد، ونظيره قول حسان رضي الله عنه:
أتهجوه ولست له بكفء.. ... ..فشركما لخير كما الفداء
وقوله: (قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[سبأ:25]. وهذا أبلغ في الإنصاف وأبعد من الجدل والاعتساف، حيث أسند فيه الإجرام إلى أنفسهم، ومطلق العمل إلى المخاطبين، مع أن أعمالهم أكبر الكبائر، فما بعد هذا التلطف طريق يسار فيه ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها.
التقديم بذكر المحاسن
وهذا من أبواب فتح قلوب السامع.. أن يذكره الداعية بخير، ويصفه بجميل، كأن يبين ما له من حسب، وما فيه من فضل، وما عليه من نعمة، ليجذب قلبه إليه، ويُعِدّه بذلك لقبول الموعظة، إذ لا ريب أن ما يكون للإنسان من شرف ورفعة مناط التحلي بالفضائل والتخلي عن النقائص؛ لأن الذي يرى نفسه مفضلاً مكرمًا ذا شرف ومنزلة يترفع عن الدنايا والخسائس التي تدنس شرفه وتذهب بفضله، أما الذي يرى نفسه رذلاً ساقطًا خسيسًا، فإنه لا يبالي ما يفعل.
وهذا منهج القرآن الكريم وسبيله في الوعظ كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)[البقرة:47، 48] حيث ناداهم باسم أبيهم يعقوب - عليه السلام - الذي هو أصل عزهم ومجدهم، ومنشأ تفضيلهم، وطلب منهم أن لا ينسوا نعمته عليهم بشرائعه ورسله، وتفضيله إياهم على العالمين بالنبوة والملك، ولم يعرف شعب من الشعوب يزاحمهم في هذه المزية!! إحياءً لشعور الكرامة والفضل في نفوسهم، ثم حذرهم يومًا عظيمًا سيقع فيه من الأهوال ما لا منجاة منه إلا بتقوى الله سبحانه في كل الأحوال، ومراقبته تعالى في جميع الأعمال.
وهذا أسلوب حكيم في الدعوة، فينبغي للداعي أن يبدأ بإحياء إحساس الشرف وشعور الفضل والكرامة في نفوس المخاطبين، لتستعد بذلك لقبول النصيحة وتتغلب بهذا الإحساس وذلك الشعور على عوامل الهوى والغواية، فإن النفس إذا عرفت علوها، واستشعرت كرامتها، وسمعت ما في الرذائل من الخسة حملها ذلك الشعور (شعور الرفعة والكرامة) على النفرة من التسفل بارتكاب تلك النقائص، وكان ذلك من أحكم الوسائل إلى مساعدة المرشد على بلوغ غرضه من نفوس السامعين.
التلويح لا التصريح
وهو من دقائق هذه الصناعة ـ أعني صناعة الدعوة ـ أن يصرف من يريد إرشاده عن الرذيلة إلى الفضيلة بتلويح في المقال، وتعريض في الخطاب ما أمكن، فالتعريض في ذلك أبلغ من التصريح، إذ التلويح أوقع في نفس المدعو، وأعظم تأثيرًا في قلبه، وأدعى إلى التنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاة حرمة المخاطب بترك المجاهرة بالتوبيخ.
وأيضًا التعريض لا تُنتَهَك به سُجف الهيبة، ولا يرتفع معه ستر الحشمة، أما صريح التوبيخ والتقريع الشديد العنيف، فقد يورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار والبقاء على ما لِيم عليه، لا سيما النفوس المنطوية على الكبر.
وقد وضع الإمام الشافعي - رحمه الله _ أصول القاعدة قديما حين قال :
تغمدني بنصحك في انفرادِ ... وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لم تُعط طاعة
يقصد إذا خالفتني ونصحت الإنسان أمام الناس فلا تجزع فسوف يجابهك هذا ، وينتقم لنفسه ، وقد تأخذه العزة بالإثم فإن النصيحة على الملأ فضيحة .
حسن الفراسة
أن يكون لداعية فراسة يتوسم بها حال السامعين ليعرف مبلغ طاقتهم وقدر استحقاقهم وإقبالهم على الانتفاع، ليعطيهم ما يتحملون، ويمسك عما لا يطيقون ويوجز إذا خشى الانصراف أو رأى عليهم مللاً وسآمة. ومن الحكم المأثورة: من لم ينشط لكلامك فارفع عنه مئونة الاستماع منك.
وإذا كان المرشد بهذه الصفة لم يضع له عناء ولم يخب على يديه أحد، وإن لم يتوسمهم وخفيت عليه أحوالهم كانوا وإياه في عناء مُكِد، وتعب غير مجد؛ فإنه لا يعدم أن يكون منهم ذكي محتاج إلى الزيادة وقاصر يكتفي بالقليل، فيضجر الذكي ويعجز القاصر، ومن تردد أصحابه بين عجز وضجر ملوه وملهم.
وقد حكى عبد الله بن وهب أن سفيان بن عبد الله قال: قال الخضر لموسى عليهما السلام: يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، يا موسى واعلم أن قلبك وعاء، فانظر ما تحشو في وعائك.
وجلس ابن السماك يومًا للوعظ وجاريته تسمع كلامه، فقال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: هو حسن لولا أنك تردده، فقال: أردده كي يفهمه من لم يفهمه. فقالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يمله من فهمه.(2/84)
وعلى الجملة فخير المرشدين الفطن الذي لا يقل ولا يمل .
خاتمة القول
وجملة القول: أن في الوعظ مسا يجرح إحساس الموعوظ، وحرجًا قد يحمله على النفور من سماعه والاستنكاف من قبوله، فإذا كان الداعي حكيمًا فذكر ما في المخاطب من فضل، وما له من منزلة، ثم أرشده إلى الخير، وحذره عن الشر، مع حسن الفراسة ومعرفة حال المخاطب، واستعمال الرفق واللين والتلطف حمله ذلك على التخلي عما هو فيه من ضلال وشقاء، وأقبلت نفسه على التحلي بما يدعوه إليه من هدىً وسعادة، كما يقبل الجريح على من يضمد جراحه، ويسكن آلامه، وينقذه من تعب المرض إلى راحة السلامة، فهذا شيء من هداية الكتاب الحكيم لنا، وكله هدىً ورحمة.
================
لا تكن يائسا
لا تكن يائسا.. فالمستقبل لدين الله والعزة لأوليائه.
إن من رأى تفشي المنكرات، واستفحال الشر، وتبجح الأعداء، ووطأة الجاهلية يظن أننا مهما عملنا فلن نغير من الواقع شيئا، ولن نجني إلا هباء، فليس من وراء السعي فائدة. فإذا به متجهم الوجه عاقد الحاجبين مقطب الجبين رافعاً راية: "لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر"، إذا طلب منه خدمة للدين ـ ولو بكلمة ـ رد عليك : أنت تؤذن في خراب، لا أحد يسمع قولك، أنت تنفخ في قربة مقطوعة وغيرها من عبارات :
تصدا بها الأفهام بعد صقالها .... وترد ذكران العقول إناثاً
إن مما لا شك فيه أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفا أبد الآبدين، والقوي لا يظل قوي أبد الآبدين، ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5 -6).
إننا نملك إيمانا بنصر الله لنا وثقة بتأييده لنا ويقينا بسنة الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون واطمئنانا إلى وعده الذي وعد به عباده المؤمنين ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (النور:55).
إنه وعد يشحذ الهمم ويستثير العزائم ويملأ الصدور ثقة واطمئنانا.. إن الدور لنا لا علينا والتاريخ معنا لا علينا (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وإن جندنا لهم الغالبون) . سنة الله رب العالمين، قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))، (( وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيتا مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)) كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
إنما أنت أجير
فأنت أيها المؤمن أجير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة ويأتي من ليس معه أحد ( فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48).
وآية الآيات في هذا الدين أنه أشد ما يكون ٌقوة وأصلب ما يكون عودًا وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين تنزل بساحته الأزمات وتوصد عليه المنافذ حينئذ يحقق الإسلام معجزته فينبعث الجثمان الهامد ويتدفق الدم في عروق أبنائه وينطلق وينتفض).
يقول فيسمع ويمشي فيسرعُ ........ ويضرب في ذات الإله فيوجعُ
فإذا النائم يصحوا وإذا الغافل يفيق وإذا الجبان يتشجع وإذا الضعيف يتقوى وإذا الشتيت يتجمع وإذا بهذه القطرات المتابعة المتلاحقة من هنا وهناك من جهود القلة تكون سيلاً عارماً لا يقف دونه حاجز ولا سد.
أمة لا تموت
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت وتغفو لكنها لا تنام وتخبو لكنها لا تطفأ أبداً .
حين غزا التتار ديار المسلمين ودخلوها كالريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم دمروا المدن وخربوا العمران وأسالوا الدماء وأسقطوا الخلافة وعطلوا الصلوات وألقوا أسفار المكتبات في نهر دجلة حتى اسودّ ماؤه من كثر ما سال من مداد الكتب حتى أصبحت حضارة الإسلام والبشرية مهددة من هذا الغزو الوحشي الذي لا يبقي ولا يذر والذي يذكر بما جاء في وصف يأجوج ومأجوج حتى أحجم بعض المعاصرين للحدث عن الكتابة فيه منهم ابن الأثير رحمه الله الذي يقول: "ليت أمي لم تلدني ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا". مما رأى من هول الفاجعة التي حلت بالمسلمين . ظن اليائسون حينها أن راية الإسلام نكست ولن ترتفع بعد ذلك اليوم أبداً وأن أمة الفتح والنصر قد حقت عليها الهزيمة فهيهات أن تعود إلى الميدان من جديد، ولم يمض سوى سنوات حتى تحققت معجزة الإسلام.. فإذا بهؤلاء الجبابرة الغازين للإسلام يغزوهم الإسلام فتسقط سيوفهم في صف المؤمنين تحت تأثير العقيدة الإسلامية فإذا بهم يدخلون في دين المغلوبين على خلاف ما هو معروف أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب المنصور ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4). ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:26). ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر:44)(2/85)
لا تيأسوا أن تستردّوا عزكم ..... فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى
وتجشموا للعز كل عظيمة ....... إني رأيت العز صعب المرتقى
محنة وأمل
إن قراءة متأنية لتاريخ الصليبيين وبيت المقدس تعطي الأمل بان الواقع سوف يتغير فاسمع إلى ابن كثير (في البداية والنهاية) وغيره من أهل السير وهم يسردون لك هذا الحدث:
(في ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة دخل ألف ألف مقاتل بيت المقدس وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب وارتكبوا ما لاترتكب أكثر منه الشياطين لبثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا منهم الأئمة والعلماء والمتعبدون والمجاورون وكانوا يجبرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت لأنهم يشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجا إلا بإلقاء أنفسهم من السطوح جاسوا فيها خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدنانير ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس وأدخلت فيه الخنازير ونودي من على مآذن لطالما أذن بالتوحيد من عليها : أن الله ثالث ثلاثة- جل اله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث وظن اليائسون ألا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين .
كم طوى اليأس نفوسا لو رأت .......... منبتا خصبا لكانت جوهرا
ويمضي الزمن ويعد الرجال، وفي سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة أعد صلاح الدين جيشا لإسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين على مبداهم هم : "إن القوي بكل أرض يتقي" وفي وقت الإعداد تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى تقول:
يا أيها الملك اذي ............ لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى ...... من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا ....... على شرفي أنجس
فانتخى وصاح واإسلاماه وامتنع عن الضحك وسارع في الإعداد ولم يقارف بعدها ما يوجب الغسل .
من ذا يغير على الأسود بغابها ........ أممن يعوم بمسبح التمساح
وعندها علم الصليبيون أن هذا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم فتصالح ملوك النصارى وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكانوا ثلاثة وستين ألفا فتقدم صلاح الدين إلى طبرية ففتحها بلا إله إلا الله فصارت البحيرة إلى حوزته واستدرجهم إلى الموعد والمكان الذي يريده هو ثم لم يصل إلى الكفار بعدها قطرة ماء إذ صارت البحيرة في حوزته فصاروا في عطش عظيم.
وعندها تقابل الجيشان وتواجه الفريقان وأسفر وجه الإيمان وأغبر وجه الظلم والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان عشية الجمعة واستمرت إلى السبت الذي كان عسيرا على أهل الأحد إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش وأضرمت النار من قبل صلاح الدين في الحشيش الذي كانت تحت سنابك خيل الكفار فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وحر مقابلة أهل الإيمان.
وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ثم صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ثم هجموا كالسيل الدفاع لينهزم الكفار ويؤسر ملوكهم ويقتل منهم ثلاثون ألفاً حتى قيل لم يبق أحد ويؤسر منهم ثلاثون ألفا حتى قيل لم يقتل أحد، فلم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله إلا في عهد الصحابة، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رؤي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرا بكلب يحرس غنمه.
ثم أمر السلطان صلاح الدين جيوشه أن تستريح لتتقدم إلى فتح بيت المقدس، ففي هذه الاستراحة كيف كانت النفوس المؤمنة التي لا تيأس ؟! الرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، يوم عادت البيع مساجداً ، والمكان الذي قال فيه : إن الله ثالث ثلاثة صار يشهد فيه : أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم سار نحو بيت المقدس ليفتحه من الجهة الشرقية ويخرجهم منه، فكان له ذلك على أن يبذل كل رجل منهم - ويخرج ذليلا- عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة وعن الطفل دينارين ومن عجز كان أسيرا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفاً كانوا أسرى للمسلمين.
ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الصليب وطهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان ووحدوا الرحمن وجاء الحق وبطلت الأباطيل وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات وتنزلت البركات وتجلت الكربات وأقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسون وأحضر منبر نورالدين الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحد وتسعين عاما، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).
معاشر المسلمين: إن الأقصى لم تعطل فيه الجمعة ولم تعطل فيه الجماعة ومع ذا :
يئست أنفس ونامت عيون ....... فجراح تغدو وتأتي جراح
المؤمن لا يعر ف اليأس ولا يفقد الرجاء إذ هو واثق بربه ثم هو واثق بحق نفسه ثم هو واثق بوعد الله، إن مرت به محنة اعتبرها دليل حياة وحركة فإن الميت الهامد لا يضرب ولا يؤذى وإنما يضرب ويؤذى المتحرك الحي المقاوم- كما قيل - كالذهب والحديد يدخل النار فيستفيد إذ يذهب خبثه ويبقى بهاؤه.
إن علينا - معشر المسلمين- أن نكون بحجم التحديات بصبر وثبات .(2/86)
إن الوصول إلى القمة ليس الأهم لكن الأهم البقاء فيها، وإن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة لكن الكارثة هو الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، ليس والله الدواء في بكاء الأطلال وندب الحظوظ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له، فالاستعلاء النفسي عليه في تحرر الفكر من إرهاقه ويأسه وخياله، بإرادة قوية حرة أبية يمكن تحويل عوامل الضعف إلى القوة بإذن رب البرية ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حصل في أحد ما حصل شج وجهه وكسرت رباعيته وانخذل عنه من انخذل وإذا به يزيل الآثار النفسية من قلوب المؤمنين بنقلهم إلى مواجهة جديدة في حمراء الأسد لملاحقة المشركين الذين لو كانوا حقا منتصرين لما ولوا الأدبار قافلين ولقضوا على البقية الباقية من المسلمين وهذا يدل على حكمة الرسول الأمين عليه صلوات الله رب العالمين، وأبو بكر رضي الله عنه يأتي من بعده وقد تربى على سنته بعد أن كادت نواة الإسلام تضيع في طوفان الردة، فإذا به ينقل الأمة نقلة من واقع إلى واقع بتأب عن اليأس وترفع على الهزيمة وحاله:
فليس يجلي الكرب رأي مسدد ...... إذا هو لم يؤنس برمح مسدد
إن المستقبل لهذا الدين بدون منازع ولكنه لا يتحقق بالمعجزات السحرية ولكنه بالعمل والبذل والدعوة إلى الله من منطلقات صحيحة على منهج أهل السنة والجماعة ( ووعد الله لن يتخلف لكنه لن يتحقق أبدا على يد أقوام لا يستحقونه ولا يفهمون سننه ولا يضحون من أجله).
================
مؤمن آل يس.. ودروس للدعاة إلى الله
دين الله رحمة، ونبي الله صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].
إن إنقاذ الناس من الكفر ـ بلا شك ـ رحمة، وإن إرشاد الضال رحمة، وإن التثبيت على الصراط المستقيم بعد حيرة الشك رحمة، وإن إخراج الإنسان من فتنة الشهوات وحيرة الشبهات رحمة، وإن توبة العاصي رحمة، وإن الهداية بعد العمى والضلال رحمة، وإن العلم النافع بعد الجهل رحمة.
ومن الرحمة: أن تُقدَم النصيحة للمخطئ، وأن يوعظ الغافل، وأن ينبَه الشارد، وأن يُدلَّ الناسُ دومًا على الخير، وأن يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وإن الداعي إلى دين الله عز وجل يكون رحيمًا بالعباد، حكيمًا، واسع الصدر، صدوقًا، مخلصًا، يبدأ بنفسه، ويتمنى الخير للناس جميعًا، ويدعوهم إلى ما أحبه لنفسه ورضيه لروحه مما فيه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فهو يعيش لدعوته يرجو رحمة الله وفضله..
حبيب وطريق النور
إنه طريق النور، طريق الأنبياء والمرسلين، ومن معالمه الأساسية ما وضحه مؤمن آل يس حين قال لقومه: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)[يس:20- 25].
فقد أسمع هذا الداعي الأمين الصالح الناس معتقده الصحيح المؤسس على الدليل والبرهان قبل أن يفارق الدنيا، وكأنه يريد أن يقول: ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
لقد شافه الداعي الأمين قومه بذلك، وصدع بالحق إظهارًا للثبات على الدين وعدم المبالاة بما يصدر عن المتعنتين، وإن إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين في (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، أي: إني آمنت بربكم الذي خلقكم (فَاسْمَعُونِ)، أي: فاسمعوا قولي واقبلوه، فإني لا أبالي بما يكون منكم بعد ذلك.
لقد كان هذا الداعي الأمين قوي الحجة، ساطع البرهان، صادق اللهجة، ثابت الجنان، عظيم الرغبة في الخير لنفسه وللناس، اعتصم بحبل الله، وأخلص العمل لله، وثابر في الدعاء إلى الله حتى حظى بالشهادة، ونال الكرامة، وفاز بالرضوان، وفرح بلقاء ربه، فقد ضاقت صدور الملحدين، وتحير أمام الحجة البالغة الحاقدون المناوئون، فوثبوا على الرجل الصالح وثبة رجل واحد فقتلوه (قيل رجموه ، وقيل حرقوه، وقيل وطؤوه بأرجلهم ) ولم يكن له أحد من القوم يمنع عنه، ويرد هجمتهم الشرسة. فلم يزالوا به حتى فاضت روحه إلى بارئها، وظل القلب الطاهر يهتف "اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون".
ياليب قومي يعلمون
وجاءته البشرى، واستقبلته ملائكة الرحمة، ووجد دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، لقد كان رحيمًا بالناس فرحمه رب الناس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما شاهدها (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ *بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي)[يس: 26، 27]، أي بغفران ربي لي.
لقد أذهب الله عن حبيب حزن الدنيا وسَقْمهَا ونصَبَها، وهو المؤمن الناصح، فلما عاين من كرامة الله تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من الكرامة والرحمة والرضوان: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
فتمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نصح قومه في حياته بقوله: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)".[رواه ابن أبي حاتم].(2/87)
إن حبيبًا وأمثاله من الدعاة المخلصين لعقيدتهم هم أشبه بالمنارات على الطريق، وفي سيرهم عبرة وعظة، والواعظ الناجح هو الذي يقتبس، وعلى طريق هذه النماذج العالية يجتهد في السير، ومن كتاب ربنا نتعلم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم نتزود، وإن هذه الآية الكريمة فيها تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة والدعاء عليه.
ألا ترى كيف نصح حبيب لقومه في حياته وبعد موته؟ ألا نرى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل والهلاك وهم كفرة عبدة أوثان؟ ألا نذكر في هذا المقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد اشتد أذى قومه، وهو الناصح الأمين الرحيم بهم، فلم يدع عليهم في أشد الأوقات حرجًا، وكان يدعو لهم بالهداية "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله".
إننا في أشد الحاجة إلى هذه المناهج العالية، وإن الدعاة إلى الله يجب عليهم أن يلزموا نفس الطريق، طريق المرسلين والصديقين في الرحمة بالناس، والرفق بهم، والتلطف في إرشادهم، وفي الوصول إلى القلوب والعقول بالقول الحسن، والكلم الطيب، والحكمة، والدليل والبرهان، ولين الجانب، والإخلاص، والصبر، وتحمل الأذى والمشقة مع حسن التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه وحده، وإن الله عز وجل ناصر أولياءه، وخاذل أعداءه ..وقد انتقم من قوم حبيب بعد قتلهم إياه غضبًا منه عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه، وما احتاج في إهلاكه إياهم أكثر من صيحة ملك، فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، جزاء تعنتهم، ومكابرتهم، وقتلهم الناصح الأمين.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:7،8 ) .
فطوبى لمن قدم إيمانًا صادقًا وعملاً صالحًا.
=================
مشاكل المرأة المسلمة في نيوزيلندا
يرجع تاريخ المسلمين في نيوزيلندا لعام 1910م، حيث هاجر إلى نيوزيلندا رجال مسلمون ذوو أصول آسيوية أغلبهم من شبه القارة الهندية، وبعضهم من أصول جرجانية، ولكنهم تمشياً مع تقاليد ذلك الوقت وثقافته، خلفوا وراءهم زوجاتهم. وتمكن المسلمون من التكيف مع البيئة النيوزيلندية الغربية، وفي الوقت نفسه، كانوا يرسلون إلى بلادهم ما يكسبون من أموال، ويقومون بزيارات منتظمة إلى أوطانهم.
أما استقدام الزوجات فكان لأول مرة في منتصف الأربعينيات وكانت زوجات البعض يشاركن أزواجهن في محلاتهم الصغيرة وفي غيرها من الأعمال التجارية الأخرى.
وتكسب 3،61% من النساء المسلمات العاملات أقل من 30000دولار نيوزيلندي، وقد يعود ذلك إلى مؤهلاتهن الأكاديمية، أو لأنهن يفضلن العمل في وظائف لا تحتاج إلى تفرغ كي يخصص أغلب وقتهن للشؤون الأسرية.
وتتعدد وتتنوع المشكلات التي تواجهها المرأة المسلمة حالياً في نيوزيلندا، مثل مشكلة الحفاظ على الهوية في المجتمع، والمعاناة من التمييز العنصري ضدهن، ومن التقارير الإعلامية المتحيزة، ومعاناة أخرى من وجود الأطعمة المحرمة، والعثور على الزواج الملائم.
وإذا كانت النساء من الجيل الأول (اللاتي قدمن إلى نيوزيلندا في الأربعينيات والخمسينيات) يعانين الوحدة والانعزالية، حيث إنهن يقمن في مزارع نائية ولا أنيس ولا جليس لهن، لأن أزواجهن يعملون منذ الفجر حتى غروب الشمس في المزارع. فإن هناك عدداً من المشكلات بالنسبة للجيل الثاني من المسلمات، تدور حول الموازنة بين تعاليم الإسلام وبين التوجهات التي يتعلمنها في المدارس. فالمقررات الدراسية تقوي فيهن النزعة العلمانية دون ضوابط أخلاقية أو دينية، ويؤدي ذلك بالبنات أحياناً إلى عصيان الوالدين.
ورغم كل هذه التحديات، فإن مستقبل النساء المسلمات في نيوزيلندا يبدو أفضل من الماضي، حيث تمكنت النساء المسلمات من عقد مؤتمر سنوي للمرأة المسلمة، يتم تنظيمه على مستوى البلاد، وتعقد اجتماعات المراكز المحلية، كما يتم تنظيم مخيمات شبابية للفتيات توفر رافداً لزيادة المعرفة الإسلامية ومناقشة الأمور وكل هذا من شأنه تعميق الإحساس بالهوية الإسلامية.
وتبقى بعد ذلك قضية اختيار الزي المدرسي الملائم للفتيات، وتوفير أماكن لهن لأداء الصلاة في حين لا وجود حتى الآن لمثل هذه الأماكن.
وقد برزت بعض الفتيات المسلمات وتفوقن وحققن مراكز متقدمة في المدارس والجامعات. ومع هذا التميز العلماني، نلاحظ كثافة جهود بعض الشابات المسلمات في المجال الديني، قد بدأ في الظهور ونأمل أن يكون سبباً في النهوض بالشابات المسلمات للتمسك بدينهن والحفاظ عليه.
ـــــــــــــــــ
رابطة العالم الإسلامي
=============
لا تكن متفرجًا
تميز عصرنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأفردت لهم الصفحات، وتصدروا المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثير من وسائل الإعلام كما يلاحظ القاصي والداني لفشو الأمر وظهوره .
وحالُ المنافقين ليس بجديد على أمة الإسلام ؛ فهم أعداء ألداء لهذا الدين منذ بعثة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، يكيدون ويدبرون ويخططون وينفذون، وقد وصفهم الله عز وجل في سبعة وثلاثين موضعًا من القرآن، وسميت سورة كاملة باسم ( المنافقون ) ، وأفاضت السنة النبوية المطهرة في توضيح ذلك الأمر العظيم وإجلائه .(2/88)
وفي خضم هذا السيل الجارف من أهل النفاق حري بأهل الإسلام ممن يحملون رايته ويحترقون شوقًا لرفعته أن يسارعوا إلى فضح المنافقين وهتك أستارهم وكشف مخططاتهم وتتبع آرائهم وأفكارهم والتصدي لها والرد عليها ، وابتداء ذلك بتحصين أنفسهم وأبنائهم ونسائهم من شبههم ودعواتهم .
وأعظم أمر يُدخل الغيظ على قلوب المنافقين ويؤرق مضاجعهم نشر العلم الشرعي الذي يبدد نوره ظلامًا يتسللون في دهمائه ! أما الالتصاق بالدعاة والعلماء فهو خنجر مسموم في نحورهم ، ولهذا يسعون إلى مقولة متكررة فحواها أن من حمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وميراثه متخلف متحجر بعيد عن الانفتاح والتطور ومجاراة الواقع ، والنفاق أجيالُ متوارثة فقد قالوا تلك المقالة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن درء خطرهم منعهم من تسيد المجالس وتسويد الصحف والمجلات قدر المستطاع ، ومما يعين على ذلك متابعة خططهم وطروحاتهم والرد عليها، والرفع لأصحاب الاختصاص بمقالاتهم وكتاباتهم. ومن أعد نصائح منفردة ورسائل خاصة فيها التخويف بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك من دعوتهم إلى الرجوع إلى الدين ومفارقة أرض النفاق .
ولا يعجز مسلم من الدعاء عليهم ورفع يديه إلى الملك الجبار بأن يشغلهم في أنفسهم وأهليهم، ولا تزال بؤرة النفاق يرتفع شعارها المعروف: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) (البقرة:11 ، 12) .
وفي هذه الفترة بالذات يجب على كل مسلم القيام بواجبه نحو رد كيد الأعداء ومجاهدة أهل الزيغ والضلال، وليتفقد كل فرد منا ذكرًا أو أنثى أمجاهد هو أم قاعد، فليأتين زمان نبكي فيه على ترك الأمر بالمعروف والتصدي للمنافقين ، ولا تبرأ الذمة بأن نقف متفرجين على أعمالهم ومخططاتهم ولا يحرك ذلك ساكنًا في قلوبنا وأعمالنا !!
والابتلاء بالمنافقين ليس بجديد فقد قال بعض السلف في زمانه: " لو كان للمنافقين أذناب لما استطعنا السير في الشوارع والطرقات من كثرتها "، وفي أمة الإسلام اليوم أكثر من ذلك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ــــــــــــ
بقلم : عبد الملك القاسم
===============
تبجيل العلماء والدعاة والتأدب معهم
أدب النفس ممدوح بكل لسان، ومتزين به في كل مكان، وباقٍ ذكره مدى الأزمان.. وكل من أعار الوجود نظرة البصير علم أن حاجة المرء إلى تأديب نفسه من أهم الحاجات، والناس إنما تتفاضل بالأدب أعظم مما تتفاضل بالحسب؛ لأن الأدب يرفع الأحساب الوضيعة، ويفيد صاحبة الأوصاف الرفيعة ، ويعز صاحبه وإن كان بلا عشيرة، وكما قيل: "من قعد به حسبه نهض به أدبه". ولأن الأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، فهو رشح الأرواح السامية، والنفوس الزاكية، والمعارف الراقية.
يقول ابن القيم رحمه الله: أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب. وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان.
ما وهب الله لامرئ هبة.. .. ..أفضل من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن فقدا.. .. ..فإن فقدَ الحياة أحسن به
الأدب قبل العلم
ولعظم مقام الأدب ومكانه أولاه السلف اهتمامًا عظيمًا، فجدوا في طلبه لأنفسهم، ونصحوا به طلابهم، وأمروا به أبناءهم، وجعلوه مطلب أساسيًّا قبل العلم، إذ كل علم بلا أدب لا منفعة فيه.
قال الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
وقال سفيان الثوري: كان الرجل إذا أراد أن يكتب الحديث تأدب وتعبد قبل ذلك بعشرين سنة.
لقد كان طلب الأدب مقدمًا عندهم على طلب العلم.
هذا مالك الإمام يقول لفتىً من قريش: "يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم".
لأنه أدرك فضل الأدب منذ صغره، فقد كان يقول: "كانت أمي تعممني وتقول: اذهب إلى ربيعة (وهو ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك) فتعلم من أدبه قبل علمه.
قال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: قال لي أبي: "يا بني إيت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليَّ لك من كثير من الحديث".
وقال بعضهم لابنه: "يا بني لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم".
واسمع إلى الحسين بن إسماعيل وهو يقول: سمعت أبي يقول: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت.
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث".
وأنا أقول: بل نحن والله في هذا الزمان أحوج إلى كلام مخلد هذا.
بلية الوقيعة في أهل العلم
ما ابتليت الأمة في زمان من أزمانها ببلية مثل التي ابتليت بها في هذا الزمن، وهي التطاول على العلماء والطعن فيهم والقدح في نواياهم، والتجرؤ عليهم، ونسبتهم إلى العماله والخيانة.
وفي الكتب والمؤلفات في رد أبي فلان على فلان وشرائط الكاسيت بلايا ورزايا، ونظرة واحدة على مواقع الحوار الإسلامي في الإنترنت تكفي لتعرف من خلالها حجم المصيبة وعظيم البلية، وفداحة الخطر، خصوصًا وأن معظم الطاعنين لا يحسن أحدهم كتابة اللغة العربية وقراءتها، فيكف يفهمها، فضلاً عن أن يكون عالمًا في الدين. وإنما حاله كحال القائل: "لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يارويعي الغنم".
توقير العلماء من الدين(2/89)
إن من أصول منهج السلف احترام العلماء وتوقير الفقهاء، والتأدب معهم غاية الأدب، فإن الجناية على العلماء خرق في الدين، ومن هنا قال الإمام الطحاوي: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".
لأن العلماء كما يقول الإمام أحمد بن حنبل: "هم خلفاء الرسول في أمته، وورثة النبي في حكمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا".. قيضهم الله لحفظ الدين، ولولا ذلك لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، وهم في كل زمان الأصل في أهل الحل والعقد، وهم المعنيون مع الأمراء في قوله تعالى: (وَأَولي الأمر)[النساء:] ولذلك كان الوقوع فيهم من أكبر الذنوب وفاعله لا يفلح أبدًا.
قال ابن المبارك: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته.
قال ابن الأذرعي: الوقيعة في أهل العلم لا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب.
وقال أبو سنان الأسدي: إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح.
وقال الإمام أحمد: لحوم العلماء مسمومة من شمها مرض ومن أكلها مات.
وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلم عنده على أحد الناس: مه.. لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله قلبك.
وما أجمل قول ابن عساكر بعد هذه الأقوال الجميلة: واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة. ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور:63].
وقد ذكروا عن رجل (الفقيه محمد بن عبد الله الزبيدي) أنه كان كثير الوقوع في الإمام النووي رحمه الله فقال الجمال المصري: أنه شاهده عند وفاته، وقد اندلع لسانه واسود، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في الإمام النووي رحمهم الله جميعًا.
فليحذر هؤلاء المتسلطون على العلماء والواقعون فيهم، من سوء العاقبة.
وما من كاتب إلا سيلقى.. .. ..كتابته وإن فنيت يداه
فلا تكتب بحظك غير شيء.. .. ..يسرك في القيامة أن تراه
=============
وأنه هو أضحك وأبكى
قال الله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم:43]، الضحك المعتدل بلسم للهموم، ومرهم للأحزان، وله قوة عظيمة في فرح الروح، قال أبو الدرداء: إني لأضحك حتى يكون إجمامًا لقلبي، وكان أكرم الناس صلى الله عليه وسلم يضحك أحيانًا حتى تبدو نواجذه، وهذا ضحك العقلاء العارفين بداء النفس ودوائها، والضحك ذروة الانشراح، وقمة الراحة، ونهاية الانبساط، ولكنه ضحك بلا إسراف، فإن كثرة الضحك تميت القلب، ولكنه التوسط، قال عليه الصلاة والسلام: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة" قال تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا)[النمل:19]، وليس ضحك الاستهزاء والسخرية، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ)[الزخرف:47]، ومن نعيم أهل الجنة الضحك قال تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)[المطففين:34]، وكانت العرب تمدح ضحوك السن، وتجعله دليلاً على سعة الصدر، وجود الكف، وسخاوة الطبع، وكرم السجايا، ونداوة الخاطر:
ضحوك السن يطرب للعطايا.. .. ..ويفرح إن تُعرِّض بالسؤال
وقال زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً.. .. ..كأنك تعطيه الذي أنت سائله
والحقيقة أن الإسلام بني على الوسطية والاعتدال، فلا عبوس مخيف قاتم، ولا قهقهة مستمرة عابثة.
يقول أحمد أمين في فيض الخاطر: "ليس المبتسمون للحياة أسعد حالاً لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأصلح لمواجهة الشدائد، ومعالجة الصعاب، ولو خيرت بين مال كثير أو منصب عظيم، وبين نفس راضية باسمة لاخترت الثانية، فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما جمال الزوجة إذا عبست وقلبت بيتها جحيمًا؟ لخير منه ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال، ولكن جعلت بيتها جنة".
البحث عن الشقاء
وهناك نفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاء، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، وهناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ. فاليوم أسود لأن طبقًا انكسر، ولأن نوعًا من الطعام زاد الطاهي في ملحه، أو أنها عثرت على أوراق مبعثرة، فتهيج وتسب كل من في البيت، فإذا هو شعلة من نار، وهناك رجل ينغص على نفسه وعلى من حوله من كلمة يسمعها، أو يؤولها تأويلاً سيئًا، أو من عمل تافه حدث له أو حدث منه، أو من ربح خسره، أو كان ينتظره فلم يقع، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يسودها على من حوله، هؤلاء عندهم قدرة على المبالغة في الشر، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كان كثيرًا، ولا ينعمون بما نالوا ولو كان عظيمًا.
يقول أحمد أمين: "وأكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمباهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحدائق الغناء والأزهار الجميلة والماء المتدفق، والطيور المغردة فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يأتي ودينار يخرج كأن الدينار وسيلة للعيشة السعيدة فقلبوا الوضع، وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار".
الثقة بالنفس(2/90)
لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعفها، وصغر شأنها وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير، هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه، والإيمان بقوتها، فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته، وفي إمكان نجاحه، وعالجه بفتور ففشل فيه، الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرور اعتماد النفس على الخيال، وعلى الكبر الزائف، والثقة بالنفس اعتمادها على مقدرتها على تحمل المسؤولية وعلى تقوية ملكاتها، وتحسين استعدادها.
ـــــــــــــ
محمد بن عبد الله الشايع
==============
موضوع الدعوة.. هو دين الإسلام
الدعوة إلى الله هي دعوة إلى دينه الذي هو دين الإسلام ، ودور الداعية هو تعبيد الناس لربهم ، والعمل على تحكيم منهجه سبحانه في الأرض ، والبراءة من حكم الطواغيت وأهوائهم .. والحديث عن الإسلام واسع ، ولكننا سنتحدث في هذه العجالة عن معنى الإسلام وبعض من خصائصه .
أولا تعريف الإسلام
الإسلام في اللغة مشتق من الاستسلام ، وهو الخضوع والانقياد .
وفي الاصطلاح له إطلاقان: عام ، وخاص .
فأما الأول ( وهو المعنى العام ): فيطلق على جميع ما أرسل به المرسلون من لدن آدم إلى خاتمهم المختار عليه الصلاة والسلام : " إن الدين عند الله الإسلام ".
وأما المعنى الخاص : فهو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه فختم الله به الرسالات ، كما ختم بصاحبه النبوات ، وهو دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يرضى بسواه .
ويعرف الإسلام بعدة تعريفات حسب جهة نظر المعرف ، وكلها مقبولة متوافقة ، وأفضل تعريف للإسلام هو تعريف رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ردّا على سؤال جبريل عليه السلام ، حين قال : %[ الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت]%% . (رواه مسلم)
وقد جمع هذا الدين في طياته عقيدة صحيحة ، وشريعة كاملة ، في ثوب من مكارم الأخلاق ، فكان بحق دين الله الحق وما سواه فضرب من الباطل .
خصائص الإسلام
اختص دين الإسلام بخصائص كثيرة ، وامتاز بمزايا عديدة تتجلى في كليات أحكامه وجزئياتها ، ومن أبرز هذه الخصائص:
1 ـ قدسية المصدر ( الربانية )
فالإسلام مصدره ومنهجه وأحكامه ، كل ذلك من عند الله ، فهو وحيه إلى رسوله الكريم ، وهذا أكبر فارق بينه وبين ما عداه من أديان ودعوات ، وقد ترتب على هذا أمور :
ـ كماله وخلوه عن النقائص ، فهو الدين الكامل الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، والذي تم فلا يحتاج إلى زيادة في أحكامه ولا تعديل في شرائعه بل قال الله فيه : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }(المائدة: 3)
ـ ارتفاعه عن الهوى والظلم والجهل التي هي الأصل في القوانين الوضعية والشرائع البشرية : فواضع الدين هو رب العالمين الذي يعلم ما يصلح العباد ، وهو سبحانه صاحب صفات الكمال ونعوت الجلال ، ولا حاجة له من البشر ولا إليهم ، وإنما مراده إصلاحهم وهو الأعلم بهم : {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}( الملك : 14)، وأما البشر فالجهل والظلم والعجلة طبعهم {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب :72 )
ـ الهيبة والاحترام من قبل أتباعه : مهما كانت مراكزهم وسلطاتهم الدنيوية ، فهم عباد لله صاحب الشرع ، ولأن الشريعة الإلهية تقوم على أساس الإيمان والعقيدة ، بخلاف القوانين الوضعية التي تخالفها النفوس كلما وجدت الفرصة لذلك ، وكلما غفل الرقيب البشري وبعد الطائل القانوني .
2 ـ الشمول
الإسلام نظام شامل لجميع شؤون الحياة وسلوك الإنسان ، وهذا الشمول لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص ، بل هو كامل تام بكل ما تحمله الشمولية من معنى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ، {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }.
لقد نظم الإسلام علاقة العبد بربه ، وعلاقته بالناس ، وعلاقته بحكامه والعكس ، وعلاقته بالكون حوله ، وبين له ورتب له حياته قبل الممات وبعد الوفاة .
وللإسلام حكم في كل ما يصدر عن العبد من تصرفات ، وكل ما يضعه في رأسه من أفكار وفي قلبه من ميول .. كما أن هذا الدين العظيم شمل العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ، فبين كل ذلك أتم بيان وأجمله وأحسنه .
وأما القوانين الوضعية والشرائع البشرية فغاية ما فيها من ذلك محاولة ضبط علاقة الإنسان بالإنسان، مع القصور التام في ذلك والنقص والظلم والهوى والجهل .
3 ـ العموم
من البدهيات في الإسلام أنه جاء لعموم البشر وكافة الخلق ، وليس هو لطائفة معينة ، ولا لجنس دون جنس { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا } (سبأ : 28).
وهذا العموم كما يشمل الأجناس كذلك يشمل الأماكن والأزمان ، فهو دين الله لكل الخلق في كل مكان وإلى أن تقوم الساعة ؛ ولذلك فقد شرعه الله تعالى صالحا لهذا العموم يفي بحاجات الناس ، ويحقق مصالحهم ، ولا يتخلف عن أي مستوى يعيشونه في مجتمعاتهم ، وهذا واضح من خلال واقع الشريعة وطبيعة مبادئها ومناهجها وأحكامها ،ومن ثم جاء الإسلام شاملا كاملا .
4 ـ المثالية الواقعية
ومعنى المثالية في الإسلام : الحرص على أن يبلغ الإنسان الكمال المقدور له ، مع عدم إغفال طبيعة الإنسان وواقعه .
فالمثالية تأتي بالتزام العبد منهج الله في شؤون حياته ، وبقدر هذا الالتزام يكون قربه أو بعده من المثالية؛ إذ إن منهج الله كما قدمنا هو الكمال .(2/91)
وهذه المثالية لا يمكن أن تكون واقعا إلا بالنظر إلى طبيعة النفس ومكوناتها ، ومن ثم راعى الإسلام الموازنة بين النفس والروح، والاعتدال بين احتياجات كل واجدة منهما .
فالعبادات غذاء الروح وحياتها ؛ إذ هي حظها من خالقها ومعبودها ، ولكن لا ينبغي أن يهلك العبد بالعبادات نفسه ، ويعذب بها جسده ، ويحمله مالا يطيق {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ، وفي الحديث : %[لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ]%%(متفق عليه).
وقال لمن ربطت حبلا بين ساريتين تتعلق عليه إذا فترت : %[ ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ]%%.
وقال لعثمان بن مظعون : %[ يا عثمان أرغبت عن سنتي قال لا والله يا رسول الله ولكن سنتك أطلب قال فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم ]%%.(أخرجه أبو داود).
وإذا كان الناس متفاوتين في استعدادهم للوصول إلى الكمال ، فقد راعى ذلك الإسلام أيضا فجعل حدًّا أدنى يتحمله كل أحد ، وهو فعل الفرائض والواجبات وترك المعاصي والمحرمات ، وحدًّا أعلى يتنافس فيه المتنافسون ، بفتح أبواب النوافل والمستحبات ، وهو مجال يصل فيه كل عبد حسب ما تبلغ به همته .
كما تظهر واقعية الإسلام في إيجاد المخارج لما قد يحدث من ضرورات ،كالتيسير وقت الشدة وإباحة المحظور للضرورة وإيجاد الرخص كل ذلك حتى يمكن لهذه الشريعة ـوقد كان ـ أن تصلح لكل زمان ومكان، وليحق قول الله تعالى : {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} ، {ما جعل عليكم في الدين من حرج }.
هذه كانت إطلالة سريعة على خصائص الإسلام الذي هو موضوع الدعوة ، والواجب على الدعاة أن يبينوا للناس هذه الجوانب من عظمة هذا الدين ، ويجعلوا ذلك أصل دعوتهم فإن أكثر الخلق غافلون عن معرفة الإسلام جاهلون به ، ولو عرف الناس الإسلام حق معرفته لدخلوا فيه أفواجا كما خرجوا منه ـ لتقصيرنا في الدعوة وجهلهم به ـ أيضا أفواجا .
=================
معنى الدعوة إلى الله تعالى
لعلي لا أكون مخطئاً إذا قلت : " إن العالم الإسلامي اليوم لا يحتاج لحل مشكلته إلى انتقال جمهور جديد من المنحرفين والغافلين إلى التمسك بالإسلام ، بمقدار ما هو بحاجة سريعة إلى توعية المتمسكين به ، وبعث هممهم ، وتعريفهم طريق العمل وفقه الدعوة , ولا تزال هناك بقية باقية من المؤمنين كثير عددها ، تكفي ـ لو تحركت ـ لقيام الخير الذي نبغي ونريد ، إذا عرفت التجرد ، وتقلّلت من الدنيا ، وبعدت عن الفتن ، وصبرت في المحن ، وأجادت فن قيادة الأمة .
إننا في هذه الحقبة نحتاج إلى دعاة إلى الله ، من المصلين المعتزين بدينهم، المتحلين بأخلاق المؤمنين ، دون الغافلين فضلا عن المنحرفين ، نحتاج المسلم الغيور صادق الإيمان ، نقى العقيدة ، الذي يتألم لواقع المسلمين الحاضر ويحزن له، فيدله هذا على طريق العمل المثمر وسبل الخلاص من هذا الواقع المر ، والعمل على توعية الناس والترقي بهم ، وكذلك العناية بما يلزمه من الارتقاء بتربية نفسه إلى مستوى متطلبات هذا الطريق.
الدعوة في اللغة والاصطلاح
قبل أن نعرض لموضوعات الدعوة يلزمنا أولا أن نبدأ بتعريف الدعوة وإظهار معناها لغة واصطلاحا
أولا : الدعوة في اللغة
كلمة ( الدعوة ) مصطلح إسلامي، وهناك علاقة وثيقة بين مدلول هذا اللفظ في الأصل اللغوي، وبين استعماله كمصطلح إسلامي صرف .
وأول ما ننظر إلى كون اللفظة فعلا وهو " دَ عَ وَ " على وزن " فَعَلَ ". نجد أن هذا اللفظ لا يحمل إلا معنى واحدًا ، وهو : أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك . (انظر معجم مقاييس اللغة 2/279). ومشتقات هذا الفعل لم تخرج في مدلولاتها عن هذا المعنى أبداً .
ويقول صاحب المحيط : (( دعا دعاء ودعوى )) ، أي الإمالة والترغيب .
معاني الدعوة في القرآن
ورد لفظ الدعوة في القرآن الكريم للدلالة على معاني متعددة منها:
1 ـ معنى الطلب: نحو قوله تعالى: ( لا تدعو اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً) (الفرقان: 14). بمعنى لا تطلبوا اليوم هلاكاً واحداً بل اطلبوا هلاكاً وويلاً كثيراً فإن ذلك لن ينفعكم.
2 ـ معنى النداء: نحو قوله تعالى:( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقًا) (الكهف:52). أي فنادوهم فلم يستجيبوا لهم.
3 ـ معنى السؤال: نحو قوله تعالى حكاية عن بني إسرائيل:( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) (البقرة:69). أي اسأل ربّك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها.
4 ـ معنى الحث والتحريض على فعل شيء: نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون:( ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) (غافر:41). بمعنى أنه ليس من العدل والإنصاف أن أحثّكم وأحرضكم على فعل ما من شأنه نجاتكم في الدنيا والآخرة، وأنتم تحرضونني على فعل ما من شأنه هلاكي.
5 ـ معنى الاستغاثة: نحو قوله تعالى:( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) (الأنعام:40).
بمعنى: هل إذا أتاكم عذاب وغضب من الله وأصابتكم كارثة أو مصيبة أو أتتكم الساعة هل إذ حدث ذلك تستغيثون بغير الله؟ فإن كلمة تدعون في الآية بمعنى الاستغاثة.
6 ـ معنى الأمر: نحو قوله تعالى : {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} (الحديد:8). أي والرسول يأمركم أن تؤمنوا بالله ربكم.
7 ـ معنى الدعاء: نحو قوله تعالى:( ادعوا ربكم تضرُّعاً وخفية) (الأعراف:55). بمعنى توسلوا إلى الله بالدعاء وتقربوا إليه به.(2/92)
هذه معاني متعددة استُعمل لفظ الدعوة للدلالة عليها كما ورد في القرآن الكريم ، وإذا نظرنا بشيء من الإمعان إلى تلك المعاني سوف نجد أنها تعود جميعها إلى أصل واحد وهو معنى «الطلب».
فالنداء هو طلب الحضور والمجيء سواء لأمر حسي أو معنوي.
والسؤال: هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً لدى السائل.
والتحريض والحث: هو طلب إتيان فعل غير مرغوب فيه عند المخاطب.
والاستغاثة: طلب رفع ضرر واقع على المستغيث.
والأمر: طلب إتيان الفعل مطلقاً.
والدعاء: هو الطلب من الله سبحانه وتعالى.
وتعدّد معنى الدعوة كما هو واضح بغرض بيان القصد المراد منها.
ومن ثمّ يمكن تعريف الدعوة إلى الإسلام من خلال ما تقدم بأنها : الطلب من الناس الدخول في طاعة الله تبارك وتعالى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والالتزام بشرائعه أي التدين بالدين الإسلامي الحنيف الذي اختاره الله تبارك وتعالى لخلقه والعمل بتعاليمه. ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة:21) .
ومن مجموع ما تقدم نفهم أن الصلة وثيقة بين مدلول الفعل دعا في اللغة ، وبين مدلوله فيما اصطلح عليه القرآن الكريم، فقوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك " يدل على الإمالة والترغيب، أي الميل بالناس عن الشر ، ودعوتهم إلى سبيل الله رب العالمين .
والذي يقوم بأمر الدعوة ويحمل عبأها ليبلغها إلى الناس هو الذي يطلق عليه الإسلام: "الداعي " أو " الداعية " ، والداعي اسم فاعل من الفعل دعا يدعو . أما الداعية فالتاء في آخره تدل على المبالغة والتكثير وإذا أردنا الجمع قلنا "دعاة" والجمع السالم "داعون" و " داعيات ".
ثانيا: الدعوة في الاصطلاح
تعريفات الدعوة في الاصطلاح ـ خصوصا عند المتقدمين ـ لا تكاد تؤخذ إلا من معرض كلامهم ومفهومه؛ إذ قل تخصيصهم لهذا الأمر بتعريف خاص به، حتى قال الشيخ ابن حميد ـ حفظه الله ـ : " لا يوجد عند المتقدمين ، فيما اطلعت عليه، تعريف اصطلاحي." ( معالم في منهج الدعوة 9).
قلت : وقد يمكن اعتبار كلام الصحابي العظيم ربعي ابن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس في معركة القادسية خلاصة لمعنى الدعوة حين قال له جوابا على سؤال رستم ما الذي جاء بكم ؟ قال ربعي : " جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
وقال الراشد ـ في كتابه المنطلق (ص 85) ـ : وقد تعرض ابن تيمية لتعريف الدعوة فقال: (الدعوة إلى الله : هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا) .(الفتاوى 15: 157).
وقال أيضا رحمه الله : ( وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب ، ومن باطن وظاهر ، فمن الدعوة إلى الله : الأمر به ، وكل ما أبغضه الله ورسوله ، من باطن وظاهر ، فمن الدعوة إلى الله النهي عنه ، ولا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله ، ويترك ما أبغضه الله ، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة ) .
وقد دارت تعريفات المتأخرين للدعوة حول هذا المعنى :
فمن ذلك قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : هي "دعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، وحفظ الحقوق ، وإقامة العدل بين الناس بإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيله من المنازل ما يستحقه ، فترتفع العقائد الكاملة والأحكام الشرعية ، وتزهق العقائد الباطلة والقوانين الجاهلية والأحكام الوضعية ."
وقال بعضهم : الدعوة : تعريف الناس بربهم بأسمائه وصفاته، وكيفية الوصول إلى الرب سبحانه ، وما لهم إذا هم وصلوا إليه .
أو هي : حداء بالناس لمعرفة الله والإيمان به ، وتوحيده ربًا خالقًا مالكًا، وإلهًا معبودًا وحاكمًا فردًا ، فلا منازع له في ربوبيته ، ولا شريك له في إلهيته ، ولا مضاد له في حاكميته . (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران/83) ، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة/50) .واتباع كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الشيخ صالح بن حميد: : يمكن بالنظر والتأمل تعريف الدعوة بأنها : (قيام المسلم ذي الأهلية ـ في العلم والدين ـ بتبصير الناس بأمور دينهم ، وحثهم على الخير ، وإنقاذهم من شر واقع، وتحذيرهم من سوء متوقع ، على قدر الطاقة ، ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل) ." (معالم في منهج الدعوة 9).
وقد سبق الشيخ محمد خضر حسين فعرفها بقوله : حث الناس على الخير والهدى ،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل . (الدعوة إلى الإصلاح: 17)
وعرفها أيضا من المعاصرين الشيخ البيانوني فقال : ( تبليغ الإسلام للناس ، وتعليمه إياهم ، وتطبيقه في واقع الحياة ). ( المدخل إلى علم الدعوة :16)
وباختصار شديد فإن الدعوة إلى الله تعالى هي معرفة الدين ودعوة الناس إليه تحقيقا لقوله تعالى : "والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". وقوله سبحانه : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }.
=================
أهمية الدعوة وفضل الدعاة(2/93)
اعلم - يا رعاك الله - أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أجل الأفعال، وأعظم الأعمال التي يؤديها المسلم في دنياه، و يحتسبها لأخراه، ويضعها في ميزان حسناته، بل هي من الهموم التي تقعده وتقيمه، ويفكر فيها ليل نهار، يبحث عن نوافذ للأمل، ومخرج من الضيق، فالدعاة إلى الله يقومون بمهمة بالغة الشأن، عظيمة الأهمية .
ولما كانت الدعوة إلى الله، وإلى دين الله - الإسلام - وإلى ما أعد الله لمن استجاب لهذه الدعوة المباركة أمرًا عظيما، فقد تولاه الله سبحانه وتعالى بنفسه، وأرسل به رسله مبشرين ومنذرين، يدعون الناس إلى كل خير وينهونهم عن كل شر، يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، وأقام من بعدهم عباده الصالحين من ورثة الأنبياء الصادقين، الذين جعلهم حجة على الناس في كل وقت وحين، ينشرون دين الله بين الأنام ويدعونهم إلى الجنة دار السلام، فكم من أرض أناروها بنور الإسلام، وكم من أمم أخرجوها من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأولئك هم المفلحون.
والدعوة إلى الله لها في الدين مكانة عظمى، وفضيلة كبرى، ويكفي للدلالة على فضل هذه الدعوة وقدر القائمين عليها أمور :
أولها : أن الله تولاها بنفسه
قال تعالى: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] فعم بالدعوة جميع خلقه ، وخص بالهداية من يشاء، فذاك عدله وهذا فضله" [إعلام الموقعين- ابن قيم الجوزية - 1/153].
وقالت رسل الله لأقوامهم يذكرونهم بدعوة الله لهم : {أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم }[إبراهيم: 10]، وقال تعالى: {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} [البقرة: 221].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "[... فبينما أنا قاعد ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) متوسد فخذي، إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال، فانتهوا إليّ فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وطائفة منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبداً قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلاً، مثل سيد بنى قصراً ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه -أو قال: عذبه- ثم ارتفعوا واستيقظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند ذلك فقال: "سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هم الملائكة. فتدري ما المثل الذي ضربوا ؟ الرحمن تبارك وتعالى بنى الجنة ودعا إليها عباده فمن أجابه دخل الجنة ومن لم يجبه عاقبه وعذبه …] (الترمذي جـ5/145 ح: 2861).
فالدعوة دعوة الله والدين دينه فمن أجاب دعوته واستمسك بدينه غفر ذنبه وكفر سيئاته وأدخله جنات النعيم، ومن لم يجبه عاقبه وعذبه.
ثانيها : أن الدعوة إلى الله عمل الأنبياء
فقد أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، يدعون الناس إليه وأوجب عليهم ذلك، وجعل هذه وظيفتهم وأهم الواجبات المنوطة بهم بعد الإيمان به. قال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (الأنبياء:25 )، وقال عز وجل : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }(النساء: 165)
وقد قام رسل الله عليهم الصلاة والسلام بذلك أفضل قيام، وبلغوا رسالات ربهم أتم بلاغ، فشكر الله لهم، وسلم عليهم فقال : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}(الصافات:180ـ182)، وصدق عليهم وصف الله لهم : {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً }(الأحزاب: 39).
ثالثها : الدعاة أتباع النبي على الحقيقة
فقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا إليه ودالا عليه إلى الأولين والآخرين، وأمره بالدعوة وبالبشارة والنذارة، والقيام بأمر هذه الدعوة وهذا الدين، فشمر (صلى الله عليه وسلم) عن ساق الجد، وقام بالدعوة إلى الله أتم قيام، وجاهد في ذلك أعظم الجهاد، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس، ولما صدع بأمر الله، وصدع لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم، اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوهم بأنواع الأذى، وابتلي أعظم البلاء فصبر أعظم صبر عرفته الإنسانية حتى قال عليه الصلاة والسلام: [لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال] .(الترمذي في الشمائل المحمدية وابن ماجه ).
وقد ورث الدعاة إلى الله ـ من علماء وغيرهم ـ هذا الأمر كله عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، وسلكوا هذا الطريق فكانوا هم بحق أتباعه ، وحملة رسالته ، وأصحاب دعوته ، والسالكين في سبيله كما قال عنهم في كتاب الله : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله علىبصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } (يوسف: )
فالدعاة على الحقيقة هم الشموع، التي تحترق لتضيء للناس طريق الهدى والحق والضياء، وهم وعي الأمة المستنير و فكر الأمة الحر، وهم قلب الأمة النابض، وأطباء القلوب المريضة، والنفوس الجريحة، بل هم قادة سفينة النجاة في وسط الرياح الهوجاء، والأمواج المتلاطمة(2/94)
=============
وجوب العمل للدين
نعم ! إنها خدمة يَشْرُفُ بها العبد وليست مَهْنَةً قَسْرية يُهان بها ، أو منصبا تشريفيا يخيّر بين قبوله أو الإعراض عنه ، وليست تبرعا ولا فرض كفاية ولا مجرد أداء واجب ، وإنما خدمة الدين ركن من أركانه وضروريٌّ من ضرورياته وأساس من أسسه . ولقد كان هذا المعنى مستقرا عند السلف الصالح استقرارَ المعتقَد في القلوب ، ولم يحتاجوا أن يستدلوا له أو أن يقرِّروه لأنفسهم بشتى وجوه الاستدلال ، بل كان يكفي أن يُسْلِمَ الواحد منهم أو يستقرَّ الإسلام في قلبه ليعتبرَ نفسه بعد ذلك مَنْذورَةً لهذا الدين ، ويجنِّدَها في خدمته ، ويَصرِفَ مجهوداتِها في نصرته والذَّوْدِ عن حَوْزَتِه .
إن هذا الدين إذا تأمّله المتأمِّل عَلم أنه صِيْغَ ليكون المتمسّكُ به داعيةً إليه ، ودَلاّلاً عليه . ومع مَزِيد تأمّل يرى المرء أن مَن أراد أن يكون مسلما دون تَبِعات ومسئوليات تجاه إسلامه فإنه رَامَ ضرْبا من التديّن شبيهاً بتدين الرهبان في الكهوف والصوامع والبِيَعِ ، وقد تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام .
إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن : الأمر بالنِّذارة وتبليغ الوحي للخليقة ، يقول تعالى : (يا أيها المدّثر . قُمْ فأنذِر ) . ثم توالى بعد ذلك ما يمكن أن نسمّيَه فقهَ الدعوة، حيث تضمّن التنزيل أوامرَ عُنيتْ بالشأْن الدعوي مثل قوله تعالى: (فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عن المشركين) وقوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) وقوله : ( ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسن)، وهي آيات ترسم صورة المسلم الداعية الذي يتبع نهج نبيه صلى الله عليه وسلم .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوائل اهتماماته صِيَاغَةُ الشَّخصية الدعوية التي تحمل هَمَّ الدين وتبذُل له . وكان أول من دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلم يكن ذلك الصديق عَالَةً على الدعوة وعِبْئَاً عليها ، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان ، إضافةً إلى سعايته في فِكاك العبيد الذين أسلموا من أَسْر الرِّق
وإنّ تحرك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد وفاته ـ في أقطار الأرض لَدَليلٌ على أن الشخصية التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون .
وفي تفسير قوله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أُنزل إليه ( أي النبي صلى الله عليه وسلم) ويُنْذِروا كما أَنْذَرَ، قال الله تعالى: {فلولا نَفَر من كل فِرْقَةٍ منهم طائفةٌ ليتفقوا في الدين ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذرون } ، والجنُّ لما سمعوا القرآن :{ وَلّوْا إلى قومهم منذرين } . ويقول ابن القيم رحمه الله : وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضلُ من تبليغ السهام إلى نحور العدو، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه . ويقول الغزالي رحمه الله : "اعلم أن كل قاعد في بيته ـ أينما كان ـ فليس خاليا في هذا الزمان عن مُنْكر ، من حيث التَّقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحمْلهم على المعروف ، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد ، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعرابُ والأكْراد والتُّرْكُمانِية ، وسائرُ أصناف الخلْق ، وواجبٌ أن يكون في كل مسجدٍ ومَحَلَّةٍ من البلد فقيهٌ يعلّم الناس دينَهم وكذا في كل قرية ، وواجب على كل فقيه - فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ، ويعلِّمَهم دينهم وفرائض شرعهم.أهـ .
وعن جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنامَ لَمْ أَنَمْ مَخافةَ أن يَنزِلَ العذابُ وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرَّقْتُهم ينادون في سائر الدنيا : يا أيها الناس : النارَ النارَ . وقال إبراهيم بن أَشْعَث : كنا إذا خرجنا مع الفُضيل بن عِياض في جنازة لا يزال يَعِظُ ويذكّر ويبكي حتى لَكَأَنّه يودّع أصحابه ذاهبا إلى الآخرة حتى يبلغَ المقابر ، فيجلس فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وَلَكَأَنّه رجع من الآخرة يُخْبِرُ عنها . وعن شجاع بن الوليد قال : كنت أخرج مع سفيان الثوري ، فما يكاد لسانُه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا . والإمام الزهري لم يَكْتَفِ بتربية الأجيال وتخريج أئمة الحديث ، بل كان ينزل إلى الأعراب يعلّمهم . وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي - شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله - كان يدخل القرى والضِّياع ويعظ لأهل البوادي تقربا إلى الله .(2/95)
يقول الراشد حفظه الله : ولا ينبغي للداعية أن يَبْتَئِس إن لم يجد فَضْلَ وقت لقيام الليل يوميا ، والإكثار من ختْمات القرآن ، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خيرٌ وأجْزَلُ أجرًا ، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ، ويبادؤون الناس بالكلام ، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا ، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم ..ثم ذكر قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قائلا : يا محمد أتانا رسولُك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أَرسلَك ؟
قال الراشد : أتاهم رسولُ رسولِ الله داعيا ، وكذلك الناس تُؤْتَى ، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية ، ولو فصّلت كلمة الأعرابي لتبين لك كيف فارق ذلك الصحابي الداعية المدينةَ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقومِ هذا ، وكيف فَارَقَ أهلَه وبيتَه وأولادَه ، وكيف اجْتازَ المَفَاوِزَ وصحْراءَ مِن بعدِ صحْراء ، وكيف تعرّض للمخاطر والحر أو البرد ، ليبلّغ دعوة الإسلام . وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها ، لابد من تَحرّك ومُبادَأَة وغُدُوٍّ ورَوَاحٍ وتَكَلُّمٍ وزَعْمٍ ، ليس القعودُ والتمني من الطرق الموصلة ، فافْقَهْ سيرةَ سلفك وقلّدْهم تَصِلْ ، وإلا فَرَاوِحْ مكانَك فإنك لن تَبْرَحَه .. ) أهـ (من علو الهمة 264).
إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصرا أصيلا في النسيج الإيماني لكل مسلم ، فلا يَفْتَأُ يحاسب نفسه في كل زمان : ماذا قدم لدين الله ؟ يَتَقَلَّبُ في مَضْجَعِه قَلِقَا ، لا يَهْنَأُ بِنَوْمَة، ولا يطِيبُ له وَسَن ، ترتاده أخبار المسلمين فيَهْتَمُّ ويَغْتَمُّ ، يفكّر في سبل إيصال الحق إلى الخلق فيخافُ أن يقصّر ، يقلق من تنامي الكفر والفسق ، يَجْزَعُ من قلة الناصرين لدين الله ، إنه لا يفكر في جاره فقط أو صديقه كيف يدعوه ، إنه يفكر في سكّان الكرة الأرضية كيف يُدخلهم في دين الله أفواجا . يالها من همة لو وجدت لها فؤادا . وأحسب أن مثل هذه النفس لو تَلِفت هَمّا على حال الدين لما كان ذلك كثيرا جَلَلاً .
(((((((((((((((((((((((
الفهرس العام
الباب الثاني- أركان الدعوة
الباب الثاني- أركان الدعوة
التلازم بين العقيدة والدعوة
اهدنا الصراط المستقيم
السلف هم القدوة
معنى الاقتداء
الانحراف عن الصراط المستقيم
ما ينبغى أن يهتم به العقل الإسلامى اليوم
وحي الشياطين
صور الوحي الشيطاني
يوحون إلي أوليائهم ليجادلوكم
وزماننا أيضا
همم الدعاة.. لا وقت للاسترخاء
علو في الحياة:
نطق بالليل والنهار:
ونطق أثناء خطوات الهجرة:
و نطق في السجن:
الراشد يمنع النوم:
الترابي ...!
هواية رفع الأثقال
حصن التربية الأسدية
ذهب الفراغ....!
موفق يجوب بحقيبة العلم راجلاً
الحنابلة يحفظون السمت
الطاعة في الدعوة
سعد يتذكر البيعة:
دقة الجندية الإسلامية:
حدود الطاعة:
غياب الطاعة لماذا؟
زوجة الداعية.. جندي مجهول في طريق الدعوة
سر نجاح الدعاة
رسالة الإسلام
الدعوة بالصمت والسمت
فبهداهم اقتده
التشويق في الدعوة
أولاً: ربط الموضوع بواقع المدعوين:
ثانيًا: تجديد وتنويع الأساليب:
ثالثًا: انتهاز المناسبات والفرص:
رابعًا: استعمال وسائل الإيضاح:
خامسًا الاقتصاد في الموعظة:
حيل أهل الباطل لفتنة الدعاة
حرب المصطلحات
تكرر الصورة:
أنواع من الحيل
الترغيب في المناصب والأموال
التخويف والتهديد:
البعثات الخارجية:
تشويه السمعة وإلصاق التهم
القتل أو الحبس
لا مناصب في الدعوة
يوسف يطلب الرئاسة:
طوبى لعبد:
الدعاة .. والحرص على هداية الخلق
الدعاة دلالون على الله
العزلة دفن للنفس
السلف والنزول إلى الناس:
التربية .. طريق التمكين
لزوم التربية الإيمانية
التربية النبوية للمؤمنين
الدعوة إلى رعاية المسنين
أولاً- أهمية الموضوع:
ثانيا- مجالات الاهتمام والرعاية:
ثالثاً- دور الأبناء
الإمام والدعوة
أولا- أهمية دور الإمام في الدعوة إلى الله:
ثانياً- مجالات الدعوة لدى إمام المسجد:
ثالثا- عقبات تواجه الإمام:
رابعا- وسائل التغلب على العوائق:
ضرورة الدعوة إلى الله
ضرورة الدعوة إلى الله في الكتاب والسنة
صيام يوم عاشوراء
فضله
مراتب صيامه
حكم صيام يوم عاشوراء لو وافق يوم الجمعة، أو السبت
فبمَ تدخل الجنة إذًا ؟!
تنافس الصحابة
خطر الوقوع في العلماء
هدم القمم هدم للإسلام:
تجريح العالم فض للناس عنه:
تصدر غير المتأهلين:
جرح العالم رد لعلمه:
انزواء العلماء والدعاة:
الدعاة .. وتفجير الطاقات الكامنة
واجب الدعاة
الدعاة بين القول والعمل
سيرة الداعية وتجاوب الناس مع فكرته
تجسد الإسلام في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم:
عنصر القدوة وعنصر الدعوة
ممارسة الداعية لما يقول
متى نسد هذه الثغرة؟
أفكار دعوية (1)
أولا- أفكار تتعلق بالدعوة في البيت:
ثانياً- أفكار تتعلق بالدعوة في المسجد:
ثالثا- أفكار تتعلق بدعوة المعلمين:
رابعاً- أفكار تتعلق بدعوة الطلاب:
أولاً- أفكار تتعلق بالدعوة إلى الله في العمل:
ثانياً- أفكار تتعلق بالدعوة إلى الله في الأسواق:
ثالثاً- أفكار تتعلق بالدعوة في المنتزهات والأماكن العامة:
الدعوة ومواجهة مؤامرات الأعداء
قيام الليل.. مشروعيته ومقداره
المناصب المؤثرة
أخلاقُ أهل القرآن
دور الترجمة في الدعوة إلى الله
خواطر حول الإجازة الصيفية
حتى يغيروا ما بأنفسهم
نحو عالمية الدعوة
ولكُنَّ في أسماء .. عبرة
الحركة في قاموس الدعاة
الدعاة وحمل هم الأمة(2/96)
كاد أن يبيع الإسلام بعشرين بنساً..!!
قل هو من عند أنفسكم
مقولات في فقه الموقف
اليهود والدعوة والدعاة
أنواع الدعوات والدعاة
الملأ
العصاة
مصادر الدعوة في أساليبها ووسائلها
أهداف الدعوة إلى الله تعالى
مكانة الداعية وفضله
أهمية إعداد الدعاة
عدة الداعي .. الإيمان العميق
عدة الداعي .. الاتصال الوثيق
عدة الداعي .. الشجاعة والإقدام
عدة الداعي .. الفهم الدقيق
من أخلاق الدعاة ,, (1) الإخلاص والصدق
عدة الداعي .. الصبر والتحمل
من أخلاق الدعاة .. (2) التعالي على متع الحياة
من أخلاق الدعاة .. (4) التواضع وهضم النفس
من أخلاق الدعاة .. (5) الطموح وعلو الهمة
من أخلاق الدعاة .. (6) الثبات على المبادئ
الدعاة بين رجل ورويجل
الثقافة اللغوية والأدبية للدعاة
الثقافة التاريخية للدعاة
من لهؤلاء .. ؟!!
دور المسجد في بناء الشباب
الدعاة .. ورعاية مقتضى حال المدعوين
الاستبداد الدعوي..!!
وأخيرا.. أسلم أستاذ الجامعة الأمريكية في مصر
أيها الدعاة !! الإصلاح .. الإصلاح 1/2
أيها الدعاة !! الإصلاح .. الإصلاح 2/2
آداب الداعي مع السامعين
لا تكن يائسا
مؤمن آل يس.. ودروس للدعاة إلى الله
مشاكل المرأة المسلمة في نيوزيلندا
لا تكن متفرجًا
تبجيل العلماء والدعاة والتأدب معهم
وأنه هو أضحك وأبكى
موضوع الدعوة.. هو دين الإسلام
أهمية الدعوة وفضل الدعاة
وجوب العمل للدين
الفهرس العام(2/97)
المفصل في فقه الدعوة إلى الله تعالى (3)
الباب الثالث- خواطر دعوية
جمعها وأعداها وفهرسها
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الثالث- خواطر دعوية
الدعاء.. وأثره في نصر الدعوات
حين تشتد بك الخطوب، وتحيط بك الكروب، وتظلم أمام عينيك الدنيا .
حين يضيق الأمر، وتستحكم عليك حلقاته، ولا تجد لك مخرجًا .
حين يتبدل الحال، ويقل المال، وتكثر النفقات، وتتراكم على رأسك الطلبات، ولا تجد معك ما تؤدي به الحقوق والواجبات .
حين تتبدل الحقائق، وتنتكس الفِطَر، ويُهزأ بالقيم، وتُحارب الفضائل، وتمتدح الرذائل .
حين يتكالب الناس على أهل العلم والدين، فيُلجؤونهم إلى ركن ضيق في مكان مظلم مغلق
حين يعلو الباطل وينتشر وينتفش، وينخفض الحق ويستخزي وينكمش. حين يحدث ذلك فيضيق له صدرك، وتلتاع له نفسك فاجأر إلى الله بالدعاء فإنه لا مخرج ولا ملجأ إلا في الدعاء
فالدعاء نعمة كبرى، ومنحة عظمى، تفضل الله بها على عباده، وجاد بها عليهم حين أمرهم به وحثهم عليه، ووالى إحسانه فوعدهم عليه الإجابة، وعلَّقها به، وسيَّرها في ركابه؛ فمتى وُجِد الدعاء فالإجابة معه، كذلكم قال الله وقضى في كتابه العزيز: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)، وقال جل قائلاً عليمًا: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكني أحمل هم الدعاء.
فالموفق من وفقه الله للدعاء، وفتح عليه أبوابه، ويسر له سبله وأسبابه، ووجه قلبه إليه، وحرك لسانه به، والمخذول من خذله الله فأعرض عن الدعاء كبرًا أو جهلاً بقدره، أو غفلة أو نسيانًا (نسوا الله فنسيهم) .
والخلق كلهم محتاجون إلى الدعاء أشد من حاجتهم للماء والهواء، مفتقرون إليه افتقار السمك للماء، لا غنى لأحدهم عنه طرفة عين، لا في وقت من الأوقات ولا في حال من الأحوال: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) .
فإذا كان هذا هو الحال مع عموم الخلق فإن الدعاة إلى الله تعالى أحوج لهذا السلاح من غيرهم لعدة وجوه:
أولا: في أنفسهم أن يصلح الله أحوالهم، وأن يربط على قلوبهم، وأن يثبت للسير على الدرب أقدامهم، فلا تغوينهم الشبهات، ولا تستزلهم الشهوات، ولا يمنعهم عن السير على طريق الحق والدعوة تسلط الأعداء وكثرة العقبات، وأن يستر الله عليهم هفواتهم وزلاتهم ويغفرها لهم ليكونوا قدوة للناس ولا يسقطعهم من عينه فيسقطوا من أعين الناس، وهذا باب لا ينبغي أن يغفل أمر الدعاء فيه.
ثانيا: إن طائفة كبيرة من المسلمين، ومنهم كثير من الدعاة في كثير من بقاع العالم عجزوا عن كثير من أوجه البذل مع الرغبة الشديدة في خدمة الدين، وكثير من هؤلاء لم يبق لهم من شيء ليقدموه أو جهد ليبذلوه إلا أن يبسطوا الأكف ويتضرعوا إلى القوي العزيز بنصرة الدين. وليست جهود هؤلاء الداعين بأقل من جهود من ينكر المنكر بكل جوارحه، أو من يواجه صناديد الكفر والنفاق في كل ميدان، وليست بأقل من جهود الخطباء والوعاظ وكل داعية في كل ميدان، بل هم الجنود الأخفياء الذين علامة صدقهم خفاؤهم، وكم غيرت دعوة من حال ونقلت إلى حال، وكم نفع الله بدعاء عبد ما عجزت عن إنجازه كبير من الفعال.. فلا يستصغرن أحد هذا الأمر فإن فيه ما لا يجتمع في غيره من الخير.
ثالثا: إن الدعاء في كثير من الأحيان قد يكون أمضى من السيوف، وأبلغ في نصر الدعوات وأصحابها من كثير من الجيوش، أو كالمقدمة التي لابد منها للنصر.. والمتتبع لحال الدعوات السابقة والدعاة وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجد هذا الأمر واضحا جليا: فما من الأنبياء نبي إلا وكانت له دعوة تتعلق بدعوته وتستمطر السماء لنصرته، وكم مِن الدعاة مَن لم يكن لهم سبيل لنصرة دعوتهم إلا الدعاء، وانظر صاحب قصة أصحاب الأخدود.. وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يبيت الليلة كلها يستنزل النصر بالدعاء حتى أشفق عليه صاحبه المقرب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، والمراقب لحاله عليه الصلاة والسلام يرى الدعاء من أعظم الجند التي كان يتقوى بها على قضاء الحوائج والنصر على الأعادي.
لو أقسم على الله لأبره
روى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
وفيهما أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبره ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جوّاظ متكبر).
وقد نقل أهل السير عن الصمعي قوله: "لما صافَّ قتيبةُ بن مسلم للتُرْك وهَالَهُ أمرُهم؛ سأل عن محمد ابن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء. قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير.
فما أحوج الدعوة في زماننا إلى مثل أصبع محمد بن واسع رحمه الله تشكو إلى الله غربة الدين، وتستنزل نصره ومدده. وما أحوجنا إلى ذاك الخفي النقي التقي الضعيف المتضعف الذي لو أقسم على الله لأبره.(3/1)
فحق على كل مكلف عموما، وعلى من أراد أن يخدم الدين من هذا الباب خصوصا، أن يتفقه في هذا الموضوع، ويتعلم أحكام الدعاء وآدابه وأوقاته، وأسباب الإجابة وموانعها، وما يجوز من الدعاء وما يحرم؛ وأن يجتهد أن يحصل في نفسه الإيمان والتقوى والطاعة لله رب العالمين، وأن يحقق المتطلبات القلبية بتطهير القلب من أوضار المخالفات، وتنقية النفس وتزكيتها من أدران الموبقات، وألا يطعم إلا من الحلال الطيب، وأن يتحرى المكان والزمان الأنسب ليكون أدعى للقبول وأرجى لتحقيق المأمول.
نسأل الله أن يحمي حوزة الدين، وأن يقر عيوننا بنصر الإسلام وعز المسلمي
==============
تسويق التبعية
تضطرب البيئة المعاصرة بطوفان متعدد الأطياف من التيارات الفكرية، وهذا الاضطراب ناتج في كثير من الأحيان عن صراع فكري واجتماعي متعدد الجبهات في البلاد الغربية، تمتد انعكاساته في البيئة العربية والإسلامية، فترى ألواناً من التخبط والخلط الفكري الذي بلغ مداه في العقد الأخير.
ومع كثرة الهزائم والنكسات السياسية والحضارية التي تشهدها البلاد الإسلامية ازداد التخبط والاضطراب، وتكاثر المتهوكون في أودية الباطل.. أولئك المنهزمون الذين لم يجدوا سبيلاً لرفع رؤوسهم إلا بالتقليد المطلق لكل ما غربي؛ فهو المحور الذي يدورون في رحاه، واستعلوا بانهزاميتهم، وتطاولوا بسقوطهم، وعدُّوا ذلك باباً من أبواب التزيّن يتبخترون به على غيرهم..!
قال الله - تعالى -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175].
إننا نرى آثار هذه الانهزامية هشيماً يسري في أغلوطات فكرية وإعلامية مستمرة، ويتطاير شررها في الحاضر والبادي، وضجت الصحافة العلمانية والقنوات الفضائية بثرثرة مملَّة، فيها كل شيء ما عدا الكلام العلمي الذي يبني العقل ويربي الخلق..!
من آخر الأمثلة الصارخة على ذلك (وليس آخرها): موقف هؤلاء المنهزمين إزاء القانون الفرنسي الفج من الحجاب الإسلامي؛ حيث تسابقوا على تسويقه والتماس المعاذير له بتملق وتكلف لا يخفى، وأسرف بعضهم في الهجوم على الحجاب والقيم الإسلامية، ونعى على المسلمين بسخرية وشماتة تخلفهم ومتاجرتهم ب (فقه الآخرة!)، وبتعلقهم بتلك التوافه الشكلية التي تقيد الحركة وتنتهك الحقوق، في الوقت الذي تقدمت فيه المرأة الفرنسية، وبلغت قمة السمو الحضاري بزعمه، بل إن بعضهم راح يؤكد بكل أنواع التأكيد سلامة النهج العلماني، وأنَّه هو الخيار الأمثل أو هو الوحيد الذي سوف يضع أمتنا في مدارج التحضر والتقدم الإنساني..! وصدق المولى جل وعلا: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
والطريف في الأمر أن وزير الخارجية الفرنسي قام بزيارة إلى دول الخليج وبعض البلاد العربية لشرح موقف بلاده، ونسي أن بعض هؤلاء المتساقطين من بني جلدتنا ربما كانوا أكثر حماساً وتشنجاً في الدفاع عن كل ما هو غربي، وتزيينه بكل أنواع الزينة المصطنعة، إنها بكل وضوح عقدة الانكسار والهزيمة التي تطغى على العقل، وتجعله كالإمَّعة الوضيع، وتحوطه بالمهانة والصغار، وصدق المولى - جل وعلا -: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].
إنَّ المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم أنهم لا يملكون مشروعاً حضارياً جاداً لنهضة الأمة كما يزعمون، وإنما غاية ما يملكونه أنهم يريدون أن يزجوا بالأمة في المستنقع الغربي الآسن، ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت أعتابهم، ويجترون بكل بلاهة قيمهم المادية والاجتماعية، حلوها ومرها، خيرها وشرها، كما قال أحد أشياخهم منذ زمن ليس بالبعيد!
وحسبك أن تقرأ أطروحات ما يسمى بالاتجاه الليبرالي في منطقة الخليج بخصوص قضية المرأة مثلاً؛ فالحجاب الشرعي هو الحائل بزعمهم عن تسريع عجلة التنمية والنمو الاقتصادي، ومنع الاختلاط عندهم رمز من رموز البدائية والتخلف، جعل الأمة العربية في حضيض المجتمعات الإنسانية المعاصرة. والانتصار الكبير الذي ينتفشون به ويصفقون له عندما تتجرأ إحداهن بنزع حجابها متجاوزة حدود الشرع وقيم الأمة، وفي كل بلد تتكرر مسرحية سعد زغلول، وهدى شعراوي..!
والعجيب أنهم يريدون أن يقنعونا بأن التحديث والتطوير الذي يتطلع إليه جميع الناس قرين التغريب الثقافي والاجتماعي..!
النازلة القادمة
إن النازلة القادمة التي تجددت الدعوة إليها بعد مبادرة (الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية) التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي هي: قضية المرأة وتغيير القيم الاجتماعية للأسرة التي قررها الشرع المطهر. وأحسب أن المسألة ليست مجرد معركة حجاب عابرة، أو دعوة للاختلاط بين الرجال والنساء فحسب، بل هي مقدمات حثيثة لإعادة صياغة جميع القيم الاجتماعية صياغة جديدة، تُمسخ فيها الهوية الإسلامية، وتنتزع فيها الكرامة الإنسانية، وتصبح فيها المرأة المسلمة مجرد ألعوبة تافهة، ودمية هزيلة، يعبث بها رؤوس الفساد، ودعاة المنكر.(3/2)
لست قلقاً من هؤلاء الصغار؛ لأن هذه المواقف المكشوفة تفضحهم عند الخاصة والعامة، وتميط اللثام عن انتكاسهم الفاضح، وتبرز بجلاء حقيقة شعاراتهم المتناقضة التي يتشدقون بها بكل صفاقة ومهانة. قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
نعم.. لست قلقاً من هؤلاء إذا ما وعى الدعاة والمصلحون طبيعة المعركة، وأدركوا أن الحق يُصرَع إذا أُخِذَ بتهاون وتثاقل.
ولكن ثمة حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن العلماء والدعاة قصروا تقصيراً بيناً في الدعوة في أوساط النساء، وكان الخطاب الدعوي في مجمله خطاباً رتيباً مكرراً يفتقد للجاذبية والتجديد والإبداع، في الوقت الذي تصدَّر فيه المفسدون للتغريب ونشر الرذائل والعبث بالقيم، وفتنوا الناس في أخلاقهم وأعراضهم.
هذه حقيقة مهمة يجب أن نعيها؛ لأن ذلك سيقودنا بعون الله - تعالى - إلى إعداد رؤية شاملة للدعوة في الوسط النسائي، وتقديم البدائل العملية الجادة التي تحفظ للأمة كرامتها وعفتها.
وقفة مهمة
وهاهنا وقفة مهمة مع الأخوات الداعيات لتذكيرهن بواجبهن الشرعي في أخذ زمام المبادرة، والإقبال على الدعوة والتربية، والحرص على سعة الأفق، والبدء بالأولويات.
إن للمرأة الداعية طاقات كبيرة ومجالات عديدة لا يملكها الرجال، وتستطيع بإذن الله تعالى إن هي أقبلت على الدعوة وجدَّت في العمل أن تنجز إنجازات كبيرة، وتذبّ عن الأمة شروراً كثيرة.
ولئن كنا قد قصرنا في وقت مضى، فلا عذر لنا فيما يأتي. وردود الأفعال الآنية مهمة ولا بد منها، لكن لا يجوز أن نبقى هكذا عاجزين متواكلين، بل يجب أن نبادر بأطروحات مستبصرة، نستشرف فيها أبعاد المرحلة وتبعاتها. قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
ـــــــــــــــــــــ
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
=================
نحو رؤية إسلامية شامل
الفهم القاصر للإسلام يولد عند صاحبه قصورا في رؤية الوقائع على حقيقتها التي ينبغي أن ترى عليها.. وكثيرا ما يؤدي هذا القصور في الرؤية إلى انتقاص الإسلام وتحجيم دوره في الحياة، أحيانا إلى ركن صغير جدا من أركانها، ولو كان هو علاقة المسلم بربه، وربما رفع دور الدين مطلقا.. ومن هنا كانت ضرورة الحديث عن الرؤية الصحيحة والشاملة لهذا الدين..
يقول يحيي بشير: "بادئ ذي بدء نقول: إن الرؤية الإسلامية – كما نتصورها – لابد فيها من أربعة أمور:
أولها: الفهم الواعي لدور الإسلام في الحياة.
وثانيها: معرفة التيارات الوافدة قديمًا وحديثًا.
وثالثها: الاهتمام بقضايا المسلمين.
ورابعها: الالتزام الذي ينبع من الإيمان العميق.
الرؤية الشاملة والعاطفة
وثمة سؤال: هل الرؤية هذه مجرد عاطفة تنطلق في المناسبات؟ أم هي عملية تقويمية تنطلق من خلال الإسلام، وتنظر بمنظاره؛ فتُخَطِّئ وتصوب وتمجِّد؟
إن ممَّا تمتاز به الرؤية عند المسلم أنها منطلق مبدئي، والتزام أخلاقي. فهي ليست – على سبيل المثال – بكاء على المظلومين، ولا دعوة إلى إنصاف المحرومين، ثم البحث عن حياة خاصة، ولو كانت في بروج الظالمين.
وهي رؤية تتسم بالصدق مع النفس والواقع، وحب الخير، والإيمان باستمرار الصراع بين الحق والباطل، وانتصار الحق أخيرًا، والأخذ بالأسباب، والحنين إلى الماضي المجيد واستلهامه والإفادة من تجاربه.
وهي ليست موقفًا انعزاليًا، ولكنها مخالطة ومعاناة وإحساس بما يجري، ومحاولة جادة لتوجيهه وتقويمه.
وهي إيمان بالحل الإسلامي لقضايا الحياة والإنسان، وقد أثبتت التجارب أن الإسلام هو الحل، بعد أن أخفقت كل الحلول المستوردة.
وهي أخذ بالمنظار الإيماني في التعامل مع المدنية الوافدة، فنأخذ منها وندع بما يتوافق مع مقتضى هذا الإيمان. وهي ليست نظرة قُطْرِيَّة تعُنى بقُطْرٍ دون آخر، فحيثما حَلَّ المسلمون فثمة الهم.
وهي بالنسبة للماضي؛ ليست مجرد نظرة إلى تراث مجيد، ولكن تراث لجيل فريد، والتعمق في تجارب الذين اتبعوهم بإحسان، فاقتربوا أو ابتعدوا عن المنهج بحسب التزامهم به.
وهي ليست إعجابًا بفرد، وإن كانت البطولة في التعالي على ضروريات الحياة وقمع هوى النفس مما يهز الوجدان المسلم، ولا إعجابًا بتجربة، ثم الوقوف عندها، دون مقارنة لها بما عند الآخر.
وهي بالنسبة للحاضر، تتمثل في الدعوة إلى الالتزام بالإسلام، وتقديمه منهجًا للحياة، وتبيين أحقية هذا الدين في حكم الحياة وسياسة المجتمع. ثم هي لفت لأنظار الغافلين إلى المآسي التي يجرها البعد عن الإسلام، وذلك بتقديم صورٍ للمآسي المعاصرة، وتوضيح لتداعي الأعداء على مختلف توجهاتهم ضد المسلمين.
وهي بالنسبة للمستقبل تتمثل في يقين المسلم أن المستقبل لهذا الدين، وفي النظرة المتفائلة لما ستؤول إليه نتيجة الصراع مع الباطل، وأن تجارب التاريخ البعيد والقريب تؤكد أن المستقبل للإسلام؛ وهي بذلك موقف استشرافي للآتي.
وإذا قلنا في البداية بأنها: ليست عاطفة، ولا حديثًا عن المناسبات؛ فليس معنى ذلك أن ننفيهما، ولكن قصدنا أن العاطفة وحدها لا تكفي، وأن الحديث عن المناسبات دون استلهامها لا يؤدي المقصود. مع يقيننا بأن العاطفة من أخص خصائص العمل للإسلام، وأن الذين ينقطعون عن تاريخهم يعيشون غراسًا ليس لها جذور، منبتة في أرض من الرمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان: 109(بتصرف يسير)
============(3/3)
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه
نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب مني، والأولاد يكتبون، وأمهم تعالج صوفا تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والراديو يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه
فقلت " الحمد لله "، أخرجتها من قرارة قلبي، ثم فكرت فرأيت أن " الحمد " ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعم أن تفيض منها على المحتاج إليها، حمدُ الغني أن يعطي الفقراء، وحمد القوي أن يساعد الضعفاء، وحمد الصحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامدا لله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب علي أنا أن أسأل عنه؟
وسألتني زوجتي : فيمَ تفكر؟، فقلت لها .
قالت : صحيح، ولكن لا يكفي العباد إلا من خلقهم، ولو أردت أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم .
قلت : لو كنت غنيا لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا؟
لا، لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية، وأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غني من الأغنياء، وهذا العامل غني بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، ورب الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا غني فقرا مطلقا وغنىً مطلقا، وليس فيها صغير ولا كبير، ومن شك فإني أسأله أصعب سؤال يمكن أن يوجه إلى إنسان، أسأله عن العصفور: هل هو صغير أم كبير؟ فإن قال صغير، قلت: أقصد نسبته إلى الفيل، وإن قال كبير، قلت: أقصد نسبته إلى النملة..
فالعصفور كبير جدا مع النملة، وصغير جدا مع الفيل، وأنا غني جدا مع الأرملة المفردة الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وإن كنت فقيرا جدا مع فلان وفلان من ملوك المال ..
لا أتفلسف
تقولون: إن الطنطاوي يتفلسف اليوم .. لا؛ ما أتفلسف، ولكن أحب أن أقول لكم إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه، إذا لم يكن عندك – يا سيدتي – إلا خمسة أرغفة وصحن طعام، تستطيعين أن تعطي رغيفا لمن ليس له شيء، والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلا لصاحبة الأرغفة والصحن..
والذي ليس عنده إلا أربعة ثياب مرقعة يعطي ثوبا لمن ليس له شيء، والذي عنده بذلة لم تخرق ولم ترقع ولكنه مل منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع أن يعطيها لصاحب الثياب المرقعة، ورب ثوب هو في نظرك عتيق وقديم بال، لو أعطيته لغيرك لرآه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك أنت لو أن صاحب الملايين مل سيارته القديمة نسبيا – بعدما اشترى جديدة – فأعطاك تلك السيارة .
ومهما كان المرء فقيرا فإنه يستطيع أن يعطي شيئا لمن هو أفقر منه، إن أصغر موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين قرش، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر إذا تصدق بقرش واحد على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يصل إلى أربعة جنيهات لا يضره أن يدفع منها خمس قروش ويقول " هذه لله "، والذي يربح عشرة آلاف من التجار في الشهر يستطيع أن يتصدق بمئتين منها في كل شهر .
ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان، لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافا؛ تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة، ولقد جربت ذلك بنفسي، أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله، إن كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئا، وكانت زوجتي تقول لي دائما: "يا رجل، وفر واتخذ لبناتك دارا على الأقل"، فأقول: خليها على الله، أتدرون ماذا كان؟!!
لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادخره لي في بنك الحسنات الذي يعطي أرباحا سنوية قدرها سبعون ألفا في المئة، نعم: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ}، وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، فأرسل الله صديقا لي سيدا كريما من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدار، وأرسل أصدقاء آخرون من المتفضلين فبنوا الدار حتى كملت وأنا – والله – لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم أكن محتسبا فوفيت ديونها جميعا، ومن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء .
وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا البنك.
فهل في الدنيا عاقل يعامل بنك المخلوق الذي يعطي 5% ربحا حراما وربما أفلس أو احترق، ويترك بنك الخالق الذي يعطي في كل مئة ربحا قدره سبعون ألفا؟، وهو مؤمن عليه عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس.
فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدرا، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة، وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيرا منها.(3/4)
إنما أسوق لكم مثلا واحدا : قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان شيخ أبي، وكان – على فقره – لا يرد سائلا قط، ولطالما لبس الجبة أو " الفروة " فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها للسائل، وكان يوما في رمضان وقد وضعت المائدة انتظارا للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله!! فلما رأت ذلك امرأته ولولت عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت..
فلم تمر نصف ساعة حتى قُرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألا يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي، قال : أرأيت يا امرأة؟
والصدقة تدفع البلاء ويشفي الله بها المريض، ويمنع الله بها الأذى وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار، والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلها هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.
والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة – بطبعها- أشد بخلا بالمال من الرجل، وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألا يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره، وأنت تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر .
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير (مع القرش تعطيه له) خير من جنيه تدفعه له وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع، ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان – من سنين – تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان قلت: تعالي يا بنت، هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيف وقدميها إليه هكذا، إنك لم تخسري شيئا، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت له الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل (الشحاذ)، أما إذا قدمته في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره ويحس كأنه ضيف عزيز.
ومن أبواب الصدقة أن تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات شراء ملابس الرياضة مثلا، أو تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من أدوات المدرسة، أن تفكر أن من التلميذات من لا يحصل أبوها أكثر من ثمن الخبز وأجرة البيت، وأن شراء ملابس الرياضة أو الدفاتر العريضة أو " الأطلس " أو علبة الألوان نراه نحن هينا ولكنه عنده كبير، والمسائل – كما قلت – نسبية، ولو كلفت المعلمة دفع ألف جنيه لنادت بالويل والثبور، مع أن التاجر الكبير يقول: وما ألف جنيه؟! سهلة ! سهلة عليه وصعبة عليها، كذلك الخمس قروش أو العشر سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الآباء.
والخلاصة يا سادة : أن من أحب أن يسخر الله له من هو أقوى منه وأغنى فليعن من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كل منا نفسه في موضع الآخر، وليحب لأخيه ما يحب لنفسه، إن النعم إنما تحفظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده، ولو أمسك الإنسان سبحة وقال ألف مرة "الحمد لله" وهو يضن بماله إن كان غنيا، ويبخل بجاهه إن كان وجيها، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان لا يكون حامدا لله، وإنما يكون مرائيا أو كذابا .
فاحمدوا الله على نعمه حمدا فعليا، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس.
ورحم الله من سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ علي الطنطاوي
===============
ماذا بعد رمضان؟!!
الاستقامة أعظم كرامة
ونحن ما زلنا نعيش في آثار نفحات رمضان يجب علينا أن نقف لنتساءل ماذا بعد؟ ماذا بعد أن انقضى رمضان؟ ماذا بعد شهر الرحمة والمغفرة؟ وماذا بعد شهر التوبة والرضوان؟ ماذا بعد أن اكتحلت عيوننا بدموع المحبة والخوف والرجاء، وعزت جباهنا بالخضوع والذلة لرب الأرض والسماء؟ بعد أن عاينا القرب والإقبال وشاهدناه، القرب من الله لعباده، والقرب من العباد إلى الله، ماذا بعد شهر الجد والاجتهاد والتشمير، بعد أن كان القرآن حياتنا، والصلاة والوقوف بين يدي الله لذتنا، وذكر الله غذاءنا.
بعد أن عايشنا كل ذلك وشاهدناه، كان ولا بد أن يأتي هذا السؤال، وهو ماذا يجب علينا بعد رمضان، بل وبعد كل موسم من مواسم الطاعة؟
والإجابة أجاب بها النبي الأمين - صَلى الله عليه وسلم - على السائلين الطالبين العلاج الناجع والدواء النافع، منذ مئات السنين فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم". الاستقامة هي العلاج.
إذا كان الله قد حباك بشجرة الإيمان، فيلزمك أيها الموحد معها وتحت ظلها أن تستقيم وأن تعتصم بالسير على الطريق، وأن لا تحيد عنه. الاستقامة إنها السبيل، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت:30].
قال أبو بكر: استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً.
قال عمر بن الخطاب: "لم يروغوا روغان الثعالب".(3/5)
فيا من رفعت كفيك في رمضان طالبًا الهداية، راغبًا في الإنابة، زاعمًا الرجوع، مدعيًّا الإقبال، هل صدقت في زعمك، ووفيت مع ربك بعد رمضان؟ أم أنك رغت روغان الثعلب فتعاملت مع الله بذمتين: ذمة رمضانية، وذمة غير رمضانية، ولقيت الله بوجهين و"شر الناس ذو الوجهين" .
إن بعض الناس بمجرد أن انقضى رمضان عادوا إلى سالف عهدهم وسابق زللهم، وكأنهم كانوا في رمضان محبوسين مكبوتين مكبلين، فبمجرد انتهائه انطلقوا من محبسهم وغرقوا في الذنوب والمعاصي فهدموا ما بنوا ونقضوا ما غزلوا فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا .. وهي امرأة خرقاء كانت بمكة تظل تغزل يومها غزلا قويا رقيقا دقيقا فإذا كان آخر النهار أخذت بطرف الخيط فنقضت ما غزلت وأفسدت ما فعلت فأضاعت عمرها وأفسدت عملها فحذرنا الله أن نكون مثلها (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل:92) .
إن من علامات قبول العمل المداومة عليه، ومن علامات قبول الطاعة الطاعة بعدها.. ومن أعظم علامات قبول رمضان ألا تنقطع أعمالك فيه بمجرد ظهور هلال شوال.. وخلاصة القول إن الاستقامة على العمل هي أكبر علامات قبول العمل، وأن الاستقامة أعظم كرامة.
أسباب تحصيل الاستقامة
وإذا كانت الاستقامة هي الحل وهي السبيل كما جاء في الحديث السابق، فينبغي أن يعلم أن هذه الاستقامة لا تتأتى بالأماني، وإنما لها شرائط وأسباب.
أولا: الاستعانة بالله: أن تعلم أن الذي أقامك لعبادته في رمضان هو الله، وهو وحده القادر على أن يعينك على المداومة والاستمرار، فليست الاستقامة فتوة منك ولا قدرة فيك، وإنما هي محض منة الله وفضله أن يوفق عباده للطاعة ثم يتقبلها منهم، وهذا الاعتراف منك هو بداية الاستقامة. أما الناظر إلى عمله المحسن الظن بنفسه الذي يظن أن عبادته إنما هي بقدرته وقوته؛ فهذا يكله الله إلى نفسه، ومن وكله الله لنفسه هلك، ولذلك كان من دعاء النبي – صَلى الله عليه وسلم -: "ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا"[أبو داود: 4426]، وقال : "إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة"[أحمد 20678].
ثانيا: المجاهدة: فليست الاستقامة نعيما يرتويه الإنسان وينتعش به وهو نائم على فرش الراحة والبطالة.. بل هي الجد في العبادات، والتشمير في الطاعات، والعنت والتعب في ترك الملذات والمشتهيات والمحبوبات، فتترك الطعام وأنت تشتهيه لتصوم لله كما صمت في رمضان، وتترك النوم وأنت تهواه لتقوم الليل كما قمت في رمضان، وتخرج المال وأنت تحبه لتتصدق لله كما تصدقت في رمضان.
إنها مجاهدة النفس، ومجاهدة أعداء الله من الشياطين ومن إخوانهم الظالمين، وتصبير النفس على أذاهم لعباد الله المؤمنين، فحياة الاستقامة كلها تعب ونصب وجد واجتهاد، ولا يستوي عند الله من جاهد نفسه في جنبه ومن أراح نفسه واستراح ..
إن الله لا يَمُنُّ عيك بالاستقامة ويذيقك لذتها ويعطيك ثوابها، إلا إذا ثابرت عليها وعملت لها ودعوت الناس إليها، وجاهدت حتى تصل إليها. قال تعالى:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة:24].
قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا وضع قدمه في الجنة.
وقال الشافعي: لا ينبغي للرجل ذي المروءة أن يجد طعم الراحة، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا في نَصَبٍ حتى يلقى الله.
فما أحراك أيها الغيور الطالب للجنة أن تصبر وتصابر. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا)[آل عمران:200].
علامات على طريق الاستقامة
الاستقامة والفتور: وأكبر ما يصيب الاستقامة الفتور والضعف والتقصير في بعض الأحيان، وهو أمر لازم دلَّ عليه ما رواه الإمام أحمد بسند حسن أن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – قال: "إن لكل عمل شرّة ولكل شرّة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتى فقد نجا ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" .. وقال عمر رضي الله عنه: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإن أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فاعتصموا بها على الفرائض".
فالفرائض والواجبات وترك المحرمات، حدود ينبغي أن يلزمها المستقيم حتى يكون مستقيمًا، وحتى في فترات الضعف وخور العزيمة لا يجوز له تجاوز هذه الحدود، فإذا فرط في بعض النوافل، بعض الأوقات، فلا يقدح ذلك في استقامته، ولكن عليه بالمجاهدة حتى يعود إلى قوته، وينتقل من فترته إلى شرته. ونسأل الله أن يقيمنا على طاعته، ويديمنا على محبته، ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.(3/6)
الاستقامة والذنوب: ثم إن من الواجب أيضا أن يُعلَم أن هذه الاستقامة لا تعصم صاحبها أن ينكب ببعض الذنوب وأن يصاب ببعض الزلل في لحظة ضعف أو غفلة، فإن هذا حال لابد منه كما جاء في الحديث: "والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر عن رسول الله – صَلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.. يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم".
فالاستقامة قد يصيبها ما يصيبها، فما دورك أنت إذا نيلت توبتك بذنب أو أصيبت بثلم ؟!
إن دورك هو المعاودة، وإعادة المحاولة: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ)[الزمر:54]. فلا تيأسن من الله ولا تقنطن من رحمته سبحانه، فإن القنوط باب من أبواب الكفر.
الاستقامة مطلب دائم: ثم اعلم – رحمني الله وإياك – أن هذه الاستقامة لا يجوز أن تكون في البدايات دون النهايات، ولا ينبغي أن يظن أن البحث عنها وطلبها يكون في أول الطريق دون آخره، بل هي لازمة مستمرة معك حتى وأنت في أوج ولايتك وفي عظيم قربك ووصلك مع الله. كيف لا وقد أمر بها أقرب المقربين، سيد الأولياء الصالحين، نبينا محمد صَلى الله عليه وسلم، حين أنزل الله عليه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ)(هود:1121]، فكانت أشد آية نزلت عليه حتى قال: "شيبتني هود" فهي مكية، نزلت عليه وهو يقيم الليل كله، ويجاهد المشركين ويصدع فيهم بالحق ويلاقي منهم العنت والعذاب والأذى هو وأصحابه، وفي هذا الخضم تنزل (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، فإن الاستقامة تكون مع معالي المجاهدات.
وانظر إلى موسى عليه السلام، الذي جاهد في الله حق جهاده، وهو في قمة المقارعة لفرعون يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)[يونس:88] (...فَاسْتَقِيمَا)[يونس: 89].
(أجيبت دعوتنا) نقعد، نتكاسل، ننام؟.. لا.. قد أجيبت دعوتكما.. فاستقيما.
أجيبت دعوتكم في رمضان فاستقيموا.. تقبلت طاعتكم فأديموا.. رضِي الله عنكم فاستمروا.
اللهم إنا نسألك يا أكرم الأكرمين، كما مننت علينا بالطاعة في رمضان، أن تمن علينا بها بعد رمضان..
اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين، كما وفقتنا للقرآن في رمضان أن توقفنا له بعد رمضان.
اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين، كما وفقتنا للقيام في رمضان، أن توفقنا له بعد رمضان.
===============
قبل أن تخسر رمضان
فمنذ أيام قريبة مضت كنا نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يمد في أعمارنا وينسأ في آجالنا حتى ندركه، وعاهدنا الله عهودًا كثيرة إن هو أبقانا إلى رمضان.. عهودًا على الطاعة وبذل الجهد واستفراغ الوسع في العبادة وعمل الصالحات، واستجاب الله دعاءنا بمنه بلغنا رمضان بفضله وكرمه، وجاء رمضان وكما هي عادة الأيام المباركات مر مسرعًا، فإن مثل مواسم الخير وساعات البر كمثل القطار أو الطائرة من كان مستعدا له منتظرا قدومه ركب فيه فبلغ به غايته وحقق به امنيته، ومن كان غاغلا عنه فاته غير أن رمضان إذا فات فلا يعوض.
إن أيام رمضان أشبه ما تكون بعقد انقطع سلكه فانفرطت خرزاته سريعا، فمرت منه (كما يقول البعض) عشر الرحمة، وكل أيامه رحمة، ثم عشر المغفرة وساعاته كلها مغفرة، وهانحن قد بدأنا عشر العتق من النار.
وقفة للمحاسبة
لقد مضى من رمضان ثلثاه وزيادة، ولم يبق إلا الثلث أو أقل، فينبغي على المسلم أن يقف وقفة يحاسب فيها نفسه: ماذا قدم فيما مضى؟ وماذا يرجو مما بقي؟ حتى لا يخرج رمضان كما دخل وحتى لا نخرج نحن منه كما دخلنا فيه، فما يدرينا هل ندرك رمضان آخر أم تسبق إلينا الآجال وتنقطع منا الأعمال.
لابد من هذه الوقفة للمحاسبة لتعرف أين أنت، وماذا استفدت من صيامك وقيامك؟ وهل تحققت فيك مقصود الله من فرض الصيام؟ وهل تحقق لك مقصودك أنت من شهر رمضان؟
هل رق قلبك بعد قسوته؟ هل نديت عينك بعد جمودها؟
هل تحسنت بالصوم أخلاقك، وتهذبت به ألفاظك؟
هل قويت إرادتك بالصوم فتركت معاص كنت تقترفها من شرب دخان أو نظر إلى المسلسات والأفلام أو غيرها.
هل أحسست بنسائم المغفرة وقد هبت على ذنوبك لتمحوها؟
هل أحسست بسحائب الرضوان وقد تنزلت على نفسك لتزكيها؟
هلا أحسست ببشائر العتق من النار، قد دللت عليها خفة في النفس، وانشراح في الصدر، وانطلاق وانهمال للعين، وإقبال في أريحية إلى العبادة؟
هل اشتم قلبك ريح الجنة ونسيمها، أم أن قلوبنا مازالت مزكومة ببرد المعاصي ومحجوبة بطبقات الران عليها؟
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صائمين ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قائمين ليس لهم من قيامهم إلا طول السهر. ذاك أنهم لم يعرفوا من الصيام إلا الإمساك عن الطعام والشراب، ولم يدركوا مقاصد شهر رمضان: مازلنا والله نراهم..
أغفل الناس في زمان الجد والاجتهاد.
أولع الناس ـ في نهار رمضان ولياليه ـ بمشاهدة الشاشات والجلوس أمام القنوات.
أكثر الناس تسكعا في الأسواق في مواسم الخيرات.
الناس في المساجد يطلبون من ربهم العفو والمغفرة وهم يجلسون على المقاهي يشربون النرجيلة ويلعبون بالنرد.
الناس يتوددون إلى الله بقراءة القرآن ويتضرعون إليه بالدعاء وهم يلعبون الورق إلى السحر.
الناس يمسكون بتلابيب رمضان حتى لا يذهب وهم يتململون منه ويتمنون انتهاءه وانقضاءه.(3/7)
ومازال هذا ديدنهم حتى ينقضي رمضان فيالخسارة المفرطين ويالندامة المضيعين.
الاجتهاد في العشر الأواخر
إن رمضان قد أخذ في النقص فزد أنت في العمل، فكأنك بالشهر قد انصرف ولن تجد من شهر الصيام خلف.
إن هذه الأيام التي نحن مقبلون عليها هي أعظم ليالي السنة، بل هي كالتاج على رأس أيام وليالي رمضان بل وكل الزمن، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يعظمونها. يقول أبوعثمان: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأول من المحرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لهذا الثلث استعدادًا خاصًا ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره".
وفي الصحيحين عنها أيضًا: "كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
وفي الحديث دلالة على أمور ثلاثة:
الأول: شد المئز وهو كناية عن اعتزال النساء للتفرغ للعبادة، فإن كان يأتي أهله في العشرين الأولى فإنه لا يفعله في العشر الأواخر إذ لا وقت لذلك وإنما هي العبادة والعبادة فقط.
الثاني: إحياء الليل فقد ذكر أنه في العشرين الأولى كان يخلط عبادة بنوم، أما في العشر فلا نوم مطلقا، أو ربما بما يتقوى فقط به البدن.
والثالث: أنه كان يوقظ أهله للتعبد والتماس البركات والخيرات في هذه الليالي الكريمات العظيمات.
قال ابن رجب: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
وقال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك .
تفريغ الوقت للعبادة
ومن يتابع حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه العشر يتيقن أنه كان يفرغ وقته قدر الطاقة ويقتطع من أوقات طعامه ومنامه ليشغلها بالطاعة والعبادة.. فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان في مسجده صلى الله عليه وسلم، فكان يعتزل النساء ويلتزم المسجد ويحيي الليل بالصلاة والطاعة، ولا يشغل نفسه في هذه العشر إلا بالعبادة، العبادة فحسب، بل كان يقتطع من الوقت ما استطاع ويفرغ منه ما أمكن، فلا يضيع منه شيء ولو حتى في تناول الطعام، فقد كان يواصل الصيام إما للسحر وإما لأيام متتالية تفريغًا للوقت تقربا إلى الله تعالى. كما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: "وأيكم مثلي! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني".
قال ابن رجب الحنبلي: "ومعلوم أنه لا يطعمه الطعام والشراب الحس لأن ذلك منافٍ لحقيقة الصيام، وإنما هو إشارة إلى ما كان يفتحه الله عليه من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب كما قيل:
لها أحاديث من ذاكراك تشغلها.. ... ..عن الطعام وتلهيها عن الزاد"
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد ما يكون اجتهادًا في هذه العشر الأواخر، وهكذا ينبغي على المسلم أن يتخفف من المباحات ويقلل من أوقات الأكل والنوم ليفسح للطاعات مكانًا، ويواصل عبادته بالليل والنهار تقربًا إلى الله وتشبثًا بأسباب المغفرة.
تحري ليلة القدر
وأعظم مقاصد العبادة في هذه العشر تحصيل ليلة القدر، التي هي ليلة العمر كما قال سبحانه: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر:3].
وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهر رمضان فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم". ثم أخبر أنها في العشر الأواخر فقال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" [متفق عليه]. وعند البخاري: "في الوتر من العشر الأواخر".
ولك أن تتخيل عبدًا قام لله ليلة واحدة كانت له كعبادة ألف شهر أو ما يعادل ثلاثة وثمانين سنة وزيادة، أي فضل هذا وأي نعمة تلك؟!
وقد سألت أمنا عائشة رسولنا صلى الله عليه وسلم عما يقوله من أدرك ليلة القدر وعما يدعو به المؤمن ربه في هذه الليالي فقالت: "أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني".
فأكثر أخي من الدعاء عامة، ومن الدعاء بالعفو خاصة؛ عسى أن يعفو عنا، إنه هو العفو الكريم.
اللهم إن ذنوبنا عظيمة ولكنها صغيرة في جنب عفوك، فاعف عنَّا.. اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك يا كريم.. الله بلغنا ليلة القدر واجعلنا فيها من عتقائك من النار. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
==============
خصائص شهر الصيام
فقبل ليال انبثق في كبد السماء هلال رمضان، انبثق ليعلم المسلمين أن خالقهم قد آذنهم بحلول موسم البركة والخير والرحمة والعفو والمغفرة، والجد والطاعة .
أقبل رمضان فأظلنا بمقدمه شهر كريم، جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعًا..{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185].(3/8)
أقبل رمضان ففتحت أبواب الجنة فما يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلا يفتح باب، ونادى مناد الحق: ياباغي الخير أقبل، وياباغي الشر أقصر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين". وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.. ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" رواه الترمذي وحسنه الألباني.
أقبل رمضان فهبت على القلوب نفحات نسيم القرب، وسُعي للمهجورين بالصلح، ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمؤمنين بالعفو، وللمستوجبين النار بالعتق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". وقال صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
يا من طالت غيبته عن ربه، قد بدأ زمان المصالحة.. يا من دامت خسارته، قد أقبلت أيام التجارة الرابحة..
رمضان إن الأنفس الجرداء تزكوا حين تُوفي كالربيع وتُورقُ
أهلاً بيومك صائمين عن الأ طايب راغبين إلى الرضا نتشوق
أهلا بليلك قائمين لربنا وقلوبنا بالحب نشوى تخفق
حسب الموفق فرحتان أجل من هذي الحياة وإن كساها رونق
بلوغ رمضان نعمة
إن بلوغ رمضان نعمة عظمى ومنة كبرى، وإنما يقدرها قدرها الصالحون المشمرون، والعالمون بفضائل الأيام والشهور والدهور، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يبلغه رمضان.. وكان الصحابة كذلك يدعون ربهم أن يبلغهم إياه لما يعلمون فيه من الفضيلة، فإن الله تعالى قد اختص رمضان بخصائص ومظاهر رفعه بها على غيره من الشهور.. فمن هذه الخصائص:
1ـ أنه شهر القرآن: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}..
القرآن النور الذي أضاء الله به ظلمات الأرض، وأنار به قلوب العباد وجوانب البلاد {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15].
القرآن.. الذي أحيا الله به قلوب العباد بعد مواتها {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى:52]. {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}(الأنعام:122)
القرآن.. الذي جعله الله شفاء لأمراض القلوب والأبدان {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الإسراء:82]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس:57].
بل إن رمضان هو شهر الوحي عموما فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل فيه كل الكتب السماوية كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند حسن، من حديث واثلة بن الأسقع: [أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة خلت من رمضان، وأنزلت التوراة لست خلت من رمضان.. والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان].
2ـ وهو شهر الصيام: الذي هو أحب العبادات إلى الله وأنفعها للناس.. يقول ابن القيم: "الصيام لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه".
وقد نسبه الله لنفسه من دون غيره من العبادات "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".
3ـ وهو شهر ليلة القدر: تلك الليلة التي هي ليلة العمر، فمن وفق لها فقد فاز فوزا عظيمًا، ومن ضيعها فقد حرم حرمانا كبيرا.. فما بالك بليلة واحدة إذا قامها العبد في طاعة مولاه قامت مقام ألف شهر أي مقام عبادة ثلاث وثمانين سنة كاملة وزيادة.. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستحث أمته على طلبها "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان". ويحذر من ضياعها فيقول: "من حرم خيرها فقد حرم".
4ـ وهو شهر الطاعة: يسر الله فيه أسبابها، وهيأ الناس لها، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين...".
5ـ وهو شهر الجود: يجود فيه الله على عباده بالرحمة والعفو والعتق من النار، بل وبالفضل والنعم الظاهرة المحسوسة فيوسع عليهم في مآكلهم ومشاربهم وأرزاقهم كما هو مشاهد محسوس.. ويحب من يتصف بذلك ويوسع على عباده، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس كما في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن: فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة".
6ـ وهو شهر الجهاد: آه.. وهل كانت بدر إلا في رمضان؟ ومتى كان فتح مكة؟ ومتى كانت القادسية، وعين جالوت، وحطين، والعاشر من رمضان؟!!..(3/9)
الجهاد.. الفريضة الغائبة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: [من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق] (رواه أبو داود بسند صحيح)، وقال عنه أيضا: [من لم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه الله سبحانه بقارعة قبل يوم القيامة] (رواه أبو داود وابن ماجة بسند حسن)، وفي صحيح الترغيب والترهيب: [ما ترك قوم الجهاد؛ إلا عمهم الله بالعذاب].
7ـ وأخيرا فرمضان هو شهر الدعاء: وقد نوه الله عليه في آيات الصيام فلا تغفلوا عنه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:185، 186].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان]:، وقال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم". رواه أحمد.
وبعد كل هذا الفضل فمن أعظم الغبن أن يضيع الإنسان مثل هذا الشهر أو أن يخرج منه كما دخل فيه من غير أن ينتفع فيه بكثير أجر وثواب.. فسارعوا إلى مغفرة من ربكم، وسابقوا إلى رضا مولاكم قبل أن يخرج رمضان من بين أيديكم؛ فإن الأيام الفاضلة سريعة الانقضاء .
اللهم بارك لنا في رمضان واجعلنا من عتقائك من النار.
================
كيف نستقبل رمضان
رمضان فرصة الزمان .. هكذا ينبغي أن يعتقد المسلم، وهكذا كان يعتقد سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فلم يكن رمضان بالنسبة لهم مجرد شهر من الشهور، بل كان له في قلوبهم مكانة خاصة ظهرت واضحة من خلال استعدادهم له واحتفائهم به ودعائهم وتضرعهم إلى الله تعالى أن يبلغهم إياه لما يعلمون من فضيلته وعظم منزلته عند الله عز وجل .
اسمع إلى معلى بن الفضل وهو يقول: كانوا " يعني الصحابة " يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم . وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، اللهم سلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
والدعاء ببلوغ رمضان، والاستعداد له سنة عن النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم فقد روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". (قال الألباني: إسناده فيه ضعف) .
وقد وصفت أمنا عائشة رضي الله عنها حال نبينا صلى الله عليه وسلم في استعداده لرمضان فقالت: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً .
فهذا عن استعدادهم فكيف عن استعدادنا نحن ؟!!
لقد جمعت لك أخيّ عدة نقاط أراها مهمة في استقبال رمضان، ولعل هناك ما هو أهم منها ولكن هذا حسب ما فتح الله ويسر، والله أرجو أن ينفعنا وإياك:-
1- النية الخالصة :
من التأهب لرمضان وحسن الاستعداد له: أن تعقد العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات، وعلى بذل المجهود واستفراغ كل الوسع في استغلال كل لحظة فيه في رضا الله سبحانه .
وهذا العزم ضروري فإن العبد لا يدري متى توافيه منيته ولا متى يأتيه أجله ؟ فإذا انخرم عمره وسبق إليه من الله أمره، وعادت الروح إلى باريها قامت نيته مقام عمله فيجازيه الله على حسن نيته وعلى هذا العزم فينال الأجر وإن لم يعمل . عن ابن عباس رضي الله عنهما: [ إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعلمها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ... ] الحديث متفق عليه، وقال[ إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى ]متفق عليه
ونحن نعرف أناسًا كانوا معنا في رمضان الماضي وليسوا معنا في عامنا هذا وكم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر
كم كنت تعرف ممن صام في سلف .. من بين أهل وجيران وخلان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم .. حيا فما أقرب القاصي من الداني
فكم من مستقبل يومًا لا يستكمله ؟ ومؤمل غدًا لا يدركه ؟ إنكم لو أبصرتم الأجل وميسره لأبغضتم الأمل وغروره، خطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: [ إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين وسيرثها بعدكم الباقون حتى تردَّ إلى خير الوارثين ؟ في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتودعونه في صدع من الأرض غير موسد ولاً ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنيًا عما خلف، فقيرًا إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته .
فيا مغرورًا بطول الأمل، مسرورًا بسوء العمل، كن من الموت على وجل فإنك لا تدري متى يهجم الأجل .
فالنية النية، والعزم العزم، والإخلاص الإخلاص. (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) (التوبة/46) (فلو صدقوا الله لكان خيرًا لهم) (محمد/21)
2 - التوبة الصادقة:-(3/10)
وهي واجبة في كل وقت ومن كل ذنب، ولكنها في هذا الحين ألزم وأوجب لأنك مقبل على موسم طاعة، وصاحب المعصية لا يوفق للطاعة ولا يؤهل للقرب، فإن شؤم الذنوب يورث الحرمان ويعقب الخذلان، وإن قيد الذنوب يمنع عن المشي إلى طاعة الرحمن، وإن ثقل الذنوب يمنع الخفة للخيرات والمسارعة في الطاعات فتجد القلب في ظلمة وقسوة وبُعد عن الله وجفوة، فكيف يوفق مثل هذا للطاعة ؟ أو كيف يصلح للخدمة ؟ أو كيف يدعى للمناجاة وهو متلطخ بالأقذار والنجاسات ؟ فصاحب المعاصي المصر عليها لا يوفق إلى الطاعة فإن اتفق فبكد لا حلاوة فيه ولا لذة ولا صفوة ولا أنس ولا بهجة، وإنما بمعاناة وشدة، كل هذا بسبب شؤم الذنوب .
وقد صدق الأول حين قال: حرمت قيام الليل سنة بذنبٍ عملته . وعندما قيل للحسن لا نستطيع قيام الليل، قال قيدتك خطاياكم . وقال الفضيل : " إذا كنت لا تستطيع قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محبوس قد قيدتك ذنوبك".
فلابد من التوبة النصوح المستلزمة لشروطها، المصحوبة برد الحقوق إلى أهلها، والمصاحبة للافتقار وإظهار الفاقة والحاجة إلى العزيز الغفار، ولابد من إظهار الرغبة بحسن الدعاء ودوام الاستغفار وكثرة الإلحاح والتضرع إلى الله بالقبول وأن يجعلك ممن تقبل توبتهم قبل رمضان وأن يكتبك في آخره في ديوان العتقاء من النار . وعلامة الصدق كثرة الإلحاح ودوام الطلب وكثرة الاستغفار، فارفع يديك إليه وناجه وتوسل إليه .
يا من يرى ما في الضمير ويسمع .. أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجّى للشدائد كلها .. يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن فضله في قول كن .. امنن فإن الخير عندك أجمع
مالي سوى فقري إليك وسيلة .. فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة .. فإذا رددت فأي باب أقرع
ومن الذي أرجو وأهتف باسمه.. إن كان جودك عن فقيرك يمنع
حاشا لفضلك أن تقنط راجيا .. الجود أجزل والمواهب أوسع
3 - معرفة شرف الزمان
فالوقت هو الحياة، وهو رأس مالك الذي تتاجر فيه مع الله، وتطلب به السعادة وكل جزء يفوت من هذا الوقت خاليًا من العمل الصالح يفوت على العبد من السعادة بقدره .
قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف وقيمة وقته فلا يضيع فيه لحظة في غير قربة .
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز.. عليه من الإنفاق في غير واجب
ورمضان من أنفس لحظات العمر، ومما يجعل الإنسان لا يفرط في لحظة منه أن يتذكر وصف الله له بأنه "أيامًا معدودات" وهي إشارة إلى أنها قليلة وأنها سرعان ما تنتهي، وهكذا الأيام الغالية والمواسم الفاضلة سريعة الرحيل، وإنما يفوز فيه من كان مستعدًا له مستيقظا إليه .
فإذا أدرك الإنسان قصر وقت رمضان علم أن مشقة الطاعة سرعان ما تذهب وسيبقى الأجر وتوابعه من انشراح القلب وانفساح الصدر وفرحة العبد بطاعة الرب سبحانه .
وكم من مشقة في طاعة مرت على الإنسان فذهب نصبها وتعبها وبقى أجرها عند الله إن شاء الله . وكم من ساعات لهوٍ ولعبٍ وغفلةٍ ذهبت وانقضت لذتها وبقيت تبعتها.
وساعة الذكر فاعلم ثروة وغنى .. ... .. وساعة اللهو إفلاس وفاقات
4 - التقلل من الطعام:
وهو مقصد من مقاصد الصيام ومن مقاصد رمضان التعود على تقليل الطعام، وإعطاء المعدة فرصة للراحة، وإعطاء النفس فرصة للطاعة، فكثرة الطعام هذه هي التي قسَّت القلوب حتى صيرتها كالحجارة، وأثقلت على النفوس الطاعة، وزهدت الناس في الوقوف بين يدي الله . فمن أراد الاستمتاع بالصلاة فلا يكثر من الطعام، بل يخفف؛ فإن قلة الطعام توجب رقة القلب، وقوة الفهم، وإنكسار النفس، وضعف الهوى والغضب .
قال محمد بن واسع: من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورق، وإن كثرة الطعام تمنع صاحبها عن كثير مما يريد .
قال سلمة بن سعيد: إن كان الرجل ليعير بالبطن كما يعير بالذنب يعمله .
وقد تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقا ل: [كف عنا جشاءك، فإن أطولكم شبعًا في الدنيا أطولكم جوعًا يوم القيامة] رواه الترمذي
5 - تعلم أحكام فقه الصيام:
وأحكامه وآدابه حتى يتم الإنسان صيامه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فيسحتق بذلك تحصيل الأجر والثواب وتحصيل الثمرة المرجوة والدرة الغالية وهي التقوى، وكم من إنسان يصوم ولا صيام له لجهله بشرائط الصيام وآدابه وما يجب عليه فيه، وكم ممن يجب عليه الفطر لمرض مهلك أو لعذر شرعي، ولكنه يصوم فيأثم بصومه، فلابد من تعلم فقه الصيام وأحكامه، وهذا واجب وفرض من عين على من وجب عليه الصيام .
6 - تعويد النفس على
(أ) الصيام: وقد كان النبي يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً . وكان هذا ضروريًا لتعويد النفس على الصيام حتى إذا جاء رمضان كانت مستعدة بلا كلفة ولا تعب يمنعه عن العمل ويحرمه من كثرة التعبد
(ب) القيام: وهي سنة عظيمة أضعناها، ولذة عجيبة ما تذوقناها، وجنة للمؤمنين في هذه الحياة ولكنا يا للأسف ما دخلناها ولا رأيناها . مدرسة تربى فيها النفوس، وتزكى فيها القلوب، وتهذب فيها الأخلاق . عمل شاق، وجهاد عظيم لا يستطيعه إلا الأبطال من الرجال، والقانتات من النساء، الصابرين والصادقين ... بالأسحار . هو وصية النبي لنا وعمل الصالحين قبلنا: [عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد] رواه الترمذي .(3/11)
إن تعويد النفس على قيام الليل ضروري قبل رمضان وبعد رمضان وهو إن كان لازمًا لكل الناس فهو للدعاة والأئمة ألزم، ففيه من الأسرار ما تنفتح له مغاليق القلوب وتنكسر أمامه أقفالها، فتنزل الرحمات والبركات ويفتح على الإنسان من أبواب الفهم والفتوح ما لا يعلمه إلا الله، ومن تخرج من مدرسة الليل يؤثر في الأجيال بعده إلى ما شاء الله، والمتخلف عن مدرسة الليل تفسو قلوب الناظرين إليه .
فعليك أيها الحبيب بمجاهدة النفس على القيام ولتكن البداية بركعتين ثم زد رويدًا رويدًا حتى ينفتح قلبك وتأتي فيوضات الرحمن .
(ج) كثرة التلاوة: شهر رمضان شهر القرءان، فللقرآن في رمضان مزية خاصة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع سيدنا جبريل في رمضان كما في حديث ابن عباس وذلك كل ليلة، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل في قيامه جدًا كما في حديث حذيفة .
وهكذا كان السلف والأئمة يولون القرآن في رمضان اهتمامًا خاصًا .
7ـ المسابقة والجدية
وهي أصل في العبادة كما في كتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) وقال سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21) وفي الحديث: سبق المفردون سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله! قال "الذاكرون الله كثيرًا، والذاكرات".
وقد كان كل واحد من الأولين يعتبر نفسه المخاطب بهذا الأمر دون غيره فكانوا يتسابقون في الطاعة يدلك على هذا ما أثر عنهم من قولهم: "لو أن رجلا بالمشرق سمع أن رجلا بالمغرب أحب إلى الله منه فانصدع قلبه فمات كمدا لم يكن عجبا" .
وقالت جارية لعمرو بن دينار: رأيت في المنام كأن مناديا ينادي: الرحيل .. الرحيل، فما رحل إلا محمد بن واسع !! فبكى عمرو حتى وقع مغشيا عليه.
واعلم أيها الأخ الحبيب أن الأمر جد لا هزل فيه (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (الذريات:23) وقيل إن عطاء دخل على الخليفة الوليد بن عبد الملك وعنده عمر بن عبد العزيز .. فقال عطاء للوليد: " بلغنا أن في جهنم واديا يقال له هبهب أعده الله للولاة الظلمة " فخر الوليد مغشيا عليه .. فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين !! قال: فأمسك عطاء بيدي وقال: يا عمر إن الأمر جد فجد .. قال عمر: فوجدت ألمها في يدي سنة .
فاجهد أيها الحبيب أن تكون من أهل الصيام الحق والقيام الصدق لتنال الجائزة بغفران ما تقدم من ذنبك وما تأخر .. أسأل الله الكريم أن يبلغنا بمنه رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة، وأن يجعلنا في رمضان هذا من عتقائه من النار .. آمين.
=============
إن كان قال.. فقد صدق
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخل النار).
لقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الألف حديث ولم يصدر واحدا منها بهذا التصدير، فلماذا اختار هذا الحديث بالذات ليبتدئه بهذه البداية؟ وهل كان رضي الله عنه في بقية ما رواه عن النبي صلوات الله وسلامه عليه لا يراه صادقا مصدوقا؟!
حاشاه... ولكن الذي ينظر إلى الحديث نظرة الباحث المتفحص يرى أن هذا الحديث قد حوى أشياء لم تكن تدركها عقول أهل ذاك الزمن، ولم تكن قد بلغتها علومهم، فهو حديث عن غيب في كيفية تكوين الأجنة ومراحل ذلك في بطون الأمهات وأرحام النساء، كما تحدث معهم فيه عن كتابة الأقدار وأعمال العباد وأعمارهم وأرزاقهم وشقاوتهم وسعادتهم وأن ذلك سبق خلقهم بأزمان كما قد دون في الكتاب السابق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، زد على ذلك ما جاء في آخر الحديث أن من العباد من يعمل بعمل أهل الجنة أكثر عمرة ثم عند النهاية يختم له بعمل أهل النار فيدخلها أو العكس... وكل هذه أمور تحتاج إلى قلب مصدق بكلام المتحدث صلى الله عليه وسلم.
التصديق والتسليم(3/12)
لقد بين ابن مسعود في هذا الحديث الجليل وبهذه التقدمة الرائعة كيفيه تلقي الصحابة لحديث المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم وكيفية تعاملهم مع كلامه، ألا وهو القبول التام والتصديق الكامل والجازم لكل ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، وإن كان مما لا تبلغه علومهم أو حارت فيه عقولهم أو حتى مما خالف معارف الناس في أزمانهم كما جاء في صحيح مسلم عن أَبي قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ قَالَ أَوْ قَالَ الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ". فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَلا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ (وفي الرواية الأخرى ـ عند مسلم أيضا ـ قال عمران: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟)، فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ.. قَالَ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: وَقَوْلهم: (إِنَّهُ مِنَّا لا بَأْس بِهِ) مَعْنَاهُ: "لَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُتَّهَم بِنِفَاقٍ أَوْ زَنْدَقَة أَوْ بِدْعَة أَوْ غَيْرهَا مِمَّا يُخَالِف بِهِ أَهْل الاسْتِقَامَة." اهـ.
فكأن المعهود عندهم أنه لا يخالف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعارضه إلا متهم بنفاق أو زندقة أو بدعة.. فالأصل في كلام النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يُسلَّم له ولا يعارض برأي أو هوى... وهذا ما علَّمه أبو هريرة لعبد الله بن عباس ترجمان القرآن وفقيه الإسلام حين حاول معارضة الحديث بالرأي، ففي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توضؤوا مما غيرت النار". فقال ابن عباس: أتوضأ من الحميم؟ فقال له: يا ابن أخي إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال.
قاعدة الصديق الأكبر
لقد كان هذا منهم منهجا تميز به خير القرون وأزكاها عند الله تعالى، وهو منهج من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد لخص لنا الصديق الأكبر هذا المنهج وتلك الحقيقة في كلمتين حينما جاء المشركون إليه صبيحة ليلة الإسراء ليخبروه أن صاحبه يزعم أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عاد في ذات الليلة وهم الذين يضربون إليها أكباد الإبل شهرًا ذهابا وشهرًا إيابا، وكان ظنهم أنه سيكذب صاحبه أو يشكك حتى في نسبة الكلام إليه، لكن الإجابة جاءت على غير ما توقعوه، وجاءهم بها ناصعة قوية يحملها التاريخ لكل من يأتي بَعدُ من المؤمنين لتكون لهم قاعدة وأصلا: "إن كان قال فقد صدق".
فليس المهم ما قال، ولكن المهم أنه قال؛ لأن كل كلامه صدق وحق ووحي. فهو الصادق الذي لا يَكذِب، والمصدوق الذي لا يُكذَّب.
إن المؤمن الحق ـ إذًاـ هو الذي يوقن بصدق كل حرف نبست به شفة الكريم صلى الله عليه وسلم، يوقن بذلك يقين من يعلم أن قبل ليوم البارحة وأن بعد اليوم غدا.
يؤمن بذلك ويوقن به لأنه كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، والصادق المصدوق الذي لا يتطرق إلى كلامه كذب، لا لأنه كلام أيدته النظريات العلمية أو وافقته التجارب المعملية!! فإن أمثال هؤلاء في الحقيقة لا يؤمنون به عليه الصلاة والسلام ولا بما جاء به، وإنما يؤمنون بالنظريات والتجارب فإن وافقت كلامه قبلوه وصدقوه وإن خالفته ردوه وكذبوه، وليس هذا شأن المؤمنين، وإنما شأن المؤمنين ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه: "آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حرب علاجها التسليم والتصديق
إننا نعاني في زماننا هذا حربا ضروسا على ديننا، وتشكيكا عنيفا في ثوابتنا، وهجوما على قرآننا، وتكذيبا ـ من الكافرين والمرجفين ـ لكلام رسولنا صلوات الله وسلامة عليه، ولا تقابل هذه الحرب الشعواء إلا بيقين لا يساوره شك، وتصديق لا يشم رائحة التكذيب، وإيمان راسخ رسوخ الجبال في صحة ديننا وصدق نبينا متبعين في ذلك قاعدة الصديق الأكبر: "إن كان قال فقد صدق" ..
"وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين"... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
===============
أثر انعدام الرؤية في العمل التربوي
يعد المجال التربوي من أنجح مجالات العمل الدعوي المعاصر، وقد حقق العمل الإسلامي منجزات مهمة في الميدان التربوي، واستطاع أن يُخرج جيلاً متميزًا من الشباب والفتيان، تمثَّل التدينَ في نفسه، وانطلق في الميدان العملي الدعوي. ومهما كان من خلل في هذا الجهد التربوي فلا زال يستحق الإشادة والثناء.
لكن هل نقف عند مجرد الثناء والإشادة؟(3/13)
إن ظروف النشأة والتكوين التي صاحبت العمل الإسلامي، والمشكلات التي واجهها، والإمكانات التي يملكها ربما تقودنا إلى قبول نتاج العقود الماضية، ولكن لازال العمل التربوي الدعوي يفتقر إلى رؤية واضحة شاملة؛ فمفهوم التربية عائم غير محدد، أو يدور في مجرد إعطاء الأفراد قدرًا من المحتوى العلمي والسلوكي. والممارسات التربوية إما تنطلق من السجية والعفوية، أو وفق ما نسميه (تخطيطًا) وهو لا يعدو رسم خارطة سنوية أو فصلية لمحتوى البرامج التربوية.
مشكلات انعدام الرؤية التربوية
إن انعدام الرؤية في العمل التربوي يقود إلى كثير من المشكلات التربوية منها:
• أنه يفتح مجالاً واسعًا للتباين والرؤى المختلفة والمتفاوتة.. والخلافُ واتساعُ التجارب وتنوعُها لا اعتراض عليه حين يكون صادرًا عن منهجية واقتناع، أما حين يكون صادرًا عن غياب للرؤية وتخبط فلا.
• أنه يؤدي بالمربي الواحد إلى تلوُّن أهدافه ورؤاه من وقت لآخر، حسب ما يجري في الساحة، وحسب ما يسبق إلى ذهنه.
• غياب التجانس في شخصية الفرد؛ إذ هو نتاج رؤى وأفكار متناثرة لا رؤية متسقة.
• غياب التجانس على مستوى الساحة الدعوية؛ والتجانس المنتظر ليس أن يكون الناس على نمط واحد ونموذج واحد، لكن ثمة حدٌّ أدنى لا يمكن بدونه أن يوجد تيار ينشئ أعمالاً ومشروعات جماعية منتجة.
• وجود كثير من مظاهر الخلل التربوي التي لا تظهر إلا في الميدان، وحين تظهر يعيش المربون جدلاً طويلاً حول فهمها وتفسيرها، فضلاً عن التعامل معها.
طبيعة الرؤية التربوية
وحين نطالب برؤية تربوية فطبيعة الرؤية تقتضي أن تتسم بقدر من النظرة الكلية التي ترسم الأطر العامة لشخصية المنتج التربوي لا أن تغرق في التفاصيل المحددة التي ينبغي أن تتسع فيها مساحة التنوع والممارسة، وتستوعب اختلاف البيئات والظروف.
كما أنها لا يسوغ أن تكون خواطر تجول في أذهان معدِّيها، أو فكرة طرأت في محاضرة أو مناسبة، فلابد أن تكون نتاج دراسة عميقة يتاح لها جهد يتلاءم مع أهميتها.
وهي تتطلب أن تنطلق من مصادر تجمع بين المنهج الشرعي في بناء الفرد المسلم، وظروف الواقع وتحدياته وطبيعة المهمة التي يُعَدُّ لها هذا الجيل، وأن تنسجم مع الرؤى العامة للعمل الإسلامي وتسهم في تحقيق أهدافه.
وتتطلب اتساعًا لدائرة المعدِّين لها؛ فلا تكون نتاج اجتهاد فردي، ولا نتاج فئة أو أصحاب تخصص معين؛ فالرؤية التربوية تتضمن جانبًا يتصل بمحتوى التربية الذي يسهم في بنائه العديد من المختصين في مجالات المعرفة، وجانبًا يتصل بعملية التربية الذي يسهم فيه العديد من المختصين في المجالات التربوية.
كما أنه من الضروري أن تنسجم كافة أهداف وعمليات التربية مع هذه الرؤية وتسهم في تحقيقها.
إن الاقتناع بالحاجة لهذه الرؤية، والاقتناع بتجاوز الممارسات التقليدية في بنائها يمكن أن يوجد لدى العاملين في الساحة الإسلامية خيارات عدة في التنفيذ بما يكون عائده مرضيا على العلمية التربوية وآثارها على الواقع الملموس.
===============
وعين بكت من خشية الله
لا تدمع العين إلا إذا طهرت النفس، وزكت الروح، وصفى القلب، فعندئذ تأتي الرقة فتسيل الدمعة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله... الحديث"[ رواه الترمذي]
وقد كان البكاء ديدن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن. قال فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال إني أشتهي أن أسمعه من غيري فقرأت النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} قال: فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرأيت دموعه تسيل.(وهذا لفظ مسلم).
وعن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة - رضي الله عنها: (( أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي. قال: ((ياعائشة ذريني أتعبد الليلة لربي)). قلت: والله إني أحب قُربك، وأحب ما يسرك. قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي. قالت: فلم يزل يبكي، حتى بل حِجرهُ! قالت: وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته! قالت: ثم بكى حتى بل الأرض! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يارسول الله تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أكون عبداً شكورا؟! لقد أنزلت علي الليلة آية، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها! {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} الآية كلها)) [رواه ابن حبان وغيره].
وهكذا كان أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كما أخبر عنهم سبحانه في سورة مريم بقوله: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا".
فالبكاء سنة عظيمة وعادة لصالحي المؤمنين قديمة، ورثها أصحاب الرسل عنهم، كما ورثها أصحاب نبينا عن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم.. وقد خطبهم يوما فقال: (( عُرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قال "أنس": فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه! قال: غطوا رؤوسهم ولهم خَنِينٌ)) [ رواه البخاري ومسلم ].(3/14)
فهذا الصديق الأكبر لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم الوجع وأذن للصلاة قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف – رقيق القلب – لا يملك دمعه إذا قام يصلي لم يسمع الناس من شدة بكائه. فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". فأعادت. فقال: "إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس".
وكان أبو بكر يقول: ابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا، تكلفوا ذلك فإن في ذلك النجاة لكم.
وهذا الذي قاله أبو بكر هو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كما روى ذلك ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص بسند جيد: "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا".
وليس معنى ذلك أن يظهر الإنسان البكاء رئاء الناس ليحسبوه خاشعًا وليس هو كذلك، وإنما المراد حث النفس وتعويدها على البكاء حتى يصير عادة وسجية لها، وكما جاء في الحديث: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم". فكذلك إنما البكاء بالتباكي والتباكي يستجر البكاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"[رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس]. وقال: "لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"[رواه الترمذي وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة].
وكما كان هذا حال أبي بكر كذلك كان حال عمر بن الخطاب الخليفة الراشد، فقد ورد عنه أنه كان يكثر من قراءة سورة يوسف في العشاء والفجر، وكان إذا قرأها يبكي حتى يسيل دمعه على ترقوته، وقرأها يومًا حتى بلغ قوله تعالى على لسان يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}[يوسف:86]. فبكى حتى سمع الناس نشيجه ونحيبه من خلف الصفوف.
وسمع يومًا آية فمرض أيامًا يعوده الناس لا يعرفون سبب مرضه.
وكان في وجه ابن عباس خطان أسودان من كثرة البكاء.
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه الناس مرة بالبصرة : فذكر في خطبته النار، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر! وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً.
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فلما بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بكى حتى خرَّ ولم يقدر على قراءة ما بعدها... وكان يقول: (( لأن أدمع من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار!))
وبالجملة فقد كان هذا حال الصحابة أجمعين، ولو ذهبنا نستقصي أحوالهم ونذكر مناقبهم في هذا الجانب لطال بنا المقام، ولكن اسمع لوصفهم من رجل يعلم حالهم فهو منهم وإمام من أئمتهم وخليفتهم الرابع عليّ رضي الله عنه: فبعد أن صلى الصبح يومًا جلس يبكي حتى طلعت الشمس، ثم قبض على لحيته وقال: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أحدًا يشبههم؛ كانوا يصبحون شعثًا غبرًا صفرًا بين أعينهم كمثل ركب المعزى، قد باتوا لله سجدا وقيامًا يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع فاخضلت بها لحاهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين". فما رؤى بعدها مبتسمًا حتى مات رضي الله عنه.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع .... الناس هم ليس لهم في الخلق أشباه
رهبان ليل إذا جن الظلام بهم .. .. .. كم مسبل دمعا فى الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم .. .. .. هبوا إلى الموت يستبقون لقياه
وجاء من بعد الصحابة التابعون، فسلكوا الجادة واتبعوا سبيلهم واهتدوا بهديهم، فكان حالهم مثل حال الصحابة أو قريبًا منه.
محمد بن المنكدر، إمام من أئمة التابعين، بكى يومًا بكاءً شديدًا، فاجتمع عليه أهله فسألوه عن سبب بكائه فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم سلمة بن دينار، فلما جاء وسكن محمد ساله أبو حازم عن سبب بكائه؟ فقال: قرأت قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:47] فبكيت، فبكى أبو حازم وعاد محمد إلى البكاء، فقال أهله: جئناك تخفف عنه فزدته بكاءً؟!
وعندما احتضر جعل يردد هذه الآية، ثم ابتسم وقال: لو تعلمون لأي شيء أصير لفرحتم.
ووعظ مالك بن دينار رحمه الله يوماً فتكلم، فبكى حوشب، فضرب مالك بيده على منكبه، وقال: (ابكِ يا أبا بشر! فإنه بلغني أن العبد لا زال يبكي؛ حتى يرحمه سيده ، فيعتقه من النار).
فإذا أردت أن تدمع عينك، ويسيل دمعك فدع الذنوب والزم الصدق فبهما يلين القلب قال مكحول رحمه الله : (( أرقُّ الناس قلوباً أقلهم ذنوباً )) .
وقال أبو معاوية الأسود لأحمد بن سهل: (يا أبا علي من أكثر لله الصدق نَدِيت عيناه، وأجابته إذا دعاهما).
يا طالب العلم ههنا وهنا .. .. .. ومعدن العلم بين جنبيك
إن كنت تبغي جنان الخلد تعمرها .. .. .. فأسبل الدمع على خديك
وقم إذا قام كل مجتهد .. .. .. وادع لكيما يقال لبيك
وقال الألبيري - رحمه الله – ناصحا ولده :
ولا تضحكْ مع السفهاءِ يوماً .. .. .. فإنّك سوف تبكي إن ضحكت !
ومَن لك بالسرور وأنتَ رهنٌ؟ .. .. .. وما تدري أتُفْدى ؟ أم غُلِلْت ؟!
ولو بكت الدّما عيناك خوفاً ! .. .. .. لذنبك لم أقل لك قد أمِنْت !
ومَن لك بالأمان وأنتَ عبدٌ .. .. .. أُمِرْتَ فما ائتمرتَ ولا أطَعْت!
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعين لا تدمع... آمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
=============
بين همم الحيوان وهمم بني الإنسان(3/15)
قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38].
قال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدميٌّ إلا وفيه شَبَهٌ من البهائم؛ فمنهم مَن يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يَعْدُو عَدْو الذئب، ومنهم مَنْ ينبح نُباح الكلب، ومنهم مَن يتطوَّس كفعل الطاووس، ومنهم مَن يُشبه الخنازير التي لو أُلقي إليها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فلذلك تجد من الآدميين مَن لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروَّاه وحفظه.
قال الخطابي: ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة! وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمُه مُطاوعًا لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله عن وجود المُماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة، وذلك مُمتنِعٌ من جهة الخلقة والصورة، وعَدَمٌ من جهة النطق والمعرفة؛ فوجب أن يكون مُنصرفًا إلى المُماثلة في الطباع والأخلاق. (انتهى كلامه).
والله سبحانه قد جعل بعض الدوابِّ كسوبًا مُحتالاً، وبعضها متوكِّلاً غير مُحتال، وبعض الحشرات يدَّخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتَّكل على الثقة بأن له في كل يوم قَدْر كفايته رزقًا مضمونًا وأمرًا مقطوعًا، وبعضها يدَّخر، وبعضها لا تكسُّبَ له، وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمَّة من جنسه لم يدعْ أحدًا يدنو منه.
وهذا كله من أدلِّ الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صُنْعه، وعجيب تدبيره ولطيف حكمته، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحِيَل وحسْن التدبير والتأني لما تريده، ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته.
طهارة النحل وقذارة قوم لوط
يقول ابن القيم: "في النحل كرامٌ عمال، لها سعيٌ وهِمَّة واجتهاد، وفيها لئامٌ كسالى، قليلةُ النفع، مُؤْثِرةٌ للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها، وتنقيها عن الخليَّة، ولا تُساكنها؛ خشية أن تُعدي كرامها وتُفسدها".
"وكل نحلة تريد دخول الخلية بعد عودتها يشمُّها البوَّاب ويتفقَّدها، فإن وجد منها رائحة مُنكرة، أو رأي بها لطخة من قذرٍ، منعها من الدخول، وعزلها ناحيةً إلى أن يدخل الجميع، فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول، فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرةً ثانية، فمن وجده قد وقع على شيء مُنتن أو نجس قدَّهُ نصفين، ومن كانت جنايته خفيفةً تركه خارج الخليَّة. هذا دأبُ البوَّاب كلَّ عشيَّة".
وقوم لوط كانوا أحقَر هِمَّةً من هذه الحشرة. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:56].
النمل وبعدُ هِِمَّتِهِ:
والنملة تخرج من بيتها تطلب قوتها وإن بعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طُرُقٍ مُعوجَّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعُّر، حتى تصل إلى بيوتها، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان.وهي على ضعْفها شديدة القوى، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها وتجرُّه إلى بيتها. ولها صِدْقُ الشمِّ، وبُعْدُ الهِمَّةِ، وشِدَّة الحرص. وكلُّ نملة تجتهد في صلاح العامَّة منها غير مُخْتلِسة من الحَبِّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.
المُبدِّلون أخسُّ هِمَّةً من القرود
"ومن عجيب أمر القرد، ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: "رأيتُ في الجاهلية قرْدًا وقردةً زنيا، فاجتمع عليهما القرود، فرجموهما حتى ماتا". فهؤلاء القرود أقاموا حدَّ الله حين عطَّله بنو آدم".[شفاء العليل لابن القيم].
أبلدُ من حمار:
قال ابن القيم: "ومن هداية الحمار - الذي هو من أبلد الحيوان – أن الرجل يسير به ويأتي به إلى منزله من البُعد في ليلة مُظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه، ويُفرق بين الصوت الذي يُستوقف به والصوت الذي يُحَثُّ به على السير". فمن لم يعرف الطريق إلى منزله – وهو الجنة – فهو أبلدُ من حمار!!
فحيى على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
أخسُّ من الذئاب:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه. فأقعى الذئب على ذنبه. قال: ألا تتقي الله! تنزع مني رزقا ساقه الله إليَّ. فقال: يا عجبي ذئب مقعٍ على ذَنَبِه يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟! محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للراعي: "أخبرهم" فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق والذي نفسي بيده".
ففي هذا الحديث ما يُفيد بأن هذا الذئب كان بالمدينة، وعلم بما يقوله عليه الصلاة والسلام، وأدرك مما يقوله عليه الصلاة والسلام، وحدّده بأنه كلام عن الأمم السابقة. فكيف بمن يعلمون كل شيء عن تاريخ المشركين والفراعنة، ولا يعلمون زِنة خردلة ومثقال ذرَّة عن حياة أئمة الموحِّدين من أنبياء الله!! بل ومنهم من يقول: أول مَن دعا إلى التوحيد إخناتون، وهو الذي كان يعبد الشمس، وأنَّ مزامير داود مُقتبسةٌ من نشيد الرعاة لإخناتون... كبرتْ كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
الهدهد وعبدة الأبقار:(3/16)
لقد استنكر هدهد سليمان أشد الاستنكار، وأنكر أشد الإنكار على قوم سبأ عبادتهم للشمس من دون الله. فقال تعالى:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل:24، 25]. فكيف لو رأى الهدهد عبدة الأبقار وعبدة الفئران؟!
قال غاندي: "عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيوانًا؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع". وقال: "وأُمي البقرة تفضُلُ أُمِّي الحقيقية من عِدَّة وجوه: فالأم الحقيقية تُرضعُنا مُدَّة عام أو عامين وتتطلَّب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أُمّنا البقرة تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تطلب مِنَّا شيئًا مُقابل ذلك سوى الطعام العادي". وقال: "إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعدُّ نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين"[مقارنة الأديان 4/32].
قال الشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر: "قد قرأتُ في مجلة العربي التي تصدُرُ في الكويت عن معبد فخم مكْسُوٍّ بالرخام الأبيض تُرسَل إليه الهدايا والألطاف من شتى أنحاء الهند، بقي أن تعلم أن الآلهة التي تُقدَّمُ لها القرابين وتُرسَل لها النذور في ذلك المعبد الفخم إنما هي الفئران".[الرسل والرسالات: 37].
وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس. قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان:44].
أغبياء بني آدم:
عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تستقلُّ الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبَّح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم"[أخرجه ابن السني وأبو نعيم وحسنه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من دابة إلا وهي مُصيخة يوم الجمعة؛ خشية أن تقوم الساعة"[أخرجه أحمد والمنذري وصحححه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطلع الشمس ولا تغربُ على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع ليوم الجمعة، إلا هذين الثقلين: الجن والإنس"[أخرجه أحمد في مسنده وصححه الألباني].
حتى الخنفساء والغراب
قيل لرجل: من علّمك اللجاجَ في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت؟ قال: مَنْ علَّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط؛ تسقط ثم تصعد ثم تسقط، مرارًا عديدة، حتى تستمرَّ صاعدة!!
والغراب يُضرب به المثل في البكور. فيقال: بكور كبكور الغراب. وقيل لرجل: مَن علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخلُّ به؟ قال: مَنْ علَّم الطَّير تغدو خماصًا كلَّ بُكرة في طلب أقواتها، على قُربها وبُعدها، لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض!!
التقطْ خير الخِلال
في الحيوانات أخيارٌ وأشرارٌ، فالتقطْ خير الخِلال وخلِّ خسيسها، إذا لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تُعطِه فلا تأخذ منه، لا تُشابهنَّ الحية فإنها تأتي إلى الموضع الذي قد حفره غيرها فتسكنه. ولا تتمثّلنَّ بالعُقاب فإنه يتكاسل عن طلب الرزق، ويصعد على مرقب عالٍ، فأي طائر صاد صيدًا اتبعه، فلا تكون له هِمّة إلا إلقاء صيده والنجاة بنفسه.
لا تكن العصافير أحسن منك مروءةً، إذا أُوذي أحدها صاح، فاجتمعن لنُصرته، وإذا وقع فرخُها طِرن حوله يُعلِّمنه الطيران.
ياهذا تخلق في إعانة الأخوان بخلق النملة فإنها قد تجد جرادةً لا تُطيقُ حمْلَها فتعود مستغيثة بأخواتها، فترى خلفها كالخيط الأسود قد جئن لإعانتها، فإذا وصلن بالمحمول إلى بيتها رفعنه عليها.
الطبع الردي لا يليق به الخير
هيهات إن الطبع الرديء لا يليق به الخير، فهذه الخنفساء إذا دفنت في الورد لم تتحرك، فإذا أُعيدتْ إلى الروث رتعت.
وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمجَّ سُمَّها فيه، "وكُلٌ إلى طبعه عائد"، إلا أن الرياضة قد تزيل الشر جملة وقد تخفف كما أن غسل الأثر إن لم يزله خفف.. إن دمت على سلوك الجادة رجونا لك الوصول وإن طال السرى.
أخي:
كُنْ كالنسور على الذُّرا تُصغي لوشوشة القمر
إياك أن تكن الغرا ب يُرمِّمُ الجيف الحقيرة في الحُفَرْ
لله دَرُّك كالنسر نُريدك تصيح:
إنَّ المعاولَ لا تهدُّ مناكبي والنَّارُ لا تأتي على أعضائي
فارموا إلى النارِ الحشائش والعبوا يا معشر الأطفال تحت سمائي
وإذا تمَّردت العواصف وانتشى بالهولِ قلبُ القُبَّةِ الزرقاء
ورأيتموني طائرًا مُترنِّمًا فوق الزوابع في الفضاء النائي
فارموا على ظلِّي الحجارة واختفوا خوف الرياح الهُوجِ والأنواءِ
وهناك في أمن البيوت تطارحوا غثَّ الحديثِ وميِّتَ الآراءِ
وترنَّمُوا ما شئتمُ بشتائمي وتجاهروا ما شئتمُ بعدائي
أما أنا فأُجيبُكم من فوقكم والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائي
من جاش بالوحي المقدس قلبه لم يحتفل بحجارة الفلتاء
=================
«الجوال» تكنولوجيا إعلامية ووسيلة دعوية
بات الاتصال الهاتفي بعدًا جديدًا من أبعاد التطور التكنولوجي وصفة ملازمة للحرية الشخصية في صيغتها بالقرن الحادي والعشرين، ومثل غيره من الظواهر فإن الاتصال المتحرك هو في الأصل حاجة أوجدها الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج والذين لهم مصلحة في توسع دائرة الفردية.
أرقام مذهلة(3/17)
في مقاله المعنون بـ"عبيد الهاتف الجوال" ذكر"دان شيلر"""Dan SCHILLER أنه "في نهاية العام 2003، كان أكثر من 500 مليون هاتف محمول قد بيع في العالم، وكان ثلث سكان اليابان استخدم شبكة الإنترنت عبر هذا الهاتف، كما أن المشتركين الأميركيين في الهاتف الخليوي أمضوا أكثر من 15 مليار ساعة في التحدث عبره، وأرسل الأوروبيون 113 مليار رسالة قصيرة ـ مع أن الصين تأتي في رأس القائمة بهذا الباب مع 220 مليار رسالة نصية عبر الهاتف المحمول"، وذكر شيلر أيضا أنه "في العام 2004 وحده أمنت شركة "دوكومو" اليابانية 20 في المئة من مداخيلها أي 9 مليارات دولار من خلال التنزيلات عن الشبكة التي قام بها 42 مليونا من المشتركين".
وبعد هذه الأرقام المذهلة يمكننا أن نؤكد ما جاء في مقال للاستاذ حسن أبو السباع في جريدة الحياة من أن الهاتف الجوال أصبح يلعب دوراً رئيساً في التواصل بيننا، وأن هذه الآلة تتطور بصورة مذهلة وما زالت تأتي بالعجب العجاب.. فحينما أمسكنا به لأول مرة ظننا أن الدنيا كلها اجتمعت بين أصابعنا، فبمجرد الضغط على عدد قليل من الأزرار نستطيع أن نتواصل مع شخص آخر في أي مكان من العالم المترامي، الذي كنا نسميه قرية صغيرة.
قبل انتشار هذا الجهاز العجيب كانت الشاشات العربية تستعرضه في الأعمال البوليسية والاستخباراتية بوصفه اختراعاً لا تستطيع أجهزة البحث الإمساك بحامله بسهولة، إذ كان أمراً في غاية الصعوبة نظراً إلى أنه «جوال».
أما الآن وبعدما أصبح الجميع يحمله، من الأطفال مروراً بالنساء إلى الشيوخ، الجميع لا يستطيع الاستغناء عن هذا الاختراع الذي تطورت إمكاناته لتصبح كومبيوترية، فتستطيع إرسال عشرات الرسائل في دقيقة واحدة إلى مجموعة من الأشخاص في أماكن مختلفة على وجه البسيطة.
واعتنت الفضائيات بهذا الرفيق المطيع في قبضة اليد، فخصصت له قنوات لاستقبال الرسائل من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق ليتواصل الناس عبر ما يسمى رسائل SMS لتحدث طفرة تطويرية في عالم «الشات»، الذي لم يعد قاصراً على استخدام الكومبيوتر، فنستطيع أن «ندردش» عبر الجوال والقنوات الفضائية ليتم تبادل الرسائل بين الأصدقاء والأقارب.. حتى في كثير من الأحيان يكون هؤلاء الأصدقاء في بلد واحد، أو مدينة واحدة.
تطور بلا حدود
والتطور لا يتوقف ابداً عند حد، فالآن أيضاً صار في إمكانك أن ترى من تخاطبه على الجانب الآخر، مهما بعدت المسافات بينك وبينه، ليقوم أي إنسان بدور المراسل الصحافي من بلد إلى بلد فقط لأنه يحمل هذا الجوال الاختراع العجيب، حتى الصحف والقنوات الإخبارية الآن تقدم خدمة إرسال الاخبار عبر «الجوال» لحظة وقوعها، وقريباً جداً سينقل الحدث مباشرة عبر شاشات «الجوال» مع الأخبار المرسلة، لتوجد طفرة إعلامية عالمية تسمى «تلفزيون الواقع» بواسطة "جوال الواقع"، فكما يستطيع أي إنسان أن يرسل رسائل عبر هاتفه إلى هذه القناة أو تلك، ففي إمكانه أن يصور مشاهد كاملة من الحياة التي يحياها، ويرسلها إلى قنوات فضائية لتبث باعتبارها تعبيراً عما يسمى «تلفزيون الواقع» والشاهد الآن على صدق ما أقول هو مقاطع البلوتوث المنتشرة جداً – بين الشباب، وتتناقل فيما بينهم في شكل سريع من أقصى المدينة الواحدة إلى أدناها «قبل أن يرتد إليك طرفك».
الجوال والدعوة
نعم قد يسيء البعض استعمال هذا الاختراع العجيب كغيره من الاختراعات التي يساء استخدامها. ولكننا نقول وبلا شك أو تردد أن هذه التقنية الحديثة قد أضافت نافعا وفتحت آفاقا جديدة للإبداع الدعوي فالدعاة إلى الله يجب أن يستخدموا أيضا وسائل التطور ويفيدوا منها في خدمة دينهم ودعوتهم من خلال التواصل مع الآخرين عبر هذا الجهاز الخطير، ولا ينبغي التوقف عند مجرد استعمالات الناس، بل نحن أولى بإرسال الرسائل القصيرة التي تحوي تذكيرا بالله تعالى أو بالآخرة أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو دعوة لمحاضرة أو نشر سنة أو هدم بدعة أو تقديم نصح أو تصحيح خطأ أو تنبيه غافل أو تذكير ناس أو ..... وهي أبواب من الخير لا تنتهي ونحن أولى من غيرنا بالاستفادة بهذا كله... وكما قيل: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها... فكذلك الوسيلة الدعوية النافعة المباحة ضالة الداعية أينما وجدها فهو أحق بها.
==============
الإجازة الصيفية.. وقضية السفر للخارج
انتهى موسم الامتحانات لدى أبنائنا في المدارس وبدأت الأسر تستنشق نسيم الراحة بعد موسم كامل من الكد والتعب وبذل الجهد... ولا شك أن حاجة الجسم إلى الراحة بعد الكد، وإلى الهدوء بعد الضجيج، وإلى نوع استرخاء واستجمام بعد عام من الشد العصبي والضغط النفسي، والجهد البدني؛ هو من الأمور المسلّمة التي لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل.
والإسلام في حقيقته لم يفرض على الناس أن يكون كلُّ كَلامهم ذكرًا، ولا كلُّ شرودهم فكرًا، ولا كل أوقاتهم صلاة وعبادة؛ بل جعل للنفس شيئًا من الترويح والإراحة المنضبطين بشرعة الإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة: "ساعة وساعة". وقال على فيما ذكره عنه الإمام ابن عبد البر: "أجمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان".(3/18)
ومع بداية الإجازة من كل عام تطرق أبواب مجتمعاتنا قضية هامة لا ينبغي أن تفوت دون انتباه لقوة تأثيرها على الأفراد والمجتمعات بل وفي كثير من الأحيان على ثقافة الأمة كلها، ففي مثل هذا الوقت من كل عام نرى كثيرا من الناس قد جمعوا أغراضهم، وحزموا حقائبهم، وهيئوا أنفسهم عازمين على السفر شرقًا أو غربًا، إما طلبًا للراحة والاستجمام، وإما طلبًا للنزهة والسياحة، وإما طلبًا للهو واللعب، وإما طلبًا لأمور يعلمها الله عز وجل. وإلى كل هؤلاء نقول: قبل أن ترفعوا أقدامكم عن بلدكم لتضعوها شرقًا أو غربًا تعالوا بنا لنقف وقفة صادقة نزن فيها الأمر على ميزان الشرع المطهر مرورًا بأمور لابد أن نذكرها ولابد أن نتذكرها جيدًا:
أولاً: مهمة الإنسان في هذه الحياة:
لماذا خلقك الله؟ ولماذا أوجدك في هذه الحياة؟ يجيبك الله عز وجل فيقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].
إذن فالله خلقك لعبادته ومن أجل تلك العبودية سخر لك ما في السماوات وما في الأرض، وأرسل إليك الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وخلق الجنة والنار، ونصب الميزان، وضرب الصراط. وإن من أعظم الظلم بعد كل هذا أن تظن أنك خلقت عبثًا أو أنك ستترك سدى دون حساب أو مساءلة – حاشا لله – {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115].
فالمسلم في هذه الحياة ليس حرًّا يفعل ما يهواه، وإنما هو عبد لله، والعبد ليس له تصرف في نفسه وإنما أمره بيد سيده ومالكه، لا يفعل شيئًا إلا بأمره، ولا يتحرك إلا من خلال طاعته وحكمه. فإذا علمت هذا وأيقنت أنك عبد لله، وجب عليك أن تكون كل حركاتك وسكناتك في طاعته، ووجب عليك أن تستغل كل ما أفاء به عليك للقيام بحق عبوديته. {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162].فيا من عزمت على السفر انظر أولاً هل هذا السفر يقربك من الله ويدنيك من الجنة؟ أم أنه يبعدك عن الله ويقربك من النار؟ فإذا علمت فاختر لنفسك ما تشاء.
ثانيًا: الوقت هو الحياة:
فالوقت هو رأس مال المسلم الذي يتاجر فيه مع ربه، ويطلب به السعادة في الدنيا والآخرة، وكل جزء يفوت من هذا الوقت خاليًا من العمل الصالح يفوت على العبد من السعادة بقدره.
ولذلك كان السلف رضي الله عنهم لا يفرطون في ساعة ولا في لحظة بل ولا في نفس. قال رجل لعامر بن قيس: قف أكلمك. قال: لولا أني أبادر لوقفت. قال: وماذا تبادر؟ قال: أبادر طلوع روحي.
وصدق رحمه الله فإن الوقت لا يقف محايدًا أبدًا؛ فهو إما صديق ودود ينفعك ويسرك، وإما عدو لدود يحزنك ويضرك.
قالت رابعة لسفيان: يا سفيان! إنما أنت أيام، فإذا مضى يوم مضى بعضك.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابًا
يقول ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقيمة وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة.
وقال علي رضي الله عنه: بقية عمر المرء ما لها ثمن يدرك بها ما فات ويحيي بها ما أمات.
إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب
قال الحسن البصري: وقذتني كلمات سمعتها من الحجاج؛ سمعته يقول: إن امرءًا ذهبت ساعة من عمره من غير ما خلق له لحري به أن تطول حسرته يوم القيامة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها".
وساعة الذكر فاعلم ثورة وغنى وساعة اللهو إفلاس وفاقات
فالمسلم ليس عنده وقت فراغ، وإنما وقته كله مشغول بطاعة ربه وعبادة مولاه، العبادة بمعناها الشامل والواسع، وإنما يكون الفراغ عن البطالين الذين لا يعرفون للوقت قيمة ولا للعمر قدرًا.
ثالثًا: لا مانع من الترويح المباح
إن الإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروحوا عن أنفسهم، ولا أن يدخلوا السرور على أهليهم وأولادهم طالما كان هذا الترويح في حدود الشرع وتحت قواعد الدين فلا غضاضة فيه، بل قد يكون مطلوبة في بعض الأحيان.
وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي – زوجته أُمّنا عائشة رضي الله عنها، فسبقته، ثم سابقها مرة أخرى فسبقها؛ فقال: "هذه بتلك".
فالترويح جائز طالما كان منضبطًا بهدي الإسلام، أما إذا كان مما يضعف الإيمان ويهز العقيدة ويخدش الفضيلة ويوقع في الرذيلة؛ فهذا مما لا يقبله العقل ولا يقره الدين.
رابعًا: للسفر آداب وقواعد
إن السفر في الإسلام لا بأس به، ولكن له حدود مرعية وقواعد شرعية منها:
• أن يكون إلى بلد من بلاد الإسلام؛ حيث يأمن المرء على نفسه وعرضه وماله، وحيث يستطيع أن يظهر شعائر دينه.
• وبشرط ألا يكون سفر معصية.
فالسفر في هذه الحال إن كان لأمر مباح فهو جائز شرعًا إن شاء الله.
وأما السفر إلى بلاد الكفر؛ فهذا مما منعه الإسلام وحرمه إلا بشروط شديدة:
أولها: أن يكون لضرورة شرعية: كمرض لا علاج له إلا في تلك البلاد، أو علم لا يوجد إلا عندهم، وهو مما يحتاج له الإسلام، أو أي ضرورة أخرى معتبرة في شريعة رب الأرض والسماء.
ثانيها: أن يكون عند المسافر من العلم ما يحفظه ممن ورود الشبهات وهي كثيرة عند هؤلاء.
ثالثها: أن يكون عنده من التقوى والخوف من الله ما يردعه عن الوقوع في الشهوات.
وبعد النظر في تلك الشروط تجد أن أكثر المسافرين إلى تلك البلاد لم تتوفر لهم هذه الشروط، وأنهم آثمون بسفرهم ومخالفتهم أمر ربهم.(3/19)
إن قاعدة سد الذرائع ودرء المفاسد من قواعد الدين العظيمة، فلما كان السفر إلى تلك البقاع الموبوءة والمستنقعات المشبوهة مما يسبب وقوع كثير من المسلمين في الخنا والزنا والفجور وشرب الخمور لتوفر هذه الأمور في تلك البقاع، إذ لا دين عندهم يمنعهم ولا أخلاق تردعهم، فلما كان الأمر كذلك جاء الشرع الحكيم ليسد هذا الباب الخطير حفظًا للدين وصيانة للأعراض؛ فالحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً}[النساء: 26-28].
فإن كل ذي عقل وإنصاف لابد وأن يقر للإسلام بالحكمة في منع سفر أهله إلى بلاد الكفر حفاظًا عليهم من الوقوع في تلك البلايا التي ذكرناها، وكذلك حماية لهم من مفاسد السفر التي تعود على الجميع ومن هذه المفاسد:
1- تنكر كثير من الناس للدين ورفضهم تعاليمه:
وركونهم إلى قوانين الغرب وأساليب حياتهم حتى أصبح من شباب المسلمين من يضع المساحيق على وجهه وأحمر الشفاه تشبَّهًا بهؤلاء المخنثين من الغربيين، مع محبة الخنا والزنا، والسعي وراء الشهوات وطلب المنكرات مما يزيد هذا البلاء في بلاد المسلمين فيعرض الجميع لسخط العزيز الجبار.
2- تذمر الفتيات من الحجاب والدعوة إلى التفسخ والسفور:
فهي تريد أن تكون مثل هذه التي رأتها تمشي بين الرجال تجالسهم وتضاحكهم وتمازحهم، مظهرة زينتها وفتنتها، ولقد بدأ هذا يفشو بين نسائنا، فبدأت الوجوه تظهر بكثرة، وبدأ الحجاب ينسحب رويدًا رويدًا، وإلى الله نشكو ضياع الأمة وموت عمر.
3- تلاشي مفهوم الولاء والبراء:
بين المسلمين والكافرين، وارتفاع بغضهم من قلوب المسافرين، نتيجة للمخالطة والمعاشرة، وفي هذا ضياع الجهاد والدعوة للإسلام، بل والدفاع عنه إذا اقتضى الأمر ودعت الضرورة.
4-التعود على رؤية المنكر:
وهذه أكبر المصائب لأن كثرة مشاهدة المنكرات تجعل المرء يعتاد عليها حتى تصبح أمرًا هينًا في عينه لا يتأثر بها قلبه ولا تشمئز لها نفسه، بل ولا يستحي بعد ذلك أن يراه الناس على شيء منها، وفي هذا فشو المعاصي وانتشار المنكرات مما يؤذن بخراب البلاد ودمار العباد.
ولا تتوقف مفاسد هذا السفر على هذه الأمور ولكنها من أهمها ومن هنا نعرف صدق كلام ابن الجوزي رحمه الله حين قال: السياحة في الأرض لا لمقصود شرعي كعلم أو دعوة أو نحو ذلك منهي عنها".
فإذا كان هذا قولهم في السياحة التي لا معصية فيها، فكيف بسياحة التحلل والتفسخ؟.
نسأل الله أن يجعلها أجازة مباركة مليئة بطاعة الله ومقربة إلى رضوانه... آمين.
===============
ميزان الإسلام
المتعارف عليه عند الناس أن من خسر ماله فهو الخاسر، ومن ربح مالاً إضافيًا على ماله فهو الرابح، وأن صاحب المال الوفير هو الغني وأن الفقير في نظر الناس من لا مال له، ولكن كثيرا ما يرى الناس أمورا هي في ميزان الله تختلف عنها في موازينهم..
يروي الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية عن صهيب الرومي رضي الله عنه عن بعض أحداث الهجرة فيقول: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكيا - فناموا .. فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدوا ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة، فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء، قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: (يا أبا يحيى ربح البيع). فقلت: يارسول الله ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام".
وحادثة صهيب في الميزان البشري تعد خسارة لصهيب، ولكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له (يا أبا يحيى ربح البيع) تدل على أنه ربح في ميزان الله، ذلك أن موازين الإسلام تختلف عن موازين البشر في عقولهم المحدودة، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:111].
فعلى هذا يكون من باع نفسه وماله في سبيل الله رابحًا وضامنًا للجنة التي لا يوجد شيء على الأرض أغلى منها، بل إنه كما جاء في الأحاديث الصحيحة، إن الحورية من الجنة لو أطلعت لغطت شعاع الشمس، ولو وقع خمارها على الأرض لعطر الأرض كلها، إلى ما فيها من أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وما فيها من الأشجار، التي سيقانها من الذهب، وما فيها من القصور المبنية من الذهب، وما فيها من النعم والملذات التي لا يحصى عددها إلا الله سبحانه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلا شك أن من ربح هذه الجنة مقابل بذله لما يملك من مال في الدنيا يكون رابحًا في ميزان الإسلام، وأنه لا يدخل أحد الجنة حتى يثقل ميزانه بالأعمال الصالحة، لذلك قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[لأعراف:8].(3/20)
أما الخاسرون في ميزان الإسلام فهم ليسوا أولئك الذين خسروا أموالهم في الدنيا بالتجارة أو بغيرها، لكنهم الذين خفت موازينهم يوم القيامة بسبب قلة أعمالهم الصالحة التي قاموا بها عندما كانوا في الدنيا، لذلك قال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103].
فميزان الناس في أغلب أحيانه إنما يعتمد على المظاهر وعلى أساسها يكون التمييز بين الناس، وأما ميزان الله فهو يزن الأمور والأشخاص بالبواطن مع الظواهر وبالسريرة قبل العلانية، وهذا عين ما وضحه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما روى البخاري عن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع.قال:ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا : حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).
فكان ميزان الله تعالى وميزان رسوله على النقيض من ميزان الناس، ومدار التفضيل والتكريم والرفعة عند الله على قدر ما في القلوب من الإيمان واليقين والدين.
من هو المفلس
ولترسيخ معنى مفهوم الربح والخسارة عند الصحابة رضي الله عنهم، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات يوم مختبرًا تغلغل هذا المفهوم عندهم: (هل تدرون من المفلس؟). قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع. قال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"[رواه مسلم].
فهذا هو المفلس في نظر الإسلام، وذلك هو الرابح، الذي ربح الجنة ببذله المال والنفس في الدنيا.
وعلى ميزان الله يكون قارون رغم كل ما كان يملكه مفلسا وكل من دخل الجنة من فقراء زمنه أغنى منه: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
================
لذة العبادة
روى الإمام البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم – أو تنتفخ – قدماه، فقيل له: يارسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟".
وفي البخاري أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء. قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه"[رواه مسلم].
هذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق ابن رواحة حين قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه .. .. .. إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا .. .. .. به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه .. .. .. إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجاء في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي: عن سفيان بن عيينة قال: كان قيس بن مسلم يصلى حتى السحر ثم يجلس فيهيج البكاء فيبكي ساعة بعد ساعة ويقول: لأمر ما خُلقنا، لأمر ما خلقنا، وإن لم نأت الأخرة بخير لنهلكن.
وزار يوما محمد بن جحادة فأتاه في المسجد فوجده يصلي فقام قيس في الجانب الآخر يصلي دون أن يشعر به ابن جحادة .. فما زالا يصليان حتى طلع الفجر.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي: كان عبد العزيز بن أبي رواد يوضع له الفراش لينام، فيضع عليه يده ويقول ما ألينك، ولكان فراش الجنة ألين منك. ثم يقوم فيصلي.
وفيه: كان عبد الرحمن بن مهدي يختم كل ليلتين.. يقرأ في كل ليلة نصف القرآن.
وعن معاذة العدوية زوجة صلة بن أشيم قالت: كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبوا. وقال ثابت البناني: ان رجالا من بني عدي قد أدركت بعضهم إن كان أحدهم ليصلي حتى ما أتى فراشه إلا حبوا ".. وذكروا مثل هذا عن علي بن الفضيل وجماعة .
إنها لذة الطاعة
إن كل هذا الذي سقناه من كثرة الصلاة وطول القيام فيها، وصبر النفس على تحمل مشاق البدن ليدل على أن هناك شيئًا يحمل المتعبدين على الإقبال على عبادتهم من غير ملل، والوقوف فيها من غير نظر إلى تعب أو كلل.. وهذا الشيء لا شك ينسي النفس همومها، ويورث القلب تعلقًا يشغله به عن الإحساس بالتعب، أو حتى الالتفات إلى تورم القدم ثم تفطرها وتشققها من طول الوقوف.(3/21)
إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم: "حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء.. وجعلت قرة عيني في الصلاة". أي منتهى سعادته صلى الله عليه وسلم وغاية لذته في تلك العبادة التي يجد فيها راحة النفس واطمئنان القلب، فيفزع إليها إذا حزبه أمر أو أصابه ضيق أو أرهقه عمل، وينادي على بلال: "أرحنا بها.. أرحنا بها".
وهذا النوع من لذائذ القلوب والنفوس ذاقه السالكون درب نبيهم والسائرون على هديه وسننه، فجاهدوا أنفسهم وثابروا معها وصابروها في ميدان الطاعة حتى ذاقوا حلاوتها، فلما ذاقوها طلبوا منها المزيد بزيادة الطاعة، فكلما ازدادت عبادتهم زادت لذتهم فاجتهدوا في العبادة ليزدادوا لذة إلى لذتهم.. فمن سلك سبيلهم ذاق، ومن ذاق عرف.
قال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به.
وكان ثابت البناني يقول: "اللهم إن كنت أعطيت أحدًا الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري".
وقال سفيان الثوري: إني لأفرح بالليل إذا جاء، وإذا جاء النهار حزنت.
ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها أن قال من شدة سروره: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه – يعني من النعيم – لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر مبديًا حزنه وتأسفه على الذين لم يشهدوا هذا المشهد: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة..
إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم... وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طربا من ذكر الله فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب".
إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلل الأبدان وملالها، بل وتنسيه الجوع والظمأ، فتغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب، فهو بها شبعان ريّان، كما في حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقيل له: إنك تواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"[رواه البخاري ومسلم].
يطعمه اللذة والأنس والبهجة، كما قال ابن القيم: " المراد ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها .. .. .. عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به .. .. .. ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها .. .. .. روح القدوم فتحيا عند ميعاد
فقوت الروح أرواح المعاني .. .. .. وليس بأن طعمت وأن شربت
أسباب تحصيل اللذة:
وبلوغ ما بلغه السلف في هذا الباب يحتاج إلى بذل أسباب بذلوها وسلوك سبيل سلكوها:
أولها: مجاهدة النفس:
وتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البدايات على تعب العبادات وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى حتى تذوق حلاوتها؛ فالتعب إنما يكون في البداية ثم تأتي اللذة بعدُ كما قال ابن القيم: "السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة".
وقال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.
وقال بعضهم: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك.
والأمر كما قال ربنا تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}[العنكبوت:96].
ثانيها: الإكثار من النوافل
بكل أنواعها ، وعلى اختلاف صفاتها وأحوالها ، والتنويع فيها حتى لا تمل النفس ، وحتى تقبل ولا تدبر، فتارة نوافل الصلاة، وتارة نافل الصوم، والصدقة ، والبر والصلة فإن كثرة النوافل تورث محبة الملك سبحانه كما في الحديث القدسي:" وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه".
ثالثها: صحبة المجتهدين وترك البطالين
فمن بركة صحبة أهل الصلاح: الاقتداء بهم، والتأسي بحالهم، والانتفاع بكلامهم، والنظر إليهم. قال جعفر بن سليمان: "كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى". (وهي التي فقدت ولدها).
وكان ابن المبارك يقول: "كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض احتقرت نفسي". وقد قالوا قديما من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه.
رابعها: تدبر القرآن(3/22)
خصوصًا ما يتلى في الصلوات، فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقا لما أصابها من قسوة، وتذكيرًا لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقيهم أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أنس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان.
وفي الحديث القدسي عند مسلم: "قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي وإذا قال؛ الرحمن الرحيم. قال الله تعالى؛ أثنى علي عبدي. وإذا قال مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي (وقال مرة: فوض إلي عبدي) فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل... فهذا مثال وعلى مثلها فجاهد.
خامسها: الإكثار من الخلوة بالله تعالى
فيتخير العبد أوقاتًا تناسبه في ليله أو نهاره، يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه، يبث له شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه. فلله كم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليات على القلوب؟!
وقد قيل لبعض الصالحين لما أكثر الخلوة: ألا تستوحش؟ قال: وهل يستوحش مع الله أحد؟!!
وقال آخر: كيف أستوحش وهو يقول: وأنا معه إذا ذكرني؟!
فليتك تحلو والحياة مريرة .. .. .. وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر .. .. .. وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين .. .. .. وكل الذي فوق التراب تراب
سادسها: ترك المعاصي والذنوب
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلا طويلا، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب ابن الورد حين سئل: ايجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا.. ولا من هم.
فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته وضعف إيمانه أو لفساد قلبه.. قال ابن الجوزي : "قال بعض أحبار بني إسرائيل : يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ فقيل له : كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟
وأخيرا: الدعاء
فهو سبيل الراغبين، ووسيلة الطالبين، الشفيع الذي لا يرد، والسهم الذي لا يطيش.. فمتى فتح لك منه باب فقد أراد الله بك خيرا كثيرا.. فارفع يديك لمولاك واضرع إلى ربك بقلب خاشع وطرف دامع وجبهة ساجدة، مع قصد وتوجه وتحرق وتشوق وتعلق بالذي لا يخيب مؤمله ولا يرد سائله أن يمن عليك بلذة العبادات ويملأ بها قلبك ونفسك وروحك فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.. وفي المسند: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين".
===============
مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده
أظلنا شهر ربيع الأول، وأطلت علينا بمقدمه ذكريات يحبها كل مسلم، ويسعد بتذكرها كل مؤمن، ومن أعظم الأحداث التي حواها هذا الشهر مولد نبي الرحمة وإمام الهدى صلى الله عليه وسلم. ذاك المولد الذي كان إيذانًا بانتهاء عهد الضلال وابتداء عهد الهدى، وكان كالبشرى الفارقة بين عهد الظلام والشرك والوثنية، ومبدأ لعهد النور والتوحيد والعبودية.
فأحببت أن أصحب إخواني في رحلة عبر التاريخ نعيش فيها لحظات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني بداية أعتذر له ولكم عن قصوري عن توفيته حقه وعجزي عن أن أقدره قدره أو بعض قدره.. كيف وهو خير الورى وأفضل من وطئ الثرى؟ كان بين المرسلين علمًا وبين الناس معلمًا وللمؤمنين قدوة وأسوة ومعلمًا.
ذاك الداعية العظيم، والنبي الكريم؛ الذي جاء إلى هذه الأمة الضعيفة المنهكة، المتحاربة المتفرقة، فجمع بالإسلام شتاتها، ووحد بالتوحيد كلمتها وصفها، ورفعها بالإسلام فوق الرؤوس، أنا وأنت وجدي وجدك لم يكن لنا تاريخ، بل كنا أذل أمة، أمة تأكل الميتة وتشرب الخمر وتأتي الفواحش وتطوف بالأصنام وتعبد الأوثان؛ حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام، فأخرجنا من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، ومن ذل المعاصي إلى عز الطاعة، وأخذ بأيدينا ونواصينا وقلوبنا إلى الله رب العالمين.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر ا لإله لها فبدل حالها
قد كرم الإنسان حين اختار من خير البرية بدرها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد إمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
هو منة الله الكبرى على المؤمنين، ورحمته العظمى التي أرسلها للعالمين {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164].
هو دعوة أبيه إبراهيم حين قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129]. وبشارة أخيه عيسى في قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف:6] ورؤيا أمه آمنة حين رأت أنه خرج منها نورًا أضاءت له قصور كسرى وقيصر.
مولد كريم ومبعث عظيم(3/23)
عندما ولد تزلزلت عروش الكفر فتصدع إيوان كسرى وسقطت بعض شرفاته وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، وكانوا يعبدونها من دون الله وهي التي لم تطفأ منذ ألف عام ـ كما قال أهل السير.
وكما تزلزت عروش الكفر لمولده كذلك اهتز الفلك لمبعثه وبداية قيادته للعالم، فبدأت السماء ترمي الشياطين بالشهب واللهب حتى لا يتسمعوا إلى الوحي كما كانوا يتسمعون إليه قبل بعثته. كما حكى ربنا على لسان الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً) (الجن:8،9)
وبمبعثه أغلقت الجنة أبوابها فلا تفتح إلا من طريقه، ولا يدخلها إلا أتباعه ومحبوه كما في صحيح مسلم: "والذي نفسي محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار ".
حياة حافلة
ما بين قول الله له: {اقرأ}، إلى قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}، عاش النبي حياة النبوة والرسالة.
أولا: عالم من العبادة: الصلاة، الصيام، الذكر، الجهاد.
ثانيا: عالم من الزهد: في مسكنه.. في مطعمه.. في ملبسه.. وفي ميراثه.
ثالثا: عالم من المعجزات: الجذع، الاستسقاء، القمر، الطعام.
رابعا: عالم من الأخلاق: في صبره، وتواضعه، وشجاعته، وكرمه.
خامسا: عالم من التربية: مع المرأة، مع الأسرة، مع الزوجة، مع الطفل.
أولا: عالم من العبادة
1ـ أما عن صلاته: فحدث ولا حرج، كان يقرأ في الركعة الواحدة بالبقرة والنساء وآل عمران، فيقف عند كل خير فيسأل الله، وعند كل آية عذاب فيستعيذ بالله ويسأله عفوه، ثم يركع فإذا ركوعه قريبًا من وقوفه، ويرفع مثل ذلك ويسجد نحوًا من ذلك.
وكان يصلي لله حتى تتشقق قدماه، وتتفطر دمًا، فإذا سئل عن ذلك قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟". فيا من تزهدون في الصلاة وتستعجلون الخروج منها ليكن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
2ـ وأما صيامه: فكان يصوم الأيام والليالي المتواليات مواصلاً لا يأكل في ليل ولا نهار، فيقول له أصحابه: إنك تواصل – يريدون أن يفعلوا مثله – فقال: "إني لست مثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني".
قال ابن القيم: لا يطعمه طعامًا حسيًّا وإلا لم يكن صائمًا، وإنما يطعمه اللطائف والمعارف والحكم والفتوحات الربانية.
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت وأن شربتا
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
3ـ وأما جهاده: فهو البطل المقدام والشجاع النحرير، يفر الكماة والأبطال وهو ثابت لا يفر.. فر عنه أصحابه يوم أحد فبقى في نفر قليل لم يتراجع ولم يتزعزع، وفروا عنه يوم حنين فجعل يضرب وجوه الكفار وحده ويقول: "أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب".
يقول علي رضي الله عنه: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.(صححه الألباني)
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا نطقت صدقت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
تمر بك الأبطال ترمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
ثانيا: عالم من الزهد:
1ـ أما مسكنه: فيحدثك عنه الحسن البصري يقول: دخلت حجر بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ولو شئت أن أمس السقف بيدي لمسسته.
دخل عليه عمر فلم يجد في البيت شيئًا يرفع إليه البصر ووجد الحصير قد أثر في جنبه الشريف، فبكى وقال: يارسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هم فيه من النعمة وأنت رسول الله وهذا حالك؟ قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!
وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "ما لي وللدنيا وما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها".
2ـ أما طعامه: فتقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع نساؤه من خبز الشعير 3 أيام. وكان يمر اليوم واليومان ولا يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يملأ به بطنه من الدقل. وقالت رضي الله عنها لعروة بن الزبير: كان يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قال: فما كان طعامكم يا خالة؟ قالت: الأسودان التمر والماء.
3ـ وأما ميراثه: فمات ودرعه مرهونة عند يهودي مقابل طعام يطعمه لأهله. هذا وهو الذي ملك الدنيا ولكنه زهد فيها ووزعها على أتباعه، فأعطى رجلاً مائة من الإبل وذاك مائة، وأعطى رجلاً مرة غنمًا بين جبلين، وفي الأخير قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
ثالثا: عالم من المعجزات:
يظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ليست عنده إلا معجزة القرآن، ولعمري إنها لأعظم معجزة، ولكنها ليست الوحيدة، بل إن معجزاته كثيرة كثيرة، وما أعطى الله نبيًا من أنبيائه معجزة إلا وأعطى من جنسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أعظم منها؛ فلئن كان أحيا لعيسى الموتى من الناس فلقد أنطق له الجذع، وكلمه الجمل، وسلم عليه الجبل، وسبح الحصى بين يديه. ولئن حفظ إبراهيم من النار فقد حفظ منها بعض أتباعه، وإن شق لموسى البحر فقد مشى عليه أتباعه، وبالجملة فإن معجزاته أكثر من أن تحصر أوتعد.
1ـ ومنها الجذع: كان جذعا من النخل يستند عليه صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فصنعوا له منبرًا، فلما صعد المنبر بكى الجذع حتى سمع أصحاب النبي صوت حنينه، وما سكت حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه.(3/24)
كان الحسن إذا ذكر هذا الحديث قال: يا مسلمون الجذع يحن إلى رسول الله وأنتم لا تشتاقون إليه؟
2ـ أما الاستسقاء: فكان عليه الصلاة والسلام يخطب على المنبر فدخل رجل فقال يارسول الله هلكت الأموال وجاعت العيال وضلت السبل فادع الله أن يغيثنا، فتبسم تبسم الواثق ورفع يديه وقال: اللهم أغثنا. قال أنس: ووالله ما في السماء من قزعة فإذا سحابة كالترس ظهرت من وراء الجبل فجعلت تنتشر حتى ملأت السماء وأمطرت، فما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر حتى سال الماء على وجهه فقال: أشهد أني رسول الله.
وبعد أسبوع من المطر جاء الرجل نفسه أو غيره فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وضلت السبل فادع الله لنا. فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنبت الشجر. فما يشير إلى ناحية إلا توجه إليها الماء، وخرج الناس يمشون في صحو كأنهم لا يمطرون منذ سبعة أيام.
3ـ انشقاق القمر: وهي آية أخرى ومعجزة كبرى حين شق له الله القمر عندما مر على صناديد الكفر فدعاهم إلى الله فقال له أبو جهل: لا أومن لك حتى تشق لنا هذا القمر!! قال: فإذا شققته بأمر الله تتبعوني وتؤمنوا؟ قالوا: نعم. فدعا ربه ففلق القمر فلقتين من دون الجبل. فقام أبو جهل ونفض ثيابه وهو يقول: سحرنا محمد سحرنا محمد، وصدق الله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الصافات:12-15]. {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ}[القمر:1-5].
وأما تسبيح الحصى في يديه وتفجير الماء من بين أصابعه وتسبيح الطعام بين يديه وتكليم الحيوانات له وتسليم الحجارة عليه، فكلها معجزات ثابتة وآيات بينة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
رابعا: عالم من الأخلاق
وقد جمع الله له كل خلق حسن ووصف جميل، ويكفيه قول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]
1ـ في تواضعه: يأكل على التراب، يقضي حاجة المحتاج، يضاحك الأطفال: "يا أبا عمير ما صنع النغير". يردف ابن عباس ومرة معاذ خلفه على دابته. تأخذ الأمة بيده فيذهب معها حتى يقضي لها طلبتها. وهو القائل: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".
2ـ في صبره: صبر على الفقر، صبر على المصائب، صبر في مجالات الوغى، أما مات بناته، أو ما قتل أصحابه بين يديه، أما رمى في عرضه. دعا ثقيف فرموه بالحجارة حتى أدموه وهو يقول: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله.
3ـ في كرمه: فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه . قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين . فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم أسلموا . فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة .
وعند الترمذي بسند صحيح، عن صفوان أمية رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وإنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني ، حتى إنه لأحب الخلق إلي.
وهو أحق الخلق بقول الشاعر:
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تعود بسط الكف حتى لو انه أراد انقباضا لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
خامسا: عالم في التربية
مع الرجال: ربى جيلاً من الصحابة شيوخه وشبابه ونساءه وأطفاله، ولتعرف قدر هذه التربية فانظر في سير الصحابة، تعلم قدر القوم وقيمة وكيفية التربية، فقد صنع من كل نفس منهم قدوة ومثلا يحتذى.
مع النساء: لقد حرر المرأة من إذلال الجاهلية لها، وجعل لها كرامة وقدرًا، وبعد أن كانت تباع كالبعير وتورث كالثوب ومجرد متاع ولهو يلهى بها، إذا به يرفع قدرها ويعلي شأنها بالإيمان ويجعلها عِرضًا مصونًا وجوهرًا مكنونًا. وحفظها ووصى بها ورفع شأنها أمًّا وزوجة وأختًا وبنتًا. وما زال يربي النساء ويعتني بأمرهن حتى كانت المرأة يموت زوجها وأولادها في سبيل الله فلا يهمها ذلك وتسأل عنه، وتقول كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل.
لقد صان المرأة في عفتها وطهارتها، ورفع قدرها وكرامتها حتى بلغت قيمتها أن تبذل من أجلها الأرواح وتنفق في سبيل حفظها المهج والنفوس، واسمع إليه يوصي بالنساء ويقول: "الله الله في النساء". "اتقوا الله في النساء". "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
لا قدوة لنا سواه
إن كل مدح مهما بلغ فهو صلوات الله وسلامه عليه أرفع منه وأعلى وهو في عن مدحنا ولكن لا غنى لنا نحن عن أن نمدحه، ولكن بعض الناس ممن لا يعرف تفاصيل حياته، يظن أنه كان مصلحًا دينيًا، أو قائدًا سياسيًا أو حربيًا، وأنه أمَّ المصلين وعنده بعض الحِكَم والأحاديث. لا.. إنه كان أولاً رسول الله ونبيه، وهذا مصدر عظمته.
لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة فكان قدوة للحكام، ودعا إلى الله فكان قدوة للدعاة، وقاد الجيوش فكان قدوة لجميع القادة، وربَّى الصحابة فكان قدوة للمربين. لقد علم الناس فنون الاقتصاد والسياسة والحرب والسلم والتربية والاجتماع.(3/25)
رعى الغنم ولكنه قاد الأمم، رقع الثوب وحلب الشاة وكنس البيت. ضحك وبكى، وصام وأفطر، وسافر وتاجر، وتزوج النساء. مازح الأطفال، وربى الكبار، وواسى المحتاجين، وأعطى المساكين. اغتنى فشكر، وافتقر فصبر. وبالجملة فقد اجتمعت فيه كل خصال الخير.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لنا أنموذجًا نتبعه، ومثالاً نحتذيه عليه الصلاة والسلام، فهل يعقل يا أمة الإسلام بعد كل هذا أن نبحث عن غيره، أو أن نتلمس سواه؟
لا والله لا ينبغي هذا ولا يكون، بل هو أسوتنا وقدوتنا.. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب:21].
================
حزب الفساد..
بعد أن سقطت أو ضعفت كثير الأحزاب العقائدية التي وجدت لها سوقا رائجة في الخسمينات والستينات في القرن الماضي، هذه الأحزاب التي كانت تناوئ الإسلام وتريد فرض فكرتها على الشعوب العربية كالشيوعية والاشتراكية (بأشكالها وألوانها المتعددة) والقومية بمعناها العنصري الضيق. بعد هذا الانحسار الذي أصابها لم يعد أمام مخططي سياسة محاربة الإسلام إلا أن يلجأوا إلى وسيلة أخرى تقف أمام موجة الرجوع إلى الدين ، وسيلة رخيصة سهلة وهي نشر الفساد الخلقي بين صفوف الناس وبين الشباب والشابات خاصة. وهذا له وسائل كثيرة منها : تشجيع الغناء والمغنين والرقص والراقصين ،وإقامة الحفلات على المدرجات الكبيرة، وإنشاء المهرجانات التي تفتح وتبرر باسم الثقافة وتشجيع الفنون، واللهو (البريء) فهذه الأمور تشغل الشباب والشابات عن تفكير في القضايا الجادة ، سواء كانت ثقافية أو سياسية.
ثم جاءت بعض القنوات الفضائية لتزيد الطين بله أو لتزيد في الطنبور نغما كما يقال. والذي يشاهد بعض هذه القنوات لا يستطيع إلا أن يجزم بأنها تسير ضمن مخطط واضح لإفساد الناس وإنشغالهم بالتوافه، إن خطورة هذه القنوات ليس في إشاعة الفساد وحسب ولكن هناك مخدرا آخر يؤثر على المشاهدين سواء علمت هذه القناة أم لم تعلم، وهو تشجيع أحلام اليقظة فمن خلال المسلسلات أو الأخبار غير الدقيقة والتحليلات التي كثرت في هذه الأيام من أصحاب الخبرات الاستراتيجية!! يعيش المشاهد أحلاما وهمية ، فيظن أن الواقع كما يشاهد على الشاشة.
أصحاب (الأيدلوجيات) المنحسرة يشجعون هذا الفساد فليس عندهم شيء يقدمونه للناس. والحقيقة أنهم لو كانوا أصحاب مبادئ لاحترموا الفكر الآخر، واعترفوا بالهزيمة وراجعوا أنفسهم، وفكروا مليا بالتحولات الواقعة ، ونظروا للإسلام نظرة مجردة عن الهوى ، فالإسلام دين يحرر الإنسان من قيود العبودية لغير الله، والإسلام لا يقيد حرية الإنسان التي يحتاجها في بحثه عن المعاني الصحيحة، والاجتهاد فيما ينفع الإنسان ، إن استرقاق الإنسان لا يكتب له الدوام، ولابد أن ينتبه يوما للوسائل التي تحاول إخضاعه وتسخيره لشهوات فئة محدودة.
بعض الدول كانت تستعين بأصحاب هذه المذاهب لمواجهة التيار الإسلامي، ولكن بعد ضمور هذه الأفكار وانكماش هذه المذاهب لم يبق لها إلا أن تشجع الفساد الخلقي والمالي، فعندما يقبل الموظف أو أي فرد في مؤسسة الرشوة فهذا دليل على انحطاط أخلاقه وانهيار شخصيته بحيث يصبح لا قيمة له. هل نقول إن حزب الفساد هو الحزب الكبير الآن في الوطن العربي، وهو الحزب الوحيد المصرح له بقوة أن يمارس هوايته ، ربما يكون ذلك ، ولكنه حزب ضعيف (إن كيد الشيطان كان ضعيفا).
لا شك أن الاستقامة تحتاج إلى نضال طويل كي تفرض نفسها في هذا الوسط ، تحتاج إلى إرادة قوية وتضحية معنوية ومادية ، أما المهاونة السلبية التي تردد: (إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون) فلا تنفع في هذا المقام.
============
عشر ذي الحجة.. واغتنام مواسم الخيرات
اتفقت كلمة العقلاء والعلماء على أن الليل والنهار يحملان العبد إلى أجله، وأن من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر، فالأيام مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة، حتى يُنتهَى بهم إلى آخر سفرهم، والسعيد من اغتنم خيرها، والبعيد من حرم استغلالها، وفرط في حق نفسه وربه بتضييعها، ولم يقدم لنفسه زادًا، وانقطاع السفر عن قريب، والأمر عاجل وكأني به قد بغتك.
لقد جعل الله الليل والنهار خلفة يتبع بعضهما بعضًا ويخلف أحدهما الآخر ليكون في كل واحدٍ من صاحبه وسابقه مستعتب، فمن عجز عن السابق عمل في اللاحق: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)[الفرقان:62].
على أن أيام الله ليست كلها عند الله سواسية، بل فضل بحكمته بعضها على بعض، واختار بعضها من بعض، "فلله خواص من الأزمنة والأمكنة والأشخاص". (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص: 68].
وقد اختار الله من الأيام أياما جعلها مواسم خيرات، وأيام عبادات، وأوقات قربات، وهي بين أيام السنة كالنفحات، والرشيد السعيد من تعرض لها، ونهل من خيرها، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده].(حسنه الألباني في الصحيحة).
ومن هذه المواسم النيرات، والنفحات المباركات، أيام العشر الأول من ذي الحجة الحرام، فقد اختارها الله على ما سواها، ورفع شأنها واجتباها، وجعل ثواب العمل فيها غير ثوابه فيما دونها، علاوة على ما خصها الله به من أعمال فريضة الحج التي لا تكون في غيرها.(3/26)
فضائل عشر ذي الحجة:
فمن مظاهر هذه الاختيار وذلكم التكريم والتعظيم:
* إقسام الله تعالى بها في كتابه: والله لا يقسم في كتابه إلا بعظيم. قال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1، 2]. قال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغيرهم، ورواه الإمام البخاري.
* وهي الأيام المعلومات في قوله تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قال ابن عباس: أيام العشر كما في تفسير ابن كثير.
* اشتمالها على أعمال الحج: الذي هو من أفضل الأعمال وأعظمها أجرا؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال حج مبرور] (متفق عليه).
* وجود يوم عرفة فيها: وهو اليوم الذي يباهي الله بأهل الموقف ملائكته ففي الحديث: [إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي].(رواه الطبراني عن ابن عمر وحسنه الألباني) .. هذا مع ما فيه من مغفرة الذنوب للعباد وبسط يد الرحمة والعفو والتوبة. وما جعل الله للصائم فيه من مغفرة ذنوب سنتين جميعا.
* وفيها يوم الحج الأكبر: الذي هو خير أيام الدنيا على الإطلاق وهو أعظم الأيام حرمة عند الله تعالى.. فقد روى الترمذي والنسائي والبيهقي عن عمرو بن الأحوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: [أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ قالوا: يوم الحج الأكبر. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا...] الحديث.
قال ابن القيم رحمه الله: "خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر" كما في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: [إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر]." ويوم القر هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر. وأكثر الناس يغفل عن فضيلة هذا اليوم فينتبه.
* وفيها أيام منى: التي هي أيام رمي الجمار وهي عيد أهل الإسلام وأيام أكل وشرب وذكر لله تعالى
* ثم ما فيها من الأضاحي والتزام أمر الله وإحياء سنن المرسلين محمد وإبراهيم عليهما أزكى الصلوات والتسليم.
ولما كانت أيام العشر تحوي كل هذه الفضائل قدمها بعض أهل العلم في الفضل على أيام العشر الأواخر من رمضان، وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا تفصيلا صافيا وأورد كلاما شافيا كافيا فقال: "الأيام العشر الأول من ذي الحجة خير من أيام العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان خير من ليالي العشر الأوائل من ذي الحجة".
وقال ابن حجر في الفتح : "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".
فضل العمل فيها
أما عن فضل العمل في أيام العشر، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء].
وعند الإمام البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى...].(قال الألباني سنده جيد).
وروي الطبراني في معجمه الكبير بإسناد جيد: [ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير].
ما يستحب من العبادات فيها:
1- الحج :
إن من أفضل ما يعمل في هذه العشر حج بيت الله الحرم، فمن وفقه الله تعالى لحج بيته وقام بأداء نسكه على الوجه المطلوب فله نصيب - إن شاء الله - من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما . والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة] متفق عليه.
2- الصيام:
فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال. وقد اصطفاه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: [كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به] (البخاري).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. أول اثنين من الشهر وخميسين] (النسائي وأبو داود وصححه الألباني).
3ـ صوم يوم عرفة لغير الحاج :
وهو وإن كان من أيام التسع إلا أننا خصصناه بالذكر تنبيها على فضله ففيه زيادة أجر ورجحان مثوبة.. فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ] أخرجه مسلم . فلا يفوتنك أخي المؤمن هذا الأجر العظيم.
4. الأضحية يوم العيد :(3/27)
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : [ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا] (متفق عليه). والصفحة هي جانب العنق.. والسنة أن يشهد المضحي أضحيته، وأن يباشرها بنفسه، وأن يأكل منها شيئاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإن وكَّل غيره كالجمعيات والهيئات الخيرية جاز، ولو كانت خارج البلاد.. وتجزيء الشاة عن واحد والبدنة أو البقرة عن سبعة.
5- الإكثار من التحميد والتهليل والتكبير :
فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر وسائر أنواع الذكر. والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى. ويجهر به الرجال وتخفيه المرأة ؛ قال الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (الحج/28). والجمهور على أنها أيام العشر كما ذكرنا عن ابن عباس وغيره.
وفي المسند عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد] (وصحّح إسناده العلامة أحمد شاكر).
والتكبير في هذا الزمان صار من السنن المهجورة ولاسيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياء للسنة وتذكيراً للغافلين، وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
6ـ التكبير دبر الصلوات:
وهذا أيضا مما يسن في هذه الأيام ومن صالح العمل فيها، ويبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وهو الثالث عشر من ذي الحجة. فعن شقيق بن سلمة رحمه الله قال : " كان علي رضي الله عنه يكبر بعد صلاة الفجر غداة عرفة ثم لا يقطع حتى يصلي الإمام من آخر أيام التشريق ثم يكبر بعد العصر" أخرجه ابن المنذر والبيهقي .و صححه النووي وابن حجر. وثبت مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال ابن تيمية : " أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة : أن يكبر من فجر عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة .. " ( مجموع الفتاوى 24/20) . وقال ابن حجر: "وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود : إنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى . أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم " ( الفتح 2/536) .
أما صيغة التكبير:
أ) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر كبيرًا.
ب) الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد.
ج) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. والله أكبر. الله أكبر. الله أكبر ولله الحمد.
وهذه الصيغ ذكرها كلها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح أثر ابن مسعود رضي الله عنه: "أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، و الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد " .
7ـ سائر أعمال البر:
كالصدقات ونوافل الصلوات، وصلة الأرحام، ومراعاة الأيتام، وكل عمل صالح سواها، فهي كلها داخلة في العمل الصالح الذي هو في هذا الشهر أفضل من غيره.
فلنبادر باغتنام تلك الأيام الفاضلة، قبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل. نسأل الله أن يديم علينا أيام النعم ويعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
============
يا باغي الحج.. أقبل
بعد أن أوحى الله لنبيه الخليل إبراهيم، أن يبني له بيتًا، وأعلمه بمكانه ففعل، فلما انتهى من بنائه أمره الله بأن يؤذن في الناس داعيًا لهم إلى حج هذا البيت.. فذُكِر أنه قال: يا رب! كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟! فقال: ناد وعلينا البلاغ. فقام إبراهيم على مكان مرتفع – قيل المقام أو الصفا أو جبل أبي قيس – فنادى: أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه. فذكر أن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجاب كل شيء سمع من حجر ومدر وشجر، وكل من كتب الله له الحج إلى يوم القيامة.
لم تبق إلا أيام قلائل وينطلق وفد الله إلى بيت الله، ينطلق من لبَّى دعوة الله، وأجاب نداء الخليل، واستجاب لأمر الرسول الجليل صلى الله عليه وسلم.. كلهم يتوجه إلى مكة شرفها الله؛ ليطوفوا بالبيت العتيق، ويشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.. أسرع قوم وتباطأ آخرون مع القدرة؛ فأردنا أن نبين بعض فضائل تلك الشعيرة العظيمة؛ عسى أن يكون في الكلام منفعة للقارئين، وتسلية للمنفقين، وحث للقادرين المتقاعسين المتكاسلين.
الحج فريضة
الحج ـ كما تعلمون ـ فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه، أوجبه الله على المستطيع من الأمة، ووجوبه ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين. ولعظم فضله وكبير شأنه رغَّب فيه الشرع ترغيبًا شديدًا، ودعا القادرين إليه دعاءً حثيثًا، ورتب عليه من الأجر والثواب شيئًا كبيرًا، وأجرًا كثيرًا.
والحج أفضل الأعمال عند الله، أو من أفضلها كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله ورسوله. قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور. (رواه البخاري ومسلم).(3/28)
وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أيضا:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال عند الله تعالى إيمان لا شك فيه وغزو لا غلول فيه وحج مبرور.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وبر الحج: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام، وأن يرجع من حجه زاهدًا في الدنيا، راغبًا فيما عند الله تعالى.روي هذا عن الحسن البصري.. وقد جاء في حديث جابر مرفوعا: إن بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام.وسنده حسن.
الحج والجهاد
الجهاد عمل من أحب الأعمال إلى الله ورسوله، ولكن في زمان عطل فيه الجهاد، وغلقت أبوابه، يبحث المسلم عن بديل أو ما يشبهه حتى يأتي الله بالفرج، ومن أبواب الجهاد الحج كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة".(رواه النسائي).
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل الأعمال؛ أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور". (رواه البخاري)
وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إني جبان وإني ضعيف!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ إلى جهاد لا شوكة فيه.. الحج". [رواه ابن حبان ورجاله ثقات].
الحج يهدم ما قبله
غاية المؤمن في هذه الحياة وأقصى ما يتمناه: أن يتوب الله عليه، وأن يعفوَ الله عنه، وأن يغفر له خطاياه. والمؤمن الصادق يطرق أبواب التوبة ويتعرض لأسباب المغفرة ويسلك سبل العفو، ومن أعظم هذه السبل سبيل الحج؛ فإن الحج يحط الخطايا حطَّا، ويمحق الذنوب محقًا. وقد روى الإمام مسلم في قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي. فقال: مالك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟.
فالإسلام يهدم ما كان قبله من الكبائر والبلايا، والهجرة تهدم ما كان قبلها من المعاصي والرزايا، والحج يهدم ما كان قبله من الذنوب والخطايا. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
وأجاب من سأله عن فضل الحج بقوله: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة; وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرًا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك; وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك; وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك. (رواه الطبراني وحسنه الألباني)
بشارتان للحجاج والمعتمرين
وبعد كل هذه الفضائل فلئن كان ثمة عجب فمن أناس يملكون المال والعافية والقدرة ثم يزهدون في الحج وينصرفون عنه، إما حرصًا منهم على المال، أو خوفًا من الفقر، أو زهدًا فيما عند الله من الأجر. والأعجب من ذلك أناس ينفقون أموالهم في الأسفار إلى مختلف الأقطار، ويضن أحدهم على نفسه أن يذهب لقضاء فريضة الحج؛ ليسقط عن نفسه الإثم والمساءلة أمام الله. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشَّر المنفقين المال في الحج والعمرة ببشريين عظيمتين:
الأولى: أن النفقة في الحج ليست ضائعة، بل هي عند الله باقية يضاعفها لصاحبها أضعافًا كثيرة، كما في حديث بريدة: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله؛ الدرهم بسبعمائة ضعف".[رواه الطبراني، وإسناده حسن].
وأما الثانية: فهي أعظم من الأولى، وأثلج لصدور الموقنين بكلامه عليه الصلاة والسلام، المسلّمين لأخباره، المعتقدين صدقه وأنه لا ينطق عن الهوى؛ فقد أخبرهم أن كثرة النفقات في الحج والعمرة من أعظم أسباب الغنى، فقد روى أحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تابعوا بين الحج وعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة.. وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة].
فريضة عُمْرية فبادروها
أجمع العلماء على أن الحج فريضة عمْرية، أي أنه لا يتكرر (يعني وجوبه)، وأنه لا يجب في العمر إلا مرة، إلا أن يوجبه الإنسان على نفسه بنذر أو غيره، فيجب عليه وفاءً لنذره. ومن كلام النبي عليه الصلاة والسلام، الذي رواه أحمد وغيره: "الحج مرة، فما زاد فهو تطوع".(3/29)
فمن توفرت فيه شروط الحج وتيسرت له أسبابه فليبادر بأداء فريضة الله، فإن الحج عند كثير من العلماء واجب على الفور، فمن قدر عليه وأخره فهو (عندهم) آثم؛ وقد قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: "تعجلوا الحج؛فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". وقال: "من أراد الحج فليعجل؛ فقد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتكون الحاجة". وقد قال تعالى قبل ذلك: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133]، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الحديد:21].
نسأل الله العظيم أن يمن علينا وعلى كل مسلم بحج بيته الكريم، ولا يحرمنا وكل قارئ من هذا الفضل العميم.. آمين.
===============
كن ورعا.. تكن أعبد الناس
هل تحب أن تكون من جلساء الله يوم القيامة؟ بلى إنك لتحب ذلك، إنه لمقام عظيم، ولكن أنى لنا أن نصل إلى هذه المكانة السامقة.. وهل من اليسير أن نرتقي هذه القمة؟!
الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أضاء لك المشعل ورفعه عاليا للناظرين فقال: جلساء الله غدا أهل الورع والزهد..
الورع الذي يطهر القلب من الأدران، ويصفي النفس من الزبد.. الورع الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "كن ورعا تكن أعبد الناس". وقال: "فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع" .
وقالت عائشة : إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة .. الورع.
وسئل الحسن: ما تقول في الورع؟ قال: ذاك رأس الأمر كله.
وقال عيسى عليه السلام: "لو صليتم حتى تصيروا مثل الحنايا، وصمتم حتى تكونوا أمثال الأوتاد، وجرى من أعينكم الدمع أمثال الأنهار، ما أدركتم ما عند الله إلى بورع صادق..
فما هو الورع إذًا؟
قالوا : الورع أخذ الحلال الصرف، وترك كل ما فيه شبهة.
قال الفضيل : "من عرف ما يدخل جوفه كتب عند الله صديقا". وقال سهل التستري: "من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى".
وقال يونس بن عبيد: الورع.. الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس كل طرفة عين.
قال الصحابة : كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام.
والورع ظاهر وباطن: فالظاهر: ألا تتحرك إلا إلى الله، والباطن ألا تدخل قلبك سواه.
كيف الطريق للورع؟
هو يسير لمن يسره الله عليه، يقول سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع! ما حاك في نفسك فاتركه..
لقد اقتبس سفيان هذا المعنى من مشكاة النبوة، ففي حديث البر والإثم : " والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
وقد جمع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الورع في كلمة واحدة فيما رواه الترمذي عن أَبِي هُرَيْرَةَ حيث قَال: "مِنْ حُسْنِ إِسلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ" . فالورع ترك ما لا يعني المرء.. وهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش و و و .. فهذه الكلمة كافية شافية في الورع .
ويبين عليه الصلاة السلام هذا المعنى بتعبير أوضح عن طريق ضرب المثل لكي يترسخ المعنى المراد في الذهن ففيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ الْحلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ألا وَهِيَ الْقَلْبُ .
فصيانة الدين والعرض وصلاح القلب بترك الأمور المشتبهات، وهي المسائل التي ليست بواضحة الحل والحرمة فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها.
وبين عليه الصلاة والسلام أن للملوك أماكن يحمونها عن الناس ويمنعونهم من دخولها، فمن دخلها يعرض نفسه للعقوبة، فمن احتاط نأى بنفسه عن مقاربة حماهم، ولله عز وجل حمى وهي المعاصي والمحرمات فمن ارتكب المحرمات استحق العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقرب المحرمات، ولا يتعلق بأمر يقربه من المعصية ولا يدخل في شيء من الشبهات.
لذا فإن ميمون بن مهران يقول كما ذكر عنه الإمام أحمد في كتاب الورع: (لا يتم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال).. ولهذا السبب كان الصحابة رضوان الله عليهم يتركون أبوابا كثيرة من الحلال خوفا من الوقوع في شيء من الحرام.
الرسول الأمين يربي
روى الشيخان عن أبي هريرة : أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كخ كخ ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة".
وعند البخاري: "مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق، قال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها ."
الصحابة يعلِّمون
روى البخاري: عن أنس قال: إنكم لتعملون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات.(3/30)
يقول هذا وهو يخاطب جيل التابعين، فبالله عليكم ماذا يقول لو رأى جيلنا؟!
وروى البخاري أيضا: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه.
وفي بعض الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك قال : أو ما علمتم أن الصديق لا يدخل جوفه إلا طيبا .
وفي الإحياء : ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء
وأخرج أحمد في الزهد عن ابن سيرين قال : لم أعلم أحدا استقاء من طعام أكله غير أبي بكر. أرأيتم إلى ورع الصديق رضي الله عنه!!
وقال عمر رضي الله عنه تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا.
وذكرالإمام أحمد في الزهد قال : "قدم على عمر مسك وعنبر من البحرين فقال عمر: والله لوددت أني وجدت امرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل: أنا جيدة الوزن فهلم أزن لك! قال: لا، قالت: لم؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا - أدخل أصابعه في صدغيه - وتمسحين به عنقك فأصبت فضلا على المسلمين".. هكذا يضرب المثل لكل من أراد أن يقتدي.
القدوات يعلِّمون الورع
وانظر رعاك الله إلى هذه المرأة التي بلغت من الورع أقصى المراتب امرأة تسأل الإمام أحمد : إنا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية ـ الحرس ـ أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ فسألها من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي! فبكى وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق.
إنها أخت بشر الحافي الذي كان يقول: أشتهي شواءً منذ ثلاثين سنة لكن لم يصف لي درهمه.
وهاك مثلا من التربية الفذة على الورع فعن حماد بن زيد قال : كنت مع أبي فأخذت من حائط تبنة، فقال لي: لم أخذت؟ قلت: إنما هي تبنة! قال: لو أن الناس أخذوا تبنة هل كان يبقي في الحائط تبن؟! يعلم ولده عدم استصغار التبنة حتى لا يستصغر في المستقبل ما هو أكبر منها.
وهذا الحسن بن عبد العزيز الجروي شيخ البخاري لم يقبل من إرث أبيه شيئا لشبهة خالطته.
قال عبد المجيد بن عثمان صاحب تاريخ تنيس: كان صالحا ناسكا وكان أبوه ملكا على تنيس ثم أخوه علي، ولم يقبل الحسن من إرث أبيه شيئا، وكان يقرن بقارون في اليسار.
وأما ابن المبارك الإمام فقد سافر من بلاد مرو (بخراسان) إلى الشام ليرد قلما كان قد استعاره من رجل هناك، فلما عاد إلى مرو وجد القلم معه فعاد مرة أخرى إلى الشام ليرد القلم.
فهل نحاول أن نسير على طريق الورع حتى نلحق بالرجال الورعين ونعيد لأمتنا سالف مجدها.. هذا الطريق واضح فأين السالكون؟!.
=============
ياليت رأسي قدم!!!
انقلاب الموازين واختلال القيم سمة بارزة من سمات هذا الزمان الذي نحياه، وإذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى قد قال في زمانه: " إذا رأيتم شيئا مستقيما فتعجبوا".. فإن هذه المقولة تكاد تشمل جميع مناحي حياتنا .
وهذا الخلل نكرسه نحن من خلال مؤسساتنا بمختلف أنواعها وخاصة المؤسسة الإعلامية التي استطاعت أن تقلب الموازين وتعيد صياغة العقول وتقييم النفوس: فالأقزام يتعملقون، والهوامش يُشار إليهم بالبنان، والتوافه هم الأكثر جاذبية ويسيل لعاب الأمنيات نحوهم، وفي مقابل ذلك لا نرى أثرًا للعمالقة ؛ وإذا ما ذُكروا فإما تهمّش أدوارهم أو تشوه صورتهم، وما تزال صورة المعلمين وعلماء الدين على شاشات التلفاز أو السينما تثير الاشمئزاز والسخرية، فذهبت هيبة الدين واللغة والتقاليد، وتحطمت الأخلاق والقيم بتحطيم هذه الشخصيات وتشويهها ..
لا تزال صورة اللاعب الذي أحرز ميدالية أوليمبية فمنحته دولته مليون جنيه ماثلة أمامي، في الوقت الذي لا يجد فيه العالم وطالب العلم في تلك الدولة ما يسد به حاجاته الأساسية.. ولا تزال أسهم لاعبي الكرة والممثلون والبطالون في بلادنا في ارتفاع وأسهم أهل العلم والمثمرون في انخفاض نتيجة لهذه التوجهات الفاسدة حتى أصبحت همة كل شاب أن يكون لاعبا أو فنانا ممثلا كما يسمونه..
الحليم حيرانا
إنه واقع أليم لكنه واقع نعيشه جعل هذا الشاعر المكلوم يكتب تحت عنوان "الحليم حيرانا" وما أصدقه من عنوان يصيب كبد الحقيقة فيقول:
سل الذين فهموا.. ... ..أما لديكم حكم
يحكم في أمر لديه.. ... ..المبصرون قد عموا
قالوا لدينا حكم.. ... ..مدرب معلم
إذا عرضت الأمر يأ.. ... ..تيك الجواب المحكم
يا سيدي يا حكم.. ... ..هذا سؤالي المبهم
جاري سعيد عالم.. ... ..مخضرم معلم
موسوعة في كل فن.. ... ..بالعلوم مغرم
وعقله جوهرة.. ... ..بل للذكاء منجم
إبداعه في كتب.. ... ..بها يضاء المعتم
وفكرة رائعة.. ... ..تهفو إليها الأمم
وإن أردت المرشد الـ.. ... ..داعي فذاك العلم
كم علم الأجيال كم.. ... ..من علمه قد غنموا
علومه كنوزه.. ... ..لكن جاري معدم
يعيش في ضيق توا.. ... ..رت في سواه النعم
كأنما الأرزاق صيد.. ... ..والتعيس مُحرِم
يسعى لها مجاهدًا.. ... ..لكنها تنهزم
لكن جاري سالما.. ... ..أحواله تبتسم
كأنما الأرزاق حو.. ... ..ل بابه تختصم
تسعى له وما سعى.. ... ..بل إنها تزدحم
لأنه بالكرة الشما.. ... ..ء صبٌّ معرم
أسطورة النادي وفي النـ.. ... ..ـادي تشع الأنجم
تأتي المباراة فيأ.. ... ..تي للسخاء موعد
وإن يحقق هدفًا.. ... ..تهطل عليه النعم
سيل الهدايا دافق.. ... ..كأنه عرمرم
سيارة جديدة.. ... ..ومبلغ محترم(3/31)
كأنما الشيكات موج.. ... ..حوله يلتطم
أو أنها من حوله.. ... ..طود علا أو هرم
وسالم لدى سعيد.. ... ..جاهل لا يفهم
لكن ذاك جائع.. ... ..وإن هذا متخم
وذاك ظمآن وذا.. ... ..تهمي عليه الديم
الألف تأتيه ولا.. ... ..يأتي لذاك الدرهم
فيا عزيزي الحكم.. ... ..عقلي غزته الظلم
حيران لا يدري فقل.. ... ..كيف يكون الكرم
ما سر هذا الحيف ما.. ... ..تفسيره؟ ما الحكم؟
غمغم قاضينا وقد.. ... ..غامت لديه القيم
وصاح من أعماقه.. ... ..يا ليت رأسي قدم
لقد أصاب هؤلاء الماكرون الشباب في مقتل حينما غيّبوا قدوتهم التي ينبغي لهم أن يقتدوا بها، بل وشوهوها ومسخوها فأصبحت مثار سخرية وتندّر .. فإلى من يلجأ الشباب إذن ليكون قدوته ؟
فهل ياترى تنصلح أحوال أمتنا وتعود إلى تصحيح المفاهيم وضبط الموازين وإعادة القيم المفقودة .. أم نقول كما قال الشاعر : ياليت رأسي قدم؟!
==============
قد أظلكم شهر كريم
ها قد أقبل رمضان فهبت على القلوب نفحات نسيم القرب، وسعى للمهجورين بالصلح، ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، وللمستوجبين النار بالعتق.
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة.. يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة.
من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟.. ومن لم يقرب فيه من مولاه وينال رضاه فقل لي بربك متى يفلح؟!.
روى الإمام أحمد وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر". وفي مصنف ابن أبي شيبة: "غنم للمؤمن ، ونقمة للفاجر، أو قال يغتم به الفاجر".
نعمة كبرى
إن بلوغ رمضان نعمة كبرى، وإنما يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يبلغه إياه "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". وكان السلف يدعون ربهم ستة أشهر كاملة أن يبلغهم إياه لما يعلمون فيه من الفضيلة.
فإذا كان الله قد مَنَّ عليك ببلوغه ومد في عمرك لوصوله، فالواجب استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة؛ فإنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، وخسارة ما بعدها خسارة.
وأي حسرة أعظم من أن يدخل الإنسان شهر رمضان ويخرج منه وذنوبه مازالت جاثمة على صدره، وأوزاره مازالت قابعة في كتاب عمله؟!.
وأي مصيبة أكبر وأعظم وأجل من أن يدخل الإنسان فيمن عناهم جبريل الأمين والنبي الكريم في دعائهما: "من أدرك رمضان ولم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قُلْ آمين. فقلت: آمين".
وكيف لا يبعده الله وهو لم ينل المغفرة في زمانها، ولم تبلغه التوبة في موسمها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن رمضان في الأحاديث الصحيحة:
ـ من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ـ من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
- من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
- من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفًا.
- من صام يومًا في سبيل الله ختم له به دخل الجنة.
فمن حرم المغفرة في شهر المغفرة فماذا يرتجي؟!
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه .. ... .. ففي أي وقت يستنير ويزهر؟
شهر عبادة ومسابقة
إن رمضان ليس شهر كسلٍ ونوم، وأكل وشرب، ووخم وضعف، وإنما هو شهر مسابقة ومنافسة، مسابقة إلى الطاعات، ومنافسة في الخيرات، وسعي إلى العبادات. قال الحسن بن أبي الحسن (البصري): "إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه لطاعته، نسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا".
إن الله تعالى قد هيأ في رمضان لعباده أسباب الطاعة، وفتح لهم باب المنافسة فيها. روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
إننا خلال سويعات سندخل مضمار سباق وسوق تجارة مع الله عز وجل، وأربح الناس صفقة أسبقهم إلى ربه، وأحسنهم صيامًا وأفضلهم قيامًا وأكثرهم عبادة لربه، وأقلهم معصية.
إن المسابقة إلى الله أصل في هذا الدين. قال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الحديد:21]. (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133].
لقد كان كل واحد من السلف إذا قرأ هذا الكلام ظن نفسه المخاطب به فسابق القومَ إلى الله ليكون أول الواصلين.
قالت جارية مالك بن دينار لسيدها: رأيت كأن مناديًا نادى من السماء الرحيلَ الرحيلَ، فما ارتحل إلا محمد بن واسع.. فبكى عمرو حتى غشى عليه.
وقال أبو مسلم الخولاني: لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد. وقال سهل التستري: لو فاثنى وردي ما استطعت أن أقضية. "لأن وقته كله مشغول بالطاعة"(3/32)
إن الأمر جد والله (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات:23]. قال صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" (متفق عليه)
فطوبى لعبد قد أعد لرمضان عدته، وأتخذ له أهبته، وعلم أن الأمر جد فشمر عن ساعد الجد.. أولئك هم الصادقون، وأولئك هم الفائزون.
اللهم بلغنا رمضان بمنك، وأعنا فيه على طاعتك بكرمك، وتقبله منا برحمتك وفضلك.
=============
محاسبة النفس ضرورة
لما كانت النفس من الأعداء الملازمين للإنسان في ليله ونهاره، وفي حله وترحاله، ولما كانت حاضرة في كل أحواله، تزين له الباطل، وتدعوه إلى الدعة والكسل، وتسعى لإيقاعه في الزلل...لزم أهل العقول والنهى محاسبتها، لإيقافها عند حدها، ومنعها عن زيغها، اتباعاً للتوجيه الإلهي الكريم، والنداء الرباني العظيم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(الحشر:18)، أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، واتقوا الله تأكيد ثان، واعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يحث على محاسبة النفس فيقول : (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله ) رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه.
وقد ذكّر الصحابة الكرام بمحاسبة النفس، ودعوا إلى التأهب للعرض الأكبر، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم" مذكراً بقول الله عز وجل: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } (الحاقة:18)، أي تعرضون على عالم السر والنجوى، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله : "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة ".
فمحاسبة النفس أمر ضروري يعود بالنفع على صاحبه في الدنيا والآخرة، وهكذا كان هدي السلف الأبرار، والسابقين الأخيار، فهذا الحسن البصري يقول : "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته".
وقال ميمون بن مهران : "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك .
وقال ميمون أيضا : "إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص، ومن شريك شحيح" .
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : مكتوب في حكمة آل داود : "حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، وإجماما للقلوب".
وقال الحسن : المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول : والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول : ما أردت إلى هذا ؟ ما لي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله .
وقال مالك بن دينار : رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدا.
ومحاسبة النفس نوعان
1- محاسبة النفس عند الهم والإرادة، قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه ، فإن كان لله مضى ، وإن كان لغيره تأخر .
2- محاسبة النفس بعد العمل، وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله .
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله .
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة ؟ فيكون رابحا، أو أراد به الدنيا وعاجلها ؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
فوائد المحاسبة
1- الإطلاع على عيوب النفس، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى .
2- معرفة حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي، وهي قليلة المنفعة جدا .(3/33)
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال : بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع، فقال : يارب ارحمه، فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه : لو دعاني حتى ينقطع قواه ما استجيب له حتى ينظر في حقي عليه .
فمن أنفع الأمور للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله، ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فالذي ينبغي على المؤمن العاقل أن يحاسب النفس ويشارطها على حفظ جوارحه: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرج، واليد، والرجل، ثم مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب رأس المال كله، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحس بالخسران وتيقنه إستدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه : من الرجوع عليه بما مضى .
وما أحوجنا اليوم إلى المحاسبة، ونحن في زمن كثرت فيه دواعي الشهوات، وتعددت المغريات، وتنوعت الملهيات، فالأمر جد أيها الأخوة الكرام، فلا بد من الحزم والإقدام، وقبل الرحيل وفوات الأوان.
ومما يعين المرء على تلك المحاسبة : معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا .
إضافة إلى معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وصحبة النبيين والأخيار، وخسارتها: دخول النار والحجاب عن المولى سبحانه، مع من حجب من الأشقياء والفجار.
وفي الختام ندعو الله أن يحفظنا وإياكم من الزيغ واتباع الهوى، وأن يزكي أنفسنا بطاعته، فهو وليها ومولاها، والحمد لله رب العالمين.
===============
أكثروا ذكر هاذم اللذات
الموت مخلوق عجيب من مخلوقات الله تعالى، خلقه ليبلو العباد أيهم أحسن عملا: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك:1، 2].
وقد نصب الله تبارك وتعالى الموت دليلاً على قدرته الباهرة وعظمته القاهرة؛ فقضى به على الصغير والكبير، والغني والفقير، والوزير والحقير، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والعاصي، والذاكر والناسي. قصم به رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة. أذل به رقابهم، وأخضع له أعناقهم، ونقلهم جميعًا راغمين صاغرين من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، ومن أُنس العشرة إلى وحشة الوحدة؛ حيث لا أنيس ولا جليس، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل.
والموت كما يعرفه العلماء هو: "انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له". ومع هذا تبقى حقيقة الموت ـ كما الحياة ـ آية من آيات الله، ويظل سريان الروح في البدن وانتزاعها منه سرًا خافيًا وراء الستر المسبل بيد الله تعالى، لا يعرف كيفية ذلك إلا الذي خلق الموت والحياة ؛ كما ذكر الإمام القرطبي في تذكرته قال: كان أعرابي يسير على جمل له فخرَّ الجمل ميتًا، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به ويتفكر فيه، ويقول: "مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟ هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة؟ ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي عن الحركة منعك.
جاءته من قبل المنون إشارة.. ... .. فهوى صريعًا لليدين وللفم
هذي يداه وهذه أعضاؤه.. ... ..ما منه من عضو غدا بمسلم
هيهات ما حبل الردى محتاجه.. ... ..للمشرفي وللحسام اللهذم
هي ويحكم أمر الإله وحكمه.. ... ..والله يقضي بالقضاء المحكم
يا حسرتا لو كان يقدر قدرها.. ... ..ومصيبة عظمت ولما تعظم
خبر علمنا كلنا بمكانه.. ... ..وكأننا في حالنا لم نعلم
وإذا كان الموت هو "انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقتها له". إلا أنه ليس عدمًا محضًا ولا فناءً صرفا، وإنما هو تبدل من حال إلى حال، وانتقال من دار إلى دار. قال عمر بن عبد العزيز: "يا أهل الدنيا إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما خلقتم للأبد والبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار".
كل نفس ذائقة الموت
استأثر الله سبحانه بالملك والبقاء، وأذل رقاب الخلق بما كتب عليهم من الفناء، فليس مخلوق إلا وهو ميت، يموت الصالحون والطالحون، يموت النبيون والمرسلون، يموت الملائكة المقربون، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)[الرحمن:26، 27]. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آل عمران:185] (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص:88].
روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضيين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون...".(3/34)
فاعلم يا عبد الله أن لكل واحد منا مع الموت موعدًا مضروبًا، وأجلاً معدودًا، ووقتًا محسوبًا، وأنه إذا جاء فلا محيد عنه ولا محيص منه، (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[يونس:49].
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:10، 11].
موعد مجهول:
فإذا علمت أنك ميت لا محالة، وأن موعد الموت غيب لا يعلمه إلا الله، فلا أحد يعلم متى ينتهي أجله ولا أين توافيه منيته، وإنما هو غيب غيبه الله عن العباد فلا يعلمه إلا هو (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)[لقمان:34].. أدركت عندئذ معنى قول حبيبك صلى الله عليه وسلم : "أكثروا من ذكر هاذم اللذات"
فإن كثرة ذكر الموت تعطيك ثلاث فوائد: تعجيل التوبة، والرضا بالقليل، وعدم مزاحمة أهل الدنيا في دنياهم.
كما وأن نسيان الموت والغفلة عنه يورث أشياء ثلاثة: قسوة القلب. وتسويف التوبة. وحب الدنيا.. التي من أحبها وتعلق قلبه بها أورثته شغلاً لا يفرغ منه أبدًا، فهو كترس في آلة أو كثور معلق في ساقية. وهمّا لا ينصرف عنه أبدًا. وعدم رضًا لا ينفك عنه أبدًا ولو ملك كنوز الأرض.
قال عمر بن عبد العزيز: "أكثر من ذكر الموت، فإن كنت واسع العيش ضيقه عليك، وإن كنت ضيق العيش وسعه عليك".
قال إبراهيم التيمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل".
قال الحسن: "ما رأيت عاقلاً قط إلا أصبته من الموت حذرًا وعليه حزينًا".
وكان الربيع بن خيثم قد حفر قبرًا في داره، فكان ينام فيه كل يوم مرات، وكان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة واحدة لفسد.
فاجعل الموت منك على بال، واستعد له في كل لحظة فإنك معرض له. واجعل حاديك في كل زمان ذاك الرجل الذي كان يخرج كل ليلة فينادي الرحيل الرحيل، فلما مات سأل عنه الأمير فقالوا: مات. فقال:
مازال يلهج بالرحيل وذكره.. ... ..حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه متيقظًا ومشمرًا.. ... ..ذا أهبة لم تلهه الآمال
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
============
مستوطنون باسم التوراة
أصغيت بانتباه إلى إذاعات كثيرة شاركت في الاحتفال "بيوم الأرض"، وهو يوم حزين يخرج فيه عرب فلسطين المحتلة ليحيوا ذكرى شهدائهم الذين قاوموا الاغتصاب اليهودي لترابهم الوطني، هذا الاغتصاب الذي تحول إلى اجتياح مسعور بعد هزيمة سنة 1967م.
وشعرت بالسخط وأنا أسمع ما قيل من شعر ونثر، إذ كان المتحدثون يؤكدون عروبة فلسطين، لأن الكنعانيين هم أصحابها الأوائل، والكنعانيون والعدنانيون والقحطانيون جميعًا عرب، أما بنو إسرائيل فهم طارئون غرباء.. وحاولت أن أتسمَّع معنى آخر يربطنا بأرضنا فلم أرجع بطائل!!
ما تحدَّث أحد عن الله ورسوله، ما تحدَّث أحد عن عمر بن الخطاب وتسلُّمه الأرض من النصارى لا من اليهود، ما تحدَّث أحد عن أصلنا الديني وتاريخنا الإسلامي، ما تحدَّث أحد عن انتهاء الدور الروحي والحضاري لليهود وبزوغ رسالة أُخرى بعيدة عن الأثرة والحقد، ما تحدَّث أحد عن أن وظيفة الهيكل وبنائه مسكنًا للرب قد أُلغيت وأن الوظيفة الجديدة هي لمسجد يصيح في أرجاء العالمين: الله أكبر..كان التنادي بالعودة إلى الأرض وحقِّ أبناء كنعان في وراثتها..
إن دوران المعركة على هذا النحو هدف استعماري انزلق إليه العرب في محنتهم النفسية والعسكرية، ولن ينالوا من ورائه خيرًا. فبنو إسرائيل يديرون المعركة على أساس ديني بحت، ويستقدمون أتباع التوراة من المشرق والمغرب قائلين: تعالَوا إلى أرض الميعاد، تعالَوا إلى الأرض التي كتبها الله لأبيكم إبراهيم كما أكد العهد القديم.
باسم التوراة:
في تقرير لـ"فرانس برس" نشرته صحيفة "الراية القطرية 2/5/1982م" تحت عنوان "مستوطنون باسم التوراة" التقى الكاتب بنفر من اليهود في المستعمرات التي أنشؤوها، وتحدث معهم ليستكشف سرائرهم وأسباب مجيئهم، ومدى حرصهم على البقاء مع المقاومة العربية المتصلة.
قال "هارون" الذي يقيم في مستعمرة "أوفرا" من خمس سنين: "إنني أمتلك ما لديَّ باسم التوراة!! واعتراضات العرب لا وزن لها". ويبلغ هارون من العمر 40 سنة، وهو يضع مسدسًا في حزامه، ويوالي حركة "جوش أمونيم" كتلة الإيمان الدينية المتطرفة. والواقع أن الاتجاه الذي يمثله هو الغالب على جمهور المستوطنين الإسرائيليين.
وفي "كيريات أربع" وهي مستعمرة بجوار مدينة الخليل يؤكد "شالوم" – وعمره 33 عامًا – ما ينتويه فيقول: "إن اهتمامي الرئيسي منصب على عودة الشعب اليهودي للإقامة بأرضه.. وإذا كان العرب لا يرون أن نصوص التوراة ليست سببًا كافيًا لحق الملكية فليست هذه مشكلتي".
وتقول "مريم لوينجز" وهي قرينة حاخام يهودي مشهور: "إن علينا أن نطيع أوامر الله الذي طلب منا العودة إلى الأرض المقدسة". وهي تقيم مع أحد عشر ابنًا لها وسط مدينة الخليل العربية على أنقاض معبد قديم!!(3/35)