ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.
ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
ü المواجهة لا الهروب:
عوَّدنا المجاهدون من أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحجام، وعلى المجابهة لا الهروب من المواجهة، وأملنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قبل فوات الأوان؛ فالهروب منها أو تأجيلها لن يقلل من أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قاموا عن الأمة، بما أزاح عن مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز(1/1685)
الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.
وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.
ـــــــــــــــ
لغة الهزيمة
لغة الهزيمة لغة وضيعة تسقط فيها كل ألوان العزة والكرامة..!
لغة الهزيمة لغة تافهة، مقيَّدة بإسار التبعية، لا تجيد إلا المحاكاة والتقليد الأعمى.
إنها آية من آيات السقوط الفكري والإنساني، تتقاصر بكل مهانة عند مخاطبة من يسمونهم بالآخَر، وتتعالى بكل قسوة على الأهل والأصحاب؛ فعقدة تحقير الذات تحاصرها من كل زاوية.
خبرنا هذه اللغة ردحاً طويلاً من زمن العنتريات العروبية الثورية، وها نحن نجني ثمراتها في الخطاب الليبرالي المتزين بقبعة الغرب.
خبرنا هذه اللغة؛ فهي ليست جديدة علينا، لكن المؤسف حقاً أن بعض معالم ذلك الخطاب المنهزم بدأ يتسلل أحياناً إلى بعض روّاد الخطاب الإسلامي، ممَّن كان ينبغي أن تكون العزة شعاره والأنفة دثاره؛ فصار بعض خطابه واهن القوى، منخفض الصوت، يسري على استحياء..!
وحسبنا ها هنا أن نذكِّر ببعض الأمثلة:
فبعد الهبَّة الشعبية لنصرة النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أزمة الرسوم الدانمركية، ظهرت عند بعض المفكرين والدعاة لغة اعتذارية باردة لا يخفى ضعفها، بل لا يخفى انحرافها؛ فنحن نحب السلام، ونحترم جميع الأديان وندعو إلى التعايش، ولا نستعدي الآخرين، ولا ندفع العالم إلى الصراع الحضاري؛ فلماذا تستفزون شعوبنا..؟!
وعندما تجرأ بابا الفاتيكان وانتقد الإسلام، وعرَّض بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بادر بعضهم للمطالبة بالهدوء وعدم التشنج، ودعا إلى الحوار والاعتراف بالآخر، وأنه لا سبيل لإطفاء التطرف من الطرفين إلا بالتقارب بين العقلاء، بل نهى بعضهم عن تكفير النصارى، وعدّ ذلك من الإقصاء الذي لا ينبغي ذكره في هذه المرحلة..!(1/1686)
وعندما زعم البابا أنَّ الإسلام انتشر بحدِّ السيف، بادر بعضهم إلى نفي التهمة، وأنكر جهاد الطلب، وقصر الجهاد في الإسلام على جهاد الدفع فحسب.
وعندما دخل بعض الإسلاميين حلبة المعترك السياسي شن العلمانيون هجوماً شرساً على المشروع الإسلامي وما أسموه بـ (الدولة الثيوقراطية) فلم يجد بعض هؤلاء إلا المناداة بالدولة المدنية، ونحو ذلك من الشعارات الانهزامية..!
إنَّ هذه الانهزامية ترسِّخ نمطاً من أنماط التبعية التي همها إرضاء الناس، ولا تلتفت كثيراً إلى رضا الخالق سبحانه وتعالى.
صحيح أن زمن الاستضعاف له فقهه وأولوياته، لكن لم يقل أحد من أئمة العلم أن تحريف الدين أو التنازل عن بعض أصوله وأحكامه من الفقه في شيء؛ فمن لم يستطع أن يقول الحق، فلا يجوز له أن يقول الباطل.
ـــــــــــــــ
استراتيجية بوش: استثمار عوامل الهزيمة
طلعت رميح
دون الغرق في تفاصيل الاستراتيجية الأمريكية «الجديدة» في العراق، فواقعُ الحال أنَّ ما أعلنه الرئيس الأمريكي في خطابه بشأن استراتيجيته «الجديدة»، وكذا ما شرحه وزير دفاعه الجديد ورئيس أركانه أمام الكونجرس في أوقات تالية، قد دارت جميعاً حول تطبيق الاستراتيجية العسكرية «القديمة» لغزو العراق، التي أعدَّها العسكريون ورفضَها وزير الدفاع الأمريكي المهزوم (رامسفيلد)، ذلك أنَّ الفارق الجوهري بين الخطة الأمريكية القديمة / الجديدة التي جرى الحديث عنها مؤخراً، والخطة التي طبَّقها (رامسفيلد) منذ بداية العدوان؛ يتمحور أساساً حول عدد القوات الأمريكية التي كان ينبغي أن تشترك في عملية غزو العراق، والسيطرة على سكانه، وهو عَيْن الفارق بين الخطة التي قُدِّمت لـ (رامسفيلد) عند خوض العدوان على العراق ورفَضَها.
لقد اعتمد (رامسفيلد) خطة عسكرية للغزو والاحتلال، تقتصد في حجم القوات العسكرية الأمريكية، بقصد خفّة الحركة في الهجوم، وتقليل مساحة انتشارها الأَرْضيِّ لتقليل خسائرها، باعتبار أنَّ الميزات الرئيسية ـ المتوقّعة وقتَها ـ للجيش العراقي وللمقاومة من بعد ـ في حال وجودها ـ هي ميزات عمل على الأرض لا في الجوّ. وفي ذلك اعتمد (رامسفيلد) وبعض من قادته العسكريين فكرةَ تشكيل ميليشيات عراقية موالية للاحتلال ـ تابعة للقيادات الشيعية المتعاونة مع الاحتلال، مع دعم ميليشيا البشمركة وتقويتها؛ للاعتماد عليها في حالات خاصة إضافة إلى تأمين المناطق الكردية ـ كبديلٍ لزيادة عدد القوات، وكأساسٍ لنجاح المواجهة مع المقاومة العراقية، وكبديلٍ للجيش العراقي بعد حلِّه. كما اعتمد على شركات الأمن الغربية الخاصة، للقيام بمهمات حراسة الشخصيات(1/1687)
العراقية المتعاونة مع الاحتلال ورجال الأعمال الأمريكيين، وفي القيام بالعمليات الإرهابية المموّهة والأشدّ إجرامية تجاه الشخصيات العراقية الرافضة للاحتلال. ووقتها فإن بعضاً من القادة العسكريين الميدانيين وآخرين من المتقاعدين والمتواجدين في مؤسسات صنع القرار في الدولة الأمريكية؛ كان لهم رأي آخر أعلنوه في مختلف المناسبات، وحوّلوه إلى مطالبة في بعض الفترات ـ خاصة بعد تصاعد خسائر القوات الأمريكية، وثبوت عدم قدرتها على السيطرة على الأوضاع، وفشلها في إخضاع إرادة الشعب العراقي ـ بإقصاء (رامسفيلد) نفسه، إذ إنهم رأوا أنَّ الدخول في بلد بهذا الحجم من السكان وبهذه التكوينة الحضارية والمليء بالقدرات والطاقات العسكرية والعِلْمية، لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا بتوافر حشد عددي كثيف من الجنود، يكفل السيطرة على السكان وإخضاعهم، ويمكِّن من إعادة تأسيس العراق وفق الخطة الأمريكية كعراقٍ قابل للاحتلال ومتعايش معه. وها هي الخطة الأمريكية الجديدة تعود إلى الخطة القديمة السابقة والتي رفضها
(رامسفيلد)؛ فترسل القوات الأمريكية أعداداً أكبر على الفور ـ تقرر زيادة عدد القوات بنحو 21 ألفاً ـ، كما سترسل قوات إضافية يبلغ تعدادها 92 ألفاً على مدار السنوات الخمس القادمة، كما أنها باتت تتحدث عن ضرورة نزع سلاح الميليشيات الموالية لإيران، التي سبق أن أسَّسها وموَّلها وأشرف عليها (بريمر) نفسه، وتعلن أول إجراءاتها بـ «خطة» جديدة للسيطرة على بغداد وإخضاعها. وهذا كله يأتي متعارضاً مع التوقُّعات التي أشارت بخطة جديدة في ضوء تقرير (بيكر هاملتون)، واعتبر وقتها أن معيار جدّتها سيكون بجدولة الانسحاب، وبالتفاوض مع سوريا وإيران حول الأوضاع في العراق، ومع أطراف عراقية لتغيير النهج الراهن في حكم العراق.. إلخ.
الخطة ـ إذاً ـ ليست جديدة على الصعيد العسكري، وإقرارها ـ في حدِّ ذاته ـ هو إقرار بالهزيمة في المرحلة الماضية من العدوان على العراق، لكن ذلك ـ في حدِّ ذاته ـ لا يعني أنَّ الخطة الجديدة هي مجرد استعادة ملف قديم وإعادة قراءة أوراقه، حيث إنّ الخطة القديمة أفرزت وضعاً مختلفاً عن سابقه الذي وضُعت على أساسه تلك الخطة ذاتها.
- فيتنام.. ولعبة الخطط:
يبدو هنا أمرٌ التذكيرُ به مهمٌّ، في إطار ما أشرنا إليه من أن الخطة الجديدة ليست إلا الخطة القديمة، وهو أن الخطة الجديدة / القديمة هذه تذكِّر بما كان يجري في فيتنام؛ من تغيير الخطط بين القديم والجديد، ومن زيادة القوات وتقليلها، ومن اعتمادٍ على الطيران والقصف من بُعْد، إلى التركيز على العمل العسكري على الأرض، ومن العمل لتشكيل ميليشيات إلى حلِّها، ومن تشكيل جيش فيتنامي موالٍ ومساند لجيش الاحتلال، ثمَّ الإعلان عن فشله في إخضاع السكان وسوء تدريبه، وهو ما جعل المحلّلين والمؤرّخين يعلنون من بعد أن كل ما كان يجري لم يكن سوى محاولة الهروب من إعلان الهزيمة، إذ إن الخطط رغم تبدُّلاتها وتغييراتها لم تستطع إنقاذ الجيش الأمريكي من الهزيمة، ولم تكن(1/1688)
تسير إلا في اتجاه واحد، هو زيادة الانغماس الأمريكي في الأزمة، واشتداد العنف الدموي ضد الشعب الفيتنامي والسير نحو هزيمة في غاية القسوة للقوات الأمريكية في تلك الحرب.
ومن المفيد هنا التذكير ـ أيضاً ـ بأنَّ فكرة عدد القوات الأمريكية على الأرض وتشكيل ميليشيات تابعة أو متعاونة مع الاحتلال من قِبَل بعض العرقيات في مواجهة عرقيات أخرى، وفق استراتيجية تفريق بين الفيتناميين بعضهم عن بعض، وإجراء انتخابات داخل فيتنام وفق عملية سياسية خاضعة للاحتلال؛ لإكساب السلطات العميلة شرعية داخلية وخارجية.. كلها إجراءات واستراتيجيات جرى التقلّب فيها حتى إعلان الهزيمة أو القبول بإعلان الهزيمة والإقرار بها من خلال المفاوضات التي جرت بين الفيتناميين والأمريكيين على الأرض الفرنسية.
والأهم ـ هنا ـ أن الولايات المتحدة حينما وضعت خطتها للتفاوض مع الفيتناميين؛ لإعلان القبول ضمنياً بالهزيمة والبدء في الانسحاب، وضعت إلى جوارها وبالتوازي معها خطةً عسكرية جديدة، قامت على تصعيد القصف الجوي إلى أعلى درجة من العدوانية ضد الفيتناميين، وعلى بدء هجمات عسكرية جديدة ضد الثوار الفيتكونج. وكان الارتباط بين الخطتين أنَّ التفاوض يجب أن يجري دوماً من موقع القوة لا الضعف، وأنَّ إعلان الهزيمة يجب أن يتمَّ وفق غطاء من مظاهر القوة، وهو ما لم يكن ليغيِّر من جوهر الأمور شيئاً.
فهل نحن أمام تكرار لنفس السيناريو في العراق؟ أي: هل نحن أمام حالة تصعيد عسكري للوصول إلى حالة انسحاب تحت غطاء من عوامل القوة؟ أم أننا ما زلنا نشاهد محاولة أمريكية للحصول على النصر على المقاومة الذي سمَّاه بوش (انجاز المهمة)؟!
- احتمالان:
واقع الحال أننا أمام الاحتمالين تماماً في العراق ـ حيث الإعلانات السياسية من بوش وغيره لا تعطي فرصة للحكم باعتبارها جزءاً من الخداع الاستراتيجي في أيّة خطة عسكرية ـ، ذلك أنَّ هناك مؤشرات على أنَّ الاستراتيجية الجديدة هي استراتيجية الانسحاب تحت غطاء من عوامل القوة الظاهرة، كما أن هناك مؤشرات أخرى على أن الولايات المتحدة لم تقرر الانسحاب بعد، وأنها ما يزال أمامها مشوار قد يبلغ العامين حتى الإقرار بالهزيمة والانسحاب من العراق.
في الاحتمال الأول: فإن المؤشرات عديدة كما ذكرها (توم هايدن)(1) في مقالة له على موقع (كومون دريمز)، وقد عدّد لهذه المؤشرات مظاهر وشواهد، أولها: ما قاله (جيمس بيكر) لأحد محامي (صدام حسين) أنّ (طارق عزيز) ـ نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق ـ سوف يُطلق سراحه من السجن في نهاية هذا العام، على أمل أن يتفاوض مع الولايات المتحدة بالنيابة عن قيادة حزب البعث. وقد حدثت هذه المناقشة في الآونة الأخيرة في عمَّان، وفق صحيفة القدس العربي، وهو ما يعزِّزه ـ أيضاً ـ تواتر الحديث حول نقل (طارق عزيز) للعلاج في إيطاليا.(1/1689)
الشاهد الثاني: طلب وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليزا رايس) شخصياً من مجلس التعاون الخليجي في أكتوبر/ تشرين الأول، أن يتوسط المجلس بين الولايات المتحدة وجماعات المقاومة السُّنّية ـ من غير حركة القاعدة ـ، وأنَّها أعربت عن رغبة الولايات المتحدة في التفاوض معهم في أيِّ زمان أو مكان. وقالت مازحة ـ وهي تتحدث في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول ـ: «إنَّ وزير الدفاع ـ وقتئذٍ ـ (دونالد رامسفيلد) لو سمعني لشنّ عليَّ حرباً أشرس وأعنف من الحرب التي شنَّها على العراق»، حسب ما قال دبلوماسي عربي مطّلع على الجلسة المغلقة.
والشاهد الثالث: هو ما جرى من عقد اجتماعات سرّية (غير مسبوقة) بين مسؤولين أمريكيين على مستوى رفيع وممثّلين عن (مكوّن رئيسي من مكوّنات المقاومة العراقية)، ودامت ثلاثة أيام، ونتيجة ذلك وافق العراقيون على العودة إلى المحادثات فيما بعد.
والشاهد الرابع: هو ما تكشف من رسائل إلكترونية مفصَّلة ـ مؤرَّخة في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ـ تكشف جهداً أمريكياً نشيطاً من خلف الكواليس للتوسط في اتفاق سلام مع زعماء المقاومة العراقية، ضمن خطة قد تتضمن انقلاباً سياسياً ضد رئيس الوزراء (نوري المالكي).
والشاهد الخامس: هو حملُ المستشار الأمني للرئيس بوش (ستيفن هادلي) رسالة إلى المسؤولين العراقيين لدى زيارته الأخيرة إلى بغداد، تتضمن ست نقاط، هي: اشملوا المقاومة والمعارضة العراقيتين في أيِّ مبادرة نحو المصالحة الوطنية، وأصدروا عفواً عامّاً عن مقاتلي المقاومة المسلَّحة، وحلّوا اللجنة العراقية المكلّفة بحظر حزب البعث، وابدؤوا حلَّ الميليشيات وفِرَق الموت، وألغوا أيَّ اقتراح للفيدرالية لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، ووحّدوا السلطة المركزية للحكومة، مع حكم ذاتي أكبر للحكام المحليين.
ونضيف ـ نحن ـ المؤشر السادس وهو أن الهرولة في اغتيال الرئيس العراقي (صدام حسين)، كان مؤشراً على فتح الطريق أمام المفاوضات وأمام تغيير في التوجُّه ـ وليس العكس ـ، إذ كان الرجل وهو في محبسه حاجزاً وسدّاً أمام كل من يفكر في التفاوض من البعثيين مع الأمريكان. كان الإعدام غير المتوقع في سرعته وهمجيته رغبة عاجلة في إنهاء حقبة الغرور الأمريكي بالاستناد إلى انتصار رخيص تمهيداً لإبداء حالة الضعف، تحت غطاء من الجرائم الدموية.
في الاحتمال الثاني: فإن الحجم الخطير لنتائج القبول بالهزيمة الأمريكية في العراق على صعيد المصالح الأمريكية في العراق، أو على صعيد الوضع الاستراتيجي الخطير الذي سيصبح عليه الكيان الصهيوني والمشروع الغربي في المنطقة برمّتها، جميعها عوامل تجعل الولايات المتحدة أشد تصلّباً في رفض الهزيمة. وكذلك فإن الشواهد المشار إليها في الاحتمال الأول ربما لا تخرج عن كونها أحد أشكال الخدعة أو أحد أساليب زرع الفتن داخل العراق. كما أننا أمام مؤشرات أخرى تشير إلى احتمال استمرار محاولات بوش والإدارة الأمريكية لإحراز النصر على المقاومة العراقية، مع إدراكنا بتغيير اللهجة(1/1690)
واختفاء كثير من المصطلحات القديمة، ومن تلك المؤشرات: ما نشاهده على الأرض في العراق من تحرّكات أمريكية بالغة الضراوة، حيث مدنٌ بأكملها ـ سنّية لمن يتصورون العكس ـ تعيش محاصرة بسبب احتضانها المقاومة، وهناك أخرى بدأت القوات الأمريكية تشيد حولها أسواراً ترابية عازلة إلا من بوابة دخول وخروج. كما أن القوات الأمريكية ما تزال تواصل بناء قواعد عسكرية دائمة لها في العراق آخرها ما يجري تشييده حالياً في منطقة كردستان العراق، كما أن تلك القوات تزيد عددها وتعلن عن خطة لزيادة عدد قواتها خلال السنوات الخمس القادمة.
وكذا فإننا نشهد على الطرف الآخر أنَّ المقاومة الإسلامية العراقية تعلن بوضوح أن لا تفاوض بينها وبين الولايات المتحدة، وأنها تشترط مسبقاً إعلان جدول بالانسحاب قبل الدخول في التفاوض.
وهو ما يدعو إلى القول: إنَّ الولايات المتحدة إنما تعتمد سيناريو الحرب حتى الانتحار، إذ إن الهزيمة تساوي الانتحار الأكيد والنهائي، كما أن النصر يعني الحصول على كل شيء في المنطقة.
- كيف نرجّح أحد الاحتمالين؟
لفهم وترجيح أيٍّ من الاحتمالين، أو لفهم ما يجري؛ فإنًّ عدداً من العوامل يجب وضعها في الاعتبار:
أولها: ضرورة التفريق بين ما قاله الرئيس بوش وغيره من القيادات الأمريكية وبين أن تكون هناك استراتيجية أمريكية مختلفة. كما لا يجب أن يُقرأ من مثل هذا الكلام والتصريحات رؤيةٌ كلية للاستراتيجية بشكل عام ـ أية استراتيجية ـ، إذ إن ما يُكشف النقاب عنه في الأحاديث السياسية والإعلامية هو فقط ما يراد أن يُكشف عنه للرأي العام، كما أنَّ هذا الذي يُكشف النقاب عنه إنما يكون في أغلب الأحيان جانباً من جوانب التغطية الإعلامية الواردة ضمن مقوّمات إنجاح الخطة ـ أي: هناك جانب إعلامي لترويج الخطة لا للكشف عنها ـ.
ثاني تلك العوامل: التنبُّه إلى أننا أمام تطوّر جديد انتقل إليه تأثير المقاومة العراقية من الضغط في العراق على قوات الاحتلال لإيصال أوضاع بوش الداخلية إلى المأزق، إلى مرحلة وصل فيها بوش إلى المأزق فعلاً، وباتت الأزمة متجسدة في الداخل الأمريكي وفق قوى متضاربة المصالح والآراء حول الأوضاع في العراق، تصبح فيها المقاومة آلية تحريك وتفعيل الأزمة. وبمعنى آخر: يجب الوضع في الاعتبار أن ما أعلنه بوش بات تحت تأثير حالة جديدة لم تعد المقاومة ـ على أرض العراق ـ هي المؤثر فقط في تغيير اتجاهات الرأي العام، بل باتت هناك قوى ضاغطة في الداخل الأمريكي على الرئيس الأمريكي ومؤثِّرة على قدرته في التحرُّك والقول.
ثالث تلك العوامل: وجوب مراجعة ما يجري بين الولايات المتحدة وإيران، سواء على صعيد الشواهد المتعلِّقة بالعمليات التي جرت ضد أفراد وديبلوماسيين على الأرض العراقية، أو على صعيد الدخول المباشر للولايات المتحدة على خط التفكيك للتحالفات الشيعية المرتبطة بإيران مثل: ـ دفع المالكي(1/1691)
إلى مواجهة الصدر، وإعلاء الحكيم في مواجهة الصدر والمالكي، وتقوية دور علاوي، وغير ذلك ـ، أو على صعيد تطوير آليات المواجهة الديبلوماسية في مجلس الأمن مع إيران.. إلخ.
رابع تلك العوامل: فهم الاستراتيجية الأمريكية من خلال قراءة التحرك الأمريكي في المنطقة بشكل عام ومحيط العراق بشكل خاص. وقبل هذا وذاك؛ فإن الساعي إلى فهم استراتيجية بوش «الجديدة» يجب أن يحقق تقديراً فعلياً للأوضاع في العراق.
وفي ضوء مراجعة الأوضاع القديمة والطارئة في معادلة اتخاذ القرار مما سبق الإشارة إليه ـ وغيرها بطبيعة الحال ـ ومع استبعاد مؤثرات الخداع السياسي والإعلامي، فإن معالم الخطة الأمريكية الحالية في خطوطها العامة يمكن تلخيصها في التالي:
1 ـ تطوير المعركة في العراق باتجاه المحيط (الهروب إلى الأمام)، سواء لإرباك ترتيبات القوى التي نتجت عن المرحلة السابقة والتي باتت تسير بالولايات المتحدة نحو الهزيمة الكاملة، أو بإدخال قوى أخرى في الصراع عبر إخضاع دول أخرى في المنطقة للاستراتيجية الأمريكية وضروراتها، أو بنقل الصراع من داخل العراق إلى المحيط حيث إن الولايات المتحدة لديها في السيطرة على المحيط آلياتٌ أقوى من السيطرة على الأرض مباشرة في العراق (توسيع ساحة المعركة لتقليل قدرة القوى المحلية المناوئة).
وفي ذلك؛ فإن الولايات المتحدة تعمل على استثمار عوامل هزيمتها لتحويلها إلى عوامل قوة، كما هو الحال في إخافة دول المحيط من النفوذ الإيراني في العراق، وفي تخويفها من انتشار المقاومة في المنطقة على حساب النُّظم القائمة.
2 ـ تحويل ساحة المعركة في العراق نحو الفوضى الشاملة على صعيد تحالفات القوى، وفي ذلك يجري الدفع إلى إعلان العديد من التحالفات والجبهات الجديدة، كما يجري فضّ التحالفات القائمة وإشاعة الشكوك بالجُملة، كما يجري تقديم محاور في الصراع على أخرى ـ تقديم مواجهة إيران على مواجهة الولايات المتحدة ـ، والضغط عن طريق المفاوضات تارةً والقوة تارةً أخرى لتفكيك كل عوامل التماسك الداخلي، وكل ذلك ظاهر في تفكيك التحالفات الشيعية، وفي فتح المجال لتقسيم أوسع داخل حزب البعث، وفي توسيع هوّة الخلافات بين التيارات المقاومة ذاتها.
3 ـ التركيز في العمل العسكري على تيارات هي الأشد وقوفاً ضد الاحتلال، وتنميط الخطط العسكرية لتحقيق أهداف سياسية وليس فقط لتحقيق حالة إضعاف لقوى مقاومة.
4 ـ استخدام لغة جديدة في التعامل الإعلامي والسياسي مع الحالة العراقية، سواء بإشغال الرأي العام الأمريكي بقضية أخرى كما هو الحال بالنسبة لإيران ولبنان، أو بإنهاء استخدام المصطلحات القديمة التي كانت أشدّ عجرفة من تلك المستخدمة في لغة الخطاب الأمريكي الآن.(1/1692)
5 ـ إعادة تأسيس العملية السياسية داخل العراق؛ لاستيعاب عدد أكبر من القوى، ولإحداث وضع جديد يمكِّن التقاط الأنفاس والتحرُّك باتجاهات جديدة لمحاصرة القوة الأشدّ راديكالية.
ـــــــــــــــ
استراتيجية تقزيم الهزيمة
د. حنان فاروق
يقول علماء تنمية وتطوير الذات في العصر الحديث: إن الفشل أو الهزيمة ليسا المشكلة الحقيقية لمن يُمنَى بهما، لكن المشكلة الرئيسة هي الاستسلام لهما والرضا بهما.
إن الإنسان المهزوم هو الذي يسلم قياده لهزيمته ويرتاح بطريقة أو بأخرى في كنف (عدم استطاعة) وفي أغلال (فقدان المقدرة) على تغيير الواقع والعمل على خلق غدٍ أفضل بإذن الله؛ وهو الذي يركز على الجانب السلبي للفشل ولا ينظر إليه بمنظار مختلف وناحية مغايرة للانكسارية والتيه والضياع.
لقد أدرك الغرب المناوئ للإسلام وأمريكا سيدة مشروع (القرن الأمريكي الجديد) هذا الأمر، وفهمت أن سحق أي أمة لا يأتي إلا من داخل قلوب أبنائها وعقولهم قبل أن يكون جهاداً بالسلاح، ومن ثَم فقد عملت على تأكيد هذا السحق وتعميقه حتى تبدد أي أمل في النصر القادم الذي وعدنا به رب العزة تبارك وتعالى، وكذلك حتى تنسى الأمة نهج رسولها - صلى الله عليه وسلم - واستراتيجياته في معالجة الهزائم وتحويلها إلى بدايات لانتصارات جديدة حين يتكالب الطغاة والبغاة على الأمة تكالب الأكلة على قصعتها. وها هو - صلى الله عليه وسلم - ، في بداية رسالته ونزول الوحي، عندما أتاه خبَّاب بن الأرتّ ـ رضي الله عنه ـ وهو متوسد بُرْدَه في ظل الكعبة وقال له: ألا تدعو الله؟! فقعد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمرُّ الوجه، ثم قال: «لقد كان مَنْ قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ: والذئب على غنمه» وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون».
كان المسلمون آنذاك في أوج هزيمتهم النفسية، يسامون سوء العذاب ليل نهار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشرهم بالنصر والتمكين؛ بيد أنه حين رأى أن نفوسهم قد دخلت إلى منعطف الاستسلام لانكسارهم واليأس من حاضرهم أمدهم بجرعة أمل منبعثة من أعماق الإيمان برسالته؛ وكأنه يقول لهم قول الله ـ تعالى ـ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}. فالضعف لا يزيد الإنسان إلا خساراً وترهلاً نفسياً لا يؤهله لأن تقوم له قائمة، أو تبزغ له شمس.
وحين ذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ولقي ما لقي من الأذى والعنت والسخرية اضطر للعودة إلى مكة مرة أخرى واستئناف ما بدأه هناك، فقال له زيد بن حارثة الذي كان يصحبه في رحلته تلك: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك (يعني قريشاً)؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : «يا(1/1693)
زيد! إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيه» فبدل بقوله هذا ما أحسه زيد من انكسار وقلة حيلة وهو يرى نبي الله وأباه بالتبني ـ قبل أن يحرّم ـ يُسَبُّ ويرمى بالحجارة، إلى أمل وإيمان بنصر عزيز من لدن حكيم خبير. وحين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم أموالهم وديارهم وحياتهم بجوار بيت الله الحرام بعد أن سلبتهم قريش كل شيء مقابل خروجهم سالمين؛ كانوا وقتها يشعرون بالظلم القاهر لما اضطروا إليه فراراً من أذى قريش الذي أرهق أرواحهم قبل أجسادهم، وكانوا موقنين أنهم على الحق، لكنَّ تأخُّر النصر يؤلمهم ويقض مضجعهم. كانوا يتحرقون شوقاً لأن يسترجعوا حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المنهوبة؛ فلم يتركهم الله ورسوله لهذا الشعور لكي يتغذى على نفوسهم وإيمانهم فيستسلموا له، بل نزلت الآيات الكريمة بالإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
فكانت السرايا والغزوات التي أعطتهم الدفعة نحو الأمام والثقة بأنهم قادرون على الانتصار بإذن الله؛ لا يفت في عضدهم قصور في العدة أو العدد؛ مثل سرية سِيف البحر ورابغ والحزار، وغزوة الأبواء وبواط وسفوان، وغزوة ذي العشيرة، وسرية نخلة.. تلك السرايا والغزوات لم تكن إلا لرد كرامة المسلمين الذين لم يقترفوا ما يدعو إلى إيذائهم والاعتداء عليهم إلا أنهم اختاروا الله الواحد الأحد، فباعوا له أموالهم وأنفسهم، ونصروه ولم يستسلموا للتخذيل الهدام الذي كان يبثه المنافقون في نفوسهم؛ فلما أبوا الاستسلام ونصروا ربهم نصرَهم نصراً عزيزاً مؤزراً بعد سنوات من العذاب والصبر والتحمل.
أما ما حدث بعد الهزيمة النفسية المؤلمة التي تعرض لها المسلمون في أُحُد فهو الدرس الواضح الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في استراتيجية مقاومة وتقزيم الهزيمة؛ فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين الذين شهدوا معركة أحد والمثخنين بالجراح والأحزان صباح الغد من الهزيمة بالخروج ليطاردوا فلول الكفار العائدين بنصرهم المؤقت؛ فرحين يخططون لإعادة الكرَّة للإغارة على المدينة المنورة ليفتكوا بالمسلمين وهم بعدُ لم يخرجوا من روح هزيمتهم، فهبُّوا سمعاً وطاعة لرسولهم الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، وعسكروا بحمراء الأسد على بُعد أميال من جيوش الكفار؛ مما جعل المشركين يفرون خوفاً منهم ومن سرعة قيام قائمتهم، وخاصة بعد أن خذّلهم معبد بن أبي معبد الخزاعي بإيعاز من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اسلم وأدى واجبه في إكمال الحرب النفسية على الكفار والمشركين، وعاد المسلمون دون أن يمس أحدَهم سوء؛ وشعورُ النصر والقوة يملؤهم ويدفعهم دفعة جديدة بعد أن كادوا يركنون إلى إحساس الفشل والألم والحسرة.
هذا ما علَّمناه رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم - . وإننا نرى اليوم الحرب النفسية على المسلمين؛ فحين تتوالى الأخبار عن هزيمة العدوان في العراق وأفغانستان أو غيرهما من بلاد المسلمين(1/1694)
ومقتل عدد لا يحصى من أفراد القوات المحتلة.. نراهم يسمحون بتسريب أخبار عن تعذيب المسلمين في جوانتانامو وأبي غريب بأساليب تتدنى عن أحط الأخلاق الحيوانية، بل ينشرون صور ذلك الإذلال على الملأ في نشرات أخبارهم وبرامجهم السياسية والحوارية وجرائدهم المحلية والعالمية ليعمقوا إحساس المهانة لدى المسلم المتابع لقضايا مجتمعه في جميع أنحاء العالم بالصوت والصورة والشعور حتى يتغلغل داخله ويقيده فلا يستطيع منه فكاكاً.
ثم يعود العدو فينشر أخباراً عن إهانة المصحف وتدنيسه المتعمد في السجون والمعتقلات نفسها التي أُعدت خصيصاً للمسلمين القابضين على الجمر الذين جُرِّدوا من كرامتهم قبل ملابسهم تحت تهديد السلاح، ثم تعرض الصحف الأجنبية رسوماً مسيئة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفض الاعتذار بدعوى أننا ـ أعني المسلمين ـ لا نفهم معنى الحرية الحقة، فيحمِّلوننا الإساءة والتخلف معاً.
ويعاود رأس الكاثوليك الكرَّة فيسيء للإسلام، ثم يقول: لم أقصد.. وهو الذي يعد رئيس دولة؛ فهو ليس زعيماً دينياً فحسب، ولكنه أيضاً يضطلع بالعمل السياسي مثل رؤساء الدول وملوك الممالك وسلاطينها ومن شابههم؛ وعليه فلا يمكن إدراج إساءاته تحت النقل أو زلات اللسان أو الهفوات الفكرية؛ لأنها بالقطع مقصودة، وتضيف لسابقاتها المتكررة المعلنة وغير المعلنة أرصدة جديدة من الألم النابض في قلوب المسلمين وعقولهم. ثم يعود الإعلام فينشر صور حاكم عربي كبير، مهما اختُلف عليه فهو مسلم، وهو بملابسه الداخلية في المعتقل الخاص المعد له دون إذن منه وكأنه يمعن في فضحه والنيل منه.
ثم يعود فينشر فيلماًَ لإعدامه صبيحة عيد الأضحى المبارك والمسلمون في أوج عزتهم وتوحدهم الذي يستشعرونه كل عام من كل فج عميق خلال رحلتهم لبيت الله الحرام عبر القنوات الفضائية العربية وغير العربية والإنترنت ورسائل الوسائط للهواتف المحمولة التي استكملت المشهد التلفزيوني الذي رفض إعلاميوه عرض أواخره، فقامت الشبكة العنكبوتية وأجهزة المحمول بالغرض وبالمهمة عنهم ليضرب مشاعر المسلمين في مقتل وائد لفرحتهم قبل أن تكتمل، وسعادتهم قبل أن تتم.
إنها الحرب النفسية واللعب على وتر التحطيم الداخلي قبل الخارجي، وإرساء حالة من الاكتئاب واليأس العام قبل تنفيذ أي مخطط بفترة كافية كي تتسنى التهيئة التامة لركوع المغتصَبين لغاصبيهم، بانتزاع كل أمل في النصر والتمكين من قلب الفريسة لتتبدد مقاومتها قبل أن تولد، ويشل تفكيرها قبل أن يتأجج، ويموت الحلم حتى في الخيال، فيدخل المحتل إلى حيث يريد، ويأخذ ما يريد في الوقت الذي يريد، ويجعل فريسته إما صورة في مرآته، أو كمّاً مهمَلاً في سلة قاذوراته.
إن هذا هو مفتاح الانتصار الذي يعتمد عليه الآخر في حروبه معنا، معنويةً كانت أو ماديةً؛ وبغير هذا المفتاح لا يهنأ لغاصب قلب ولا يغمض له جفن، ولا يفرح مهما حقق من نجاحات ومهما نفذ(1/1695)
من مخططات؛ ولهذا فنحن مطالبون بقمع هزائمنا النفسية والفعلية، والعمل على الخروج من قوقعة اليأس، وزنزانة التكبيل الفكري، ودائرة الإحباط المفرغة التي ندور فيها بلا هدف غير البكاء والتباكي على حالنا بكل طريقة ممكنة ومتيسرة: بالكلمة والفعل وتعلُّم وإرساء مهارات العمل الجماعي، ونبذ ثقافة الحزن على اللبن المسكوب في مقالاتنا وفكرنا، ودراسة تاريخنا الحقيقي لا ذلك الذي لُقِّنَّاه في مدارسنا وجامعاتنا.. وأولاً وأخيراً: بالثقة بوعد الله ـ تعالى ـ لنا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
ـــــــــــــــ
فصول الهزيمة الأمريكية في العراق
حسين عبد عواد الدليمي
منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003 ميلادية والإدارة الأمريكية تنفذ فصولاً متتالية على أرض الرافدين لكسب النصر المزعوم الذي تحلم به إدارة البيت الأبيض في واشنطن. إنها فصولٌ متسلسلةٌ أُعِدَّ قسم كبير منها بالتعاون مع بعض الساسة الذين وعدوا واشنطن بحلم النصر الأكيد يوم أن كذبوا عليهم بأنَّ شعب العراق سوف يستقبلهم بالورود؛ فضلاً عن سيناريوهات الفصول الأخرى التي لا تفتأ إدارة الاحتلال تعمل على إعدادها لتحقيق «المهمة» التي طالما تحدث عنها رأس الدولة الأمريكية (جورج بوش).
وهكذا تتوالى الفصول ليكون فصل الحسم الأخير، في نظر كثير من المراقبين، ما يسمى بـ «الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق» التي أُعلن عنها على لسان الرئيس الأمريكي بوش، وهي بلا شك يُنظَر إليها على أساس أنها حبل النجاة أو الهلاك إذا التف حول رقاب واضعيها، طبقاً لمدى نجاحها أو فشلها؛ لإنقاذ أمريكا من المستنقع الذي تعيشه قواتها المحتلة في العراق في ظل التصاعد المستمر للمقاومة العراقية والعمليات النوعية التي تقوم بها الفصائل الجهادية على اختلاف أسمائها في الأشهر الأخيرة الماضية، التي رأينا فيها العدو مهزوماً مكسوراً أكثر من اي وقتٍ مضى قبل ذلك.
وإذا كان المشهد العراقي متشابك الأطراف ولا يمكن التكهن بالمجريات السياسية الجارية فيه، في مقال إعلاميٍ قصيرٍ فإنَّ معرفة الفصل الأخير من فصول الفشل الأمريكي في العراق أمر ضروري للغاية؛ لأن تحالف الاحتلال الذي قاد حملته العسكرية لغزو العراق بحججٍ واهيةٍ بدأ يتصدع على ما يبدو، يوم أن اعترفت بريطانيا بهزيمتها ـ جهاراً أو إسراراً ـ وقيامها بسحب ربع جيشها المهزوم في فترة قياسيةٍ وجيزة، بمفاجأة غير معلنةٍ وقت ذاك.
وإذا كان هذا الانهزام ـ الذي لم يعلن عنه سابقاً ـ نصراً للمقاومة والمخلصين بحد ذاته؛ فإنَّ مرحلةً مّا بعد الهزيمة التي ستتلوها هزائم قريبة ـ على ما يبدو ـ توجب على كل الخيِّرين والوطنيين(1/1696)
والشرفاء العراقيين التفكير الجدي بالعمل المشترك لاستثمار ذلك الانتصار. وقد تنبهت هيئة علماء المسلمين ـ وهي رائدة المشروع الوطني ـ لذلك منذ اليوم الأول لإعلان رئيس الوزراء البريطاني هزيمته بسحب ما يقرب من 1600 جندي بريطاني من جنوب العراق؛ حيث دعت في بيان لها يحمل الرقم (378) أبناء العراق المخلصين من الساسة والميدانيين إلى التفكير الجدي في مرحلة ما بعد هزيمة المحتل، معللة ذلك بأن مرحلة ما بعد هزيمة المحتل بحاجة إلى عمل مبكر وجهود مضاعفة، يلزم من خلاله اتفاق القوى الفاعلة على برنامج عمل موحد، يرسم الجميع من خلاله معالم مستقبل العراق على نحو يرضي الله أولاً ثم العراقيين جميعاً بكل أطيافهم ومكوناتهم، ويحقق المصالح العليا لأمتهم؛ مشيرةً إلى أن هذه الخطوة تُعَدُّ مؤشراً واضحاً على بداية التصدع في التحالف الأنجلو ـ أمريكي في قضية العراق، وبداية هزيمة متوقعة لمشروع الاحتلال في هذا البلد الصابر المحتسب المجاهد؛ في الوقت الذي صرحت فيه بأنَّ الانسحاب الأمريكي بات وشيكاً، وهذه هي النهاية الطبيعية لكل احتلال طال أمده أم قصر، وأن الفضل في تحصيل مثل هذه التطورات المبهجة بعد الله لأبنائنا البررة الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ومن أجل تحرير بلادهم.
وإذا كانت الخطة الأمنية الأخيرة في بغداد التي سميت بـ «خطة فرض القانون» قد أتت نتيجة جزئية للمساعي الأمريكية لحفظ ماء وجهها للخروج بأقل الخسائر من العراق في ظل الاستراتيجية الجديدة؛ فإنها تستوجب وقفات عديدة نلمس من خلالها الفشل المرتقب الذي سَتُمنى به، وما سيترتب عليه من تداعيات وتحالفات وموازنات جديدة على مستويات عديدة ستشهدها الساحة العربية والعراقية، ولن أبالغ إذا قلت: والعالمية، على المستوى السياسي والأمني؛ فضلاً عن تعامل السياسة الخارجية العالمية مع العراق، بما في ذلك تعامل الولايات المتحدة الأمريكية وفق ما يفرضه الواقع الذي لا نستطيع تجاهله.
إنَّ مجرد العودة للوراء قليلاً وتحديداً في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة التخلص من شبح الموت الذي منيت به في غزوها لفيتنام آنذاك وما جرى من خلال تعاملها من تغيير للخطط العسكرية، وزيادة عدد قواتها، واعتمادها على تكثيف القصف الجوي بالطائرات، وتشكيل ميليشياتٍ وجيشٍ موالٍ للأحتلال؛ كل ذلك يوحي بتكرار السيناريو ذاته في العراق اليوم؛ فإنَّ الذي يجري في بلاد الرافدين ـ عموماً ـ هو عملية لاستعادة النَفَس الأمريكي بعد أن ضاق عليه الخناق جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات الاحتلال في الأشهر الأخيرة الماضية عموماً بفعل المقاومة الباسلة، مع ضرورة التركيز على حجم الخسائر بالأرواح والمعدات، وبخاصة الطائرات العشر التي خسرتها تلك القوات الغازية في شهر شباط الماضي تحديداً.
3 خطة أمنية جديدة وواقع مؤلم:(1/1697)
وإذا كنا قد عرفنا بعض الدواعي التي قام من أجلها ما يسمى بـ (خطة أمن بغداد) فإنه من المناسب إلقاء الضوء على بعض المجريات التي صاحبت هذه الخطة، وتوقيت تنفيذها، ومدى إمكانية نجاحها أو فشلها.
ولا شك أن أي نظرة سريعة على الواقع الذي يعيشه العراق عموماً وبغداد خصوصاً يستطيع القارئ من خلالها معرفة حجم التآمر الذي تسعى كثير من القوى السياسية المشاركة في الحكومة إلى تنفيذه. ففي ظل التسريبات التفصيلية للخطة الأمنية والإفصاح عن حيثياتها للقوى المساندة للحكومة كـ (التيار الصدري) الذي نزح قياديوه نزوحاً جماعياً إلى إيران وعلى رأسهم (مقتدى الصدر) الذي كثر الكلام حول هروبه أو اختفائه في إحدى مناطق الشيعة في الجنوب، لنضع ألف علامة استفهام أمام مصداقية هذا التيار في الشارع العراقي في ظل التناقض العجيب الذي صاحب هروب (مقتدى) إلى إيران قبيل بدء الخطة الأمنية التي تنفذها قوات الحكومة بمساندة قوات الاحتلال، والتي لقيت تأييداً من قِبَل (التيار الصدري) نفسه قبيل وأثناء تنفيذها.
في ظل هذه التسريبات المفضوحة بدأت عوامل الفشل والهزيمة، تدب في أوصال هذه الخطة العسكرية، وبخاصة إذا عرفنا المواقف التي أفصحت عنها بعض الشخصيات التي تشارك في الحكومة والبرلمان أمثال طارق الهاشمي ـ أمين عام الحزب الإسلامي ـ الذي توقع الفشل ـ ضمناً ـ للخطة؛ لأنه لم يتوفر فيها عنصر المباغتة؛ ولأن خريطتها سُرِّبت قبل البدء بها إلى عناصر الميليشيات التي تُتهم بقتل العراقيين؛ مع أنه ـ وحزبه ـ من المؤيدين للخطة الأمنية في بغداد.
3 مواقف يجب معرفتها:
في ظل تنفيذ هذه الخطة الأمنية العسكرية التي مضى على البدء بها بضع أسابيع، ينبغي معرفة ما يلي:
أولاً: إنَّ الأمر أصبح واضحاً لكل مراقب أنها في طبيعتها تستهدف أهل السنَّة في بغداد، وهي على كل حال تأتي تطبيقاً لاتفاقات سابقةٍ عمل عليها تياران شيعيان هما: (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) و (التيار الصدري) في إطار تسوية تحدثت عنها بعض تسريبات الإعلام في اتفاق سري يقضي بالعمل على تسليم الجنوب لـ (عبد العزيز الحكيم) لتكوين إقليم فدرالي؛ على أن يتم إعطاء (التيار الصدري) مدينة السلام (بغداد) بعد إفراغها من أهل السنة.
وموضوع استهداف أهل السنة في بغداد أمر ظاهر للعيان، تحدث عنه مؤيدو الخطة الأمنية أنفسهم، والكل سمع (د. عدنان الدليمي) وهو يتحدث عن استهداف مناطق السنة ومهاجمتها من قِبَل الجيش الحكومي دون الاقتراب من مناطق الشيعة.
وقد تحدث (الشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي ـ مسؤول العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين) في بيان يحمل الرقم (373) تلاه أمام جمع من وسائل الإعلام حول الخطة الأمنية وتداعياتها(1/1698)
على الساحة العراقية، مبيناً أنها إذا ما سارت على ما هي عليه من أساليب معلنة فلا يعني ذلك إلا أن الهدف المبيت هو «محرقة أهل السنة والجماعة الرافضين للاحتلال في بغداد».
هذا في الوقت الذي طالبت فيه الهيئة الحكومة الحالية بترك مواقعها؛ لأنها لم تعد قادرة على حفظ الأمن، وأن عهدها غدا شؤماً على هذا الشعب الجريح، ومن ثم فإنَّ عليها أن تترك مواقعها؛ فإنما تُنَصَّب الحكومات في العادة على مواقع القيادة لتوفر الأمن والأمان للشعب، وتحول بينه وبين أعدائه؛ فضلاً عن تلبية متطلباته الضرورية الأخرى؛ فإذا لم تكن قادرة على ذلك كله فما جدوى بقائها؟!
ثانياً: ولذلك عملت الحكومة ـ جاهدة ـ على تطبيق سياسة الإيحاء الكاذب أو المخادع الذي تريد من خلاله إفهام العالم بأنَّ خطة أمن بغداد لا تستهدف السنة فحسب، بدليل ما ترونه من مداهماتٍ لمناطق شيعية كمدينة الصدر (الثورة) وغيرها، مع ما يرافقه من تصنُّع في مداهمة بعض مكاتب (التيار الصدري) في بغداد ومناطق الجنوب.
وسر هذه الفضيحة يكمن في أمور عديدة، منها:
(1) إعطاء الحكومة الضوء الأخضر لـ (مقتدى الصدر) وقادة جيشه للهروب من العراق إلى إيران، في بيان سري وجهه المالكي إلى مقتدى وجماعته.
(2) فشل نتائج مداهمات مناطق الشيعة ومكاتب الصدر من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة؛ فلم نسمع أو نشاهد ـ على وجه اليقين ـ أن اعتقالات نالت عناصر التيار أو جيش الصدر الذي طالما اتُّهم بكثير من قضايا العنف الطائفي في البلاد بما لا يخفى على أحد.
(3) إنَّ عدداً كبيراً من منتسبي الجيش والشرطة وقوات الأمن التي تقود الخطة الأمنية هم في حقيقتهم أفراد فاعلون في جيش المهدي، وقد تحدثت دراسات غربية، ووسائل الإعلام عن ممارسة أفراد من الشباب مهام الشرطة أو الجيش نهاراً، إلى جانب الميليشيات الطائفية التي تقتل العراقيين ليلاً.
ومن نافلة القول أنه يمكن استجلاء الموقف الأمريكي من جيش المهدي الذي طالما خدم مصالح أمريكا في العراق، وخاصة تلك التي تعمل على بث روح الفرقة والطائفية في البلاد، معلنة الشعار الذي يقول: (فرق تسد!). فهي بهذا المعنى حليف كبير ومشارك، بل مشجع لأعماله التي تصب في هذا الإطار؛ بدليل ما نراه من عدم تدخلها في كثير من الأحيان عندما تقوم ميليشيات هذا الجيش بقتل السنَّة وحرق مساجدهم على مرأى ومسمع من الاحتلال والحكومة وقواتهما.
إنَّ السياسة الأمريكية تمتاز بميزة التخفي والتستر، فهي في الوقت الذي تقلّب أوراق الضغط على الساحة العراقية على المستويين: الأمني والسياسي متى شاءت وكيفما شاءت؛ نجدها تعمل وفق سياسة غامضة مخفية، لا يمكن التنبؤ بها من أول وهلة.
وإذا كان الموقف المعلن للولايات المتحدة تجاه (ميليشيا جيش المهدي) معلناً على أساس أنه منظمة إرهابية يجب قتاله، وهو ما يدركه الصدريون أنفسهم ويتحدثون به في وسائل الإعلام؛ فإنَّ هذا التيار(1/1699)
هو من خدم الساسة الذين تعاونوا مع المحتل، بل هو من أوصلهم إلى سدة الحكم والتربع على كرسي الرئاسة في العراق.
كما لا يخفى التحالف القائم بين حزب الدعوة والتيار الصدري الذي أوصل نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة الحالية ـ التي هي في كل حال امتداد لحكومة الجعفري ـ وإبعاد لـ (عادل عبد المهدي) الشخصية الثانية في المجلس الاعلى للثورة الإسلامية الذي يترأسه عبد العزيز الحكيم.
وهنا يأتي التساؤل: ما موقف نوري المالكي من الضغوطات التي يتعرض لها التيار الصدري على الاقل في الظاهر؟
إنَّ احتمالين يقفان أمام هذا التساؤل، حسب مصداقية هذه الضغوط أو عدمها:
أولهما: أن يكون هذا التعرض والضغط حقيقياً، وعندها من المتوقع أن يقوم التيار الصدري بسحب ثقته من الحكومة وغل يده إلى عنقه التي طالما مدها لحكومة المالكي، ومن ثم سينال تلك الحكومة ويهدد بقاءها تهديداً كبيراً، وخاصة في ظل التقلبات السياسية التي يمارسها التيار، والتي تعوَّد الناس على سماعها منذ الغزو الأمريكي ولحد الآن.
وثانيهما: أن يكون هذا التعرض إعلامياً وهمياً، وعندها فإنَّ مصير العراق سيزداد سوءاً لو بقي (جيش المهدي) مستمراً بعمليات القتل العدائية ضد العراقيين المخلصين، وعندئذٍ لا نستبعد المنزلق الخطير للحرب الأهلية التي تتولد عن مزيد من الشحن الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة في العراق اليوم. ولا شك أنَّ هذا الاحتمال سيجعل مصداقية الإدارة الأمريكية والعراقية تحت الصفر في نظر أصدقائهما قبل أعدائهما.
3 الخطةُ الجديدة وحلمُ البيت الأبيض:
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تحقيق النصر المزعوم في ظل خططها التي لا تقف عند حدٍ من الحدود؛ لأنها تأتي كنتائج لسياسة عوجاء عرجاء غير مخطط لها سابقاً باعترافات رجال البيت الأبيض أنفسهم، عندما أقروا بأنهم تفاجؤوا بشراسة المقاومة المتصاعدة التي أعادت إلى ذاكرتهم مقاومة فيتنام، بما لم يكونوا يتوقعونه في يومٍ من الأيام، حينما أقدموا على ولوج العراق وإشعال الحرب فيه.
أمام هذه الحقيقة خياران لا ثالث لهما ـ حسب ما أشار إليه الأستاذ طلعت رميح في مقال سابق في البيان ـ فاستراتيجية بوش الجديدة: إما أن تتضمن انسحاباً من العراق تحت غطاء عامل القوة والانتصار الموهوم، أو أن تبقى في جحيم المقاومة الذي سيأكل جيش الاحتلال مهما بلغ عدده وعدته إلى أن تقرر هذه القوات الهزيمة فتجبر على خيبة الانسحاب.
وهناك مؤشرات عديدة ترجح الخيار الأول في الوقت الذي توجد مؤشرات أخرى ترجح الخيار الثاني. ولعلَّ ما يبعثُ على التفكير بالخيار الأول هي تلك الوساطات التي تتحدث عنها بعض وسائل(1/1700)
الإعلام، والتي تسعى قوات الاحتلال من خلالها للتفاوض مع الجماعات التي تقاومها في العراق، مع رفض كثير من تلك الجماعات ـ أصلاً ـ لمبدأ التفاوض؛ لأنه يفتقر إلى مزيدٍ من الجدية والجدوى؛ بالإضافة إلى ما حمله المستشار الأمني للرئيس الأمريكي جورج بوش عند زيارته الأخيرة لبغداد التي تتضمن نقاطاً عدة فيها حثٌّ للسياسيين العراقيين على شمول المقاومة والمعارضين بمبادرة المصالحة الوطنية، وإصدار عفو عام عن المقاتلين، مع ضرورة حل لجنة اجتثاث البعث التي اتُّخذت غطاءً لإقصاء كل الخيِّرين من المؤسسات العراقية، والعمل على حل الميليشيات وفِرَق الموت، وغيرها.
ولم يفتأ نوري المالكي يغازل معارضيه في مناسبات عديدة بناءً على دواعٍ يعرفها هو قبلَ غيره، ولعل آخرها دعوته لانضمام ضباط الجيش السابق إلى جيشه الجديد؛ مع غصن الزيتون الذي طالما لوَّح به للجماعات المسلحة مقابل أن تترك السلاح، وهو ما ترفضه جماعات المقاومة رفضاً قاطعاً.
هذا في الوقت الذي نشاهد فيه مؤشرات أخرى تشير إلى احتمال استمرار محاولات بوش والإدارة الأمريكية لإحراز النصر على المقاومة العراقية، في ظل ما نشهده من تصرفاتٍ همجية وحشية تتعرض لها مناطق وقرى ومدن كل المناهضين للاحتلال، لتعيش هذه المناطق أوضاعاً مأساوية بالغة الصعوبة كالرمادي وسامراء والبغدادي وحديثة وهيت والرطبة وراوة والزركة، وغيرها.
هذا إذا اخذنا بنظر الاعتبار تلك التحركات الحثيثة التي تواصلها قوات الاحتلال لإقامة قواعد عسكرية دائمة لها في مناطق مختلفة من العراق، جرى الحديث عن آخرها بإقامة القاعدة الأمريكية في كردستان العراق.
وإذا كانت الصعوبة تقف أمام ترجيح أحد الخيارين؛ فإنَّ من المتفق عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة لتحويل هزائمها المتكررة إلى عوامل نصرٍ وقوةٍ، تتخذ من خلالها غطاءً لشد رحالها ومغادرة العراق بوجه مشرِّف، كما سماه نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني).
3 الفشل الأكيد... وماذا بعد؟
إذا كان الفشل يتبادر إلى ذهن أي متابع للخطة الأمنية وأدواتها وأساليبها؛ فإنه من الضرورة بمكان معرفة ما يترتب على هذا الفشل، مع تأكيدنا على الحل البديل لمثل هذه الخطط التي ملَّ أبناء العراق منها ومن كثرتها دونما نتائج تذكر.
فإنَّ حكومة المالكي أضعف ما تكون في هذه الأيام بعد أن فضحت وانكشف وجهها لكل العالم، فضلاً عن فشلها في توفير الخدمات أو الأمن للمواطنين، وقد تسعى أطراف سياسية إلى تكتل كبير تقوم من خلاله بسحب الثقة من هذه الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، ربما يقودها علاوي أو غيره، وقد يكون الواقع مشجعاً على هذا الاحتمال خاصة بعد إعلان تكتل جديد يضم (كتلة علاوي) و(التوافق) و (الحوار) في إطار عمل موحد، ربما بإشارة من قوات الاحتلال، مع ما رافقه من تصدع كبير في جدار الائتلاف الشيعي الحاكم بعد الأنباء التي تواردت عن انسحاب (حزب(1/1701)
الفضيلة) الذي يُعَدُّ من أهم مكونات هذا الائتلاف الذي يسيطر على العدد الأكبر من مقاعد الحكومة الحالية والبرلمان؛ وخاصة إذا علمنا أن العدد الذي يملكه حزب الفضيلة في البرلمان هو 15 مقعداً.
ولكنَّ الحكومة البديلة لا يمكن الارتياح إليها ـ أبداً ـ مهما كانت خلفيات تشكيلها، على أساس إنقاذ البلد من المنزلق الطائفي والمذهبي الذي قد يشعل حرباً أهلية في العراق. والكل يذكر أن (فلوجة الصمود) قُصفت ودُمِّرت، وقتل شبابها وأطفالها ورجالها ونساؤها، وشُرِّد أهلها، بإمضاء من (إياد علاوي) يوم أن كان رئيساً للحكومة آنذاك.
وهذا يدعونا إلى التفكير بالمعطيات الأخرى على الساحة العراقية، وهي المقاومة الجهادية والميليشيات الطائفية بعد الفشل الذي ستمنى به القوات المحتلة والحكومية.
وإذا كان القضاء على فرق الموت والميليشيات الطائفية أمر واجب، فإنَّ دعم المقاومة التي تعمل على تحرير العراق لا يقل وجوباً عن ذلك، وعلى فصائل المقاومة أن تدرك خطر التفرقة، فتعمل على توحيد كلمتها، ورصِّ صفوفها، وهي مدعوة لأن تعمل وفق منهجية شرعية واحدة؛ لأنَّ العدو بدأ يهلك، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، وقد قرب الخلاص منه إن شاء الله.
إنَّ المقاومة من أجل أن تقطف ثمار الانتصار يجب أن تبتعد كل البعد عن روح المشاحنة أو الاختلاف؛ فإنَّ الانتصارات تزداد يوماً بعد يوم، والمقاومة الباسلة في تصاعد مستمر؛ ولله الحمد، وهذا ما يدعونا إلى التخطيط بجدية للمستقبل؛ فمن الحَيْف والجور أن يتحوَّل من جاد بنفسه في سبيل الله، وساهم في تحرير بلده من الاحتلال ليصبح غداً أو بعد غد مطارداً، ولا يشارك في بناء بلده من جديد.
وعلى جميع المخلصين من أبناء الرافدين ومعهم المسلمون الغيورون أن يقدموا الدعم المادي والمعنوي لهذه الفصائل المخلصة؛ لأنَّ المشروع الجهادي هو الذي أوقف المد الأنجلو ـ أمريكي الذي لم يكن ليقف عند حد احتلال العراق؛ وللمقاومة الفضل الكبير في إفشال المشروع الكوني الأمريكي وإلحاق الهزيمة به، وعليها أن تُبقي الإصبع على الزناد، وأن لا تتحول إلى خلايا نائمة، فينال منها العدو مأربه على حين غفلة من أمرها.
أما محاولات الإنقاذ التي لا تفتأ الإدراة الأمريكية تستخدمها؛ فإنها ستؤول إلى الفشل مهما خططت وأعدت لها. وليس متناغماً ما تفعله إدارة الحرب الأمريكية من دعمها المستميت لعملية متهالكة أثبتت فشلها على مدى سنوات الاحتلال الماضية وما تدعو إليه من مؤتمرات تبغي من خلالها الخروج من عنق الزجاجة الذي بدأ يضيق كلما توغلت في أعماق المستنقع العراقي جراء تزايد خسائرها في البعدين الميداني والسياسي؛ فمن الناحية الميدانية لم تكد قوات الاحتلال تعالج خسارتها لأكثر من مائة جندي خلال شهر واحد حتى ظهر لها سقوط تسع طائرات خلال اقل من شهر. أما من الناحية(1/1702)
السياسية فهي الآن مدركة تماماً أنها لم تعد قادرة على الانفراد بالقرار الدولي مثلما فعلت إبّان غزو العراق.
لقد أغرى هذا التخبط الامريكي كثيراً من الدول سواء منها الكبرى أو الإقليمية على استغلال الثغرات للظهور على مسرح الأحداث كلاعبين بدلاء لهذا اللاعب الوحيد الذي بدا عليه التعب والإعياء؛ حيث لم تكن حسابات من خططوا له على درجة عالية من الدقة ومعرفة وثيقة بما سيجري على أرض الواقع من تقلبات.
ولتفادي هذه التداعيات عمدت الإدارة الأمريكية ممثلة بصقورها الذين يعشقون الدم إلى الترويج لمؤتمر تارة يسمونه إقليمياً؛ لأنه سيشمل سورية وإيران، وأخرى يطلقون عليه صفة الدولية، غير أن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن المتحاورين أو المؤتمرين وتحت أي سقف هي أن أمريكا لن ترضى في حواراتها ومؤتمراتها إلا بالحل الذي يؤكد سيطرتها وينتشلها من السقوط في الهاوية.
إنَّ اشتعال المنطقة بحرائق الديمقراطية الأمريكية المصدرة عبر بوابة خريطة الطريق وخريطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير دعت أمريكا هذه المرة إلى معالجات، ولكن المتابع للسياسة الأمريكية يرى أنها تقف كثيراً عند عوارض المشكلات، وتُعنى بمعالجتها متناسية أو متجاهلة الأسباب التي أفرزت هذه العوارض؛ فهي تعالج نتائج سياستها الهوجاء لا أسبابها.
وبعد كل ذلك: على السياسيين ـ وخاصة من تورط ممن يحسب على أهل السنة، إن كانوا كما يدَّعون انهم شاركوا لمصلحة أهلهم ووحدة العراق ـ أن يعترفوا صراحة بفشل المشروع السياسي الذي كانوا ولا يزالون جزءاً منه؛ لأنَّ انسحابهم اليوم ـ قبل غد ـ من عملية كُتِبَ لها الفشل بعد أن مضى عليها أربع سنين يحسب لهم قبل فوات الفرصة؛ وذلك لسبيين:
أولهما: أنهم سيكونون عندئذٍ ضمن الصف الوطني الذي نأى بنفسه عن أن يكون ضحية عمليةٍ سياسية تمتاز بالظلمة والمصير المجهول، بسبب السياسة الهوجاء للمحتل.
وثانيهما: لأن انسحابهم اليوم يعدُّ الحلقة الأخيرة من فصل المهزلة السياسية الجارية الآن في العراق، وهو بمنزلة النزع الأخير لكل متهالك متعاون مع المحتل وأذنابه؛ ومن عاند منهم وأبى الإنابة وارتضى أن يستمر في طريق مشروع الاحتلال فإنَّ عليه أن يكف لسانه عن مكونات المشروع الوطني العراقي الأصيل من هيئات ومنظمات وتجمعات وفصائل جهادية وغيرها؛ فإنَّ التاريخ يسير وهو يسجل كل موقف وكلمة، وقد علمتنا الدنيا أنها يوم لك ويوم عليك.
إنَّ المواقف غير المسؤولة التي يقوم بها بعض الساسة ممن يُحسَبون على السنَّة ضد القوى الوطنية المشرفة المناهضة للاحتلال، ستقدم حبل النجاة لأعداء الله والوطن من المحتلين وأعوانهم؛ في الوقت الذي نشاهد فيه عدونا وقد توجه نحو الاندحار وهو على وشك السقوط المدوي الذي سيهوي به في قعر الهزيمة والشنار.(1/1703)
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يبصرنا بالحق، وأن يرزقنا اتباعه إنه سميع مجيب.
ـــــــــــــــ
الهزيمة في العراق أم في أفغانستان: أيها أخطر على أمريكا؟!
د. محمد مورو
لماذا يعدُّ الغرب الهزيمة في أفغانستان أخطر من الهزيمة في العراق رغم أن العراق يتمتع بثروات بترولية هامة تجعله مطمعاً للقوات الاستعمارية، ورغم الموقع الاستراتيجي للعراق؛ كونه على بوابة الوطن العربي الشرقية، فإن الغرب يعدّ الهزيمة في أفغانستان أخطر من الهزيمة في العراق، وذلك لعدة أسباب تتصل بأن التحدي الرئيسي الذي يواجهه الغرب - من وجهة نظر الغرب طبعاً - هو الإرهاب الإسلامي.
الهزيمة في العراق لها بالطبع تداعيات استراتيجية كبرى، على مستوى خطورة الصعود الإيراني من ناحية، وعلى مستوى التداعيات بالنسبة لدول المنطقة، وأيضاً على مستوى إحساس الشعوب بالقدرة على مواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني، وعدم قدرة آلة الحرب العسكرية الأمريكية على إخضاع الشعوب، الأمر الذي سيقلص قدرة أمريكا على فرض إرادتها بسهولة على الآخرين، ويرفع الروح المعنوية لقوى المقاومة للمشروع الأمريكي الصهيوني، ولكن هذا الأمر أيضاً يتحقق بالهزيمة الأمريكية الغربية في أفغانستان، صحيح أن زخم الهزيمة في العراق من الناحية الإعلامية كبير جداً، ولكنه في النهاية في إطار الدعاية والإعلام اللذين من الممكن احتواء آثارهما.
الهزيمة في العراق تعني أيضاً فشل المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي كان يخطط للقفز على سوريا ثم مصر وهكذا، وإخضاع المنطقة بالكامل للنفوذ الأمريكي الصهيوني، ولكن هذا الفشل في المشروع الإمبراطوري الأمريكي يعني فقط فشل أجندة اليمين المحافظ الأمريكي، ويمكن ـ من ثمَّ ـ لإدارات أمريكية أخرى أن تتخلَّى عن هذا المشروع بالكامل وتعود إلى سابق سياساتها في المنطقة، وهو في النهاية فشل لأحد المشروعات الأمريكية.
هذا بالطبع ليس بالأمر البسيط وله آثاره الكبيرة والممتدة، ولكن من الممكن لأمريكا أن تتحمل هذا الفشل خاصة أنها نجحت إلى حدٍّ بعيد في إحداث فتنة طائفية في العراق يمكن لها أن تمنع قيام قاعدة إسلامية (سنية) في العراق إلى فترة غير قصيرة يمكن أن تشكل خطراً على الغرب وأمريكا.
بخصوص أفغانستان فإن الأمر مختلف، فالهزيمة الأمريكية الغربية تعني مباشرة تحول أفغانستان إلى منطلق للمقاومة الإسلامية السنية ضد الغرب وأمريكا، وهي المقاومة التي لا تقبل ولا تملك عناصر التفاهم مع أمريكا، على عكس المشروع الشيعي، الذي لا يمانع من التفاهم مع الغرب وأمريكا على حساب السُّنّة، بل يسعى إلى ذلك سعياً حثيثاً، ولولا وجود مشكلات عويصة مثل الدولة الصهيونية والملف النووي الإيراني وغيرها؛ لأمكن لهذا التفاهم أن يتم.(1/1704)
من الناحية العرقية والمذهبية فإن أفغانستان يمكن أن تصلح قاعدة للمقاومة السنية، والتحالف الشمالي في أفغانستان وصل إلى حالة من التفكك والإحساس بعدم جدوى المراهنة على الأمريكان بحيث أنه لم يعد قادراً على منع تحول أفغانستان إلى قاعدة للمقاومة السنية، أضف إلى ذلك أن هذا التحالف لا يستند إلى عمق استراتيجي عرقي أو مذهبي؛ فباكستان ـ مثلاً ـ من الناحية الشعبية والمذهبية والعرقية ستنحاز إلى البشتون وطالبان، خاصة أنها لم تجد من أمريكا أي فائدة في إطار صراعها مع الهند، وهي ترى أن طالبان والبشتون هما عمق استراتيجي لها في النهاية في إطار المعادلات الإقليمية المعقدة في تلك المنطقة، أما شيعة العراق أو حلفاء أمريكا في الغرب فهناك امتدادات مذهبية لهم في إيران وعرقية بالنسبة للأكراد في العراق وكل من إيران وسورية وتركيا وهكذا، فإن طالبان لو استعادت السلطة ستكون أكثر استقراراً من أي حركة سنية تصل إلى نوع من السلطة في العراق أو بعض مناطقه، والمحصلة النهائية أن الحرب على الإرهاب ستتأثر بالهزيمة في العراق، ولكنها ستصاب بضربة قاتلة بالنسبة لأمريكا في حال الهزيمة في أفغانستان.
ولعل نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) قد شخَّص الحالة بشيء من الدقة عندما قال في خطاب له في أستراليا في زيارته الأخيرة إليها أن الجهاديين يمكن لهم بعد أن ذاقوا طعم النصر أن يشكلوا ملاذاً وقاعدة للإرهاب في أفغانستان، ومن ثم فإن قرار رئيس الوزراء البريطاني بسحب نصف قواته من العراق يتضمن أيضاً توجيههم إلى أفغانستان.
المؤشرات في أفغانستان تشير إلى غير صالح الاحتلال، ورغم وجود 33 ألف جندي من قوات حلف الأطلنطي، بالإضافة إلى 20 ألفاً من القوات الأمريكية في أفغانستان، ويتم زيادتهم باستمرار، وقد طلب الرئيس الأمريكي زيادة قدرها 10.6 مليار دولار لحساب الحرب في أفغانستان، وبرغم تسلُّم قائد أمريكي جديد هو (دان ماكنيل) يوم 4 فبراير 2007م من زميله البريطاني (ديفيد ريتشاردز) مهمةَ قيادة قوات الناتو في أفغانستان؛ فإن الحقائق على الأرض تظهر تصاعد قوة طالبان، فالخسائر في الأرواح، وعدد العمليات الاستشهادية والفدائية التي نفذتها عناصر طالبان في عام 2006م كانت كبيرة جداً، بالقياس إلى مستوياتها منذ عام 2001م حتى عام 2005م، وتعترف مراسلة مجلة (نيويورك تايمز) الأمريكية في أفغانستان أن حركة طالبان أصبح لها وجود مقاوم في كل ولايات أفغانستان من دون استثناء، وأن هناك ثلاث ولايات تسيطر عليها طالبان بالفعل وهي: أوروزغان، وهلمند، وقندهار، وهناك ثلاث ولايات أخرى تسيطر طالبان على أجزاء منها وهي: كابول وغازفي وبكتيكا، كما شهد بداية عام 2007م استيلاء طالبان على عدد من المدن الهامة، بل ووجود مساندة من جانب جنود منسوبين للحكومة لطالبان في هذا الصدد، كما حدث في الهجوم على مدينة موسى قلعة، الأمر الذي يعني وجود اختراق قوي لطالبان في صفوف الجيش الحكومي، ووجود تعاطف لدى هؤلاء الجنود مع حركة طالبان، وعدم قدرة الحكومة على السيطرة على جيشها، وهو أمر يضع أعباء(1/1705)
كبيرة على عاتق القوات الأجنبية، وفي الحقيقة؛ فإن الرفض الشعبي الأفغاني لقوات الاحتلال يتزايد، والفشل والفساد المستمران لحكومة كابول أدّىا إلى عزلتها وعدم وجود تأثير لها خارج القصر الرئاسي الذي يحرسه حراس أجانب!
ووصل الأمر إلى حدِّ اندلاع مظاهرات تندِّد بالاحتلال في قلب العاصمة كابول، بل في مناطق من كابول ليست من الأغلبية البشتونية، بل تابعة لأعراق أخرى كانت تؤيد تلقائياً تحالف الشمال، وهذا يعني أن الإفلاس الحكومي ورفض الاحتلال وصل إلى كل الأعراق الأفغانية وليس البشتونية فقط، أضف إلى ذلك أن الإحساس الباكستاني بضرورة تأييد طالبان رغم أنف الجنرال (برويز مشرف) حاكم باكستان أو برضاه الصامت؛ أصبح يعبر عن نفسه علناً، فالسيد (محمد خان أوركزاي) حاكم الولاية الحدودية الشمالية الغربية الباكستانية المتاخمة لأفغانستان وصف حركة طالبان بأنها (حركة تقوم بحرب تحرير وطنية)، مما دفع الإدارة الأمريكية والرئيس الأفغاني (حامد كرزاي) إلى اتهام باكستان بأنها توفر ملاذاً آمناً لمقاتلي طالبان، والحقيقة أن تعاون الشعب الباكستاني مع حركة طالبان هو تعاون يستند إلى أسباب دينية وعرقية ومن ثم فهو أقوى من أن تمنعه حكومة باكستان، بل إن شخصيات كثيرة داخل الحكومة ذاتها تعدُّ دعمَ طالبان جزءاً هاماً من المصلحة الباكستانية والأمن القومي الباكستاني.
وهكذا؛ فإن فشل حكومة (كرزاي) وفسادها، وعدم نجاح قوات الاحتلال في تقديم أي خدمات أو مزايا للشعب الأفغاني، وكذا إحساس الشعب الأفغاني بالمهانة بسبب الاحتلال الأجنبي، إلى جانب رفضه التقليدي المعروف والعتيد للاحتلال؛ جعل الشعب الأفغاني يتعاطف مع حركة طالبان التي نجحت بدورها في تنظيم صفوفها واستعادت زمام المبادرة، مما يعني أن أياماً عصيبة تنتظر القوات الأجنبية في أفغانستان، وأن العدَّ التنازلي لهزيمة الغرب في أفغانستان قد بدأ.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.
ـــــــــــــــ
إضاءات في الهزيمة النفسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الهزيمة النفسية التي حلت بها الأمة الإسلامية
الناظرلأحوال المسلمين اليوم يجد أن الكثير منهم قد تشبه بالكفارفي أمور كثيرة والله المستعان .ولاشك أن هذا التشبه هو عين الهزيمةالنفسية لدى شعوبنا اليوم .(1/1706)
وهذه الهزيمة لها ماوراءها من أسباب وظروف. وحسبي في هذه الوريقات أن أسلط الضوء حول هذه الهزيمة من مظاهر وأسباب ثم أعرج على شيء من العلاج وليعذرني القاريء فيما سأعرضه من إيجاز مع شيء من التنقيط...
أولا/ مظاهر الهزيمة النفسية
في الحقيقة أن المظاهر كثيرة ولكن حسبي ما أد ونه. ولعل هناك من يتفرغ لإخراج مثل هذا الموضوع في مجلد جديد. ومن الظاهر مايلي:
1- اليأس من إصلاح وضع المسلمين .وذلك لما يراه ويسمعه جهارا نهارا من وضع المسلمين المتدني شرقا وغربا - سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتقنيا .. - مع ما يراه ويسمعه أيضا من تسلط الكفر عليهم, وتقدمه في نفس الوقت - سياسيا واقتصاديا وتقنيا -
2- النظرة إلى الدون بمعنى (انعدام الطموح).
حيث يكتفي بإنجاز مهام حياته الروتينية, ولايفكر يوما في الارتقاء بنفسه فضلا عن أمته.
3-التقليدالأعمى للغرب..... ومن آثاره..
أ/ذهاب الابتكار وهذه تكفي ..حيث أصبح الأمر سهلا عند المعجبين بالغرب إذ كل ما في الأمر أن يبحث عن آخر ما استجد لديهم فيما يبحث عنه ومن مظاهر ذهاب الابتكار مايلي:
• التقليد في الملبس..
• التقليد في المأكل والمشرب.
• التقليد في الأسماء سواء أسماء أفراد أومؤسسات أومحلات ...
• التقليد في تصميم العمران ولك أن تتأمل الفنادق فإنها على الطريقة الغربية .
• التقليد في طريقة الكلام
• التقليد في طريقة المستشفى
• التقليد في أنماط الحفلات
• تقليدهم في الاعياد
• اقتناء المجسمات والتماثيل والصور
الخلاصة ( أن التقليد يعني إلغاء الشخصية)
ب/ رضا كثير من الناس بواقعهم الضعيف , ويتجلى في الفرد حيث لا يحمل هم الإسلام
4ـ عدم إظهار الهوية الإسلامية
5ـ ترك الأهداف السامية والرضا بهدف قريب محدود.
ومن الأمثلة..(1/1707)
• تربية الأبناءعلى الدراسة والزواج وبناء الدورفقط . وضمان شيء من قوت الحياة دون تربيتهم على الإيمان الصادق والنهوض بأمتهم والدعوة إلى الله وحمل هم المسلمين.أقول صحيح أن المرء يهتم بقوته وأمور دنياه كما قال الله ((ولاتنس نصيبك من الدنيا)) ولكن نقول كما قال الله أيضا ((وأحسن كما أحسن الله إليك)) وماذكرناه آنفا كله من الإحسان .
• أن البعض ليس له هدف واضح ومحدد يرتقي بمستواه حيث يجعله بعد نهاية ذلك الهدف من المؤثرين ومن القدوات. إنك تعجب من بعضهم حيث يحلم أن يعمل للأمة شيئا العمل ولكنه لا يعمل خطوات عملية لما يريده فهذه هزيمة نفسية لأنها مجرد خواطر .
• كذلك تجد أن الشاب يتخرج من الثانوية ولايدري أي تخصص يعمل فيه .
• أيضا التخاذل والتكاسل عن تبليغ الدعوة إلى الله .
• وكذلك التخاذل عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
• تفضيل الصناعات الغربية على الصناعات المحلية الإسلامية
• الحرص على التردد إلى البلاد الغربية والتفاخر بذلك .
إن الواجب على المسلمين أن ينتبهوا لذلك وأن يكون حذقين بما يمكر به أعداؤنا .
تلك هي المظاهر والآن نتحدث عن الأسباب والعلاج وما هذا الموضوع إلا محاولة يسيرة لدفع عجلة الأمة للأمام والله الموفق .
ثانيا/ الأسباب المؤدية إلى الهزيمة .
وتنقسم إلى قسمين :
1ـ أسباب داخلية عند المسليمن .
• ضعف الإيمان .
• ترك الجهاد
• الخوف والهلع من المشكلات التي تواجههم عند التزامهم بهذا الدين .
• النظرة الضعيفة للتاريخ . فينظر إلى القدس فيقول لها خمسين سنة ولم تتحرر. أن الأمة أصبحت تجهل طاقاتها الحقيقية .
• قلة الطموحات في أفراد هذه الأمة .
• عيش المسلمين في عقدة المغلوب .
2ـ أسباب خارجية .
• قوة الأعداء وتمكنهم بل وتسلطهم على بلاد المسلمين وخيراتهم
• وجود المنافقين وما أكثرهم .
• أن أعداء الله يحاولون أن يظهروا للناس دعايات تضخم قوتهم وجبروتهم .(1/1708)
ثالثا/ العلاج :
والعلاج هو العمل بضد الأسباب فبضدها تتميز الأشياء ولكن نضيف قائلين :
• أنه لابد علينا أن نعرف المشكلة.وأن نعرف مكمن الخطر .
• لابد من التربية على العقيدة الصحيحة .
• الابتعاد عن التعلق بالدنيا والإقبال على الآخرة .
• الرجعة إلى التاريخ .
• الهمة والإرادة .
• إبعاد التشاؤم .
وعلى الأمة جميعا أفرادا وجماعات ,شعوبا ودولا أن يرجعوا إلى ربهم وأن ينفضوا ثوب الهزيمة عنهم لكي تعود الأمة إلى رشدها وطريقها الصحيح عندئذ نحرر الأقصى ونتربع على عرش الأمم.
والله المستعان .
ـــــــــــــــ
ثقافة الهزيمة إلى مزبلة التاريخ
د. فيصل القاسم
لا أعتقد أن هناك أمة عانت من ثقافة الهزيمة أكثر من الأمة العربية، فقد عمل أعداؤنا على مدى عقود على تكريس الشعور بالهزيمة لدينا، وقد ساعدهم في ذلك رهط من أبناء جلدتنا الذين ما فتئوا ينشرون اليأس والعجز والإحباط بين ظهرانينا بدعوى الواقعية وضرورة أن نعرف قدر أنفسنا، على اعتبار أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان.
ولا بد من الاعتراف بأن أولئك الأشرار قد نجحوا إلى حد كبير في حربهم النفسية الخطيرة ضد الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، خاصة وأن الأخطر من الهزائم العسكرية التي مُنينا بها هو القبول بها والعيش معها كأمر واقع، فقد وصل الأمر بالكثير منا إلى حد الخوف حتى من استخدام كلمة مقاومة أو جهاد أو تصدٍ في الآونة الأخيرة، خشية أن نُتهم بالإرهاب بحيث أصبحنا نخشى من الكلام فما بالك القتال.
لقد انحدرت بنا ثقافة الهزيمة إلى ذلك الدرك الأسفل من الهوان والاستكانة. ويؤكد هذه الحقيقة كتاب شهير بعنوان "ثقافة الهزيمة" The Culture of Defeat، إذ يرى مؤلفه وولفغانغ شيفلبوش أن أهم شيء في فنون الحرب الحديثة ليس الانتصار على عدو ما، بل إبقاء ذلك العدو أسيراً لعار السقوط ولحظة الهزيمة والوقوع على الأرض لا يخرج منها أبداً ولا يخرج من عاره أو من هزيمته.(1/1709)
بعبارة أخرى، فإن النصر الأعظم الذي تستطيع قوة من القوى أن تلحقه بأعدائها هو أن تظل تضغط عليها نفسياً باستمرار، وأن تذكرها طوال الوقت بهزيمتها وأن تستبقيها إلى الأبد أسيرة لثقافة الهزيمة. وقد درس المؤلف تجارب ألمانيا واليابان وبولندا وفرنسا، وأخذ حالة هذه البلدان وكيف واجهت الوضع الصعب، مع العلم أن ألمانيا استسلمت بلا قيد أو شرط وفتحت أبوابها للمنتصرين ليدخلوا ويفعلوا ما يشاؤون، وأن اليابان ركعت على ركبتيها أمام القنبلة النووية الأمريكية واستسلمت بالكامل.
ولا ننسى أن فرنسا بجلالة قدرها هُزمت واحتلت من قبل هتلر في سنة 1940وظل نصفها تحت حكم الألمان والنصف الآخر بقيت فيه حكومة عميلة. لكن الشعوب الأوروبية لم تسمح للهزيمة بأن تتحول إلى ثقافة عامة، كما فعل العرب. لقد فهم الألمان واليابانيون والفرنسيون تلك الحقيقة جيداً، كما يقول محمد حسنين هيكل، وواجهوها واجتثوها من جذورها. وقد لعب المثقفون الوطنيون وقتها دوراً كبيراً في إزالة آثار الهزيمة وتشجيع المقاومة وإعادة استنهاض الروح المعنوية للشعوب الفرنسية والألمانية واليابانية، بمعنى أن المثقف الحقيقي هو أول من يجب أن يتنبه إلى أن استبقاء شعبه أو أمته أسيرة لثقافة الهزيمة أمر في غاية الخطورة، فلا ديمقراطية ولا حرية ولا تنمية ولا شرعية ولا هوية ولا كرامة، طالما أن الأمة أسيرة لثقافة الهزيمة. فلا يمكن أن تصنع مستقبلاً وأنت أسير لحظة الانكسار.
لكن بينما تصدى المثقفون والإعلاميون الغربيون لثقافة الهزيمة ووأدوها في مهدها، راح بعض مثقفينا يكرس الهزيمة ويجعلها ثقافة عامة مستدامة. وقد عاد ذلك الرهط الوضيع ليطل برأسه بقوة أثناء المواجهة الأخيرة بين رجال المقاومة الوطنية اللبنانية والدولة العبرية ليمارس لعبته القديمة، متعامياً عن النصر المؤزر الذي حققته المقاومة الوطنية اللبنانية، فامتلأت بعض المواقع الالكترونية والصحف العربية الصفراء والخضراء بالمقالات والتحليلات التحبيطية التي وجدت طريقها بسهولة فيما بعد إلى موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية الالكتروني.
وكم كان التناغم واضحاً بين بعض المواقع والصحف العربية وبين المواقع الإسرائيلية الرسمية،على اعتبار أن بعض الصحف الإسرائيلية غير الرسمية كانت أكثر توازناً في تقييمها للمعركة وأكثر اعترافاً ببسالة المقاومين اللبنانيين من الطابور الإعلامي العربي الخامس. كيف لا وقد اعترف قائد لواء (جولاني) الذي يُعتبر صفوة الجيش الإسرائيلي بأنه كم تمنى لو كان المقاومون الذين واجههم في بنت جبيل وعيتا الشعب من لوائه لشدة بأسهم وعبقريتهم القتالية وصمودهم الرائع. لكن ذلك الاعتراف الإسرائيلي المر لا يعني من استمرأوا الهوان والذل وراهنوا على الهزيمة المستدامة من إعلاميينا ومثقفينا المزعومين.(1/1710)
وعلى ما يبدو أن خبراء التحبيط والتيئيس العرب ما زالوا أسرى أدواتهم ونظرياتهم القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، فليس لديهم من أسطوانة يلعبونها كلما أرادوا النيل من حركات المقاومة وداعميها سوى أسطوانة أحمد سعيد المذيع الشهير في إذاعة (صوت العرب) أيام النكسة، على اعتبار أن العرب، برأيهم، ليسوا أكثر من ظاهرة صوتية تتغنى بالانتصارات الفارغة وتطلق العنتريات على الهواء وتُمنى بالهزائم على الأرض.
والمضحك في موقف التيئيسيين العرب أنهم كلما سمعوا عربياً يبشر بالنصر ويدعو إلى شحذ الهمم سخروا منه فجأة وذكروه بشكل أتوماتيكي بأحمد سعيد الذي صار ديدنهم الدائم، مع العلم أن وسائل إعلام المقاومة اللبنانية ممثلة بقناة المنار ابتعدت كلياً عن الخطاب الإعلامي التهييجي والتطبيلي "السعيدي" في تغطيتها للحرب الأخيرة مع الصهاينة.
وقد لاحظنا أن خطابات السيد حسن نصر الله كانت متزنة وواقعية ورزينة إلى أبعد الحدود، فيما اتسمت التصريحات الإسرائيلية بنبرة عنترية مضحكة، بينما كان الجنود والضباط الإسرائيليون يتساقطون كالذباب أمام رجال المقاومة البواسل وبينما كا يشتكي سكان الملاجئ الإسرائيليون من أن صواريخ المقاومة جعلتهم "يعيشون كالكلاب في دهاليز مظلمة".
وقد رأينا أن معظم الجنود الإسرائيليين المصابين كانوا مستلقين على الحملات الطبية على بطونهم وليس على ظهورهم، مما يؤكد أنهم أصيبوا وهم هاربون من أرض القتال. وقد صلى الجنود بعد انتهاء المعركة بأن تكون حربهم الأخيرة مع المقاومة. لهذا كان حرياً بمروجي ثقافة الهزيمة العرب أن يشبهوا بيانات وسائل الإعلام الإسرائيلية بخطابات أحمد سعيد، إلا إذا اعتبروا الهمجية النازية التي مارستها الطائرات الإسرائيلية الجبانة بحق النساء والأطفال والشيوخ في لبنان انتصاراً عسكرياً. وهي بالتأكيد دليل يأس وعجز وهزيمة أكثر من أي شيء آخر.
لقد وصف أحد المعلقين سلاح الجو الإسرائيلي بعد الحرب الأخيرة بأنه سلاح الجبناء. فما الفائدة إذا استطاعت طائرات هتلر في الحرب العالمية الثانية تسوية بعض الأحياء اللندنية بالأرض بينما بقي تشيرتشل ومونتغمري يقودان المعركة على الأرض ضد القوات النازية الفاشية ويدحرانها على أكثر من جبهة؟
لقد أظهرت الإحصائيات التي نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية نقلاً عن مصادر إسرائيلية أن القصف الإسرائيلي قتل ألفا وثلاثين لبنانياً، خمسة منهم فقط عسكريون والباقي مدنيون، بينما قتل حزب الله مائة وثلاثين إسرائيلياً (حسب البيانات الإسرائيلية) مائة منهم من خيرة الضباط والجنود، والباقي مدنيون. لاحظوا الفرق! من المنتصر الحقيقي بربكم، الذي يقصف المشافي والسيارات المدنية والطرق والجسور، أم الذي يسحق الجنود ويجعل دبابات الميركافا العتيدة أثراً بعد عين؟(1/1711)
ولو كنت مكان جوقة الانهزاميين العرب لخرست من الآن فصاعداً،لأن البطولات التي سطرها رجال المقاومة في لبنان أنهت ثقافة الهزيمة لدى العرب إلى غير رجعة كما يتبين من ردة فعل الشارع العربي من المحيط إلى الخليج. لقد تغير الشعور العام مائة وثمانين درجة لدى العامة والخاصة على حد سواء. والدليل على ذلك أن ألد أعداء حزب الله راح يبارك صمود المقاومة وانتصاراتها، على مبدأ أن الهزيمة يتيمة وأن للنصر مليون أب.
لقد كان الشارع العربي هذه المرة حذراً جداً في التفاؤل، خاصة أنه تجرع في السابق مرارة الهزائم والتسرع في إعلان النصر. وقد تميزت ردود الفعل الشعبية بالتروي والانتظار على مدار الحرب، لكن الشارع بات متيقناً مائة في المائة الآن أن النصر قد تحقق، وأن الشعور بالهزيمة الذي صاحبنا منذ عقود قد تلاشى تماماً بعد أن تمكنت حركة مقاومة صغيرة جداً من أن تدحر رابع أقوى جيش في العالم وتجعل أحد كهنة السياسة الإسرائيلية شمعون بيريز يصف الحرب الأخيرة بأنها "حرب حياة أو موت". صحيح أن الدولة العبرية لم تمت، لكنها برأي الشارع العربي والخبراء الاستراتيجيين فقدت هيبتها وتحطمت أسطورتها مهما دججوها بالعتاد والأسلحة الجهنمية. ألم تفقد إسرائيل وظيفتها الأساسية ككلب حراسة في المنطقة وأصبحت بحاجة حقيقية لمن يحرسها؟
ألا يشعر السواد الأعظم من العرب الآن أن النصر الكامل أصبح، قاب قوسين أو أدنى، في متناول اليد بالصواريخ فقط؟ ألا يشعر كل عربي من المحيط إلى الخليج بأنه مستعد لخوض المعركة ضد الأعداء بعد أن كان يلوذ بالخوف والصمت في السابق؟
لقد تخلص شارعنا من عقدة الذل والهزيمة، وهي، كما رأينا في كتاب (ثقافة الهزيمة) آنف الذكر أنها أخطر بكثير من الهزيمة ذاتها. ولا شك أن المثقفين العرب الحقيقيين سيستعيدون من الآن فصاعداً زمام المبادرة ولن يخشوا تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية بعدما كانوا يتجنبون عبارات التحدي والمقاومة في الماضي.
ولعل النصر الأهم للمقاومة اللبنانية إذن ليس دفع نصف إسرائيل تحت الأرض كالفئران المذعورة ونقل المعركة لأول مرة في تاريخ الصراع إلى ساحة العدو الداخلية، بل تخليص الأمة من نير الهزيمة، بشرط أن نستغل ذلك النصر المعنوي العظيم للنهوض سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً واجتماعياً كما فعل الألمان واليابانيون من قبلنا، وأن نحمي النصر التاريخي بأسناننا كي لا يفرغه الحاقدون من مضمونه، وألا نقايضه بمكاسب وصفقات ومتاجرات سياسية رخيصة، كما فعل البعض بعد حرب تشرين المجيدة ليحولوها وبالاً على العرب.
لا نريد النصر لمجرد النصر، فقد انتصر الجزائريون من قبل، لكنهم سلموا رقابهم بعد التحرير لمن أسماهم أحد المفكرين الجزائريين بـ"أبناء باريس"، أي أن المحتل عاد ليحكم من خلال عملائه الداخليين القدامى في الجزائر والكثير من الدول التي تحررت عسكرياً من ربقة الاحتلال الغربي. لهذا(1/1712)
يجب أن يكون النصر هذه المرة أساساً لبناء الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة، لا دولة التجار والمرتزقة والمقاولين والوكلاء
ـــــــــــــــ
.مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الفكر
يتناول الدرس السمات الظاهرة التي انعكست على المنهزمين نفسيا في مجال الفكر التربوي من حيث المضمون الذي يقدم وطريقة تقديمه ومن الذين يقدمونه، وكذلك الهزيمة النفسية في الفكر الإعلامي ومظاهر ذلك .أولاً : الفكر التربوي : من مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الفكر التربوي :
1- محاصرة التعليم الديني ماديًا ومعنويًا ؛ فماديًا بفتح مجالات التعليم اللاديني في مواجهته ,وتشجيعه على حسابه ، ومعنويًا بأمور منها:
أ- السخرية بوسائل التعليم الديني من أستاذ وتلميذ ومنهج.
ب- التفرقة بين معلم الدين واللغة العربية وبين غيرهما من معلمي العلوم الأخرى في التعامل بكل صوره من حيث الحوافز والمميزات المالية الأخرى.
ج- اختيار أسوأ أوقات اليوم الدراسي عند الطالب للمواد الدينية والعربية ؛ فهي دائمًا تأتي في الساعات الأخيرة وهدف المهزومين من ذلك ألا يعي الطالب منها شيئًا ، وأن يكرهها ويسأم منها ومن مدرّسها.
د- حرمان معلمي الدين والعربية في الغالب الأعم من الفرص الإدارية والمناصب القيادية والوظائف الإشرافية حتى لا يتسنموا ذروة التوجيه أو يحتلوا موقع صنع القرار.
2- تقسيم التعليم إلى ديني وتعليم آخر يسمى أحيانًا مدنيًا وأحيانًا عصريًا وفي أحيان أخرى لايسمى شيئًا، وهذا التقسيم مظهر من مظاهر الهزيمة، وذلك أن التعليم في البلاد الإسلامية لا يمكن أن يكون إلا دينيًا؛ ألا ترى إلى الأمم الأخرى من أصحاب العقائد الباطلة تلحّ على أن يكون التعليم ومنهاجه والثقافة وفروعها مصطبغين بصبغتها الحضارية الخاصة بها؛ منبثقين من عقائدها الدينية وخير مثال على ذلك اليابان البوذية والهند البرهمية.
3-إهمال الجامعات والمعاهد الإسلامية العريقة.
4-التوسع في الابتعاث إلى الدول الكافرة , وليت ذلك التوسع كان من نصيب العلوم التجريبية والطبيعية التي تشكو البلاد الإسلامية من ضعف شديد فيها لكان الأمر أهون ، ولكن ذلك التوسع كان في مجالات تتصل بالبيئة والتراث والوضعيات المحلية كعلوم التربية وطرق التدريس والعلوم الإنسانية؛ فقد نشرت الجريدة الرسمية بمصر تقريرًا عن البعثات الدراسية التي ستوفدها وزارة التعليم العالي لسنة 1973م وذكر التقرير أن نصيب العلوم الطبيعية لا يتجاوز أكثر من خمس بعثات من بين(1/1713)
أكثر من مائتي بعثه وخُصِّص الباقي للعلوم الإنسانية التي كان نصيب علوم التربية وطرق التدريس منها أكثر من مائة وعشرين بعثة.
5-انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.
6-تمييع المناهج الإسلامية واختصارها باسم التطوير والاصطلاح والتعديل.
7-الاختلاط بين الجنسين ؛ حيث كان مظهرًا من مظاهر الانهزام في الحياة الاجتماعية العامة وفي محيط الأسرة , ثم انتشر ذلك الاختلاط بين الطلاب والطالبات ابتداءً بالمرحلة الابتدائية بحجة براءة كل من الفريقين، ثم ارتفع مستوى ذلك الاختلاط إلى المرحلة التي بعدها؛ الإعدادية والثانوية بحجة تعوّد كل من الفريقين على الآخر، وأخيرًا شمل الاختلاط مرحلة الجامعة؛ إذ كيف يفصل الجنسان عن بعضهما في الجامعة وقد اختلطا فيما قبلها.
8-الترويج للهجمات السوقية المحلية , ووجه كون ذلك انهزامًا أنه استجابة لرغبات أعداء الأمة الحريصين على تمزيق وحدتها عن طريق تفتيت لغتها الجامعة المانعة ؛ وإحلال لهجات عامية محلها لتتفرق الأمة بتفرق ألسنتها.
9-محاولة انتزاع الدراسات العربية من حضانة الدين والقرآن لنزع قداسة اللغة العربية , وحرمانها من حماية الدين , وكشفها أمام أعدائها , وإعانتهم على الإجهاز عليها بعد تجريدها من كل نصير أو معين , ومن أبرز من حاول ذلك الدكتور طه حسين الذي نقل عنه الدكتور محمد محمد حسين في كتابه [حصوننا مهددة من داخلها] نصً يدل على استماتته في هذا السبيل , قال: [إن اللغة العربية ليست ملكًا لرجال الدين يؤمنون وحدهم بها , ويقومون وحدهم من دونها , ويتصرفون وحدهم منها لكنها ملك للذين يتكلمونها جميعًا من الأمم والأجيال، وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التي تبيح له هذا التصرف، وإذًا فمن السخف أن يُظنّ أن تعليم اللغة العربية وقف على الأزهر الشريف والأزهريين ].
10-اتخاذ مجامع اللغة العربية ومكاتب جامعة الدول العربية ميدانًا لنشاط هدام أشرنا إلى طرف منه في فقرات سابقة كدعوة أحدهم في المؤتمر الأول لمجامع اللغة العربية بدمشق سنة 1376هـ إلى تأليف [معاجم محلية] , ودعوة آخر إلى إعادة النظر في تبويب النحو وتدوينه من جديد.
11- ضعف مناهج التعليم من جهة العقيدة الإسلامية ؛ بل إنا نجد في مناهج دول إسلامية أن نصيب التربية الإسلامية حصة واحدة في الأسبوع ، وفي كثير من البلدان هذه الحصة اختيارية، وللطالب كامل الحرية في أن يؤدي الامتحان فيها أو لا.
12- قطع الصلة بين الدين والعلوم التجريبية في أكثر الجامعات الإسلامية.
13- الإهمال المتعمد لتدريس الناشئة تاريخ إسلامهم العظام ابتداءً بالسيرة النبوية وانتهاءً بسير المصلحين والدعاة من أبطال الإسلام ورجالاته الفاتحين وعلمائه المبرزين.(1/1714)
ثانيًا: الفكر الإعلامي
الإعلام مجال من أخطر مجالات الحياة , وأكثرها حساسية , وأعظمها أهمية لقدرته على تشكيل الأفكار وصناعة الأفراد حسب النوعية التي يريدها , وتستطيع أن تنظر إلى إعلام أية أمة فتحكم على واقعها ومدى عمق نظرتها للكون والإنسان والحياة أو سطحية تلك النظرة، وعلى مدى جدية الأمة أو هزليتها وتقدمها أو تخلفها، وأمتنا تعيش في وقتها الحاضر أبشع مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الإعلام , ومن تلك المظاهر:
1- التناقض الواضح فيما يقدمه الإعلام في البلاد الإسلامي بمختلف وسائله إلى درجة تصل إلى حد العبث والاستهتار بالجمهور المتلقي , خذ مثلاً: ذلك البرنامج الذي يعرضه التلفاز، وقد يكون برنامجًا دينيًا أو صحيًا فيتحدث عن أضرار التدخين فما أن ينتهي ذلك البرنامج ؛ حتى يعقبه مسلسل أو تمثيلية تعج مشاهدها بالدخان والمدخنين، وقد يعرض التلفاز برنامج تفسير الآيات من القرآن وقد تكون الآيات تتعلق بتحريم المعازف والمزامير، فلا يكاد المفسر ينهي تفسيره حتى تصك مسامع المشاهدين وتصافح أعينهم مطربة تتلوَّى ومعها فرقة تعزف , وهكذا يتمزق المشاهد - وخاصة الشاب - من هذا التناقض؛ فلا يقيم لشيء وزنًا .
2- ضياع الهوية الحقيقية للأمة في وسائل إعلامها , وتخبط تلك الوسائل وجمعها بين الغث والسمين مع طغيان الغث في معظم الأحيان ، وهي ذلك فريقان , فريق يسير بلا عقل واعٍ لأهمية دوره في الامة ، ولا ينطلق فيما يقدمه للناس من مواد سياسية مرسومة واضحة المعالم ظاهرة الأهداف
فريق بان خبثه وفاحت رائحته التي تزكم الأنوف وظهرت أهدافه التدميرية في صورة ما يقدمه للناس من مواد هابطة وما ينفثه من سموم قاتلة ليس فيها مجال لخير، وهم ينطلقون من سياسة هدم متعمد وإفساد مقصود.
3- نقل الوسائل الإعلامية للأخبار والتحليلات السياسية وغيرها هكذا كما وردت من وكالات الأنباء العالمية والصحف الأجنبية دون تمحيص أو تدقيق أو إعادة نظر وصياغتها صياغة تتناسب مع مفاهيمنا، وتنطلق من قيمنا ومبادئنا مثل تسمية المجاهدين الأفغان أو الشيشان بـ[المتمردين] أو [الثوار] .
اسم الكتاب: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية تأليف: عبد الله بن حمد الشبانة
ـــــــــــــــ
من وحي الهزيمة
بدوي الجبل
رمل سيناء قبرنا المحفور وعلى القبر منكر ونكير
كبرياء الصحراء مرغها الذل فغاب الضحى وغار الزئير(1/1715)
لا شهيد يرضي الصحارى، وجلى هارب في رمالها وأسير
أيها المستعير ألف عتاد لأَعاديك كل ما تستعير
هدك الذعر لا الحديد ولا النار وعبء على الوغى المذعور
أغرور على الفرار؟! لقد ذاب حياء من الغرور الغرور
القلاع المحصنات ـ إذا الجبن حماها ـ خورنق وسدير !
لم يعان الوغى (لواء) ولا عانى (فريق) أهوالها و (مشير)
رتب صنعة الدواوين.. ما شارك فيها قرُّ الوغى والهجير
وتطير النسور في زحمة النجم، وفي عشه البغاث يطير
جَبُنَ القادة الكبار وفروا وبكى للفرار جيش جسور
تركوه فوضى إلى الدور، فيحاء، لقد ضمت النساء الخدورُ !
هُزِم الحاكمون، والشعب في الأصفاد، فالحُكْمُ وحده المكسور
هُزِم الحاكمون، لم يحزن الشعب عليهم، ولا انتخى الجمهور
يستجيرون ! والكريم لدى الغمرة يلقى الردى ولا يستجير !
لا تسل عن نميرها غوطةَ الشام ألح الصدى وغاض النمير
وانس عطر الشآم، حيث يقيم الظلم تنأى.. ولا تقيم العطور
أطبقوا.. لا ترى الضياء جفوني فجفوني عن الضياء ستور
بعض حريتي السماوات والأنجم والشمس و الضحى و البدور
بعض حريتي الملائك والجنة والراح و الشذا و الحبور
بعض حريتي الجمال الإلهي ومنه المكشوف و المستور
بعض حريتي ويكتحل العقل بنور الإلهام، و التفكير
بعض حريتي، ونحن القرابين لمحرابها، ونحن النذور
بعض حريتي، من الصبح أطياب ومن رقة النسيم حرير
ثم أملى الطغاة أن يبغض النور علينا ويعشق الديجور
نحن أسرى، ولو شَمَسْنا على القيد لما نالنا العدو المغير
لاقتحمنا على الغزاة لهيباً وعبرنا وما استحال العبور
سألوني عن الغزاة فجاوبت: رياح هبت ونحن ثبير
سألوني عن الغزاة فجاوبت: رمال تسفى ونحن الصخور
سألوني عن الغزاة فجاوبت: ليال تمضي ونحن الدهور !
هل درت عدن أن مسجدها الأقصى مكان من أهله مهجور(1/1716)
أين مسرى البراق، والقدس والمهد وبيت مقدس معمور؟
لم يرتل قرآن أحمد فيه ويزار المبكى ويتلى الزبور
طوي المصحف الكريم، وراحت تتشاكى آياته والسطور
تستبى المدن والقرى هاتفات أين... أين الرشيد والمنصور !
يا لذل الإسلام. إرث أبي حفص بديد مضيع مغمور
يا لذل الإسلام: لا الجمعة الزهراء نعمى، ولا الأذان جهير
كل دنيا للمسلمين مناحات وويل لأهلها وثبور
لبست مكة السواد، وابكت مشهد المرتضى ودك الطور
هل درى جعفر؟ فرف جناحاه إلى المسجد الحزين يطير
ناجت المسجد الطهور وحنت سدرة المنتهى وظل طهور
أين قبر الحسين ؟(1) قبر غريب! من يضم الغريب أو من يزور
أين آي القرآن تتلى على الجمع وأين التهليل والتكبير ؟
أين آي الإنجيل ؟ فاح من الإنجيل عطر وضوأ الكون نور
أين روما ؟ وجَلَّ حَبْرٌ بروما مهد عيسى يشكو ويشكو البخور
النصارى و المسلمون أسارى وحبيب إلى الأسير الأسير
صلب الروح مرتين الطواغيتُ! جراح كما يضوع العبير
يا لذل الإسلام والقدس نهب هتكت أرضه فأين الغَيور
قد تطول الأعمار لا مجد فيها ويضم الأمجاد يوم قصير
من عذولي على الدموع؟ وفي المروة والركن والصفا لي عذير
وحرامٌ علي أن ينزل البشر بقلبي وأن يلم الحُبور
كحلت بالثرى الخضيب جفون وهفت للثرى الحبيب ثغور
لا تشق الجيوب في محنة القدس ولكنها تشق الصدور
حبست أدمع الأباة من الخوف ويبكي الشذا وتبكي الطيور
أنا حزن شخص يروح ويغدو ومسائي مع الأسى والبكور
أنا حزن يمر في كل باب سائل مثقل الخطى مقهور
طردتني الأكواخ، والبؤس قربى وتعالت على شقائي القصور
يحتويني الهجير حيناً، ولا يرحم أسمال فقري الزمهرير
وعلى الجوع والضنى والرزايا في دروبي أسير ثم أسير
نقلتني الصحراء حيناً.. وحيناً نقلتني إلى الشعوب البحور(1/1717)
حاملاً محنتي أجرر أقدامي ويومي سَمْحُ الغَمام مطير
حاملاً محنتي أوزعها في كل دنيا وشرها مستطير
محنتي الغيث إن أرادوا وإلا فهدير البركان والتدمير
حاملاً محنة الخيام، فَتَزْوَرُّ وجوه عني وتغلق دور !
الخيام الممزقات.. وأمّ في الزوايا وكسرة وحصير
وفتاة أذلها العري والجوع ويلهو بالرمل طفل صغير
كلما أن في الخيام شريد خجل القصر والفراش الوثير
خجل الحاكمون شرقاً وغرباً ورئيس مسيطر و وزير
هيئة(2) للشعوب تمعن في الذنب ولا توبةٌ ولا تكفير
شارك القوم كلهم في أذانا ومن القوم غُيَّبٌ و حضور
من قوانينها المداراة للظلم ومنها التغريب والتهجير
ويقام الدستور، أضحوكة الساخر منا ويوأد الدستور
كل علم يغزو النجوم ويغزو بالمنايا الشعوب علم حقير
والحضارات بعضهن بشير يتهادى وبعضهم نذير
نعميات الشعوب شتى، فنعمى حمدت ربها ونعمى كفور
لن يعيش الغازي وفي الأنفس الحقد عليه، وفي النفوس السعير
يحرق المدن، والعذارى سبايا وصغير لذبحه وكبير
دينه الحرق والإبادة والحقد وشتم الأعراض و التشهير
صورته التوراة بالفتك والتدمير حتى ليفزع التصوير
من طباع الحروب كرٌّ وفرٌّ والمجلّي هو الشجاع الصبور
ليس يبنى الفجاءات فتح علمي في غد هو المنشور
تنتخي للوغى سيوف معد ويقوم الموتى وتمشي القبور
عربي فلا حماي مباح ـ عند حقدي ـ ولا دمي مهدور
نحن أسرى، وحين ضيمَ حمانا كاد يقضي من حزنه المأسور
كل فرد من الرعة عبد و من الحكم كل فرد أمير
ومع الأسر نحن نستشرف الأفلاك والدائرات كيف تدور
نحن موتى! وشر ما ابتدع الطغيان موتى على الدروب تسير
نحن موتى ! وإن غدونا ورحنا والبيوت المزوَّقات قبور
نحن موتى ! يسر جار لجارٍ مستريباً: متى يكون النشور(1/1718)
بقيت سبة الزمان على الطاغي ويبقى لنا العُلى و الضمير
سألوا عن ضناي، محض تشف هل يَصِحُّ المعذب الموتور
أمن العدل أيها الشاتم التاريخ أن تلعن العصور العصور ؟
أمن النبل أيها الشاتم الآباء أن يشتم الكبير الصغير
وإذا رفت الغصون اخضراراً فالذي أبدع الغصون الجذور
اشتراكية ؟! وكنز من الدر وزهو ومنبر وسرير
اشتراكية تعاليمها: الإثراء والظلم والخنا و الفجور
اشتراكية ! فإن مرّ طاغ صف جند له ودَوّى نفير
كل وغد مصعر الخد لا سابور في زهوه ولا أزدشير
يغضب القاهر المسلح بالنار إذا أنَّ أو شكا المقهور
ينكر الطبع فلسفات عقول شأنهن التعقيد والتعسير
كل شيء متمم لسواه ليس فينا مستأجر و أجير
بارك الله في الحنيفية السمحاء فيها التسهيل و التيسير
ورقيب على الخيال.. فهل يسلم منه المسموع والمنظور
عازف عن حقائق الأمر لؤماً وكفى أن يلفق التقرير
فيجافي أخ أخا ويشقى بالجواسيس زائر ومزور
لصغار النفوس كانت صغيرات الأماني وللخطير الخطير
يندُرُ المجد، والدروب إلى المجد صعاب، ويكثر التزوير
علموا أنه عسير فهابوه ولا بدع فالنفيس عسير
محنة الحاكمين جهل ودعوى جبن فاضح و مجد عَثور
نهبوا الشعب، واستباح حمى المال جنون النعيم والتبذير
كيف يغشى الوغى ويظفر فيها حاكم مترف وشعب فقير
مزقوه، ولن يمزق الشعب، فالشعب عليم با أرادوا خبير
حكموه بالنار فالسيف مصقول على الشعب حده مشهور
محنة العُرْبِ أُمَّةٌ لم تهادن فاتحيها وحاكم مأجور
هتكوا حرمة المساجد لا جنكير باراهم و لا تيمور
قحموها على المصلين بالنار فشِلْوٌ يعلو وشِلْوٌ يغور
أمعنوا في مصاحف الله تمزيقاً ويبدو على الوجوه السرور
فقئت أعين المصلين تعذيباً وديست مناكب و صدور(1/1719)
ثم سيقوا إلى السجون، ولا تسأل، فسجانها عنيف مرير
يشبع السوط من لحوم الضحايا وتأبى دموعهم و الزفير
مؤمن بين آلتين من الفولاذ دام، ممزق، معصور
هتفوا باسم أحمد فعلى الأصوات عطر وفي الأسارير نور
هتفوا باسم أحمد فالسياط الحمر نعمى وجنة و حرير
طرف أتباع أحمد في السماوات وطرف الطاغي كليل حسير
عبرة للطغاة مصرع طاغ وانتقام من عادل لا يجور
المصلون في حمى الله يُرديهم مُدِل بجنده مخمور
جامع شاده على النور فحل أموي مُعَرِّقٌ منصور
لم ترع فيه قبل حكـ الطواغيت طيور ولا استبيحت وكور
مطلق النار فيه، في الجمعة الزهراء شِلْوٌ دام وعظم كسير
والذي عذب الأباة رأى التعذيب حتى استجار من لا يجير(3)
قدماه لم تحملاه إلى الموت فزحف على الثرى لا مسير
وخزته الحراب وهو مسوق لرداه، محطم مجرور
ويجيل العينين في إخوة الحكم وأين الحاني وأين النصير؟
كل فرد منهم لقتل أخيه يصدر الرأيُ منه والتدبير
وغداً يذبح الرفيقَ رفيقٌ منهم والعشيرَ فيهم عشيرُ
يأكل الذئب، حين يردى، أخوه ويعض العقورَ كلب عقورٌ
ارجعوا للشعوب يا حاكميها لن يفيد التهويل والتغرير
صارحوها.. فقد تبدلت الدنيا وجدت بعد الأمور أمور
لا يقود الشعوب ظلم وفقر وسباب مكرر مسعور
والإذاعات! هل تخلعت العاهر؟ أم هل تقيأ السكير؟!
صارحوها.. ولا يُغَطِّ على الصدق ضجيج مزور و هدير
واتقوا ساعة الحساب إذا دقت فيوم الحساب يوم عسير
يقف المتهمان وجهاً لوجه حاكم ظالم وشعب صبور
كل حُكْم له ـ وإن طالت الأيام ـ يومان: أول و أخير
كل طاغ ـ مهما استبدـ ضعيف كل شعب ـ مهما استكان ـ قدير
وهب الله بعض أسمائه للشعب، فهو القدير وهو الغفور
يبغض الظلم ناصحيه، وإني لملوم في نصحكم معذور!(1/1720)
يشهد الله ما بقلبي حقد شفَّ قلبي كما يشف الغدير
وجراحي ينطفن شهداً وعطراً أدمعي رحمة وشعري شعور
يرشف النور من بياني فإن غنيت فهو المدله المخمور
وطباعي ـ على ازدحام الزرايا ـ لم ينلها التبديل والتغيير
مسلم.. كلما سجدت لربي فاح من سجدتي الهدى و العبير
ومع الشيب والكهولة قلبي ـ كعهود الصبا ـ بريء غرير
لي حريتي وإيماني السمح فحلمي هان وجفني قرير!
لم أهادن ظلماً وتدري الليالي في غد أينا هو المدحور!
(1) الحسين بن علي زعيم الثورة العربية مدفون في جوار الأقصى.
(2) هيئة الأمم المتحدة المسؤولة عن نكبة فلسطين.
(3) الطاغية الذي يقترف الآثام انتهى به الأمر إلى أن يحاكم ويقتل.
ـــــــــــــــ
نشوة الهزيمة
يوسف الحجيلان 21/2/1425
11/04/2004
"نشوة النصر".. مصطلح ذاع وشاع, وعبارة لطالما غنت بها شفاه, وشنفت أسماع.
إن كأس النصر ثورت صاحبها حالة سيكولوجية؛ تجعله يجرُّ رداءه على هام الثريّا, متوشحًا هالة القمر, ومتمنطقًا بأفق الأرض, ولا غرو!
فغبار المعركة, وشلال الدم, وهرير الرجال, وألف ألف حساب؛ جعله في ساعة ما يحسب الأرض تميد تحت قدمه.
أما وقد اكتحلت عيناه بالنصر؛ فغول خمرته أعظم من أن تدفع!
ونشوة رشفته أقوى من أن ترد!
إن نشوة النصر دفعت أولي الأحلام, وعقلاء الرجال إلى أن يكتبوا نصرهم بدم العدو, ولو كان صديق الأمس!
لطالما حرقت نشوة النصر أرضًا!
وهتكت عرضًا!
واستباحت محرمًا!
واستحقرت معظمًا!
* لما دخل عبد الله بن علي دمشق؛ دعا بالغداء، وإن رجال بني أمية تحت البسط لهم أنين!!(1/1721)
ذاك هو السر الذي جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة فاتحًا, وإن رأسه لتمس الرحل تواضعًا لله!
فما بال نشوة الهزيمة إذًا؟!!
إنها -وباختصار شديد- حال من اللاّشعور أحيانًا, أو من المنطق المعكوس في أحيان أخرى؛ تجعل أعدادًا لا يستهان بها من المنظِّرين, أو المفكرين, أو الأنصار؛ ينظرون إلى واقع الحياة بعين سوداء؛ حَجب عنها بياضَ المستقبل, ولمعانَ الحق؛ يأس تبطّن في خوف تسلل من خلال قصور نظر, أو مزاجية في الطرح؛ غاب عنها الرأي الآخر؛ فركبت الخطأ بدافع السعي إلى إيقاظ الأمة من غفلتها!
هل تريد رصد أشد جراحات الأمة نزفًا, وأكثرها إيلاما؟!
هل تريد سماع صوت المعذبين, والمقهورين, والمشردين ؟!
هل تريد معرفة عدد المقتولين, والمعذبين, والبائسين ؟!
هل تريد النظر إلى أماكن البلاء, والدماء, والأشلاء ؟!
لستَ بحاجة إلى طبق, أو (رسيفر) فقط : جمعتان, وعيد, ومحاضرة : وإن كان لا بد فشريط.
إنها محطات من الإحباط في أحيان كثيرة؛ يخرج منها أبناء الأمة محبطي الهمم, مطأطئي الرؤوس، يجرون ثوب الأسى، تعرف في وجوههم الكآبة, وتقرأ في بياض شفاهم ما تكن صدورهم, من ألم وحرقة!!
تبدأ الخطبة بنذر حرب!
وتنتهي بحالة مأتم!
وما بينهما طعن وطعان وبكاء وآهات !!
لا يكذب من قال إن الجمعة والعيد اليوم, وفي حالات عدة أيام مناحة للمسلمين!!
تعدد فيها فاجعات؛ تجعل نهاية الخطبة والخلاص من حالة السرد هذه, وما يجللها من نشيج, وبكاء, وعويل في حالات كثيرة؛ هدفًا يرنو إليه الكثير من المصلين, الذين طالما حلموا -ولو مرة- أن يسمعوا ما يبسط أسارير, أو يشق ابتسامة, أو يزيل كآبة!
لكن!!
كيف السبيل؟
وقد قال صلاح الدين: لا أضحك, والقدس في يد الصليبين!!
أسألكم بربي!!
أيها أشد بلاءً ؟!!(1/1722)
اليوم؛ والتدين يجتاح معاقل الفسق, والإسلام يزلزل قلاع العلمنة, والحجاب يغزو بيوت التفسخ, واللحية, والثوب القصير, والسواك, وفوق هذا أمواج المصلين والحجاج, والمعتمرين, والدعاة, والمجاهدين؛ تتدفق كسيل تحدّر من علو!!
اليوم؛ والمعركة في بداياتها, وبوادر نصر تُكتب بقلم تفاؤل, مداده واقع إسلامي, لا تزال صحوته غضّة طريّة!!
وبرغم ذلك؛ فرضت نفسها رقمًا في حساب اللعبة؛ جعل أعتى قوى الشر, بل دفع بأحلاف الباطل إلى رصّ صفوفها للمواجهة!
وهل كانت ستفعل لولا ما تراه في الأفق من نذر حق؛ قد انعقد غمامه!!
أَم الأمس ؟!!
يوم الأحزاب, يوم بلغت القلوب الحناجر, وطوق الكفر دولة الإسلام, بحده وسنانه!
حتى قال قائل الصحابة: وإن أحدنا لا يأمن على بوله!
وسيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضرب الأرض بالمعول, فينقدح الشرر؛ فيقول: الله أكبر فتحت فارس والروم, والله لتنفقن كنوزهم في سبيل الله.
نعم!
ما عندنا من خير عند رسول الله وصحبه في يوم الخندق ما لا يماثله خيرنا ولا يجاريه!
لكن ما عندنا من بلاء لا يجاري بلاءهم, ولا يدانيه, وما نسمعه من الخطباء والوعاظ, و القصاصين من إحباط يتنافى مع ما قاله سيدي في موقف يمتّ إلى واقعنا بكذا سبب!
يطارد عليه السلام ؛ فيقول: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
يُقاتل وهو الأقل عددًا؛ فيقول: أبشر يا أبا بكر, ويقول: إني لأرى مصارع القوم!
لا يخبر بالمنافقين إلا واحدا, ويعلن عن أهل الجنة على أعواد المنابر( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
إن القادر على إبكاء الجموع أسى, هو الأقدر على تخريج العشرات من المحبطين والقاعدين!
وإن الأمة في حالة ترنّح بحسب ما يحيط بها من خطوب؛ تجعلها أحوج إلى حقن من المنشطات منها إلى إبر المثبطات!
لن تحتاج إلى جهد كي تسرد على شباب الإسلام قصص الأبطال في صد غارات الصليبين, والتتار, والاستعمار؛ بل لن تحتاج إلى كبير عناء كي تضع لهم في خطبتك خطة عمل لمشروع يجعلهم ينظرون إلى المستقبل باستشراف أكبر, وأمل أعظم!!
فالنفس البشرية جُبلت على التعامل مع الأمل بروح أكثر عنفوانًا منها مع الألم.
إن طرح المشكلة يجعل السامع يفكر بمشكلتين: الإحباط منها, والحل لما وراءها.(1/1723)
وإن الحديث عن العلاج, والأمل يجعله؛ يفكر بالثانية فقط, وما بين الأمل واليأس حواجز نفسية وشَعَرَات أحاسيس؛ تحتاج فقط إلى قدرة على قنص المشاعر واستدرار العقول!!
ـــــــــــــــ
المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية ...
بقلم الدكتور راغب السرجانى ... تاريخ الإضافة : 04/10/06 ...
مقدمة
تمر النفس الإنسانية بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانًا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق لمعجزات.. تدهمها أمواج البأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف..
ولعل من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها ويشل إمكانياتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها ألا فائدة، وأن شيئًا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلاً من القيام والبحث عن حل.
ومن خطورة الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية أنه يقضي على أي أمل للإصلاح مع أن الأمل لا ينقطع ما بقيت هناك حياة.. إلى جانب أنه ينطوي على راحة لا تخفى.. فبدلاً من الكدّ في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم أيضًا تُسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!.
براعة المنهج الإسلامي في علاج انكسار النفس
للإسلام منهج فريد في علاج انكسار النفس أمام متاعب الحياة ومصائبه، وينبع هذا التفرّد من كون الإسلام منهجًا ربّانيًا.. شرعه من سوَّى النفس الإنسانية وأبدع أسراره، وعلم ـ وحده سبحانه ـ مداخلها ومخارجها..
ولا تقتصر روعة المنهج الإسلامي على إحكام تفاصيله ودقة توجيهاته.. بل تتعدى ذلك إلى القالب الذي سيق فيه الدرس؛ فلا يعرض الإسلام أفكارًا نظرية جافة قد يراها البعض صالحة، ويظنها آخرون ضربًا من الخيال.. وإنما يساق الدرس ضمن تجربة عملية واقعية حدثت على الأرض، وخاضها ناس من البشر ـ في عصر الوحي أو فيما قبله ـ أصاب بعضهم في هذه التجربة وأخفق آخرون.. ومن ثنايا سياق التجربة الواقعية يُستخرج الدرس وتستنبط العبرة، فتلصق بوعي الإنسان ويقتنع الناس بإمكانية النسج على منوالها..(1/1724)
ومع أن الله يحب عباده المؤمنين وينصرهم ويدافع عنهم.. إلا أنه يقدّر عليهم البلاء ويمتحنهم بالآلام ليقوّي عودهم؛ فيثبتوا في مواجهة الإحباطات، ويأخذ بأيديهم (من خلال هديه) ليدربهم على فن مواجهة الهزيمة النفسية والخروج مها بسلام.. بل بغنائم!!
ظهر هذا الأمر جليًا في يوم أحُد الذي سماه الله تبارك وتعالى في كتابه:(مصيبة) حين قال: [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا] {آل عمران: 165}
وقد كان يوم أحد مصيبة بحق حين خالف المؤمنون من الرماة - متعمدين - صريح الأمر النبوي بعدم مغادرة أماكنهم خلف المسلمين مهما تكن الظروف، وفقد الجيش من جرّاء هذه المخالفة سبعين من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. وانكسرت النفوس التي استكانت - منذ عام - للذة النصر يوم بدر، وغزا اليأس القلوب.. وخاصة عندما أشيع مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فقعد الناس عن القتال.. بل ولّى بعضهم الأدبار فرارًا!!.
إننا ـ بالفعل ـ أمام مصيبة حقيقية أصابت المجتمع المسلم بأكمله ولم تكن الخسائر مادية فقط بل تعدتها إلى الخسارة النفسية بهذا الانكسار ووقوع بعض العيوب التي كشفتها المصيبة.
عناصر المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية
ما نريد في هذه الأسطر هو تحليل أحداث المعركة تاريخيًا أو عسكريًا، فليس المقام بمتسع لذلك.. وإنما لابد لنا أن نخرج من هذا الحدث الذي عالجه القرآن في ستين آية متواصلة (من سورة آل عمران) بمنهج واضح للخروج من الأزمات وللتغلب على الهزيمة النفسية؛ فما أكثر ما تتكرر بعض مصائب أحد ـ أو معظمها ـ في حياتنا.. ما أكثر ما نحبط لأزمات تمر بنا أو بأمتنا.. وما أكثر ما يعطلنا حب الدنيا عن كمال الطاعة لله ورسوله فنقصر أو نسوّف الطاعة.. وربما نتورط في بعض ما يغضب الله..
فنحن ـ إذًا ـ محاجون كأفراد وجماعات لتعرّف هذا المهج الرباني للخروج من الأزمات وعلاج الانكسار النفسي..
لهذا المنهج عناصر تستخلصها إذا أحسست تدبر آيات الله التي عالجت (مصيبة أحد)..
1ـ أول هذه العناصر: رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة.. خاطب الله عباده المنكسرين نفسيًا فقال لهم: [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران: 139}
وكان خطابًا واقعيًا ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم (تعالى الله عن ذلك)؛ فليس هناك شخص مركب من شر محض.. أو فشل محض أو ضعف محض.. إن بكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.. ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيًا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه..(1/1725)
يخاطب بهذا المعنى كل إنسان فقد مقومًا من مقومّات نجاحه في الحياة..
كمن فقد مالاً أو صحة أو حاسّة.. بل حتى لمن فقد عزيزًا لديه كان يحسبه سنده الوحيد في الحياة ويرى الحياة صفرًا يدونه..
ويخاطب أيضًا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه..
ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيًا فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة وألا لما شرط الله علوّ المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيًا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية..
2ـ من تلك العناصر أيضًا إبراز الجوانب الإيجابية في المصيبة نفسها فالله عز وجل يلفت نظر المؤمنين في أكثر من موطن من كتابه الكريم إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية.. انظر إلى قوله عز وجل: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]{البقرة: 216} وقوله تعلى: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] {النساء: 19}
ولا تخفي عليك دلالات تحملها كلمة (كثيرًا) فالإيجابيات داخل قد تكون متعددة!
ربَّي الله المؤمنين على ذلك من خلال سياق علاجه لمصيبة "أحد" عندما وضعت الآيات أيديهم وأبصارهم على فوائد حصّلوها من الحدث المؤلم ومن الجراح والآلام التي أصابتهم..
ظهر هذا واضحًا في آيات من مثل قله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] {آل عمران: 166 - 167} فتميز الصادق من المنفق ثمرة إيجابية تفيد أي مجتمع يكافح من أجل البقاء والنهوض ولولا المصيبة التي وقعت لبقى المنافق جرثومة مستترة جاهزة لنفث سمومها في جسد المجتمع في أي وقت..
ـ وليس معنى هذا أن نسعى في طلب المصائب وتمنيها بل نحن مأمورون بسؤال الله العافية..
إنما المقصود أن المصيبة أو الانكسار والألم كلها ليست نهاية الدنيا.. وليست شرًا محضًا بل في باطنها ـ دومًا ـ خير كثير لا يراه إلا أهل التوفيق..
ورضي اله عن الفاروق إذ يقول: "ما أصبت بمصيبة إلا كان لله عليّ فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن اكبر منها، وأنني لم أُحرم الرضا عند نزولها، وأنني أرجو ثواب الله عليها".. فقد رزق من نفاذ البصيرة وإيجابية النفس ما جعله يرى في المصيبة الواحدة أكثر من فائدة..
3ـ من عناصر معالجة الانكسار النفسي أيضًا التي يربينا عليها الإسلام أن المصائب أمر مقدّر.. كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد بالتأكيد هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره.. وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام(1/1726)
موافقًا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها..
فالإنسان وأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.
بهذه الفلسفة لحركة القدر في الحياة يتحرك المؤمن إيجابيًا فاعلاً قويًا أمام المصائب.. سريع القدرة على القيام بعدها وعلاج آثارها..
وهو بذلك عصى على الهزيمة النفسية والانكسار تحت وطأة الحدث مهما كان مريرًا.. لا يعرف معنى للإحباط وتمنّي المستحيل ولا تطول به الأيام والليالي في انتظار معجزة متوهمة تردّ عجلة الزمان إلى الوراء وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان
وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل..
4 ـ اتخذ القرآن الكريم ـ إلى جانب ما سبق ـ وسيلة أخرى هامة لعلاج المنهزم نفسيًا حين وجّه المسلمين بعد مصيبة أحد إلى إمكانية استئناف المسير وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت (وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم) نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر.. وانظر [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]...{آل عمران: 133 - 135}
فلا شك أن الصفحة البيضاء بل الجنات الواسعة التي يوعد بها المخطئ إن نجح في تعديل المسار.. كل ذلك كفيل أن يفتح أمامه الباب للنهوض والعمل من جديد..
5ـ يجد المحبط المنكسر نفسيًا دواءً جديدًا في هدى رب العالمين إذ يعده ـ ولا أصدق من الله ـ بالقيام من جديد ويغذيه بالأمل في نصر قادم إن أحسن الاستدراك لما فات..
في أوساط خطاب الله تعليقًا على أحداث أحد يقول لعباده المنكسرين نفسيًا: [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ]{آل عمران: 160}(1/1727)
إن فرص النجاح قائمة حتمًا لمن أتوكل على الله حق التوكل وأحكم الأخذ بالأسباب..
6ـ كما أن القرآن لكريم يسلك سبيلاً آخر حكيمًا إلى النفوس المنكسرة يمسح عنها الأسى حين يلفت أنظارها دائمًا إلى عبرة الماضي المتكررة وهي أن السقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب يقول الله تبارك وتعالى: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا] {آل عمران: 146}
وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي حين ضاق الحال تمامًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدوداً عن لحق فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله.. ثم يختتمها الله تعالى بقوله: [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]{هود: 120}
فتعرّف أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان..
كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخافٍ ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعًا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنية ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر..
إلا أنه ـ عليه السلام ـ لما وجّه بنية للبحث عن يوسف وأخيه ذيّل كلامه لهم قائلاً: [وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ] {يوسف: 87}
فتتجسد العبرة وينضح الدرس الذي من اجله يسوق الله هذا القصص فكما قال عز وجل في نهاية نفس السورة: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى]{يوسف: 111}
إنه منهج قرآني معجز نستطيع، نسميه (التربية بالتاريخ)، فأحداث الزمان تتكرر، وسنن الله في الأرض ثابتة لا تتبدل والعاقل من اتعظ بتجارب من سبقوه..
7ـ ويلفت القرآن الكريم أنظار المسلمين تعقيبًا على أحد إلى أن الألم الذي أصابهم قد أصاب عدوّهم مثله، فلم يخرج عدوّهم من المعركة (وإن بدا منتصرًا) سالمًا من الجراح والآلام.. قال لهم الله تعالى: [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ]{آل عمران: 140} فلم يذهب كفاحكم ضد عدوكم سدى، بل إن جهادكم قد آذاهم مثل ما أصابكم منهم من أذى (قرح مثله) وهي سنة ماضية معركة الحق مع الباطل فصّلها الله في موضع آخر من كتابه حين قال:[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ(1/1728)
يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] {النساء: 104} ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار ومن هزم وهو يشعر انه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه مكتمل الفوز والانتصار ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!! وهو درس بليغ لأمة المسلمين في صراعها مع الباطل في الأرض.. فمهما انتعش الأعداء بغرور قوّتهم إلا أن عين المتأمل لا تخطئ جراحًا تؤلمهم وخسائر بين الحين والآخر تستنزف مواردهم..
8ـ وكما يربي القرآن الكريم المنهزمين نفسيًا على أن الجراح والآلام ليست حكرًا عليهم دون أعدائهم يوجه أبصارهم نحو سنة كونية ثابتة متى استقرت في النفس المحبطة عاودها الأمل من جديد.. تلك السنة هي المتمثلة في قوله تعالى: [وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران: 140} فليس من شأن الأحوال أن تثبت على هيئة واحدة بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين فلا المهزوم يظل مهزومًا ولا المنتصر يظل منتصرًا..
وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم..
وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته..
9ـ كما أن الإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا..
والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل..
فيربط الإسلام جهودك وخططك بما تستطيع تحقيقه لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض..
ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله: [فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ]{آل عمران: 148} فالثواب الحسن حقًا هو ثواب الآخرة.
أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فيهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى: [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ]..{آل عمران: 196، 197} ويقول تعالى: [وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]{آل عمران: 176}
10ـ وأخيرًا يلفت الإسلام نظر المنكسر إلى أن طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسًا وإحباطًا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد يقول تعالى معالجًا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ(1/1729)
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا]{آل عمران: 144}
فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه".. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل..
أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح (أو الدحداحة) رضي الله عنه..
يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: "إن كان محمد قد قتل فإن الله حتى لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم".. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة سعيه فلن ييئس لأنها جهة مفتوحة على الدوام..
بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي صلى الله عليه وسلم أصحبه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها ازمة أحد.. فها هو صلى الله عليه وسلم بعد أحد بيوم واحد .. يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر صلى الله عليه وسلم ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلى من شهد القتال"..
برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعًا.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!
وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارًا تربويًا من الدرجة الأولى..
فقد تعمد صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الذين شاركوا في ( أحد ) فقد، مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه ولم ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تمامًا، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم..
وأن ما حدث في ( أحد ) لم يكن إلى حدثًا عابرًا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله.. لقد كان هذا التكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة عودة لأجساد الصحابة وعزائمهم، فقاموا مسرعين ملبين برغم أزماتهم الجسدية والنفسية، وبرغم أحزانهم لفقد سبعين من إخوانهم وأحبابهم.. لقد قاموا جميعًا ولم يتخلف واحد.. لقد نجح الجميع في الاختبار وقامت الأمة من كبوتها في أقلا من أربع وعشرين ساعة!!
وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرًا على بعد ستة وثلاثين ميلاً.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوّفهم من أعداد المشركين وقوّتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف(1/1730)
نفوسًا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين...
وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح..
وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم..
ومجد الله ـ في آيات بينات ـ أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أُحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم..
يقول تعالى: [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] {آل عمران 172 - 174}
ولابد أن نتأمل ـ في الختام ـ المقابلة بين سرعة استجابتهم لله والرسول وبين شدة القرح التي أصابتهم لنعلم أن المنهج الإسلامي تنزيل من رب العالمين العليم بأدواء النفوس وبما يعالجها.. ولنتأكد أن أفضل درجات السم النفسي يبلغها الناس بسلاسة ويسر متى عمل هذا المنهج القويم في هذه النفوس....
ـــــــــــــــ
الهزيمة والخزي مصير الخائنين
لقد طبع اليهود على أسوأ الأخلاق، ويأتي على رأسها الغدر والخيانة، فلم يُعرف عنهم عبر تاريخهم الطويل التزام بعهد وميثاق، حتى مع أنبيائهم !!
ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم يهود المدينة وتوافقوا على بنود سجلت بوثيقة تعد أول دستور للدولة الإسلامية، ولكنهم سرعان ما غدروا وخانوا فنقضوا عهودهم، وكان يهود بني قينقاع أول من نقض العهد، وكانوا أكثر اليهود قوة وعدة، وكانت منازلهم أقرب المنازل للمسلمين. وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم للإسلام بعد غزوة بدر، قالوا: "لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس". وفي هذا تهديد واضح بالحرب وإن كان مبطنا. وفيهم نزل قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) فالميزان الحقيقي في النصر ليس كثرة العدد والعدة، بل هو نبل الغاية التي يحارب من أجلها، أن تكون في سبيل الله، وفي غزوة بدر (يوم الفرقان) العبر والدروس الكثيرة لكل متأمل بصير، فكان على اليهود(1/1731)
أن يستجيبوا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وألا يغتروا بقوتهم المادية، خاصة بعد تجربة عملية حدثت أمام أعينهم في بدر، ولكنهم وكعادة اليهود يحقدون على كل ما هو غير يهودي، فأبوا واستكبروا وعاندوا وأسروا الغدر والخيانة، وقد كان.
أخذ يهود بني قينقاع يزيدون في سخريتهم واستهزائهم بالمسلمين وكان سوق بني النضير المكان المفضل لممارسة هذه الهواية الشاذة (السخرية والاستهزاء على المسلمين)، وحدث أن دخلت امرأة مسلمة السوق وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلما أبت عمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت مستنجدة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، أي أنهم اجتمعوا عليه فلم تعد المسألة قضية شخصية.
حدث ذلك بعد عشرين يوما من غزوة بدر، وأنزل الله تعالى فيهم (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أخاف خيانتهم، فنبذ عهدهم وحاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة، حتى استسلموا ورضوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعولون على حليفهم رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول في النجاة من الذبح، حيث كان الخزرج حلفاء لبني قينقاع من قبل، وأثمرت هذه العلاقة المشبوهة بين اليهود والمنافقين في نجاة بني قينقاع من الذبح، فبعد إلحاح شديد من ابن سلول حتى أنه مسك النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يتركه حتى يطلقهم له بحجة أنهم مواليه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقهم وهو كاره، ولكنه أمر بإجلائهم من المدينة ومنعهم من أخذ السلاح.
هذا هو موقف الطابور الخامس، بينما كان موقف المؤمنين حقا كما فعل عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان عبادة من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبدالله ابن سلول، فقد جاء عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف هؤلاء الخونة وولايتهم، ونزل بذلك قرآن يتلى إلى يوم الدين، ففي ابن سلول وأمثاله كثير إلى يومنا هذا، نزل قوله سبحانه: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). وفي عبادة وأمثاله من المجاهدين المؤمنين إلى يومنا هذا، نزل قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
أيها المسلمون ...
مع أي فئة نريد أن نكون .. مع ابن سلول والعياذ بالله، الذي اتخذ اليهود أولياء من دون المؤمنين، أم مع عبادة رضي الله عنه الذي تبرأ من موالاة الكافرين فضلا عن الخائنين.
يا قادة العالم الإسلامي ...
لقد تحرك الجيش الإسلامي برمته من أجل امرأة مسلمة أهينت، فكيف بنا الآن وأعراض المسلمين مستباحة في فلسطين ؟(1/1732)
كم دم سفك ظلما وعدوانا في فلسطين وغيرها من بلاد المسملين ؟
كم بيت هدم بغير حق ؟
كم مسجد دنس وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم ؟
كم بريء سجن ؟
كم طفل شُرّد أو يتّم ؟
كم امرأة ترملت ؟
كم شريف أصبح مطاردا مطلوبا ؟
كم زرع خُرّب وأحرق ؟
كل هذا وجيوش المسلمين ساكنة لا تتحرك !!
فبدل الحركة الفورية التي ينبغي أن تكون، (فانبذ إليهم على سواء)، نجد الحركة الفورية في الاتجاه غير الصحيح، لمسالمة المعتدين وإقامة علاقات طبيعية معهم إذا انسحبوا من جزء من الأرض التي احتلوها !!
إننا نرحب بالعلاقات الطبيعية مع المعتدين الغاصبين الجاثمين على أرض الإسراء والمعراج، نعم نرحب بها لأن العلاقة الطبيعية مع المعتدي هي مقاومته لا مسالمته، وإن أطفال الحجارة وشباب المقاومة يعطون الأمة النموذج الأمثل في التعامل الطبيعي مع المعتدين، إنهم جند عبادة لا ريب، وعبادة قبره هناك في الأرض المقدسة قرب المسجد الأقصى المبارك، فكأنهم أخذوا العبرة منه وكأنهم عاهدوه على السير على دربه ومقاومة درب ابن سلول .
العلاقات الطبيعية معهم كما أخبر رب العزة، حيث نزلت هذه الآيات في بني قينقاع (وما زال بنو قينقاع يحاربون المسلمين) قال تعالى:
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فهل نحن فاعلون ؟؟
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــ
الهزيمة التفسية(1/1733)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَ لُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]
أما بعد
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فى النار .
فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وذكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور.
طبتم جميعا وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
حياكم الله جميعاً وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعنى وإياكم في الدنيا دائما وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته.
إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شىء قدير..
أحبتي في الله :
لقد ابتلى المسلمون بنكبات وأزمات كثيرة مروراً بأزمة الردة الطاحنة والهجمات التتارية الغاشمة.. والحروب الصليبية الطاحنة.. وسقوط الأندلس وزوال ظل الخلافة وضياع القدس الشريف!!
ومع ذلك فإن الأمة مع كل هذه الهزمات والنكبات كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق بالله واعتزاز بهذا الدين... أما اليوم فقد فقدت جُلَ مقومات النصر!!
في الجانب الإيماني، والجانب المادي على حد السواء، فهزمت هزيمة نفسية نكراء وهذا هو موضوعنا مع حضراتكم اليوم في هذا اللقاء
" الهزيمة النفسية "
وكعادتنا فسوف نركز احديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان الهام في العناصر التالية :
أولاً: أعراض الهزيمة النفسية
ثانياً: أسباب الهزيمة النفسية
وأخيراً: ما العلاج(1/1734)
فأعرني قلبك وسمعك فإن هذا الموضوع في هذه الأيام من الأهمية بمكان والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القلب فيتبعون أحسنه، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الموحدين وعز الإسلام والمسلمين أنه ولي ذلك والقادر عليه .
أولاً: أعراض الهزيمة النفسية
أيها الأحبة : إن للهزيمة النفسية أعراضاً كثيرة خطيرة أهمها ما يلي:
العرض الأول : تنحيةُ الشريعة الربانية وتحكيمُ القوانين البشرية !!
وهذا بلا منازع هو أخطر أعراض الهزيمة النفسية التي نُكبت بها الأمة المحمدية في هذا العصر الحديث.
يقول الله عز وجل (( وتللك الأيام نداولها بين الناس ))
فالأيام دُول، والصراع بين الحق والباطل صراع دائم لا ينتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
ولا شك على الإطلاق أن الدولة والجولة الآن للغرب الذي انتصر في الجولة الأخيرة ، فراحت الأمة المهزومة عسكرياً ، واقتصادياً ، ونفسياً تحاكي الغرب الذي انتصر في هذه الجولة .
ويا ليت الأمة راحت تنقل أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي والتكنولوجي ، ولكنها بكل أسف نقلت أسوأ ما وصل إليه الغربُ في الجانب العقدي والايماني والأخلاقي والروحي حتى رأينا من بني جلدتنا من يدندن على هذا الوتر ، يمجد الغرب ويسبح بحمده ، حتى قال قائل قد عزمنا أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رأسهم والنجاسات التي في أمعائهم ولله در القائل :
قالوا لنا الغرب !! ... قلت : صناعُةُ وسياحُةًُ ومظاهرُ تغرينا ...
لكنه خاوٍ من الايمان ... لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا ...
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل ... يرمي بسهم المغريات الدينا ...
الغرب مقبرة العدالة كلما ... رفعت يد أبدا لها السكينا ...
الغرب يحمل خنجراً ورصاصة ... فعلام يحمل قومنا الزيتونا ...
كفر وإسلام فإنا يلتقي ... هذا بذاك أيها اللاهونا ...
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ... لكن ألوم المسلم المفتزنا ...
أمتنا التي رحلت على ... درب الخضوع ترافق التنينا ...
وألوم فيها نخوة لم تنتفض ... إلا لتضربنا على أيدينا!! ...
راحت الأمة تقلد الغرب المنتصر في هذه الجولة وظنت الأمة المسكينة أنها بتنحيتها للشريعة الربانية وتحكيمها لشريعة الغرب العلمانية !!
ظنت أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والمواج المتلاطمة فخابت الأمة وخسرت وغرقت الأمة وأغرقت، ولا زالت الأمة إلى هذه الساعة تجني ثمار الخذلان واليأس والهزيمة النفسية بل والعسكرية والإقتصادية والعلمية .(1/1735)
والعودة إلى شريعة رب البرية ليست نافلة ولا تطوعا ولا اختيارا فإن الحياة البشرية من خلق الله ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله، ولا يمكن أبدا أن يتعدى هذا الدواء كتاب الله وسنة الحبيب رسول الله
قال الله تعالى فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا النساء : 65
وقال تعالى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا الأحزاب : 36
وقال تعالى إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ النور : 51 - 52
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ الحجرات: 1 - 2
قال ابن القيم :
إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي يحبط العمل فما ظنك بمن قدم قوله وفعله وسياسته على قول الله وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسأل الله أن يرد الأمة إلى الشريعة الربانية رداً جميلاً أنه ولي ذلك والقادر عليه .
العرض الثاني : اليأس من إمكانية التغيير
وهذا عرض خطير أصاب كثيراً من المسلمين في هذه الأيام ممًن يرددون هذه الكلمات التي أصبحت تمثل معتقداً لدى غالب المسلمين فهم يرددون " لا فائدة " ، " أنت تؤذن في خرابة " ، " أنت تنفخ في رماد " عش عصرك ، " لا فائدة " " ربٌ أولادك " " تفرغ لتجارتك.. ولأولادك !!..لمكتبك.. لكرسيك.. لوظيفتك !! هلك الناس"
إلى آخر هذه الكلمات التي تزيد المهزوم هزيمة والنشيط يأساً وخذلاناً.
وقد شخُص المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه النفسيات المهزومة تشخيصاً دقيقاً في حديث صحيح رواه الإمام مسلم فقال :
" إذا قال الرجل هلط الناس فهو أهَلكٌهٌم " (1)
قال الإمام النووي: أهلكهم برفع الكاف وفتحها، والرفع أشهر ومعناها : أشدهم هلاكا، وأما رواية الفتح فمعناها: هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة .(1/1736)
واتفق العلماء على أن هذا الذٌم إنا هو يقال على سبيل الإزدراء على الناس واحتقارهم ، وتفضيل نفسه عليهم ، وتقبيح أحوالهم ، لا أنهم هلكوا في الحقيقة .
واتفق العلماء على أن هذا الذٌم إنما هو فيمن قيل على سبيل الإزدراء على الناس واحتقارهم ، وتفضيل نفسه عليهم ، وتقبيح أحوالهم ، لأته لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا : فأما من قال ذلك تحزنا لما يرى في نفسه، وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه . أ . هـ (2)
فهذا عًرًض خطير من أعراض الهزيمة النفسية ألا وهو اليأس من إمكانية التغيير لهذا الواقع المر الأليم الذي تحياه الأمة ويريد كثير من أبناءها أن يفرضوا سياسة الأمر الواقع على النشطين ممن يتحركون لدين الله ودعوة الله جل وعلا .
العرض الثالث : السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لقد ظلت سماء الأمة سحابةٌ قاتمةٌ من هذه السلبية القاتلة .
المسلم يرى أخيه المسلم على معصية : ويهز كتفه ويمضي كأن الأمر لا يعنيه .
ولم أرى في نفسي عيبا ... كنقص القادرين على التمام ...
وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بلغوا عنيَ ولو آية )) (3)
وقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري :" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " (4)
وتغيير المنكر كما نعلم جميعاً يكون بالضوابط الشرعية المعلومة .
فلا عذر لك أمام الله عز وجل فنحن جميعاً نركب سفينة واحدة فيها الصالح والطالح ، وإن نجت السفينة نجا الجميع ، وإن هلكت هلك الجميع كما في الحديث من حديث النعمان قال : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم وآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) (5)
العرض الرابع : الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص الإتهام
وهذا عرض خطير
فالغرب يثير من آن لآخر بل في كل آن شبهات خطيرة ضد الإسلام مثل: الإسلام دين إرهاب الإسلام دين تطرف !! الإسلام ظلم المرأة !! البيت للمرأة المسلمة سجن مؤبد !! .
الزواج سجان قاهر !! الأمومة تكاثر حيواني !! لماذا تزوج محمد تسعة ؟ لماذا يتزوج الرجل في الإسلام أربعة ؟! لماذا حرم الإسلام الخلوة بين الرجل والمرأة ؟!! لماذا حرم الإسلام الإختلاط ؟!(1/1737)
لماذا تقطع يد السارق ؟! لماذا يرجم الزاني ؟! إلخ... شبهات تثار !!
فينبري للرد على هذه الشبهات فريق من أهل العلم وكن بمنطق أن الإسلام متهمُ في قفص الإتهام فتأتي الردود هزيلة ، لأنها ردود المهزوم نفسياً .
ومن الجفاء أن أذكر هذا العرض الخطير ولا أُذَكر بهذا الوجه المضئ المنير لسلفنا الصالح يوم أن اعتزوا بهذا الدين وارتفعت به رؤوسهم لتعانق كواكب الجوزاء .
أو إن شئت فقل لفضلهم وكرمهم تنزلت كواكب الجوزاء لتتوج هذه الرؤوس التي وحدت اله جل وعلا .
فها هو ربعي بن عامر ذالكم البطل المسلم.. ضعيف البنية قوي الإيمان الذي ركب جواده وانطلق لمقابلة قائد الفرس ، وكلكم يعلم القصة ولكني أردت أن أنبه لأمر هام ألا وهو الإستعلاء .. العزة بهذا الدين ... وأراد الحرس أن يدخل ربعي على رستم وهو يمشي على قدميه فأبى ودخل على ظهر جواده فسأله رستم قائد الجيوش الكسورية وقال: من أنتم وما الذي جاء بكم ؟
فقال ربعي : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد إن شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة .. ابتعثنا الله بدينه لندعوا الناس إليه فمن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله .
قال رستم: وما موعود الله؟!
قال ربعي : الجنة لمن مات على ذلك ، والنصر لمن بقي منا .
فقال رستم : لقد سمعت مقالتك فهل لكم أن تأجًلوِا هذا الأمر لننظر فيه ولتنظروا ؟! فقال ربعي : كم أحب إليكم ، يوم أو يومان ؟
قال رستم : لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا .
قال ربعي: لا ، قال رستم: ولم ؟! قال : ما سنً لنا رسول الله أن نٌأجًل الأعداءَ عند اللقاء أكثرَ من ثلاث فانظر أمرك وأمرهم !!
قال رستم : أسيدهم أنت ؟
قال : لا ، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم .
عزة.. استعلاء.. أما اآن فقد شربت الأمة كؤوس الذل والهوان ألواناً وأصنافاً وأشكالاً ، هٌزمت وراحت لتركعَ ولتخضعَ في محرابٍ الشرق الملحد تارة ، ومحراب الغرب الكافر تارة أخرى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !!
العرض الخامس : الخوف من إظهار الهوية الإسلامية
وهذا عرض فَتَاك من أعراص الهزيمة النفسية ، يخشى المسلم الآن في ظل هذه الظروف أن يٌظهر السُنة!! وأن يظهر هويته وبعزة واستعلاء ويخشى أن يتٌهم بالإرهاب !! يخشى أن يُتهم بالتطرف !!(1/1738)
ويخشى أن يُتهم بالجود والرجعية والتخلف ، وضيق الأفق ، وعدم القدرة على الانفتاح العصري !! إلى آخر هذه التهم التي يغني بطلانها عن إبطالها وفسادها عن إفسادها وكسادها عن إكسادها !! بل تجد المسلم الآن إلا من رحم الله إذا تعامل مع غير المسلمين أو سافر إلى بلاد الشرق والغرب يأكل كما يأكلون !! ويشرب كما يشربون !! ويلبس كما يلبسون !! ويتكلم كما يتكلمون !! بل ويخشى أن يقول هذا حلال .. وهذا حرام وهذه سُنَة وهذه بدعة.. وهذا حق وهذا باطل !! لماذا ؟!
لأنه مهزوم من داخله !
هٌزم نفسياً فلا يعتز بدينه ورحم الله من قال :
ومما زادني فخراً وتيهاً ... وكدت بأخمًُي أن أطأ الثريا ...
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن أرسلت أحمد لي نبيا ...
ارفع رأسك واعتز بتوحيدك ... اعلن هويتك بكل كرامة .. واعلن السُنَة ... تمسك بهذا الدين فأنت لك وظيفة .. أنت لك غاية.. لا تعش كهؤلاء الذين قال الله في حقهم: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف 179
وقال تعالى : وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ آل عمران 139
أحبتي في الله :
أن هذه الأعراض كانت نتيجة لأسباب عديدة وهذا هو عنصرنا الثاني .
أسباب الهزيمة النفسية
وأسباب الهزيمة النفسية في واقعنا عديدة عجيبة منها أسباب داخلية وأخرى خارجية اسمحوا لي أن أستهل الحديث بالأسباب الداخلية لأنه بكل أسف يقلل غالب المسلمين من شأنها مع أن الله عز وجل قال أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آل عمران 165
الهزيمة من عند أنفسنا من الداخل
أولاً : الأسباب الداخلية
السبب الأول : ضعف الإيمان عند غالب المسلمين
أيها الحبيب : هذا بلا منازع أخطر سبب من أسباب الهزيمة النفسية والإيمان ليس قولا باللسان فحسب ولكن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان .
الإيمان يزيد وينقص ، ويقوى ويضعف ، وهذا أصل من أصول أهل السنة وقد جسد لنا الحبيب هذه الحالة تجسيدأ دقيقاٌ في حديثه الصحيح الذي رواه أبو النعيم منحديث علي رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي أنه قال : (( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم ، إذ تجلت عنه فأضاء )) (4)(1/1739)
فكذلك القلب ، تعلوا القلب من آن لآخر سحبُ مظلمة من آثار المعاصي والذنوب ، فتضعف الإيمان في القلب ، فإذا زاد الإيمان وذاق الإنسان حلاوته انقشعت تلك السحب وأشرق القلب بأنوار التوحيد وقوى صاحب هذا الإيمان .
أيها الحبيب إذا أردت أن تتعرف على سر الإيمان إذا استقر وازداد في القلوب فبسرعة ارجع إلى التاريخ وعد إلى أصحاب الحبيب محمد الذين حولهم الإيمان من رعاة الإبل والبقر ، والغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم ... انطلقوا بهذا الإيمان إلى أعظم الإمبراطوريات على هذه الأرض وأقاموا للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر موجاً في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً !!!
الإيمان هو الذي جعل هذا البدوي الذي لا ذكر له في أرض الجزيرة يُرفع إلى عنان السماء يوم أن ترس بجسده على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وليجعل من ظهره حائط صَدً منيع لتتحطم عليه رماح وسيوف الأعداء ليحمي رسول الله وهو يقول للحبيب نحري دون نحرك يا رسول الله !!
الإيمان هو الذي جعل هذا العربي البدوي في أرض الجزيرة يقول للحبيب والله لا نقول لك ما قاله بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول لك يا رسول الله : اذهب أنت وربك فقاتلا أنا معكما مقاتلون .
إنه الإيمان .. أنه الإيمان الذي يصنع الأعاجيب ، فضعفُ الإيمان سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية عند غالب المسلمين في هذه الأيام أسأل الله أن يزيد إيماننا وإيمانكم إنه ولي ذلك والقادر عليه .
السبب الثاني : ترك الجهاد في سبيل الله
ترك الجهاد يساوي الذل والهوان والاستسلام وهذا وهو كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبوداود من حديث ابن عمر أنه قال : (( اذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )) (7)
إنه الذل... إنه الهوان بترك الجهاد .
أيها الأحباب : إن أعداء الأمة يعلمون علم اليقين أن الأمة إذا رفعت من جديد راية الجهاد في سبيل الله لأذلت الشرق والغرب ولذا هم يحرصون كل الحرص على أن تٌنحًى الأمة عن الجهاد وروح الجهاد وعلى ألا تُربَى هذه الأجيال على سِير الجهاد وسِيرْ الأبطال الفاتحين لتظل الأمة ذليلة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة . لا عز لهذه الأمة إلا إذا عادت من جديد لترفع راية الجهاد في سبيل الله العزيز الحميد ولترفع ذروة سنام هذا الدين .
السبب الثالث : عدم المعرفة عند غالب المسلمين بطبيعة الطريق(1/1740)
إن الطريق إلى الله ليس هيناً أيها المسلمون .. الطريق إلى الله ليس مفروشاً بالورود والزهور ، بل إن الطريق مفروش بالدماء والأشلاء ، محفوف بالعنت وبالأذى والابتلاء فيأتي كثير من الناس يردد كلمة الإيمان يحسبها سهلة هينة ، يرددها في وقت الرخاء وهو يظن أن الكلمة هينة فإذا ما تعرض على الطريق لأول محكٍ عملي من الفتن والأذى انقلب على عقبيه وتخلى عن طريق الله جل وعلا .
فهو يردد كلمة التوحيد والعقيدة فإن ربحت فهو مع الرابحين .
قال سبحانه وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ الحج 11
فلابد من معرفة طبيعة الطريق حتى لا تنزلق مع أول منعطف من المنعطفات على طريق المحن والفتن و الابتلاءات قال تعالى :
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ العنكبوت 1 - 3
أخي الحبيب : لابد أن تعي هذه الطبيعة حتى لا تنقلب على عقبيك فمن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً
قال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران : 144
السبب الرابع : عدم المعرفة عند غالب المسلمين بالقدرات والإمكانيات والطاقات مع قلة الطموحات .
فهذا سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية دائماً نقلل من شأن الطاقات والقدرات والإمكانيات الهائلة التي مَنُ الله بها علينا ، من أرض ومناخ وأموال وثروات وعنصر بشري هائل جبار فضلاً عن إسلام رضيع العزيز الغفار للبشرية كلها ديناً ، ومع ذلك ترى من أبناء هذه الأمة من يقلل من قدر هذه القدرات والطاقات والإمكانيات .
أيها المسلمون : إن أموال المسلمين هى التي دير دفة السياسة العالمية في بنوك الشرق والغرب .
إن عقول المسلمين والعرب هى التي تخطط وتبني في بلاد الشرق والغرب اسألوا عن علماء الذرة . اسألوا عن علماء الجيولوجيا !! أسألوا عن علماء الهندسةز!! عقول إسلامية وعربية حٌجِرِ عليها في بلادها فقوبلت بقانون الروتين القاتل للإبداع فرحلت فاستٌقبلت في بلاد الشرق والغرب استقبال الأبطال الفاتحين ، ومنحوا الإمكانيات الهائلة للعمل والعطاء والإبداع فأبدعوها وهذا واقع نعيشه الآن .(1/1741)
لقد ممرت على جسر رهيب جداً في نيويورك على المحيط ، ولو نظرت إليه كاد عقلك أن يطيش !! ومانت المفأجأة حينما وصلنا إلى الشاطئ الآخر ووقف مرافقي فقال لي: هل تعلم إن الذي صمم هذا الذي ترى مهندس مسلم من الباكستان؟؟هذه عقولنا!!
أيها المسلمون :- إن لسلاحا واحدا كسلاح البترول استخدمه المسلمون والعرب استخداماً صحيحاً للحظات فانقلبت الموازين كلها!!
إن عندنا قدرات وطاقات وإمكانيات وثروات هائلة وكننا لا نحسن الإستخدام ونقلل دائما من شأن هذه القدرات والطاقات في الوقت الذ لا نرى فيه طموحاً على الإطلاق .. لا يمكن أبداً أن نرى شاباً يطمح الآن إلا في أن يتخرج من الجامعة ، وأن يتزوج بفتاة جميلة وأن يسكن سكناً مؤثثاً تأثيثاَ فاخراً ، وإن مَنً الله عليه بسيارة فالحمد لله وهكذا .
هل فكر في هذا الدين؟! هل فكر في أن يغير أمته ؟ أبداً لا يفكر في هذا؟! ولا يطمح لهذا؟! ويظل المسلم غالبا لا ينظر إلا تحت قدميه!!
ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر
وأختم هذه الأسباب حتلا لا أطيل بهذا السبب الهام ألا وهو :
السبب الخامس : النظرة الضيقة للزمان والمكان
شبابنا الآن ينظرون للمكان والزمان نظرة ضيقة فتصيبهم هذه النظرة باليأس والقنوط كيف ؟ كثُرتْ الفتن !! قل الملتزمون !! كثر المتبرجات !!الكتاتيب توقفت !! إذن بعد فترة لن نرى حافظاً للقرآن !!
هذه النظرة الضيقة للمكان الذي يعيش فيه تصيبه باليأس والقنوط فيهزم هزيمة نفسية قاتلة فيشل عقله وفكره ، بل وحركته إن كان يستطيع أن يفعل شيئا ، يتوقف تماما عن فعل أي شئ مع أنه لو خرج بها من قريته أو مدينته أو دولته ونظر نظرة أوسع ، ونظرة أشمل إلى المكان تعَلمَ يقينا أن الأرض ما خلت ولن تخلوا أبدا من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان بشهادة الصادق سيد ولد عدنان .. كن واسعَ النظرة كن شمولىَ النظرة كذلك، لا تنظر إلى الزمان نظرة ضيقة فشابنا الآن يقولون : ضاع الدين.. هزمت الأمة .. إن الإسلام يتعرض لأشد الهجمات .. بل أن المسلمين يتعرضون لأشد الضربات يتعرض لأشد الهجمات .. بل أن المسلمين يتعرضون لأشد الضربات على أيدي الأعداء!! : يقولون إذن لا فائدة !! إلى آخر هذه الكلمات مع أنه لو نظر نظرة واسعة للزمان لعلم يقيناً أن الأمة قد نكبت نكبات أشد ومع ذلك غير الله الواقع وبدل الله الحال .
أخي الحبيب
إني أقول لك بلغة يحدوها الأمل وبقلب ملأه اليقين :
إن هذا الواقع سيتغير وأن هذا الحال سيتبدل .(1/1742)
يا مسلمون : لقد هجم التتار على المسلمين فملأت شوارع بغداد بأكوام اللحوم والأشلاء بل ولم تَصَلى صلاة جماعة في مسجد واحد من مساجد بغداد أربعين يوماً .. إلى هذا الحد ؟! نعم أغلقت المساجد..!!
كان المسلم يخشى أن يخرج إلى المسجد خوفاً من القتل !!
كان المسلم إذا رأى التتاري، يقف في مكانه لا يتحرك خطوة حتى يأتي المجرم ليقتله!! انظر إلى حجم الهزيمة من الداخل .
ومع ذلك سلط الله على التتار مضنْ هزمهم شر هزيمة وغبر الله الحال وبدل الله الواقع .
الصليبون هجوا على المسلمين ووضعوا الصلبان على كل حوائط المسجد الأقصى .. بل ومنعت الصلاة في المسجد الأقصى واحدا وتسعينا عاما.. تدبر وتذكر التاريخ، ومع ذلك قيض الله للأقصى من يطهره ، وبدل الله الحال وغير الله الواقع .
وإن كان الله قد قيض للأقصى من يطهره فإننا على يقين جازم أن الذي قيض للأقصى منْ طَهًره حي لا يموت !!
فلئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا ... فلله أوسُ قادمون وخزرجٌ ...
وإن كنوز الغيب يفضي طلائعاً ... حُرة ، رغم المكائد تخرج !! ...
أيها المسلمون : وهجم القرامطة على المسلمين في بيت الله الحرام .. فقتلوا المسلمين في الكعبة وهم يلبسون ملابس الإحرام وامتلأ بيت الله بالدماء والأشلاء وانطلق المجرم أبو طاهر القرمطي قائد القرامطة فانتزع الحجر الأسود من الكعبة المشرفة ورفع رأسه إلى السماء وصرخ في جوف بيت الله وقال : أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟!
أنها فتنة تعصف بالقلوب يا عباد الله ، وظل الحجر الأسود بعيدا عن الكعبة المطهرة ما يزيد على عشرين عاما .
ومع ذلك غير الله الحال وبدل الله الواقع !!
فيا أيها المسلمون : لا تيأسوا ولا تقنطوا ، ولا تنظروا للزمان نظرة ضيقة فهذا من أخطر أسباب الهزيمة النفسية الداخلية .
أما الأسباب الخارجية للهزيمة النفسية : فنراها بالجملة حتى لا نطيل تتمثل في السبب الخطير (( التضخيم والتهويل من قوة أعداء الإسلام ))
وتَرَ يٌعزف عليه بالليل والنهار بقصد أو بغير قصد.. قوة الأعداء .. القنابل النووية .. القنابل الجرثومية، .. الصواريخ .. الطائرات والدبابات... العلم والتكنولوجيا .
لا نود أن ننفي ما وصل إليه الغرب في هذا الجانب ولكننا نود أن نقول ينبغي أن نعلم يقيناً أن الله عز وجل ما أمر المسلمين بالإعداد إلا على قدر الإستطاعة فقال سبحانه وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ(1/1743)
وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ الأنفال : 60
وعَبًر الله جل وعلا بالقوة بصيغة التنكير ليبحث المسلمون عن القوة التي تناسب كل عصر وكل مصر وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ الأنفال : 60
فما عليك إلا أن تبذل أقصى ما في استطاعتك فإن علم الله منك أنك قد عملت أقصى ما في طاقتك وما في وسعك فاصبر واطمئن وكل النتائج إلى من بيده الكون كله .
قال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ المدثر : 30
وقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ الفجر : 14
قال تعالى إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ غافر : 51
والله لو علم المسلمون قدر قوة الله وازداد إيمانهم وثقتهم بالله ، لغًيَر الله الحال ولبدَل الله الواقع .. لأن الله عز وجل لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء .
فلنعد إلى الله ابتداءًً ولنحقق الإيمان لأن الله قد عَلِق النُصرة به (( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )) فلا نبغي أن نضخم من قوة الأعداء في الوقت الذي يجب علينا فيه أن نبذل أقصى ما في استطاعتنا لإعداد القوة ، وقد شاء الله أن يرينا كيف أرغم الفتناميون أمريكا ووضعوا أتفهم في التراب ؟!!
وكيف وضع الصوماليون الحفاة العراة الجياع أنف أمريكا في التراب ؟!! يوم أن جَرِ شباب الصومال بعض الجنود الأمريكيين في الشوارع والطرقات ، ونقلت وكالات الأنباء هذه الصور فاضطرت أمريكا أن تسحب جيوشها من الصومال في الحال .
كيف وضع المسلمون في البوسنة أنف لا أقول الصرب فحسب إنما أقول كيف وضع المسلمون في البوسنة أنف تآمر عالمي حاقد يهودي صليبي علماني رهيب ؟!!
كل المراقبين قروروا أت الحرب في البوسنة لن تستمر أكثر من أسبوع وصمد المسلمون في البوسنة !!
كل المراقبين قرروا أن الحرب في الشيشان ومرَغوا أنف الدب الروسي الغبي في التراب .
والأفغان يوم أن صَدَقوا الله ورفعو الراية للجهاد في سبيل الله وضعوا أنف الدب الروسي في التراب ، ويوم أن رفعوا الراية للعصبية المنتنة سلَط الله بعضهم على بعض لنَعِي سنةً ربانية لا ينبغي أن نتجاهلها أبداً .
أيها الأحبة : يجب علينا أن نعي هذه الحقيقة وألا نبالغ لأن هذه المبالغة تزيد المهزوم هزيمة وتزيد المنتصر على نفسه خذلانا وتكاسلا .
وأكتب بهذا القدر لأععرج كثيرا على العنصر الأخير وذلك بعد جلسة الإستراحة وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :(1/1744)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وزذ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستنى بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين .
أما بعد فيا أيها الأحبة الكرام
" فما هو العلاج "
العلاج في نقاط سريعة لا تحتاج إلى تفصيل
أولاً : معرفة أسباب الداء فإن تشخيص الداء نصف الدواء
ثانياً : العودة الجادة الصادقة إلى كتاب الله وسنة رسول الله ، وتربية أفراد الأمة على العقيدة الصالحة بشمولها وكمالها ولابد أن نَعِي أن العقيدة الآن هى التي تحرك العالم كله فالحرب في الشيشان حرب عقدية ، والحرب في الصومال حرب عقدَية .. الحرب في فلسطين عقدَِية .. والحرب في كشمير حرب عقدَية . والحرب في البوسنة حرب عقدَية . فلابد أن نربي الجيل على العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها .
ثالثاً: التخلص من الوهن كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان أن النبي قال (( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها قالوا أمن قلة يا رسول الله ؟ قال لا ، إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن الوهن في صدروكم قيل له وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: حب الدينا وكراهة الموت )) (8)
رابعاً : تربية شباب الأمة على روح الجهاد في سبيل الله
خامساً : العودة الصحيحة إلى التاريخ وسير السلف الصالح
لا لمجرد الثقافة الذهنية الباردة ، وإنما لأخذ العبر من ناحية ولتتدفق في عروق الأجيال دماءُ الغيرة والعزة والكرامة من ناحية أخرى .
وأخيراً : الاعتزاز المطلق بهذا الين وفي نصرة رب العالمين .
قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا النور : 55
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ الأنفال : 36(1/1745)
وقال الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ التوبة : 33
قال تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ الروم : 47
قال تعالى وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا الإسراء : 81
أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال ، وأن يرزقنا وإياكم العز والاستعلاء بالإيمان بهذا الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه .
------------------
(1) أخرجه مسلم رقم (2623) في كتاب البر ، باب النهي عن قول هلك الناس
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ( 8 / 424 ) ط. دار الحديث القاهرة
(3) رواه البخاري ( 6 / 361 ) في الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني اسرائيل / والترمذي رقم ( 2671 ) في العلم ، باب ما جاء في الحديث عن بني اسرائيل ، وانظر شرح الحديث في "الفتح" حديث رقم ( 3461 )
(4) رواه مسلم رقم ( 49 ) في الإيمان ، باب بيان أن النهي عن المنكر من الإيمان ، والترمذي رقم (2173 ) في الفتن : باب ما في جاء في تغيير المنكر باليد ، وأبو داود رقم (1140) في صلاة العيدين : باب الخطبة يوم العيد رقم (4340) في الملاحم : باب الأمر والنهي والنسائي ( 8 / 111 ) في الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان ، وأخرجه ابن ماجة رقم (4013) في الفتن ، باب الأمر بالمعروف والنهي هن المنكر
(5) أخرجه البخاري ( 5 / 94 ) في الشركة ، باب هل يقرع في القسمة ، وفي الشهادات : باب القرعة في المشكلات ، والترمذي رقم (2174) في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب .
(6) أخرجه أبو النعيم في الحلية وحسنه شيخنا الألباني في الصحيحة رقم (2268)، وصحيح الجامع(5682) .
(7) رواه أبو داود رقم (3462) في البيوع، باب في النهي عن العينة وصححه شيخنا الألباني في صحيحه رقم (11)، والعينة: نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة .
(8) رواه أبو داود رقم (4297) في الملاحم ، باب تداعي الأمم على الإسلام وفي سنده أبو عبد السلام صالح بن رستم الهاشمي ، وهو مجهول لكن قد رواه أحمد ( 5 / 278 ) من طريق آخر بسند قوي ، وصححه شيخنا الألباني في الصحيحة (956)، وصحيح الجامع (8183) .
ـــــــــــــــ
مهلا يا دعاة الهزيمة(1/1746)
إن الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلفه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيا عن أمته، ورسولا عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله واصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الجسنى وصفاته العلا أن يجمعنا فى هذه الدنيا دائماً وأبدا على طاعته أن يجمعنا فى الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم فى جنته ودار مقامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه...
أحبتى فى الله ... مهلا يا دعاة الهزيمة
هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم فى هذه الليلة الطبية وكعادتى فى مثل هذه المحاضرات المنهجية حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثى مع حضراتكم فى هذا الموضوع المهم فى العناصر المحددة التالية:
أولاً: أعراض الهزيمة.
ثانياً: أسباب الهزيمة.
ثالثا: فما الحل؟
وأخيراً: لا تيأسوا: فالصبح من رحم الظلماء مسراه
فأعيرونى القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعا بنصره الإسلام وعز الموحدين إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أولاً: أسباب الهزيمة:
أحبتى فى الله إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض والأيام دول، قا تعالى: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } (140) سورة آل عمران ولاشك أن الدولة الآن للباطل وأهله يوم أن تخلى عن الحق أهله، فلقد ابتليت الأمة بنكبات وأزمات كثيرة ابتداء بأزمة الشرك ومروراً بأزمة الردة الحادة والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، وزوال ظل الخلافة واغتصاب القدس وضياع الأندلس وضياع كثير من أراضى المسلمين، ومع ذلك فأنا أؤكد لحضراتكم بأن أخطر هزيمة قد بليت بها الأمة فى العصر الحديث هى الهزيمة النفسية، لأن المهزوم نفسياً مشلول الفكر والحركة، واستطيع أن أقف الليلة مع حضراتكم مع أهم أعراض هذه الهزيمة النفسية التى تشكل واقعاً مريراً أليما للمسلمين الآن.
وهذا هو عنصرنا الأول من عناصر هذه المحاضرة أعراض الهزيمة النفسية:(1/1747)
أول عرض من هذه الأعراض الواقع الأليم واليأس من إمكانية التغيير، أنا لا أجهل الواقع الذى تحياه أمتنا الآن لكن الذى يؤلم القلب أن كثيراً من المسلمين قد هبت عليهم رياح عاتية من القنوط واليأس وهزموا هزيمة نفسية أمام هذا الواقع حتى راحت هذه الهزيمة النفسية تمثل معتقداً جديداً عند الكثيرين ممن صاروا يرددون هذه الكلمات التى تقول: لا فائدة أنت تؤذن فى خرابة، أنت تصرخ فى صحراء مقفرة، أنت تنفخ فى قربة مقطوعة (عش عصرك) رب أولادك، لن يسمعك أحد لن تغير شيئاً دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله بل ومنهم من يقول دع ما لله لقيصر.
لقد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفسخ فى رماد
وقد وصف الصادق الذى لا ينطق عن الهوى هذه النفسية المهزومة وصفاً دقيقاً كما فى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" ([1]) وفى
لفظ : "فهو أهلكهك" بالضم والفتح والضم أشهر كما قال النووى: فهو أهلكهم أى: حكم عليهم بالهلاك.. وقد اتفق أهل العلم أن من قال ذلك على سبيل الإزدارء والتحقير فهو مذموم، أما من قال ذلك على سبيل أنه ينظر تقصيراً فى نفسه وعند إخوانه وهو يقول ذلك من باب أنه يحفز الهمم للعمل بدين الله تبارك وتعالى فهذا لا بأس به ، لكن الهزيمة النفسية التى صارت تمثل معتقداً عند الكثيرين الآن من يقولون: إن هذا الواقع لا يمكن أبداً أن يتغير هذا عرض خطير.
العرض الثانى: بإيجاز شديد، لأن المحاضرة طويلة، العرض الثانى من أعراض هذه الهزيمة النفسية السلبية الشديدة عند كثير من المسلمين وذلك من منطلق مقلوب لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة المائدة وقديماً خشى الصديق رضى الله عنه هذا الفهم المقلوب للآية فارتقى المنبر وقال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده".. وفى لفظ " ثم يدعونه فلا يستجاب لهم".([2]) والحديث رواه أحمد والترمذى وغيرهما بسند صحيح صار المسلم الآن ينظر إلى الباطل وإلى المنكرات تصبح بها مجتمعات المسلمين فيهز كتفيه ويمضى كأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من عبيد مع أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القطب الأعظم فى هذا الدين وهو شرط من شروط خيرية أمة سيد المرسلين: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران وفى صحيح البخارى من حديث عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " بلغوا عنى ولو آية"([3]) ... وفى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ما(1/1748)
من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، فمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" ([4]) وفى صحيح مسلم من حديث أبى سعيد
الخدرى أن النبى
قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"([5]) . بالضوابط الشرعية المعلومة بشرط ألا يترتب على المنكر الأصلى ما هو أنكر منه.
قال ابن القيم: إن النبى صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر يمنكر وسعى فى معصية الله ورسوله، ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام وعزه على هدم بيت الله الحرام ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل النبى صلى الله عليه وسلم ذلك مع قدرته على فعل ذلك، لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام فنحن نشهد الآن سلبية قاتلة خيمت فى سماء الأمة كانت عرضا خطيراً من أعراض هذه الهزيمة النفسية القاتلة.
العرض الثالث: الدفاع عن الإسلام كمتهم: وإن الغرب يثير شبهات خطيرة حقيرة على الإسلام، من بين هذه الشبهات أن الإسلام دين إرهاب ودين تطرف، وأن الإسلام ظلم المرأة والمرأة فى الإسلام مهملة وثروة معطلة، والأمومة تكاثر حيوانى والزوج سجان قاهر، والقرار فى البيت سجن مؤبد، ثم لماذا تزوج النبى صلى الله عليه وسلم تسعا ثم لماذا يتزوج الرجل المسلم أربعا ؟ لماذا لا تتزوج المرأة هى الأخرى أربعة من الرجال ؟ ثم لماذا حرم الإسلام الخلوه؟ ثم لماذا حرم الإسلام الاختلاط؟ ثم لماذا فرض الإسلام الحجاب على المرأة المسلمة؟ يثيرون شبهات حول هذه القضايا يطعنون فى ثوابت هذا الدين.
مكمن الخطر أيها الأفاضل أنه قد انبرى للرد على هذه الشبهات فريق من أهل العلم لكنه انبرى للدفاع عن الإسلام من منطلق أن الإسلام متهم فى قفص أتهام، ومن ثم جاءت الردود هزيلة، لأنها خرجت من مهزوم نفسياً والله جل وعلا يقول:" {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } (29) سورة الكهف فكان من الواجب أن تخرج الردود على هذه الشبهات قوية بقوة الإسلام عظيمة بعظمة هذا الدين هذا عرض آخر من أعراض الهزيمة النفسية.
العرض الرابع: الاستجياء من إظهار الهوية الإسلامية. كم من المسلمين الآن يستحى أن يظهر هويته إن كان بين غير المسلمين، إن سافر إلى بلاد الشرق وإلى بلاد الغرب يستحى أن يظهر هويته فى الوقت الذى نرى فيه اليهود والنصارى والبوذيين والمسيحيين- فى الوقت الذى نرى فيه أهل الكفر-(1/1749)
يعتز أحدهم بإظهار دينه وإظهار هويته وإظهار عقيدته، فترى كثيراً من المسلمين الآن قد انصهروا فى بوتقة المناهج الغربية وراحوا يقلدون الغرب تقليداً أعمى النظر.
أنظر إلى الكثير من شبابنا فى بلاد المسلمين أنظر إلى قصة الشعر، أنظر إلى المظهر، أنظر إلى الزى، أنظر إلى الأغانى التى يستمع إليها شبابنا، بل لو قدمت الآن استمارة استبيان لعينة عشوائية من شباب المسلمين ، وخرجت مجموعة من الأسئلة ، وطرحت نفس الأسئلة على عينة عشوائية من شباب الغرب، سنيقلب إليك بصرك خاسئاً وهو حسير، لأنك سترى الإجابات متشابهة إلى حد كبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله وصدق البشير النذير إذ يقول كما فى الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدرى: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب".. فى لفظ: " حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟! قال: " فمن"([6]) ومن أخطر هذه الأعراض للهزيمة النفسية تنحية الشريعة الربانية والذوبان فى بوتقة المناهج الغربية.
استبدلت الأمة بالعبير بعرا ، وبالثريا ثرى وبالرحيق المختوم حريقا محرقا مدمراً وظنت الأمة المهزومة عسكريا واقتصاديا ونفسيا أنها بتقليدها للغرب الذى انتصر فى الجولة الأخيرة ستخرج من حالة الذل والهوان هذه إلى حالة العزة والكرامة ، فنحت شريعة الله جل وعلا بالجملة وراحت تحكم شريعة الغرب فى الأعراض والدماء والفروج والله جل وعلا يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء والله جل وعلا يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36) سورة الأحزاب والله عز وجل يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} (60،61) سورة النساء وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) سورة الحجرات .
فمن أخطر أعراض الهزيمة النفسية أن نحت الأمة شريعة رب البرية ومنهج سيد البشرية حتى قرأت لأستاذ كبير فى هذه الأمة - لأن الأمة الآن تخطو على غير الموازين السوية - قرأت له يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين الالتهابات التى فى رئاتهم والنجاسات التى فى أمعائهم ليته قال: لقد غزمنا على أن نأخذ أروع ما وصل إليه الغربيون من تكتيك علمى تقنى مذهل فنحن لا ننكر ذلك لا حرج أن تنقل الأمة أروع ما وصل إليه الغرب فى الجانب العلمى والمادى ما دام هذا لا يصطدم اصطدام مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا وديننا لكن الأمة بكل أسف راحت لتنقل أعفن ما(1/1750)
وصل إليه الغرب فى الجانب العقدى والإيمانى والروحى والأخلاقى وتركت منهج ربها ومنهج نبيها والله جل وعلا يقول: { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } (11)سورة الرعد.
وقال أستاذ دكتور آخر: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ردة حضارية بكل المقاييس، وقال آخر
هبونى عيدا يجعل العرب أمة... وسيروا بجسمانى على دين برهم
أى: على دين إبراهيم ... ...
هبونى عيدا يجعل العرب أمة وسيروا بجسمانى على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا أهلا وسهلا بعده بجهنم
هذه أخطر الأعراض وإلا فأنا لا أريد الإطالة مع كل عنصر من عناصر المحاضرة والسؤال الآن أليست هذه الأعراض نتيجة حتمية لمجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية؟
والجواب: بلى! فما هى أخطر هذه الأسباب لهذه الهزيمة النفسية القاتلة؟ والجواب فى عنصرنا الثانى من عناصر هذه المحاضرة أسباب الهزيمة وأنا أقسم الأسباب إلى قسمين: أسباب داخلية وأسباب خارجية.
الأسباب الداخلية كثيرة وأخطرها وأهمها ما يلى:
ضعف الإيمان بالله عز وجل ، بل أنا أرى هذا السبب هو أخطر أسباب الذل والهوان، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم هذه الشريعة كل شؤون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، اعلموا أيها الأفاضل أن الله وعد بالنصر والعز والتمكين لكن للمؤمنين فإن لم تجد نصرة ولا عزة ولا استخلافاً ولا تمكيناً فكن على يقين مطلق أن الإيمان الذى يستحق به المؤمنون هذا لم يتحقق بعد { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47) سورة الروم { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } (8) سورة المنافقون {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النور .
وإذا أردت حبيبى فى الله أن تعرف عظمة الإيمان وكيف يكون الإيمان من أعظم الأسباب للتغلب على الهزيمة النفسية القاتلة؟ وكيف كان ضعف الإيمان من أخطر الأسباب للوقوع فى الهزيمة النفسية القاتلة؟ إن أردت أن تتعرف على ذلك، فانظر إلى واقع الصحابة رضى الله عنهم الذى حولهم هذا الإيمان من رعاة الإبل والغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول الأمم، استطاعوا بهذا الإيمان أن يتغلبوا على العالم القديم كله بصولجانه وجبروته وأن يحولوا إمبراطورياته العظيمة القوية إلى ركام فى ركام وإلى تراب فى تراب، استطاع الصحابة بهذا الإيمان أن يأتى أحدهم بتاج كسرى بن هرمز بكل درره وجواهره ولآلئه ليضع هذا التاج فى حجر عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو الأسد القابع فى عرين(1/1751)
فى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإيمان أذل كسرى، وبهذا الإيمان أهين قيصر، وبهذا الإيمان استطاع المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الايمان أذل كسرى، وبهذا الإيمان أهين قيصر، وبهذا الإيمان استطاع المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أن يقيم للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هى بناء شامخ لا يطاوله بناء، وذلك في فترة لا تساوى فى حساب الزمن شيئاً على الإطلاق فالإيمان ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة فحسب، كلا هذا إيمان المرجئة الذى دمر الأمة تدميرا، ولكن الإيمان كما هو معلوم لكل طالب علم وينبغى أن يعلم ذلك كل مسلم الإيمان عند أهل السنة: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى والزلات، قال رب الأرض والسماوات: " {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } (4) سورة الفتح فأثبت زيادة فى إيمانهم بتنزل السكينة على قلوبهم، وفى الحديث الذى رواه الطبرانى بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الإيمان ليخلق فى جوف
أحدكم كما يخلق الثوب- أى: كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان فى قلوبكم"([7]) . والله ما ذلت الأمة إلا يوم أن ضعف الإيمان وما هانت الأمة إلا يوم أن
ذبحت العقيدة فى الأمة شر ذبحة، كانت العقيدة بالأمس إذا مس جانبها سمعت الصديق يتوعد والفاروق يزمجر وخالد بن الوليد يهرول، رأيت الصادقين المخلصين من اصحاب سيد المرسلين يبذلون من أجل نصرتها الغالى والرخيص أين العقيدة الآن فى أمة تسأل غير الله؟ بل أين العقيدة الآن فى أمة تثق فى بعض دول الأرض أكثر من ثقتها فى رب السماء والأرض؟ هذا أخطر الأسباب.
السبب الثانى: من الأسباب الداخلية الجهل بطبيعة الطريق إلى الله تبارك وتعالى:
كثير من إخواننا وأحبابنا يهزم نفسيا إذا سمع أزمة من الأزمات فى فلسطين وفى الشيشان أو فى كشمير أو طاجكستان أو فى ليبيريا أو فى أريتريا يصدم وربما ينحرف وينعطف عن الطريق لماذا؟ لأنه لا يعلم طبيعة الطريق يجهل هذه الطبيعة فلابد أن نعلم أيها المسلمون ان الطريق إلى الله تبارك وتعالى ليس ممهداً بالورود ولا مفروشاً بالزهور والرياحين، لو كان الأمر كذلك لكان أولى الناس بذلك هو المصطفى صلى الله عليه وسلم :
ماذا فُعل برسول الله ؟! وضعت النجاسة على ظهره ووضع التراب على رأسهن وخنق المصطفى صلى الله عليه وسلم كادت أنفاسه أن تخرج وطرد من بلده وأتهم بالكهانة والشعر والجنون هذا هو الطريق: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (2، 3) سورة العنكبوت {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة(1/1752)
البقرة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) سورة آل عمران. فمن المسلمين من يردد كلمة الإيمان وهو يحسبها هينة المؤنة خفيفة الحمل فإن تعرض لمحنة أو لفتنة أو لأزمة على الطريق انحرف، ولقد وصف الله هذا الضعف وصفا دقيقا فى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (11) سورة الحج. الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب لكنه قول وتصديق وعمل أمانة ذات تكاليف وحمل كبير، فلا تظنوا السير على هذا الطريق مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، فالذى يجهل طبيعة الطريق مع أول محنة ربما ينحرف عن الطريق، ربما ينهزم قد يقول لى كثير من شبابنا وطلابنا كنت قبل الالتزام أتمنى أن أنظر إلى فتاة وبعد ما شرح الله لى صدرى وأطلقت اللحية، وإذ
بالفتيات يتعرضن إلى فى كل وقت وحين.
إنها الفتن للتمحيص للابتلاء من الذى يثبت ومن الذى سينحرف؟ ولا تظنوا أن المحنة التى يشهدها إخواننا هنالك الآن فى فلسطين شر محض كلا بل أذكر بقول الله تعالى: { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } (11) سورة النور. وقد نزلت الآية فى أحلك فتنة تعرض لها المصطفى صلى الله عليه وسلم ألا وهى فتنة حادثة الإفك أو حادثة الإفك يوم أتهم المنافقون رسول الله فى عرضه فى طهارة بيته وهو الطاهر الذى فاضت طهارته على العالمين يوم اتهم فى صيانة حرمته، وهو القائم على صيانة الحرمات فى أمته يوم رمى فى عائشة وهى أحب نسائه إلى قلبة ونزلت الآيات ومنها: { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
وقد سأل الآن أخ فاضل أى الخير فى فتنة حالكة كهذه؟ أقول: لو لم يكن فى هذه الفتنة التى أمتنع فيها الوحى شهراً كاملاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حطم الألم فؤاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وكاد الحزن أن يفتت كبده حتى قام ليسأل عن عائشة جاريتها وليسأل عنها أسامة وليسأل عنها عليا رضى الله عنه.
أقول: لو لم يكن فى هذه الفتنة من الدروس إلا أن الله أراد أن يعلم الأمة أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لكفى.
إلى غير ذلك من الدروس فلا تحسبوه شرا لكم لا تنظروا إلى كل ابتلاء أو إلى كل محنة على أنهها انتقام من الله جل وعلا كلا كلا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) سورة العنكبوت. فالجهل بطبيعة الطريق من أخطر أسباب الوقوع فى الهزيمة النفسية.
ثالثاً: النظرة الضيقة للزمان والمكان: يأتى شاب من شبابنا، كثر التبرج البناطيل الإسترتش، قل حفاظ القرآن، انتهت الكتاتيب التى تحفظ القرآن ضاع الدين، ضاع الإسلام، نظر نظرة ضيقة فى حدود المكان الذى يعيش فيه فأصيب بهذه الحالة من اليأس والهزيمة والقنوط مع أنه لو نظر نظرة أوسع لعلم(1/1753)
علم اليقين أن أبناء الطائفة المنصورة لا يخلو منها زمان بموعود الصادق الذى لا ينطق عن الهوى كما فى صحيح مسلم من حديث معاوية/ لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهو ظاهرون على الناس"([8]) وفى لفظ :" وهم كذلك"([9]).
ثم تأتى النظرة الضيفة للزمان التى تصيب إخواننا وأحبابنا بهزيمة نفسية قاتله يقول: الآن سيطر اليهود واستولى الروس على الشيشان وضاعت الأندلس وهزمت الأمة: إنا لله وإنا إليه راجعون انتهت الأمة كفنت الأمة دفنت الآمة، لا حياة لمن تنادى لقد أسمعت لو ناديت حيا ... إلى آخر هذه الكلمات، مع أنك لو نظرت نظرة أوسع للزمان ما أصبت بهذه الحالة، فلقد ابتليت الأمة بنكبات اشد وبأزمات أخطر هل تعلمون أن التتار قد هجموا على الأمة ودمروا عاصمة الخلافة بغداد، وذبحوا المسلمين أربعين يوما متتالية حتى منعت صلاة الجماعة أربعين يوما فى كل المساجد فى بغداد لم يرفع مؤذن واحد الأذان فى اى مسجد من مساجد المسلمين فى بغداد وهى عاصمة الخلافة فى هذا الوقت، هل استمر الحال.
لا يا أخى بل غير الله الحال وسيغير الله الحال إن شاء الله غير الله الحال ونصر الله عز وجل المسلمين على التتريين الغاشمين، ثم اشتعلت شرارة الصراع الصليبى الحاقد، واستولى الصليبيون على القدس الشريف، ومنعوا الصلاة فى المسجد الأقصى واحداً وتسعين عاما، لابد أن تتعرفوا على هذا التاريخ حتى تنظروا نظرة أوسع إلى الزمان، لقد سيطر الصليبيون على الأقصى ومنعوا الصلاة فى الأقصى واحداً وتسعين عاماً ، ووضعت الصلبان على كل جدران الأقصى، ونصر الله المسلمين ثم فى صحن الحرم.
جاء أبو طاهر القرمطى المجرم الخبيث فاقتلع الحجر الأسود من الكعبة، وظل يصرخ فى بيت الله وهو يقول باستهزاء: أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟! وظل الحجر الأسود يا إخوة بعيداً عن الكعبة المشرفة واحداً وعشرين عاما، ظل الحجر الأسود بعيداً عن الكعبة واحدا وعشرين عاماً، كان الطائفون ف هذا الوقت يطوفون والحجر الأسود ليس موجوداً فى موضعة، وغير الله الحال ورد الحجر الأسود إلى موضعه، واستولى اليهود الآن على الأقصى لكن المسلمين يصلون، والله الذى جعل القدس مدينة وسكنا للأنبياء لن يديمها أبداً سكنا لقتلة الأنبياء.
ومن أخطر هذه الأسباب أيضاً تجاهل الطاقات والإمكانيات الهائلة لدى الأمة التى تملك أدمغة، ابحثوا عنها فى بلاد الغرب وأسألوا عنها فى بلاد الغرب كيف برعت؟ يوم أن شعروا بأن نكبت الطاقات وتقتل المواهب، هربوا لكنها أدمغة رجالنا فى كل الميادين وفى كل المجالات، الأمة هى التى علمت الغرب يا إخوة.
اقرأوا التاريخ عند المنصفين حتى فى علمائهم يوم أن كانت فرنسا لا تعرف الضوء الكهربائى كانت الأندلس مضاءة بالكهرباءن أضيئت الأندلس بالكهرباء فى ظل الإسلام فى الوقت الى كانت فرنسا(1/1754)
تعيش فى الظلام، والأمة تملك من الطاقات العلمية والمادية والعددية والعقلية والفكرية والاقتصادية والمناخية ما تستطيع به أن تسترد مكانتها وكرامتها لكنها الهزيمة النفسية كما أقول.
الأمة قد حباها الله بمناخ تغبط عليه، وقد حباها الله بموقع استراتيجي خطير وقد رزقها الله عز وجل بالبترول الذى لو استعملته مرة ثانية لغيرت الدفة وقلبت الموازين بالكلية كما استخدم فى إطار محدود فى حرب العاشر من رمضان فغير الدفة وقلب الموازين إن كانت الأمة الآن لا تقدر على إعلان الحرب أو على إعلان الجهاد، فإنها تملك من الخيارات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية ما تستطيع به ان تسترد مكانتها وكرامتها فى عالم لا يحترم الان إلا الأقوياء كما قال الإرهابى مناحم بيجن: إننا نحارب إذا نحن موجودون.
الأمة ليست فقيرة بل إن أموال الأمة الآن تحرك الشرق والغرب، وقفت على رقم الفائدة البنكية لأموال المسلمين فى بنوك الغرب، والله ما استطعت أن أقرأ الرقم، والله ما استطعت أن أقرأ رقم الفائدة فضلا عن رؤوس الأموال، فالأمة تمتلك من الطاقات الكثير لكن بكل أسف الأمة تتجاهل هذه الطاقات والقدرات الهائلة الجبارة وهذا من أخطر أسباب الله وأنا أدين لربى جل وعلا: أن الأمة ما ذلت إلا يوم أن تركت العقيدة والجهاد قال كما فى مسند احمد بسند صحيح من حديث أبى عمر: "غذا تبايعتهم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد فى سبيل الله سلط الله عليكم ذلالا ينزعة عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"([10])
هذه أخطر الأسباب الداخلية للهزيمة النفسية وقد تعمدت أن أبدأ بها لأننا فى الغالب نعلق هزيمتنا عسكريا واقتصادية وسياسياً وثقافياً وفكريا ونفسيا على أعدائنا وقد حذر الله من مثل هذا المسلك الخطير فقد قال جل وعلا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165) سورة آل عمران
أما الأسباب الخارجية فتتمثل يا إخوة فى المبالغة فى التضخيم والتهويل من شأن قوة الأعداء تسمعوا إرجافا خطيراً يقول لك دا عندهم صاروخ لو وضعت قطعة فضية على يدك الصاروخ قادر أن يأتى ليصيب القطعة المعدنية فى كفك دون أن يصيب كفك بأذى أنظر إلى الإرجاف، ظن بعض المسلمين الآن أن أعداءنا يتحكمون فى الكون كله، وردد كثير منهم كلمات خطيرة تحمل هذا المعنى وقد شاء الله جل وعلا أن نرى بأعيننا كيف وضع الفيتناميون أنف أمريكا فى التراب وكيف وضع الأفغانيون أنف الدب الروسى الغبى الوقح فى التراب يوم أن صدقوا مع الله، وشاء الله أن نرى بأعيننا كيف مرغ الشيشانيون مرة أخرى أنف الدب الروسى الغبى فى التراب، فلقد كان الروس يعلنون أن جولتهم فى الشيشان ما هى إلا نزهة حربية انظر إلى حجم الخسائر التى تكبدهم الجيش الروسى فى الشيشان بعد أفغانستان، وانظر إلى التآمر العالمى على المسلمين فى البوسنة ما هى نتيجته، وشاء الله جل وعلا أن نرى فى أيامنا هذه كيف يفر الجندى اليهودى المدجج بالسلاح، بل بأحدث السلاح(1/1755)
أمام شاب فلسطينى مسلم يبذل نفسه لدين الله جل وعلان ولتسقط عندنا هذه الأسطورة التى أصابتنا بالإرجاف وملأت قلوبنا بالخوف والرعب، وشاء الله أن نرى سقوطاً مزريا مدوبا لما يسمونه بالديمقراطية المزعومة فى أمريكا فى المهزلة الانتخابية الأخيرة التى لازالت حلقاتها مستمرة ، وأنا المح وراءها شيئاً آخر ولا تؤاخذونى إن قلت: بأننى أرى فى هذه
الحبكة، وفى هذه التمثيلية التى ستطول بعض الشئ حتى وإن كرر الإعلام ما كرر أى أن فى هذه الحبكة الإعلامية الانتخابية صرفا لأنظار وكالات الأنباء العالمية عن واقع فلسطين سقطت أسطورة الديمقراطية الأمريكية.
ومنهم الآن من بدأ يرسم الكاريكاتير ليتندر وليهزأ وليسخر، فأنت ترى تمثال الحرية فى إحدى الصور قد تناثر تناجه هنا وهنالك وسقطت منه الشعلة وهو يحاول أن يأتى بها أو يلاحقها ولكنه لا يستطيع فلماذا التضخيم والتهويل والمبالغة فى الوقت الذى نقلل فيه من شأننا؟
إنه الإرجاف إرجاف أصاب الأمة الهزيمة، إرجاف قتل الأمل فى كثير من القلوب يجب علينا أيها الأخيار الكرام أن ننتبه إليه والسؤال الآن فما الحل؟
وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر المحاضرة والحل فى نقاط محددة حتى لا ينسى أخ أو أخت الخطوة الأولى على طريق الحل وعلى طريق الخروج من هذه الهزيمة النفسية المدمرة.
الخطوة الأولى: العودة الصادقة الجادة إلى العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها العودة الصادقة الجادة إلى العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها فأنا أتذكر لما ظهرت الطائرات لأول مرة وقالوا بأن بريطانيا وكانت الدولة العظمى تملك الآن طائرات فقال رجل من آبائنا الأفاضل فى منطقة القصيم تلك المنطقة التى أحبها من كل قلبى، أسأل الله أن يجعل بلاد المسلمين أمنا وأمانا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين إنه عل كل شئ قدير قيل لهذا الوالد الفاضل الشيخ الكبير الربانى قالوا: الآن فيه طائرات قال: شو يا خويا الطائرات ، لا تعرف شيئاً عن الطائرات ولو حدثتك عن الطائرة قبل أن تراها ما عرفت عنها شيئاً ما تصورناها فقال : ما هى الطائرات فأراد أخ أن يبسط له المسألة فقال: شئ يطير فى السماء ينزل ناراً فيحرق البيوت ويهدم البيوت ويقتل الأشخاص قال: فى السماء، قال له: نعم : قال هذا الرجل المبارك: (طيب يا خويا الطيارات ذى فى السماء هى فوق ربنا اللى أعلى منها هى أعلى ولا ربنا أعلى قالوا: لأ الله أعلى قال: خلاص) انظروا إلى الفطرة قد يظن بعض العلمانيين الآن حينما يسمع مثل هذا إننا دراويش، لأنهم لا يحسبون أبدا ولا يضعون ضمن خطة خمسية أو سنوية لا يضعون ضمن خطة خمسية أو سنوية لا يضعون ضمن خطة واحدة أبدا قدرة وعظمة رب البرية: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (31) سورة المدثر. رأيتم الفيضانات التى كادت ان تفصل بريطانيا عن العالم كله فى الأيام الماضية ورأيتم الحرائق التى كادت أن تدمر الأخضر واليابس فى أمريكا ورأيتم كيف دمر زالزل مدينة المكسيك أو سان فرانسيسكو { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } لكننا لا نثق(1/1756)
فى الله ولا تصدق فى التوكل على الله يردد أحدنا بلسانة: توكلنا على الله بل ستعجب إذا سمعت هذه الكلمة ممن خرج ليسرق خرج فى الصباح ليسرق ثم يقول: توكلنا على الله، يارب ارزؤنا برزء العيال) طبعا هذا فعل.
والرزء هو المصيبة، لكن الرزق يختلف، فنحن لم نصدق فى التوكل على الله جلا وعلا، فالعودة الصادقة إلى العقيدة- أدين لربى بأن الخطوة الأولى على الطريق- هى العودة إلى العقيدة هى العودة إلى العقيدة بمفهومها الشامل بمفهومها المتكامل لا أريد أيضا أن تقول بأن العودة إلى العقيدة هى العودة إلى شرك القبور فحسب أو هى العودة إلى الحاكمية فحسب، أو هى العودة إلى عقيدة الولاء والبراء فحسب، بل هى العودة إلى كل هذا وإلى أكثر من هذا العودة إلى العقيدة بشمولها وكمالها.
ثانياً: الاعتزاز بهذا الدين، ارفع رأسك أيها الموحد، سبحان الله أيها العملاق قم ودثر العالم كله بعز واستعلاء، دثره ببردتك ذات العبق المحمدى الطاهر قم وضم العالم كله إلى صدرك وأسمعه خفقات قلبك الذى وحد الله جل وعلا، لم الهزيمة لم الخوف، لم الاستحياء؟ اعتز بدينك فأنت تدين بدين الحق الذى من أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله خلق الله لجنة والنار ، ومن أجله أنزل الله كل الكتب ومن أجله أرسل الله كل الرسل، ومن أجله خلق الله الجنة وخلق النار فريق فى الجنة وفريق فى السعير من أجل دينك أنت أيها الموحد. إن الدين عند الله الإسلام كيف لا تعتز بهذا الدين، كيف لا نرفع رؤوسنا لتعانق رؤوسنا كواكب الجوزاء أو إن شئت فقل: إن صدقنا لتتنزل كواكب الجوزاء لتتوج رؤوسنا إن وحدنا ربنا جل وعلا لماذا لا نعتز بهذا الدين؟
أين نحن الآن من الصحابة الذين افتخروا واعتزوا بدينهم؟ هذا ربعى بن عامر- والله ذكرنى الله به الآن- هذا ربعى بن عامر رضوان الله عليه الذى يدخل على قائد الجيوش الكسروية رستم قال كسرى حينما هزمت جيوش كسرى أمام جيوش المسلمين: والله لأرمين المسلمين بقائدى الذى ادخرته ليوم الكربهة وولى كسرى رستم قيادة الجيوش الكسروية الجرارة وهزم رستم، فطلب رستم من قائد الجيوش سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه أن يرسل إليه رسلا ليسمعوا منهم وليسمعوهم، فأرسل سعد ربعى بن عامر وذهب ربعى يركب جواده وعليه ثيابه المتواضعة، ولا أريد أن أقف مع الجزئيات فأرادوا أن يمنعوه فقال لهم: بعزة واستعلاء المؤمنين : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (139) سورة آل عمران . فشتان شتان بين استعلاء المؤمنين وتكبر المتكبرين- فقال لهم ربعى: أنا لم آتكم وإنما جئتكم فإن تركتمونى وإلا سأرجع . قال لهم رستم: ائذنوا له- إرهاب- فدخل ربعى فقال له رستم: من أنتم وما الذى جاءبكم - انظر إلى ربعى الذى فهم الغاية وعرف الهدف- قال ربعى: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فمن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضى إلى موعود الله.(1/1757)
قال رستم: وما موعود الله: قال ربعى: الجنة لمن مات منا والنصر لمن بقى من إخواننا.
قال رستم: لقد سمعت قولك فهل لكم أن تؤخرونا لننظر فى أمرنا؟! ولتنظروا فى أمركم قال ربعى: ما سن لنا رسول الله أن نؤجل الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال فانظر فى أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث قال رستم: ما هى؟ الإسلام نقبله ونرجع عنك قال رستم: والثانية؟ قال: الجزية- التى تدفعها الأمة الآن كاملة غير منقوصة- قال: الجزية وإن احتجت إلينا نصرناك. وما الثالثة؟ قال ربعى : القتال. لن نبدأك بالقتال فيما بيننا وبين اليوم الثالث إلا أن بدأتنا أنت فقال رستم: أسيدهم أنت؟ هل أنت القائد؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد الواحد يسعى بذمتهم أدناهم
على أعلاهم.
إنها العزة بالإسلام، اللهم ارزقنا العزة بك وبدينك فاعتز بهذا الدين لا تضع رأسك أبدا، لأنك موحد لرب العالمين فافخر بإسلامك واعتز بدينك وأظهر هويتك.
ثالثاً: الخطوة الثالثة على طريق الخروج من هذه الهزيمة النفسية بل على طريق النصر نبذ الفرقة وتوحيد الصف:
لقد تحولت الأمة إلى غثاء من النفايات البشرية تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدول أو كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية إلا من رحم رب البرية فتشتت الشمل وتشرذمت، والله جل وعلا يقول: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } فالفشل قرين التنازع { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (46) سورة الأنفال .
ولكن أرجو أن يحفظ أحبابنا وإخواننا منى ذلك إن كنت الآن أدعو إلى وحدة الصف، فإنى لا أريدها وحدة تجمع شتاتاً متناقضا ناشزا على غير حق وسنة وهدى، وإنما أريدها وحدة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله فإن وحدة على غير القرآن والسنة تشتت ولا تجمع وتفرق ولا تضم وتجرح ولا تضمد، وهذا هو الواقع لابد من أن تتحد الصفوف على كلمة التوحيد فكلمة التوحيد هى التى ستوحد الكلمة.
رابعاً: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
سامحونى إن قلت يحسن الكثير منا الكلام الآن لكن أين العمل؟ إننا نرى فجوة رهيبة بين القول والعمل فى الأمة وأنا أقول لإخواناً فى أمريكا أو فى أوربا حينما أسافر إليهم أقول: إن اخطر عقبة فى طريق انتشار الإسلام فى الشرق والغرب هى كثير من المسلمين ممن انحرفوا خلقيا عن منهج رب العالمين فالكافر ينظر إلى المسلم فيراه يزنى ويشرب الخمر ويتعامل بالربا ويتأخر فى عمله ولا يصدق فى مواعيده ولا يتقى الله فى عهوده، بالله عليك هل هذا المسلم يمثل رسولا لدينه يمثل داعية لإسلامة،(1/1758)
لا والله بل إنه يشكل حجر عثرة فى طريق الإسلام، ولذلك أقول: أن أعظم خدمة تقدمها اليوم للإسلام هى أن تشهد له شهادة عملية على أرض الواقع بعد أن شهدنا له جميعا شهادة قولية بألسنتنا قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2،3) سورة الصف
خامسا: على طريق الحل والعودة إعداد المسلمين المتخصصين فى كل المجالات العلمية والمادية والدعوية:
نريد المسلم الذى يفهم الإسلام بشمولة وكماله ثم ينطلق ليحول هذا الإسلام فى موقع عمله وموقع إنتاجه إلى منهج الحياة، نحن لا نريد هذا الجمع المبارك أن يتحول إلى دعاة على المنابر لكن نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله جل وعلا، كل فى موقع إنتاجه وموطن عطائه حينما نفهم الإسلام بشموله وكماله، وينطلق كل مسلم صادق ليحول هذا الإسلام فى موقعه أيا كان إلى واقع عملى وإلى منهج الحياة.
وأخيراً النقطة الأخيرة على طريق الحل ايضاً والعودة هى الجهاد كما ذكرت ، لكن فلنبدأ بالجهاد فى ميدان النفس والهوى والشيطان، ثم بعد ذلك يأتى الجهاد الذى به عز الأمة الذى جعله النبى صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، فلابد أن نتربى على جهادنا لأنفسنا وأهوائنا وشهواتنا ونزواتنا، لابد من أن ينتصر كل مسلم على شيطانه وهواه، فإنك ترى الآن طحنا بين الإخوة من الصفوة، وترى كثيرا ممن ينسبون إلى العلم يتطاول أحدهم على العلماء الأخيار الأطهار فكيف لا ينتصر أحدنا على نفسه فى هذا الميدان ثم يزعم أنه قادر على أن يجاهد فى سبيل الله؟!.
أنا أسأل وسامحونى فى هذا السؤال من منا يدعو الله عز وجل فى كل صلاة لإخواننا الفلسطنيين؟ والله وأنا إن شاء الله لا أحنت لو صدقنا الله فى الجواب على هذا السؤال لرأينا أن نسبة قليلة جداً فى الأمة هى التى تتضرع إلى الله فى كل صلاة بصدق لينصر الله لإخواننا فى فلسطين أو فى أى مكان، وأنا أسأل بعد هذا وأقول: بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال فالأمر يحتاج إلى صدق.
وأخيرا لا تيأسوا:
فالصبح من رحم الظلماء مسراه
بعد هذا الطرح أقول:
لأن عرف التاريخ أوسا وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعا حرة رغم المكائد نخرج
أيها الأحبة إن الذى وعد بنصرة دينه هو الله الحى الذى لا يموت: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (8 ، 9) سورة الصف وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا(1/1759)
الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (171 ، 173) سورة الصافات . قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف وقال كما فى صحيح مسلم من حديث ثوبان:" إن الله تعالى زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زوى لى منها". ([11])
وفى الحديث الذى رواه أحمد وغيره بسند حسن من حديث حذيفة بن اليمان أنه قال: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها". وها نحن نعيش هذه المرحلة قال بعدها :" ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"([12]) .. وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة:" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودى وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم"([13]) .. لن يقول: يا
عربى يا وطنى يا قومى." يا مسلم يا بعد الله ورائى يهودى تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
وفى رواية البزار بسند رجاله ثقات قال الهيثمى فى مجمع الزوائد: ورجالها رجال الصحيح ومن أهل العلم من باب الأمانة العلمية من ضعف سند هذه الرواية أن النبى صلى الله عليه وسلم حدد موقع المعركة فقال :" أنتم - يقصد المسلمين- أنتم شرقى الأردن وهم غربيه". ولم تكن هنالك ويوم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم دولة تعرف بدولة الأردن ولكنها النبوة : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (5) سورة النجم ثم يأتى الواقع فى البشريات ليؤكد أيضاً أن الجولة المقبلة بإذن الله تعالى
لدين محمد .
لقد قرأت بنفسى وثيقة التنصير الكنسى التى تتكون من مائة وخمس صفحات وتعد عبر كوادر متخصصة فى الفاتيكان وتوقع بتوقيع جون بول الثانى وفى خلاصتها ينادى باب الفاتيكان ويقول: ايها المبشرون.. يقصد المنصرين .. أيها المبشرون هيا تحركوا وبسرعة، لماذا؟ يقول: لوقت الزحف الإسلامى الهائل فى أنحاء أوروبا. الإسلام الذى يتحرك بجهود فردية متواضعة لكن الله يباركها، لأن الإسلام دين الفطرة.. حضرت
مؤتمرا فى أمريكا فى أكبر صالة مغطاة فى العالم (الماتسن سكوير جاردن) وكان
هذا المؤتمر لغير المسلمين وحضره أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة يريدون أن يتعرفوا على الإسلام دفع أحدهم خمسة وعشرين دولاراً للتذكرة لمجرد أنه يريد أن يتعرف(1/1760)
على الإسلام.
انتشرت المراكز الإسلامية والمدارس الإسلامية والمساجد فى أمريكا بصورة ملفتة لجميع الأنظار فى السنوات القليلة الماضية.. وقف رئيس أمريكا ليهنئ المسلمين بعيدهم وبرمضان فى العام الماضى وفى هذا العام، وأنا أعلم أنه لا ينبغى أن اقول هذا لاسيما وأنا أتحدث عن الهزيمة النفسية لكننى أقرر واقعاً أنا لا أقول ذلك على سبيل الشرف ، وإنى أقرر ذلك على سبيل تقرير الواقع...
(1) رواه مسلم فى البر والصلة والآداب (2623).
(2) رواه الترمذى فى التفسير (3057) وقال: حديث حسن صحيح ، وأحمد (1/2) وسنده صحيح.
(1) رواه البخارى فى أحاديث الأنبياء (3461).
(2) رواه مسلم فى الإيمان (50 /80).
(3) رواه مسلم فى الإيمان (49).
(1) رواه البخارى فى الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ومسلم فى العلم (2669).
(1) رواه الحاكم (1/4) وصححه، وقال الذهبى: رجاله ثقاب، وقال الهيثمى فى المجمع (1/52): رواه الطبرانى فى الكبير وغسناده حسن.
(1) رواه مسلم فى الإمارة (1027 / 174).
(2) رواه مسلم فى الإمارة (1920 / 170 ، 1924 / 176).
(1) رواه أحمد (2/84) وأبو داود فى البيوع (3462) وسنده صحيح.
(1) رواه مسلم فى الفتن وأشراط الساعة (2889 / 19).
(2) رواه أحمد (4/273) وسنده حسن.
(3) رواه البخارى فى الجهاد والسير (2926)، ومسلم فى الفتن واشراط الساعة (2922/82).
ـــــــــــــــ
الرد على حكماء الهزيمة
منير شفيق
أصبح من الجلي الآن أن الشروط التي حملتها إدارة بوش للدول العربية بعد العدوان على العراق واحتلاله (سبق وبُلّغت قبل ذلك) قد سقطت في الفلوجة والنجف وكربلاء، بل إن أهداف الحرب على العراق واحتلاله فشلت.
وذهبت كل توقعات الإدارة الأمريكية لعراق ما بعد الاحتلال بدداً، ولم يبقَ منها غير اليسير الذي يراد أن يكبر من خلال وسائل أخرى غير الحرب والإملاء.(1/1761)
ينطبق هذا على الشروط الأمريكية (قائمة الإملاءات) التي قدّمت للدول العربية، كما ينطبق على الموضوع الفلسطيني أكثر حيث بات من الواضح أن كل ما يحدث في القطاع منذ ثلاثة أشهر - في الأقل - قد فقد هدفه السياسي الأساسي، وأصبح محكوماً بروح الانتقام والتدمير والغيظ، مما سيفاقم أزمة شارون والاحتلال (الجيش الإسرائيلي) ولا يحلّها.
صحيح أن الثمن الذي سيُدفع عالٍ جداً سواء كان بفقدان الشهداء القادة الشيخ أحمد ياسين ود. عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب والكوادر، أم بمئات الشهداء والجرحى من الناس العاديين، أم بالدمار الهائل الذي تعرضت له رفح وبخاصة حيّ تل السلطان وحيّ البرازيل، وصحيح أن الجرح في قلوب الفلسطينيين والعرب والمسلمين صار أعمق، والغضب أشدّ اشتعالاً، إلا أن ما يجري لا مفرّ منه ما دام العدو هو المشروع الصهيوني، وما دام مناصروه من الدول الكبرى لا يستطيعون أن يردّوه مهزوماً أمام المقاومة والانتفاضة والشعب الفلسطيني، وهو ما أعطاه إجازة ليرتكب كل ما عرفته رفح، وقبلها غزة؛ من جرائم حرب وسفك دماء ودمار، ومع ذلك فإن قرار الهزيمة اتخذ على شكل انسحاب من طرف واحد دون قيد أو شرط، كما أن قرار انسحاب القوات الأمريكية وضع على أجندة العراق، كما غدت قائمة الإملاءات الأمريكية على الدول العربية مطروحة على الطاولة، وكانت قبل بضعة أشهر غير قابلة للتفاوض (إما أخذها كلّها وإما فلا).
هنا يأتي دور (الحكماء) الذين ابتلعوا ألسنتهم قبل الوصول إلى تلك النتيجة تاركين المجال لبوش وشارون ليحققا أهداف هجمتهما، لكن عندما انكسرت الهجمة، وبدت في الأفق إشارات هزيمة في فلسطين والعراق جاء دور (الحكماء) الذين يريدون إنقاذ الوضع، وبالتحديد إنقاذ شارون وبوش تحت حجة الخوف من الفوضى ومن الإرهاب في حالة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، أو تنفيذ شارون لخطة الانسحاب من قطاع غزة بلا قيد أو شرط.
وبكلمة أخرى حرمان الشعبين الفلسطيني والعراقي من الانتصار عبر مساومة تتنازل فيها أمريكا عن (العُشر) وتستبقي التسعة أعشار، علماً أنها كانت خاسرة تماماً، فيا للحكمة، ويا لإنقاذ الوضع.
ومن هنا فإن من يتابع التعليقات والتصريحات التي عجّت بها أجهزة الإعلام يجد أن صوت أولئك (الحكماء) أخذ يعلو كأنهم هم الذين قاتلوا في الفلوجة والنجف وكربلاء، أو هم الذين كانوا في قلب الانتفاضة والمقاومة والصمود في فلسطين، أو هم الذين كانوا يضغطون ضدّ تلبية الدول العربية لقائمة الشروط الأمريكية، ولهذا توجّب الرد عليهم، وضرورة التعبئة في هذه المرحلة ضد الاستجابة لهذه (الحكمة) التي يمكنها أن ترمي طوق نجاة مؤقت لأمريكا، لكنها ستزيد من أزمة الوضع، وترفع من وتيرة الشهداء والدمار، لأن من غير المعقول كما من غير الممكن أن يحقق بوش وشارون من خلال (حكمتهم) ما لم يحققاه من خلال الصاروخ والدبابة، وليعودا سيرتهما الأولى من جديد وفي أسرع الآجال، وهؤلاء الحكماء يستندون إلى ما يلي:(1/1762)
أولاً: أن نظرية وقوع العراق في الفوضى، وتحوّله إلى مسرح للإرهاب إذا انسحبت القوات الأمريكية ليست صحيحة، وإن بدت في الظاهر منطقية، فالفوضى خرجت بسبب وجود الاحتلال الأمريكي، وإذا صحّ أن القوى التي ارتكبت أعمالاً إجرامية إرهابية في العراق مثل: زرع القنابل، أو إطلاق قذائف على الحشود في عاشوراء، أو ارتكبت جرائم الاغتيالات، أو ضربت ضدّ مراكز الشرطة، أو هيئة الأمم أو السفارات؛ هي من التنظيمات المشار إليها بالإرهابية؛ فحتى هذه جاء بها احتلال العراق، وسمح بها مناخ الإرهاب الذي مارسه الاحتلال ولم يزل، ابتداء بالقتل والاعتداءات، والنهب وتدمير الدولة، ومروراً بالقصف العشوائي والقنص كما حدث في الفلوجة والنجف وكربلاء وبغداد والأنبار، وانتهاء (ليس بمعنى النهاية) بالجريمة المروعة التي ارتكبت بحق عرس في قرية القائم.
هذا ناهيك عن الفضائح الأمريكية في سجون ومراكز الاعتقال ومثالها سجن أبو غريب، وهذه بالصورة والصوت.
علماً أن تضخيم دور تلك القوى إن وُجدت حقيقة (لأن الأعمال المشار إليها تدخل في دائرة الشبهات التي تصل إلى الموساد ) يكذبه ما تكشفت عنه معارك الفلوجة والنجف وكربلاء، مما يؤكد أن القوى التي وراء المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال الأمريكي على اختلاف توجهاتها نابعة من الشعب العراقي، وملتزمة بخط سياسي لا علاقة له من قريب أو بعيد بما تعبّر عنه البيانات الصادرة عن تنظيم (القاعدة)، أو عن الزرقاوي، أو أسماء أخرى مشابهة، كما أن الإشارة إلى المتطوعين العرب وأعدادهم أبطلت صدقيتها الفلوجة ناهيك عن الأنبار والموصل والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة وبغداد، فالشعب وممثلوه وأبناؤه كانوا المقاومة (بكل أشكالها التي يجيزها الشرع).
وباختصار نحن أمام فزاعة كاذبة، وتقدير موقف وهمي، هذا إذا أحسنّا الظن، علماً أن ثمة خشية من أن يكون الدافع وراء التخويف من انسحاب قوات الاحتلال من العراق هو الخوف من الشعب العراقي، ومن تمكّنه من بناء عراق بعيد عن الهيمنة الأمريكية، وبقيادة قوى ممثلة حقاً لغالبية الشعب، وهذه هي الضمانة الفعلية لحماية العراق من أن يصبح مرتعاً للإرهاب والفوضى، وهذان (الإرهاب والفوضى) لا يترعرعان إلا في المياه العكرة التي نموذجها كل حوض تحركه العصا الأمريكية والصهيونية.
أما حجة الفوضى والإرهاب فكيف يمكن أن تطبق على قطاع غزة في حالة انسحاب القوات الإسرائيلية مهزومة منه وبلا قيد أو شرط، فمن جهة لم تعرف تجربة انتفاضة الأقصى والمقاومة في فلسطين ذلك النمط من التنظيمات التي تتبنّى عمليات من طراز 11 أيلول / سبتمبر 2001 في أمريكا، أو 11 آذار/مارس في إسبانيا، أو تفجيرات عاشوراء في العراق، أو الاغتيالات بسبب المواقف السياسية أو الانتقام (أو لأي سبب كان)، فالقوى التي سترث الاحتلال في فلسطين معروفة،(1/1763)
ولا يستطيع أحد أن يتهمها بأنها ستجعل من الأراضي التي ينسحب منها الاحتلال مرتعاً للإرهاب أو الفوضى.
ومن ثم فإن الذين يريدون أن يدعموا (حكمتهم) بفزاعة الإرهاب والفوضى في حالة نزول هزيمة بقوات الاحتلالين في العراق وفلسطين إنما يقيمونها على أرجل خشبية لا تقوى على الصمود حين يُردّ عليها بقراءة الواقع كما هو.
ثانياً: الحجة الأخرى تنطلق من أن الإدارة الأمريكية في مأزق، وهي مستعدة للتراجع جزئياً (وهذا عظيم جداً وفرصة!)، وقد حوّلت ملف العراق وفلسطين والشرق الأوسط الكبير (ملف الدول العربية) من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى وزير الخارجية كولن باول (وهذه فرصة!)، ولهذا فإن الحكمة تقضي بضرورة اغتنام هذا التحول (الهام) الذي كشف عنه عدم استخدام الفيتو الأمريكي ضد قرار مجلس الأمن الذي طالب الدولة العبرية باحترام التزاماتها الدولية في رفح، أو كما تكشف قبولها بوساطة الأخضر الإبراهيمي في العراق.
حسناً: ما المطلوب؟ (الحكمة) تقتضي وقف المقاومة والانتفاضة والتسليم بتهدئة كل شيء على ضوء خطة شارون في فلسطين، والسير وفقاً لاقتراحات الإبراهيمي في العراق، أما على مستوى لبنان وسوريا فمن الممكن التقدّم بتنازلات لا تجعل الأمريكيين يتمسكون بكل شروطهم، فيكفي في كل الحالات أن يتمسكوا بتسعة أعشارها ويتنازلوا عن العشر للإبراهيمي ولمجلس الأمن وللدول العربية المعنية حتى تتحقق الصفقة الرابحة، وتلكم الحكمة في هذه المرحلة التي تواجه فيها إدارة بوش المأزق الخانق.
وإذا كان هناك من سيقول إن بوش سيعود سيرته الأولى بمجرد خروجه من المأزق وإعادة انتخابه، فإن الحكمة تقتضي أن نكسب هذه اللحظة الآن ويبنى عليها بعد ذلك، وبهذا يكون منطق أولئك (الحكماء) هبط بهم إلى الدرك الأسفل عندما يلخصون (الحكمة) السياسية بإنجاز وهمي وخاسر ومؤقت، خوفاً من النتائج غير المحسوبة لهزيمة الاحتلالين، أو لفشل سياسات بوش (الشرق أوسطية).
من هنا فإن التقدير الصحيح للموقف والذي يقول إن الظرف الراهن فلسطينياً وعراقياً وعربياً وإقليمياً، ورأياً عاماً عالمياً، وفي مقابله الظرف الخانق الذي يواجهه بوش، فشل عسكري وسياسي في العراق وفلسطين، وفضائح يندى لها الجبين، وعدم قدرة على تفاهم حقيقي مع حلفاء يريدون إنقاذه من نفسه، ويخافون عليه من هزيمته، إلى جانب أزمة داخلية حيث اهتزت شعبيته، وارتفعت أسهم منافسه، ثم مأزق حليفه شارون الذي إذا واصل ارتكاب جرائم الحرب عمّق مأزقه، وخرّب على بوش أكثر، وإذا تراجع كانت هزيمة مجلجلة، ولهذا فإن الحكمة الحقيقية تقتضي عكس تلك (الحكمة) المزيّفة ألا ينقذ بوش وشارون من الهزيمة، وعدم الخوف من النتائج من خلال التهويل بفزاعة الفوضى والإرهاب.
المصدر : http://www.fm-m.com/2004/jun2004/sto r y16.htm
ـــــــــــــــ(1/1764)
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا، نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به، ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء، ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم.
قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بما كان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!
* فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودة الاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي)؟
* من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحد العالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذا الاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
? ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداً جديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم ؟
* ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتية فلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟(1/1765)
* ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القومية، والزعامات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه، والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟
* ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادة العالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهود الاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرة متسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!
* إن في ذلك لآية:
أطلْتُ ـ نوعاً ما ـ فيما سبق ـ في التعريج على الذكريات أو التذكيرات ؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـ ويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم ـ بعد الإسلام ـ إلا الحصار والإفقار والمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة.
كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة على الإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري، من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.
لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميون ـ بخلاف العراقيين ـ كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية.
لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟! من هي تلك الكتلة الشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟! من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟!(1/1766)
إن المقاومين في العراق ـ ومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجدوا نصيراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة في الأمة، ومع هذا.. نرى الأعداء المتجبرين يتورطون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!
إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعود الله الذي قال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]، نعم! إن الفئة القليلة التي لا يزيد عددها عن بضعة عشرات من الآلاف في مواجهة مئة وستين ألفاً من الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيش أو الشرطة التي ركبها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصلحته، كل هؤلاء في مواجهة نُزَّاغ مفرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيش عسكري ولا مصدر اقتصادي... واللهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [النحل: 13].
ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيها خيرية أمة محمد صلى الله عليه وسلم رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قد جعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما:
الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره»(1).
ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحار الكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء، ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم، والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكن بالأمر السهل أو اليسير التكاليف، فلنكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القوم) دون وهن، رغم الألم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.
* أمريكا: نصر رخيص... وهزيمة باهظة:(1/1767)
بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداً في فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصار الشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب، وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجرد هراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك» المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)، وقد كان «كلارك» قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا. ويدل أيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبل أحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكي الأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارة الأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلى أن قرار ضرب أفغانستان قد اتخذ قبل هذه الضربات، بل حدث فعلياً أن استهدفت بصواريخ كروز في نهايات عهد «بيل كلينتون».
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لم تكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلى جانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أو بأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمين مستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لها بالحرق عندما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعد لتحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع!
أما الهدف الأبعد من وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجة من الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروع بوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكون ساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلك المشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعية والجزئية.
ومشروع بهذه الضخامة والجسامة، كان يستحق أن تحشد الولايات المتحدة لأجله الحشود، وترصد الميزانيات، وتستنفر الحلفاء، حتى تكشف أنها أنفقت للاستعداد للغزو قبل أن يبدأ أربعمائة وخمسين مليار دولار.
وكتم العالم أنفاسه بانتظار أن ينتحر مغول العصر على أبواب بغداد ـ كما توعد صدام ـ ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وتسببت عمليات (الصدمة والترويع) التي بدأت بها الحرب في إصابة العالم الإسلامي كله ـ لا العراق فحسب ـ بالصدمة والترويع، وجعلت الأنظمة والحكومات ـ بل الشعوب ـ تتحسس الأرض من تحتها، وتتحسب للدور الآتي عليها، بعد أن أنجز الأمريكيون نصراً(1/1768)
خاطفاً في حرب سريعة ضد ما كان يشكِّل أقوى قوة عربية في المنطقة، استطاعت أن تذل كبرياء زعماء الثورة «الإسلامية» الإيرانية التي كانت تستعد للوثوب على دول الجوار!
وانفتحت شهية الأمريكيين، وانطلقوا مسارعين إلى تأمين الفريسة وإعدادها كوجبة شهية تتبعها وجبات، وإنجازٍ سهلٍ يقود إلى إنجازات، وتتابعت الخطوات:
* فور احتلال بغداد أصدر الأمريكيون المحتلون قرارات بتفكيك كل أجهزة الدولة العراقية البعثية، من جيش وشرطة ووزارات واستخبارات.
* شرعوا في تكوين أجهزة بديلة عميلة عبر مراحل متعددة، كان أولها الإعلان عن إنشاء مجلس الحكم الانتقالي برئاسة اليهودي الأمريكي (جاي جارنر)، ثم خلفه الاستخباراتي العريق (بول بريمر) الذي عمل على اجتذاب كل العناصر المأجورة ليشكل بها وضعاً جديداً.
* أُعلن عن تشكيل مجلس للوزراء دون وزارات، بحيث يُختار الأشخاص أولاً، لينشئ كل وزير وزارته بالتعاون مع مستشار أمريكي، هو الوزير الحقيقي الذي يؤسس سياسات الاحتلال في «وزارة التحرير»!
* نظراً لأهمية تأمين هذا المشروع التآمري الوليد، كان لا بد من إنشاء جهاز شرطة عميل، يسهر على أمن الأمريكيين مضحياً بمستقبل العراق وأهله.
* تزامن مع ذلك سعي آخر لإنشاء جيش جديد، قوامه مئتا ألف جندي، لا لحماية الثغور والدفاع عن الحدود من الخارج؛ بل لتنفيذ العمليات المشتركة مع الأمريكيين ضد المقاومة في الداخل.
* ولإضفاء الشرعية على هذه التمثيلية، أعلن الاحتلال تشكيل لجنة «قانونية» لصياغة دستور عراقي جديد، وضع أسسه وفق التصور الأمريكي، اليهودي العراقي (نوح فيلدمان) ذو الجنسية الإسرائيلية الأمريكية المشتركة ليضمن هذا الدستور ألا يكون العراق إسلامياً.. لا ولا عربياً، بل عراق عراك طائفي، ونزاع مذهبي يضمن بقاء بنائه هشّاً ومفتقراً للاحتلال، ومهيّأ لأعاصير «الفوضى الخلاَّقة» التي تريد أمريكا اللعب عليها.
* ثم عُين الرافضي العلماني الجاسوس، الجامع بين تلك الظلمات الثلاث «إياد علاوي»؛ ليكون أول رئيس لمجلس وزراء معيَّن من قِبَل الاحتلال، ثم عُين (غازي الياور)؛ ليكون أول رئيس للعراق «المستقل» في ظل الاحتلال!
* مع الوقت شرع الاحتلال في تجسيد التقسيم الطائفي، فأعلن عن تنظيم انتخابات على أسس طائفية، اضطر معها السُّنة أن يقاطعوا الانتخابات، لتكون النتيجة تشكيل وزارة جديدة، غالبيتها من الشيعة المشايعين للأمريكيين والرافضين لأي تعاون إلا معهم أو مع إيران.
وفي ظل هذه القفزات المتسارعة لتثبيت الاحتلال بدعوى الاستقلال، وجد العراقيون الشرفاء أن العدو ليس واحداً، بل هم مجموع من متحالف من الألداء، ومع أن مقاومة هذا الأخطبوط بدأت(1/1769)
مبكرةً في أسرع إفاقة بعد أكبر مصيبة، إلا أن المجاهدين المقاومين بدت أمامهم تحديات وعقبات كان لا بد من مواجهتها جميعاً؛ لأن إهمال شيء منها سيعني إخفاق المشروع المقاوم برمّته.
لقد وجدوا أنفسهم أمام واجب مركَّب، يحوي داخله العديد من الواجبات التي لن ينتدب أحد لحلِّها، ما لم يقفوا هم بأنفسهم لأجلها، متوكلين محتسبين، فأمامهم قوى الاحتلال الذي قال قادته: إنهم جاؤوا ليبقوا، وضمن ذلك تحديات كبيرة:
منها: الإصرار على محاولات إضفاء الشرعية على هذا الاحتلال من خلال حكومات عميلة تتكلم باسم العراقيين، وتتصرف لمصالح أجنبية أو شخصية أو طائفية.
ومنها: جهود إسباغ الشرعية عربياً وإسلامياً على حكومة الاحتلال عبر إقامة العلاقات وإنشاء السفارات.
ومنها: شبح التقسيم الذي وضعت بذوره في ثنايا الدستور الذي أصرت أمريكا وعملاؤها على تمريره.
ومنها: إشكالية التنسيق بين الخطط العسكرية والمشاريع السياسية، والتصدي لمحاولة الاحتلال وعزل كل منهما عن الآخر.
ومنها: إيجاد مواطئ أقدام ونقاط ارتكاز تنطلق منها المقاومة وتفيء إليها، مع ما يحتاجه ذلك من جهود مطلوبة لإدارة هذه النقاط أو المناطق التي يمكن السيطرة عليها.
وقد جابهت المقاومة هذه التحديات بتحركات، تطورت عبر مراحل، سلمت كل منها إلى الأخرى، فبدأت بُعيد الغزو بمناوشة المحتلين؛ لتكوين الخبرات وتنشئة العناصر القادرة على المواجهة، ثم بدأت بتنظيم هجومات تكتيكية ضمن حالة الدفع العام للصائل المعتدي، ورتبت بعدها للانتقال إلى خطة الهجوم الإستراتيجي الذي يحوّل الخصم إلى موقع الدفاع، ثم جرى العمل وفق سياسة استنزاف العدو وإفقاده القدرة على الدفاع، لينتقل المجاهدون بعد ذلك إلى تكثيف المطاردة والإنهاك؛ لحرمان المعتدي مستقبلاً من الظهور بمظهر المنتصر، أو حتى المنسحب انسحاباً آمناً، أما المتعاونون مع الأعداء فقد اعتمد المجاهدون سياسة إفقادهم التوازن، ببثِّ الخوف في أوساط كل من يتعاون مع الأمريكيين في الداخل، مع إرباك مخططات إسباغ الشرعية من الخارج، وفوق كل هذا نجح المجاهدون في نقل جزء من المعركة إلى الداخل الأمريكي، عن طريق اتِّباع سياسة إعلامية تركز على إعادة تصدير إستراتيجية «الصدمة والترويع» ـ التي عانى منها الشعب العراقي في أول الحرب ـ إلى الشعب الأمريكي نفسه، وذلك بإصدار البيانات وبثّ الأفلام الحية عن العمليات الناجحة، وهو ما أوجد انقساماً في الرأي العام الأمريكي تجاه جدوى الحرب، سرعان ما تحول إلى شقاق حول مشروعية تلك الحرب ومسوّغاتها.(1/1770)
ومع هذا النجاح في تشكيك الأمريكيين في قدراتهم وقوتهم، ظهرت أيضاً بوادر تفكيك التحالف الدولي المتعاون مع الأمريكيين، بإجبار العديد من الدول على سحب قواتها أو الشروع في ذلك، فحتى الآن؛ انسحبت أكثر من 15 دولة من التحالف، وأعلنت كلٌّ من إيطاليا وبولندا وهندوراس وغيرها عن نيتها على الانسحاب، وهو ما تسبب في ردع دول أخرى كانت ترتب لإرسال قوات مساعدة.
ليس معنى ما ذكرناه عن إنجازات المقاومة أن يُظن أن أهل السنة في العراق يملكون قدرات خارقة، أو إمكانات خرافية، بل على العكس، فسقوط النظام البعثي جعل الطائفة السنية في العراق هي الأكثر تضرراً، بفعل الأحقاد الطائفية الرافضية من جهة، والعنصرية العلمانية الكردية من جهة أخرى، والاستغلال الأمريكي لهذين الطرفين الكارهين من جهة ثالثة، إضافة إلى أن حلّ مؤسسات الدولة كان في غير مصلحة السنة الذين كانوا يمثلون ـ كطائفة ـ غالبية الحكومة العراقية، وهذه الأسباب مجتمعة دفعت المقاومة إلى العمل السري، فكان هذا عاملاً إضافياً في صعوبة مهمتهم، والمقصود هنا أن هذه المقاومة عملت في ظروف استثنائية غير طبيعية، ومع هذا أحرزت ـ بفضل الله ـ نجاحات قياسية في حجمها وفي وقتها وفي أثرها القريب والبعيد، فحقاً إن في ذلك لآية.
* إن المقاومة ـ مع هذا ـ ليست كياناً واحداً، ولا حتى فصائل متحدة ذات سياسات واحدة واجتهادات واحدة في كل الأحوال، فهي وإن كان قوامها أهل الدين والالتزام من العراقيين الذين أحيا الله فيهم روحاً جديدة بعد الغزو، إلا أن فيهم فئات من الجيش العراقي المنحل وكذا رجال من الاستخبارات السابقة وأبناء العشائر، وبعض الحزبيين البعثيين، مع بعض العناصر القومية والوطنية المستقلة، إضافة إلى شريحة ليست بالهينة من العرب القادمين من خارج العراق؛ فكيف تناسق أداء هذا الفريق المتنوع ليوصل إلى هذه النتائج المبهرة في أقل من ثلاث سنوات، بل كيف انبعث بعد كابوس البعث عشرات الآلاف من الأحرار المجاهدين، بعد أن كنا لا نسمع خلال سني صدام عن صوت معارض أو رمز مجاهد.
لقد تكاثَرَ الحديث في الآونة الأخيرة عن حتمية الانسحاب الأمريكي من العراق، وعندما يذكر «الانسحاب» فلا بد أن يُعلم أن هذا هو مجرد تلطيف في العبارة لحقيقة الاعتراف بالهزيمة، سواء كان هذا الانسحاب آجلاً أو عاجلاً؛ لأن خطة الغزو أصلاً كانت موضوعة لبقاء دائم في العراق، وهو ما كشفت عنه صحيفة الجمهورية التركية في أوائل عام (2004م)، حيث ذكرت أن الولايات المتحدة بنت سبع قواعد عسكرية دائمة في العراق لوجود دائم.
* أبعاد الهزيمة: شواهد ومشاهد:
هناك عدد من الملامح المتفرقة، تصنع بمجموعها الصورة الكاملة لما وصل إليه الوضع في العراق، على المستوى القريب والمتوسط، ومن أبرزها:(1/1771)
* المستوى الذي وصل إليه حجم الخسائر البشرية الأمريكية في الحرب، وهو الأمر الذي يجيء في مقدمة الأسباب التي تذهب بصبر الأمريكيين [1] حكومة وشعباً على الاستمرار الطويل في تلك الحرب، فالإعلام الأمريكي ـ رغم عدم دقّته وحياده في نقل الأنباء المتعلقة بالحرب في العراق ـ يبث على الشعب الأمريكي كل يوم أنباء القتلى والجرحى والمخطوفين والمفقودين والهاربين وصرعى الأمراض البيئية والنفسية والعقلية على ساحة الصراع في العراق، وقد وصل حجم الخسائر البشرية المعلن عنها نحو (2500) من الجنود الأمريكيين، وأصيب نحو عشرة آلاف جندي، هذا مع تأكيد الملاحظة بأن الإعلام الرسمي الأمريكي لا يذكر من الضحايا إلا من يحملون الجنسية الأمريكية، دون ذكر الراغبين في الحصول عليها من المرتزقة والمتطوعين.
* الاقتصاد الأمريكي المنهك بعد أحداث سبتمبر، زادته حرب العراق إنهاكاً، بحيث لم يعد يحتمل إطالة أمد هذه الحرب، فالمقاومة كلّفت المحتل تكاليف باهظة بلغت حتى شهر سبتمبر 2005م (700) مليار دولار في أقل من ثلاث سنوات فقط، في حين أن حرب فيتنام بكاملها التي استمرت 18 سنة كلفت الاقتصاد الأمريكي (600) مليار دولار، وهذه التكاليف أثّرت سلباً على انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي سيصبح العجز فيه مضاعفاً على امتداد السنوات العشر القادمة، بحسب توقعات مكتب الميزانية في الكونجرس في أغسطس (2005م)، وقد بلغ عجز الميزانية (442) مليار دولار، وهو مستوى قياسي ستضطر الحكومة معه إلى إلغاء الكثير من برامج التنمية المجتمعية والاقتصادية والإسكان.
* أما الخسارة (الحضارية) فلا يمكن أن تُقّدر بثمن، حيث تستنفد أمريكا رصيدها من شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كلما طارت الأنباء بفظائع الممارسات الأمريكية في احتلالها العراق، فإضافة إلى ما سرّبته صحيفة «لانسيت الطبية» البريطانية منذ عدة شهور عن وصول عدد القتلى من المدنيين العراقيين أثناء الغزو إلى (120) ألف قتيل بخلاف العسكريين، وإضافة إلى ما سمعه العالم ورآه عن فظائع سجن «أبو غريب» والسجون العراقية التابعة للاحتلال، وكذلك ما سبق الاحتلال من موت ما لا يقل عن مليون و نصف من أطفال العراق بسبب الحصار الاقتصادي، فإن الفضائح لا تزال تتوالى عن «الانتصار» الأمريكي لحقوق الإنسان في العراق، حيث تواترت الأنباء عن أن الولايات المتحدة استعملت بعد الغزو القنابل العنقودية، والأسلحة المزودة باليورانيوم والفسفور الأبيض، والقنابل الثقيلة التي تُعدّ قنابل نووية صغيرة، والأسلحة الكيماوية، وهو ما يعني باختصار أن الولايات المتحدة استعملت في العراق (من أجل تحريره من صدام حسين) أسلحة الدمار الشامل، وهو أصبح يمثل كارثة على ذلك الشعب، بحيث أصبحت حالات الإصابة بالسرطان تتفشى بشكل مخيف، وصل إلى (40) ألف حالة إصابة بسرطان الدم أو الجلد، وأكثرها بين الأطفال.(1/1772)
* وقد أوقعت هذه الفظائع الإعلام الأمريكي في ربكة، جعلته في حيرة بين الإصرار على ما اشتهر عنه من الشفافية والحيادية؛ لتأكيد قيم الحرية وحقوق الإنسان، وبين أن يكذب ويتحرى الكذب ـ على مذهب رامسفيلد ـ فتكون النتيجة هزيمة إعلامية أمريكية تضاف إلى الهزيمة العسكرية والاقتصادية والحضارية!
لكن المأزق يبدو أنه أصعب مما نتصور، إلى درجة أن جورج بوش فكَّر جدياً ـ كما كشف مؤخراً ـ في محاولة قصف مقرّ قناة الجزيرة في قطر، كعمل يائس مجنون، يحكي عمق الأزمة الإعلامية الأمريكية، وجاء لجوء وزارة الدفاع إلى إعادة تشغيل جهاز «التضليل الإعلامي» في البنتاجون بتكلفة (300) مليون دولار، تأكيداً جديداً على أن الإعلام الأمريكي أصبح غير قادر على حجب الحقيقة التي تحكي أبعاد الهزيمة.
* مع اهتزاز الأوضاع بسبب الحرب في العراق، عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً؛ فقد كان لزاماً أن ينعكس ذلك على الداخل الأمريكي من الناحية الأمنية، فالإدارة الإمريكية التي استنفرت نحو مليون جندي أمريكي؛ لإدارة ما تسميه أمريكا «الحرب العالمية على الإرهاب» في العراق وأفغانستان والعديد من القواعد في بلدان العالم، أوجدت ضغطاً أمنياً يمكن أن يتحول إلى ضعف في مواجهة أي طارئ حادّ، وهو ما صرح به مؤخراً وزير الأمن الأمريكي عندما قال: إن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمّل ضربات أخرى على شاكلة أحداث سبتمبر.
* كلما ازداد التورط الأمريكي في العراق، شعر حلفاء أمريكا بأنها ستغرقهم معها في المستنقع العراقي، وهذا يعمِّق هوة خلاف الأحلاف، ويؤدي إلى تسارع وتيرة تفكيك التحالف الدولي مع أمريكا، لا على مستوى العراق فحسب، بل على المستوى العالمي، في ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب»، حيث صارت عمليات الانتقام تطال حلفاء أمريكا داخل أراضيهم، لا على أرض العراق فحسب، كما حدث في لندن وإسبانيا وتركيا، وهو ما كان سبباً مباشراً في انسحاب جيوش دول عديدة من التحالف، واستعداد أخرى للانسحاب.
* بل إن تخالف التحالف بدأ يسري داخل أوروبا، بل داخل البلد الأوروبي الواحد، كما حدث في بريطانيا، عندما اتهم عمدة لندن رئيس الوزراء «توني بلير» بأنه هو السبب الحقيقي في تفجيرات لندن.
* ومما يزيد في أرق الجميع ـ أمريكا وحلفائها في العراق وخارجه ـ ما تبثّه التحليلات عن تضاعف قدرات المقاومة، وزيادة إمكاناتها كمّاً وكيفاً، وهو ما ينعكس زيادة في نوعية العمليات وتأثيرها؛ فالتقارير تؤكد أن المقاومة ستزداد قوتها بفعل عوامل كثيرة، على عكس ما يراهن عليه بعضهم من انحسارها وانكسارها، وقد ذكرت بعض الدراسات أن المقاومة ستصل أعدادها إلى الضعف، في الفترة الممتدة من شهر يناير (2006م)، إلى سبتمبر من العام نفسه، وهو الوقت الذي(1/1773)
ستتهيأ فيه القوات الأمريكية للانسحاب، وهذا ما جعل الباحث الاستراتيجي «إنتوني كوردسمان» يحدد السقف الزمني للوجود العسكري الأمريكي في العراق بعام ونصف، إن لم يكن أقل!
* هذه المخاوف المستقبلية لها ما يسوغها من الوقائع السابقة واللاحقة على أرض الصراع في العراق، فالقوات الأمريكية ومن يتحالف معها، تتعرض في العراق إلى ما يقارب (2100) عملية كل شهر، كما صرح دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي، أي: ما يعادل (70) عملية كل يوم، ينفّذها ما يقارب خمسين ألفاً من المقاومين، منهم نحو عشرين ألفاً من المتطوعين العرب، وهو ما جعل العراق في نظر الاستخبارات الأمريكية والدولية؛ أخطر من أفغانستان أيام طالبان، لاتِّساع حدوده، وتعدد الدول المجاورة له.
* التقارير تثبت في المقابل ضعف أو عجز الشرطة والجيش العراقيين المكلفين بمقاومة المقاومة عن أداء مهامهما، فبحسب صحيفة «النيويورك تايمز» الصادرة في 21 يوليو 2005م، فإن (50%) من قوى الأمن العراقي، لا تزال تحت التدريب، والنسبة الباقية لا تستطيع وحدها إنجاز أي مهمة دون مساندة أمريكية.
* يراقب الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون بتوجس بالغ، تأثّر قطاعات شعبية في بلدان عربية، بانتصارات المقاومة وإنجازاتها، وهو ما قد يزيد من حالات التوتر التي بدأت بالفعل تشكل هاجساً أمنياً خطيراً، وبخاصة في الدول المحيطة بـ «إسرائيل» التي كان تأمينها هدفاً رئيساً من أسباب غزو العراق، وهذا عامل محيّر للأمريكيين، لا يدرون ما الحل فيه: أيظلون في المنطقة ليدافعوا بالنيابة عن «أمن إسرائيل»؟ أم يغادرونها ويتركون اليهود يلاقون مصيرهم وحدهم؟
* كان طبيعياً أن يقود كل ما سبق إلى زيادة خصوم الحكومة الأمريكية في الداخل، وقد استغل الديمقراطيون بوجه خاص ورطات بوش في العراق، كي يضغطوا باتجاه المطالبة بانسحاب سريع، وهو ما يزيد من حالة الحرج التي يتعرض لها بوش وإدارته، حتى أصبح يخرج إلى الإعلام بكثرة مدافعاً أو محذراً أو مبرراً أو رافضاً أو مصدراً للقرارات والتصريحات التي يحاول أن يدفع بها الحملة عليه وعلى إدارته، وهناك الكثير ممن كانوا يؤيدون قرار الحرب سحبوا موافقتهم، منهم المرشح الديمقراطي للرئاسة في الانتخابات السابقة (جون كيري)، والرئيس السابق (بيل كلينتون)، وقد اتهم جورج بوش زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب في شهادة أمام الكونجرس بأنه يعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، فقال: «مستقبل جيشنا في خطر... إن جنودنا وعائلاتهم يحمّلون فوق طاقاتهم، وأصبح الناس يتحدثون أن الجيش الأمريكي هزم»!
* وقد تضافرت كل هذه العوامل في إيصال إنذار مبكر إلى «جورج بوش»، بأن هزيمة أمريكا قد تكون كارثية على يديه، وهو الذي كان يتفاخر مع أنصاره من الإنجيليين والمحافظين الجدد بإطلاق(1/1774)
مشروعات على امتداد العالم مكانياً، وعلى امتداد القرن زمانياً، انطلاقاً من الشرق الأوسط «الكبير»!
هبطت شعبية «بوش» بشكل كبير في الشهور الأخيرة، فنزلت إلى معدل (42%) بحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة (نيويورك تايمز) وشبكة ((C.B.S نيوز، ولم يكن هناك تفسير لهذا الهبوط الحاد، إلا الارتفاع الحاد في معدل خسائر أمريكا بشرياً واقتصادياً وإعلامياً.
كل هذه الأمور وغيرها من مظاهر ودلائل الهزيمة، جعلت المشروع الأمريكي برمّته في العراق في مهب الريح، وقد بدا هذا باعتراف «جورج بوش» الصريح مؤخراً في 17/12/2005م بأن: «قرار الحرب قد اتخذ بناء على معلومات استخباراتية خاطئة»! وهو اعتراف يعني بلفظ آخر، أن هناك خطأ ما تسبب في خسارة الحرب!
ويحاول الأمريكيون التغطية على بوادر الهزيمة، بالإعلان عن إجراء (حوارات) مع بعض رموز المقاومة. وفي محاولة لحفظ ماء الوجه؛ يركزون على ما يعدونه «نجاح» التجربة الديمقراطية العراق عبر الانتخابات، وهي تلك التجربة التي فاضت رائحتها من بلاغات الشكوى المتبادلة من التزوير والتزييف التي يحاول بها الفرقاء في العراق إثبات أن الشعب يقف معهم. وفي شكل آخر من أشكال التغطية على النتائج المخيبة لآمال الأمريكيين، جُرّت الجامعة العربية للتحرك ضمن ما سُمي بـ «مؤتمر الوفاق الوطني» الذي يحاول الأمريكيون من خلاله إسباغ شرعية عربية على العملاء العائدين إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، مع أن هؤلاء أنفسهم يستشعرون الخطر كلما علت الأصوات بضرورة الانسحاب، إلى درجة المطالبة ببقاء الاحتلال والتحذير من تعريض العراق للخطر إذا وقع هذا الانسحاب في وقت قريب.
والعجيب أن هذا نفسه ما يحس به الأمريكيون، حيث يصرحون بأن هذا الانسحاب لو تم مبكراً لكان هزيمة مشتركة للأمريكيين، ولحلفائهم العراقيين في وقت واحد.
وقد كرّر جورج بوش ذلك في الفترة الأخيرة، وقال ردّاً على من يطالبونه بالانسحاب السريع: «إن الانسحاب الفوري خطأ جسيم، وسيؤدي إلى انتصار الإرهاب، وهزيمة أمريكا»! والمعنى نفسه صرَّح به «جيفري وايت» المحلل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث قال: «لا نستطيع أن نسيطر سوى على الأرض التي نقف عليها، وإذا غادرنا العراق، فسوف تسقط في أيدي المسلحين»، وكذلك قال «رامسفيلد» في زيارته الأخيرة للعراق في 12/12/2005م: «الانسحاب السريع من العراق، هو أقصر الطرق إلى الهزيمة،»! ولكن الأعجب في استعمال لفظ «الهزيمة» على ألسنة «جورج بوش» و«رامسفيلد» وغيرهما من المسؤولين الأمريكيين أن التصريح بها وباحتمالات وقوعها؛ يجيء بعد أن كان «جورج بوش» قد أعلن من فوق بارجة أمريكية في 2/5/2003 ـ أي بعد انتهاء العمليات العسكرية بشهرين، انتصار أمريكا في حربها ضد العراق!(1/1775)
ولكن بعد مرور ما يزيد على عامين ـ وبالتحديد في أول شهر ديسمبر من عام 2005 ـ تصدر حكومة بوش ما أسمته: «إستراتيجية صنع النصر في العراق»!!، وقد جاء فيها ـ كما نشر على موقع الخارجية الأمريكية ـ: «إن الهزيمة في العراق، ستشجع الإرهابيين على توسعة رقعة نشاطهم، والنجاح في العراق سيوجه ضربة حاسمة إلى الإرهابيين تشلّ قواهم، إن مصير الشرق الأوسط الكبير، الذي سيكون له تأثير عميق ودائم على الأمن الأمريكي؛ هو الآن في كفة الميزان»!
* الانسحاب أو بالأصح: (الهزيمة) بدأت فعالياتها من الآن، فقد صرح موفق الربيعي مستشار الأمن الوطني العراقي، بأن ما يقرب من (25%)، أي نحو ثلاثين ألفاً من القوات الأمريكية بالعراق، ستنسحب في أوائل عام 2006م.
هناك حالة من الإحباط واليأس، لم يستطع الأمريكيون كتمها، حتى «دونالد رامسفيلد» الذي تعوَّد الناس على ظهوره متبختراً مازحاً أمام الشاشات في أعقاب حرب أفغانستان، وأثناء حرب العراق، لا يُرى الآن إلا متجهماً عابساً، وقد اعترف في تصريح له في شهر يونيو (2005م) بأن المقاومة في العراق عندها من الإمكانيات أن تستمر لاثني عشر عاماً في محاربة أمريكا، وقد كرر قائده الميداني ورئيس الأركان السابق في العراق «مايرز» الكلامَ نفسه، إلا أن أحد الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين ـ وهو «باري ماكفراي» ـ قد فاجأ الجميع بكلام أخطر من تصريحات «رامسفليد» وقائده «مايرز»، حيث قال ـ بحسب موقع الجزيرة على الإنترنت في 19/7/2005م ـ: «إن الأعمال المسلحة ستبلغ ذروتها في العراق خلال الشهور التسعة الأولى من عام (2006م)، وبعدها سيكون الانسحاب الأمريكي أمراً لا مفرّ منه»!
هناك من السيناريوهات ما هو أكثر خطورة عند الأمريكيين من كل ما سبق، وهو أن لا يستطيع الأمريكيون الانسحاب من العراق في الوقت الذي يريدون، وذلك عندما يثبت عجزهم عن تثبيت الأقدام الخشبية لـ «جيش الدفاع» العراقي المكون من الميلشيات الكردية العلمانية والشيعية الرافضية، وعندها قد تضطر أمريكا اضطراراً للبقاء القسري، متلقية الضربات الموجعة التي يختار المجاهدون زمانها ومكانها، وعندها لن يستطيع «جيش الأشباح» ـ كما وصفه الكاتب «باتريك كوك» ـ أن يدافع عن الأمريكيين، كما لا يستطيع الأمريكيون أن يدافعوا عنه؛ لأن قسماً كبيراً من ضباط هذا الجيش ـ كما يقول الكاتب ـ يتسلمون رواتب جنود وهمييين، جالسين في البيوت، أو غير موجودين أصلاً، فإحدى الوحدات التي يفترض أن يكون فيها عشرون ألف رجل، لا يعدو العدد الحقيقي فيها (300) رجل فقط، والولايات المتحدة التي تتحدث عما يقرب من (150) ألف عراقي في قوات الأمن، لا يزيد عددهم في الحقيقة عن (40) ألفاً فقط!
* ماذا تعني هزيمة أمريكا؟
سيكون لهذه الهزيمة عندما تحدث ـ وهي لا بد أن تحدث بإذن الله ـ ستعني أموراً كثيرة وكبيرة:(1/1776)
* ستعني أن المشاريع ذات الطبيعة الكونية العالمية، مثل: «مشروع الإمبراطورية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين» للإنجيليين الأمريكيين النصارى، ومشروع «القرن الأمريكي الجديد» للمحافظين اليهود الجدد في أمريكا، قد توقفا أو تعرقلا إلى أجل غير مسمّى، وربما أُلغيا بالمرة، بعد أن أنسى المجاهدون في العراق عصابة «الأبواش» وساوس الشيطان.
* ستعني أن أحلام اليهود ـ من المحافظين الجدد أنفسهم ـ في تسلّم دفة الحكم في أمريكا، في مهب الأعاصير؛ نظراً للإحباط الذريع في العراق أولى محطات التآمر العالمي ليهود أمريكا في القرن الجديد.
* ستعني أيضاً، أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» سوف يرفع إلى رفٍّ صغير في البنتاجون أو البيت الأسود؛ لأن منصة إطلاق هذا المشروع في العراق قد احترقت.
* ستعني أن دولة اليهود التي لا يغيب ظلّها عن كل تلك المؤامرات الدولية ستصبح عما قريب في مواجهة حقيقية مع خطر حقيقي، يختلف مع المخاطر الوهمية الماضية، مثل: الناصرية، والقومية، والبعث العراقي، والبعث السوري، والثورة الإيرانية.
* ستعني أن حاجز الرعب الغربي قد انهدم، وسيف الإرهاب الأمريكي قد انخرم، وبكسر هذين الحاجزين سيكون ما دونهما أهون منهما بإذن الله.
* ستعني أن خيرية الأمة الإسلامية ستتجلى من الآن فصاعداً، في شعوبها، لا في دولها وأنظمتها، فالشعب في العراق هو الذي يدافع عن العراق وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في فلسطين هو الذي يدافع عن فلسطين وعن كرامة الأمة كلها، والشعب في أفغانستان هو الذي يدافع عن أفغانستان وعن كرامة الأمة كلها، وكذا يقال، وسيقال عن بقية الأمة بشعوبها في أكثر أوطانها.
* ستعني أن عصر القطبية الواحدة آيل للأفول، وسوف تبرز أقطاب أخرى قريباً ـ بإذن الله ـ سيكون منها: القطب الإسلامي العالمي، مُسقِط القطبين قبله، وما ذلك على الله بعزيز؛ فسنن الله الكونية ماضية إلى غاياتها الحكيمة، وفق محكمات السنن الشرعية الدينية؛ لأن امتثال أحكام الله الشرعية، هو الطريق الوحيد لتحقيق أحكام الله القدرية، حتى لو ظنها الناس معجزات أو خوارق لا يمكن أن تتحقق {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
تحدثت عن الآيات... وتبقى بقية عن التحديات:
فإلى عدد قادم بإذن الله.
تحديات ما بعد أمريكا
* يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين :(1/1777)
أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق ؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق.
والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة)، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة ) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خذلان العراقيين والسير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.(1/1778)
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.
* لكن الفرصة سانحة:
نعم!... فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.
هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:
• البقاء في العراق حتى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية وتأكيد هيبتها السياسية.
• الانتهاء من هزيمة من تسميهم أمريكا بـ (المتمردين) كجزء رئيس من الحرب العالمية على (الإرهاب)
• تثبيت حكومة موالية للأمريكان، يمكن من خلالها مواصلة تحقيق الأهداف الأمريكية، والادعاء بتحقيق الديمقراطية والحرية للشعب العراقي.
وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية:
الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها.
والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتهم لرد الصاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم.
والوهم الثالث: هو افتراض سهولة القضاء على المقاومة عسكرياً، أو تدجينها والتغرير بها سياسياً.(1/1779)
والوهم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقراطية في البنية الطائفية والعنصرية العراقية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أوضارها إلا أخوّة الدين.
وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثير من المحاذير؛ لأن أمريكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.
ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
* قد تلجأ الولايات المتحدة إلى سيناريو اليابان بدلاً من سيناريو فيتنام؛ ففي مواجهة الهزيمة في فيتنام اكتفت أمريكا بالانسحاب الذليل دون ضجة أو انتقام، بينما أفرطت في الانتقام في حالة اليابان حتى استعملت القنابل النووية، كي تستعيد هيبتها وتفرض احترامها على من تجرؤوا بالهجوم عليها في سيناريو (هاربر). وفي حالة الهزيمة في العراق؛ لن تلجأ الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخيارات المجنونة ـ في اعتقادي ـ إلا في حالة واحدة، وهي الحالة التي يمكن أن يُُعلن فيها عن إقامة دولة إسلامية سنية سلفية جهادية بعد الانسحاب، تصلح لأن تكون قاعدة امتداد إسلامي عالمي جديد، فعندها سيكون هذا بمثابة إعلان حرب على أمريكا والغرب، ولن تكون المعالجة هنا تقليدية عقلانية، بل ستكون شمشونية جنونية.
* اعتماد مبدأ (الفوضى الخلاَّقة) قد يكون خيار الأمريكيين في آخر الحرب كما كان خيارهم في أولها؛ فالولايات المتحدة التي تعمدت فك كل الأربطة في جسم الدولة العراقية بُعَيْد الغزو، لتغرقها في فوضى يمكن النفاذ فيها إلى كل الأهداف الأمريكية؛سوف تلجأ إلى هذا الخيار إذا رأت فيه تحقيقاً لشيء من مصالحها، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية والإصلاح والتعمير.(1/1780)
وخيار (الفوضى الخلاَّقة) يمكن تنفيذه بتسعير أتون الحرب الأهلية، لا بين الشيعة والسُّنة فحسب بل بين العرب والأكراد، وبين العلمانيين والإسلاميين، بل بين الإسلاميين الذي يُدعون (معتدلين) وإخوانهم الموصوفين بـ (المتشددين)، والحرب الأهلية يمكن أن تندلع إذا تركت أمريكا أرض العراق وهي واقعة تحت سيطرة الشيعة والأكراد وحدهم دون السنة العرب، أو تحت سيطرة العلمانيين دون بقية طوائف المتدينين، أو إذا تركت العراق بدون حكومة أصلاً.
* سيناريو إشعال الحرب الأهلية، قد يدفع باتجاه المخطط القديم بغرض التقسيم، حيث سيطالب الشيعة بجنوب العراق ـ وفقاً لترتيبات ما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) وسينفصل الأكراد (رسمياً) بالشمال، بعد أن استقلوا به عملياً منذ فرض الحظر الجوي على شمال العراق بعد حرب الكويت؛ وهنا قد يضطر أهل السنة إلى وضع أيديهم على ما يبقى من الكعكة العراقية في الوسط، أو ما يبقى من ذلك الوسط، بعد أن يكون الشيعة قد فصلوه وفصَّلوا أجزاء منه لصالح الجنوب الشيعي.
* الأمريكيون سيلجؤون حتماً إلى إعمال مبدأ (فرق تسد) بين الفصائل الجهادية السنية العراقية وبين العناصر المشتغلة بالسياسة من سنة العراق. أما تفريقها بين فصائل المجاهدين أنفسهم، فقد بدأته أمريكا بفتح قنوات اتصال مع المقربين من بعض الفصائل الجهادية، مع الترويج إعلامياً للتفريق بين ما يسمى (المقاومة الشريفة) و (المقاومة غير الشريفة)! والتفريق بين (الراديكاليين) و (الواقعيين) من السياسيين، وبينـ (المعتدلين) و (المتشددين) من الإسلاميين، وغير ذلك من التقسيمات الخبيثة التي بدأت أمريكا في استغلالها أسوأ استغلال.
* ستغير الولايات المتحدة في ولاءاتها بحسب مصالحها؛ فهي وإن كانت قد استهلكت الورقة الدينية الشيعية في معظم ما مضى من زمن الاحتلال، إلا أنها قد تُحل الشيعة العلمانيين محل الشيعة المتدينين، ليكون رهانها على تغيير البنية الثقافية للشعب العراقي أوقع وأقرب، والأخطر من ذلك، أن تضم إلى ذلك شرائح من السنة المتميعين أو العلمانيين فتجعل بعضهم رؤوساً في نظام الحكم تنطح بهم المقاومة التي قد تفاجأ ـ كما كان عهد الاستعمار دائماً ـ بخلفاء الاستعمار وحلفائه، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.
* ستضطر الولايات المتحدة إلى إنهاء حملتها العسكرية في يوم من الأيام القريبة المنظورة ـ بإذن الله ـ تحت وقع الضربات الجهادية، ولكن حرب الدمار والاستعمار، كانت تعقبها دائماً حرب الأفكار، وقد صار مصطلح «حرب الأفكار» مستقراً في إستراتيجية المواجهة الأمريكية للمد الإسلامي، وهو وإن كان لم يفعَّل إلى الآن بالصورة المخطط لها، إلا أن المتوقع أن يشهد العراق، وتشهد الكثير من دول العالم الإسلامي، هجمة ثقافية وإعلامية تحاول يائسة تشويه صورة المنتصر النبيل وتقديمه على أنه عدو للحضارة، وطارد للتقدم، وعاشق للتخلف. ولن يألو المنافقون جهداً في(1/1781)
تقديم وقود تلك الحرب، من خلال مراكز أبحاثهم ووسائل إعلامهم ومنابر أفكارهم المقروءة والمسموعة والمشاهدة، لتكون الحرب هذه المرة ليست موجهة فقط إلى المفردات الشاذة التي ذللوها على ألسنة الجهلة من العامة، كاالإرهاب والتطرف والأصولية، بل ستوجه إلى الإسلام نفسه تحت مسمى مواجهة السلفية والوهابية والعقيدة السنية.
* إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.
هناك معضلات معقدة، لا يصلح لها إلا أهلها من أصحاب التخصص في الفتاوى الفقهية أو التنظيرات العسكرية والإستراتيجية، ولكن هناك عمومات، تحكمها المبادئ المستقرة في الفهم الإسلامي قد تضيع ـ مع بداهتها ـ في زحمة التفصيلات والتفريعات وهي تحتاج فقط إلى حسن التقدير، مع حسن التقديم.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:
* يمكن تضييق خيارات أمريكا في الانتقام، بشد اللُّحمة، وتقريب الهوة بين فصائل المجاهدين من جهة، وبين عموم الشعب من جهة أخرى حتى لا تتمكن أمريكا وأولياؤها من عزل المقاومة وتصويرها بصورة الخروج عن الصف العراقي. والبداية في توحيد الصف العراقي ـ ولو في حدها الأدنى ـ لن تكون إلا من المجاهدين؛ فهم الأقدر على مجاهدة شياطين الفرقة وغربان البين، والشعب سيكون تبعاً لهم إذا اتحدت كلمتهم، وبقية الأمة ستكون مع خيارهم، وعندها سيظهر الانتقام الأمريكي ـ إذا حدث ـ على أنه انتقام من الشعب، يمكن أن يضاف إلى سجلات الإجرام بانتظار إجراء مماثل من المعاملة بالمثل.
* هناك متسع من الوقت لتفويت فرصة (الفوضى الخلاَّقة) التي قد تترجم إلى حرب أهلية؛ وذلك باجتماع الرؤوس الكبيرة من سنة العراق عرباً وأكراداً على إستراتيجية موحدة لما بعد الانسحاب ولو في خطوطها العريضة، استباقاً للتحرش الأمريكي الذي يراهن على إشعال المواقف وإذكاء الفتنة،(1/1782)
وكذلك فإن الاتفاق على آلية للتحاور والتفاهم من الآن، أمر لا بد منه ديناً وعقلاً؛ لأن الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، قد يغرق السفينة بركابها وربانها.
* خطر التقسيم لا يمكن دفعه إلا بمدافعة الواقفين وراءه؛ فلو علم كل ساعٍٍ في التقسيم أن ثمن سعيه سيكون وبالاً عليه لرجع وارتدع؛ فكم من مَرَدَة ردتهم المخاوف والحسابات الدقيقة للمستقبل، عن أحلام التفرد والتمرد. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة»، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!
*** حرب الأفكار الأمريكية، لا بد من الإعداد لمواجهتها من الآن بأفكار إسلامية، وهذا الواجب ألصق بخارج العراق منه بداخله؛ فالمستهدَفون بهذه الحرب ليسوا العراقيين المشغولين في المعركة فقط، لكن المستهدَف هو الأمة كلها، ولهذا يتكاثر من الآن نشاط المراكز البحثية المشبوهة، والقنوات الفضائية الفوضوية لخوض غمار تلك الحرب التي يتوقع أن تستعر أكثر بعد الانسحاب، لإلهاء الناس عن فضيحة الهزيمة التاريخية لأمريكا. من واجب الباحثين والإعلاميين الإسلاميين، أن يرصدوا فعاليات تلك الحرب ـ حرب الأفكار ـ ليتمكنوا من صدها قبل أن تؤتي ثمارها المرة؛ فهذا واجب إسلامي عام، لا يحتاج إلى ساحات تدريب أو ميادين رماية.
ثانياً: إيران واللعب بالنيران:
هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.(1/1783)
وإذا كنا لا نزال نذكر مواقفهم في الموالاة الصريحة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.
إذا كانت القوات الأمريكية وشريكتها البريطانية، وغيرهما من الشركاء والحلفاء يفكرون من اليوم في كيفية الهروب الآمن من العراق؛ فالقوات الإيرانية الأجنبية ـ تحت رايات وطنية ـ لا بد أنها تستعد من اليوم للحلول مكانها، والحؤول دون رجوعها، لتستفرد هي بالقصعة العراقية؛ وقد تمهد الأمر من الآن لإيران بعدما تمكن شيعة العراق الموالين لها من السيطرة على معظم كيان الجيش والشرطة. ولا نظن أن هذا الإنجاز الذي توافر للشيعة في كل من إيران والعراق، سيسهل التفريط فيه عند عموم الطائفة المتطلعة إلى استكمال الهلال (الخضيب) من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بإمارات الخليج والعراق وسورية، ولهذا فإن ذلك يمثل تحدياً عظيماً من تحديات ما بعد الهزيمة الأميركية، ليس لأهل السنة في العراق فحسب، بل لأهل السنة في العالم أجمع، هؤلاء الذين لم يجمعهم ـ إلى الآن ـ إلا التفرق والتنازع، دون ما مرجعية علمية موحدة، أو قيادة سياسية واحدة.
قد تسارع إيران في مساندة خيار التقسيم كخطوة أولى، لتضمن مشايعة الجنوب الشيعي لها، وانضواءه تحت لوائها، وجيش الغدر المسمى بـ (فيلق بدر) جاهز من الآن ليكون الجهاز العسكري لدولة المجلس الأعلى «للثورة الإسلامية» في العراق، بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة، جاهز لإدارة الجهاز السياسي فيها.
وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.
اختراق إيران للعراق، والذي سيكون ـ إن وقع ـ اختراقاً للخليج كله، وسوف ينعش ثورات التشيع في أكثر دول المنطقة؛ حيث سنسمع عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في أكثر من عاصمة عربية، بل وغير عربية، وهو ما سيؤسس ـ إذا سارت الأمور على حسب مخططات بروتوكولات حكماء قم إلى مدٍّ رافضي خطير، يطال العقيدة والدين، بعدما يهدد الأوطان والمقدرات؛ وهنا قد تقع الشعوب الإسلامية السنية بين فكي كماشة الفرس والروم!
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:
1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة(1/1784)
العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شىء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التوغل الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلمانيون والليبراليون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان على الشيعة العلمانيين، وبخاصة الليبراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.
ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:
* معركة العراقيين مع الأمريكيين مع شراستها وفظاعتها، ستبدو بعد انتهائها بسيطة في تركيبها المنطقي، سهلة في حسابات الخسائر والمكاسب؛ فهذا صائل معتدٍ، جاء للقتال من أجل مطامحه ومصالحه الخارجية، فلما تهددت بسبب ذلك مصالحه الخارجية والداخلية، انزوى ورجع القهقرى، والطرف الآخر أبناء وطن معتدىً عليه، انتدب شرفاؤه للدفاع عنه مع من فاؤوا إليهم من مهاجرين و أنصار، تسابقوا إلى الفداء بالأرواح والأموال والدماء.(1/1785)
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:
* سيرحل الأمريكيون دون أن تكون مشكلات العراق قد حُلَّت، والمرجح أن يستمر التوتر وربما القتال لإعادة رسم الخريطة الجديدة، والتحدي الذي سيواجه أهل السنة بعد الانسحاب، سيكون ـ على الأرجح ـ متعدد الأوجه، فمن ناحية سيكتشف أهل السنة أنهم الحلقة الأضعف على الساحة السياسية، بينما تكمن قوتهم في ميدان القدرة القتالية، وهي لا تكفي على كل حال لبناء مستقبل آمن للأجيال، ومن ناحية أخرى فإن أمور القتال نفسها تميل الطبيعة البشرية إلى النفور من طول التضحية فيها بلا أفق منظور، ومن ناحية ثالثة فإن طبيعة القتال بعد انسحاب الأمريكيين ستتغير، وسوف تفقد الكثير من شرعيتها في نظر الناس داخل العراق وخارجه، حتى ولو كانت ضد الوكلاء الرسميين للأمريكيين.
* هناك ندرة ملحوظة في المرجعيات العلمية الدينية عند أهل السنة في العراق في مقابل فائض كبير في المرجعيات الدينية الشيعية داخل العراق وخارجه، ومع تداعيات الأحداث بعد الانسحاب، وفي ظل تغير الأوراق سيحتاج العراقيون السنة إلى من يقودهم في الملمات، ويفتي لهم في المعضلات، ويتكلم باسمهم جميعاً كلاماً مفهوماً ومسؤولاً، وهذا تحدٍّ ماثلٌ للعيان من الآن، ويتفرع عنه تحد آخر، وهي احتمالات انتشار أفكار الغلو والابتداع، سواء من جهة التشدد الخارجي، أو التسيب الإرجائي أو لوثات التصوف أو التشيع، وكلها اتجاهات يمكن أن تنتعش وتنتشر في بيئة فكرية كبيئة العراق، التي لا تزال بكراً عذراء على الساحة السنية، بينما هي ثيب شمطاء على الساحة الشيعية، ولا شك أن الفوضى وعدم الاستقرار من الناحية السياسية، كثيراً ما ينعكس على النواحي الفكرية.
* هناك تضخم في الخبرة القتالية والعسكرية الميدانية على حساب الخبرات السياسية والاستراتيجية، والمشروع السياسي للمجاهدين لا يزال غير واضح المعالم، وإذا وضح عند بعضٍ فإن بعضاً آخر قد لا يوافق عليه، والخطورة هنا أن ينعكس هذا الضعف في الخبرة على التعاطي مع الأحداث، فتنطلق المبادرات، والاجتهادات الشخصية في النوازل الكبرى، دون الرجوع إلى أهل الشأن في مجالات الاجتهاد الشرعي والسياسي والاستراتيجي والإعلامي والاقتصادي.(1/1786)
* هزيمة أمريكا في العراق، لا تعني تراجعها عن أطماعها فيه أو في بقية بلدان العالم الإسلامي؛ فالخطط يمكن أن تتغير، بل قد تلجأ أمريكا إلى تعويض فشلها في العراق باقتحام ساحات أخرى، لاختلاس نجاحات رخيصة في أماكن ضعيفة، ولهذا لا ينبغي النظر إلى هزيمتها في العراق على أنها نهاية المطاف.
قد تنجح أمريكا في جلب قوات عربية وإسلامية، لتكون المعركة في العراق عربية عربية، وهذا سيناريو خطير، لا بد من التنبه له والاستعداد لإبطاله، وخاصة إذا أخذ شكل قوات لحفظ السلام أو إعادة النظام أو غير ذلك من الشعارات الخداعة التي يمكن أن تحقن بها أمريكا دماء جنودها، لتريق دماء المسلمين بعضهم ببعض.
* الساحة في العراق مهيأة لتفحش وتوحش ظاهرة العملاء الخونة، سراق الجهود وقطَّاف الثمرات وخدم الأعداء، وهؤلاء يقتضي الأمر إحكام أمر التعامل معهم فقهياً أولاً ثم عملياً، حتى لا تتكرر مصائبهم التي ألحقوها بالجهاد في فلسطين، عندما تحولوا إلى سرطان خبيث بيد الصهاينة.
* إذا كان المشروع السياسي أمراً مهماً في مواكبة المشروع الجهادي، فإن هناك مشاريع أخرى دعوية وتنموية واجتماعية وإعلامية، سيكون تفعيلها وتقويتها إسناداً مستقبلياً لأهل السنة في العراق واستمراراً لدورهم المركزي في إفشال مخططات الهيمنة والإفساد من الداخل والخارج، وهذا الأمر بحد ذاته ينشئ دوراً لكل راغب في الاستجابة لواجب النصرة، وكل مشتاق للشراكة في صنع النصر، من داخل العراق أو من خارجه؛ فمن غير المقبول أن يتداعى يهود العالم لمساندة إخوانهم المغتصبين في فلسطين، ويتخاذل أهل الإسلام عن نصرة من ينافحون عن عموم المسلمين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
ومما يخشى منه أيضاً، أن يقفز إلى عجلة توجيه السفينة قدامى القوميين أو البعثيين أو اليساريين، ليزايدوا على الإسلاميين.
* استمرار عمليات الجهاد ستكتنفها مصاعب جمة، إذا أُلجئ الأمريكيون إلى التحصن خارج المدن، في انسحاب شكلي لا حقيقي، ومع أن هذا في حد ذاته لا ينفي حقيقة الهزيمة الأمريكية، إلا أنه سيقلل من شأن الانتصار العراقي؛ حيث سيظل العراق يبدو في حكم الاحتلال مع إظهار مظاهر الاستقلال، وستزداد مهمة المجاهدين صعوبة إذا ما صدَّر لهم الأمريكيون عملاءهم ووكلاءهم المتسمين بأسماء المسلمين، وسيكون الأمر أصعب وأصعب، إذا كان الوكلاء والعملاء، من المنسوبين لأهل السنة من داخل العراق أو خارجه؛ حيث سيسهل على الأمريكيين أن يصوروا النصر العراقي بصورة الهزيمة التي أثمرت قتالاً بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد.
? قد يلجأ الأمريكيون إلى حيلة اللعب بورقة الإسلام المعتدل في مواجهة الإسلام المتشدد، وهي استراتجية يبدو أن الولايات المتحدة ماضية في تشجيعها في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وفي(1/1787)
حالة العراق، فإن هذا الاعتدال سيبدو أمام المجاهدين في صورة الانتقال من نهج إلى نهج، بل ربما من ملة إلى ملة، وهو ما قد يفتح أبواباً أخرى من الفتن.
المواجهة لا الهروب:
عوَّدنا المجاهدون من أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحجام، وعلى المجابهة لا الهروب من المواجهة، وأملنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قبل فوات الأوان؛ فالهروب منها أو تأجيلها لن يقلل من أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قاموا عن الأمة، بما أزاح عن مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.
وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:
* لا بد من السعي المكثف لبناء برنامج سياسي لأهل السنة، يراعي تعدد الاجتهادات والسيناريوهات واختلاف الخيارات؛ فالقتال لن يستمر إلى الأبد في العراق، واستغلال مدة ما قبل الانسحاب للوصول إلى صورة واضحة في ذلك، أوْلى من ضرب الأخماس في الأسداس عندما تخلو العراق من الأمريكيين، وتقع فريسة بين خلفائهم أو عملائهم الذين لا بد أنهم قد أعدوا عدتهم ورتبوا صفوفهم منذ زمن.
< لا مناص من الاجتماع على كلمة سواء بين فصائل أهل السنة، سواء المجاهدون منهم أو السياسيون، فكل منها درع للآخر وردء، ولن يتعوض الضعف السياسي الظاهر في أهل السنة إلا(1/1788)
بذلك، وكثير من مسائل الاختلاف بينهم ـ على ما نرى ـ هى مسائل اجتهادية، والاجتماع ـ ولو على أمر مرجوح ـ خير من الافتراق أو التنازع.
* وضع أسس شرعية محكمة، وقواعد قتالية معلنة، من شأنه أن يخفف من هاجس فقدان أو نقصان مشروعية القتال بعد الانسحاب، إذا دعت الضرورة إليه، فلا بد من التحديد الواضح للشرائح التي يمكن أن تكون هدفاً للجهاد من الخونة والمرتدين والجواسيس ونحوهم، مع بذل أقصى ما يمكن من الخدمة الإعلامية لهذه الأسس القتالية، بما يزيل الغموض ويدفع الظنون عن غايات الجهاد السامية.
* المرجعية العلمية ـ بفهم أهل السنة ـ قضية بنائية في غاية الأهمية لا تقل في أهميتها عن بناء القوى السياسية والعسكرية {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.
--------------------------------
[1] المحرر : للشيخ ـ حفظه الله ـ رسالة بعنوان ( أمريكا وإسرائيل وعقدة الدم ) ، يشرح فيها أهمية العنصر البشري عند اليهود وإخوانهم الأمريكان . بكلام لم يسبق إليه ـ فيما أعلم و أنا من المتابعين ـ وهو منشور في مكتبة صيد الفوائد قسم قضايا معاصرة . (محمد جلال)
ـــــــــــــــ
خاطرة ((أفراح الهزيمة))
ـ[أبو بكر بن عايد]ــــــــ[25-04-08, 10:25 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
فهذه اول مشاركة لي معكم في منتدى اللغة العربية
وهي خاطرة لوصف مبسط لحالنا:
منذ فجر ميلادي اسمع عن افراح الانتصار
ولكنني رايت مأتم الهزيمة
رأيت علي هامة أمتي تاج الانتصار
ولكننا أودعناه الطينَ
أبصرت مأتم الحزن
والناس تركوها(1/1789)
وجلسوا في افراح العديمة
أين جمعهم في مأتم الهزيمة؟!!
وأين عقولهم الحليمة؟!!
كل يوم هزيمة جديدة
فأين قلوبنا الرحيمة؟!
صباح النهار يقولون:
سنلقي قنبلة كهورشيمة!!!!
وأخر النهار
خبرٌ عاجلٌ:
قتلوا سعاد وايمان وفاطيمة!!!!!!!!!!!
وكذا دمروا بيتاً فيه ...
أب وأم وصارت الأطفال يتيمة!!!!!
وغدا مفاوضات ....
رفعوا شعارها
تديرها وجوهٌ وأقنعة لئيمة!!!!
أين تلك أفراح النتصار ؟؟!!!!
أو حتي مأتم الهزيمة؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
عجيبٌ أمرنا
نهزم كل لحظةٍ
ولسنا نقيم مأتم الهزيمة!!!!
أوحتي نسرع لنثأر من عدونا !!!
أو نقتل أعداءناونذيقهم الغريمة!!!!
تجرعنا الهزيمة كأسا بعد كأسٍ
حتي نسينا أمجادنا الكريمة!!!!
وتوالت الهزائم وتتبعها الهزيمة!!!!
أعرضنا عن أمتنا الجريحة!!!!!!!
أمتنا ....
في غرفة الانعاش......
ولكن اذا ماتت .....(1/1790)
من سيقيم سرادق العزاء ؟!!!
واذا أنقذت ........
من يشارك ....
في أفراح .....
الهزيمة؟!!!!
محبكم في الله:
أبو بكر بن عايد
ـــــــــــــــ
غبار الهزيمة
مها الجريس
ليس جديداً أن نقول:
إن أمة الإسلام تعرضت للعديد من النكبات والفتن التي عصفت بها وأذاقتها المر والهزيمة على فترات متقطعة من تاريخها المشرق الطويل..
ولن أتحدث عن أسباب ذلك ودواعيه؛ لأن ذلك يطول... غير أن الذي أعنيه هو ما يعقب تلك الهزائم والنكبات من أمور عظيمة ودروس كثيرة..، فبينما ينفض قوم غبار الهزيمة عن رؤوسهم يسارع آخرون إلى حثو المزيد منه على أنفسهم ومن حولهم!!
إننا وبلا شك لم نؤتَ إلا من قبل أنفسنا.. لكن المخجل أن نظل مستسلمين ننتظر من عدونا المزيد.. إن لم نكن نحفر له الخنادق ونرسم له خارطة الطريق!! كم أعجب ولا ينقضي عجبي من قوم ينعقون بما ينعق به الغرب من هجوم على ثوابت الدين ومبادئه. شأنهم في ذلك شأن من يمد طرف الحبل لمن يريد أن يشنقه به!! وشرّ الهزائم على الإطلاق هزائم النفوس.. وتلك التي لا يجبر صدعها..
لم يكن لأبرهة أن يعرف الطريق لولا أبي رغال..
ولم يكن للتتار أن يفعلوا ببغداد ما فعلوا لولا الوزير الرافضي ابن العلقمي... ويبقى أمر الله ـ قبل ذلك وبعده ـ قدرا مقدورا!
فليت شعري.. كم بيننا من ابن العلقمي؟! وكم فينا من أبي رغال؟!
فليس للغرب أن يفهموا ديننا أو يتلمسوا منا الثغرات لولا أبناء من بني جلدتنا تبرعوا بهذه المهمة ونصبوا أنفسهم لها.. بطريقة لا يشم منها رائحة الإخلاص ولا نزاهة النصح.. وشتان بين عتاب الأخ وشماتة العدو..
كل الذي أعرفه:
أن الغضبة على أبي رغال استمرت لأجيال عديدة، فكان الجاهليون يرجمون قبره كلما مروا به..(1/1791)
وأن العدو انقلب على ابن العلقمي فمات كمداً وضيقاً مما لقيه على أيدي التتار الذين ناصرهم.
فمتى يدرك أمثالهم منطق الأعداء وأنموذج هداياه وعطاياه على مر العصور؟!
http://www.lahaonline.com المصدر :
ـــــــــــــــ
حوار.. على ضفاف الهزيمة
الجوهرة بنت علي النغيمشي
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف53)
ألقت عليّ سؤالها
مستوضحة..
ما بال عينك بالدموع الحائرة..
تذكي الجراح الغائرة..
تسقي ربيع العمر فيضاً من هموم جائرة..
تهدي خلاصة عمرها أرض الصحاري المقفرة..
ما بال بسمة ثغرك الفتّان أضحت منكرة..
ما لي أراك وقد تسربلت ثياب الآخرة..
ورحلت عنّي مدبرة..
*****
ألقت علي سؤالها..
متعجّبة..
أهو الهوى يرمي شباك الأسر في بحر جديد!
أهي الأماني تزرع الأحلام في دنيا الوعود..
بل ربما شغل الفؤاد بفارس
كبقية الفتيات في سنّ الورود..
*****
ألقت علي سؤالها مستفسرة..
كانت تظنُّ بأنّ مثلي بالفضيلة تسخرُ..
كانت تظنُّ بأنّ مثلي في المدائح تفخرُ..
كانت ترى زيف الحياة..
لمن بسني يبهرُ..(1/1792)
بل قد تظنُ بأنّني مفتونة بلذائذ..
لا أصبرُ..
فأعبُّ من كأس المعاصي
نشوة لا تكفرُ..
لها عُذُرها..
فشباب أمتي الأباة
تخدّروا..
وعلى ضفاف شواطئ الأحلام..
غرقى.. بُعثروا..
فتناثروا..
*****
ألقت علي سؤالها مستفسرة..
أتراها قد نسيت بأنّي مسلمة؟!
وبأنّ قلبي بالعقيدة قد نما..
سُقياه آيات الكتاب المحكمة..
جهلت بأنّي قصة حبلى..
بآلاف القضايا المؤلِّمة..
*****
أم أنّها تتجاهل الآيات في القرآن..
والآفاق كم هي حالمة..
وتنام ملء جفونها مستسلمة..
وتلوك ذل الصمت في عصر
الجراح المزمنة..
أترى تبيت عَلَى المثالبِ مُدمنَة؟!
*****
ألقت على سؤالها مستفسرة !
يا قلب كيف لها تجيب؟!
أتجيب بالزفرات يُذكيها النّحيب..
وترتّل الآيات حزناً ساجياً..(1/1793)
ينسابُ في الأعماق..
يقطعُه الوجيب..
أتراك يا قلبي تبُثُّ خوالج الوجدان
ما تخشى الخطوب؟!
الصمت يطبق راحتيه..
بجفن أمّتنا..
ويلوي رأسها نحو الغروب..
والخوف يُهدي ليله الدّاجي الدروب..
والصبح يخفي حُسنه
الباكي الكئيب..
خلف اللهيب..
والشمس تقسم أن تظلَّ على شفاه البيد..
حرفاً لا يُجيب..
فهي الحقيقة لن تتوب..
ولن تُطامن للخُطُوب..
كم من بذور الغدر.. يزرعها الغريب..
*****
يا كوثراً ينساب في روحي..
فيرسم لوحة الأمل الجديد..
سيظل إيماني المُرسّخ..
يُسْمِعُ الفجر الوعود..
إنّ المصائب كُلَّما ثارت..
وضجّ القيدُ وانتفض الحديد..
إنّ المآسي كُلَّما عمّت..
وغمّ الصبح..
مهما الكون فجّر أمنه قهر عتيد..
مهما اشتكى للقبر سكّان اللحود..
سأُقيم عند ولادة الألم الجديد..
وأصيح.. إيماني تضمّخ في شغاف القلب..(1/1794)
يستجلي سنا الفجر الوليد..
سأكون رمزاً للصمود..
سأموت..
كي يحيا العبيد!
http://www.lahaonline.com المصدر :
ـــــــــــــــ
نحن أمة لا تعرف الهزيمة
عندما شنت الإدارة الأمريكية حربها الصليبية على الإسلام بعد هزيمة الدب الأحمر وزوال الشيوعية على يد المجاهدين الأفغان والعرب على أرض أفغانستان المسلمة، ظنت أمريكا أنها في طريقها نحو تحقيق نصر جديد سيجعلها الدولة القوية الوحيدة في العالم، وسيمكّنها من أن تدير شؤون الأمم بدون منازع أو رادع.
وهكذا بدأت تلك الإدارة المتصهينة حربها المباشرة على أفغانستان المسلمة، إلى أن حققت ما ادعته من نصر على دولة الطالبان الإسلامية والأنصار العرب، بإزالتها للدولة الإسلامية من كابول وتنصيب أحد عملاءها على رأس الدولة الأفغانية المرتدة الجديدة، التي أغدقت الوعود البراقة بتطبيق الديمقراطية، والعيش الرغيد.
لكن وبعد مرور أشهر قليلة، ظهرت الحقيقة والتي ما تزال الإدارة المحتلة تعمل على إخفاءها وهي فشلها في تحقيق أمنها على أرض هذا البلد الأبي.
إن حركة طالبان الإسلامية لم تهزم أبداً، فقد ثبت الآن للجميع بأن انسحابها من المدن كان أمراً تكتيكياً، إذ أنها احتفظت بكامل قوتها وسلامة عناصرها.
كما أن التحالف العسكري الصليبي والمرتد إلى الآن لم يستطع أن يقبض على واحد من أركان تنظيم القاعدة، ولا كبار حركة طالبان.
كما أننا لم نر سوى انتشار الفقر والرذيلة والسرقة والأمراض والانفلات الأمني وإعادة زراعة المخدرات في المناطق التي سيطر عليها التحالف الشيطاني هناك.
هذا فضلاً عن هزيمتها العسكرية المستمرة والناتجة عن تصاعد كبير في العمليات العسكرية التي يشنها المجاهدون ليل نهار على قوى التحالف والتي اضطرتها على الانسحاب من كثير من مواقعها في الولايات الجنوبية والشرقية والوسط على وجه الخصوص، لتقلل من حجم خسائرها البشرية والمادية.
ولم تتفهم الإدارة الأمريكية وتحلل نتائج غباءها عندما فكرت أن تغزو أفغانستان، بل تمادت في غرورها وقامت باحتلال العراق في وضح النهار وبحجج واهية أظهرت نهاية الأحداث كذبها ودجلها.(1/1795)
ومرة أخرى تقوم هذه القيادة المتصهينة باستعمال نفس الأساليب الهمجية المجرمة، من اعتقالات عشوائية للرجال والشيوخ والنساء وحتى الأطفال، وقامت بتدمير للبنى التحتية للعراق، وقتلت وخطفت المئات، ظناً منها أنها بذلك ستثني ذراع الشعب العراقي المسلم وتذله، لكنها غفلت بأن هذا الشعب لم ينس أن أرضه كانت لمئات السنين أرض الخلافة الإسلامية، ولها تاريخ مبارك من التضحية والفداء.
وما هي إلا أسابيع قليلة - بل قل من أول يومٍ للعدوان الصليبي على أرضهم - حتى بدأت المقاومة الجهادية الباسلة من الشعب العراقي المسلم، ضد الكفرة الصليبيين.
فبدأت الطائرات الأمريكية تتهاوى، والدبابات والمدرعات تحترق، وعشرات من جنودها تقتل وتجرح، حينها أحس الجيش المحتل أن الأمر جد خطير، وأنهم محتلون وليسوا محررين كما تزعم إدارتهم الكاذبة. كما ظهر ذلك للعيان أمام الرأي العام للعالم أجمع.
ولن يؤثر على المقاومة المسلمة وجود بعض المنافقين في صفوف الأمة، ولا مجلس الثورة الشيعي، ولا الملكي ولا غيرهم، ضد المقاومة المسلمة.
إن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدرك أن معركتها مع الإسلام، دين الله تعالى القويم لا شك أنها خاسرة، ولم ولن تهزم أمة آمنت بهذا الدين القويم وبهذه الشريعة الغراء وطبقتها.
فما على الإدارة الأمريكية إلا أن تراجع حساباتها وتراجع قراءة التاريخ حتى تعلم بأننا أمة لن نهزم أبداً.
ربما تخسر هذه الأمة معركة ما هنا أو هناك، ولكن الأمة لن تخسر في نهاية المطاف، ولهم (أي للصليبيين) في هزيمة أجدادهم الذين قادوا حروباً صليبية كهذه على الأمة الإسلامية، خير دليل على ما نقول.
فالأفضل لهذه الإدارة الإرهابية في واشنطن، أن تدرك أن حربها على الإسلام هي حرب خاسرة لا محالة، ولو طال الزمان أو قصر.
وعليها أن تجمع مرتزقتها وجيوشها وترحل عن أرض الإسلام بلا رجعة، قبل أن يفوتها الزمان وتندم حين لا ينفع الندم.
وعليها أن تنتظر زوال كيانها وقوتها العسكرية والاقتصادية، لأنها إرادة الله تعالى في الظالمين. ولن تنفعها نبوءاتها الخرافية التي تمنيهم بالنصر والسيطرة على العالم أجمع.
هذه حقيقة عليهم أن يدركوها بعد أن ظلموا. حيث يقول ربنا تبارك اسمه وتعالى جده وهو خير القائلين: {وَتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَّوعِدا} الكهف: 95
http://www.islam.org.au المصدر:
ـــــــــــــــ(1/1796)
نشوة الهزيمة
يوسف الحجيلان
"نشوة النصر".. مصطلح ذاع وشاع، وعبارة لطالما غنت بها شفاه، وشنفت أسماع.
إن كأس النصر ثورت صاحبها حالة سيكولوجية؛ تجعله يجرُّ رداءه على هام الثريّا، متوشحًا هالة القمر، ومتمنطقًا بأفق الأرض، ولا غرو!
فغبار المعركة، وشلال الدم، وهرير الرجال، وألف ألف حساب؛ جعله في ساعة ما يحسب الأرض تميد تحت قدمه.
أما وقد اكتحلت عيناه بالنصر؛ فغول خمرته أعظم من أن تدفع!
ونشوة رشفته أقوى من أن ترد!
إن نشوة النصر دفعت أولي الأحلام، وعقلاء الرجال إلى أن يكتبوا نصرهم بدم العدو، ولو كان صديق الأمس!
لطالما حرقت نشوة النصر أرضًا!
وهتكت عرضًا!
واستباحت محرمًا!
واستحقرت معظمًا!
* لما دخل عبد الله بن علي دمشق؛ دعا بالغداء، وإن رجال بني أمية تحت البسط لهم أنين!!
ذاك هو السر الذي جعل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يدخل مكة فاتحًا، وإن رأسه لتمس الرحل تواضعًا لله!
فما بال نشوة الهزيمة إذًا؟!!
إنها - وباختصار شديد- حال من اللاّشعور أحيانًا، أو من المنطق المعكوس في أحيان أخرى؛ تجعل أعدادًا لا يستهان بها من المنظِّرين، أو المفكرين، أو الأنصار؛ ينظرون إلى واقع الحياة بعين سوداء؛ حَجب عنها بياضَ المستقبل، ولمعانَ الحق؛ يأس تبطّن في خوف تسلل من خلال قصور نظر، أو مزاجية في الطرح؛ غاب عنها الرأي الآخر؛ فركبت الخطأ بدافع السعي إلى إيقاظ الأمة من غفلتها!
هل تريد رصد أشد جراحات الأمة نزفًا، وأكثرها إيلاما؟!
هل تريد سماع صوت المعذبين، والمقهورين، والمشردين؟!
هل تريد معرفة عدد المقتولين، والمعذبين، والبائسين؟!
هل تريد النظر إلى أماكن البلاء، والدماء، والأشلاء؟!
لستَ بحاجة إلى طبق، أو (رسيفر) فقط: جمعتان، وعيد، ومحاضرة: وإن كان لا بد فشريط.(1/1797)
إنها محطات من الإحباط في أحيان كثيرة؛ يخرج منها أبناء الأمة محبطي الهمم، مطأطئي الرؤوس، يجرون ثوب الأسى، تعرف في وجوههم الكآبة، وتقرأ في بياض شفاهم ما تكن صدورهم، من ألم وحرقة!!
تبدأ الخطبة بنذر حرب!
وتنتهي بحالة مأتم!
وما بينهما طعن وطعان وبكاء وآهات!!
لا يكذب من قال إن الجمعة والعيد اليوم، وفي حالات عدة أيام مناحة للمسلمين!!
تعدد فيها فاجعات؛ تجعل نهاية الخطبة والخلاص من حالة السرد هذه، وما يجللها من نشيج، وبكاء، وعويل في حالات كثيرة؛ هدفًا يرنو إليه الكثير من المصلين، الذين طالما حلموا -ولو مرة- أن يسمعوا ما يبسط أسارير، أو يشق ابتسامة، أو يزيل كآبة!
لكن!!
كيف السبيل؟
وقد قال صلاح الدين: لا أضحك، والقدس في يد الصليبين!!
أسألكم بربي!!
أيها أشد بلاءً؟!!
اليوم؛ والتدين يجتاح معاقل الفسق، والإسلام يزلزل قلاع العلمنة، والحجاب يغزو بيوت التفسخ، واللحية، والثوب القصير، والسواك، وفوق هذا أمواج المصلين والحجاج، والمعتمرين، والدعاة، والمجاهدين؛ تتدفق كسيل تحدّر من علو!!
اليوم؛ والمعركة في بداياتها، وبوادر نصر تُكتب بقلم تفاؤل، مداده واقع إسلامي، لا تزال صحوته غضّة طريّة!!
وبرغم ذلك؛ فرضت نفسها رقمًا في حساب اللعبة؛ جعل أعتى قوى الشر، بل دفع بأحلاف الباطل إلى رصّ صفوفها للمواجهة!
وهل كانت ستفعل لولا ما تراه في الأفق من نذر حق؛ قد انعقد غمامه!!
أَم الأمس؟!!
يوم الأحزاب، يوم بلغت القلوب الحناجر، وطوق الكفر دولة الإسلام، بحده وسنانه!
حتى قال قائل الصحابة: وإن أحدنا لا يأمن على بوله!
وسيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب الأرض بالمعول، فينقدح الشرر؛ فيقول: الله أكبر فتحت فارس والروم، والله لتنفقن كنوزهم في سبيل الله.
نعم!(1/1798)
ما عندنا من خير عند رسول الله وصحبه في يوم الخندق ما لا يماثله خيرنا ولا يجاريه!
لكن ما عندنا من بلاء لا يجاري بلاءهم، ولا يدانيه، وما نسمعه من الخطباء والوعاظ، و القصاصين من إحباط يتنافى مع ما قاله سيدي في موقف يمتّ إلى واقعنا بكذا سبب!
يطارد - عليه السلام -؛ فيقول: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".
يُقاتل وهو الأقل عددًا؛ فيقول: أبشر يا أبا بكر، ويقول: إني لأرى مصارع القوم!
لا يخبر بالمنافقين إلا واحدا، ويعلن عن أهل الجنة على أعواد المنابر(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
إن القادر على إبكاء الجموع أسى، هو الأقدر على تخريج العشرات من المحبطين والقاعدين!
وإن الأمة في حالة ترنّح بحسب ما يحيط بها من خطوب؛ تجعلها أحوج إلى حقن من المنشطات منها إلى إبر المثبطات!
لن تحتاج إلى جهد كي تسرد على شباب الإسلام قصص الأبطال في صد غارات الصليبين، والتتار، والاستعمار؛ بل لن تحتاج إلى كبير عناء كي تضع لهم في خطبتك خطة عمل لمشروع يجعلهم ينظرون إلى المستقبل باستشراف أكبر، وأمل أعظم!!
فالنفس البشرية جُبلت على التعامل مع الأمل بروح أكثر عنفوانًا منها مع الألم.
إن طرح المشكلة يجعل السامع يفكر بمشكلتين: الإحباط منها، والحل لما وراءها.
وإن الحديث عن العلاج، والأمل يجعله؛ يفكر بالثانية فقط، وما بين الأمل واليأس حواجز نفسية وشَعَرَات أحاسيس؛ تحتاج فقط إلى قدرة على قنص المشاعر واستدرار العقول!!
21/2/1425
11/04/2004
http://www.islamtoday.net المصدر:
ـــــــــــــــ
غبار الهزيمة
أ.مها الجريس
ليس جديداً أن نقول:
إن أمة الإسلام تعرضت للعديد من النكبات والفتن التي عصفت بها وأذاقتها المر والهزيمة على فترات متقطعة من تاريخها المشرق الطويل..
ولن أتحدث عن أسباب ذلك ودواعيه؛ لأن ذلك يطول... غير أن الذي أعنيه هو ما يعقب تلك الهزائم والنكبات من أمور عظيمة ودروس كثيرة..، فبينما ينفض قوم غبار الهزيمة عن رؤوسهم يسارع آخرون إلى حثو المزيد منه على أنفسهم ومن حولهم!!(1/1799)
إننا وبلا شك لم نؤتَ إلا من قبل أنفسنا.. لكن المخجل أن نظل مستسلمين ننتظر من عدونا المزيد.. إن لم نكن نحفر له الخنادق ونرسم له خارطة الطريق!! كم أعجب ولا ينقضي عجبي من قوم ينعقون بما ينعق به الغرب من هجوم على ثوابت الدين ومبادئه. شأنهم في ذلك شأن من يمد طرف الحبل لمن يريد أن يشنقه به!! وشرّ الهزائم على الإطلاق هزائم النفوس.. وتلك التي لا يجبر صدعها..
لم يكن لأبرهة أن يعرف الطريق لولا أبي رغال..
ولم يكن للتتار أن يفعلوا ببغداد ما فعلوا لولا الوزير الرافضي ابن العلقمي... ويبقى أمر الله ـ قبل ذلك وبعده ـ قدرا مقدورا!
فليت شعري.. كم بيننا من ابن العلقمي؟! وكم فينا من أبي رغال؟!
فليس للغرب أن يفهموا ديننا أو يتلمسوا منا الثغرات لولا أبناء من بني جلدتنا تبرعوا بهذه المهمة ونصبوا أنفسهم لها.. بطريقة لا يشم منها رائحة الإخلاص ولا نزاهة النصح.. وشتان بين عتاب الأخ وشماتة العدو..
كل الذي أعرفه:
أن الغضبة على أبي رغال استمرت لأجيال عديدة، فكان الجاهليون يرجمون قبره كلما مروا به..
وأن العدو انقلب على ابن العلقمي فمات كمداً وضيقاً مما لقيه على أيدي التتار الذين ناصرهم.
فمتى يدرك أمثالهم منطق الأعداء وأنموذج هداياه وعطاياه على مر العصور؟!
http://saaid.net المصدر:
ـــــــــــــــ
إذ تمسي ثقافة الهزيمة جزءً من ثقافتنا الوطنية
محمود سلطان
كان ابن خلدون - رحمه الله - أول من لفت إلى أن "ثقافة الهزيمة" لها لغة ومفردات ومصطلحات، تتجلى في ممارسات النخبة التي تكون عادة شديدة التماس مع كل ما هو فكري أو ثقافي أو سياسي. واعتبر "التطبيع الثقافي" من أبرز تجليات العلاقة بين "الغالب والمغلوب"، سيما في مفردات الحياة اليومية: المأكل والمشرب والملبس، وطريقة الكلام والتفكير، والعقائد والفلسفات، وهي علاقة ليست حوارية مؤسسة على "المثاقفة"، وإنما علاقة تبعية وتقليد وإذعان، وهي المحطة الأخيرة في سلسلة الانكساريات المتتالية أمام الغالب، التي تبدأ بالهزيمة العسكرية، لتنتهي بالتسليم بالهزيمة الثقافية. ويرجع ذلك ابن خلدون، إلى أن "المغلوب عادة ما يعتقد الكمال في الغالب المنتصر".
بعد الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801) ثم هزيمة أحمد عرابي (1841 ـ 1911) عسكريا و احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، كانت بعض النخب السياسية والفكرية المصرية النشطة والمتنفذة في دوائر التأثير على الرأي العام، البيئة التي تلقت الهزيمة، ليس باعتبارها "حدثا(1/1800)
عدوانيا" وإنما باعتبارها "منحة إلهية"، تحمل البشارة "بالانعتاق الثقافي" من أسر ظلمات "العصور الوسطى"!!. وتدفقت التفسيرات التي عزت الهزيمة، إلى تمسك العرب والمسلمين - ليس بالتقاليد والأعراف الجاهلية الدخيلة على الإسلام- وإنما بمرجعيتهم الدينية، حتى وإن كانت في صيغتها النقية، باعتبارها "شرا" لا خير فيها لولوج الأمة آفاق النهضة. ولعلنا نتذكر ما كتبه قاسم أمين (1863 ـ 1908)، في بداية القرن الماضي، عندما تساءل قائلا: "هل يظن المصريون.. أن أولئك القوم ـ يقصد الأوربيين ـ بعد أن بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغا مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء، يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا فيه خيرا؟ كلا! "، وفي الوقت الذي كان فيه المصريون، يرسلون أطفالهم إلى المدارس القرآنية "الكتاتيب" لتلقي علوم القرآن، أحضر قاسم أمين لطفلته الأولى "زينب" مربية فرنسية وللثانية "جلنس" مربية إنجليزية، وهو مثل انتقيناه من المشهد الثقافي المصري آنذاك، الذي كان في سبيله إلى تدشين أكبر عملية لتغيير هويته الحضارية، لتماثل في معمارها الثقافي والحضاري، ثقافة وحضارة الغالب المنتصر، حتى بات شعار عميد الأدب العربي طه حسين (1889 ـ 1973)، في مؤلفه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر".. هو "أن نحذو حذو أوروبا في حلوها ومرها، خيرها وشرها".
وفي وسط هذا المناخ المكتظ بمشاعر الهزيمة الحضارية أمام الغرب، بات الخطاب السياسي والثقافي العربي، مصدرا يقذف العقل العربي، بحممه الاصطلاحية، والتي كانت في حينها جديدة على الرأي العام، مثل الوطنية القومية (بتجلياتها المختلفة: الأشورية، البابلية، الفرعونية، الفينيقية)، والتنوير.. إلخ. ولم تكن محض مصطلحات وإنما كانت دعوات وحركات وأحزابا وروابط، استقت مفاهيمها ورؤاها من منطلق محاكاة أوربا باعتبارها مركز العالم وقبلته في ذلك الوقت، واعتقادا بان التاريخ قد اكتمل، وبلغ نهايته بانتصار النموذج الأوروبي بأسسه المادية على حضارة الشرق الروحية. ما يعني أن تلك المصطلحات والدعوات، كانت في حقيقتها إحدى تجليات الشعور بالدونية، و التسليم بالهزيمة الحضارية أمام الغرب، فالتنوير لغة وحركة وسياقا تاريخيا، صناعة باريسية، اخترعته "باريس" المنتصرة على العالم العربي، التي دكت جيوشها قاهرة المعز عام 1798، وبالت خيولها و جنودها في باحة الأزهر الشريف، واحتلت عددا من الدول العربية. وعلى الجانب العربي كان عنوانا كبيرا من عناوين ثقافة الهزيمة، إذ كان في صيغته العربية، حركة اقصائية، لم تكتف بالتطبيع الثقافي مع الغرب، و إنما تجاوزت ذلك إلى ما هو أبعد، حيث دعت إلى إقصاء الثقافة العربية لصالح الثقافة الغربية، بحيث يحل فولتير، روسو ومنتسيكيو، محل ابن رشد وسيبويه والشافعي وعبد القاهر الجرجاني!!. فالتنوير الذي طرح آنذاك ـ ولا يزال حتى الآن حيا بالأتباع والمريدين ـ كان مؤسسا على "المحاكاة" وليس على "الإبداع"، والمسافة بين الأولى والثانية، تعادل الفارق بين "التبعية" و"الاستقلال". ولما كانت ثقافة(1/1801)
الهزيمة، تستند في التنظير لمشروعيتها على نزعة استغلالية، تستغل حالة الشعور العام بفقدان الثقة في قدرة الأمة على الصمود وتجاوز المحنة أو إعادة إحيائها من جديد، فإنها تؤسس لحضورها -
في واقع لم يألف هذا الحضور من قبل- على إحداثيات عدة، أهمها المراوغة والتبرير والتشهير والإرهاب، إنها لا تستطيع محاججة "ثقافة المقاومة" إلا من خلال هذه الأبعاد "الرخيصة": فالدعوة إلى "الوطنية" بمضمونها الانعزالي المغلق، استغلت تحمل الشعوب العربية أعباء سداد فاتورة المواجهات العسكرية العربية في حروب التحرير من الاستعمار في القرنين: التاسع عشر وأوائل العشرين أولا ثم مع إسرائيل لاحقا، لتجد مبرراتها في الاتكاء على مبدأ "المصلحة"، إذ جعلت من الأخيرة معيارها الأساسي في تأطير شكل ومضمون وشرعية العلاقة مع العالم بما فيه العالم العربي والإسلامي، بتنويعاتها المختلفة ابتداء من التنصل من أي نص دستوري يشير ضمنا أو صراحة إلى الانتماء العربي، وصولا إلى رفض أي شكل من أشكال المساندة المباشرة أو الغير مباشرة للشعوب العربية أو الإسلامية في كفاحها ضد ما يتهددها من أخطار.
إن الوطنية على هذا النحو المتطرف، كانت تطبيعا مع المخطط الغربي، الرامي إلى تفتيت العالم العربي، وتوزيعه إلى مناطق نفوذ بين القوى التي هزمته عسكريا من جهة، وتنصلا من أعباء المقاومة وانتصارا لثقافة الهزيمة من جهة أخرى. ولما كانت ثقافة الهزيمة، تعتمد على لغة مراوغة، وتفتقر في الوقت ذاته إلى منطق التاريخ و"الحق" والجغرافيا، فضلا عن أنها سليلة سياق تاريخي غريب وطارئ، فإنه سريعا ما تتبدى قامتها القزمية، أمام منطق الحق الحاضن لحركات وثقافة المقاومة، ما يجعلها دعوة "تغريرية"، تغرر بأصحابها لاعتماد خطاب دعائي عصبي يعتمد على التشهير بالخصوم و إرهابهم واغتيالهم فكريا ومعنويا: فكل من عارض التنوير بصيغته الانهزامية، فهو ظلامي.. رجعي.. متخلف!!. و من انتقد الوطنية في تقوقعها نحو الداخل، فهو عميل لهذا النظام أو لذاك!!
ولئن كانت "ثقافة الهزيمة" ـ التي تتمثلها النخبة في دول الهامش ـ هي وليدة أوضاع دولية، تستأثر فيها قوة وحيدة بالسيطرة على العالم عسكريا وسياسيا و اقتصاديا وثقافيا (لاحظ فتور ثقافة الهزيمة في العالم العربي خلال الحرب الباردة ووجود قوتين تتنازعان الهيمنة على العالم)، فإنها تتبدل مصطلحاتها و تتلون مسمياتها، وفقا للخصوصية الثقافية والحضارية، لتلك القوة الوحيدة، التي رشحتها الشروط التاريخية في حينها، للهيمنة المباشرة أو غير المباشرة على العالم: فالعصر الإمبريالي الذي مثلت "باريس" و"لندن" معا ـ في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين ـ سنامه وقوامه الأساسي، كانت له مصطلحاته، الفرعية ـ والتي ظهرت في العالم العربي وفي غيره أيضا ـ سواء في جانبها السياسي (مثل القومية والوطنية) أو في جانبها الفكري (مثل التنوير والعلمانية)، داخل إطار اصطلاحي أوسع يعكس الخصائص الكونية لثقافة الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية مثل: "الفرانكفونية" و"الانجلوسكسونية"، وعلى الرغم من أنها اصطلاحات أفرزتها تداعيات هزيمة العالم(1/1802)
العربي عسكريا، إلا أن النخبة لم تخف سعادتها بانتمائها لهذه الثقافة أو لتلك، حتى أن طه حسين لم يتحرج من التباهي بـ"فرنكفونيته" وكذلك عباس محمود العقاد لم يخف سعادته بـ"انجلوسكسونيته".
بيد أن "ثقافة الهزيمة" بدلت مصطلحاتها، بعد أن حلت الولايات المتحدة محل أوروبا لزعامة العالم عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي، ثم اختفاء الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينياته، واستبدل المثقفون العرب مفاهيم "التنوير والحداثة والبنيوية" الباريسية (ثقافة "الغالب" القديم) بنظريات "ما بعد الحداثة" و"التفكيكية" الأمريكية (ثقافة "الغالب" الجديد)، بكل تجلياتها الانهزامية، إذ تراجعت الصرامة في قداسة "الحدود السياسية" و"السيادة الوطنية" للدول، لصالح مفهوم "العالم ـ القرية"، واستبدال "الإنسان الأيديولوجي" بـ"الإنسان الهلامي"، والتسليم بالعولمة ( أمركة العالم)، ليس باعتبارها حالة طارئة فرضها منطق القوة والتفوق التقني، وإنما باعتبارها، وعلى نحو ما ذهب إليه "فوكوياما"، المحطة الأخيرة والنهائية في مسيرة التطور الإنساني، ولعل ذلك هو "أصل" محنة العالم العربي، إذ إنه يستقبل ما ينتجه الغالب ـ المنتصر من مصطلحات ومفاهيم تكون عادة مستبطنة تفوقه واستعلائه الحضاري من جهة، وانتصاره العسكري من جهة أخرى، ثم تستهلكها النخب الفكرية والسياسية العربية، باعتبارها استجابة طبيعية لـ"الواقعية السياسية" أو لـ"العقلانية الفكرية"، رغم أن استهلاكها على هذا النحو الذي لا يقبل مراجعة و يغالي في قداستها، هو في واقع الحال عمل بالوكالة عن "المنتصر" لتجميل الهزيمة ودغدغة مشاعر المهزومين، ولعل اخطر ما في هذه الظاهرة، إنها ـ بتواتر تداولها في النصوص السياسية و الفكرية العربية ـ قد تكتسب في الضمير والوجدان الجمعيين قيمتها الواقعية، وربما تمسى بمضي الوقت ـ وهذا هو الأخطر ـ جزءا أصيلا من ثقافتنا الأصلية.
08/09/2004
http://www.alasr.ws المصدر:
ـــــــــــــــ
الرد على حكماء الهزيمة
منير شفيق
أصبح من الجلي الآن أن الشروط التي حملتها إدارة بوش للدول العربية بعد العدوان على العراق واحتلاله (سبق وبُلّغت قبل ذلك) قد سقطت في الفلوجة والنجف وكربلاء، بل إن أهداف الحرب على العراق واحتلاله فشلت.
وذهبت كل توقعات الإدارة الأمريكية لعراق ما بعد الاحتلال بدداً، ولم يبقَ منها غير اليسير الذي يراد أن يكبر من خلال وسائل أخرى غير الحرب والإملاء.(1/1803)
ينطبق هذا على الشروط الأمريكية (قائمة الإملاءات) التي قدّمت للدول العربية، كما ينطبق على الموضوع الفلسطيني أكثر حيث بات من الواضح أن كل ما يحدث في القطاع منذ ثلاثة أشهر - في الأقل - قد فقد هدفه السياسي الأساسي، وأصبح محكوماً بروح الانتقام والتدمير والغيظ، مما سيفاقم أزمة شارون والاحتلال (الجيش الإسرائيلي) ولا يحلّها.
صحيح أن الثمن الذي سيُدفع عالٍ جداً سواء كان بفقدان الشهداء القادة الشيخ أحمد ياسين ود. عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب والكوادر، أم بمئات الشهداء والجرحى من الناس العاديين، أم بالدمار الهائل الذي تعرضت له رفح وبخاصة حيّ تل السلطان وحيّ البرازيل، وصحيح أن الجرح في قلوب الفلسطينيين والعرب والمسلمين صار أعمق، والغضب أشدّ اشتعالاً، إلا أن ما يجري لا مفرّ منه ما دام العدو هو المشروع الصهيوني، وما دام مناصروه من الدول الكبرى لا يستطيعون أن يردّوه مهزوماً أمام المقاومة والانتفاضة والشعب الفلسطيني، وهو ما أعطاه إجازة ليرتكب كل ما عرفته رفح، وقبلها غزة؛ من جرائم حرب وسفك دماء ودمار، ومع ذلك فإن قرار الهزيمة اتخذ على شكل انسحاب من طرف واحد دون قيد أو شرط، كما أن قرار انسحاب القوات الأمريكية وضع على أجندة العراق، كما غدت قائمة الإملاءات الأمريكية على الدول العربية مطروحة على الطاولة، وكانت قبل بضعة أشهر غير قابلة للتفاوض (إما أخذها كلّها وإما فلا).
هنا يأتي دور (الحكماء) الذين ابتلعوا ألسنتهم قبل الوصول إلى تلك النتيجة تاركين المجال لبوش وشارون ليحققا أهداف هجمتهما، لكن عندما انكسرت الهجمة، وبدت في الأفق إشارات هزيمة في فلسطين والعراق جاء دور (الحكماء) الذين يريدون إنقاذ الوضع، وبالتحديد إنقاذ شارون وبوش تحت حجة الخوف من الفوضى ومن الإرهاب في حالة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، أو تنفيذ شارون لخطة الانسحاب من قطاع غزة بلا قيد أو شرط.
وبكلمة أخرى حرمان الشعبين الفلسطيني والعراقي من الانتصار عبر مساومة تتنازل فيها أمريكا عن (العُشر) وتستبقي التسعة أعشار، علماً أنها كانت خاسرة تماماً، فيا للحكمة، ويا لإنقاذ الوضع.
ومن هنا فإن من يتابع التعليقات والتصريحات التي عجّت بها أجهزة الإعلام يجد أن صوت أولئك (الحكماء) أخذ يعلو كأنهم هم الذين قاتلوا في الفلوجة والنجف وكربلاء، أو هم الذين كانوا في قلب الانتفاضة والمقاومة والصمود في فلسطين، أو هم الذين كانوا يضغطون ضدّ تلبية الدول العربية لقائمة الشروط الأمريكية، ولهذا توجّب الرد عليهم، وضرورة التعبئة في هذه المرحلة ضد الاستجابة لهذه (الحكمة) التي يمكنها أن ترمي طوق نجاة مؤقت لأمريكا، لكنها ستزيد من أزمة الوضع، وترفع من وتيرة الشهداء والدمار، لأن من غير المعقول كما من غير الممكن أن يحقق بوش وشارون من خلال (حكمتهم) ما لم يحققاه من خلال الصاروخ والدبابة، وليعودا سيرتهما الأولى من جديد وفي أسرع الآجال، وهؤلاء الحكماء يستندون إلى ما يلي:(1/1804)
أولاً: أن نظرية وقوع العراق في الفوضى، وتحوّله إلى مسرح للإرهاب إذا انسحبت القوات الأمريكية ليست صحيحة، وإن بدت في الظاهر منطقية، فالفوضى خرجت بسبب وجود الاحتلال الأمريكي، وإذا صحّ أن القوى التي ارتكبت أعمالاً إجرامية إرهابية في العراق مثل: زرع القنابل، أو إطلاق قذائف على الحشود في عاشوراء، أو ارتكبت جرائم الاغتيالات، أو ضربت ضدّ مراكز الشرطة، أو هيئة الأمم أو السفارات؛ هي من التنظيمات المشار إليها بالإرهابية؛ فحتى هذه جاء بها احتلال العراق، وسمح بها مناخ الإرهاب الذي مارسه الاحتلال ولم يزل، ابتداء بالقتل والاعتداءات، والنهب وتدمير الدولة، ومروراً بالقصف العشوائي والقنص كما حدث في الفلوجة والنجف وكربلاء وبغداد والأنبار، وانتهاء (ليس بمعنى النهاية) بالجريمة المروعة التي ارتكبت بحق عرس في قرية القائم.
هذا ناهيك عن الفضائح الأمريكية في سجون ومراكز الاعتقال ومثالها سجن أبو غريب، وهذه بالصورة والصوت.
علماً أن تضخيم دور تلك القوى إن وُجدت حقيقة (لأن الأعمال المشار إليها تدخل في دائرة الشبهات التي تصل إلى الموساد ) يكذبه ما تكشفت عنه معارك الفلوجة والنجف وكربلاء، مما يؤكد أن القوى التي وراء المقاومة الحقيقية ضد الاحتلال الأمريكي على اختلاف توجهاتها نابعة من الشعب العراقي، وملتزمة بخط سياسي لا علاقة له من قريب أو بعيد بما تعبّر عنه البيانات الصادرة عن تنظيم (القاعدة)، أو عن الزرقاوي، أو أسماء أخرى مشابهة، كما أن الإشارة إلى المتطوعين العرب وأعدادهم أبطلت صدقيتها الفلوجة ناهيك عن الأنبار والموصل والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة وبغداد، فالشعب وممثلوه وأبناؤه كانوا المقاومة (بكل أشكالها التي يجيزها الشرع).
وباختصار نحن أمام فزاعة كاذبة، وتقدير موقف وهمي، هذا إذا أحسنّا الظن، علماً أن ثمة خشية من أن يكون الدافع وراء التخويف من انسحاب قوات الاحتلال من العراق هو الخوف من الشعب العراقي، ومن تمكّنه من بناء عراق بعيد عن الهيمنة الأمريكية، وبقيادة قوى ممثلة حقاً لغالبية الشعب، وهذه هي الضمانة الفعلية لحماية العراق من أن يصبح مرتعاً للإرهاب والفوضى، وهذان (الإرهاب والفوضى) لا يترعرعان إلا في المياه العكرة التي نموذجها كل حوض تحركه العصا الأمريكية والصهيونية.
أما حجة الفوضى والإرهاب فكيف يمكن أن تطبق على قطاع غزة في حالة انسحاب القوات الإسرائيلية مهزومة منه وبلا قيد أو شرط، فمن جهة لم تعرف تجربة انتفاضة الأقصى والمقاومة في فلسطين ذلك النمط من التنظيمات التي تتبنّى عمليات من طراز 11 أيلول / سبتمبر 2001 في أمريكا، أو 11 آذار/مارس في إسبانيا، أو تفجيرات عاشوراء في العراق، أو الاغتيالات بسبب المواقف السياسية أو الانتقام (أو لأي سبب كان)، فالقوى التي سترث الاحتلال في فلسطين معروفة،(1/1805)
ولا يستطيع أحد أن يتهمها بأنها ستجعل من الأراضي التي ينسحب منها الاحتلال مرتعاً للإرهاب أو الفوضى.
ومن ثم فإن الذين يريدون أن يدعموا (حكمتهم) بفزاعة الإرهاب والفوضى في حالة نزول هزيمة بقوات الاحتلالين في العراق وفلسطين إنما يقيمونها على أرجل خشبية لا تقوى على الصمود حين يُردّ عليها بقراءة الواقع كما هو.
ثانياً: الحجة الأخرى تنطلق من أن الإدارة الأمريكية في مأزق، وهي مستعدة للتراجع جزئياً (وهذا عظيم جداً وفرصة!)، وقد حوّلت ملف العراق وفلسطين والشرق الأوسط الكبير (ملف الدول العربية) من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى وزير الخارجية كولن باول (وهذه فرصة!)، ولهذا فإن الحكمة تقضي بضرورة اغتنام هذا التحول (الهام) الذي كشف عنه عدم استخدام الفيتو الأمريكي ضد قرار مجلس الأمن الذي طالب الدولة العبرية باحترام التزاماتها الدولية في رفح، أو كما تكشف قبولها بوساطة الأخضر الإبراهيمي في العراق.
حسناً: ما المطلوب؟ (الحكمة) تقتضي وقف المقاومة والانتفاضة والتسليم بتهدئة كل شيء على ضوء خطة شارون في فلسطين، والسير وفقاً لاقتراحات الإبراهيمي في العراق، أما على مستوى لبنان وسوريا فمن الممكن التقدّم بتنازلات لا تجعل الأمريكيين يتمسكون بكل شروطهم، فيكفي في كل الحالات أن يتمسكوا بتسعة أعشارها ويتنازلوا عن العشر للإبراهيمي ولمجلس الأمن وللدول العربية المعنية حتى تتحقق الصفقة الرابحة، وتلكم الحكمة في هذه المرحلة التي تواجه فيها إدارة بوش المأزق الخانق.
وإذا كان هناك من سيقول إن بوش سيعود سيرته الأولى بمجرد خروجه من المأزق وإعادة انتخابه، فإن الحكمة تقتضي أن نكسب هذه اللحظة الآن ويبنى عليها بعد ذلك، وبهذا يكون منطق أولئك (الحكماء) هبط بهم إلى الدرك الأسفل عندما يلخصون (الحكمة) السياسية بإنجاز وهمي وخاسر ومؤقت، خوفاً من النتائج غير المحسوبة لهزيمة الاحتلالين، أو لفشل سياسات بوش (الشرق أوسطية).
من هنا فإن التقدير الصحيح للموقف والذي يقول إن الظرف الراهن فلسطينياً وعراقياً وعربياً وإقليمياً، ورأياً عاماً عالمياً، وفي مقابله الظرف الخانق الذي يواجهه بوش، فشل عسكري وسياسي في العراق وفلسطين، وفضائح يندى لها الجبين، وعدم قدرة على تفاهم حقيقي مع حلفاء يريدون إنقاذه من نفسه، ويخافون عليه من هزيمته، إلى جانب أزمة داخلية حيث اهتزت شعبيته، وارتفعت أسهم منافسه، ثم مأزق حليفه شارون الذي إذا واصل ارتكاب جرائم الحرب عمّق مأزقه، وخرّب على بوش أكثر، وإذا تراجع كانت هزيمة مجلجلة، ولهذا فإن الحكمة الحقيقية تقتضي عكس تلك (الحكمة) المزيّفة ألا ينقذ بوش وشارون من الهزيمة، وعدم الخوف من النتائج من خلال التهويل بفزاعة الفوضى والإرهاب.
المصدر : http://www.fm-m.com/2004/jun2004/story16.htm
ـــــــــــــــ(1/1806)
الإسلام : أمل فلسطين بعد عشرين عاما على الهزيمة
بمناسبة مرور الذكرى العشرين لحرب حزيران 1967 حذرت الحكومة الإسرائيلية خطباء المساجد في مدن وقرى فلسطين من أن يشيروا إلى الاحتلال الإسرائيلي، أو يحرضوا الناس على ما من شأنه أن يبث الوعي بينهم، وينبههم إلى حقوقهم الأساسية المنهوبة من قبل العدو اليهودي.
ولم تكتف سلطات الاحتلال بالتحذير، بل إنها استجوبت بعض هؤلاء الخطباء عما ينشرونه بين الناس من أفكار رافضة لكل أشكال الهيمنة والاحتلال.
ومناسبة يوم الخامس من حزيران لا ينبغي أن تمر دون أن يشار إلى مجموعة من الحقائق التي تتعلق بها.
- لابد من الإشارة إلى أن الهزيمة عام 1967 أمام اليهود، ومن قبلها هزيمة عام 1948 كانت هزيمة أنظمة، وليست هزيمة شعوب، تلك الأنظمة التي جثمت على صدر شعوبها، وبدل أن تكون حارساً أميناً، وراعياً رحيماً، كانت على خلاف ذلك، فلا هي تسلمت هذه الأمانة الثقيلة بجدارة، ولا هي حافظت عليها بحرص وحصافة، وإنما أذاقت محكوميها المرَّ كله، وجردتها من كل معاني العزة والكرامة، وداست كل حرمة في سبيل الحفاظ على هيمنتها وتحكمها وامتيازاتها التي اغتصبتها من حق الشعوب المسكينة المسوقة بالحديد والنار إلى مالا تريد.
وإن تعجب؛ فإن أعجب العجب ما بلغته هذه الأنظمة المهزومة التي كانت بادية العري لكل ذي مُسكة من عقل، فأصبحت بعد هزيمة 1967 مكشوفة السوءات لكل ذي عينين؛ حيث ادعت أن هدف إسرائيل (كان) إسقاط هذه الأنظمة التي هي رأس مال كل مجد وعزة لشعوبها (! ! ) ولكن الله قدر ولطف! فلم تستطع إسرائيل تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي! في حين احتلت الأرض وشردت ناسها، ولكن ذلك لا يعتبر شيئاً، وليس خسارة تقاس بالكسب الذي تحقق، وهو خروج هذه الأنظمة سليمة معافاة من هذه المحنة! !.
أرأيت هذه القِحّة؟ ! وهل هناك صفاقة إعلامية تعدل هذه الصفاقة؟ !.
- في الوقت الذي بنت فيه إسرائيل دولتها على أساس من إيمانها بالتوراة المحرفة، وجعلت عقيدتها الدينية هي المحرك الفكري الذي تنطلق منه وتعتز بباطلها أشد الاعتزاز، وتعلن بذلك أمام سمع العالم وبصره، ترانا على المستوى الرسمي -نحن الذين هزمتنا إسرائيل بمثل هذه العقيدة العنصرية الباطلة، وبمثل هذا الزور المفضوح- ضائعين تائهين نتسول الأفكار والمذاهب من عتبات الشرق والغرب، ونلبس المرقَّعات التي يفصلها لنا أعداؤنا الذين لا يريدون لنا خيراً، فنبدو كمجموعات من المتسولين الأذلاء، فاقدي الحس والكرامة.(1/1807)
ولكن رغم هذه الصورة القاتمة التي يعكسها إعلامنا، ورغم الحرب التي يعلنها على الإسلام أعداؤه في الداخل والخارج، ورغم الاحتلال الصهيوني الذي يحاول أن يلغي هوية الشعب الفلسطيني وينكر عليه أي انتماء فإننا نجد هذا الشعب أكثر ما يكون تمسكاً بحقوقه، وكذلك فإن بوادر رجوعه إلى الإسلام يحس بها كل من يرصد الاتجاهات الفكرية التي تحرك هذا الشعب.
- والعودة إلى الإسلام تتجلى بالإحساس العميق الذي أخذ يشعر به الجيل الجديد من أبناء فلسطين؛ من أن له هوية قد منع من التعبير عنها لمدة طويلة، وله عقيدة تمده بكل عوامل الصمود في وجه التحديات.
وأن هذه العقيدة -وهي الإسلام- هي العقيدة الوحيدة القادرة على التصدي للعدو الذي فشلت في صده كل النظريات والأيديولوجيات والأفكار التي قوبل بها حتى الآن.
وهذه العقيدة لا تعوزها الاستدلالات الملتوية، ولا الدعاية المركزة من أجل غرسها وتحبيب الناس بها، بل هي مركوزة في ضمير هذا الشعب وفي وعيه الباطن، والتفاتة بسيطة إلى الماضي كي يكتشف أبسط الناس ثقافة في فلسطين وفي غيرها أن هذه البلاد قد تعرضت لهجوم صليبي استيطاني شرس في السابق، وأنها وقعت ضحية الفرقة والتناحر التي ضربت العالم الإسلامي، وبعد مدة طويلة عندما استفاق الوعي الإسلامي، وأخذ المسلمون بأسباب النصر من الرجوع إلى الله والإعداد الجاد طردوا الصليبيين شر طردة، واقتلعوهم من هذه الأرض التي دنسوها لفترة ليست بالقصيرة.
والرجل العادي حينما يتذكر ذلك يتذكر ببساطة أن الجحافل التي نظفت فلسطين وباقي بلاد الشام من رجس الصليبيين كانت تفعل ذلك باسم الله، وتحت راية الإسلام، وتتخذ من مصطلحاته زادها الفكري والتعبوي من مثل الجهاد والمرابطة، والذود عن حياض الإسلام، وتطهير مسرى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإعادة الأرض التي بارك الله فيها إلى حظيرة ديار الإسلام..
وأن سنين طويلة منذ أوائل هذا القرن، من التبعية للغرب ولرموزه، ومن الجري وراء سراب الشعارات التي يرفعها أعداء الإسلام من شتى الألوان والاتجاهات، يستغلون ويخدعون بها ذراري المسلمين؛ لم تورثنا إلا ذلاً على ذلك، ولم نجن من وراء سرابها إلا الخيبة والخذلان على كل صعيد!.
كل ذلك جعل أهل الحق يحاولون نفض الغبار والتراب الذي أهاله أهل الباطل عليه، مما نقرأه أو نسمع عن أنبائه في داخل فلسطين المحتلة.
* هذه العودة المباركة إلى الإسلام تلقى حرباً من جهتين: فاليهود وحلفاؤهم يتخوفون من آثارها ويرصدونها بعيون مفتوحة، ويحاولون الوقوف في طريقها بشتى الوسائل، مثل التعتيم الإعلامي الذي تعامل به، وذلك التشويه الذي يمارس ضدها.(1/1808)
وهذا طبيعي بالنسبة لليهود فهل يعلمون أن العقيدة الوحيدة التي لا ينطلي على معتنقيها كيدهم وغدرهم هي العقيدة الإسلامية، وأن عدوهم الأول الإسلام، وصدق الله القائل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة / 82].
على أن الشيء المؤسف هو معاداة التوجه الإسلامي بين العرب في فلسطين من قبل أدعياء الوطنية من العلمانيين والمرتبطين بهذه الجبهة أو تلك ممن يتاجرون بالقضية الفلسطينية، والذين افتضح إفلاسهم وتضخيمهم لأدوارهم وألاعيبهم لكسب الأنصار والأعوان.
ومما يثير الأسى ويؤلم الفؤاد ما كتبه صحفي فلسطيني -ممن تدفع لهم منظمة التحرير وتنفق على صحفهم في الضفة الغربية- ناعياً على أصحاب هذا التوجه الإسلامي من أهل فلسطين، ومعتبراً خطورة فكرهم قد تفوق الفكر الصهيوني، وإذا عرفنا سبب هذه الحملة التي يحملها هذا الصحفي وأمثاله على التوجه الإسلامي الفتي في فلسطين بطل عجبنا وزال استغرابنا.
فتنامي التيار الإسلامي في فلسطين يهدد بسحب البساط من تحت الذين يحتكرون ادعاء مقاومة إسرائيل في العلن، بينما هم يلتقون معهم في السر [انظر ما نشر من كتاب يوري أفنيري: صديقي العدو].
وكذلك فإنه لا يروق لأمثال حنا سنيورة وإلياس فريج أن يروا للمسلمين أثراً ولا أن يسمعوا لهم صوتاً، كي لا يفقدوا مبرر وجودهم وعيشهم على ما تقدمه منظمة التحرير من رواتب وامتيازات.
- تبقى هناك كلمة أخيرة حول النشاط الإسلامي في فلسطين، فهذا النشاط هو معقد الأمل بالنسبة لغالبية المسلمين في كل بقاع العالم من أجل تحرير فلسطين.
وهذا البعث الإسلامي الذي يبشر بخير هو الجدير منا بكل مساندة مادية أو معنوية، وينبغي التنويه به وتسديد طريقه نحو سلامة التصور ووضوح الهدف.
أما سلامة التصور فتتلخص في اتخاذ الإسلام القائم على كتاب الله وسنة رسوله والانطلاق من هذا الأساس الواضح لفهم الإسلام، والبعد كل البعد عن ما يخالف ذلك من المناهج والسبل، وكذلك عدم الانخداع بكثير ممن يحملون الراية الإسلامية ليغطوا بها كراهيتهم الدفينة للإسلام وحقدهم القديم على العرب -حملة الإسلام للعالمين- كالشعوبيين والباطنيين الذين يفوقون في خطرهم اليهود والنصارى والملاحدة لأن هؤلاء كراهيتهم معلنة ممكن اتقاؤها، أما أولئك فعداوتهم باطنة قد تخفى أو تغيب عن كثير من ذوى النوايا الطيبة.
وكلنا أمل في أنه لو قيض لأصحاب الصوت الإسلامي النقي -ممن يرزحون تحت نير الاحتلال الإسرائيلي والقهر اليهودي، ومن إخوانهم في المهاجر في شتى بقاع العالم- القيادة الحكيمة التي تجمع كلمتهم على التقوى والمنهج الإسلامي الصحيح، بعيداً عن أصحاب الأهواء من مستغلين ومبتدعين،(1/1809)
وبعيداً عن تجار الجماجم الذين انكشفت خزاياهم؛ لو حصل ذلك -وما ذلك على الله بعزيز- لزالت أسطورة (إسرائيل) من الوجود كما زال كثير من الأساطير التي كانت في يوم من الأيام حقائق.
فنسأل الله لإخواننا في فلسطين المحتلة السداد والثبات والرشاد بمنه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ـــــــــــــــ
الهزيمة والنصر تاريخ وتحليل ( 1 )
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله وبعد:
قدمت الهزيمة لأن لها ظلال في الحاضر وأخِّر النصر لأنه أمل المستقبل بإذن الله - سبحانه وتعالى -، وقدم التاريخ الماضي ليكون عوناً على تحليل الحاضر والغاية من هذا الموضوع هو استقراء يمليه علينا منهج القرآن الكريم لما وقع من الأحداث ليستنبط منها طريق النصر ويعرف من خلالها ثغرات الهزيمة، والله - سبحانه وتعالى - كثيراً ما ذكر في القرآن الدعوة للمؤمنين (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم) حتى يكون لهم موضع عبرة..
ولأن لله - سبحانه وتعالى - سنة جارية لا تتغير (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) وهذه السنة تكرر وفق ما ذكر الله - جل وعلا - في كل زمان ومكان ولذا قال القائل
اقرأ التاريخ إن في التاريخ عبر***ضاع قوم ليس يدرون الخبر
وأمة ليس لها تاريخ وماضي لن يكون لها مستقبل، والقرآن العظيم حينما قص قصص الأنبياء والمرسلين نبه على ذلك بقوله - جل وعلا - (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) ليعلم الإنسان أن ما ذكر الله - جل وعلا - من قصص الغابرين وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم وما جرى عليهم من قدر الله - سبحانه وتعالى -، الذي نصر المؤمنين وأذل الكافرين والمعرضين ليعلم أن هذا درس يتكرر متى وجدت أسبابه تكررت نتائجه.
وهذا نهج قرآني ظاهر في الآيات كلها وفي قصص القرآن على وجه الخصوص، ومن هنا لنا وقفات تاريخية نلتمس منها العظة والعبرة ونقف في المواطن الفاصلة او الوقائع ذات الأثر الكبير سواء كانت سلبية أو إيجابية.
بشائر النصر تترى قبل بداية المعركة
مصارع القوم
ولذلك أول وقفاتنا مع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أعلن - عليه الصلاة والسلام - في غير ما موضع أعلن النصر قبل بداية المعركة، وهذا لا بد أن يكون موضع لفت نظر وتأمل عند العبد المؤمن فإنها ليس خاصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا دعاءه المستجاب، ولكنه النظرة التي(1/1810)
حينما يتفحص العبد المؤمن أسباب النصر ويراها فإنه يغلب على ظنه جيران سنة الله - سبحانه وتعالى - بالنصر، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لما خرج يوم بدر ولم يكن يبغي قتالاً ثم قضى الله - جل وعلا - بلقاء الفريقين وتوجه - عليه الصلاة والسلام - في ذلك الدعاء المتبتل وتلك النداءات والمناجاة التي استنزل بها نصر الله - جل وعلا - بعد ذلك حينما رجع إلى أصحابه كان يقول - عليه الصلاة والسلام - (أبشروا فوالله إني لأنظر إلى مصارع القوم)وحدد مقتل فلان ومقتل فلان هنا ومقتل فلان هنا، وما ذلك إلا لأنه - عليه الصلاة والسلام - رأى من أصحابه إيماناً ويقيناً قوياً ورأى منهم وحدة وتماسكاً وطيداً ورأى منهم همة عالية ورأى منهم بسالة وشجاعة كبيرة، فرأى بشائر النصر ظاهرة للعيان وكان تثبيت الله من قبل ومن بعد مؤيداً لذلك، ومن هنا كان النصر الذي وقع مطابقاً لما قاله - عليه الصلاة والسلام -.
أبشروا بالنصر
ويوم الخندق يوم اجتمعت على المسلمين شدة البرد مع شدة الجوع مع شدة الخوف وصور القرآن الكريم صورة المسلمين حينما التف واحتف بهم الأعداء من كل جانب (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) في هذا الكرب العصيب وفي هذه الشدة القاسية نبى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبأ نقض بني قريضة للعهد، وكان ذلك بمثابة الطعن من الخلف وكان بمثابة الزعزعة الشديدة التي فاقت كل ما مضى من قبلها ومع ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما لحن له السعدان - رضي الله عنهما - وعلم من قولهما نقض قريش للعهد، كان يكبر - عليه الصلاة والسلام - ويقول الله اكبر الله اكبر ابشروا بالنصر، في هذه الشدة العصيبة يبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصر ويثبت الأقدام والقلوب ويربط على العزائم وعلى الهمم، وما ذلك أيضاً إلا لأن الأسباب التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - للنصر كانت أيضاً رغم كل هذا ظاهرة للعيان في ثبات وإحتمال وصبر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والله إنكم لمنصورون
ولذلك مرة أخرى يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - النصر قبل المعركة وحتى نعلم أن القضية إنما هي إستقراء لأسباب النصر وحسن ظن بالله متعلقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإننا نرى موقفاً تاريخياً نذكره هنا فيه ذكر للنصر قبل نشوب المعركة، وذلك كان جلياً في موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في مواجهة المسلمين للتار في ما قبل معركة شقحب وسيأتي لنا ذكر لها، كان رحمة الله عليه يطوف بالجند وبفرق الجيش وهو يقول " والله إنكم لمنصورون في هذه الكرَّة " ويحلف على ذلك بجزم شديد، حتى إن بعض الناس يراجعونه ويقولون له قل إن شاء الله فيقول " إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً " ويقسم على ذلك وهذه فراسة المؤمن وكرامة عبد صالح ولكنها بصيرة عالم بسنة الله -(1/1811)
سبحانه وتعالى -، لأنه رأى أن العزائم قد شحذت ورأى أن الإيمان قد اتقدت ناره في القلوب ورأى أن العزة قد جرت مع الدماء في العروق، رأى كل ذلك وثبت الله المؤمنين فبشرهم بالنصر قبل نشوب المعركة.
وهذه المواقف نستجلي منها أمراً واحداً لأننا ندخل هنا في التفاصيل من حيث القوة المتكافئة ولا الظروف المناسبة وإنما رأينا فقط ومضة النصر في هذه البشائر، لماذا لنعلم أو لنستخلص أن القضية في النصر والهزيمة إنما هي من الداخل، إنما النصر نصر النفوس ونصر الهمم ونصر العزائم، وإنما أيضاً الهزيمة هي هزيمة النفوس وهزيمة العقائد وهزيمة العزائم والهمم.
وكذلك كما كان في النصر بشارات قبل نشوب المعارك، كذلك كانت الهزائم حينما تضعضعت النفوس، كانت الهزيمة تأتي وتعلن بذورها قبل أن تثار غبارها، وهذا يدلنا على الحقيقة التي نحب أن نؤكدها وهي أن القضية متعلقة بإيجاد أسباب النصر وأعظمها إنما هو متعلق بالقلب والنفس والحقائق الإيمانية التي تفعل فعلها في نفوس المؤمنين.
النصر رغماً عن الهزيمة
حمراء الأسد
ولنا من بعد ذلك وقفة أخرى تؤيد هذا الجانب، وهي النصر رغم الهزيمة، فإن المسلمين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم أحد كتب الله لهم النصر في أول المعركة، ثم جاءت أحد أسباب الهزائم مخالفة أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخالف أقوام؟ كما تعلمون. ثم أراد الله - جل وعلا - أن يربي أصحاب محمد والأمة المسلمة من بعده أن كل مخالفة يقع بها من بلاء الله وقضاءه ما يقضيه وتقدره حكمته - سبحانه وتعالى -، فكانت الكرَّة في آخر الأمر على المسلمين، وأثخنوا جراحا؟ واستشهد منهم سبعون وجرح منهم من جرح.
ثم ماذا من بعد رجع المسلمون واقتنص كفار قريش هذا النصر الذي لم يكن من قوتهم ولا بإحكام عدتهم وخطتهم ولا كذلك بقوة نفوسهم وعزيمتهم، ولا بصحة عقيدتهم ووفائهم وإنما كان ناشئاً من خطأ في الجانب المقابل من معصية في جانب الصف المؤمن المسلم، ولذلك هؤلاء الذين حل بهم هذا المصاب العظيم رجعوا إلى المدينة ثم نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم القابل في اليوم التالي مباشرة أن يخرج من كان معه ممن شهد أحداَ وأن لا يخرج معه غيرهم وأين يريد محمد - صلى الله عليه وسلم - وأي شيء يريد، وقد إثخنت الجراح وسالت الدماء وفي النفوس ما فيها من حزن على من مضى وفي النفوس ما فيها من حزن على من مضى ومن أسى على ما وقع من المخالفة، لكن النفوس التي كانت عامرة بالإيمان قوية في إستجابتها في أمر الله وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تلك المرحلة إنما هي كما يقال لكل جواد كبوة، قامت كأنما ما مسها من ضر وما سالت لها دماء وما أصيبت بجرح، وما تأثر بشيء من الأمور، فخرج صحابة رسول الله وما تخلف(1/1812)
أحد، وما خرج معهم أحد ممن لم يشهد أحداً وقد صور القرآن هذا المشهد بقوله - عز وجل - (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) وقال في شأنهم أيضاً (الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) الذين استجابوا مع هذه المعاناة دل على أن هذه النفوس لم تهزم، هزموا في مرحلة عابرة هزموا في صورة ظاهرة لكن في حقيقة النفوس وقوة العزائم لم تكن هناك هزيمة.
وإذا بقي هذا الجانب لم يصله أثر الهزيمة فإن الأمر إلى خير إن شاء الله وإن الجولة وشيكة في أن ينتصر المسلمون مرة أخرى، وماذا كان الحال أبو سفيان رجل عسكري حربي راجع نفسه، قال ماذا فعلنا؟ أخذنا القوم على غرة، وما قتلنا قادتهم وما دخلنا مدينتهم، أراد أن يرجع ليستأصل شأفة المسلمين ببعض ما ظن أنه قد أوقع من هزيمة في النفوس وما شحذ به عزائم أصحابه من هذا النصر الباهت الهزيل، وأراد أن يرجع فلقي أبا مُعَيْط وكان قد رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم خارجون فقال ما خبر أهل المدينة قال لقد رأيت محمدا - صلى الله عليه وسلم - يجهز أصحابه وهم خارجون في إثركم، فانسحب أبا سفيان قانعاً من المعركة بهذه الجولة الصغيرة خوفاً من أن يحرم هذا النصر وأن يغلب من جديد كرة أخرى، وأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد فضرب بها خيامه وأقام بها أياماً ينتظر القوم أن يأتوا ولكنهم هزموا في نفوسهم وولوا الأدبار وما رجعوا فهذه معركة فيها نصر رغم الهزيمة، لأن النصر إنما هو في داخل هذه النفوس المؤمنة.
إسترجاع بيت المقدس خلال عامين
والأمر أيضاً ظاهر في بعض الجولات في الأمة المسلمة ربما نشير إليها الآن سريعاً ويأتي ذكرها تفصيلاً، سقط بيت المقدس في أيدي النصارى في عام 491 هـ وبعد سنتين كانت وقعة بين المسلمين وبين النصارى الذين انتشوا وانتصروا وقتلوا وتمكنوا وكانت لهم أمارات في عكا وفي حيفا وفي الساحل والتقوا مع فئة من المسلمين بعد عامين عام 493 هـ وكانوا ثلاثين ألفاً أي النصارى، ولقوا المسلمون وهم أقل منهم عدداً ثم انتصر المسلمون وقتلوا النصارى عن بكرة أبيهم وما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف ما منهم إلا وهو جريح، إذاً كان إنتصاراً ساحقاً، كيف لأمة حصل لها ما حصل أن يكون فيها هذا الأمر بقدر ما يكون في الأمة من أسباب النصر والعزائم والنفوس المؤمنة بقدر ما يتحقق لها المكافأة.
ردع التتار
وكذلك الأمر في جولة أخرى في عام 656 هـ كان سقوط بغداد في أيد المغول الذين كانوا مثالاً في الهمجية والوحشية كما سيأتي وصف ذلك، ومن بعد في عام 658 هـ بعد عامين من سقوط بغداد، إذا بهؤلاء المغول الذين دمروا شرق العالم الإسلامي كله اكتسحوا الأخضر واليابس ما سلم منهم شجر ولا حجر ولا نهر ولا بحر يقف أمامهم المسلمون في عين جالوت فيكسروهم كسرة(1/1813)
كانت من أعظم وقائع الإسلام ومن أعظم إنتصارات المسلمين، فالنصر يأتي بعد الهزيمة وشيكاً إن كان في النفوس ما زال فيها هذا السر من أسرار النصر.
فإذاً أول أمر أحببت أن أشير إليه هو أن النصر والهزيمة لا ينظر إليها من الظاهر ومن الملامح العامة، وإنما ينظر إليها من الباطن ومن الأسباب المحركة والمهيجة وهذا الأساس الذي ينبغي أن نفطن له ليكون معيناً لنا على فهم وتحليل الواقع.
أسباب النصر والهزيمة بمعالم تاريخية:
مع بعض التفصيلات التاريخية في الوقائع المهمة التي أشرت إليها وهي سقوط بيت المقدس سقوط بغداد ووقعة شقحب، نقف عندها لنرى صورة مجملة نستنبط منها أسباب النصر وثغرات الهزيمة وتحتاج إلى تأمل لأن فصل كل سبب على حدة، يقتضي منا أن نقطع الحدث التاريخي فنقول أن سبب النصر هو قوة الإيمان نحتاج أن نأتي من هذه المعركة ومن تلك ومن تلك، نحب أن نأخذ المعركة كاملة ونستنبط منها، ثم من بعد يكون هذا الاستنباط يجمع الأسباب كلها.
أولاً: سقوط بيت المقدس:
نلمح في ما يتعلق بسقوط بيت المقدس أنها كانت مرحلة من مراحل الحروب الصليبية، وهي ظاهرة عامة لا بد من دراستها بشكل موسع، ولكن نلمح منها بعض المعالم في النصر والهزيمة بشكل عام.
معالم الاستنصار والاستهزام على المسلمين:
1-إحياء المنطلقات العقدية والمضادة:
كانت الحرب ومنطلقها عقائدياً فهي صراع حق وباطل صراع النصرانية والإسلام، وكل ما يحاك في عالم الناس اليوم من مواجهات ومخططات إنما مبعثه صراع العقائد وإنما مبعثه تكالب القوى ضد الإسلام والمسلمين، وكل ما يقال غير هذا، إنما هو محض افتراء وتلبيس على الناس، وشواهد ذلك كثيرة، وربما يأتي ذكر بعضها.
هذه نداءات من بعض زعماء النصارى من أيام الحروب الصليبية تبين لنا كيف كان توجههم وبأي شيء كانوا يدفعون ويندفعون، هذا أحد كبار ملوكهم وقساوستهم ينادي بهم فيقول: "وإلى رجال الدين والدنيا تحية وسلاماً" ويخاطب أحد الملوك "أيها السيد العظيم حامي العقيدة المسيحية أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه التهديد لفرق وجماعات من المسلمين للأمة المسيحية"، ثم يؤكد هذا فيقول: "لذا استحلفك بمحبة الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق يد العون والمساعدة، وذلك بتقديم جميع الجنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنى لهم جمعهم من بلادك" وهذا أحد الباباوات ينادي مرة أخرى مثيراً نار حقد الصليبية ضد الإسلام والمسلمين فيقول: "يا شعب الفرنجة يا شعب الله المختار لقد جاءت من تخوم فلسطين ومن مدينة القسطنطينبة أنباء محزنة تعلن أن جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد(1/1814)
المسيحيين يقصد به جيوش الإسلام والمسلمين، التي كانت قد فتحت تلك الديار يقول وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب والحرائق ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشد التعذيب، وهم يهدمون المذابح والكنائس؟ بعد أن يدنسوها برجسهم".
ويقول لينبه على المكامن التي تحرك الأمم أول مكمن هو مكمن العقيدة، هو الذي يحرك لا تصدقوا أن شيئاً غير ذلك يمكن أن يكون هو المحرك.
2-إثارة ثم إرساء الروابط التاريخية بين الكفار:
ثم يربط برباط آخر مهم وهو الرباط التاريخي الذي نستدعيه اليوم "ألا أن يكون من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وغيره وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتكم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس" فإذاً الربط بالقدوات وبالأمجاد وبالوقائع التاريخية التي تحقق فيها نصر الإيمان على الكفر.
3-رص الصفوف والقضاء على الخلافات بدون تجاوزها:
فيقول: "طهروا قلوبكم من أدران الحقد واقضوا على ما بينكم من نزاع واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، وهذا معلم مهم أن تترك النزاعات والخلافات الداخلية، وأن توجه نحو العدو الحقيقي وأن توجه نحو العدو الحقيقي وأن توجه نحو كل ما يستهدف الأمة ليس في فروع عارضة وليس في مشكلات بسيطة، وإنما يستهدفها في أساسها من دينها، ومن شخصيتها ومن مقوماتها المادية والمعنوية بشكل عام، ولذلك هذه أحد هذه المعالم.
4-تيئيس الأمة من الاتحاد والإصلاح:
أيضاً من كلام المسيحيين في تلك الفترة حينما كانت مكاتباتهم بينهم وبين المسلمين، أيضاً كانت نوعاً من الحرب النفسية والعقائدية، كان أحد ملوك المسلمين وهو من الملوك الصالحين وكان اسمه مودود وهو من ملوك الهند، وكان قد عزم على منازلة الفرنج وكان له معهم جولات كثيرة، ثم في يوم العيد دبرت له مكيدة واغتيل وقتل فأرسل زعيم النصارى وملكهم إلى من جاء بعده ماذا يقول له، تأملوا في هذه العبارة يقول " إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها " والحق ما شهدته به الأعداء وهذا ليس على الاسترسال. هذا اغتيل في داخل المسجد في يوم العيد، فإذا كل خلاف في الداخل إنما هو فت في العضد، لا يهيء الأمة أن تواجه الخطر، وأن تكون قوية على أعدائها، وهذا أيضاً من الأمور الواضحة المهمة.
معالم استنصار المسلمين على الكفار:
ونأخذ جانباً آخر وهو جانب الروح الإسلامية التي تهيأت وبدأت تتكون في تلك الفترة لمواجهة المسيحية وللمعركة الفاصلة التي حرر بها صلاح الدين رحمة الله عليه بيت المقدس، كانت تلك الوقعة(1/1815)
في عام 491 هـ كانت وقعة دخل بها النصارى إلى بيت المقدس، وقتلوا نحواً من سبعين ألف نفس، حتى بلغت الدماء إلى الركب ودلغت فيها الخيول، وما تركوا أحداً إلا أجهزوا عليه، ثم بقيت مملكتهم على نزاع بينهم وبين المسلمين فترة من الزمن حتى بدأت ملامح التغيير على يد صلاح الدين الأيوبي.
وإن كنا قد أشرنا في مرة سابقة إلى موجز في رد سؤال ينبغي أن نؤكده مرة أخرى وهو أن نصر الله - سبحانه وتعالى - لصلاح الدين الأيوبي لم يكن هو فقط في هذه المعركة على هذه الصورة الظاهرة، وإنما ما بعده وما قبله من الإعداد، وقد عمل صلاح الدين في ثلاثة محاور ومن أهم المحاور التي تهيأ الأمة للنصر..
المعالم المقدسية:
المعلم الأول: محاربة الفساد والمنكرات والمعاصي:
أنه حارب الفساد والمنكرات والمعاصي التي كان يجهر بها فأغلق الخمارات والحانات ومنع من استعلان الناس بالفجور والفسق، وحارب المنكرات حرباً شعواء لأنه لا يمكن لأمة تعلن حربها على الله أن تنتصر على أعداء الله - سبحانه وتعالى -، لأنها بذلك هي في نوع من العداء مع الله تستوي بذلك مع أعداء الله - سبحانه وتعالى -، ولذلك كانت كلمات أهل الإيمان وقواد المسلمين وخلفائهم تنبه المسلمين على أن أعظم أسباب هزيمتهم، إنما هي مخالفتكم لأمر الله - سبحانه وتعالى -، بقدر ما يعظم ويكثر فيكم من الآثام والمعاصي، بقدر ما تكون الهزيمة وشيكة الوقوع.
ولذلك لما استعصى النصر على بعض جيوش الإسلام في عهد عمر - رضي الله عنه -، كتب إليهم أنكم لا تنصرون بقوتكم ولا عتادكم وإنما تنصرون بطاعتكم لله فإذا عصيتم الله - جل وعلا - استويتم وأعدائكم في معصية، فغلبوكم بقوة عتادهم، فانظروا ما أحدثم فإنه جدير إن أصلحتموه أن تنصروا، هذا هو المكمن فأول عامل أن وطد لهذه المرحلة المهمة.
المعلم الثاني: إحياء الروح العلمية الشرعية:
ليزيل ما تسرب إلى العقائد من انحراف وإلى ما دخل في الفكر من ترف وجدال ومناظرات وما دخل إلى العلم من خرافات وشعوذات وما ضرب به الجهل على الناس، فكان من أعظم أعماله أنه أقام المدارس وأوقف الأوقاف عليها ونصب لها العلماء الذين يحيون في الأمة معالم الإسلام وعزة الإسلام ويبصرونها بأسباب النصر والهزيمة ويكونون أحد العوامل المحركة والمحرضة لوجود النصر في الأمة، كما يأتي ذكر الوقائع والأحداث.
المعلم الثالث: تجميع الأمة وتوحيد الصف:
ومن ذلك أنه عمل جاهداً على تجميع الأمة وتوحيد الصف فلا يمكن لأمة ان تواجه خصماً وهي مفككة الأوصال، يدها في جهة والأخرى في جهة وقدمها في جهة وتلك في جهة فلا يمكن أن تتقدم(1/1816)
هذه وأن تكون وثابة إلى الأمام، فلذلك سعى إلى أن يضم البلاد واحدة تلو أخرى تحت إمرته، ولما رأى الناس منه إخلاص وصدق تجمعوا خلفه فحينما تقدم حينئذ فضلاً عن صلاح سيرت وصلاح من حوله حينما رأوهم يستنزلون النصر بالدعاء والابتهال مع ظهور فهم حقيقي للدين، لما تهيأت هذا الأمر خاض صلاح الدين المعركة فكتب الله له النصر، وذلك لأن الأسباب تحققت وسنة الله وقعت وتكررت مرة أخرى، وكلما توفرت وتهيأت أسباب النصر وتحققت وفق سنته - جل وعلا -، فليس هي المعركة الأخيرة التي جاءت بهذا النصر، رغم أنها كانت معركة حامية الوطيس وشديدة الوقع، ووجد المسلمون عناء شديد ومقاومة عنيفة، لكن كانت الأسباب مهيأة ونصر الله - سبحانه وتعالى - تنزل بعدها.
المعلم الرابع: التحفيز على الجهاد:
ونقف هنا مع لمحة من رسائل ووثائق فيها بيان هذه الأسباب التي تهيأت والتي تحقق النصر، وهي رسالة من صلاح الدين الأيوبي إلى الملك المظفر ملك مصر، يقول فيها (وقد كاتبت أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعاءهم وأن يحزموا بجميع العساكر أوامرهم لأمرائهم-فماذا كان لما تهيأت الأمة-فما منهم إلا من سابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء ويعشق ولا عشق الأحبة لقاء الأعداء، -تأملوا قوله ويعشق ولا عشق الأحبة يعني أنه يعشق ويتوق للقاء الأعداء كما يتوق العاشق إلى لقاء معشوقه-وهم الآن ينتظرون شتات شمل الشتاء وإذا رأوا آذار مقبلا أقبلوا، وإنهم منذ شاهدوا برع (...) احتلفوا وأجمعوا أمرهم قبل الاجتماع بأمرنا فعلوا بما فعلوا، والله - عز وجل - يمد الإسلام بفتوح تفوح أرجائها بأريج النصر و (... ) للمجاهد في سبيله ما وعدهم من درك الفوز) وهذه الرسالة تبين لنا ما قام به من عمل، وتتضح من الرسالة الروح التي كانت تدب في أوصال الأمة.
المعلم الخامس: المرجعية المثبتة:
وحينما كتب المظفر ملك حماة كتب إلى صلاح الدين في أمر يستشيره فيه وهو أن النصارى بنوا حصنا قريباً منه بدأ تهديد، وأرسل إليهم طلب هذه، فطلبوا دفع نفقات إنشائه فدفع مئة ألف دينار ثم داخلهم الطمع فطلبوا أكثر من ذلك، نوع من الضغط فأرسل إلى صلاح الدين فكان جوابه (إن هذا الرأي الذي أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله - تعالى -يسألك عن إعطائهم هذا المال-لأعداء الله-وإنك قادر على المسير إليهم والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، وتسير بعساكرك وتنزل عليهم والله في معونتك ونصرك) فإذاً كان صلاح الدين مرجعاً لمن حوله من الأمراء والملوك لما رأوا تقدمه، وكان هو ثابتاً في نهج الإيمان وراسخاً في اليقين ولا يعطي الدنية في دينه، ولا يساوم في دينه مهما كانت الظروف التي أحاطت به، لأنه يلتمس العزة من الله - سبحانه وتعالى - وكذلك أيضاً نجد الروح الإسلامية التي كانت من قبل ومن بعد.(1/1817)
المعلم السادس: الفرح بالتقديس عن رجز التثليث بعد حصول النصر:
ولذلك لما نصرهم الله-كيف حالهم هذه كانت حالهم في ثبات على النهج وتحركهم ببسم الله، ولما كتب الله النصر لهم كانوا على منهج الله أقوى وأثبت مما كانوا من قبل، فهم في حال أوج النصر ونشوة فرحه كانوا على ذكر الله - عز وجل - وشكره - سبحانه وتعالى -، وعلى معرفة راسخة من أن النصر لم يكن سبباً لقوتهم وتدبير وكيدهم وخططهم.
وهذا يتضح من رد صلاح الدين الأيوبي على رسالة القاضي الفاضل والذي كان أحد سواعد صلاح الدين وممن يعتمد عليه ومن خيار قضاة المسلمين، والذي أرسل إلى صلاح الدين تهنأة للنصر في معركة حطين لأنه لم يكن حضر المعركة مع صلاح الدين، وقد كان رده على تهنأته يبين لنا حال المسلمين بعد حصول النصر لهم (المملوك هذه الخدمة والرؤوس لم ترفع إلى الآن من السجود شكراً والدموع لم تمسح من خدودها وكلما فكر الخادم يقصد نفسه صلاح الدين-كلما فكر أن البيع-الكنائس-تعود وهي مساجد والمكان الذي يقال فيه إن الله ثالث ثلاثة ينادى فيه أنه واحد، جدد الله له شكراً تارة يفيض من لسانه وتارة يفيض من جفنه وجزاء يوسف خيراً من إخراج سجنه) بين أن صورة الأمة في ذلك إنما كانت محض شكر بالعبادة والذلة والسجود وإفاضة الدمع، بما فتح اللهم بذلك، فما فرطوا مزهوين بالنصر بل فرحوا أن البِيَع التي كانت تعلن فيها شرك النصارى بتثليثهم وشركهم ورجسهم، عادت يرفع فيها اسم الله موحداً ومنزهاً من كل شرك.
ولعل الحديث بإيجازه لا يغني عن التفصيلات ربما يرجع إليها في وصف ذلك اليوم المشهود والخطبة التي خطبت في أول جمعة في بيت المقدس، وما فيها من عظيم المنهج الإسلامي الإيماني الجدير بأن يلفت أنظار المسلمين حينما يقرأون تاريخهم، وأيضاً في رسالة أخرى يبين لنا ماذا كانت نظرة المسلمين في معركتهم، ولأي شيء يشكرون هذا النصر، هل لأنهم عادت إليهم ديارهم أو لقوا أزواجهم او انهم كسبوا اموالهم، كلا ما من شيء من ذلك، إنما كان قولهم (وعاد الإسلام إلى البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع بنيانه التقوى على تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه وبطل بنص النصر قياس تأسيسه، وفتح الله باب الرحمة لأهلها، ودخلت قبة الصخرة لفضلها) هذا وصف التغير من النصرانية إلى الإسلام، ثم وصف الناس قال (ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفضاء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث وذكر الدروس وجليت هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصخرة المقدسة جلوة العروس وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهار صومها بالتسبيح وليل فطرها بالتراويح)..
المعلم السابع: الربط بمعالم القدوات التاريخية:
إذاً تأمل كيف حال الناس لنعلم بأي شيء كان هذا النصر التي كتبه الله - سبحانه وتعالى - وتنزل عليهم، وأيضاً نؤكد ما سبق أن ذكرناه من ربط الأمة بتاريخها، وهو الذي قام به صلاح الدين(1/1818)
وشهد له به مما يظهر في الرسائل التي بعثت إليه وهذه أحدها (جددتم للإسلام أيام القادسية والملامح اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الجزاء وشكر لكم ما بذلتموه من الدماء وأثابكم الجنة فهي دار السعداء-ماذا بعد ذلك-فاقدروا رحمكم الله لهذه النعمة حق قدرها وقوموا لله - جل وعلا - بواجب شكرها-فله المنة عليكم بتخصيصكم لهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة فهذا الفتح الذي فتحت له أبواب السماء وانبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون، وأقر به عينا الأنبياء والمرسلون).
لذا كان النهج الربط بهذا التاريخ الإسلامي وأن القضية أنها مرحلة لشيء مر وسبق، والتذكير التي كان يأتي لصلاح الدين في مراسلاته مع العلماء كثير جداً.
دور العلماء وأهل العلم:
ثم نؤكد الجانب الذي أشرنا إليه وهو دور العلماء والتنبيه على العلة التي فيها الهزيمة ومن تلك النماذج رسالة أيضاً القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له (إنما أوتينا من قبل أنفسنا ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل ما لا نقدر عليه إلا به) وتأمل هذه العبارة ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره، كما قال الله - سبحانه وتعالى - في قصة بني إسرائيل (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) مجرد أن تقوم بالأمر وفق أمر الله يهيأ لكم الله - سبحانه وتعالى -، وهزي إليك بجذع النخلة امرأة في حال المخاض والتعب تهز جذع النخلة ماذا كانت النتيجة تساقط عليك رطبا جنياً ما تحركت النخلة ولا اهتزت ولكن استجابة لأمر الله وعلمه بصدق عبده ومولاه وحاجته وضره ينزل عليه النصر ويفتح له أبواب السماء ويفتح له خزائن الأرض ولذلك قال " ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله ولا يرجو إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلان، وكل هذا مَشاغلٌ عن الله ليس النصر بها وإنما النصر من عند الله ولا نأمل أن يكلنا الله إليها والنصر به والوقت منه وأستغفر الله من ذنوبنا فلو أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل وفيض دموع الخاشعين قد غسل ولكن في الطريق عائد خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق) أي اختار له الخير. فتأمل حينما يكون علماء الأمة مع أمرائهم على هذا الصورة كيف تحيا القلوب وكيف تتهيأ النفوس وكيف يأتي النصر نتيجة طبيعية لتحقيق سنة الله - سبحانه وتعالى -.
ومن ذلك أيضاً مما كتب إليه يقول (إن الله - سبحانه وتعالى - لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه والامتثال لشريعته والمعاصي في كل مكان بادية والمظالم في كل موضع فاشية فإذاً هي عائق النصر فليرجع إليه وليصور؟ حتى يكون ذلك من أسباب النصر.
قطرات العُصارة:(1/1819)
ثم أيضاً الروح التي نشأت عن هذه المعالم حينما أبطلت المنكرات حينما أحيي العلم حينما تأمل الناس في منهج الإسلام وعرفوا أين يكون الخطأ وأين يكون الصواب ومن يقدم ومن يؤخر وفق منهج الله جاءت الروح فماذا كان.
حصار عكا حوصر أهل عكا حصاراً شديداً وصلاح الدين من ورائهم لم يأتهم من بعد، وذلك ليسلموا للنصارى، وكان صلاح الدين يرأف بالمسلمين ويخشى عليهم وكان ربما ينازعه الأمر ما يصنع لهم فكان تأتيه الرسائل سرية من المحاصرين في الداخل الذين منعوا أقواتهم ومنعوا مياههم والسيوف مشرعة لقتالهم، يقولون له أهل عكا (إنا قد تبايعنا على الموت ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل ولا نسلم هذا البلد ونحن نحيا فأبصروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا ودفعهم لقتالنا فهذه عزائمنا وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو أو تلينوا له فأما نحن فقد فات أمرنا) المحاصرون يخاطبون من في الخارج اثبتوا ولا تلينوا للعدو فنحن قد انتهى أمرنا وعزمنا الأمر على الموت وأن لا نسلم وفي أحدنا عرق ينبض، ويذكرنا قولهم بموقف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لما جاء بعض الأنصار إلى رجل منهم ويتفقدونه في أمر الرسول فقال لهم ليس فيكم خير قط إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف أن يجعلوا أموالهم ودمائهم وأنفسهم فداء لهذا الدين ولحرمات هذا الدين، وللدفاع عن أهل هذا الدين، ومن ذلك قولهم يقولون له (لا تخضع لهؤلاء الملاعين الذين قد أبوا عليك الإجابة إلى ما دعوتهم فينا فإنا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا وبالله المستعان).
ولما جاء هذه الصور جاءت صور الهزيمة في الصف المقابل من غير معارك لما كتب الله النصر للأمة في هذه الأسباب انظروا بعض نماذج العزة للمؤمنين والذلة للكافرين حينما تتحقق هذه الأسباب، أحد ملوك النصارى وهو ملك الأنجليز يستجدي صلاح الدين إذا ما صار الصلح في هذه المدة يحتاج أن يشتي هنا يعني يبقى الشتاء ولا يرجع إلى بلاده لأنه سينقطع به في الطريق فماذا كان جواب صلاح الدين، جواب جميل جداً والكلام كان عن مدينة عسقلان والمفاوضات حولها، يقول " أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه، وأما تشتيته في هذه البلاد فلا بد منه يشتي يجلس ما شاء الله له أن يجلس لأنه قد استولى على هذه البلاد ويعلم أنه متى غاب عنها أخذناها بالضرورة، فإذا قام أيضاً إن شاء الله-يعني إذا راح سنأخذها وإذا قام أيضاً إن شاء الله-يقول لأنه قد استولى على هذه البلاد ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة وإذا قام أيضاً إن شاء الله ستؤخذ وإذا سهل عليه أن يشتي ها هنا ويبعد عن وطنه وأهله مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته يقول إذا هو صعب عليه ما يسهل عليه أن يشتي وأصيِّف وأشتِّي وأصيف وأنا في وسط بلادي وعندي أولادي وأهلي ويأتي إليّ ما أريد ومن أريد وأنا رجل شيخ قد كرهت لذات الدنيا، وشبعت منها ورفضتها عن (... ) العسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العسكر الذي يكون عندي في الصيف، وأنا أعتقد في(1/1820)
أعظم العبادات مرابط في سبيل الله ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء، فإذاً هنا مكمن الصورة التي ينبغي أن نقف عليها حينما نحلل التاريخ، وليس فقط نقرأ التاريخ.
ثانياً: سقوط بغداد:
في عام 656 هـ وأنا أنقل نصاً يشمل جملة من الأسباب المهمة في هزيمة المسلمين حينما تحل بهم. وهذا النص من البداية والنهاية لابن كثير فيما ذكر عن الأحداث التي حدثت في عام 656 هـ
معالم هزيمة البغاددة:
المعلم الأول: ولاية الخائف للكافرين:
يقول ابن كثير (جاء هولاكو على مقدمة جيش التتار ثم ماذا وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل، من هو صاحب الموصل، مسلم يساعدونهم على البغاددة ومعه ميرته وهداياه وتحفه كل ذلك خوفاً على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبحهم الله - جل وعلا -، انظر موقف أصحاب عكا وهم محاصرون، وهذا يخشى من التتار فيأتيهم بهداياه وبعض جيشه ليكونوا عوناً على قتال المسلمين، فإذاً أول علة هي تلك الفرقة التي تجعل بعض المسلمين عوناً لأعداء الله على المسلمين وعلى حرمات المسلمين.
المعلم الثاني: السهم الناطق على الوالي الضائع:
في صورة النص يقول "وأحاطت التتار بدار الخلافة يعني دخلوا بغداد وصلوا قريباً من دار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حضاياه وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، الجيوش من شهور، وهي مرابطة والمعارك محتدمة ويحاط قصر الخليفة ويضرب بالنبال حتى يصيب السهم جارية تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، إذاً أيضاً معلماً من معالم الهزيمة وهي تخلي ولاة الأمر عن دورهم وفرضهم الذي فرض الله - سبحانه وتعالى - عليهم، ويذكر ابن كثير يقول " فنزع السهم الذي أصابها بين يديه فإذا مكتوب عليه " إذا أراد الله إنفاذ قضاءه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم" فأمر الخليفة حين ذلك بالاحتراز وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هولاكو في نحو مئتي ألف مقاتل في اليوم الثاني عشر من شهر محرم.
المعلم الثالث: فلاح مندس:
الأعداء المندسين في داخل المسلمين في داخل الصفوف الذين حينما غاب النهج الإسلامي لم يقال أنهم أعداء ولم يُظهر أمرهم، ولم يبين أنه مهما كان حالهم ينتظرون الفرصة ليوقعوا بالإسلام والمسلمين، فمن كان له الدور البارز في هذه الوقعة، إنه الوزير الرافضي الخبيث الشيعي ابن العلقمي، يقول ابن كثير وهذا هو الذي أشار به الوزير مؤيد الدين محمد ابن العلقمي على الخليفة أشار إليه(1/1821)
بأن يبعث أى هولاكو بهدايا، ليكون له ذلك مداراة عن ما يريده، ثم بعد ذلك كان هو الرسول الذي ذهب إليه واتفق معه على المسلمين.
المعلم الرابع: خيبة المدسوسين:
ثم أيضاً نأتي إلى سبب آخر مهم جداً يقول فيه ابن كثير " ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكاثرة -أي هولاكو-ممن لا يؤمن بالله واليوم الآخر فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية أين كان جيش المسلمين في حاضرة الخلافة الإسلامية يقول ابن كثير " وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم بقية الجيش لهم كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم-سرحوا من الجيش لا يوجد رواتب-حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وعند أبواب المساجد، الجنود جنود الجيش صرفوا وسرحو وما عاد لهم مصدر دخل وصار يطلبون من الناس العون في الأسواق وعند أبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير الرافضي ابن العلقمي.
المعلم الخامس: حذر الأعداء وامتهان الخائبين:
ثم أيضاً موقف آخر أو سبب ظاهر آخر قال ابن كثير (خرج الخليفة هو وأهله وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه أيضاً هذه إشارات ثم وصف ما أنتهب من دار الخلافة فقال فأحضر من دار الخلافة الشيء الكثير من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وكل ذلك من مشورة كما يقول أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين أشاروا به على هولاكو (...) أن لا يصالح الخليفة. ثم تكملة القصة أنه أشاروا عليه بقتل الخليفة، هولاكو تهيب لفعل هذا الأمر لأن هذا هو خليفة المسلمين مهما كان له ناس وله أنصار وكذا فتهيبوا أن يقتله فهونوا عليه قتله، أي هؤلاء المندسين من الرافضين الخبثاء، وهم خافوا إذا قتلوه يكون دمه مؤجج للثأر، فماذا صنعوا جعلوه في شوال ثم رفسوه ومات رفساً أو خنقاً حتى يقع شيء من دمه، خوفاً أن يطالب بثأره.
المعلم السادس: الهجوم الكاسح والهروب البارد:
ثم صور ابن كثير الصورة التي هي ليست صورة هزيمة عسكرية بل هي صورة هزيمة نفسية كامنة ماذا يقول "وكان جماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم أبوابها فتفتحها عليهم التتار إما بالكسر وإما بحرقها ثم يدخلون عليهم، فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن إلتجأ إليهم إلى دار الوزير ابن العلقمي" فتأمل هذا النص حتى تعلم كيف يكون تواطئ الأعداء مهما ظهرت الصورة مناقضة لذلك.
المعلم السابع: استهداف بقيِّة المرسوم الديني:(1/1822)
ثم من الذين كانوا موضع القتل قال "وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمع مدة شهور في بغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد، ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة كبيرة ينشرون علمهم وعلمهم عليها فلم يقدره الله على ذلك بل أزال نعمته وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة وأتبعه بولده فاجتمع" يقول ابن كثير وهذا نص جميل "فاجتمعا -والله أعلم -بالدرك الأسفل من النار ".
إذن هذه الوقفات فيها ومضات كيف كان حال المسلمين في ذلك الوقت جيوشهم مضعضعة بل ليست موجودة بل هي في غاية الذلة والهوان، ولاتهم منشغلون بالترف والثراء وباللعب والضحك المندسون في صفوفهم يعيثون فساداً، وليس هناك من يشير إليهم ولا يتكلم عنهم، فإذاً هذه كانت الصورة التي وقعت بها هزيمة المسلمين في سقوط بغداد، لكن قدر الله لهؤلاء التتار كسرة وهزيمة عنيفة وشديدة بعد سنتين اثنتين فحسب، كان على يد المظفر قطز، وكانت على يد الظاهر بيبرس القائد العسكري.
ماذا كانت الصورة أيضاً ننقل من البداية والنهاية من إبن كثير في شكل موجز كانوا قد دخلوا أي التتار إلى بلاد الشام وأعطوا الأمان لأهلها ثم غدروا بهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال وجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة، إذن هذه هي الصورة كافية أن تثير الرعب في المسلمين سينازلون التتار في الجولة القادمة، ولكن أيضاً كانت هناك ملامح النصر حينما بدأت المسلمون ينظمون صفوفهم.
وقبل ذلك أيضاً نلاحظ المعونات التي كانت في دخول التتار في دمشق كيف كان وهو أحد المراحل قبل وقوع معركة عين جالوت، قال (كان من ضمن الناس الأمير الذي جعل على دمشق من قبل التتار يقول عنه ابن كثير كان لعنه الله معظماً لدين النصارى فاجتمع به أساقفتهم وقساوسهم فعظمهم جداً وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسببه وذهب طائفة من النصارى وأخذوا إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحف وقدموا من عنده ومعه أمان فرمان من جهته" إذن هم الأعداء في كل وقت وحين، "ودخلوا ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوسهم، وينادون بشعارهم ويقولون ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون بباب مسجد إلا ورشوا فيها خمراً، وقمائم ملآنة يرشون بها على رؤوس الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون بهم في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، ودخلوا من درب الحجر فوقفوا عند رباط الشيخ ابي البيان ورشوا عنده خمرا، وكذلك على باب مسجد إلخ ثم قال دخلوا إلى الجوامع بخمر وكانت نيتهم إن طالت مدة التتار ان يخربوا من المساجد وغيرها"..(1/1823)
إذن ينتهزون الفرصة ليظهروا عداءهم لما تمسكنوا حتى تمكنوا، وهذه وقعة عين جالوت أصلاً كانت في العشر الأخيرة من رمضان، فتأمل فتوح الإيمان والعبادة والتقوى التي تكون في هذه الفترة، ثم يقول "عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر لكنه ما فعل"، والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما صنع التتار بأهل الشام هذا العنف الساحق الرهيب العجيب في تاريخ البشرية مما وقع التتار في الشام، ماذا صنع "لما بلغه ما حصل بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى الديار المصرية بعد تمهيد ملكهم في الشام إذا وطدوا أمرهم أن يسيروا إليه".
"ماذا فعل بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه لم تكن هناك فرقة في الصفوف ولا خيانة حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار هولاكو أصحابه فأشاروا عليه أنه لا قبل لهم بالمسلمين ولكنه أراد المقابلة، فكانت الوقعة بالخامس والعشرين من شهر رمضان، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول وجماعة من بيته وأتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع حتى بلغوا بهم إلى الشام وبلغوا وراءهم إلى حلب، حتى هرب من بدمشق يوم الأحد في السابع والعشرين من رمضان فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم".
"وجاءت بذلك بشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه وأيد الله الإسلام وأهله تأييداً وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمين إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها، وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً كان مصانعاً للتتار على أموال الناس يقال له الفخر بن محمد بن يوسف بن محمد الكنجي كان خبيث الطوية مشرقياً ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
إذن هذه الصورة من الصور لننظر إلى سيرة الملك الظاهر بيبرس الذي كان هو قائد المعركة، يقول ابن كثير عنه "كان رجلاً صالحاً كثير الصلاة في الجماعة ولا يتعاطى المسكر ولا شيء مما يتعاطاه الملوك وكانت مدة ملكه إلى هذه المدة يعني مدة ملكه قصيرة" ومع ذلك بصلاحه عرف أحد هذه الأسباب، فحينما يتأمل الإنسان أعتقد أن الصور كثيرة في هذا الباب.
ثالثاً: وقعة شقحب
فيما بعد العام السبعمائة كانت هناك التمهيد ثم وقعت المعركة بعد ذلك أيضاً نلمح الدور للعلماء في إحياء الأمة وإحياء دينها وإحياء علمها، يقول ابن كثير رحمة الله عليه في هذه الواقعة كان التتار لا زالت لهم صولات وجولات يعني لم يدحروا نهائياً، وكان لهم فتنة وراجعوا مرة أخرى ليدخلوا إلى الشام وإلى مصر مرة أخرى، فماذا يقول قال وجلس "الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال" كان الناس يفرون بدأ الرعب من قدوم التتار "وحرض(1/1824)
الناس على القتال وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ونهى عن الإسراع في الفرار ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم وأن ما ينفق في أجرة الهرب لو أنفق في سبيل الله كان خيراً " تجهز الأموال والطعام لتهرب اجعل هذه في سبيل الله يكون في ذلك لك خيراً . "وأوجب جهاد التتار حتماً في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ليعينهم".
"ثم جاء ملك الشام وطلب من ابن تيمية أن يذهب إلى مصر ليحرض أميرها وملكها " انظر دور العلماء، ليذهب إلى مصر ليحرض أميرها وملكها "أن يأتي لأنهم كانوا قد خرجوا ثم رجعوا وترددوا فذهب إلى هناك وقال لملك مصر إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن وكان تابع لهم الشام، ولم يزل بهم يحرضهم حتى جردت العساكر إلى الشام" ثم قال لهم "لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهلها وجب عليكم النصر فكيف وانتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم وقوي جأشهم وضمن لهم النصر في هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام فلما وصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحاً شديداً، إلى آخر ما كان من دوره".
ثم كانت صورة من صور داخل المجتمع، نحن قلنا في بغداد كان الناس مندسين والأشقياء ظاهرين ويأخذون المناصب والمواقع، هنا في هذه السنة وقبل أن تحتدم المعارك ماذا حصل، حصل أنه كان قتل في اليوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قتل الفتح بن احمد الثقفي بالديار المصرية وحكم عليه القاضي زين الدين ابن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات ومعارضته المشتبهات بعضها ببعض، ويذكر أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغيره، ولذلك أقاموا عليه الحد وقتل، إذن ما كانت هناك تلك الصورة كانت التهيئة مختلفة عن هذه الصورة.
ومن هنا طبعاً تكلم ابن تيمية في الجيوش وشجعهم وأقسم لهم بالنصر يقيناً وعقيدة لما رأى من بشائره وكان هذا أحد التهيئات لهذا النصر. آخر وقفة مع الصورة التي كانت في أثناء وقعة شقحب وهي صدق التجاء الناس إلى الله، فيقول "أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، ثم ماذا فابتهلوا إلى الله - عز وجل - بالدعاء في المساجد والبلد وطلع النساء والأطفال على الأسطحة وكشفوا رؤوسهم وضج المسلمين ضجة عظيمة أي بالدعاء ووقع في ذلك الوقت مطر غزير ثم سكن الناس، وهذه بشائر النصر ودلائله".
في بدر دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل المطر هذه حينما تصدق النوايا، فإذاً استعرضنا من الصور إنما كان دليلاً على أن القضية ليست هي في الهزيمة الظاهرة العسكرية وأن الهزائم التي وقعت كانت علتها ظاهرة في أسباب واضحة من التخلي عن منهج الله والوقوع في معاصي الله والتمكين(1/1825)
لأعداء الله والانصراف عن إعداد الجيوش في الجهاد في سبيل الله، وكذلك الصور التي مرت بنا تبين هذا، وبالمقابل الصور التي أشرنا إليها أن تحرك معاكساً من خلال جهد العلماء وصلاح الأمراء وتهيأة الأسباب يفضي بإذن الله - سبحانه وتعالى - إلى نصر سريع.
ظلال الهزيمة وبشائر النصر
هذه جولات تاريخية لعلنا نقول إننا انتهينا من شطر الموضوع ولكن مع ذلك سنركز على الصورة المعاصرة، ظلال الهزيمة التي تظلل المسلمين وبشائر النصر التي نرجو أن تكون إن شاء الله مقدمات قد بدت وظهرت.
الأمة المسلمة في بداية هذا القرن تعرضت للهجمة الاستعمارية الشرسة واحتلت بلادها وهزمت لكن قبل ذلك أيضا نوع من نفس الصورة التي كانت في كل موقع هزم فيه المسلمون، ضعف الإيمان واليقين انحرف الناس في عقائدهم قعدت بهمم الناس تصوفات منحرفة وزاغت بهم مجادلات نظرية، وانحصر العلم في جموع وتقليد محض وفي صفصفة وجدل ومسائل ليس لها صلة بالحياة ولا بالواقع، وانكمش دور العلماء إلى حد كبير وبدأت النظرة أي نظرة الانبهار بالغرب وحضارته تبهر العقول والقلوب وتسلب الأبصار، ثم بدأ يتسرب شيء من الشعور بالذلة والتبعية للغرب، ثم بدأ نوع من الاندفاع للتطبيق العملي في تقليد الغرب.
ثم بعد ذلك حصل انسياق وتمجيد للغرب وربط تقدمه بتركه للدين، وبدأت المقولات (...) وتتضح، ثم كان بعد ذلك رفض جزئي للإسلام نأخذ من الإسلام جانب ونترك جوانب المدنية للعقول والأفكار، ونتج بعد ذلك أن رفض الإسلام بالكلية في ديار الإسلام من بعض أبنائه وتول الناس شرقاً وغرباً، وكانت هذه مقدمات ظاهرة لهزيمة ماحقة لا تحتاج إلى بحث عن أسباب عسكرية أو قوى مادية أو نحو ذلك.
ولذلك وقفتنا عند استشفاف بعض هذه الصور الانهزامية التي ما يزال بعضها ينفث سمه على ضعف إن شاء الله فيه وعلى قلة إن شاء الله فيه لكن يبين لنا هذه الصورة، نريد أن نقف على بعض المقولات كما وقفنا على مقولات في ما كان بين المسلمين وبين النصارى في تلك الأعصر التاريخية لرأينا كيف كانت الروح والنفوس كذلك نرى كيف كان الأمر في بدايات هذا القرن مع وجود هذه الحضارة الغربية وافتتان الناس بها، نجد أن كثيراً من المفكرين أو المستنيرين أو الذين كانوا أصحاب كلمة في بيئاتهم كانوا قد أخذوا في التأثر والتغير.
طلائع المستغربين
ومن ذلك نأخذ بعض الأعلام وهم أعلام وإن كانوا ليسوا أعلاماً في ميزان الإسلام لأنهم خالفوا عن ضعف أو عن ضغط أو تصور واجتهاد خاطئ لكنهم كانت لهم كما يقولون آثار في بواكير النهضة سواء كانت نهضة علمية أو فكرية.(1/1826)
رفاعة الطهطاوي
وهو شيخ أزهري لما بعث محمد علي باشا أول بعثة للدراسة في فرنسا وكان هذا أحد آثار الإنهزام النفسي، بدأوا يشعرون أنهم تبع فبعث هذه البعثة أرسل معهم رجل أزهري لماذا؟ ليؤمهم في الصلاة ويعلمهم الدين ويحافظ عليهم، وهذا كان أساس مبعثه لكن الأضواء والأحوال بدأت تغير فيه على ما قد يظهر من كلامه أنّ فيه خيراً وأثر تعلمه الشرعي يظهر ويبدو أحياناً، لكن لنرى كيف كانت المقالات المكتوبة في مؤلفات القوم حتى نعلم كيف كان الضعف يسري شيئاً فشيئاً، من ذلك أنه يقول " إن أعظم تقدم الوطن في المنافع العمومية هو رخصة المعاملة مع أهالي الممالك الأجنبية واعتبارهم في الوطن كالأهلية" يعني التساهل في الممالك الأجنبية يقصد بهم النصارى والغربيين، واعتبارهم مواطنين يقول هذا أساس التقدم، إذن هناك ظهور إلى اختلال الثقة بالنفس والمنهج.
ويقول أيضاً "لا نحتاج إلى المواجهة، المملكة الضعيفة في هذا العهد مأمونة الدوام، يعني ممكن ان ندوم ما لم يحصل لها يعني بعض الأحوال إذا خرجت عن حدود (... ) فمحض القوة في إحدى ممالك هذه العصر لا يسوغ لها التغلب على غيرها بدون وجه" يعني يقول إنه الآن ما في قدرة على مواجهة الأعداء، ولذلك بدأ يُسقط مفهوم المواجهة وهو أحد المفاهيم الحضارية الإيمانية في الغالب.. إذا لم يكن عندك اليقين بأنك تخالف هذا وأنك ما عندك أنت به معتصم وبه معتقد وبه متشبث مهما كان هذا الحال هذه بدايات الهزيمة النفسية.
ومن هذا أيضا أنه بدأ من نوع التركيب، نركب الإسلام على حسب ما هو موجود في واقع الغرب فيقول "ومن زاول علم أصول الفقه وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد" ماذا يقول "جزم ان الاستنباطات العقلية التي وصلت إليها عقول أهالي الشعوب المتمدنة إليها هي نفسها وجعلوها أساساً لقوانين تمدنهم وأحكامهم يقول هذه قل ان تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الأصول الفقهية" يعني كأنه يقول حتى تتهيأ الأمة للتقبل فيقال إن هذه بضاعته ردت إليها، هذا التمدن إنما أخذوه من أصول الفقه ونأخذه نحن كما هو أو على أقل تقدير هو نسخة حديثة من أصولنا الإسلامية، ويتدرج الحال مرة أخرى.
ونجد أن بدأ الانسلاخ الجزئي من الأحكام الإسلامية من رجل أزهري يقول "ترتب الآن في المدن الإسلامية مجالس تجارية مختلطة لفصل الدعاوى بين الأهالي والأجانب بقوانين في الغالب أوروبية" مع أن هذا اثر له إيماني ما زال يعارض فيقول "مع ان المعاملات الفقهية لو انتظمت وجرى عليها العمل بما أخلت بالحقوق بتوقيفها على الوقت والحال، يقول هذا الذي وقع هو ينكره، كذلك أيضا يتدرج هو وغيره في هذه الاتجاهات، ولذلك هذه الصورة من الصور تبين لنا كيف كان بعض الناس كانت لهم كلمة مسموعة بهذه الأبواب يعني يكون واضحاً وأيضاً من مقالاته "فكل ما يمنعه الشرع صراحة أو ضمناً فغير مباح ولا يعد تمدناً" هذه بعض الملامح الأصيلة الباقية بخلاف المباحات إذا تصرف بها(1/1827)
العقل بالتصرفات التحسينية ومن بعد جاء على نهجه كثيرون جداً ويقولون بدأ هو يجعل أننا نرى ما في الغرب من حضارة ثم ندعمها بالآيات والأحاديث ونقول "هي موجودة يقول اقتطفها قوم من ثمار الكتب العربية اليانعة عن كلامه اقتطفته من ثمار الكتب العربية اليانعة واجتنيتها من مؤلفات الفرنساوية النافعة، مع ما سنح البال وأقبل على الخاطر أحسن إقبال"، إذن أخذ هذه الأفكار من هذه الخلطة ثم ماذا "وعززتها بالآيات البينات والأحاديث الصحيحة والدلائل المبينات".
إذن جاء بها أولاً ثم التمس الشواهد ليعضدها، ومن هنا كانت عدة وقفات لكثير من هؤلاء القوم ومنهم قاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم كان كلامهم في أول الأمر أن الإسلام يختلف عن النصرانية والغرب وبعد ذلك أن الغرب لا بد أن نأخذ منهم، ثم تهيأ الناس في هذا الجانب شيئاً فشيئاً، وبعد أن انسلخوا من ذاتيهم خرجوا إلى التماس الطريق وبدأوا في ما زرعه الأعداء كبدائل يراد للمسلمين أن يدخلوا فيها على أنها أمل للنصر.
فكان من ذلك أن النصارى والغربيون ما انتصروا وما تحضروا إلا بتركهم الدين جانباً عن أمور الدولة فجاءت نداءات العلمانية، التي عصفت بالأمة دهراً طويلاً، ثم بعد ذلك بزغت بذور القومية وصارت الناس بها ردحاً طويلاً يلتمسون من أبوابها فتحاً ومن خلالها نصراً، وخابت وخاب من دعا بدعوتها، وكذلك تشعبت بهم بعد ذلك موجة الاشتراكية وأرادوا بها أن تكون اشتراكا يشمل الناس ويشركهم في الأمر الواحد، وان تكون معلماً من معالم النضال كما يسمونه النضال الفكري والنضال العسكري، وخاضت الأمة في ذلك واستنفذت طاقات من جهود أبنائها ضلوا وانحرفوا بل خرجوا من الدين والملة وكفروا وساروا ردحاً من الزمن وسقطت هي بأيدي أصحابها، ومن بعد ذلك سار الناس مع البعث كأحد نتائج وثمار القومية المتميزة وساروا ردحاً طويلاً، وكب أصحابه على وجوههم فظهر للناس أن كل هذه المناهج وأن كل هذه الطرق والسبل لم تكن بحال من الأحوال إلا خدعة هيئها الأعداء.
مثل حينما يكون الإنسان نائماً نوماً عميقاً دهراً طويلاً، ثم يستيقظ ومازال في عقله غبش النوم وفي عقله أحلام الليلة أو أحلام النومة فإذا استيقظ أول من يقول له من هنا الطريق يمشي معه، ما زال ما استجمع قواه العقلية ولا ثبت أقدامه ولا رجع إلى ذاته، هكذا كانت حال المسلمين مع مفاجأتهم بالهجمة الشرسة وسقوط الخلافة العثمانية، استشراء الاستعمار والاحتلال الاستيلاء على الثروات والموارد، ظهور الحضارة الغربية، مع هذه الهجمة كلها تيقظ الناس أو بدؤا يريدون أن يتحركوا فكان ما زال هناك بقية النوم وأثر الركود والتخلف والعلمي والشرعي والحضاري الفكري الذي يجعلهم يستطيعون أن يواجهوا، فكانت هذه الفترة فترة خبط عشوائي لم يتميز فيها للناس أو بأكثرهم الطريق الصحيح، فخبطوا خبط عشواء ودخلوا في هذه الاتجاهات.(1/1828)
ومع ذلك كانت هناك وقفات وكان هناك لفتات وكانت هناك كتابات مبكرة تحذر من هذا الجانب أكثر تحذير، وكانت هناك سلسلة كما أن هناك سلسلة في جانب التخدير أو في جانب التمييع حصلت في ديار الإسلام، كذلك كان في الجانب الآخر من أوائل من كتب في التنبيه على هذه القضايا الأمير شكيب أرسلان الذي كتب سر وأسباب [لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم]، أراد أن يبين للناس منهجاً إسلامياً رغم كثرة ما كتب وما اقتنع به الناس خلاف هذا لكنه أراد أن يوضح هذا توضيحاً جلياً وكتب كتاباً نفيساً بين فيه أن الأسباب والعلل إنما هي مرتبطة بالمنهج الإيماني القرآني، الذي نعرف فيه أن التقدم من خلال ما أمر الله وان التخلف من خلال ترك ما أمر الله به، وذكر الأسباب من الجهل وفساد الأخلاق لا سيما أخلاق العلماء والأمراء وبين هذا كثيراً بياناً جلياً.
ثم جاء من بعد ذلك محب الدين الخطيب ومساعد اليافي وترجموا كتاب مقالات [الغارة على العالم الإسلامي] ليبينوا أن الهجمة حضارية إيمانية عقدية فكرية وليست عسكرية وإنما المستهدف إنما هو قناعات الناس ونفوسهم وما تحتويه عقولهم من أفكار ومبادئ، ولذلك كانت هناك سلسلة طويلة ومنها كان كتاب [شروط النهضة] لمالك بن نبي ومنها كتاب [ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين] [وإلى الإسلام من جديد] لأبي الحسن الندوي، وكان منها كتابات محمد محمد حسين رحمة الله عليه، الذي كتب [حصوننا مهددة من الداخل] والذي كتب عن الأدباء وأثرهم في الانحراف النفسي، ومنها كتابات المودودي رحمة الله عليه حينما ألف بعض الكتب منها [أسباب نهوض المسلمين]، وأيضاً تواصلت الكتابات تبين هذا الأمر وقوي زخمها حتى وصلت إلى أن تؤكِّد أصالة المنهج الإسلامي وبدأت القناعات بها، وهذه هي الفقرة التي نقف عليها لنكمل إن شاء الله بعد الأذان،...
وكان من أثر هذا الانهزام النفسي صور نعرض لها في صورة نقاط مركزة كانت تظهر لها مظاهر في جوانب شتى من هذه الجوانب الجانب الفكري وخاصة في الناحية التربوية التعليمية، وتجلت هذه المظاهر في صور نذكرها في النقاط التالية:
أولاً: عوامل تكريس الهزيمة في الجانب الفكري
1-محاصرة التعليم الديني مادياً ومعنوياً
أي للحيلولة بين الأمة وبين معرفة دينها وحقائقه ومقاييسه وموازينه، وهذا على مستوى العالم الإسلامي ظاهر جداً وقد مر بنا في حديثنا عن الحقيقة والوهم، كيف قلصت مناهج التعليم الدين في مصر وكيف اجتزئت الأشياء التي لها صلة بالدين.
2-ازدواجية التعليم
وجعل هناك تعليم ديني وتعليم مدني، حتى يكون هناك فراق وشقاق بين الفريقين كما كان ظاهراً في أوائل هذا القرن.
3-إهمال وإضعاف الجامعات الإسلامية العريقة(1/1829)
كالأزهر وجامعة القرويين وغيرها من الجوامع التي كانت منارات علم في الإسلام.
4-الابتعاث وكثرته إلى الخارج
في بعض الدوائر التي لا حاجة فيها ايضاً من هذه النواحي.
5-كثرة المدارس الأجنبية: وهي المدارس الغير الإسلامية في ديار المسلمين.
6-تمييع المناهج الإسلامية
بحيث يحذف منها الموضوعات المهمة التي لها ظهور وتميز المسلمين، مثل الجهاد ومثل الولاء والبراء ومثل الاستعلاء على الكافرين، ونحو ذلك مما كان مشهوداً معروفاً، حتى إن العلماء والأئمة في الزمن الماضي كانوا يلزمون أهل الذمة أن يلبسوا لباساً يتميزون به عن غيرهم ويخرج بذلك قرارات من السلطان فلهم عمائم معروفة بألوانها حتى لا يختلطوا ولا يميعوا بين الناس ولا يكون لهم الأثر السلبي الذي يقع كثيراً منهم.
7-إيجاد الاختلاط في جانب التعليم
حتى يبدد قوته وأثره، ويضعف الأمة في هذا الجانب.
8-تقوية اللهجات العامية على حساب اللغة العربية
وهو أمر ظاهر له آثاره السلبية في هزيمة الأمة وضعف صفها.
9-محاولة إخراج الدراسات اللغوية من الإسلام
فيقولون نتكلم في الأدب بمقاييس الأدب لا تدخل الدين في الأدب هذا أدب شعر أو هذه عواطف وهذه أساليب وأرادوا أن يخرجوا من هذا، وجاءوا بالمذاهب مثل الحداثة وغير الحداثة ويقولون في الأدب لا دخل للدين في الأدب، وهذه أيضاً أنواع من الإضعاف للأمة وتركيز معاني الهزيمة فيها.
10-الدراسات الأدبية الحديثة
وأنا أقصد به الأدب الشعبي والأدب الحر والأدب التي فرغ معاني القوة حتى في اللغة حتى في المعاني وفي المبادئ والأفكار والموضوعات التي تتناولها مثل هذه الموضوعات، تقرأ كلاماً تنفق فيه وقتاً وتحاول أن تجمع له خيوطاً من الأول والآخر ما تجد شيء، فهذه نوع من التفكيك والتفريغ حتى تبقى ذليلة في علمها وفي تميزها العلمي سواء كان علماً حضارياً أو حتى علماً شرعياً لأن هذه مداخل تفتت في الناس صورة الدين الحق فتجعلهم تختلط أفكارهم بحداثة وبانحلال مضمن في صور أدبية بشكل أو بآخر في رواية أو قصيدة أو نحو ذلك.
11-إضعاف دراسة التاريخ الإسلامي
ومر بنا في الحديث على تغيير المناهج كيف كان التركيز على تغيير المناهج في التاريخ الإسلامي على وجه الخصوص، أو على أقل تقدير إذا كان هناك دراسة للتاريخ فتكون دراسة شكلية، وقلنا أن المناهج الحديثة في مصر فيها سبعة أسطر عن تاريخ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كله وخمسة(1/1830)
أسطر عن عثمان بن عفان فتصور يتخرج من المدارسة الثانوية ولم يعلم عن عثمان إلا خمسة أسطر وعن عمر إلا سبعة أسطر.
وتحريف أيضاً في طريقة معالجة التاريخ وجعله صراعاً مادياً وجعله صوراً مختلفة عن المنهج الإسلامي أيضاً أحد المعالم لإضعاف الأمة وإبقاء صور الهزيمة في الناحية العلمية والحضارية.
ثانياً: عوامل تكريس الهزيمة في الجانب الإعلامي
الجانب الآخر في جوانب الفكر بعد الفكر التعليمي والتربوي الفكر الإعلامي وله أثر كبير في إضعاف الأمة وتكريس الهزيمة في نفوسها وعقولها ويظهر ذلك من خلال صور نوجزها في التالي:
1-التناقض بين الدين وواقع الإعلام:
فيأتيك برنامج فيه سؤال وجواب ويفتي الشيخ بحرمة الغناء وسؤال مثلاً عن كذا وبعد البرنامج مباشرة يأتي الغناء الذي حرمه الشيخ في الدرس الذي قبله، وهذا يجعل هناك الاضطراب والتعارض والاختلال في التصورات وحصول الضعف اليقيني في نفوس المسلمين.
2-ضياع الهوية الحقيقية للأمة:
تريد أن تخرج الذي يبث في ديار الإسلام فلا تجد بأنك عربي وقومي لا تجد، بأنك نصراني لا تجد، خليط من كل شيء لا يبقي أو لا يعطي للأمة توجه ولا أصالة في أي جانب من أي الجوانب لا في دينها ولا في لغتها ولا في فكرها ولا في حضارتها المادية أو العملية التي تعيش فيها، بل هو نوع من الخليط الذي يريد أن ينشأ كماً هائلا من الناس فارغ المحتوى والمضمون شكلاً ومضمون، ليس عنده شيء في هذه الحياة ويحاكي قولاً من قال "جئت لا أدري من أين أتيت وجدت طريقاً أمامي فمشيت" يعني كأنه دهري يقول ما قال المشركين أرض تدفع وأرض تبلع، ويبقى في الحياة بلا غاية بلا منهج بلا وضوح تصور. هذه صورة من صور تكريس الهزيمة.
3-غياب المنطق الإسلامي في التحليل الإعلامي:
فالأخبار والوقائع والأمور التي تجد لا ينظر إليها نظرة إسلامية وإنما بالعكس يؤتى بها مجردة، والأطم من ذلك أنها يؤتى بها ويدس معها التحليل والتعليل الذي يناقض الإسلام ويضعف صلة المسلمين به.
4-البرامج الهدامة التي تقتل معاني القوة وتزرع معاني الضعف:
التي تقتل معاني القوة وتزرع معاني الضعف فتجد سواء في البث الفكري سواء كان كلاماً أو مقالاً أو في الصورة التمثيلية أو الروائية أنها تهدف إلى الإخلاد إلى الراحة والعيش الحالم وبناء المستقبل هو أن تجمع أموال وأن تتزوج وان تعيش في هذا الجانب وهذا هي صراع الحياة وهذا هو الكفاح وهذا هو النضال وهذا هو النصر. فيبقى الناس بعيدون عن الجانب الذي ينبغي أن يكونوا فيه وان تهيأ نفوسهم له.
5- سقوط قيمة الكلمة وشرفها:(1/1831)
لم يعد للكلمة شرف ولا قيمة لأنها ابتذلت وامتهنت فصارت نفاقاً وصارت تزويراً وصارت كذباً حتى ما صار الناس يعتمدون ولا يثقون بما يكتب ولا بما يسمع، لأنه لم يعد للكلمة لا شرف ولا قيمة وقل أن تجد إلا ما رحم الله أن تجد شيء يمثل أصالة أو شرفاً أو أمانة هكذا يوجه الإعلام هذه الصورة لأن لماذا قلنا من عوامل النصر الربط بالتاريخ وإبراز القدوات والمجاهدين والملوك والسلاطين الذين كان لهم شرف رفع راية الإسلام، إذا غاب هؤلاء وغيبوا وجئنا إلى المعركة معركة الغناء وحرب الكلمة وإذا نحن في ملحمة الألحان وإذا نحن في مجالات أخرى عجيبة يسمع بها الإنسان، دبجتها أيدي الفاسقين والمنحرفين وأرادوا بها أن ينزعوا بها من الأمة صور القيادة التي تقوي حماسها وتدفعها إلى اللحاق بهذا الركب.
7-العمل على تضييع الأوقات:
ووقت البث الإذاعي والإعلامي طويلة جداً تأخذ من أوقات الناس وقتاً كبيراً جداً، بعض الإحصائيات ذكرت أن الأطفال في ما بين السن السادسة والعاشرة يكون حوالي خمس وعشرين في المائة أمام أجهزة التلفاز، فهذا الطفل الذي يعيش أمام التلفاز خمس وعشرين في المائة من وقته يكون مهيأ إلى أن يعيش في فراغ لا نهائي.
8-جهد الإعلام في مسألة تحرير المرأة:
بأنها أحد عوامل الإفساد والإنهاك والإضعاف لأخلاق ومبادئ الأمة.
9-عرض صورة مشرقة للأجنبي غير المسلم وتمجيده وإظهاره بصورة مشرقة ووضاءه وأنه الذي يفهم والآخرون لا يفهمون، وأنه هو الذي يعمل والآخرون لا يعملون، ونحو ذلك من الصور التي تظهر بشكل واضح ولا تحتاج إلى تمثيل ولا تعليق.
10-تسليط الضوء على الشخصيات الهدامة والمنحرفة والإكثار من تردادها في وسائل الإعلام، حتى تكون هي مجال التوجيه والإرشاد للناس.
وهذه صور من صور الهزيمة التي كرست في فترات ولا يزال ظلالها وآثارها في هذا الحقل بادياً وظاهراً في هذا الجانب.
عوامل تكريس الهزيمة في الجانب السياسي
1-سقوط الخلافة العثمانية في تركيا.
2-احتلال البلاد الإسلامية في أواخر القرن الميلادي الماضي.
3-تنازل الدول في ضعفٍ وخورٍ عن شريعتها الإسلامية وحكمها، واستبدالها بعد ذلك شريعة الله وإتيانها بالقوانين الوضعية من الشرق والغرب، في نوع من الإعلان بأنها وإن جلي عنها الاستعمار فإنها ما زالت محكومة بحكمة وقائمة بشرعة كأنه ما غادرها ولا ارتحل منها.(1/1832)
4-استجابة البلدان الإسلامية لخطط الأعداء في زعزعة الاستقرار للبلاد الإسلامية عن طريق الانقلابات والانشقاقات والأحزاب والتحالفات، وما زال العالم الإسلامي من أكثر الديار تشرب للأفكار والمذاهب والأحزاب، أمريكا كلها حزبين، وعندنا نحن أي بلد شبر في شبر فيها مئة حزب لأن كل واحد حزب لوحده. هذه المخططات مرادة من أعداء الإسلام ليضعفوا كلمة المسلمين وقوَّتهم وشوكتهم.
5-وقوع كثير من البلدان الإسلامية إن لم تكن كلها في براثن الأعداء ولاءً ومناصرةً واستجداء وطلباً وهي صور شديدة جداً في الضعف.
6-التسليم بما ينادي به الاستعمار أو الاستجمار الغربي والصهيونية والصليبية من فكرة فصل الدين عن الدولة، وما يزال الصدى لها بارزاً وظاهر.
7-إضعاف روح العداء من خلال الولاء والبراء، وجعل الدول تقوم على غير الأساس الديني. وسمعنا آخيراً عدم مساواة الصهيونية بالعنصرية وقد حصل تصويت بذلك على هذا الأمر وامتنع ست من الدول العربية عن التصويت في صورة غنية عن التعليق أو التعبير.
8-ضعف ظهور الشعارات الجوفاء التي أشرنا إليها.
9-المضي في درب مخططات اليهود على وجه الخصوص وخاصة بما يتعلق بالسلام وبالإخاء الديني وبالتطبيع ونحو ذلك. مما يبيد الأمة سياسياً فلا يبقى لها كيان ولا يبقى لها وضوح تتجلى به أو تظهر به.
10-ظهور الحكم الديكتاتوري الطغياني الفرعوني الفردي الذي تكاد تكون ديار الإسلام في غالبها تزرح تحته وتنتقل فيه من صورة فيه إلى صورة أخرى محسَّنة أو معدلة أو مغيرة الإسم أو مغيَّرة الشكل، وإن كان المضمون في ظاهره واحداً.
وهذه الصور بشكل عامل تعطينا الصورة الإنهزامية التي تكرس في هذا الجانب.
عوامل تكريس الهزيمة في الناحية العسكرية
1-العمل على إفقاد الأمة مقومات استمرارية الصراع
يراد للأمة أن تفقد مقومات البقاء، مقومات استمرارية الصراع لا بد أن نعرف أنه لا بد من إبقاء استمرارية الصراع، بتميز العقيدة الإسلامية عن غيرها، يراد من هذا الهدف لهذا المعنى أن يهزم من خلال الإخاء الديني، ومن خلال النظام العالمي الجديد، ومن خلال الانفتاح على العالم فليس هناك داع أن نفرق على الناس بحسب دياناتهم وليس لنا بالتالي أعداء بل يمكن أن يكون هناك أصدقاء وهناك مصالح مشتركة إلى غير ذلك من الأمور.
2-الدعوة إلى الحد التسلح الإستراتيجي(1/1833)
بما يردد بنوع من ضرورة نزع والحد من الأسلحة النووية والإستراتيجية والتكتيكية والتخبيطية حتى لا يظهر أي نوع من أنواع القوة، لأن أصلها ليست مصدراً قوي وليست عندها مصادرها التي تغذيها بالسلاح والعتاد، الآن في الأسبوع الماضي تكاثرت الصيحات حول وجود بعض ملامح التسليح في بعض البلاد الإسلامية من الناحية الحربية، ونحن نعلم الهجمة الشرسة على باكستان المسلمة في برنامجها النووي، الذي يقوم العالم كله ويقعد لأجل نزع فتيله، ومؤخراً تزايد الخطر والذعر الشديد من الأسلحة النووية (... ) والموجودة في الجمهوريات الإسلامية، وهذا كله نوع من إلغاء كل سبب من أسباب القوة، لكي لا يبقى في أيدي المسلمين قوة يستطيعون بها أن يواجهوا أعداءهم.
ولكن كل هذه الصور يمكن أن لا تكون ذات أثر إذا ما دخلت في القلوب والنفوس.
إذا بقيت في الظاهر فإن الذي هو ضعيف في البنية اليوم يقوى غداً والذي ليس عنده سلاح اليوم يكون عنده سلاح غداً، لكن الذي لا يكون عنده إيمان ولا روح ولا همة ولا عزيمة لا بد أولاً من علاجه من الداخل، وهذا هو سر الأمر وهذا هو مجال المعركة، أعدائنا عرفوا السر فأرادوا أن يغزونا في عقولنا وأفكارنا، في طموحنا وآمالنا في شهواتنا ورغباتنا، أن يحرفونا ويصرفونا عن كل ما يؤدي إلى إحباط القوة الداخلية الباطنية القلبية النفسية حتى نتعطل من الإندفاع للأخذ بأسباب القوة المادية.
لماذا تريد ان تتسلح وأن تجاهد إذا لم يكن عندك إيمان ويقين بأنك لا بد أن تعلي راية الله وان تجاهد في سبيل الله إذا نزع هذا المعنى من قلبك فلن يكن عندك أصلاً دافع لئن تتحرك أو تعد سلاحا أو تصنع سلاح أو تعد جيشاً لكن المغزى هو الطعن في صميم هذه العقيدة ولاء وبراء تميزاً عن أعداء الله، قوة في دين الله إستعلاء بالإيمان بالله، نصرة لدين الله إذا تضعضع هذا الجانب فإنما هو المقتل الذي يصاب به المسلمون، وأما إذا كانت هناك ردود الفعل التي تجنب المسلمين من هذا الجانب ومن هذه القضايا فإنه يؤذن للمسلمين بإذن الله - عز وجل - أن يأخذوا أسباب النصر.
ويمكن أن نوجز ملمحاً منهجياً عاماً مما ذكرناه من الوقائع والأحداث التاريخية ثم نذكر إن شاء الله بشائر نرجو أن تكون بشائر للأمة في مستقبل أيامها.
الخطوات على طريق النصر
1-إحياء الإيمان وتنقية التوحيد والتركيز على المعاني الإيمانية التي تستهدف على وجه الخصوص مثل الولاء والبرء وغيره.
2-تقوية العبودية وتنحية الإبتداع لأن هذا الجانب كان أحد عوامل ضعف الأمة في بدايات هذا القرن عندما دخل عليها الإستعمار.(1/1834)
3-نشر العلم وإحياء مدارسه وتقوية أصالته في نفوس الناس وفي عقولهم وفي المساجد وفي المدارس والمناهج بقدر المستطاع، حتى خارج الإطر التي تعتبر هي المنهجية والمفروضة على الناس في بعض ديار الإسلام والمسلمين.
4-محاربة المنكرات ودرء المفاسد لأنها أحد معامل الهدم، فلا بد أن يكون لها القيام الكامل بدرءها لئلا تنتشر في الأمة وتكون بذلك سبباً من أسباب ضعفها.
5-توحيد الصفوف وربط القلوب وأن الأمة المفرقة لا تستطيع أن تقاوم أعداءها. فلا بد من تكريس معالم الوحدة، وأحد المعالم التي رُكِّز عليها في الفترة الأخيرة من أعداء الأمة أن يجعلوا الأمة بعد أن كانت على قومية واحدة وعلى وطنية واحدة أصبحوا في قوميات، كل بلد له وطنيته، بل كل منطقة من بلد لها وطنيتها وشخصيتها التي تكرس ويراد لها أن تظهر.
إذاً لا بد أن نعرف أن أهم الأسباب هي محاربة أسباب الفرقة وأسباب الاختلاف ومحاولة التأكيد على عوامل الانتقاء والتقارب والتوحد وشحذ الهمم على توسيع دائرة الالتقاء، ونقض كل أسباب الخلاف وذكر البحث في مسائل الخلاف لتكون ظاهرة بالدليل والحجة، فلا تبقى عند الناس فيها غبش أو لا تبقى مثاراً للنزاع يؤدي إلى فرقة الصفوف، بقدر المستطاع وللعلماء والأئمة دور كبير.
6-رفع راية الجهاد في سبيل الله لاسترداد ديار المسلمين ولنشر الإسلام في كل بقاع الأرض شرقها وغربها، لأن هذا هو نهج الله وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
بشائر النصر
البشارة الأولى: الطائفة المنصورة
والبشائر موجودة في الأمة لأنا ذكرنا صوراً من صور الهزيمة وتخطيط أعداء الله، فينبغي أن لا تكون هذه الصورة الوحيدة حتى لا يدب اليأس في النفوس أو يكون هناك خور وضعف وتراجع، لا بد أن نعرف أن الأمة المسلمة إلى خير بإذن الله - عز وجل -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرها من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله) وهذه الطائفة كلما زادت وكلما اتسعت كلما كانت مبشرة من مبشرات النصر فنحن لنا ولله الحمد قوة في التيار الذي يعمل في صفوف الأمة المسلمة والصحوة الإسلامية على إحياء معاني العقيدة والتوحيد والولاء والبلاء ونلمحه ظاهراً جلياً، في أن كثيراً من أصحاب القوة سواء كانوا حكاماً أو سلاطين أو مفكرين أو أدباء تنازلوا وذابوا وبقي شباب صغار، ربما ليست لهم مكانة في مجتمعاتهم لكن هم الذين ثبتوا بفضل الله - سبحانه وتعالى - وبفضل ما تعلموا وما تلقنوا من هذا الأمر المهم في حياة الناس.
البشارة الثانية: قوة الحركة العلمية في الديار الإسلامية
والبلاد والمجتمعات، وهذا بشكل عام يتفاوت من منطقة إلى أخرى لكننا نرى نشر الكتب التراثية أصبح أكثر من ذي قبل، الكتب الإسلامية أصبحت تطغى على الكتب التي كانت في يوم من الأيام(1/1835)
تكتسح الساحة فلا ترى إلا كتباً عِلمانية وقومية أصبحت الآن هذه في صور تختلف نسبتها أصبحت تتوارى في زوايا المكتبات، وأصبح الناس يقرؤون الكتاب عنوانه ومؤلفه فيعلمون أنه غير مقبول وأنه مبنيٌ على خطأ لأنهم تلقنوا ذلك، وأصبح علم الإسلام ونهجه يكثر بحمد الله سواء في الدروس أو في الكتب أو في نحو ذلك.
البشارة الثالثة: الارتباط بالإسلام والاعتزاز به
أصبحت ظاهرة قوية جداً تظهر في كثير من الأحيان، كما سنمثل بمثلين في آخر الأمر، اعتزاز بالإسلام وتشبذ به رغم كل ما قد يلقى الناس والمسلمون من ضغوط، وشاهِدنا 70 عاماً من الشيوعية الماحقة والإسلام ما زال نبض القلوب حتى سنح الله - سبحانه وتعالى - للمسلمين وحانت الفرصة في تلك الديار، وظهر الإسلام بملايينه الغفيرة وبكتبه المدسوسة وبمصاحفه التي كانت تقرأ تحت الأرض، ما زال الإسلام قوياً لما تجددت هذه الروح في الارتباط بالإسلام وعدم الانسلاخ منه.
البشارة الرابعة: انتشار العودة بالمطالبة بتطبيق شرع الله - سبحانه وتعالى -
والتعاطف الشعبي الإسلامي مع ذلك لأننا نرى في فترات سابقة أن الشعوب المسلمة ضللت، فأصبحت هي تنادي بأن يغير شرع الله أما اليوم ففي كثير من ديار الإسلام تنادي بملء أصواتها وبنبض قلوبها وفي ليلها ونهارها، ولئن كان حيل بينها وبين ذلك في وقت، فنرجو أن ييسر الله - سبحانه وتعالى - لها في القريب العاجل بإذن الله - سبحانه وتعالى -، فنحن نرى في كل الديار الإسلامية مطالبة ملِحَّة بإقامة شرع الله، في صورة تكاد أن تكون استفتاءً جماعياً يظهر من خلال حتى المناهج الديموقراطية أن التصويت مع شرع الله ولشرع الله حتى أصدر لغلق هذا الباب أصدر قرار رسمي في بعض الدول الإسلامية لا يفتح النقاش في مجلس الشعب موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية لماذا لأنه عندما يطرح يكتسب الشعبية ويكون له دور في المطالبة بالنسبة للناس.
البشارة الخامسة: التجارب الجهادية التي يسرها الله للأمة
في بدايات هذا الوقت المعاصر أعطت للأمة روحاً جديدة أعادت إليها ثقتها بنفسها ويقينها بربها وإرتباطها بأصالة دينها، ويظهر ذلك في مثلين ظاهرين أفغانستان وفلسطين وخاصة أفغانستان لأن طبيعة ظرفها وأرضها مختلفة، بقي هؤلاء المجاهدون رغم قلة ذات يدهم وقلة قُوتهم وسلاحهم إلى غير ذلك ظلوا حتى كتب الله لهم صوراً من النصر في معارك شتى، وحتى كانوا أحد الأسباب في سقوط الدولة الروسية الشيوعية، وقد كانوا ثابتين رغم كل ما حصل لهم، مما يعطي للأمة أن هذا المنهج إذا رفع وهو منهج الله وأن الراية إذا رفعت راية لا إله إلا الله وأن الصيحة إذا رُفِعَت صيحة الله أكبر فإن الله يثبت الأقدام وينزل النصر ولو بعد حين.(1/1836)
وكذلك أيضاً أبناء الأقصى المجاهدين في الانتفاضة الفلسطينية، إنما هم أبناء المساجد وإنما صيحتهم خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود، حينما بدأ الناس يتلمَّسون الطريق الصحيح ووضعوا خطواتهم على الطريق الصحيح، لكنها ظهرت آثارها مما قوّى روح الجهاد في الأمة وعزتها في دينها.
البشارة السادسة: دخول الإسلام إلى ميادين الحياة العامة
هو أيضاً معلماً مهم من بشائر النصر، فيما مضى لم تكن هناك مؤسسات اقتصادية قائمة على منهج الإسلام ولا مؤسسات سياسية قائمة على منهج الإسلام، ولا مؤسسات تعليمية أو إغاثية أو اجتماعية، لكن ظهرت هذه المؤسسات الآن مما أعطى للمسلمين قناعة بأن الإسلام كما نقول شامل لكل أنظمة الحياة ومجالاتها فإنه ليس ذلك قول نظري، بل هو قول عملي فإذا بالاقتصاد الإسلامي نافس وظهر وأثبت جدارته رغم ما يعتري ذلك من عقبات أو صعوبات.
وكذلك في مجال الإغاثة والمعونات الاجتماعية بدأ العمل الخيري الإسلامي ينافس حتى المؤسسات التنصيرية والتبشيرية، لا منافسة في الإمكانيات وإنما منافسة في الآثار على الواقع، كما نسمع عن لجنة مسلمي أفريقيا وآثارها البيضاء في أفريقيا رغم أنها لجنة واحدة إلا أنها أصبحت مثار رعب للمؤسسات التنصيرية العاملة في أفريقيا.
ودخول الإسلام إلى ميادين الحياة في صور عملية جعل الناس يرون منهج الإسلام ونجاحه في تجارب محدودة، مما يشوقهم إلى أن يحكم الإسلام ديار المسلمين في كل مناحي هذه الحياة، فهذه البشائر بإذن الله - سبحانه وتعالى - لا شك أنها تحيي الأمل في نفس المؤمن، ولا ينقطع الأمل ما دام الإنسان متصل بالله معتقداً بقول الله - سبحانه وتعالى - (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وقول الله - سبحانه وتعالى - (والعاقبة للمتقين) وقوله - تعالى -(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) والآيات في ذلك كثيرة، لا ينقطع رجاء العبد المؤمن بنصر الله - عز وجل -، لا شك أن هناك عقبات سواء كانت من التيارات الإفساد الخلقي والفكري الذي يعبث به في مجتمعاتنا من يعبثون، ويحتاجون منا تبصر وتمعن وإلى توقُّد وحذر وأيضاً إلى مواجهة وكشف وفضح، وكذلك تيار الاستبداد السياسي الذي أشرنا إليه وهجمات التشويه الإعلامي وعوائق الوحدة المتكاملة.
هذه الصور من البشائر و بعض العوائق تجعلنا لا لنستبشر ونفرح ونقول إن الإسلام قادم وصلاح الدين أوشك أن يطرق الأبواب وإنما هذا يعظم ويثقل المسؤولية على أعناقنا ويجعلنا أمام مواجهة أمر الله - عز وجل - لنا بأن لا تأخذنا في الله لومة لائم، وأن نقيم أمر الله، وأن ننشر رايته وأن ننشر دينه، فهذا نوع من مزيدٍ من تحمل المسئولية وتعظيمها عند كل فرد، حتى يكون أحد الروافد التي تحرك عجلة الأمة، وتسرع بها نحو النصر القريب المنتظر بعون الله - سبحانه وتعالى -، وهذا إن شاء الله فيما مضى مما ذكرنا من صور تاريخنا، أن الأمة عادت إلى النصر بعد فترات قليلة بعد أن - عز وجل - عات وثابت إلى ربها، ولئن كان الردح طويلاً والزمن طويلاً حينما مضت الأمة في طرق(1/1837)
ومناهج ضالة وفي سلوكيات منحرفة فإنها بدأت تثوب إلى رشدها، وصحوتها اليوم صحوة مباركة إن شاء الله يرجى لها الخير بإذن الله - سبحانه وتعالى -،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://www.olamaalshareah.net المصدر:
ـــــــــــــــ
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق (1 - 2 )
* ضيوف الندوة:
* فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
* فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
* فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
مرت بالأمة الإسلامية في فترة من الفترات هزائم وانكسارات متعددة الجوانب، سواء أكان ذلك على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي أم على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي، إلى نحو ذلك من ألوان الهزيمة التي حصلت بعد سقوط الدولة العثمانية، ودخول الاستعمار إلى البلاد الإسلامية. ثم بدأ الناس يتطلعون إلى النهضة العربية، أو النهضة الإسلامية، وبرزت في تلك الفترة ـ وخاصة في البلاد العربية ـ مجموعة من التيارات الفكرية، ابتداءً بالاتجاهات الشيوعية واليسارية، ومروراً بالشعارات العروبية والقومية والوطنية وغيرها من الشعارات التي ضجت بها الساحة العربية، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي. ومع قوة هذه الشعارات الثورية حصلت الهزائم والانكسارات أيضاً مرة أخرى، ووجد الناس أن تلك الشعارات، وتلك الأحزاب العروبية، والقومية لم تخرجهم من مأزق إلا أدخلتهم في مأزق أشد منه، وفي هذه الأجواء تنامت الصحوة الإسلامية، وكان لها أثر كبير جداً في إعادة العزة للناس من جديد، وإعادة الثقة بالدين، وبجذور الأمة العقدية والفكرية.
وأنجزت الصحوة الإسلامية، على الرغم من المضايقات الكثيرة التي مرت بها، إنجازات متعددة الجوانب، حتى أصبحت ملء السمع والبصر.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صار هناك حضور أقوى للصوت الإسلامي، وأخذت الهجمة الغربية طوراً جديداً في الهجوم على المسلمين، وجعلت الخصم الأساس للغرب هو الإسلام، وعلى وجه التحديد تيار الصحوة الإسلامية بمدارسه المختلفة. وفي هذه الأثناء أيضاً حصل شيء من الانهزام النسبي عند بعض الإسلاميين على المستوى العقدي والثقافي، وحصلت اجتهادات ومراجعات، قد(1/1838)
يسميها أناس هزيمة، وقد يسميها آخرون إعادة بناء للفكر الإسلامي، وإعادة نظر في المسلّمات الإسلامية، وظهرت أطروحات متعددة ومتباينة تحاول قدر الإمكان أن تتقاطع أو تتعايش أو تتقارب مع بعض الأطروحات الغربية.
وبدأ بعض الإسلاميين يقدم الفكر الإسلامي بصورة المدافع، وليس بصورة الإنسان المعتز بالدين والمعتز بالقيم، وبالثوابت الشرعية، وبدأ بعض الناس يتساءلون: هل هناك حقيقة هزيمة نفسية في جيل الصحوة أم أن هذه الأطاريح ما هي إلا بناء من جديد لطريقة التفكير ولطريقة التعايش مع الواقع الذي تمر به الأمة الإسلامية؟ وهل وصلت هذه الهزيمة إلى مستوى الظاهرة في أوساط الإسلاميين، وما ملامح هذه الهزيمة؟! وكيف نستطيع إعادة التوازن من جديد لبناء الصحوة الإسلامية؟!
هذا هو مجال حديثنا في هذه الندوة المباركة:
ونبدأ بالسؤال المباشر: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة..؟
* د.عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أن العنوان هذا ـ الهزيمة النفسية ـ يحدث اهتزازاً لدى الإنسان، أنا سأبني حديثي عن هذه النقطة على تصوري للهزيمة النفسية، حاولت أن أوجد مسارات تتمثل بها الهزيمة النفسية إذا أخذناها بمفهومها هزيمة نفسية.
الهزيمة النفسية: هي شعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل، وإذا كان لا يستطيع أن يفعل فهو شعور خاطئ.
الهزيمة النفسية: هي يأس من إمكانية أي عمل إيجابي.
الهزيمة النفسية: هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما تبني ما يقابلها.
الهزيمة النفسية: هي انكفاء على الذات، وتخوف من الآخر.
الهزيمة النفسية: هي حالة ذل، حالة استكانة، تجعل الإنسان لا يرفع رأسه، ولا يطيق أحياناً حتى نفسه، يعني حالة إحباط يتولد من خجل، من كسل، وأحياناً من شعور بالجرم إزاء وضع يحيط به.
كما نعلم أن أبرز صورة راجت في الاتجاه الثقافي عند المسلمين في العصر الحاضر عن الهزيمة النفسية هي التي التصقت بالمدرسة التي سميت العقلانية، أو المدرسة العصرانية، ونحوها من التسميات، والتي كانت هي أول حركات التفاعل الفكري مع الغرب، والتي هي نتاج مجموعة من الناس، أبناء لأمة وعت نفسها على أمة أخرى: أمة ضعيفة متخلفة فوضوية، التقت بأمة حضارية متقدمة مدنية متطلعة استعمارياً؛ فحصل عندهم هذا الاهتزاز.
اهتزار نفسي ولّد مواقف هي مظاهر الهزيمة النفسية التي كان من أبرزها انعكاس في القضية لديهم؛ فالأصل أن الإسلام (القرآن والسنة) ابتداءً هو الذي يوجه الفكر ليحكم الأشياء، فصارت القضية معكوسة؛ وصارت الرؤية الغربية والحضارة الغربية هي التي توجه فكره ليأتي بعد ذلك بالقرآن والسنة، فيحاول حلحلتها، وجعلها تتفق معها.(1/1839)
طبعاً ما زالت الهزيمة النفسية موجودة، لكن الهزيمة التي أقصد أنها موجودة هي الهزيمة النفسية لدى بقايا فلول مَنْ يُسمَّوْن بمفكري التغريب ونحوهم، ولهم صور ربما نشير إليهم بعد ذلك كمحيط موجود الآن يلابس الصحوة، ويحاول أن يوجه مسارها بقدر الاستطاعة. هذه الهزيمة النفسية بهذه الصورة التي يمكن أن نقول: إنها تمثل حالة إحباط، أو حالة اجتلاب للآخر، أو قابلية الاستعمار، أو نحوها من التسميات.
البيان: عفواً د. عبد الرحمن! إذن أنت تؤكد أن هذه الهزيمة النفسية موجودة في أوساط الصحوة الإسلامية، كما أنها موجودة في أوساط العامة.
* د. عبد الرحمن الزنيدي: لا، لم آتِ بعدُ على ذلك؛ لم أُجب عن السؤال، أردت أن أنظّر للقضية لأجيب بناءً على تنظيرها.
جوابي: هو أن الهزيمة النفسية بالمفهوم الذي ذكرته، وبصوره التي سردتها غير موجودة إطلاقاً في أوساط الصحوة، لا لدى القادة، ولا لدى الأفراد، هناك موقف شامل في أوساط الصحوة الإسلامية إيماناً بالإسلام بصفته منجياً عند الله - سبحانه - ومحققاً للنهوض، ويقيناً بهزيمة ما سواه، وقناعة بالأدلة، فضلاً عن الدليل الإيماني الأصل الذي يأخذ الإنسان منه دليله، دليل واقع يشهد بهذا، وهو هزيمة جميع الأطروحات التي قدمت في العالم الإسلامي كله مستبعدةً الإسلام. فهناك إيمان بأن الإسلام مشروع إصلاح، وهناك إحساس في أوساط الصحوة الإسلامية بأن المسلمين الآن رغم العوائق والعثرات يتجهون للإسلام. هناك شعور أن هذه العقبات دليل على إدراك هذه الحقائق من قِبَل الأعداء. يعني أن الأعداء الذين يضعون العقبات في وجه أوساط الصحوة يدركون أنها صحوة حضارية مستهدفة، وحركة أو اتجاه استقلالي، ومن ثم بروز حضاري، ونحو ذلك.
ومثل هذه الوضعيات النفسية لا يمكن أن توجِد نفسية مهزومة. يمكن أن أقول ـ حتى لا تكون القضية مصادرة ابتداء ـ: إن هناك حالة أخرى ليست هزيمة لا اصطلاحاً ولا مضموناً، يمكن أن أسميها: حالة ارتباك فكري في الصحوة الإسلامية، وبالذات لدى بعض الرواد ـ رواد الصحوة الإسلامية ـ هذا الارتباك الفكري نتيجة حالة عامة يعيشيها هؤلاء الرواد، هناك شعور بضخامة المسؤولية في ظل الظروف التي يعيشونها، والتي لم تعد مسؤولية تربوية كما كانت في السابق، بل أصبحت مسؤولية سياسية، بل مسؤولية عالمية. هناك انفتاح على العالم في دائرة الصحوة الإسلامية، وانتقال من طور الانكفاء على الذات إلى طور المداخلة في الحياة: مداخلة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومداخلة حتى العالم بمؤسساته، وبوضعه العالمي كله.
هناك إقبال من الناس على التدين، ومن ثم إلحاح من هؤلاء على طلب برمجة حياتهم.
هؤلاء الناس المتدينون المقبلون على الدين الذين يدخلون فيه أفواجاً من السهل أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، هذه أمور سهلة وواضحة لديهم، لكنهم يريدون برمجة حياتهم على الإسلام. يقول(1/1840)
بعضهم: أنا دخلت في الدين، أنا عدت إلى الله - سبحانه -، أنا الآن رجل أعمال، أنا الحمد لله أصبحت أصلي، تركت الفواحش، أصبحت أعتمر... لكن لديَّ مئات الملايين من الأموال أريد أن تجري على نمط إسلامي، ومع ذلك يكون عصرياً، لا أريد أن تردني إلى معاملات فردية كانت سائغة في السابق. الناس يطالبون هؤلاء الرواد بأن توضَع مسالك حياتية في الاقتصاد، في السياسة، في الإدارة، في الفنون، في الآداب... في جميع شؤون الحياة، بأن توضع برامج حياتية تكون إسلامية، وتكون عصرية في الوقت نفسه.
هناك ما أستطيع أن أسميه: تساؤلات من الأتباع، ونقد من الآخر تجاه الصحوة الإسلامية. الأتباع كانوا فيما سبق أتباعاً بالمعنى اللفظي؛ بمعنى مجرد: متلقين من روادهم، من مشايخهم، من علمائهم، من دعاتهم، الآن يشعرون أنهم يريدون الانفتاح، ويريدون أن يناقشوا الآخر خارج الدائرة الصحوية، يثيرون نقداً حاداً، مثلاً: محاضرة تلقى، أو كلمة تكتب في موقع، أو صحيفة من داعية، وغير ذلك تخرج لها ردود من هؤلاء، وهذا يحرج ـ الآن ـ رواد الصحوة الدعاة؛ لأنهم لم يتعوَّدوا على هذه الصفة، ومن ثم هم بحاجة إلى أن يكونوا على مستوى التأقلم مع هذه القضية.
الانتقال من العاطفية إلى العقلانية: في السابق كانت حركة الدعوة ـ في فترة طويلة ـ تركز على الجانب العاطفي، خاصة حينما كانت الأمة في عموم العالم الإسلامي في حالة شرود عن الدين وفي حالة غفلة؛ فكانت الدعوة: عودوا إلى الله، عودوا إلى دينكم؛ فالخير في دينكم، منطلقات وشعارات عامة، وكانت مجدية في ذلك الوقت، لكن الناس الآن رجعوا إلى دينهم، والآن يريدون حركة منطقية عملية تجسد حياتهم عملياً في واقع الحياة، هذه الحالات ونحوها، وغيرها من أمثالها انفتحت على الصحوة الإسلامية: على روادها، ثم على أتباعهم ثانياً وبشكل متسارع، وبشكل ملحّ لا يحتمل بطئاً لتحديد المواقف، ورسم المسالك. والصحوة بدعاتها وعلمائها هي حركة ثقافية بالدرجه الأولى، والحركة الثقافية لا يتم تفاعلها بشكل سريع كما هو الشأن السياسي؛ الذي يتخذ موقفاً ثم ينتهي؛ فطبيعة الدعاة والمفكرين والمثقفين أنهم يحتاجون لموازنات لرسم المواقف، يحتاجون إلى تفكير هادئ، حتى يضعوا الأمور في أنصبتها الصحيحة، وحتى لا يزيغ الناس بالمهاوي؛ خاصة أنهم يتعاملون بدين يدينون الله به، وليس الأمر مجرد مصالح مادية لو فاتت فسوف تأتي بعد ذلك مصالح بديلة.
لا شك أن الصحوة الإسلامية سعت للمواكبة؛ يعني سعت للاستجابة الإيجابية في حدود الإمكانات، لكن الذي لا ريب فيه أن الملحوظ بشأنها هو ما ذكرته، وهو أن هناك حالة ارتباك، أو إن أردت أن أخفف هذه اللفظة فأستطيع أن أقول: إن الصحوة الآن تعيش لحظة تأمل، لحظة استبصار، لحظة محاولة إعادة نظرات، تأهيل الذات بالقدر الكافي من أجل التفاعل الحيوي مع هذه التغيرات المحيطة بها.(1/1841)
الصحوة كان لها ضجيج من داخلها، وضجيج من الآخرين بشأنها، وفي الأونة الأخيرة بدأ يخفت هذا الصوت، لكن خفوت هذا الصوت لا يعني الغياب حقيقة. أنا أعتقد أن خفوت هذا الصوت يعكس شعوراً بالثقة بالنفس، ويعكس عقلاً في التعاطي مع الحياة، ربما بأرشد وأكثر سداداً مما كان قبل ذلك، لكنه بكل حال لا يعني أيضاً التراجع في أوساط الصحوة.
البيان: إذن أنت ترى يا فضيلة الدكتور أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة، وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري؛ فهل المشايخ يوافقون على هذا الطرح؟
* د. ناصر العمر: الكلام الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن جميلٌ جداً، وأوافقه في جملة ما قال، لكن ما دمنا في التعريف؛ فالذي فهمته من التعريف أن قول: (الهزيمة في جيل الصحوة) أنه ليس عنواناً تقريرياً بل هو دراسة؛ بمعنى أن هناك شيئين مختلفين: هناك شيء اسمه الهزيمة النفسية، وشيء آخر اسمه جيل الصحوة. وهذا ما لاحظته من قول الدكتور عبد الرحمن من أن الهزيمة شيء والصحوة شيء آخر، ولا ارتباط بينهما. والحقيقة أن البيان سبقت في معالجة المشكلة قبل أن تقع؛ لأن مشكلتنا في كثير من الأحيان أن ننتظر حتى تقع المشكلة، ثم نذهب نبحث عن حلولها.
والذي أراه أن الهزيمة لم تعد ظاهرة، وإن اختُلف في بعض تشخيص الحالات الفردية التي قد أشير إليها.
وإضافة لما ذكر في الموضوع حتى أشخّص ماذا نريد من معنى الهزيمة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالهزيمة في اللغة تدور في أصلها اللغوي على معنى واحد: وهو الغمز والكسر، ومنها الهزيمة في المعركة، والهزيمة النفسية وغيرها.
الهزيمة: هي انكسار إرادة النفس أمام حدث معين، أو واقع معين، أو فكر معين، أو ظاهرة معينة؛ بحيث لا تقوى على مجابهته، فهي تستسلم أو تسلم بدون تفكير في التخلص منه أو مواجهته؛ لذلك انكسار الإرادة يعني: لا قدرة ولا استطاعة.
أعطي أمثلة من ألوان الانكسار في واقع الأمة. مثلاً: الانبهار بكل خُلُق دخيل خالف أخلاق الإسلام، وأعراف أهله؛ فهذا ضرب من الهزيمة.
الخجل من القيام بأمر الله تجاه الأفراد والمجتمع ضرب من الهزيمة النفسية أيضاً. التبرؤ من بعض العقائد الإسلامية كعقيدة الولاء والبراء، كما يحدث من بعض المسلمين أيضاً هزيمة نفسية.
محاولةُ لَيِّ الشريعة لتوافق أهواء العصر وأهل الشرق والغرب هزيمة نفسية. التبعية الغربية أو الشرقية هي أيضاً من جوانب الهزيمة النفسية. الافتتان بالحضارة الغربية جانب من جوانب الهزيمة النفسية.(1/1842)
وإن كان في هذا الكلام نوع من التداخل، لكن يفسر نوعاً من الهزيمة النفسية؛ بهذا المنظور وبالمنظور، الذي قدمه د. عبد الرحمن فأرى أنه لا توجد في الصحوة هزيمة نفسية، وأرى أنها لا توجد بصفتها ظاهرة عامة، لكن توجد حالات فردية قد تزيد أحياناً، وتنقص أحياناً أخرى، وبعض المواقف قد يفهمها بعض المتابعين على أنها هزيمة، ويفهمها آخرون على أنها اجتهاد في استثمار فرص متاحة، وقد يوافقون عليها وقد يخالفون؛ فالدعاة وأهل العلم ومن عرفوا بسلامة المنهج وعرفوا بالخير، ولهم أثر في هذه الصحوة، وإن نشأت بعض الاجتهادات ـ بغض النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليها ـ فهي ليست نابعة ـ غالباً ـ من الهزيمة، وإنما نابعة من أسباب أخرى: استثمار فرص أو غيرها. والصحوة الإسلامية الآن في هذه المرحلة لا تعاني من هزيمة نفسية، والدليل على ذلك الأجيال التي تتطلع إلى الجهاد وتمارسه، بل وقع بعضها في الغلو المنهي عنه، اعتداداً بنفسها وثقة بما عندها.
لعلك تقابل شباباً يعملون أعمالاً أكبر من طاقتهم؛ فبعضها أعمال مشروعة، مثل ما نرى في فلسطين، وما نرى في العراق، وغيرهما من مواطن الجهاد.
شباب يقفون أمام أعتى قوة؛ هل يوصفون بالهزيمة؟ مستحيل، ونجد آخرين في بعض بلاد المسلمين يعملون مثل أعمال التفجيرات وغيرها، وهذا غلو وخروج عن المنهج، وليس من الإصلاح، ولكن لا يمكن أن يكون هذا نابعاً من الهزيمة، بل نابعاً من الاعتداد المفرط بالذات؛ لذلك أقول: إن الهزيمة غير موجودة بصفتها ظاهرة عامة، لكن يوجد حالات فردية في كل عمل، وفي كل جيل يحدث ذلك. بقيت نقطة أشار إليها د. عبد الرحمن، وهي أن الصحوة الآن تمر بمراحل ـ مثل مرحلة العمر ـ هل تسمى مرحلة فتور؟
توجد مظاهر أوافق أنها مظاهر فتور، وقد تحدثت عنه قبل سنوات في كتاب (الفتور). والفتور غير الهزيمة هذا أولاً.
ثانياً: القادة والذين لهم السبق في نشأة الصحوة ـ كما أشار الدكتور ـ هم أناس كانوا يوجهون، أما الآن فانتقلوا من التنظير إلى العمل وإلى المشاريع؛ فهم الآن انشغلوا ببرامج عملية علمية.
ولو نظرنا قبل عقدين مثلاً فسنجد أنه لم تكن القنوات الموجودة الآن، ولم تكن المواقع موجودة في المنهج العلمي والدورات وغيرها من الانشغال بالعمل الذي يوازن التنظير، بعضهم يتصور أنه نوع من الهزيمة، هذا غير صحيح، أيضاً عدم التجاوب مع الاستفزاز الذي يحدث الآن فهذا رشد وعقل وفكر.
بقيت نقطة أخيرة هي أنه لا شك أن الصحوة عندها إشكالات معينة، ولا شك أن عمرها قصير بالنسبة لما تحقق لها من إيجابيات ناجحة، وهناك إشكاليات عالقة، سواء سميناه الارتباك كما تحدث د. عبد الرحمن، أو نوعاً من التأمل، أو عدم الوضوح والضبابية، أو هزيمة فردية محدودة عند بعض الأشخاص، ولا شك أن هذه مرحلة طبيعية، وهذه تفسر بعض الأحداث الموجودة، والله أعلم.(1/1843)
* د. عبد الله الصبيح: كلمة جميلة قالها الدكتور عبد الرحمن في تعريفه الهزيمة: هي الشعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل. وهذا التعريف يشرح جانباً من جوانب الهزيمة، وهناك جانب آخر يوضحه تعريف آخر أورده الدكتور عبد الرحمن وهو الهزيمة النفسية هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما ما يقابلها. وهذان التعريفان يوضحان صورتين للهزيمة سوف أتطرق إليهما حينما أتحدث عن مفهوم الهزيمة.
وقبل الإجابة عن السؤال: «هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة؟ ».
أحب أن أشير إلى أن أول من تحدث عن الهزيمة النفسية فيما أعلم هو ابن خلدون - رحمه الله - في مقدمته؛ حيث عقد فصلاً خاصاً بذلك، وسماه (تقليد المغلوب للغالب) يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في زيه وشعاره، وعوائده، وشأنه كله».
وذكر ابن خلدون صوراً من هزيمة المسلمين النفسية في الأندلس، أو تقليد المغلوب للغالب - كما سماها - ومنها وضعهم الصلبان في البيوت ومجاراتهم للنصارى في سلوكهم ولباسهم ومأكلهم ومشربهم، ويعلل ابن خلدون ذلك بأنه لظن المغلوبين أن تقليد الغالب في عوائده يمنحهم القوة التي انتزعها منهم عدوهم.
وما ذكره ابن خلدون عن تقليد المغلوب للغالب ليس قاعدة مطردة؛ فهناك من غلب واستولى عدوه على أرضه، ومع ذلك بقي معتزاً بدينه وقيمه ونفسه، ولم يقلد من غلبه؛ فالمسلمون لما هزمهم التتار، وجدنا الغالب هو الذي قلد المغلوب ودخل في دينه. وفي العصر الحاضر نرى إخواننا في فلسطين معتزين بإيمانهم محافظين على عقيدتهم، يشعرون بتميزهم عن عدوهم الغالب الجاثم على أرضهم.
بعد هذه المقدمة أقول: يظهر لي أن للهزيمة النفسية صورتين:
1 - هزيمة الذات أمام المبدأ؛ حيث لا يستطيع الفرد تحمُّل تبعة المبدأ ودفع ثمنه فيتخلى عنه، إما للحصول على مكسب دنيوي، أو الخلاص من أذى يلحقه بسبب مبدئه.
2 - هزيمة المبدأ أمام الواقع؛ حيث يكتشف الشخص أن المبادئ التي يحملها عاجزة عن إحداث تغيير أو إصلاح في الواقع، فيتخلى عنها بحثاً عن مبدأ آخر، وقد لا يكون في هذا الجانب هزيمة نفسية واضحة؛ لأن منه ما هو هزيمة، ومنه ما ليس كذلك. وينبغي ملاحظة أن مصطلح الهزيمة مصطلح فضفاض كمصطلح الصحوة الذي سأتحدث عنه؛ فهناك فتور يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك انشقاق في الصف يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك الاجتهاد في التأول، وفي تطويع المبدأ للواقع الذي يتداخل أحياناً مع الهزيمة النفسية وأحياناً مع الاجتهاد.
وسواء قلنا إن الصحوة تعاني من الهزيمة النفسية أم لا تعاني منها، فلا بد من تحديد المراد بالصحوة الإسلامية.(1/1844)
تيار الصحوة الإسلامية في نظري لم يعد محدوداً بمجتمع معين، أو أفراد محدودين، أو جماعة أو تنظيم أو حزب، بل أصبح تياراً واسعاً، ودخل تحت هذا التيار كل من رفع الإسلام شعاراً للحياة، ونحن نعلم أن ممن رفع الإسلام شعاراً للحياة من كان على سنن صحيحة، وطريقة سديدة، ومن رفعه وهو ليس كذلك، بل هناك من رفعه نتيجة انهزام في مبدأ سابق، مثل: بعض القوميين، وبعض العلمانيين الذين انهزمت أفكارهم فرفعوا الشعار الإسلامي، ولكنهم يريدون الإسلام الذي في أذهانهم، وليس الإسلام المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وهؤلاء في نظري يعيشون حالة من الهزيمة النفسية، وفيما رفعوه يحدث خللاً داخل الصف الإسلامي، والصحوة الإسلامية.
إذن تيار الصحوة الإسلامية تيار واسع، ويمكن أن نقول: إن الصحوة بمجملها لا تعاني من هزيمة نفسية، لكن يمكن أن نلاحظ عند بعض قطاعاتها وعند بعض الأفراد ـ وهم ليسوا قليلين ـ هزيمة نفسية بناءً على ما ذكرته عن صور الهزيمة. وهذه ليست ظاهرة عامة شاملة، بل ظاهرة جزئية، ولا يمكن تعميمها على تيار الصحوة بكامله. ولعل مما يساعد في انتشار الهزيمة النفسية أو مما يفضي إليها ما ذكره الدكتور عبد الرحمن مما سماه بـ (الارتباك الفكري). الصحوة الإسلامية كانت في وقت من الأوقات تعيش مرحلة العاطفة، ومخاطبة الفرد في صلاح نفسه، ثم انتقلت إلى مواجهة الواقع بتقديم حلول عملية. وبعض هذه الحلول العملية تداخلت مع بعض أطروحات المشروع العصراني الذي ظهر في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، وهو يقوم على تطويع النص ومقاصد الشرع للواقع.
وربما كان ظهور المشروع العصراني بسبب ضعف البناء الثقافي، والإعداد العلمي عند الصحوة في المرحلة السابقة، مرحلة البناء العاطفي أو مرحلة تربية الفرد. وعودة المشروع العصراني للظهور مرة ثانية، سواء على مستوى النخب أو مستوى الأفراد والأتباع صورة من صور الهزيمة النفسية التي نتحدث عنها.
* د. عبد الرحمن الزنيدي: لي تعليقات مباشرة على ما سبق، أذكرها باختصار:
أولاً: ما ذكرته هنا حالة من الارتباك والتأمل البطيء لدى بعض رواد الصحوة من مفكرين أو عاملين، وهذه ألمح إليها الدكتور ناصر العمر، هذا قد يُحدث حالة من الهزيمة النفسية مستقبلاً إذا لم يستطع هؤلاء أن يطوروا صُعُداً ما يقدمونه؛ بمعنى إذا تباطؤوا عن تقديم هذه البرمجة العملية لمساوقة الحياة بصبغها بالحلال والحرام؛ بحيث يعيشها الناس حياة إسلامية؛ فإذا تباطؤوا وتلكؤوا فقد يملّون من قِبَل من لديهم انفتاح عليهم، أو قبول لهم من حكام وغيرهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيبدأ الناس يطلعون بعمومهم على الطرح الآخر الذي يمكن أن يطرحه العصرانيون، وخاصة أن(1/1845)
العصرانيين الآن ليسوا على النمط السابق الذي يعلنون فيه قطيعتهم مع الإسلام؛ فقد صاروا الآن يقدمون رؤاهم العصرانية، ويلبسونها لباساً إسلامياً.
وهنا نقطة ثانية وهي تعليق على كلمة الدكتور عبد الله في قضية ولع المغلوب بالتقليد للغالب فهو حقيقة، ولكن انهزام النفس أمام الغالب له درجات وليس درجة واحدة، هو أحياناً يكون انهزاماً مبدئياً؛ بمعنى يمسخ فيه الإنسان ويذوب حضارياً، وقد يكون الانهزام ليس مبدئياً، فلا نقول هذا انهزام، وإن كان قد تأثر في الغالب ببعض مجرياتها العملية، وانفعل ببعض معطياتها الفكرية والثقافية... إلخ؛ فهي انهزمت عملياً، لكنها ما انهزمت حقيقة؛ لأن الهزيمة النفسية في الحقيقة هزيمة قاصمة؛ لأن النفس هي آخر شيء عند الإنسان. وحتى لا يكون الكلام فكرياً بحتاً أضرب مثالاً: الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي، فاستعمر الغربيون بلاد المسلمين، وكانت مكيدتهم، خاصة في الجانب الثقافي أكثر من غيره؛ والغربيون استعمروا أيضاً أمريكا اللاتينية كما هو معروف ورحل المستعمرون من البلاد الإسلامية، ورحلوا من أمريكا اللاتينية؛ فما الذي حدث؟ الذي حدث هو اختلاف واضح بين الجهتين: أمريكا اللاتينية مُسخت نهائياً؛ فلا أديانها التي كانت بقيت بها، ولا تقاليدها التي كانت بقيت لها، ولا لغاتها أيضاً التي كانت بقيت؛ وهكذا؛ فهناك هزيمة نفسية ساحقة؛ بمعنى أن الشخصية الحضارية التي كانت هناك ذابت أمام حضارة الغازي وصارت الآن تابعة لها. لكن بالنسبة للأمة الإسلامية فلا.
نعم! انفعلوا وتأثروا، لكن بقيت لديهم الخميرة الداخلية، وبقي لديهم أن ما يحملون من هذا الكتاب ـ وهو القرآن ـ يمثل الأعلى، ومهما ضعف التزام الإنسان في عمله إلا أنه يشعر أن هذا هو الحق، ومن ثم أي فكرة وأي نظرية تخالفه فإنها باطلة. تلقائياً يعرف هذا الشيء، قد ينجر أحياناً نتيجة شهوة، أو مؤثرات إغرائية، قد ينجر وراء هذا الشيء الجديد، لكن يبقى في قرارة نفسه الأساس الديني؛ فالحقيقة أن الهزيمة النفسية ليست صورة واحدة، وإنما تأخذ أشكالاً مختلفة. هناك نقطة أخيرة هي ـ وقد أشار إليها الدكتور عبد الله ـ قضية أن الصحوة مفهومها واسع، صحيح أن مفهومها ليس مفهوماً مصطلحياً؛ بمعنى: أن له تعريفاً جامعاً مانعاً، لكن لا أعتقد أن من أدخلهم الدكتور عبد الله في الصحوة، أنهم من الصحوة، ومن سماهم وهم المنهزمون نفسياً أو العصرانيون ونحوهم؛ فهؤلاء ليسوا من الصحوة، ولا يعتبرون هم أنفسهم من الصحوة، حتى وإن كتبوا في الإسلاميات وإن فسروا الإسلام؛ فلا أعتقد أنهم يُعَدُّون من الصحوة؛ فلا محمد أركون، ولا شحرور، والقمني ولا سعيد عشماوي.... ولا نحوهم من الفئة التي كانت دراستهم تتجه للإسلام وتفسير القرآن، وتحاول أن تقدم صورة بديلة أو مقابلة للصورة التي تقدمها الصحوة، لكنها ليست للصحوة؛ فهؤلاء هم خارج سور الصحوة الإسلامية.
* د. عبد الله الصبيح: يعتمد على هؤلاء بعض أبناء الصحوة يقرؤون لهم، ويتأثرون بفكرهم.(1/1846)
* د. عبد الرحمن الزنيدي: القراءة نعم! أما التأثر فقضية ثانية، وهي إذا كان التأثر بفكرهم تأثراً منهجياً، تأثرهم بحيث أن لديهم قدرات على أن يستوعبوا المنهج لنقدهم، ولتقديم رؤاهم داخل دائرة الصحوة من خلال المنهجية الجديدة إذا تلبَّسوا بها بمنهجهم أصبحوا منهم، لا أعتقد أن في دائرة الصحوة من يتفاعل مع هؤلاء بهذه الصيغة التي ذكرها الدكتور عبد الله.
* د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة الأسماء التي ذكرتها، لكن هناك من قطاع الصحوة من تأثر ببعض الكتابات، وحصل عنده نوع من الهزيمة؛ فإذا كنت تريد أنت أن تُخرج هؤلاء من قطاع الصحوة فحينئذ أنت تنفي الهزيمة النفسية عن الصحوة بإخراج كل من انهزم منها.
* د. عبد الرحمن الزنيدي: نحن من خلال حديثنا عن الصحوة والهزيمة. أنا أقول: إذا تلبَّس وأصبح هو صورة لهذا الإنسان الذي حكمت محكمة علمانية بردته؛ فكيف ندخله في الصحوة؟ هذه رؤيتي.
* د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة أن ندخلهم.
البيان: ربما كان ذكر الأسماء هو الذي أوجد فارقاً كبيراً في الحكم، لكن ألا ترى أن هناك مجموعة ممن ينسبون للفكر الإسلامي قد تكون عندهم طروحات عصرانية تميل أحياناً إلى الغلو الذي لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، لكنهم أيضاً تأثروا بشكل أو بآخر ببعض الأطروحات العصرانية؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: أما أن تكون أفكار أفراد فهذا صحيح، وأما أن تكون ظاهرة فلا أعتقد، ونحن نتحدث عن الهزيمة بصفتها ظاهرة.
النقطة الأخيرة وهي أن الدكتور عبد الله ذكر مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والحقيقة أنا لا اعتبر أن هناك مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والعصرانيون أنفسهم يعترفون؛ فمشروعهم الآن مواجهة الصحوة، ومحاولة إفساد أعمدة هذه الصحوة، وتبديد طاقاتها، وهذا هو الجهد ذكرته. مَنْ هذه الأسماء، وما هو دورها؟ دورها هو هدم قدسية القرآن؛ لأن متعلق الصحوة الإسلامية الأكثر الآن الرجوع للكتاب والسنة، والرجوع بصفته العاصم الأساس لحركة المسلم، ولهذا هم يجدون حالة مفارقة عجيبة يعترف بعضهم مثل (هشام جعيط) في كتابه «الشخصية الإسلامية والمصير العربي» يقول: مشكلة العلمانيين العرب مع النص المقدس ـ القرآن ـ أنه واضح وحاسم، وأنه أصل لدى المسلم لا مجال للارتياب فيه، هذا يجعل الإنسان الآخر ـ يعني العلماني ـ مُحْرَجاً عندما يصادم القرآن مباشرة، وهناك سيكون منهزماً.
(فؤاد زكريا) في محاضرة ألقاها وطبعت عنوانها «العلمانية ضرورة»، قال وهو يتحدث عن العلمانيين والإسلاميين: العلمانيون ثلاثة أقسام: اشتراكيون، قوميون، ناصريون، والحقيقة أنهم يعرفون ما لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون؛ يعرفون ما يريدون في تطبيق الشريعة التي كانت صيحة الصحوة قبل 10 سنوات أو نحوها، ويقفون هم في وجهها، ويعرفون أن هذه هي القضية التي يريدون الوقوف في وجهها، لكنهم لا يعرفون ما يريدون، ليس لديهم مشروع بديل يقدمونه،(1/1847)
سقطت مشاريعهم، فبقيت لديهم عملية هدم وتفتيت إلا إذا كانت مشروعات هدمية ناقدة كمشروع الجابري، ونحوه الذي هو نقد للثقافة الإسلامية، ومثل منهج (أركون) الذي لا يقدم مشروعاً بقدر ما ينقد الدين، ويفتت قدسية هذا النص، ومثل ما يطرحه الآن الدكتور (طيب تيزيني) في قضية تعدد القراءات في النص المقدس، أو الاعتماد على نظرية موت المؤلف في قراءة القرآن، ونحو ذلك.
* د. ناصر العمر: حول نقطة أشار إليها الدكتور عبد الله وعقب عليها الدكتور عبد الرحمن في موضوع وجود أشخاص داخل الصحوة أصبحت لديهم مواقف تتقارب مع المدرسة العصرانية. أنا أوافق أنه توجد أسماء تطرح طروحات تتوافق مع هؤلاء، وهذا نوع من الهزيمة النفسية كما اتفقنا، لكن حتى الآن لم يظهر لي من خلال الحديث أن هذه العناصر مؤثرة؛ فلم تكن أصلاً من قيادات أو رواد الصحوة، وإنما كانوا أفراداً أو شاركوا في بعض المشاريع المحدودة عملياً. وينبغي أن ننظر إلى القضية بنظرة متزنة لا ننفي الموجود، وهو كما اتفق الجميع ليست ظاهرة، والحمد لله.
البيان: ليست ظاهرة، لكن هناك ممارسات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع قد تزداد في بعض الأوساط؛ بحيث تتسع دائرته وممارساته عند آخرين... ونخشى أن تكون ظاهرة في المستقبل.
* د. ناصر العمر: إن لم تعالج؛ وهذه الندوة حلقة من حلقات التوعية، حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها.
البيان: نتحدث الآن عن مظاهر هذا الارتباك الذي أشار إليه الدكتور عبد الرحمن، أو ما قد يسمى عند آخرين بأنه هزيمة على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع من ذلك؛ لأن هذا سوف يزيد أيضاً من توضيح تحديد المسار الذي نتحاور فيه.
* د. عبد الله الصبيح: أعود إلى إشكالية مصطلح الهزيمة النفسية. في نظري أننا حينما نتحدث عن الهزيمة النفسية فنحن نتحدث عن منحنى متدرج له طرفان ووسط، والصور في الأطراف تكون واضحة تماماً لا يختلف الباحثون في تصنيفها، ولكن في الوسط سوف نجد صوراً ربما احتاروا في الحكم عليها، فربما عدها بعض الباحثين من صور الهزيمة النفسية بينما ينازعهم آخرون في ذلك. ومن تلك الصور ما ذكرته من قبل: كالفتور، والاجتهاد في تأويل النصوص، وتطويعها للواقع، أو التخلي عن بعض المبادئ استجابة لضغط الواقع. وما كان من هذه من صور الهزيمة النفسية قد يختلف الباحثون في اعتباره ظاهرة بناء على مقدار شيوعه في المجال الذي حدده الباحث.
البيان: ولهذا ربما يكون تحديد الصورة هو الذي يضبط المسار؛ فربما يوجد تباين في تحديد مفهوم الهزيمة، لكن عندما ننزل هذا المفهوم على الأمثلة الواقعية تنضبط الفكرة ويظهر المقصود، وعندما نتحدث عن موضوع الصحوة لا نقصد بلداً بعينه أو فصيلاً بعينه من فصائل الصحوة الإسلامية، وإنما نتحدث بشكل عام.(1/1848)
* د. عبد الرحمن الزنيدي: أنا أشرت إلى بعض المظاهر فيما سبق، ومنها الشعور بضخامة المسؤولية، والارتباك في الانفتاح على المجتمع، يعني مثلاً: قضية التفاعل مع المجتمع كيف تتم؟
هل من خلال المسار التربوي الذي كان منتشراً على نطاق الصحوة الإسلامية فيما سبق، أو من خلال قفزة إلى المستوى الحزبي؟ في مصر مثلاً: أراد مجموعة من الإخوان أن ينشئوا حزباً سياسياً، واعترضت عليهم الجماعة، ثم عادت الجماعة من خلال مرشدها لتقول: نحن مستعدون أن نشكل من أنفسنا حزباً إذا كانت الحكومة ستقبل. فعلاً هذا يعكس حالة ارتباك في القضية، حالة ارتباك تتضح أحياناً أمام بعض المفاجآت التي تحدث في المجتمع. يحدث مثلاً حركة مفاجئة، أو تغيير مثلاً نتيجة ضغوط داخلية، أو ضغوط خارجية فيحدث تغيير، وقد حدث هذا مثلاً في بلاد كثيرة في قضية مناهج التعليم، أو في قضايا أخرى. أمام مثل هذا لو كانت الوضعية كما كانت فيما سبق لكانت الخُطَب والتصريحات النارية، ونحو ذلك هي الإجابة مباشرة، لكن في ظل الوضعية التي ذكرتها صار هناك حالة تساؤلات.
مثلاً قضية التفاعل مع الآخر، أي تفاعل الصحويين مع من هم خارج دائرة الصحوة، مع المثقفين من خارج دائرة الصحوة، من الليبراليين ونحوهم؛ وتعرفون أنه جرى أحياناً تفاعل، وأحياناً لقاءات، وأحياناً بيانات مشتركة ونحو ذلك، وهذا النمط كان جديداً على الصحوة الإسلامية؛ فالصحوة الإسلامية كانت تعيش دائرتها الخاصة، وأولئك يعيشون أيضاً دائرتهم الخاصة، وإن كانوا يزعمون الإقصاء، أي أن الصحوة الإسلامية تقصيهم، كانوا هم يُقصون أهل التدين من وسائل الإعلام، وغير ذلك؛ فكلٌ يسير وحده.
بدأت قضية اللقاءات كحركة شخصية، ثم بدأ التساؤل: ما هي الأساسيات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا اللقاء بين أناس تبنوا المشروع الإسلامي إن شئنا تضخيم الأمور، وبين أناس يتبنون مشروعاً آخر، لكن قد يلتقون في خطوط عريضة، أو مسارات تتقاطع؛ فما هي الأسس الشرعية، والأسباب المصلحية، والمحظورات المتوقعة؟ جرت تساؤلات، كُتب في بعض المجلات والمواقع الإسلامية ملفات في قضية التعاون بين الإسلامي وغير الإسلامي ونحو ذلك، هذه صورة من الصور التي تمثل ارتباكاً.
مثلاً التفاعل بين الفئات داخل الصحوة الإسلامية، ونحن نعلم أن الصحوة الإسلامية أجنحة وليست جناحاً واحداً. هناك الذين يمكن أن نسميهم الجناح السلفي مثلاً، وهناك الجناح التحرري الذي له سمات معينة في دراساته منها التوسع في عملية المقاصد الشرعية. وكلٌ يسير في طريقه مستقلاً عن الآخر ونحو ذلك، ثم لما بدأت الصحوة الإسلامية تدخل في الواقع وتتحرك فيه رأت أنها بحاجة فعلاً أن ترتكز على المقاصد الشرعية، وأن تتحرك في ضوء المصالح والمفاسد، وأن ذلك الخط لم يكن على خطأ في كل مساراته التي كان يسير فيها، وأن لديه حقاً في جوانب ينبغي أن تؤخذ ويستفاد منها، لكن كيف يتم التفاعل مع هذه الفئة؟(1/1849)
هذه أيضاً حالة أو صورة من صور الارتباك الفكري.
أيضاً من صور الارتباك المشكلة بين موقف الرائد الداعية القائد وبين الأتباع. الداعية القائد بحكم قدراته الفكرية، وبحكم نضجه، وبحكم عمره عنده القدرة أن يتحول، أن يتفاعل، أن يتغير، أن يتجدد، أن يترقى. المشكلة هي قضية الأتباع؛ فإن سار في طريقه غير عابئ بهم فقد يُحدِث لهم انتكاسات، قد يعتبرون أنه ضل، وأن تجديده هذا ضلال، وخروج عن نسق كان يسير عليه معهم ومن ثم خرج عليهم. إن أراد أن يتحرك بهم معه، فهذا صعب؛ لأن طبيعة الأتباع وطبيعة البسطاء أن حركة تحولهم بطيئة؛ فهناك حالة ارتباك في الحركة لدى هذا القائد في حركته، وفي عمله.
البيان: عفواً دكتور! ولكن تبقى هذه الصور في مجال الممارسة العملية، ولم نتحدث عن الارتباك على المستوى الفكري؛ لأن الممارسة العملية أقل خطورة، فقد يخطئ الناس في وقت من الأوقات ويستدركون الخطأ، لكن الارتباك أو الهزيمة على المستوى الفكري، ربما تكون أكثر خطراً، ولها انعكاسات عميقة ومتجذرة!
* د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أنا تصوري أن هذه تتداخل فيها القضايا الفكرية مع القضايا العملية، يعني ليست هي قضية عملية بالمعنى المباشر، لكن دعني أذكر مثالاً فكرياً آخر: لدينا نحن في المملكة مثلاً: الدعوة تعتز بأنها في أصل عمقها، وخلفيتها التاريخية، سلفية إسلامية ـ أنا أعتبر أن الصحوة الإسلامية كلها سلفية منهجية على الأقل؛ لأن شعارها الرجوع للكتاب والسنة، وهذا هو شعار السلفية ـ لكن لدينا نحن الصحوة الإسلامية تعتز بأن خلفيتها التاريخية التي ورثتها عن الآباء والاجداد، خلفية سلفية ذات عمق علمي شرعي؛ إلا أن الصحوة الإسلامية لدينا استنامت أو تخدرت بفعل هذه الخلفية التي أعطتها راحة، ولو رجعنا إلى هذه الخلفية التي ركنت إليها لوجدنا أنها تتمثل في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي خرج قبل ثلاثة قرون في جزيرة العرب في بيئة نجد بالتحديد بدعوة سلفية؛ بمعنى أنها دعوة تريد أن تعود بالناس إلى الكتاب والسنة، إلى الصورة النموذجية التي كان عليها صحابة رسول الله في مقتبل الإسلام. وكانت الوضعية الاجتماعية التي خرج منها مشكلتها الكبرى هي في توحيد العبادة، ومن ثم ركز جهده في علاج هذا الواقع؛ فهذا هو منهج التجديد الذي ركز جهده فيه، فجاء كتابه الذي يمثل دستور حركة الشيخ ـ محمد بن عبد الوهاب ـ وهو (كتاب التوحيد)، وأثمرت هذه الحركة في التجديد، وصاغت حياة الناس صياغة جديدة؛ صياغة عقلية نفسية، وصياغة حركية عملية، وأدت دورها بأتم ما يكون، ثم صارت تتحول مع التاريخ، وبعثها الملك عبد العزيز - رحمه الله - بعثاً قوياً
جديداً، وأراد أن ينقلها حتى خارج دائرة الدولة السعودية إلى العالم الإسلامي، وتواصل مع علماء آخرين.(1/1850)
المشكلة تأتي هنا في هذه الآونة بعد منتصف القرن الرابع عشر أن المجتمع السعودي بدأ يتغير، بدأ ينفتح على العالم من حوله، بدأت الوافدات الفكرية والتطبيقية في الحياة، بدأت دولته تتفاعل مع العالم في منظمات ودول، وأفراده بدؤوا أيضاً يتفاعلون مع أفكار الآخرين، سواء كانت أفكاراً إسلامية، أو حتى أفكار الآخرين غير الإسلامية، هنا كان المنطق الطبيعي هو أن تكون هناك حركة تجديد لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حركة تجديد تصوغ المنهجية للحياة، ابتداء بالجانب العقدي وما بعده لتصوغ حياة الناس في ظل الظرفية التشكلية الجديدة، في أفكارهم، في نمطهم الحضاري، في نمطهم المادي الذي تغير تغيراً جذرياً، في كل هذه الجوانب، وهو أن يكون حركة تجديدية تتفاعل فيها هذه الدعوة السلفية الموروثة مع هذا الواقع الجديد المتغير. للأسف لم يحدث هذا بدرجة كافية، فبقيت القضية على هذا الموروث. أعتقد أن هناك في الآونة الأخيرة بدأ تنبه إلى أنه ينبغي أن يكون هناك تجديد. السلفية تبقي الكتاب والسنة هما المصدر، والنموذج المثالي لصحابة رسول الله هو المَعْلَم، دعوة الإمام ابن تيمية هي نموذج صياغة العقل بعد تأثير الوافدات الفكرية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الرصيد الذي نرتكز عليه. لكن نتحدث عن صياغة نموذجية تعطينا منهجاً جديداً: في البناء العقدي، في الاجتهاد التشريعي، في التفاعل الحضاري، في الصيغ المطلوبة آنياً، هناك تنبه لهذا، وهناك محاولة استباق من فئات لا يعتبرها الصحويون من الصحوة، وهناك استباق من أناس من الصحوة، وربما الدكتور عبد الله كان يلمح إليهم في قضية الانهزام النفسي وهي من هذا، وإن كنت لا أعتبره هزيمة، أقصد أنهم أناس ينقدون الاتجاه السلفي من داخله، والآخرون الذين يمثلون تياراً محافظاً في دائرة السلفية بدأت بعض
حركتهم ترتبك، هم يرون أنه لا بد من حركة تجديد، أن يستجيبوا لهذا النقد الذي يكون أحياناً صارخاً في أدائه وفي قوة لذعاته. أيضاً هذه مشكلة، هذه حالة ارتباك فكري حاد، وأنا اعتبره في هذا الموضوع.
البيان: نعود مرة أخرى إلى مظاهر هذا الارتباك الفكري سواء على مستوى الممارسة أو على المستوى الفكري والثقافي.
* د. ناصر العمر: يمكن أن نتفق على وجود هذه الأمور التي سماها الدكتور ارتباكاً، أو يمكن تسميتها مشكلات أو نوعاً من الضبابية، أو نحوها. التسمية ليست مهمة في رأيي، سأذكر بعض المشكلات على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من أجل فتح هذا الموضوع وطرحه للنقاش.
أنا أعتقد أن من المشكلات الموجودة أصلاً عدم وضوح البرنامج العملي في ذهن بعض قادة الساحة؛ حيث كان تركيزهم على جانب معين، وعدم التكافؤ ـ فيما أرى ـ بين الوعود والمكتسبات العملية أحدث مشكلات؛ عدم واقعية الناس أيضاً في مطالبهم تجاه ما ينبغي تحقيقه، الناس بطبعهم يتمنون ويتخيلون عندما يتحدث المتحدث، وقد يكون القائد في ذهنه شيء محدد، الناس يأخذون من(1/1851)
الخيال، فلما يرون ما يحدث ما يتوقعون أنه هو الأمر، ومن هنا نشأت مشكلة. أيضاً توجد نقطة اعتبرها رئيسة وكانت جديدة على الصحوة، وهي أن الصحوة في أول أمرها كانت كالذي يسير على الأرض السهلة، ثم بدأت العقبات التي أخبر الله بها بقوله - تعالى -: {الم1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، فبدأت الفتن والابتلاءات بشتى أنواعها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، ونشأ اختلاف في وجهات النظر في مواجهة التحديات، وخاصة من القوى الضاغطة؛ فحدث تراجع أو هزيمة. أيضاً هنا إشكال معين وهو الاختلاف بين النقد فقط وتقديم البرنامج؛ لا يلزم أن من ينقد الواقع أنه لا بد أن يقدم برنامجاً، قد يكون عنده قدرة على نقد الواقع، كما يقال في محيط الأدب أنه لا يلزم في ناقد الشعر أن يكون شاعراً، قد تكون قدرة الناقد على النقد أسهل، ربما كان في الماضي التركيز على النقد فقط، وهذا طبيعي، بل هو منهج وله أصل، حتى يبين للناس الواقع الذي يعيشونه ليتخلصوا من سلبياته. ثم بدأ بعضهم يطالب بالخطوة التالية، لكنها لم تكن جاهزة فكان بطء فقه الحركة من قادة الصحوة، وضعف القدرة على استثمار الفرص
المتاحة. أما ما يتعلق بالجانب الفكري، فأعتقد أن عدم تحديد بعض المصطلحات والرؤى السابقة مشكلة ظاهرة. كانت تطلق رؤى لم تحرر، ثم أُخِذت على أنها مسلَّمات وهي ليست كذلك؛ فلما جاء صاحبها بعد حين لأجل أن يحررها ويبينها ترى أنه تراجع، تغير، اختلف. ومنها أيضاً الخلط بين الوسيلة والمبدأ، فكان الناس ـ أنا أتكلم عما كان سابقاً من قادة الصحوة على أنها تكون مبادئ، قد تكون وسائل ومراحل في هذا الجانب؛ فهم لا يفرقون بين الوسيلة والمبدأ، في ما كان مرحلياً أو مبدئياً، المرحلة تتغير؛ فما كان قبل 10 سنوات نجد أنه يختلف عما هو عليه الآن، أما المبدأ فهو الذي لا يختلف الناس عليه. وحدث إشكال في الجانب الفكري.
* د. عبد الله الصبيح: إذا أردت أن أتحدث عن الارتباك الفكري فالمجال فيه واسع جداً، والارتباك الفكري ربما يكون بسبب مواجهة المواقف الجديدة التي تتطلب اجتهاداً غير معهود، وربما لم ينجح المجتهد في الوصول إلى اجتهاد سليم؛ بسبب عدم إدراك الواقع إدراكاً صحيحاً، أو بسبب البقاء على نوع من المطلقات الفكرية العامة جداً التي يصعب تنزيلها على الواقع وتحويلها إلى صيغ عملية. ومن معوقات الاجتهاد التي تساهم في إحداث الارتباك الفكري أنه قد يستقر عند بعض الناس أنماط فكرية، وصيغ عملية، وحينما يواجهون ما استجد من الحياة يظهر عجز تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية التي استقروا عليها عن مواجهة الواقع، وربما ظن بعضهم أن تلك الصيغ العملية، والأنماط جزء من الدين، بينما هي اجتهاد أو رأي، أو ربما مجرد عادات لا علاقة لها بأمر الدين. ويقع الارتباك الفكري حينما يعجز العالم عن الاجتهاد بما يفي بحاجة الناس أو حينما يجتهد فيختار غير ما(1/1852)
ألفه الناس من تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية، وربما فسر بعض الأتباع هذا بأنه نوع من التراجع، أو أنه نوع من الارتباك الفكري.
وبعض صور الارتباك الفكري ليست من الهزيمة النفسية في شيء، وينبغي تمييزها عنها. أما الهزيمة النفسية، فكما قلت من قبل لها عدد من المظاهر، وأوضح هذه المظاهر وفقاً للمنحنى المتدرج الذي أشرت إليه آنفاً أقصى صور المنحنى، وهي التخلي عن المبدأ والقبول بمبدأ الخصم. هذه صورة فاقعة تماماً لا يستطيع أحد ألا يدركها.
البيان: لكن هل هذه الصورة موجودة في الصحوة؟
* د. عبد الله الصبيح: هذه ليست موجودة بهذه الحدية، لكن هذه أقصى صورة من صور الهزيمة النفسية وهي موجودة عند بعض أبناء الأمة.
ومن مظاهر الهزيمة أيضاً: الانطواء والعزلة، وهذه أزعم أنها موجودة عند أفراد من الصحوة الإسلامية، بل إن بعض قطاعات الصحوة لما عجزت عن مواجهة الواقع آثرت الانطواء والعزلة، وتمسكت بما هي عليه من فكر، وهذه أعدها صورة من صور الهزيمة النفسية. وهناك صورة أخرى ربما يختلف فيها القول، ويثور حولها الجدل وهي تطويع النص وتأويله. أحياناً يكون ذلك ناتجاً عن اجتهاد سائغ، وأحياناً يكون عن هزيمة نفسية؛ لأن القضية التي تشغل الذهن هنا هي: ما حدود ذلك التطويع وذلك التأويل؟
أحياناً يكون التأويل السائغ للنص نوعاً من الاجتهاد المطلوب الذي يثاب عليه صاحبه، وفي أحيان أخرى لا يكون كذلك؛ لأنه يتجاوز ثابتاً من ثوابت الشريعة وقطعياً من قطعياتها، فيكون عبارة عن هزيمة وتخلٍّ عن ثابت من ثوابت الشريعة، وواضح فيه مسايرة الطرف الآخر صاحب القوة وصاحب الغلبة؛ فهذه صورة من صور الهزيمة النفسية، وهذا الذي عنيته حينما قلت: عودة المشروع العصراني إلى البروز حينما بدأت الصحوة الإسلامية تواجه الواقع، وأنا أرى أنه لا يوجد مشروع عصراني مستقل، ولكن هناك طريقة في التفكير تحاول أن تتخلى عن بعض ثوابت الشريعة، و تطوع بعض ما في الشريعة استجابة لضغط الواقع. نعم! هناك أشياء لا بد للفقيه أن يراعي فيها حاجات الناس وأوضاعهم، وليس هذا من الهزيمة النفسية أو الولاء المذموم، لكنَّ هناك صوراً فيها نوع من الطبعة العصرانية التي كانت في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، بدأت تعود إلى البروز مرة أخرى. وهذه أرى أنها هزيمة نفسية لكن أرجو ألا تكون واسعة الانتشار.
وهناك مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية، وهو تقليد الغالب في اللباس، وفي الزي، وفي أمور سلوكية أخرى؛ هذه ظاهرة من ظواهر الهزيمة النفسية في المجتمع المسلم، ولكنها ليست ظاهرة في الصحوة الإسلامية، أو أرجو ألا تكون كذلك. هذه بعض ظواهر الهزيمة التي تبدو لي، وقد لا يخلو واحد منها من جدل وخلاف؛ لأن المصطلح فضفاض.(1/1853)
ضيوف الندوة:
* فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
* فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
* فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
في العدد الماضي دارت الأسئلة والأجوبة حول: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة، وهل هي موجودة في أوساط العامة؟ وقد بين المشاركون أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري. وتطرقت الندوة إلى أمور عدة منها الأطروحات العصرانية. - البيان -
البيان: نعود لقضية تطويع النص على اعتبار أنها من الممارسات التي بدأت تظهر بشكل أوسع، ومن نتائجها محاولة التأقلم مع المتغيرات الحضارية والمتغيرات الثقافية والتأثر بطوفان العولمة؛ فهل أصبحت قضية تطويع النص ظاهرة؟ وهل تمثل هذه القضية مشكلة في واقع الصحوة أم أنها مجرد ممارسات فردية يمكن تجاوزها بيسر وسهولة؟ مثلاً أصبح الآن عدد من المفكرين والمثقفين يحاول أن يبحث عن اجتهادات فقهية سابقة، ويحاول أن يعيد الحياة إليها من جديد؛ ليس لأن الدليل الشرعي يقويها، وليس لأن المصلحة الشرعية تقتضيها، ولكن لأن الواقع السياسي أو الواقع الثقافي والاجتماعي ربما يتجاوب معها؛ فبدأت تظهر بعض الاجتهادات الفقهية التي قد يعدها بعضهم جزءاً من الهزيمة.
* د. عبد الرحمن الزنيدي: حتى يكون في الأمور شيء من الوضوح أريد أن أبين أن حديثي هنا يتناول تيارين مختلفين:
1 - تيار تحريف النصوص.
2 - تيار منهج التيسير أو ما يسمى الآن: منهج أصحاب التيسير؛ وهما خطان مختلفان.
بالنسبة لمنهج تحريف النصوص؛ فهذا لا يوجد في دائرة الصحوة، بل هو خارج دائرة الصحوة، وهذا له مقتضى ظرفي؛ فهو ما ظهر إلا لبروز الصحوة. ومشكلة أعداء الإسلام قديماً وحديثاً هي قضية قدسية النص القرآني لديهم؛ هذه هي أعمق مشكلة لدى أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، وقد صرحوا بهذا كما تعلمون في فرنسا؛ حيث حاول المستشرقون جهدهم عبر قرون أن يسقطوا قدسية النص، واستبشروا حينما رأوا الالتزام بالقوانين الوضعية بعد دخول الاستعمار، إلا أن المشكلة التي فاجأتهم هي عودة الصحوة الإسلامية لتجعل شعارها العودة إلى القرآن والسنة، يعني أن الأمر انعكس عليهم، وكما يقولون: انقلب السحر على الساحر، وهنا أصبحت الصحوة الإسلامية مزعجة لهم، وقامت(1/1854)
دراسات ومراكز دراسات متخصصة في الغرب، وعقدت مؤتمرات في الغرب لدراسة واقع الصحوة وفكرها.
ومن هنا برزت جهود متعددة منها الجهد المتمثل بدراسات مفكرين عرب والذي يمكن تسميته بالاستشراق العربي، وهو قيام أناس بالتعامل مع النصوص الشرعية، وهم في الأصل غير إسلاميين، وقد يكون أصلاً بعضهم غير مسلمين بالمعنى الفكري، يعني أنهم يتبنون الماركسية المخالفة للإسلام تماماً، لكنهم جاؤوا ليدرسوا النص الشرعي، وليقدموا للمسلمين صورة منه تنتهي بهم في مجملها بنظرة استشراقية، والمقصود بالنهاية هو هدم قدسية هذا النص، وقد ذكرت النماذج من خلال الأسماء مثل: (حامد نصر أبو زيد)، وكل كتبه تتعلق بهذه القضية، ومثله (الدكتور محمد شحرور) في كتابه (القرآن والكتاب..قراءة معاصرة)، ومثله (محمد أركون) الذي يقرأ القرآن من خلال المنهج الألسني.
البيان: لا شك أن هذا الكلام مهم جداً، لكنه استطراد في محور آخر، وكلامنا هنا عن تطويع النصوص في دائرة الصحوة، وهؤلاء ليسوا من أوساط الصحوة؟
* د.عبد الرحمن الزنيدي: هذا الذي ذكرته موجود خارج دائرة الصحوة، وكما قلت هم لا يعدون أنفسهم من الصحوة، بل يعدون أنفسهم من أعدائها، والصحوة لا تعدهم منها، ولا غيرهم أيضاً من المحايدين يعدهم من الصحوة.
أما المسار الثاني فهو مسار ما يسمى (منهج التيسير)، وهو الذي ذكر فضيلتكم أنه ظهر نتيجة تفاعلهم مع الواقع المعاصر. ربما يقول بعض الناقدين إنه نتيجة ضغط الواقع عليهم، ويمكن أن نعبر تعبيراً آخر فنقول: نتيجة تفاعلهم المباشر مع الواقع. والحقيقة أن الواقع له ضغطه بلا شك، ونتيجة لهذا حاولوا أن يبحثوا فيما يعتبرونه هم الدائرة الإسلامية التي تشمل النصوص المباشرة وقطعيتها.
ثم في مجال الاجتهادات فإن هذه الاجتهادات الموجودة منها اجتهادات راجحة، واجتهادات مرجوحة. المذاهب المشهورة عندنا أربعة؛ لكن هناك اجتهادات خارج هذه المذاهب، فيقولون: لماذا لا نأخذ بها؟ عندهم عدة مناهج في قضية منهج التيسير أو بناء أحكام جديدة غير ما توافَق عليه المسلمون في عصور سابقة، وإن كانت هي موجودة ولكنها مطمورة في هذا. حقيقة أنا لا أُدخل هذا فيما يسمى بـ (الهزيمة النفسية)، أنا أُدخله في (قضية التفاعل مع الواقع) الذي كان لهذا الواقع فيه ضغط عليه، وأن هذا وضع طبيعي. أقول: إن هذا وضع طبيعي لمن يلابس الواقع، ولا بد لمن يلابس الواقع ألا يبقى في دائرة صورة مثالية؛ فما كان نظرياً مثالياً يتغير في دائرة التطبيق؛ فالتطبيق يستلزم مرونة في التدرج ومراعاة الظروف وما تعم به البلوى... إلخ. أنا باستطاعتي أن أجمع مجموعة من الكتب في التربية فأصوغ خطبة عن تربية الأولاد التي تخرج الملائكة، وأخطب في الناس، ويتخيلون أنني ملاك، لكن أنا إذا ذهبت إلى بيتي أجد أنني لا أستطيع أن أطبق لا نصف ولا ربع ما أتحدث به(1/1855)
إليهم أحياناً؛ فالأمر النظري شيء، والأمر التطبيقي الواقعي شيء آخر. أمامك وضعيات، أمامك نفسيات، أمامك بشر له اهتماماته ومصالحه وأعرافه وعلاقاته.
البيان: لكن ألا تلاحظ أنه حصل في هذا الاجتهاد نوع من الارتباك؛ بمعنى أن الفقهاء تفاوتوا في هذه القضية، فتوسع أقوام وانضبط أقوام آخرون؛ وبعض الذين توسعوا كانت توسعاتهم غير مرضية وغير متزنة؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: القضية نسبية؛ لأن كل واحد يحكم من موقعه، ويرى أن دائرته منضبطة، وما تجاوزه هو نوع من الارتباك. أما الارتباك فهو سيحدث حتماً. المسلم العالم الداعية حينما يعالج هذه القضية، ويتنزل فيها تجاوباً مع الواقع سيشعر بحرج، ليس فقط حرجاً نفسياً، بل أيضاً حرجاً فكرياً، يعني هو يشعر بأنه مسؤول أمام الله في فتواه إن أفتى بها، ومسؤول أمام الله إن نأى بنفسه عنها.
* د. ناصر العمر: أما جانب تحريف النصوص فإنه بيّن، لكن ما يسمى بالتيسير أرى أنه يجب أن نفرق بين أمرين: ما ندعو إليه الناس وبين تطبيقات الناس، وقد نجد للناس مخارج أو حلولاً بعدما يقع منهم الفعل، الخطورة في أن يتابع واقع الناس المتردي، وذلك بسبب ضغط الواقع على المفتين وعلى الناس.
والإشكال هو أن يتحول الاستثناء إلى منهج، أو أن تتحول الرخص في الشريعة إلى منهج، ويبدو لي أن هذا هو الذي وقع فيه بعض الفقهاء. يقابل هذا المنهج جانب متشدد فتراه يتعامل بمثالية، وكِلا هذين المنهجين خطأ. والخلاصة أن نكيِّف الواقع مع الإسلام، ولا نكيف الإسلام مع واقعهم.
* د. عبد الله الصبيح: في قضية تطويع النص للواقع كما قلت بعضهم يسميه نوعاً من الاجتهاد، وقد يكون كذلك، وقد يسميه الطرف الآخر تطويعاً للنص؛ فالقضية موضع إشكال وتباين في وجهات النظر، وهذا الأمر له أسباب في واقعنا المعاصر، ومنها:
1 - انتشار الفتوى وشيوعها بسبب الفضائيات؛ فالفتوى الآن لم تعد خاصة بالمجتمع الذي تصدر له فلا يطَّلع عليها غيره؛ والأصل في الفتوى أن تكون خاصة بمن صدرت له، ولكن الفضائيات نشرتها وأصبحت الفتوى التي يفتي بها الفقيه لشخص يعيش قضية خاصة في فرنسا يسمعها الشخص في السعودية وفي اليمن وفي غيرهما من بلاد المسلمين، وهذا يجعل الشخص المستفتي ربما يعترض على مفتيه في بلده الذي يعرف ظروفه ويقدر وضعه، ويبحث عن فتوى أخرى ربما يظنها أيسر أو ربما يظنها أتقى لله - عز وجل -.
2 - أن بعض ما نظنه ليّاً للنصوص هو نوع من الخلاف الفقهي الذي ربما يكون أحياناً معتبراً، ومن الأمثلة على ذلك ما يحصل من خلاف حول قضية تغطية الوجه: الرأي الفقهي المعتبر في السعودية هو وجوب تغطية الوجه، وعلماء آخرون لهم رأيهم ولهم أدلتهم يرون خلاف ذلك، ومن هؤلاء (الشيخ(1/1856)
ناصر الألباني)، ولا يمكن أن تتهم الشيخ ناصر الألباني بأنه أراد أن يجاري الواقع، ولكن هذا نوع من الاجتهاد السائغ والخلاف المعتبر.
البيان: هذا صحيح، لكن لا شك في أن بعض الفقهاء المعاصرين رجَّح هذا الرأي أو ذاك ليس من منطلق دراسة النصوص الشرعية، بل بسبب ضغط الواقع، أو الاستسلام للإلف والعادة.
* د. عبد الله الصبيح: ربما؛ وهنا تأتي أهمية وعي الفقيه وتجرده للحق، ولا بد من ملاحظة ضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف.
البيان: أعود لأصل الموضوع وأقول: كيف يمكن إعادة التوازن في بناء الصحوة من جديد؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: الصحوة الإسلامية تيار عام، الصحوة تعم الأمة بمختلف شرائحها، ومن ثم فينبغي أن لا نضع صورة مثالية نحكم بأن عدم الوصول إليها اختلال وسقوط.
وحتى أوضِّح الصورة؛ فإن غالب التيارات الأخرى في العالم الإسلامي تيارات نخب ثقافية وسياسية محدودة، ومن ثم يمكن مطالبتها بأن تكون على مستوى دعوتها، لكن الأمر غير ذلك بالنسبة لصحوة أمة تحتوي وستبقى محتوية على الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
لا يعني ذلك أن نقف في البناء الصحوي عن ترقيته نحو الأفضل إلى مجرد النظر المعجب بها فقط، كلاَّ! إن ترشيد مسيرة الصحوة، وعلاج الأدواء العارضة لها أمر واجب؛ إذ هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين.
ومن أهم قضايا الإصلاح المطلوبة في الصحوة الإسلامية تحقيق التوازن المعتدل بين جوانب بناءاتها بين الجانب التعبدي والجانب الاجتماعي، بين المجال التربوي، والمجال السياسي، بين الاندفاع في حماية الدين ونصرة الحق والتعقل ورعاية المصالح في اتخاذ المواقف والتصرفات... إلخ.
من أهم وسائل تحقيق هذا التوازن فقه الدين؛ فقه منهج الإسلام المبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، منهج الإسلام الشمولي، وعدم الاندفاع مع ردات الفعل غير محسوبة العواقب للأحداث والمفاجآت.
البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية لدى عامة المسلمين والتقليل من آثار الارتباك؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: نعم! للارتباك وجه سلبي من حيث كونه اضطراب رؤية، وتخويفاً من الجو المحيط، وعجزاً عن اتخاذ مواقف، أو عدم ثقة في المواقف المتخذة، لكنَّ له وجهاً مشرقاً يتمثل في أنه يحمي الإنسان من الاندراج في تيار الأحداث انسياقاً معها أو مضادة لها دون وعي، وفي أنه ليس مجرد وعي، وإنما هي لحظات استبصار وتأمل يبحث عن الأرشد؛ ولهذا فالسؤال هو: كيف نتجاوز موقف الارتباك نحو مواقف إيجابية مبنية على هدي الشريعة وعقلانية النظر وحساب كل جوانب القضية؟(1/1857)
السبيل هنا هو ما ذكرته ـ ربما ـ قبلاً من الانطلاق من الرؤية الشرعية المتزنة لا من ردات الفعل، والفقه السديد بمقاصد الشريعة وأولويات المصالح؛ لأن غالب إشكاليات الصحوة ليست في مسائل تعبدية جاءت عموم أحكامها محسومة في الشرع، لكنها في مناهج دعوية وفي شؤون اجتماعية مدارها مقاصد الشريعة وجلب المصالح ودرء المفاسد، وأيضاً فقه الواقع بامتلاك تصورات صحيحة متماسكة لهذا الواقع ليكون الحكم عليه المنطلِقُ من هذا التصور سديداً.
البيان: هل من تجارب معاصرة تُستثمر في تجاوز الأزمة؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: أزمة؟ أية أزمة؟ الأمة الإسلامية ممثلة بصحوتها الشاملة لمختلف شرائحها تعيش حالة تطلع وتحفز نفسي للنهوض، وتهيؤ لتقديم الجهود لتحقيق هذا النهوض الحضاري.
نعم! المعوقات كثيرة وضخمة، ونواقص العلم والمعرفة حقيقة موجودة، وبطء الحركة مشهودة، لكن كل ذلك لا يبرر وصف الأمر بأزمة، بل ربما بعض هذه الأشياء تعد نعمة للصحوة، وبالذات المعوقات وجهود الأعداء؛ لأنها تشحذ العزم وتستحث لجمع الجهد، وللتوحد في العمل، وهي متطلبات ضرورية لحركة النهوض الحضاري.
البيان: النظر للجانب المحزن المولد للاحباط.
* د. عبد الرحمن الزنيدي: ليس هذا منهج المسلم، منهج المسلم دائماً استبشاري تفاؤلي، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس تفاؤلاً في الساعات الحرجة، وكيف تحجب النظرة السوداوية رؤية المسلم وهو الذي يوقن بحكمة الله في تدبيره، وبمعية الله لعباده المؤمنين، وبأنه ما دام محتسباً مستقيماً على خير في كل أحواله «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
ليس معنى هذا طبعاً أن يتجاهل المسلم ما تعيشه الأمة من تخلف، وما يعتور سيرها من عثرات ونواقص، بل يستحضرها في حسبانه، لكنه لا يقعد عندها نائحاً نادباً دون حراك وتطلع؛ إنه يُبعد هذه الحجارة عن طريقه ما دام نظره إلى أهدافه من ورائها سائراً إلى تلك الأهداف مزيلاً تلك الحجارة عن طريقه.
البيان: هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل؟
* د. عبد الرحمن الزنيدي: إذا تجاوزنا القاعدة الشرعية لموقف التفاؤل شعوراً بعدل الله وحكمته في أمره، وبمعيته للمؤمنين، وبحربه لمن يعادي أولياءه الصالحين؛ فإن مؤشرات السنن الاجتماعية والمعطيات الواقعية إذا قُرئت من زاوية أوسع من الأحداث الفردية بانفعالاتها السريعة اشتعالاً وانطفاء، كلها تدعم التفاؤل بظهور الإسلام ونهضة المسلمين نهضة مرتكزة على الإسلام بصفته المبدأ الأرشد في إصلاح الأحوال وحل المشكلات والشهادة على الناس.(1/1858)
- إن تحولات الأمة إذا نُظر إليها عبر مسيرة قرن كامل أو نصف قرن أو حتى ربع قرن تؤكد التقدم نحو الأفضل في القرب من الإسلام وارتقاء مستوى الفقه فيه وبناء الحياة على مقرراته.
- إن انفتاح رواد الصحوة علماءً ودعاةً ومثقفين على عصرهم بروح الإسلام دون انبهار مُعمٍ، ولا استغلاقٍ انكماشي.
- إن سقوط رايات الكفر والضلال والشرود والاغتراب في العالم الإسلامي كله على المستويات الثقافية والسياسية.
- إن الاستثمار الراشد لمنجزات العصر في الدعوة إلى الإسلام والبناء الحضاري.
- إن التفاعل الإيجابي مع تداعيات العولمة السلبية والإيجابية.
- إن اعتراف أعداء الأمة ودينها بأن صحوتها الراهنة ليست محصورة في تدين شخصي، وإنما هي انبعاث حضاري بمشروع شامل ينبغي أن تُستنفر القوى الكبرى لمواجهته.
- ثم إن إحسان المواقف تجاه هذه التداعيات العولمية والاستفزازات والتضييق، وضبط النفس وتلمس بدائل ممكنة للأبواب التي تغلق تجاه الدعوة وحركة النهوض.
كل ذلك يمثل مؤشرات للتفاؤل والاستبشار والآمال التي ينبغي أن تحفز على الحركة والتواصل وتقوية الذات أكثر فأكثر. إن وجود معوِّقين ومخذِّلين وأُجَراء لأعداء الأمة حتى أحياناً باسم الدعوة والغيرة على الدين، وإن وجود متطرفين يقفزون فوق سنن الله في التغيير الاجتماعي، ونحو ذلك لا يمثل عامل إحباط يُسقط تلك المؤشرات؛ خاصة ونحن نشهد أن مثل هؤلاء أصبحوا شذوذاً عن مسيرة الصحوة العامة محدودين في أعدادهم ومساحة التقبل لهم.
* د. عبد الله الصبيح: يقال دائماً «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فالتصور الصحيح يؤدي إلى حكم صحيح، وما تحتاجه الصحوة من أجل إعادة التوازن في البناء ـ في نظري ـ هو إعادة بناء تصوراتها المعرفية بناء صحيحاً؛ وهذا يقتضي وجود تكامل معرفي يحتوي على مجموعة من المعارف: الشرعية، والفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية. في الماضي كان ما يدرسه الفقيه في المتن الفقهي هو ما يمارسه الناس في الواقع أو قريب منه؛ أما الآن فلم يعد المتن الفقهي الذي يدرسه الطالب يمثل مرجعية للسلوك في كثير من شؤون الناس، وأصبحت المعارف الأخرى بل تجارب الشعوب الأخرى تمثل مرجعية للسلوك أكثر من كتاب الفقه. والفقيه كي يعدِّل سلوك الناس ويحكم على الواقعات التي يراها أمامه لا بد له من معرفة بهذه العلوم والمعارف التي تؤثر في سلوك الناس.
والتكامل المعرفي يكون بإعادة بناء مناهجنا الدراسية في الأقسام الشرعية والأقسام الاجتماعية على حد سواء، وإذا لم يتحقق ذلك فلا أقل من إقامة ندوات مشتركة يشترك فيها أصحاب التخصص الشرعي مع نظرائهم من أصحاب التخصصات الأخرى، وهذه الندوات سوف تثري الطرفين بلا شك، ويطلع كل فريق على ما خفي عليه مما يعلمه الطرف الآخر.(1/1859)
البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين، والتقلل من آثار الارتباك التي أشرنا إليها في أول الندوة؟
* د. ناصر العمر: لعلِّي أركز على أبرز الأسباب التي توقع في الهزيمة النفسية، فمنها:
الفتور، الانقطاع عن الطريق، اختلاف القلوب، تنقّص العلماء والحكماء، الانتكاسة والعياذ بالله، الاستسلام للعدو، ذهاب ريح الأمة، كل هذه الأسباب توصل في النهاية إلى الهزيمة النفسية إذا وقعت، فتجنب هذه الأشياء بكاملها، وتصور عقبات الطريق كل ذلك ينقذ ـ بإذن الله ـ من هذا الأمر؛ ومن هنا فإن الأسباب التي تنجي، وتكون حصانة وعلاجاً ألخصها فيما يلي:
أولاً: فهم القرآن: إننا لم نُعطِ القرآن حقه الواجب من الفهم والتدبر، ولا شك أن للقرآن تأثيره الإيجابي في التخلص من كثير من الأمراض والآفات الحسية والمعنوية؛ ففهم القرآن هو المنجي بإذن الله والمخلص، بل أكاد أجزم أنه مانع بإذن الله من الهزيمة، والآيات صريحة في توضيح هذا الأمر، مثلاً: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، هذا نموذج للخلاص من الهزيمة النفسية.
ثانياً: سيرة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وسير الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: فالذي يدرس سيرة الأنبياء يتعجب، مع ما مروا به من أحوال قاسية وظروف صعبة يلحظ أنه لم تمر بهم الهزيمة النفسية أبداً في حياتهم؛ فدراسة سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الأنبياء الثابتة في القرآن والسنة هذه أيضاً تخلِّص من الهزيمة، وكلمةُ تخلِّص تتضمن المعنيين: عدم الوقوع، والنجاة إذا وقعت.
ثالثاً: سِيَر المجددين والمصلحين: وهذا أيضاً مهم جداً؛ لأن المجددين والمصلحين ليسوا أنبياء، ومع ذلك نرى كيف واجهوا ذلك ونقلوا الأمم من واقع إلى واقع، ولو أنهم استسلموا للهزيمة النفسية لما أصبحوا من المجددين، وما أثروا في تاريخ الأمة.
رابعاً: أيضاً من أبرز ما يحتاج أن يربى عليه الناس عدم الاعتماد المجرد على المظاهر المادية؛ فالإشكال أن أكثر ما يوجِد الهزيمة النفسية هو التعامل المباشر مع المظاهر المادية دون الرجوع إلى السنن الكونية والكتاب والسنة، فلا شك أنها تؤثر؛ فالأحداث الجارية صباح مساء مؤثرة في حياة الناس؛ إذن عدم الاعتماد عليها فقط وفهم وإدراك هذه الأحداث يساعد بإذن الله.
خامساً: فهم الواقع على حقيقته دون مبالغة، والتعامل معه بفقه ووعي، كل هذا يخلص بإذن الله.
وأركز هنا على ضرورة أن تكون الدعوات مبنية على أصول شرعية ثابتة وهي أصول الكتاب والسنة؛ فإذا كانت الدعوات مؤصلة فإنها لا تنهزم ولا تهتز، كالبناء الذي له أسس قوية جداً، أما إذا كانت هشة ضعيفة فهي عرضة للتبديل والتغيير، والله أعلم.(1/1860)
البيان: ذكرتم فضيلة الشيخ! سِيَر الأنبياء والمجددين والمصلحين؛ فهل ثمة تجارب من التاريخ أو من الواقع المعاصر يمكن من خلالها أن نستثمر تلك التجارب وتعيننا في تجاوز الأزمات التي يمكن أن تحدث في المستقبل؟
* د. ناصر العمر: أبرز التجارب المعاصرة لدينا تجربة أفغانستان، ويجب أن ننظر إليها من الزاوية الإيجابية. لما دخلت روسيا بجبروتها وقوتها وغطرستها إلى أفغانستان؛ فإن الذين يتعاملون مع المادة يرضون بالهزيمة، وقد يستسلمون مباشرة وحدث هذا، لكن الذين تعاملوا بأسلوب آخر وأعلنوا الجهاد الحقيقي في حينه ماذا حدث بسبب ذلك؟ كما تعلم ما هي إلا سنوات معدودة ـ اعتقد أنها قصيرة جداً ـ في عمر الزمن حتى تداعت الأمة إلى الجهاد مع حداثة التجربة، ومع أن الأمة منقطعة لفترة طويلة عن الجهاد، وما يجري في فلسطين لم تشارك فيه الأمة من خارج فلسطين إلا قليلاً، مع ذلك انظر كيف كانت النتائج؟ أما ما حدث من سلبيات بعد ذلك فمسألة أخرى ليست مقصودة في حديثي، ولم يستثمر هذا الانتصار في أفغانستان واستغله الأعداء. وقد تحقق في قضية فلسطين انتصارات ضخمة مع أن العالم تقريباً يكاد يُجمع ـ حتى من داخل الدول العربية وغيرها ـ ضد المسلمين وضد المجاهدين، ومع ذلك فالانتصار ظاهر وبارز. بالأمس القريب كنت أنظر إلى محاولة اليهود اقتحام المسجد الأقصى، وفجأة نجد هذا الحشد الهائل بعشرات الآلاف من الفلسطينيين مع قوة الضربات، ومع شدة الأزمات، ومع الظروف المعيشية ومع التعذيب ومع التنكيل، ومع ذلك كله نلحظ القوة والسيطرة وتراجع العدو في أماكن كثيرة.
يكفي أن أقول كلمة واحدة: إن الصوت الأعلى هو صوت الجهاد ضد تلك المؤامرات، بل حتى في العمل السياسي عندما أجريت الانتخابات البلدية الفلسطينية، حصلت حماس على 70% تقريباً، مع أننا لا نسلِّم بنزاهة الانتخابات تماماً؛ فكيف لو كانت نزيهة؟
في المشهد العراقي مثال آخر؛ لما دخلت أمريكا للعراق ما كان أحد يتصور أن يصمد الشعب العراقي هذا الصمود، الآن أمريكا في مأزق لا يُشَك فيه.
وهذا الثبات بحد ذاته انتصار عظيم، وعدم استسلام المصلحين لروح الهزيمة هي البداية القوية للنصر. قارن بين ما يحدث في العراق خلال السنتين الماضيتين وبين أيام التتار عندما استسلم الناس وهُزموا نفسياً!
إن هذه الأمثلة من أعظم التجارب. أيضاً تجربة البلقان وما حدث فيه يؤكد هذه الحقيقة.
إذن هذه تجارب واضحة وقوية لم يستسلم أصحابها للهزيمة النفسية أبداً؛ مع أن كل الأدلة الظاهرة المادية قد تدعو إلى مثل ذلك.
وأؤكد أن من أعظمها وأبرزها لديَّ قضية فلسطين، ولا تزال وستظل بإذن الله أنموذجاً حياً حتى يتحقق الانتصار الحاسم.(1/1861)
* د. عبد الله الصبيح: جواباً على سؤالك: «كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين والتقلل من آثار الارتباك؟ » أقول: قد ذكرت في مطلع حديثي عن الهزيمة النفسية أن لها صورتين: الأولى: هي هزيمة الذات أمام المبدأ. والثانية: هي هزيمة المبدأ أمام الواقع. وعلاج الصورة الأولى يكون بالتربية الإيمانية، والتربية على الزهد في الدنيا. وعلاج الصورة الثانية يكون بأمور:
الأول: بالتكامل المعرفي، والجمع بين الثقافتين الشرعية والمدنية.
الثاني: بتجاوز صدمة الانبهار أمام الواقع؛ فبعض الأساليب التربوية تحول بين الفرد والاتصال بالواقع ومعايشته، ويصور له بأنه شر وفساد؛ فإذا واجه الشخص الواقع فربما اكتشف أن الواقع ليس كما صُوِّر له، أو يكتشف أن أدواته عاجزة عن التعامل مع الواقع الجديد، فيشعر بالانبهار، وينهزم أمامه. ومعالجة هذا بتربية الفرد على مواجهة الواقع والتعايش معه بدلاً من العزلة عنه ثم مواجهته فجأة. إن المواجهة المستمرة المتدرجة مع الواقع تجبر الشخص على تطوير أدواته في التعامل مع واقعه والتكيف معه.
الثالث: الاطلاع على التجارب الناجحة التي استطاعت مواجهة الواقع وقدمت نماذج سليمة. إن توسيع المدارك بمعرفة بدائل عديدة من تجارب الشعوب سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة لا يجعل الشخص يشعر بالإحباط في مواجهة الواقع، بل يكبر عنده الأمل في التغلب عليه لما يعلمه من بدائل ناجحة.
البيان: لكن لو نظرنا إلى واقع بعض الناس فإننا نجد أنهم ينظرون إلى الجانب المحزن من هذه التفاعلات العالمية في الواقع المعاصر، وهذا ولَّد شعوراً بالإحباط عند بعض الناس.
* د. ناصر العمر: هذا يفسر ما قلته لك سابقاً. لا ينبغي أن نتعامل مع الحدث اليومي مباشرة بمعزل عن السنن الكونية والمنهج القرآني وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فالذي يدرس سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى أنه مر بمكة في ظروف أقسى من التي نمر بها ونعيشها الآن. يقول الله - عز وجل -: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
الذي يتعامل مع الجانب المادي والحدث اليومي فقط قد يحدث عنده شيء من الانهزام، وأما من يتعامل مع القرآن والسنن الكونية، مع الأخذ بالأسباب فإنه لا يشك ـ بإذن الله ـ في تحقيق نصر الله. لكن نؤكد على حكمة الله - جل وعلا - البالغة في جعل الأسباب مؤثرة في الحياة؛ فمثلاً: الخلاف والاختلاف بين الدعاة عوامل مؤثرة تؤخر النصر، وكذلك سوء الظن بالله - جل وعلا - من أبرز الأسباب التي تؤخر النصر؛ وفي هذا الأمر يقول - تعالى -: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم(1/1862)
بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]، وقال - تعالى -: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
ولذلك لو أن الناس تلافوا الأسباب التي هم واقعون فيها واجتهدوا في هذا الأمر؛ فإن النصر سيكون أقرب مما يتصورون. قد يقول قائل: الناس الآن لم يتلافوا هذا الأمر؛ فمعناه أن الهزيمة قد وقعت. هذا غير صحيح، بل الانتصار قائم الآن ولله الحمد، والمناطق الساخنة في العالم مثل فلسطين، العراق، الشيشان، نموذج لذلك.
إذن نحن نتعامل مع نصوص الوحي ونتعامل مع الأسس والقواعد والسنن الكونية، ولا نتعامل فقط مع مجرد الحدث اليومي، مع أهمية مراعاة الحدث اليومي؛ فقد جعل الله - جل وعلا - له أساساً في الانتصار. قال - تعالى -: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]، ولكن يراعى في حدود، ولكن لا يعني الاستسلام كما قال - تعالى -: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
البيان: لكن هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل. نحن نؤمن بأن النصر قادم وبأن العاقبة للمتقين، لكن هل يمكن أن يتحول هذا الفأل الحسن إلى واقع تعيشه الأمة؟
* د. ناصر العمر: نعم! يمكن، بل هذا هو الذي يجب أن يكون، وهذا دائماً أطرحه باسم التفاؤل الإيجابي، وهو أن يتحول التفاؤل الذي تطرحه الألسنة وتتلقاه الأسماع والقلوب إلى برامج عملية، مع ما أشرت إليه سابقاً بعدم الاستسلام للهزيمة مهما كانت النتائج.
التفاؤل الإيجابي ليس تحقيقه مرتبطاً بتحقق النتائج المباشرة؛ إنما يتحقق بإيجاد التفاؤل الإيجابي الدافع للعطاء، وبهذه المناسبة أوضح هذا المفهوم؛ لأن بعضاً قد أخطأ في فهمه للتفاؤل. فالتفاؤل هو مقدار تحقق التزام الدعاة بالمنهج الذي أنزله الله - سبحانه - سواء التزم به الناس أو لم يلتزموا؛ فثبات الدعاة وثبات المصلحين على مناهجهم مهما كان الأمر يعتبر انتصاراً، وأعطي دليلاً يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد بينت قبل سنوات في كتاب (حقيقة الانتصار) أن الله - جل وعلا - قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]؛ فبعض الأنبياء كما في الحديث الصحيح لم يؤمن معه أحد، وبعضهم آمن معه رجل واحد فقط، مع أن الله - تعالى - قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، ليس فقط في الآخرة ويوم يقوم الأشهاد، بل في الدنيا. إذن مفهوم النصر والهزيمة في أذهان كثير من الناس خطأ، لأنه يتعامل مع الواقع المادي فقط، وهذا خطأ، والصواب أن ثبات الداعية وثبات النبي والرسول وثبات المصلح والمجدد على مبدئه ومنهجه هو الانتصار بذاته، وهو أعظم الانتصارات.(1/1863)
أيضاً لفت نظري في سورة القصص قوله - تعالى - والخطاب لموسى وهارون - عليهما السلام -: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]، بعد ذلك جاءت قضية السحرة؛ والقول الراجح أن فرعون قتلهم ومع ذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - قال: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}، والسحرة ممن اتبع موسى وهارون؛ إذن وهم قتلوا فأين الغلبة؟ الغلبة أنهم ثبتوا عندما هددهم فرعون بالقتل، وكان جوابهم له كما في سورة الشعراء، وطه: {قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50]، وأيضاً في السورة الأخرى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
كل الآيات تدل على أنهم ثبتوا على منهجهم إلى آخر لحظة، سواء أكان فرعون نفذ تهديده أم على القول الآخر أنه لم ينفذ، لكن الراجح أنه نفذ، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات، ومع ذلك ثبتوا، ولهذا يعتبر هذا انتصاراً عظيماً كما قال - تعالى -: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35]؛ فهذه هي الغلبة في الحقيقة.
على مدار التاريخ نجد أن حاكماً أو غيره يقتل مصلحاً لكن القاتل يشعر في داخله أنه هو المغلوب، ويشعر أن المقتول هو المنتصر، وأقوى دليل على ذلك قصة أصحاب الأخدود أنهم كلهم قتلوا ومع ذلك فهذا انتصار عظيم: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
لو أننا تعاملنا مع هذه الحقائق لما كان لليأس مكان. إذن التفاؤل الإيجابي هو تفاؤل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يربي في أصحابه التفاؤل، لكنه كان يعمل، وكان يجتهد، وكان يستحثهم على العمل والإنجاز.
هنا أختم بكلمة: لا أعرف فترة خلال السنوات الماضية مرت بها الصحوة من الانتشار والقوة والمكانة والتمكن كما هي اليوم، ومع ذلك لو أن كل واحد من هؤلاء الدعاة أو كل مجموعة دعوية قامت بمشروع إيجابي عملي لتغير واقع الأمر لانتصرت الأمة، لكن مع الأسف نميل للنقاش والجدال والخصومة وخدمة الأعداء من حيث لا نشعر.
وأخيراً: وجدت تلازماً بين تفاؤل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اشتداد الأزمة؛ فإذا اشتدت الأزمة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أنه أكثر الناس تفاؤلاً، وهذا واضح في كل سيرته، بل وجدت في القرآن تلازماً بين الشدة والفرج، والعسر واليسر. إذن فالشدة التي يجدها بعضهم طريقاً للهزيمة النفسية، أو دليلاً عليها، اعتبرها من أكبر أدلة التفاؤل؟ لأن الانتصار يأتي بعدها إذا أخذت الأمة بأسبابه، وكانت إيجابية، وكانت عملية، ولا أشك في تحقق هذا، وأقوى مثال عندي قضية فلسطين؛ فلو خُلّي بين الأمة وبين عدوها في فلسطين ما لبث اليهود إلاَّ قليلاً، هذه قناعتي، لكن مع الأسف الواقع غير ذلك.(1/1864)
* د. عبد الله الصبيح: هناك عدد من العوامل مرتبطة بنظرة التشاؤم هذه التي تتحدث عنها منها:
1 - النظر إلى الجانب المحزن والنظر إلى الجانب الإيجابي من واقع الأمة هو نتيجة للتربية التي يتربى عليها الشخص؛ فإذا كان المنهج التربوي يتصيد الأخطاء عند الأمة والمصائب التي تمر بها، ويتربى على نظرية المؤامرة؛ فإن النتيجة هي الشعور بالإحباط أو الثورة على الأمة والتغيير بالقوة.
2 - النظرة المثالية التي يتربى عليها بعض الناس ويريد الأمة أن تكون عليها. إن الذي يجب أن نعلمه أن الفساد والضعف حدث في الأمة متدرجاً عبر عشرات السنين، بل مئات السنين، وليس نتيجة يوم وليلة؛ إنه لم يحدث فجأة وحاشا لله أن يقع فجأة؛ وزواله لا يكون فجأة، بل لا بد من التدرج في إصلاحه. ولهذا لا بد أن يتربى الشباب على الواقعية في الإصلاح، فيُسَرَّ بالإصلاح الجزئي ويشارك فيه ويسعى لما بعده من الإصلاح ويطالب به. أما أن يرفض كل خطوة نحو الإصلاح؛ لأنها لا تحقق ما يسعى إليه من الصورة المثالية التي في ذهنه؛ فهذا سوف يفضي به إلى النظرة التشاؤمية واليأس في صلاح الأمة؛ وربما ينتج عن هذا هزيمة نفسية، وهي هزيمة المبدأ أمام الواقع الذي أشرت إليه من قبل.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ـــــــــــــــ
الهزيمة النفسية بدور تحفيظ القرآن الكريم
تشكل الهزيمة النفسية لدى مشرفي وإداريي دور تحفيظ القرآن الكريم أكبر العقبات التي تواجه تقدم هذه الدور وتطورها نحو الأفضل
ولعل الأسباب التي تكمن وراءها في نظري ما يلي:
•ضعف الثقة بالنفس
•الركون إلى الروتين وعدم الرغبة في التجديد.
•انعدام الطموح والرغبة في تحسين الذات لدى الفرد.
•قلة الخبرة وعدم البحث أو الاطلاع على كل ما هو جديد بالساحة.
•الخوف من المجهول وعدم وجود روح المغامرة.
•توقع النتائج السلبية والخوف من ردود الأفعال.
•الانقياد خلف آراء المثبطين دون محاولة التثبت من صحتها.
•التعليل بقلة الإمكانات المادية.
ولا شك أن الاستسلام لمثل هذه الأمور سيعيق تقدم الدور هذا إن لم يشل حركتها، لاسيما ونحن الآن في عصر كثرت فيه الفتن(1/1865)
والمغريات أمام الأبناء والبنات وأصبحنا في حاجه ماسة لطرق وبرامج تشبع احتياجات هؤلاء الأبناء وتشجعهم على الالتحاق بدور وحلقات التحفيظ بكامل رغبتهم وليس مجاراة لإلحاح الأهل (والذي ينشأ عنه تسرب الطلاب فيما بعد)
وقبل الحديث عن بعض التساؤلات والمثبطات المنتشرة بين الدور ينبغي علينا أن ندرك أمرا في غاية الأهمية وهو أن نجاح أي عمل يقوم به الإنسان يرجع بالدرجة الأولى إلى توفيق الله لهذا الإنسان وأما العمل في حد ذاته مهما بذل الإنسان فيه من جهد أو تنظيم أو إبداع فهو مجرد بذل سبب...لذا كان من الضروري قبل البدء بأي عمل الاستعانة بالله والتوكل عليه
وطلب التوفيق والنجاح منه... مع إخلاص النية لله واحتساب الأجر منه... ومن كان هذا نهجه فلن يخيب الله سعيه.
بعض المثبطات التي تواجه الدور عند الإقدام على خطوات جديدة
•هذا العمل صعب؟!
ونقول هنا أنه لا يوجد شيء صعب أمام العزيمة و الإرادة القوية لدى الفرد إنما بتعاون الجميع والبحث عن أفضل الطرق المعينة
على حسن الأداء ودراسة العقبات ووضع الحلول لها فان أصعب الأمور ستتحقق بإذن الله - تعالى -.
هذا العمل يحتاج لمجهود؟!
ونقول هنا أن كل شيء في الدنيا يحتاج لمجهود حتى شرب الماء يحتاج لمجهود ولا يوجد هناك شيء يأتي بيسر وسهوله... ولذلك كان التخطيط المسبق و الأعداد المبكر لأي برنامج من عوامل نجاح هذا البرنامج... كما ينبغي أن لا نغفل أن الإنسان مأجور على أي طاعة يؤديها وأن الأجر بقدر المشقة فليحتسب جهده وتعبه عند الله.
لا استطيع آداء العمل؟!
وهذا من أكبر العوائق فلا تقل لا أستطيع إنما قل سأحاول وأحاول حتى أنجز العمل فإن أصبت فهذا فضل من الله ومنه وإن فشلت فهذه تجربة قد خرجت منها بخبرة تعينني على تلافي الأخطاء مستقبلاً.
لم يظهر العمل على النحو المطلوب !!
لا تتوقع الكمال التام لأي عمل فالكمال لله وحده إنما الإنسان يحاول ويسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من النجاح مع مراعاة التقييم الدائم للعمل ودراسة أسباب النقص لتلافيها لاحقا.
الخوف من النقد وردود الأفعال السلبية من الآخرين!!
وهنا نقول أن على الإنسان أن يسعى ويبذل ما في وسعه لتطوير ذاته وعمله للأفضل دون النظر إلى ردود الآخرين فرضا الناس غاية لا تدرك وما دام أن البرامج التي يسعى لتحقيقها لا تتعارض مع(1/1866)
أحكام الشريعة ولا أنظمة الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن فعليه المبادرة بتنفيذها دون أن يلتفت لآراء مجموعة أو أفراد قد تكون نظرتهم للأمور قاصرة أو أنهم من النوع الذي لا يحب التغيير.
التوقع المسبق لفشل البرنامج؟!
وكثير ما نواجه بالدور مثل هذا الأمر (من قبيل أن هذا البرنامج لن ينجح أو لن يعجب الدارسات أو.... ) ليس لشيء إنما لأن هذا الأمر جديد عليهم ولم يطبق من قبل وهنا نقول مثلما قلنا في النقطة السابقة أن البرنامج مادام لا يخالف الشريعة ولا الأنظمة
فلا بأس بهم أن الغيب عند الله فلماذا طرح الأحكام المسبقة. ومن خلال ممارستي للعمل فإن أغلب الأمور التي تتم معارضتها تنجح بشكل كبير بتوفيق من الله وفضل.
الاهتمام بالشكليات دون المضمون !!
حيث يقتصر اهتمام البعض على أمور شكليه في البرنامج (من قبيل هل البرنامج من إعدادك أم أنه مقتبس ـ هل البرنامج يدر دخل على الدار أم لا...... وهكذا) ويغفلون المضمون والنتائج الإيجابية للبرنامج ومدى الفائدة التي ستعود على الطلاب أو الطالبات من وراء تحقيق البرنامج وهذا غالبا ما يلاحظ في البرامج الدعوية .
إمكانيات الدار المادية قليله!!
ونقول هنا انه ليس بالضرورة لأي برنامج الكلفة المادية العالية بل يجب تخفيض الكلفة قدر المستطاع من خلال الشراء بالجملة ومن التخفيضات أو استخدام الأدوات والخامات الرخيصة والتي تؤدي نفس الغرض مع الابتكار واستخدام خامات البيئة الموجودة والاستعانة بالمتطوعين وحث المقتدرين على المشاركة الماديه في هذه البرامج وهكذا...
وأخيراً فالإنسان مكلف بالعمل دون انتظار النتائج فعلينا السعي نحو تطوير دور وحلقات التحفيظ نحو الأفضل باستغلال كافة الوسائل الممكنة دون كلل أو ملل أو توقف عند أي من هذه المثبطات وأن نجعل من برامج وأنشطة الدور والحلقات واقع ملموس وليست مجرد أفكار نظرية نتبادلها دون محاولة تطبيقها والاستفادة منها.
http://www.qaaaf.org المصدر:
ـــــــــــــــ
الهزيمة النفسية .. وفقه المرحلة
عبد العزيز عبد الله الحسيني
الهزيمة النفسية سقوط حضاري لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن تكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها.(1/1867)
وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل.
أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!
ولأثر هذا الغزو النفسي فقد فطنت بعض الدول إلى أهميته حتى غدا عنصراً مهماً في الحملات الفكرية والإعلامية الموجهة للدول المغزوّة أثناء الصراعات الحضارية، كي يدب فيها الوهن ويدوم اليأس.
* من أسبابها:
لعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحياناً بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية، ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.
وتجاوز الأمر قنطرته وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا ـ الانهزاميين ـ الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والتقنية فحسب.
ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهرياً؛ لكونها أعراضاً للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا؛ إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضاً مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولاً أعمى عن (السبب الأساس) في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمور لا يملكون أدواتها، ولتصدرهم(1/1868)
لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين.
وللأسف فإن ذلك الطرح المادي المتكرر، قد أثر على قطاع عريض من شباب المسلمين، وكان سبباً في صرفهم عن عودتهم لهذا الدين، وإصابة غيرهم باليأس والقنوط، وأصبح بعضهم الآخر (يُسقط) تقصيره وأخطاءه على غيره، ويخرج نفسه من مغبّة مسؤولية ضعف أمته وهوانها، فعطلوا طاقاتهم وقدراتهم، بل وجميع أسلحتهم المعنوية الأخرى؛ فهم برأيهم ـ وكما فهموه من أولئك المحللين الانهزاميين ـ لا يملكون شيئاً لمواجهة تلك القوة القاهرة؛ حتى أصبح كثير منهم يعتقد أن هذا الواقع السيئ أمر لا مفر عنه وشر لا بد منه، فأصيبوا بهزيمة نفسية محبطة، وأصبحوا لا يؤمنون ولا يعتمدون ولا يطمئنون ولا يثقون، إلا بالقوة المادية فحسب، وغدوا ينظرون إلى الغرب بنفسية الغالب والمغلوب، وجنت الأمة آثار تلك الهزيمة النفسية المحبطة، وهو ما تعيشه اليوم بكل مآسي الواقع ومرارته.
* من آثار الهزيمة النفسية:
لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بل وسلوكياً.
وإنه ليصعب على المسلم أن يُشخّص الآثار المترتبة للهزيمة النفسية على أمته دون أن يصاب بحشرجة يصعب معها مواصلة حديثه، ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، يجد أن الأمة الإسلامية بلغت ـ بسبب عجزها ويأسها ـ حداً لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها، إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.
ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى (الانحطاط والتخلف)(1)، وأصبحنا نعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر (الغثائية) التي أخبر عنها المصطفى –صلى الله عليه وسلم- بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)(2).(1/1869)
نعم! مليار ومئتا مليون مسلم، ولكن لا وزن لأكثرهم ولا قيمة، معظم دُولهم ضعيفة تعاني الفساد وتشكو الفقر، وأكثر شعوبهم مسكينة تعاني الجهل وتشكو القهر.
وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت(3).
* فقه الضعف والقوة:
القوة المادية ـ في كل زمان ومكان ـ هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد ـ حسب سنن الله ـ عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته - سبحانه -؛ فالله - تعالى-جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته(4).
فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها؛ إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن ما هم فيه من الذل والهوان، إنما هو بسبب ضعف قوتهم المادية، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن ـ فقط ـ في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من السلبيات المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحرافاً كبيراً في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية ـ كما سيأتي ـ فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم من حيث بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وعدم إشعارهم بأثر ذلك في ضعف أمتهم وهوانها، كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم، كما أن التركيز على القوة المادية فحسب استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى؛ إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية؛ فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر ولو بعد عدة قرون أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم ـ إلا أن يشاء الله - تعالى -.
ومع أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وكانت السبب الأول في نهضتها وعزها في ذلك الوقت، وهو ما نؤمِّل أن يكون سبباً في نهضتنا وعزتنا مرة أخرى.(1/1870)
ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و (ضرورة) ذاتية لوجودنا وتقدمنا، و (حاجة) ملحة للذبّ عن ديننا ومواجهة عدونا(1).
والله- تعالى- أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال - سبحانه - : {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير - رحمه الله - : «أي مهما أمكنكم»(2)، والإعداد حسب الاستطاعة ـ مع الإيمان ـ من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة. وحينما ذكر الله - سبحانه - القوة فقد أطلقها دون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.
ولذا يجب عدم الاستسلام للعدو وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع)، إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، بحجة عدم كفاية الإعداد، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : «أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يُدفع بحسب الإمكان»(3).
وإذا رأى علماءُ أهلِ بلدِ النازلةِِ عدمَ قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية، وإنما عبر وسائل كثيرة: علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم ـ والأهم جداً ـ في هذا العصر، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد؛ فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.
ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها آحاد العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمَن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماءُ أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا، بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا»(4).
ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية، أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:(1/1871)
- فبعضهم يهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها والعمل على امتلاكها، لدرجة أن بعضهم يرى قوله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ويتناسى ما بعدها: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.
- وبعضهم الآخر، ضخّم قضية القوة المادية وبالغ في أثرها، وعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع»(5).
والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب؛ فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها، وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب: ما نتائجه وعواقبه؟ لقد كان صحابة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعُدّة من عدوهم، وكان اعتمادهم بالنصر على الله - تعالى - وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداًَ، فاعتمدوا ـ في البداية ـ على ذلك، حتى قال قائلهم: «لن نُهزَم اليوم من قلة»، فوكلهم الله - تعالى- إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاًَ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله - تعالى - قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب؛ وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا ـ كما يزعم بعض الانهزاميين ـ أن نعد قوة كقوة العدو، وألا نقاتله حتى نماثله في القوة، فالمسألة توازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي (مهمّاً) وهو كذلك؛ فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني (أهمُّ) وأوْلى. فمن المسلّم به أن المقدمات إذا صحّت، أعقبها نتائج مثمرة بإذن الله.
والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب؛ و إلا فما كان لموسى أن يصارع فرعون، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين، ولا لمحمد –صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه أن يقاتلوا قريشاً والقبائل العربية وفارس والروم. ولولا الخيانات لما سقط (العراق) حتى وإن تفوَّق الأعداء في العدد والعدة، وبالرغم من تلك القوة القاهرة؛ فإن المقاومة العراقية ما زالت صامدة ثابتة، ولو تمكنت من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي يمتلكها العدو لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم. قال - تعالى -: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].(1/1872)
ومن يستقرئ التاريخ يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل؛ فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم أو أقوى عدداً وعدة منهم.
بنوا إسرائيل، كانوا يعيشون في مصر، وكانت بالنسبة لهم بيئة قاتمة خانقة، قد أطبقت عليهم كل الإطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب؛ فهم يعيشون في حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد وعدة، وفقر وذلة، وفي ظل هذه الظروف يولد موسى - عليه السلام - وولادته وحياته كلها تحدٍٍّ لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء: أراد فرعون ألا يولد فوُلد، وأراد ألا يعيش فعاش. يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ عند عدو قاهر، وسُخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي؛ فيجد الضيافة الكريمة، ويزوجونه إحدى بناتهم، ويرجع بأهله فيلفُّه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها، فيجد نوراً يسعد به بنوا إسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها، ويكرم بالنبوة والرسالة، ويدخل على فرعون في أُبهته وسلطانه، وفي ملئه وأعوانه. وهكذا يهلك فرعون وقومه (الأغنياء الأقوياء) ويملك بنوا إسرائيل (الضعفاء الفقراء): {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي (القوة) التي قهر بها موسى (أعظم قوة) في عصره ومصره؟! وما سر انتصار بني إسرائيل على أعدائهم؟! وما (سلاحهم) الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر(1)؟
وماذا لو كان موسى - عليه السلام - يفكر تفكير كثير من المسلمين اليوم، ويستعرض الإمكانات والقوة التي يملكها هو وقومه، ويوازنها بما يملكه فرعون وجنده، بنظرة مادية محضة، هل كان سيواجه فرعون ويدخل معه في حرب لا هوادة فيها؟!
ومثال آخر: أرجو أيضاً أن يكون في ذكره ما يبدد اليأس ويزرع الأمل والثقة:
فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات، السياسية والعقدية والاجتماعية والسلوكية والحربية.
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون حتى في المنام بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً على الانتصار عليها، حتى إن فارس والروم (الدول العظمى في ذلك الوقت) لم تفكرا مجرد تفكير في فتح الجزيرة والاستيلاء عليها، وذلك لقلة خيراتها ومواردها، وهوان أهلها عليهم.
ولكن الله - تعالى - امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً –صلى الله عليه وسلم-، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون،(1/1873)
بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية؛ فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم.
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله.
لماذا سموه لغزاً؟
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد، والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد.
أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً وعدة: بدر ـ أحد ـ الأحزاب ـ المريسيع ـ مؤتة... إلخ، عدا معركة واحدة، كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلن تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم ـ ومن بعدهم إلى قيام الساعة ـ أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم، ولا بقوتهم، وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.
أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن بعضهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمح ولا سيف ولا مركب {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92](1). ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.
فما هي القوة التي قهر بها الرسول –صلى الله عليه وسلم- من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم (فارس والروم) تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟
والجواب: ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل؛ فنحن معشر المسلمين نعرف أن الإيمان هو السبب الذي عز به المسلمون وسادوا.
وتصوروا ماذا لو كان الرسول-صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يملكونه بما يملكه أعداؤهم من القوة المادية فحسب؟ وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت: لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟(1/1874)
لو قالوا مثل ذلك، فهل كانوا سيُخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟
ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا، وذلها، وهوانها، وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً وتقنياً وحربياً وعسكرياً ـ وإن كان لذلك أثر ولا شك ـ إلا أن السبب ـ الرئيس ـ لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها في النواحي العلمية وغيره من المجالات إلا أعراض للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : «وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً»(2).
ولذا فإنه لا مخرج من الحالة المتردية والأوضاع المأساوية التي تعيشها أمتنا، إلا بالرجوع إلى هذا الدين القويم.
الهزيمة النفسية داء عضال لم يتسلط على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
وأمتنا اليوم لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطّمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان؛ حيث ألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق للعدو ما أراد من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة نفسياً ومن ثَم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
* حتى لا نيأس:
في عصور مضت دانت القوة والغلبة للأمة الإسلامية واستمرت قروناً طويلة، وحينما بدأ المسلمون بالتخلي عن دينهم بدأ الضعف يدب في أوصالهم حتى دانت القوة والغلبة لغيرهم.
وحينما استكملت أمريكا أسباب النصر من القوة وإقامة العدل وأداء الحقوق وعدم الظلم لرعاياها؛ دانت لهم القوة حسب سنن الله الجارية في التمكين والاستخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - : «أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»(3).
واليوم بدأت تتعالى الأصوات وترتفع من عقلاء أمريكا قبل غيرهم، محذرين من السقوط والزوال، بعد أن فقدت أمريكا تلك الخاصية، وأصبح الظلم والإرهاب والاستبداد وانتهاك حقوق الآخرين والجور والغطرسة، سمة من أهم سماتها. وستسقط حتماً كل دولة تجعل من الظلم والاستبداد والقهر(1/1875)
والإرهاب منهجاً لها ومبدأً من مبادئها، فالكون يسير حسب نواميس شرعية ووفق سنن جارية، قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
وليس المهم متى سيحدث ذلك؛ إنما المهم أنه سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، والذي أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، قادر على أن يهلك مَنْ دونهم، وأن يسلط عليهم جنداً من جنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، وأمتنا متى استكملت أسباب النصر والتمكين فإنها حتماً ستعود قوية عزيزة، في هذا الجيل أو الذي بعده، والنصر والتمكين ليس شرطاً أن يراه الداعية بعينه؛ فالرسول-صلى الله عليه وسلم- وعد بفتح فارس والشام واليمن، ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد وفاته –صلى الله عليه وسلم- بسنين. فدعوة الله لا بد أن تعلو، ودين الله لا بد أن ينتصر ويسود، ولا نقول هذا جُزافاً؛ وإنما هو عقيدة نستقيها من كتاب ربنا وسنة نبينا –صلى الله عليه وسلم-.
* المد والجزر في تاريخ المسلمين:
أقول هذا بعد أن بلغ اليأس والقنوط والإحباط ـ من عودة هذه الأمة إلى مجدها ـ منتهاه عند قطاع عريض من المسلمين، ونسوا أن ما تمر به الأمة من ضعف، إنما هو مرحلة سبق أن مر بها ما هو أشد ضراوة وأعنف شراسة؛ فقد تعرضت من قبل وعلى امتداد تاريخها الطويل لمحاولات عديدة للقضاء عليها واستئصال شأفتها وإبعادها عن دينها ومصدر عزها، ولكنها في كل مرة كانت تقوم من جديد، بعزيمة أقوى وشكيمة أشد، ومن يستقرئ تاريخ أمتنا، يجد أنه كان بين مد وجزر؛ فمتى كانت الأمة قوية بدينها وحققت أسباب النصر عزّت وسادت، ومتى ضعف تمسكها به ذلّت واستكانت، وإليك مصداق ذلك:
- قبل وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم-، كانت الأمة في عز وسؤدد، وقوة ومنعة، وحينما توفي –صلى الله عليه وسلم ، مرت الأمة بأزمة عصيبة، ومرحلة خطيرة؛ حيث عَظُمَ الخطب، واشتد الكرب، وظهر مدّعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، وارتد من ارتد من العرب، حتى إنه لم يبق للجمعة مقام في بلد سوى في مكة والمدينة، وأصبح حال المسلمين كما يقول عروة - رضي الله عنه - : «كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم» حتى وُجد من المسلمين من بلغ به اليأس أن قال لأبي بكر - رضي الله عنه - : «إن هؤلاء جُل المسلمين والعرب على ما ترى قد انقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين»(1).
في ظل تلك الأوضاع، واليأس قد بلغ منتهاه، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة مرة أخرى؟!
ولكن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يعتره اليأس، ولم يتملكه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث، وهذه البلبلة، وهذه النكبات، بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم، حتى ثبت وحارب مدعي النبوة والمرتدين، وأعاد للمسلمين قوتهم، وللخلافة هيبتها، ولليائسين تفاؤلهم.(1/1876)
وفي القرن الرابع الهجري من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة، حينما قام القرامطة في عام 417هـ باستباحة مكة يوم التروية! «حيث نهبوا أموال الحجاج، وقتلوا في رحابها وشعابها وفي المسجد الحرام بل وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة، والرجال تُصرع من حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام وفي الشهر الحرام وفي يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، وقال: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم (اثنتين وعشرين) سنة»(2).
وتأمل أي ذلة ومهانة كانت تعصف بالمسلمين في ذلك الوقت: الحجر الأسود يُقلع من مكانه الطاهر، ويُحمل إلى بلد القرامطة ويمضي عندهم اثنين وعشرين عاماً قبل أن يعيدوه بأنفسهم، والأمة الإسلامية كلها لا تستطيع أن تجتمع لاسترداد حجرها الأسود!
وبعد هذه الحادثة المأساوية، التي لم تتكرر في تاريخ الإسلام والمسلمين، قل لي بربك: هل من مجال للمقارنة بين ما مر على المسلمين في ذلك العصر من الضعف والذل والمهانة، وما نمر به في هذا الوقت من أزمات؟
ومع ذلك فقد عاد المسلمون مرة أخرى، ونهضوا من كبوتهم وصحوا من غفوتهم، وعادوا كأقوى ما يكونون.
- وفي أواخر القرن الخامس الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا بأسرها على الخلافة الإسلامية، في تسع حملات صليبية شرسة، فقتلوا وطمسوا معالم الحضارة، واستعملوا جميع مظاهر الاضطهاد والعنف، واستولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وأُغلق المسجد الأقصى ولم تُقم فيه جمعة ولا جماعة، ووضعت الصلبان فوقه ما يقارب (قرناً) من الزمان، حتى ظن كثير من المسلمين في ذلك الوقت، ألاَّ أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألاَّ رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد أكثر من (سبعين ألفاً).
في ظل هذه الظروف، من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل (صلاح الدين الأيوبي) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العزة والقوة والسيادة ما شرّف التاريخ الإنساني.
ومرة أخرى.. لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا من رحمة الله؛ فقد عادوا ونهضوا من كبوتهم، واستردوا المسجد الأقصى بعد أن رفع النصارى الصلبان فوقه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه أو مجرد دخوله قرابة (قرن) من الزمان. بينما يصاب اليوم كثير من المسلمين باليأس والقنوط وفقد الأمل بالكلية من(1/1877)
مجرد التفكير في إمكانية استرداد المسجد الأقصى مرة أخرى رغم أنه لم يمض على احتلاله سوى سنوات معدودة.
وإذا كان المسلمون في ذلك الوقت ـ وحالهم كانت أشد مرارة من حالنا ـ قد نهضوا بعد تلك الكبوة؛ فالأمة اليوم قادرة بعون الله - تعالى -، ثم بالجهود المنتظرة من أهل الصلاح والإصلاح، أن تعود من جديد؛ وإرهاصاتُ ذلك تبدو في الأفق واضحة جلية بعون الله - تعالى -.
- وفي القرن السابع الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة، لما خرّب المغول العالم الإسلامي، ونهبوا الأموال، وداسوا القِيَم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً، حتى قيل إن جبالاً وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين؛ حيث كانوا في غاية الهمجية والوحشية، فكانوا يقتلون كل من يقابلهم دون تفرقة، فقتلوا العلماء والمشايخ والكهول والنساء والولدان، وأحرقوا المساجد ودور الكتب، وحطموا كثيراً من معالم الحضارة الإسلامية. وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - عدد قتلى المسلمين إثر ذلك الغزو فقال: «وقد اختلف الناس في كمية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس»(1).
وبلغ من شدة الحدث، أن المؤرخ ابن الأثير - رحمه الله - قال: «لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أُقدّم إليه رجلاً وأُؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهَل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً»(2).
من كان يظن أن بلاد الإسلام ـ بعد هذا ـ ستقوم لها قائمة، أو أنها ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل المقدام (قطز) في معركة عين جالوت الحاسمة، ويعود المسلمون إلى سابق عهدهم(3).
ومرة أخرى.. هل من مجال للمقارنة بين ما حصل للمسلمين في ذلك الوقت من القتل والإيذاء والتنكيل، بتلك الصورة وتلك الوحشية وتلك الشراسة وذلك العدد الكبير من القتلى، وبين ما يحصل للمسلمين في هذا الوقت!
ومع ذلك كله فقد نهضوا من كبوتهم وصححوا خطأهم وعادوا إلى ربهم، فبنوا حضارتهم وواصلوا مسيرة فتوحاتهم بكل قوة وثبات.
ومن عجائب التاريخ وفرائده، أنه مع هزيمة الأمة في ذلك الوقت عسكرياً، إلا أنها لم تُهزم نفسياً؛ فقد ظل كثير من المسلمين معتزين بدينهم مستمسكين به، لدرجة أنهم أثَّروا بالغالب ولم يؤثر بهم، على خلاف العادة؛ إذ جرت أن المغلوب مجبول على التأثر بالغالب، إلا أن الذي حصل هو عكس ما جرت عليه تلك العادة، فدخل الغالب بدين المغلوب، وهذا من غرائب التاريخ الإنساني. وفي هذا دلالة على أن الأمة وإن هُزمت عسكرياً إلا أن كثيراً منهم لم ينهزموا نفسياً، ولم يفقدوا الأمل، ولم(1/1878)
يصابوا باليأس والإحباط كما أصيب به كثير من المسلمين اليوم. فقد صحا أبناء ذلك الجيل من غفلتهم واستيقظوا من غفوتهم، وعادوا إلى دينهم فعاد لهم العز والتمكين مرة أخرى، بعد معركة عين جالوت المشهورة.
- وفي القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، من كان يظن أن الإسلام سيعود من جديد، وقد أُصيب المسلمون بعدة طعنات لو وُجهت لغيره من الأديان لذاب واندرس؛ ففي ذلك القرن: سقطت دولة الخلافة الإسلامية على يد الهالك أتاتورك، وأصبح يُنادَى بالعصبية والقومية، واستُعمرت الدول الإسلامية وقُسمت بين دول الغرب، وعمت البلوى والافتنان بالحضارة الغربية حتى أصبح المثقفون ينادون بضرورة اللحاق بركب تلك الحضارة والانضواء تحت لوائها بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحمد منها وما يُعاب. أما العقائد فقد أصبحت الطرق الصوفية هي السائدة حتى عم الظلام والجهل والبدع والخرافات لا أقول بعض أوطان المسلمين، بل معظمها، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وغابت معظم معالمه التشريعية حتى كاد يندرس في معظم البلدان الإسلامية، وبلغ اليأس منتهاه في إمكانية عودة الإسلام من جديد لدى البقية الباقية من المستمسكين به، بل ظن كثير منهم أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخرى.
ولكن الله - تعالى - بعث هذه الأمة من جديد، وبدأ الناس يعودون إلى دين الله أفواجاً، وبدأت الأمة تنهض بعد الغفلة، نرى ذلك ونلمس مظاهره في جوانب كثيرة ومجالات عديدة بحمد الله - تعالى -.
* من بشائر النصر:
إن مما يسر الخاطر ويفرح القلب ويُقوي الأمل في إمكانية عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، ما نراه من الآثار الملموسة للصحوة التي بدأت تؤتي أُكلها ونتنفس ثمرها ونستنشق عبيرها.
هذه الصحوة نتاج طبيعي لإخفاقات متكررة وهزائم متتابعة عاشتها الأمة، ولذا فقد ولدت وترعرعت وهي متعطشة لعز الإسلام وتمكينه، بعد أن جُربت جميع الشعارات الرنانة ولم تفرز إلا النكسات المتعددة، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب.
وقد كانت هزيمة أو نكسة يونيو 1967م، بداية تحول كبير في عقول كثير من شباب الأمة الإسلامية؛ حيث تركت تلك الهزيمة آثاراً موجعة في نفوس ما لبثت أن تجلت على شكل صحوة عارمة بين طلبة الجامعات، ثم امتدت وبسرعة لتعبر عن نفسها في مظاهر كثيرة ومجالات عديدة بين جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
وما تزال إيجابيات هذه الصحوة قائمة ملموسة، تنمو وتزداد مع تقادم الأيام والسنين؛ فقد فرضت نفسها على الأحداث العالمية برمتها، وأصبحت همّاً عالمياً، تُفرِح الأصدقاء وتؤرق الأعداء، وتُقام من أجلها المؤتمرات، وتُعقد بسببها اللقاءات، ما بين محب يسعى لإصلاحها وتقويمها، وكاره يخطط(1/1879)
لوأدها وإجهاضها؛ فهي أكبر مشروع حضاري نهضوي في العالم المعاصر، وإن كانت ثمراتها ظاهرة ملموسة، إلا أنها حتماً ستؤتي أُكلها وسيتم جني ثمرها بصورة أكبر في القادم من الأجيال اللاحقة بإذن الله - تعالى -.
ولعل من أهم مظاهر ثمراتها ما نراه من العودة الجماعية لهذا الدين، حيث عمّت بفضل الله - تعالى - الصحوة ربوع العالم الإسلامي كله، بل تجاوزت إلى ربوع المعمورة، حتى أصبحت الكنائس تُشترى وتُحوّل إلى مساجد للعبادة.
وأصبحنا نرى ونسمع عن مكتسبات ومستجدات ما كان أحد يظنها قبل بضع سنوات، من انتشار الوسائل الدعوية التربوية المختلفة من فضائيات وصحف ومجلات إسلامية، أصبحت تتكاثر وتتوالد بكثرة العائدين إلى الله.
وهذه الأمة ما تزال حُبلى بالمبشرات، وهي قادرة بعون الله - تعالى - على النهوض والعودة من جديد إلى سابق عزها ومجدها، ولعل مما يُبشر بذلك:
- تتابع سقوط الشعارات والحركات والنقابات والأحزاب غير الإسلامية، وثقة الناس في المقابل بالأحزاب والمنظمات والحكومات الإسلامية.
- ظهور أطفال الحجارة في فلسطين, والعراق, والفلبين, وكشمير، والشيشان، وأفغانستان وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة وهم يحملون المصحف في يد والبندقية في اليد الأخرى.
- صمود المقاومة العراقية واستمرار ثباتها، بل وتجدد قوتها شهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى، ولولا الخيانات وخذلان الأصحاب لما سقطت العراق ـ ابتداء ـ بهذه السهولة حتى وإن تفوقت أمريكا في العدد والعدة، ولو تمكنت المقاومة من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي تمتلكها أمريكا لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم.
- ولعل من أهم المبشرات التي تدل دلالة واضحة على صحوة هذه الأمة، تنامي العمل الإسلامي في معظم دول العالم وقيامه بدور بارز في نشر رسالته، وهو الأمر الذي جعل حكومات العالم تقف أمامه بقوة للحد منه ومحاولة تجفيف منابعه بدعوى محاربة الإرهاب. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف: 8 - 9].
والبشائر بحمد الله كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها أو حصر مظاهرها، وإنما هي أمثلة ونماذج تحيي الأمل وتدفع اليأس؛ فالأمة معطاء، والفأل مطلوب، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، والثقة بالله - تعالى - هي مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان.(1/1880)
وما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة، ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها ومصدر عزها ومجدها. فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر.
http://www.albayan-magazine.com :المصدر ـــــــــــــــ
الهزيمة في معركة أحد
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الخطبة الأولى:
أما بعد: اتقو الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد كانت أمتكم هذه قبل ألف وأربعمائة سنة في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها الله بالابتلاء بالشدة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالرخاء في معركة بدر.
وابتلاها بالهزيمة المريرة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالنصر العجيب في معركة بدر.
لقد أصاب المسلمين القرحُ في معركة أحد وأصابهم القتل والهزيمة.
أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، وفر من فر من المسلمين، وأصيب النبي بغم عظيم أسفاً على فرار بعض أصحابه، وأصاب المسلمين غمٌ ملأ نفوسهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه، وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون.
وسمع النبي لأهل المدينة نحيباً وبكاء على قتلاهم، فقال: ((ولكن حمزة لا بواكي له)) وحزن النبي على أصحابه، وتمنى أن يكون استشهد معهم وقال: ((أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي نحص الجبل أي في سفحه)) رواه أحمد بسند حسن.
وكانت صورة المقاتلين الشجعان تمر بمخيلته كثيراً فيثني عليهم، ولما أعطى علي سيفه لفاطمة - رضي الله عنها - قائلاً: (هاك السيف فإنها قد شفتني) قال رسول الله: ((لئن كنت أجدت الضرب بسيفك فلقد أجاد سحل بن حنيف وأبو دجانة وثابت بن عاصم الأقلح، والحارث بن الصمة)) أخرجه الحاكم.
بل لقد بقي النبي يتذكر قتلى أحد ويحن إليهم طيلة عمره، فعن عقبة بن عامر قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى(1/1881)
عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا)) قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاري ومسلم.
وعند ابن أبي شيبة قال: (خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم).
معاشر المسلمين، لقد كانت آثار معركة أحد عظيمة على النبي حتى كان يتذكرها ويتذكر رجالها طيلة عمره، بل وفي آخر أيام حياته.
وكانت الآثار أبلغ ما تكون على صحابته الكرام الذين اهتزت نفوسهم وصدمت قلوبهم لهذا الحدث العظيم الذي لم يكن متوقعاً بعد النصر العجيب في معركة بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم (أنَّى هذا) وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟؟؟.
لقد كانوا يعلمون أن الله قد كتب على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته فكيف يصيبهم ما أصابهم؟؟؟
فأنزل الله - تعالى - لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران، آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.
فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم ـ وهم المسلمون ـ ومن ثم يوقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة؛ وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم!..
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ }[آل عمران: 165].
إن سبب ما أصابكم هو المعصية والمخالفة التي حدثت من بعض الجيش لأمر الرسول.
وكان شؤم المعصية شاملاً للجميع حتى النبي كسرت رباعيته وشج وجهه الكريم مما يدل على أهمية التحرز من المعاصي في انتصار المسلمين على أعدائهم.
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ}.
إن المسلمين الذين أصيبوا في أحدٍ بما أصيبوا؛ والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير؛ والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها: أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش. وأصابوا(1/1882)
مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين!.
ويذكرهم الله هذا كُلَّه، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله، وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة، فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرقُ محاباة ًله.
معاشر المسلمين، ولم يقف تعقيب القرآن على هذه المعركة العظيمة عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن القرآن كان يعالج المسلمين على أثر معركة لم تكن معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في القلوب أيضاً ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات.
عرج على كل هذه الأعمال الصالحة لأن العمل يعتبر مادة مهمة لإعداد الإيمان في نفوس المسلمين، ولم تكن هذه التوجيهات الشاملة بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، حين تنتصر على نفسها ومعاصيها، فإذا تطهرت الأمة من الذنوب والتصقت بالله ورجعت إلى كنفه كان ذلك من عدَّتها في المعركة ولم ينعزل ذلك عن الميدان.
معاشر المسلمين، وإذا كانت معصيةً واحدة هي المخالفة الجزئية لخطة المعركة ـ كما وقع من الرماة في معركة أحد ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس ـ نذائرَ شؤم وأسبابَ هزيمة وخسارة لذلك الجيل الطاهر، جيل النبي وصحابته الكرام، فكيف تنتصر أمة الإسلام اليوم وهي تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط حتى لو أُخذت مقدساتها وأخذت أراضيها واستنصرها إخوانها، وتستحل الربا والغلول، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها.(1/1883)
إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هزمت في معركة أحد وجعلت الهزيمة بسبب معصيتها ومخالفتها لرسولها توحي بأن الأمة اليوم لم تكمل أسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله - تعالى - وإنما هي في غفلة معرضة، لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها وأهوالها.
نتذكر هزيمة المسلمين في معركة أحد في شهر شوال، ونبصر اليوم في نفس الشهر هزائم الأمة المنكرة هزائمها في ميدان النفوس والعقائد عندما استنفرت فلم تنفر، واستنصرت فلم تنصر، ودعيت إلى الله فلم تلق بالاً وشغلت بالدرهم والدينار وتقليد الكافرين وموالاتهم، وهذه والله هي الهزيمة المنكرة.
أما المجاهدون الذين نذروا للدين أنفسم فلم ينهزموا والذين قتلوا منهم لم يموتوا {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169، 171]، لقد حرق أصحاب الأخدود في الأخاديد فكان ذلك فوزاً كبيراً لأنه نتيجة جهاد وصبر على الثبات على دينهم الحق، فقال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].
نعم يا إخوة الإسلام، إن المنهزم هو الذي هزم في دينه وعقيدته وولائه وبرائه، أما الذي انتصر في دينه وعقيدته وولائه وبرائه فهو الفائز فوزاً كبيراً ولو قتل وسحق ومحق، لأن الفوز هو فوز الآخرة، لا فوز الدنيا والله المستعان.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
http://www.alminbar.net المصدر:
ـــــــــــــــ
بشائر الهزيمة الأمريكية آيات وتحديات ( 2 ـ 2 )
د. عبد العزيز كامل
يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين: أو لهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق، والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس(1/1884)
المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة)، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خذلان العراقيين والسير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.(1/1885)
* لكن الفرصة سانحة:
نعم!...فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.
هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:
< البقاء في العراق حتى تحقيق مصالح أمريكا الاقتصادية وتأكيد هيبتها السياسية.
< الانتهاء من هزيمة من تسميهم أمريكا بـ (المتمردين) كجزء رئيس من الحرب العالمية على (الإرهاب).
< تثبيت حكومة موالية للأمريكان، يمكن من خلالها مواصلة تحقيق الأهداف الأمريكية، والادعاء بتحقيق الديمقراطية والحرية للشعب العراقي.
وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية: الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها، والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتهم لرد الصاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم، والوهم الثالث: هو افتراض سهولة القضاء على المقاومة عسكرياً، أو تدجينها والتغرير بها سياسياً، والوهم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقراطية في البنية الطائفية والعنصرية العراقية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أو ضارها إلا أخوّة الدين.
وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثير من المحاذير؛ لأن أمريكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون(1/1886)
على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.
ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
< قد تلجأ الولايات المتحدة إلى سيناريو اليابان بدلاً من سيناريو فيتنام؛ ففي مواجهة الهزيمة في فيتنام اكتفت أمريكا بالانسحاب الذليل دون ضجة أو انتقام، بينما أفرطت في الانتقام في حالة اليابان حتى استعملت القنابل النووية، كي تستعيد هيبتها وتفرض احترامها على من تجرؤوا بالهجوم عليها في سيناريو (هاربر). وفي حالة الهزيمة في العراق؛ لن تلجأ الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخيارات المجنونة ـ في اعتقادي ـ إلا في حالة واحدة، وهي الحالة التي يمكن أن يُُعلن فيها عن إقامة دولة إسلامية سنية سلفية جهادية بعد الانسحاب، تصلح لأن تكون قاعدة امتداد إسلامي عالمي جديد، فعندها سيكون هذا بمثابة إعلان حرب على أمريكا والغرب، ولن تكون المعالجة هنا تقليدية عقلانية، بل ستكون شمشونية جنونية.
< اعتماد مبدأ (الفوضى الخلاَّقة) قد يكون خيار الأمريكيين في آخر الحرب كما كان خيارهم في أولها؛ فالولايات المتحدة التي تعمدت فك كل الأربطة في جسم الدولة العراقية بُعَيْد الغزو، لتغرقها في فوضى يمكن النفاذ فيها إلى كل الأهداف الأمريكية؛سوف تلجأ إلى هذا الخيار إذا رأت فيه تحقيقاً لشيء من مصالحها، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية والإصلاح والتعمير. وخيار (الفوضى الخلاَّقة) يمكن تنفيذه بتسعير أتون الحرب الأهلية، لا بين الشيعة والسُّنة فحسب بل بين العرب والأكراد، وبين العلمانيين والإسلاميين، بل بين الإسلاميين الذي يُدعون (معتدلين) وإخوانهم الموصوفين بـ (المتشددين)، والحرب الأهلية يمكن أن تندلع إذا تركت أمريكا أرض العراق وهي واقعة تحت سيطرة الشيعة والأكراد وحدهم دون السنة العرب، أو تحت سيطرة العلمانيين دون بقية طوائف المتدينين، أو إذا تركت العراق بدون حكومة أصلاً.
< سيناريو إشعال الحرب الأهلية، قد يدفع باتجاه المخطط القديم بغرض التقسيم، حيث سيطالب الشيعة بجنوب العراق ـ وفقاً لترتيبات ما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) وسينفصل الأكراد (رسمياً) بالشمال، بعد أن استقلوا به عملياً منذ فرض الحظر الجوي على شمال العراق بعد حرب الكويت؛ وهنا قد يضطر أهل السنة إلى وضع أيديهم على ما يبقى من الكعكة(1/1887)
العراقية في الوسط، أو ما يبقى من ذلك الوسط، بعد أن يكون الشيعة قد فصلوه وفصَّلوا أجزاء منه لصالح الجنوب الشيعي.
< الأمريكيون سيلجؤون حتماً إلى إعمال مبدأ (فرق تسد) بين الفصائل الجهادية السنية العراقية وبين العناصر المشتغلة بالسياسة من سنة العراق. أما تفريقها بين فصائل المجاهدين أنفسهم، فقد بدأته أمريكا بفتح قنوات اتصال مع المقربين من بعض الفصائل الجهادية، مع الترويج إعلامياً للتفريق بين ما يسمى (المقاومة الشريفة) و (المقاومة غير الشريفة)! والتفريق بين (الراديكاليين) و (الواقعيين) من السياسيين، وبينـ (المعتدلين) و (المتشددين) من الإسلاميين، وغير ذلك من التقسيمات الخبيثة التي بدأت أمريكا في استغلالها أسوأ استغلال.
< ستغير الولايات المتحدة في ولاءاتها بحسب مصالحها؛ فهي وإن كانت قد استهلكت الورقة الدينية الشيعية في معظم ما مضى من زمن الاحتلال، إلا أنها قد تُحل الشيعة العلمانيين محل الشيعة المتدينين، ليكون رهانها على تغيير البنية الثقافية للشعب العراقي أوقع وأقرب، والأخطر من ذلك، أن تضم إلى ذلك شرائح من السنة المتميعين أو العلمانيين فتجعل بعضهم رؤوساً في نظام الحكم تنطح بهم المقاومة التي قد تفاجأ ـ كما كان عهد الاستعمار دائماً ـ بخلفاء الاستعمار وحلفائه، الذين لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة.
< ستضطر الولايات المتحدة إلى إنهاء حملتها العسكرية في يوم من الأيام القريبة المنظورة ـ بإذن الله ـ تحت وقع الضربات الجهادية، ولكن حرب الدمار والاستعمار، كانت تعقبها دائماً حرب الأفكار، وقد صار مصطلح «حرب الأفكار» مستقراً في إستراتيجية المواجهة الأمريكية للمد الإسلامي، وهو وإن كان لم يفعَّل إلى الآن بالصورة المخطط لها، إلا أن المتوقع أن يشهد العراق، وتشهد الكثير من دول العالم الإسلامي، هجمة ثقافية وإعلامية تحاول يائسة تشويه صورة المنتصر النبيل وتقديمه على أنه عدو للحضارة، وطارد للتقدم، وعاشق للتخلف. ولن يألو المنافقون جهداً في تقديم وقود تلك الحرب، من خلال مراكز أبحاثهم ووسائل إعلامهم ومنابر أفكارهم المقروءة والمسموعة والمشاهدة، لتكون الحرب هذه المرة ليست موجهة فقط إلى المفردات الشاذة التي ذللوها على ألسنة الجهلة من العامة، كالإرهاب والتطرف والأصولية، بل ستوجه إلى الإسلام نفسه تحت مسمى مواجهة السلفية والوهابية والعقيدة السنية.
إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة(1/1888)
مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.
< هناك معضلات معقدة، لا يصلح لها إلا أهلها من أصحاب التخصص في الفتاوى الفقهية أو التنظيرات العسكرية والإستراتيجية، ولكن هناك عمومات، تحكمها المبادئ المستقرة في الفهم الإسلامي قد تضيع ـ مع بداهتها ـ في زحمة التفصيلات والتفريعات وهي تحتاج فقط إلى حسن التقدير، مع حسن التقديم.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:
< يمكن تضييق خيارات أمريكا في الانتقام، بشد اللُّحمة، وتقريب الهوة بين فصائل المجاهدين من جهة، وبين عموم الشعب من جهة أخرى حتى لا تتمكن أمريكا وأولياؤها من عزل المقاومة وتصويرها بصورة الخروج عن الصف العراقي. والبداية في توحيد الصف العراقي ـ ولو في حدها الأدنى ـ لن تكون إلا من المجاهدين؛ فهم الأقدر على مجاهدة شياطين الفرقة وغربان البين، والشعب سيكون تبعاً لهم إذا تحدت كلمتهم، وبقية الأمة ستكون مع خيارهم، وعندها سيظهر الانتقام الأمريكي ـ إذا حدث ـ على أنه انتقام من الشعب، يمكن أن يضاف إلى سجلات الإجرام بانتظار إجراء مماثل من المعاملة بالمثل.
< هناك متسع من الوقت لتفويت فرصة (الفوضى الخلاَّقة) التي قد تترجم إلى حرب أهلية؛ وذلك باجتماع الرؤوس الكبيرة من سنة العراق عرباً وأكراداً على إستراتيجية موحدة لما بعد الانسحاب ولو في خطوطها العريضة، استباقاً للتحرش الأمريكي الذي يراهن على إشعال المواقف وإذكاء الفتنة، وكذلك فإن الاتفاق على آلية للتحاور والتفاهم من الآن، أمر لا بد منه ديناً وعقلاً؛ لأن الشح المطاع، والهوى المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، قد يغرق السفينة بركابها وربانها.
< خطر التقسيم لا يمكن دفعه إلا بمدافعة الواقفين وراءه؛ فلو علم كل ساعٍٍ في التقسيم أن ثمن سعيه سيكون وبالاً عليه لرجع وارتدع؛ فكم من مَرَدَة ردتهم المخاوف والحسابات الدقيقة للمستقبل، عن أحلام التفرد والتمرد. قال الله ـ - تعالى -ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة»، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!(1/1889)
< حرب الأفكار الأمريكية، لا بد من الإعداد لمواجهتها من الآن بأفكار إسلامية، وهذا الواجب ألصق بخارج العراق منه بداخله؛ فالمستهدَفون بهذه الحرب ليسوا العراقيين المشغولين في المعركة فقط، لكن المستهدَف هو الأمة كلها، ولهذا يتكاثر من الآن نشاط المراكز البحثية المشبوهة، والقنوات الفضائية الفوضوية لخوض غمار تلك الحرب التي يتوقع أن تستعر أكثر بعد الانسحاب، لإلهاء الناس عن فضيحة الهزيمة التاريخية لأمريكا. من واجب الباحثين والإعلاميين الإسلاميين، أن يرصدوا فعاليات تلك الحرب ـ حرب الأفكار ـ ليتمكنوا من صدها قبل أن تؤتي ثمارها المرة؛ فهذا واجب إسلامي عام، لا يحتاج إلى ساحات تدريب أو ميادين رماية.
ثانياً: إيران واللعب بالنيران:
هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.
وإذا كنا لا نزال نذكر مواقفهم في الموالاة الصريحة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.
< إذا كانت القوات الأمريكية وشريكتها البريطانية، وغيرهما من الشركاء والحلفاء يفكرون من اليوم في كيفية الهروب الآمن من العراق؛ فالقوات الإيرانية الأجنبية ـ تحت رايات وطنية ـ لا بد أنها تستعد من اليوم للحلول مكانها، والحؤول دون رجوعها، لتستفرد هي بالقصعة العراقية؛ وقد تمهد الأمر من الآن لإيران بعدما تمكن شيعة العراق الموالين لها من السيطرة على معظم كيان الجيش والشرطة. ولا نظن أن هذا الإنجاز الذي توافر للشيعة في كل من إيران والعراق، سيسهل التفريط فيه عند عموم الطائفة المتطلعة إلى استكمال الهلال (الخضيب) من أفغانستان إلى لبنان، مروراً بإمارات الخليج والعراق وسورية، ولهذا فإن ذلك يمثل تحدياً عظيماً من تحديات ما بعد الهزيمة الأميركية، ليس(1/1890)
لأهل السنة في العراق فحسب، بل لأهل السنة في العالم أجمع، هؤلاء الذين لم يجمعهم ـ إلى الآن ـ إلا التفرق والتنازع، دون ما مرجعية علمية موحدة، أو قيادة سياسية واحدة.
< قد تسارع إيران في مساندة خيار التقسيم كخطوة أولى، لتضمن مشايعة الجنوب الشيعي لها، وانضواءه تحت لوائها، وجيش الغدر المسمى بـ (فيلق بدر) جاهز من الآن ليكون الجهاز العسكري لدولة المجلس الأعلى «للثورة الإسلامية» في العراق، بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة، جاهز لإدارة الجهاز السياسي فيها.
وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.
< اختراق إيران للعراق، والذي سيكون ـ إن وقع ـ اختراقاً للخليج كله، وسوف ينعش ثورات التشيع في أكثر دول المنطقة؛ حيث سنسمع عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في أكثر من عاصمة عربية، بل وغير عربية، وهو ما سيؤسس ـ إذا سارت الأمور على حسب مخططات بروتوكولات حكماء قم إلى مدٍّ رافضي خطير، يطال العقيدة والدين، بعدما يهدد الأوطان والمقدرات؛ وهنا قد تقع الشعوب الإسلامية السنية بين فكي كماشة الفرس والروم!
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:
1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شيء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التغول الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلمانيون والليبراليون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان على الشيعة العلمانيين، وبخاصة الليبراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.(1/1891)
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
ولا شك أن هذا الخيار قد يكون فيه الخير للطرفين؛ فالسنة ليسوا في حاجة إلى تكثير الأعداء، والشيعة ليسوا في حاجة إلى مزيد من الاستعداء لقوم بدا أنهم أولو بأس شديد إذا جاسوا خلال الديار.
ثالثاً: العراق: عراك ما بعد المعركة:
< معركة العراقيين مع الأمريكيين مع شراستها وفظاعتها، ستبدو بعد انتهائها بسيطة في تركيبها المنطقي، سهلة في حسابات الخسائر والمكاسب؛ فهذا صائل معتدٍ، جاء للقتال من أجل مطامحه ومصالحه الخارجية، فلما تهددت بسبب ذلك مصالحه الخارجية والداخلية، انزوى ورجع القهقرى، والطرف الآخر أبناء وطن معتدىً عليه، انتدب شرفاؤه للدفاع عنه مع من فاؤوا إليهم من مهاجرين و أنصار، تسابقوا إلى الفداء بالأرواح والأموال والدماء.
لكن الأمر سيختلف، والمنطق سيتعقد، والحسابات سترتبك، إذا ما تغيرت معالم المواجهة في الميدان العراقي بعد الانسحاب الأمريكي، سواء بفعل الأمريكيين الراغبين في إغراق أو إحراق العراق من بعدهم، أو بفعل الفرقاء المتشاكسين الذين سيحاول كل منهم أن يؤسس لواقع جديد، يخدم الشريحة التابعة له، ولهذا فإن ألواناً جديدة من التحديات على الساحة العراقية، ربما يتوالى ظهورها على مسرح الأحداث هناك، وهو ما يستدعي إعادة النظر في بعض الاجتهادات وربما الاستراتيجيات لمواجهة هذه المتغيرات بما يحفظ ما تحقق من مكاسب على صعيد المواجهة الكبرى مع أمريكا.
ومن التحديات المتوقع بروزها على المستوى العراقي ما يأتي:
< سيرحل الأمريكيون دون أن تكون مشكلات العراق قد حُلَّت، والمرجح أن يستمر التوتر وربما القتال لإعادة رسم الخريطة الجديدة، والتحدي الذي سيواجه أهل السنة بعد الانسحاب، سيكون ـ على الأرجح ـ متعدد الأوجه، فمن ناحية سيكتشف أهل السنة أنهم الحلقة الأضعف على الساحة السياسية، بينما تكمن قوتهم في ميدان القدرة القتالية، وهي لا تكفي على كل حال لبناء مستقبل آمن(1/1892)
للأجيال، ومن ناحية أخرى فإن أمور القتال نفسها تميل الطبيعة البشرية إلى النفور من طول التضحية فيها بلا أفق منظور، ومن ناحية ثالثة فإن طبيعة القتال بعد انسحاب الأمريكيين ستتغير، وسوف تفقد الكثير من شرعيتها في نظر الناس داخل العراق وخارجه، حتى ولو كانت ضد الوكلاء الرسميين للأمريكيين.
< هناك ندرة ملحوظة في المرجعيات العلمية الدينية عند أهل السنة في العراق في مقابل فائض كبير في المرجعيات الدينية الشيعية داخل العراق وخارجه، ومع تداعيات الأحداث بعد الانسحاب، وفي ظل تغير الأوراق سيحتاج العراقيون السنة إلى من يقودهم في الملمات، ويفتي لهم في المعضلات، ويتكلم باسمهم جميعاً كلاماً مفهوماً ومسؤولاً، وهذا تحدٍّ ماثلٌ للعيان من الآن، ويتفرع عنه تحد آخر، وهي احتمالات انتشار أفكار الغلو والابتداع، سواء من جهة التشدد الخارجي، أو التسيب الإرجائي أو لوثات التصوف أو التشيع، وكلها اتجاهات يمكن أن تنتعش وتنتشر في بيئة فكرية كبيئة العراق، التي لا تزال بكراً عذراء على الساحة السنية، بينما هي ثيب شمطاء على الساحة الشيعية، ولا شك أن الفوضى وعدم الاستقرار من الناحية السياسية، كثيراً ما ينعكس على النواحي الفكرية.
< هناك تضخم في الخبرة القتالية والعسكرية الميدانية على حساب الخبرات السياسية والاستراتيجية، والمشروع السياسي للمجاهدين لا يزال غير واضح المعالم، وإذا وضح عند بعضٍ فإن بعضاً آخر قد لا يوافق عليه، والخطورة هنا أن ينعكس هذا الضعف في الخبرة على التعاطي مع الأحداث، فتنطلق المبادرات، والاجتهادات الشخصية في النوازل الكبرى، دون الرجوع إلى أهل الشأن في مجالات الاجتهاد الشرعي والسياسي والاستراتيجي والإعلامي والاقتصادي.
< هزيمة أمريكا في العراق، لا تعني تراجعها عن أطماعها فيه أو في بقية بلدان العالم الإسلامي؛ فالخطط يمكن أن تتغير، بل قد تلجأ أمريكا إلى تعويض فشلها في العراق باقتحام ساحات أخرى، لاختلاس نجاحات رخيصة في أماكن ضعيفة، ولهذا لا ينبغي النظر إلى هزيمتها في العراق على أنها نهاية المطاف.
< قد تنجح أمريكا في جلب قوات عربية وإسلامية، لتكون المعركة في العراق عربية عربية، وهذا سيناريو خطير، لا بد من التنبه له والاستعداد لإبطاله، وخاصة إذا أخذ شكل قوات لحفظ السلام أو إعادة النظام أو غير ذلك من الشعارات الخداعة التي يمكن أن تحقن بها أمريكا دماء جنودها، لتريق دماء المسلمين بعضهم ببعض.
< الساحة في العراق مهيأة لتفحش وتوحش ظاهرة العملاء الخونة، سراق الجهود وقطَّاف الثمرات وخدم الأعداء، وهؤلاء يقتضي الأمر إحكام أمر التعامل معهم فقهياً أولاً ثم عملياً، حتى لا تتكرر مصائبهم التي ألحقوها بالجهاد في فلسطين، عندما تحولوا إلى سرطان خبيث بيد الصهاينة.(1/1893)
< إذا كان المشروع السياسي أمراً مهماً في مواكبة المشروع الجهادي، فإن هناك مشاريع أخرى دعوية وتنموية واجتماعية وإعلامية، سيكون تفعيلها وتقويتها إسناداً مستقبلياً لأهل السنة في العراق واستمراراً لدورهم المركزي في إفشال مخططات الهيمنة والإفساد من الداخل والخارج، وهذا الأمر بحد ذاته ينشئ دوراً لكل راغب في الاستجابة لواجب النصرة، وكل مشتاق للشراكة في صنع النصر، من داخل العراق أو من خارجه؛ فمن غير المقبول أن يتداعى يهود العالم لمساندة إخوانهم المغتصبين في فلسطين، ويتخاذل أهل الإسلام عن نصرة من ينافحون عن عموم المسلمين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
< ومما يخشى منه أيضاً، أن يقفز إلى عجلة توجيه السفينة قدامى القوميين أو البعثيين أو اليساريين، ليزايدوا على الإسلاميين.
< استمرار عمليات الجهاد ستكتنفها مصاعب جمة، إذا أُلجئ الأمريكيون إلى التحصن خارج المدن، في انسحاب شكلي لا حقيقي، ومع أن هذا في حد ذاته لا ينفي حقيقة الهزيمة الأمريكية، إلا أنه سيقلل من شأن الانتصار العراقي؛ حيث سيظل العراق يبدو في حكم الاحتلال مع إظهار مظاهر الاستقلال، وستزداد مهمة المجاهدين صعوبة إذا ما صدَّر لهم الأمريكيون عملاءهم ووكلاءهم المتسمين بأسماء المسلمين، وسيكون الأمر أصعب وأصعب، إذا كان الوكلاء والعملاء، من المنسوبين لأهل السنة من داخل العراق أو خارجه؛ حيث سيسهل على الأمريكيين أن يصوروا النصر العراقي بصورة الهزيمة التي أثمرت قتالاً بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد.
< قد يلجأ الأمريكيون إلى حيلة اللعب بورقة الإسلام المعتدل في مواجهة الإسلام المتشدد، وهي استراتجية يبدو أن الولايات المتحدة ماضية في تشجيعها في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وفي حالة العراق، فإن هذا الاعتدال سيبدو أمام المجاهدين في صورة الانتقال من نهج إلى نهج، بل ربما من ملة إلى ملة، وهو ما قد يفتح أبواباً أخرى من الفتن.
* المواجهة لا الهروب:
عوَّدنا المجاهدون من أهل السنة في العراق، على الإقدام لا الإحجام، وعلى المجابهة لا الهروب من المواجهة، وأملنا أن تثبت الأقدام في مهمة الإقدام على مواجهة تلك التحديات قبل فوات الأوان؛ فالهروب منها أو تأجيلها لن يقلل من أهميتها، ولن ينفي خطورتها، على أنَّا لا يمكن أن نحمِّل المجاهدين، أو حتى عموم العراقيين مسؤولية المواجهة وحدهم لكل تلك التحديات؛ فالنازلة ليست خاصة بهم وحدهم، كما أسلفت في صدر المقال، وإنما هي عامة لكافة الأمة، وهي ينبغي أن توزع على الجميع ـ أعني التحديات ـ في صورة واجبات كفائية وعينية وفروض وقتية ومستقبلية، كل بحسب قدرته واستطاعته، مع تأكيد التذكير بأن المجاهدين الأبرار، قد قاموا عن الأمة، بما أزاح عن(1/1894)
مجموعها الإثم وإزالة العار، فلا أقل من أن تقوم بقية صلحاء الأمة بقسطهم من الواجبات في مجابهة التحديات.
فعلى كل ذي رأي وخبرة واختصاص، من أصحاب الأقلام أو المنابر أو القدرات العلمية أو البحثية أو المالية، في كل ميدان يحتاج إليه أن يسارعوا للقيام بواجب النصرة، والمشاركة في صنع النصر، ولن يعدم حريص الوسيلة لإيصال النصيحة وتقديم العون وتيسير المنفعة، لمن يمسكون الآن بدفة تغيير التاريخ وتصحيح المسار.
ومع الاعتراف بأن التحديات المقبلة أكبر من قدرات قطاع إسلامي واحد في داخل العراق أو خارجه، لتفرعها وتنوعها، فإن ذلك لا ينبغي أن يصد عن التقريب والتسديد بحسب الاستطاعة، ولو كانت البداية ـ كما يحدث الآن ـ محاولة رصد أهم تلك التحديات، والبدء في دراستها، وتمييز الحقيقي منها والوهمي، والنظري والعملي، ثم وضع الأسس العريضة لمواجهتها، بتضافر الجهود بين المختصين والمجربين والمراقبين.
وهذه بعض المعالم العامة في هذا الموضوع:
< لا بد من السعي المكثف لبناء برنامج سياسي لأهل السنة، يراعي تعدد الاجتهادات والسيناريوهات واختلاف الخيارات؛ فالقتال لن يستمر إلى الأبد في العراق، واستغلال مدة ما قبل الانسحاب للوصول إلى صورة واضحة في ذلك، أوْلى من ضرب الأخماس في الأسداس عندما تخلو العراق من الأمريكيين، وتقع فريسة بين خلفائهم أو عملائهم الذين لا بد أنهم قد أعدوا عدتهم ورتبوا صفوفهم منذ زمن.
< لا مناص من الاجتماع على كلمة سواء بين فصائل أهل السنة، سواء المجاهدون منهم أو السياسيون، فكل منها درع للآخر وردء، ولن يتعوض الضعف السياسي الظاهر في أهل السنة إلا بذلك، وكثير من مسائل الاختلاف بينهم ـ على ما نرى ـ هي مسائل اجتهادية، والاجتماع ـ ولو على أمر مرجوح ـ خير من الافتراق أو التنازع.
< وضع أسس شرعية محكمة، وقواعد قتالية معلنة، من شأنه أن يخفف من هاجس فقدان أو نقصان مشروعية القتال بعد الانسحاب، إذا دعت الضرورة إليه، فلا بد من التحديد الواضح للشرائح التي يمكن أن تكون هدفاً للجهاد من الخونة والمرتدين والجواسيس ونحوهم، مع بذل أقصى ما يمكن من الخدمة الإعلامية لهذه الأسس القتالية، بما يزيل الغموض ويدفع الظنون عن غايات الجهاد السامية.
< المرجعية العلمية ـ بفهم أهل السنة ـ قضية بنائية في غاية الأهمية لا تقل في أهميتها عن بناء القوى السياسية والعسكرية {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وندرة المرجعيات العلمية المشهورة في العراق تحتاج إلى معالجة لا يكفيها المدى القريب، ولكن الضرورة تقضي بألا تؤجل وظائف هذه المرجعية حتى وجودها؛ فمن(1/1895)
خارج العراق يمكن أن تدرس كبار المسائل، وتبحث دقائق النوازل بالتواصل العلمي الذي تيسرت أسبابه في عصرنا، وإن كان هذا لا يغني عن أن تنتدب طائفة من أهل السنة العراقيين لتعويض هذا النقص، لمعادلته بما هو حادث مع الطوائف الأخرى.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ـــــــــــــــ
الهزيمة والخزي مصير الخائنين
لقد طبع اليهود على أسوأ الأخلاق، ويأتي على رأسها الغدر والخيانة، فلم يُعرف عنهم عبر تاريخهم الطويل التزام بعهد وميثاق، حتى مع أنبيائهم!!
ولقد عاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يهود المدينة وتوافقوا على بنود سجلت بوثيقة تعد أول دستور للدولة الإسلامية، ولكنهم سرعان ما غدروا وخانوا فنقضوا عهودهم، وكان يهود بني قينقاع أول من نقض العهد، وكانوا أكثر اليهود قوة وعدة، وكانت منازلهم أقرب المنازل للمسلمين. وهم الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن دعاهم للإسلام بعد غزوة بدر، قالوا: "لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، أما والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس". وفي هذا تهديد واضح بالحرب وإن كان مبطنا. وفيهم نزل قوله - تعالى -: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) فالميزان الحقيقي في النصر ليس كثرة العدد والعدة، بل هو نبل الغاية التي يحارب من أجلها، أن تكون في سبيل الله، وفي غزوة بدر (يوم الفرقان) العبر والدروس الكثيرة لكل متأمل بصير، فكان على اليهود أن يستجيبوا لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وألا يغتروا بقوتهم المادية، خاصة بعد تجربة عملية حدثت أمام أعينهم في بدر، ولكنهم وكعادة اليهود يحقدون على كل ما هو غير يهودي، فأبوا واستكبروا وعاندوا وأسروا الغدر والخيانة، وقد كان.
أخذ يهود بني قينقاع يزيدون في سخريتهم واستهزائهم بالمسلمين وكان سوق بني النضير المكان المفضل لممارسة هذه الهواية الشاذة (السخرية والاستهزاء على المسلمين)، وحدث أن دخلت امرأة مسلمة السوق وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فلما أبت عمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها، فصاحت مستنجدة، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، أي أنهم اجتمعوا عليه فلم تعد المسألة قضية شخصية.
حدث ذلك بعد عشرين يوما من غزوة بدر، وأنزل الله - تعالى -فيهم (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أخاف(1/1896)
خيانتهم، فنبذ عهدهم وحاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة، حتى استسلموا ورضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يعولون على حليفهم رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول في النجاة من الذبح، حيث كان الخزرج حلفاء لبني قينقاع من قبل، وأثمرت هذه العلاقة المشبوهة بين اليهود والمنافقين في نجاة بني قينقاع من الذبح، فبعد إلحاح شديد من ابن سلول حتى أنه مسك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يتركه حتى يطلقهم له بحجة أنهم مواليه، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطلقهم وهو كاره، ولكنه أمر بإجلائهم من المدينة ومنعهم من أخذ السلاح.
هذا هو موقف الطابور الخامس، بينما كان موقف المؤمنين حقا كما فعل عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وكان عبادة من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله ابن سلول، فقد جاء عبادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ من حلف هؤلاء الخونة وولايتهم، ونزل بذلك قرآن يتلى إلى يوم الدين، ففي ابن سلول وأمثاله كثير إلى يومنا هذا، نزل قوله - سبحانه -: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة). وفي عبادة وأمثاله من المجاهدين المؤمنين إلى يومنا هذا، نزل قوله - تعالى -: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
أيها المسلمون...
مع أي فئة نريد أن نكون.. مع ابن سلول والعياذ بالله، الذي اتخذ اليهود أولياء من دون المؤمنين، أم مع عبادة - رضي الله عنه - الذي تبرأ من موالاة الكافرين فضلا عن الخائنين.
يا قادة العالم الإسلامي...
لقد تحرك الجيش الإسلامي برمته من أجل امرأة مسلمة أهينت، فكيف بنا الآن وأعراض المسلمين مستباحة في فلسطين؟
كم دم سفك ظلما وعدوانا في فلسطين وغيرها من بلاد المسملين؟
كم بيت هدم بغير حق؟
كم مسجد دنس وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك مسرى نبينا - صلى الله عليه وسلم -؟
كم بريء سجن؟
كم طفل شُرّد أو يتّم؟
كم امرأة ترملت؟
كم شريف أصبح مطاردا مطلوبا؟
كم زرع خُرّب وأحرق؟
كل هذا وجيوش المسلمين ساكنة لا تتحرك!!(1/1897)
فبدل الحركة الفورية التي ينبغي أن تكون، (فانبذ إليهم على سواء)، نجد الحركة الفورية في الاتجاه غير الصحيح، لمسالمة المعتدين وإقامة علاقات طبيعية معهم إذا انسحبوا من جزء من الأرض التي احتلوها!!
إننا نرحب بالعلاقات الطبيعية مع المعتدين الغاصبين الجاثمين على أرض الإسراء والمعراج، نعم نرحب بها لأن العلاقة الطبيعية مع المعتدي هي مقاومته لا مسالمته، وإن أطفال الحجارة وشباب المقاومة يعطون الأمة النموذج الأمثل في التعامل الطبيعي مع المعتدين، إنهم جند عبادة لا ريب، وعبادة قبره هناك في الأرض المقدسة قرب المسجد الأقصى المبارك، فكأنهم أخذوا العبرة منه وكأنهم عاهدوه على السير على دربه ومقاومة درب ابن سلول.
العلاقات الطبيعية معهم كما أخبر رب العزة، حيث نزلت هذه الآيات في بني قينقاع (وما زال بنو قينقاع يحاربون المسلمين) قال - تعالى -: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون. وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). فهل نحن فاعلون؟؟
وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://www.palestine-info.info المصدر:
ـــــــــــــــ
الهزيمة واضحة ورامسفيلد لا يزال يكذب
د / محمد مورو
29 رمضان 1427هـ الموافق له 21 أكتوبر 2006م
يمكن أن يحصل دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي على لقب الكذاب الأول في العالم لأنه يصر في كل مرة يعترف فيها الآخرون بالهزيمة الأمريكية في العراق أن بلاده منتصرة هناك!!، ويمكن أن يضاف إلى لقب الكذاب الأول صفات الصفاقة والبجاحة والإدعاء، ذلك أنه لم يعد يصدقه أحد أولاً، ولأنه يعرف أنه يكذب في أمر واضح للعيان وليس هناك شك فيه.
الهزيمة الأمريكية في العراق واضحة منذ زمن بعيد، ولكنها الآن أكثر وضوحاً بما لا يدع مجالاً للشك، فالمقاومة العراقية صمدت أمام جميع المناورات العسكرية والسياسية، صمدت أمام عشرات العمليات التي استهدفتها والتي كانت تتخذ أسماء رنانة مثل عقرب الصحراء، الأفعى ذات الأجراس، العاصفة، القبضة الحديدية... الخ، وصمدت أمام مناورات العملية السياسية تمرير الدستور بالتزوير، وإجراء(1/1898)
انتخابات، وتشكيل حكومات غير منتخبة وأخرى منتخبة، بل أكثر من هذا صمدت أمام الحرب الطائفية التي تشنها فرق الموت الشيعية بالتعاون مع الجيش والشرطة، ورغم النزيف الضخم الذي يعاني منه السنة في العراق - وهم الذين يقومون بالمقاومة أصلاً، ورغم تورط ما يسمى بجيش المهدي في تلك العملية القذرة وانتهاء مزاعمه حول معارضة الأمريكان، ومشاركة زعمائه في البرلمان؛ رغم كل هذا فإن السنة والمقاومة لا يزالون قادرين على توجيه الضربات للقوات لأمريكية، وفي شهر أكتوبر 2006 مثلاً كان معدل القتلى من الأمريكان حوالي 5 أفراد يومياً، وهو المعدل الأعلى حسب التصريحات الأمريكية منذ يناير 2005، وهكذا فإن المقاومة لم تتأثر بالحرب الطائفية القذرة الأمر الذي يعني أن أخر الوسائل القذرة لم تنجح في تحجيم المقاومة.
من ناحية أخرى فإن تقارير 16 جهازاً استخباراتياً أمريكياً قد أكدت أن المشروع الأمريكي في العراق يعاني من أزمة حادة، وأن المسألة تسير من سيئ إلى أسوأ، وأن معدل التطرف يرتفع، وهو الأمر الذي أكده تقرير استخباراتي بريطاني صدر في أعقاب هذه التقارير الأمريكية، بل إن رئيس الأركان البريطاني أعلن أنه من الأفضل سحب القوات البريطانية من العراق وهو ما يعني اهتزاز التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا في العراق، لأن بريطانيا هي أهم أعضاء هذا التحالف، وهو أمر له دلالاته ومردوده السلبي على الوجود الأمريكي نفسه حتى ولو كان تأثيره العسكري محدوداً، في الإطار نفسه فإن الرئيس الأمريكي اضطر إلى تطمين رئيس الوزراء العراقي جواد المالكي وأكد في تصريح له أنه لا ينوي سحب القوات الأمريكية في العراق، والتصريح يعني أن هناك شعور داخل التحالف الشيعي الكردي المتورط في التعاون مع الأمريكان في العراق بأن الأمريكان يفكرون في الانسحاب نتيجة الفشل والخسائر الأمريكية العالية، ولولا ذلك لما قال الرئيس الأمريكي يمثل هذا التصريح.
الأمر الأكثر دلالة في هذا الصدد أن اللجنة البرلمانية الأمريكية الخاصة بالعراق والتي تشكلت من جمهوريين وديمقراطيين برئاسة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جيمس بيكر توصلت إلى أنه ليس هناك حل سحري للمشاكل المستفعلة في العراق، وأن جيمس بيكر شخصياً قد أصيب بصدمة عندما زار العراق مؤخراً، وأكد الرجل في كلمة أمام مجلس هيوستون للشئون العالمية على أنه لا يوجد طريقة سهلة للخروج من العراق، وأن الاعتقاد بإمكانية التوصل إلى حل نهائي للأزمة هو من قبيل التخمينات، وذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية أن اللجنة تعتزم التقدم باقتراح مطلع عام 2007 لإجراء تغييرات كبيرة على استراتيجية الولايات المتحدة في العراق، وبديهي أن هذا يعد تراجعاً كبيراً في السياسة الأمريكية في المنطقة، وللأسف فإنه يفكر في حل مشكلته على حساب السنة بإعطاء مكاسب لإيران وسوريا!!.(1/1899)
وهكذا فالفشل الأمريكي واضح باعتراف تقرير 16 جهاز استخباراتي، وباعتراف بريطاني، وباعتراف لجنة برلمانية أمريكية، وبالنظر إلى تصاعد الخسائر الأمريكية المعلنة رسمياً ومع ذلك فإن دونالد رامسفيلد لا يزال يصر على أن أمريكا لم تخسر عسكرياً في العراق، ولكن المسألة تحتاج إلى ما هو أكثر من القوة العسكرية لتحقيق النصر!!.
http://www.islammemo.cc:المصدر
ـــــــــــــــ
الهزيمة تحدق بأمريكا وإن فاز الديموقراطيون
شيماء نعمان
17 شوال 1427هـ الموافق له 8- 11- 2006م
مع ما تثيره انتخابات التجديد النصفي بالكونجرس الأمريكي من توقعات بشأن مستقبل الولايات المتحدة في حال سيطر الديموقراطيون على الجهاز التشريعي في البلاد؛ استهل الباحث الأمريكي البارز بجامعة ييل "إيمانويل واليرشتاين" مقاله الأخير الذي نشرته صحيفة "سان فرانسيسكو كرونكيل" الأمريكية بتساؤل قال فيه:
ما هو الاختلاف الذي سيحدث إذا ما فاز الديموقراطيون بمجلس واحد بالكونجرس، أو حتى فازوا بمجلسيه الاثنين (الشيوخ والنواب)؟
وأوضح واليرشتاين صاحب كتاب "انحدار القوة الأمريكية: الولايات المتحدة في عالم مضطرب" أنه شخصياً يمكنه أن يعلن أنه سوف يصوت لصالح الحزب الديموقراطي، مشيراً إلى أن الغرض الرئيس وراء ذلك الخيار هو التصويت ضد الرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" حيث قال: "مثل الكثير من الناس فإنني بشكل أساسي سأصوت له - الحزب الديموقراطي - كنوع من التصويت السلبي ضد "جورج دبليو بوش"، وثانياً ضد الغالبية الجمهورية بكلا المجلسين، سوف أفعل ذلك لأسباب عديدة، ولكن باديء ذي بدء لأنني أعتقد أن غزو العراق كان عملاً غير أخلاقياً، وذي نتائج عكسية، وبوجه عام يمثل انتكاسة للولايات المتحدة والعراق والعالم بأسره".
وأكد الباحث الأمريكي الشهير في مقاله أنه لديه العديد من الانتقادات ضد النظام الحاكم من بينها: انتهاكاته للحريات الأساسية للمواطنين الأمريكيين، وسياساته الاقتصادية والاجتماعية الداخلية المتداعية، وسياسته الخارجية غير الحكيمة، مشدداً على أن العراق يتصدر جميع تلك الانتقادات كسبب رئيس للتصويت لصالح الديموقراطيين.
ويلجأ الكاتب مجدداً لطرح أسئلته لإثارة ذهن القاريء، وحثه على التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في ظل سيطرة ديموقراطية على الجهاز التشريعي، حيث يقول:
ولكن ما هو الأفضل الذي سيقدمه كونجرس يسيطر عليه الديموقراطيون؟(1/1900)
هذا ليس واضحاً على الإطلاق، في الحقيقة يجب أن تساورنا شكوك في كون الديموقراطيون لديهم بشكل عام سياسة خارجية أفضل لتقديمها، فالمشكلة الرئيسة في قيادة الحزب الديموقراطي هي أنها تؤمن على الأقل بنفس مستوى إيمان الجمهوريين بأن الولايات المتحدة هي مركز العالم، وعين الحكمة فيه، والمدافع العظيم عن حريته، وأنها باختصار دولة فاضلة في عالم محفوف بالمخاطر!
إن أسوأ ما في الأمر ما يبدو من أنهم يعتقدون أنه بمجرد التخلص من عنصر الانعزالية أحادية الجانب التي يمارسها النظام الحالي سيكون بمقدروهم إعادة الولايات المتحدة إلى وضع المركزية بالنظام العالمي، واستعادة تأييد حلفائهم السابقين ومناصريهم خاصة في أوروبا الغربية، ثم في جميع أنحاء العالم، إنهم يعتقدون على ما يبدو أنها مسألة إطار وليس مضمون، وأن خطأ نظام بوش يكمن في أنه لم يكن مجيداً بما يكفي في عالم الدبلوماسية، صحيح أن ذلك الأسلوب في التفكير لا يمثل جميع الديموقراطيين، وأن كذلك ليس كل الجمهوريين والاستقلاليين يعتنقونه، إلا أنه حتى هذه اللحظة لا يوجد سوى أقلية فقط هي التي لديها الاستعداد للنظر الفعلي في سقطات السياسة الأمريكية، ولكنها أقلية دون أجندة واضحة، وبالطبع بلا زعيم سياسي رئيس للتعبير عن وجهة نظر بديلة.
إذن ما الذي سيحدث؟
من المحتمل - وليس من المؤكد - أن تُجبر الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008، إلا أن الافتراض الأكثر تأكيداً هو أن يلقي الجمهوريون باللوم على الديموقراطيين في "خسارة" الحرب، وأن ينكر الديموقراطيون ذلك، ولكن خلف الهراء السياسي المعهود سيأتي الانسحاب كصدمة نافذة للأمريكيين حتى وإن كان غالبيتهم مقتنعون بعدم وجود بدائل.
وحاول "إيمانويل واليرشتاين" عقد مقارنة بين حرب العراق والحروب الأخرى التي خاضتها الولايات المتحدة حيث قال:
إن مثل ذلك الانسحاب المتوقع يجب أن يوضع في إطار الحروب التي قاتلت فيها الولايات المتحدة منذ عام 1945، والتي تعد أهمها من حيث التأثير الجغرافي السياسي، والتكلفة الاقتصادية، والتأثير الانفعالي للشعب؛ حرب فيتنام، وهي حرب خسرتها أمريكا، وكانت نتيجتها انقسام حاد في الرأي العام الشعبي حول من "خسر" الحرب، وما إذا كان من الممكن الانتصار فيها.
إن الولايات المتحدة لم تتعافى قط مما يعرف باسم "أعراض فيتنام" أو Vietnam syndrome التي تسببت فيها تلك الحرب آنذاك، ويتوقع واليرشاين أن يكون الانسحاب من العراق ذو تأثير أشد ألماً من مغادرة مدينة سايجون عاصمة فيتنام الجنوبية عام 1975، مؤكداً أن تكبد هزيمتين سيكون ذي تأثير مدمر، ولكنه كذلك يكشف بصورة قاطعة الحد الحقيقي للقوة الأمريكية.
ويقدم الباحث الأمريكي في نهاية مقاله احتمالات يتصورها للمستقبل الأمريكي قائلاً:(1/1901)
عند تلك النقطة هناك احتمالان وحيدان فقط: أحدهما أن يحدث لدى الولايات المتحدة حالة من البحث العميق عن الذات يؤدي بها إلى إعادة تقييم صورتها، وإدراكها لما هو متاح في النظام العالمي الآن وفي المستقبل، وطبيعة القيم التي تؤمن بها، وهو ما إذا حدث سيدفع بقوى من داخل الحزب الديموقراطي للتقدم من أجل تجسيد ذلك النوع من إعادة التقييم.
ولكن هناك بالطبع احتمال ثانٍ: وهو أن تتحرك الأمة بغضب عميق بشأن "فقد" صدارتها، وأن تسعى للبحث عن أكباش فداء (والعثور عليهم)، والتحرك في النهاية في اتجاه تدمير دستور الولايات المتحدة والحريات التي من المفترض أن يدافع عنها.
ويشير واليرشاين إلى أن شيئاً كهذا كان قد حدث بمدينة فايمار الألمانية، مضيفاً: "بالرغم من أن الوضع يختلف في العديد من الأوجه، وبالرغم من أنني لا أتتوقع بأي شكل انبعاث حزب نازي؛ إلا أنه مع ذلك ستلحق بالولايات المتحدة والعالم كارثة مفجعة إذا ما تقدمت الولايات المتحدة إلى أية درجة جدية في ذلك الاتجاه".
على النحو الآخر يرى الكاتب أن صدمة عنيفة من نوع هزيمة أمريكية بالعراق يمكن أن يكون لها تأثير صحي لإحياء ما أسماه أفضل ما في التراث الأمريكي، والخاص بالأشخاص المنادين بالحرية، والأشخاص ذوي الوعي الاجتماعي الذين سترحب بهم مجدداً الكلمات المنقوشة على تمثال الحرية والتي تقول: "الجماهير الحاشدة تتوق إلى أن تكون حرة".
http://www.islammemo.cc:المصدر
ـــــــــــــــ
تحضيرات ما بعد الهزيمة الأمريكية
أحمد موفق زيدان
15/10/1427هـ
الشرق/ الراصد لتصريحات المسؤولين الأمريكيين ومحلليهم، والمتمعن في ما بين السطور وما خلفها يجد أن إعلان الهزيمة الأمريكية والانسحاب من العراق وأفغانستان مسألة وقت، وأن القرار اُتخذ بغض النظر عن كل التصريحات البوشية العنترية التي لا تُقرأ إلا على أنها زفرة ما قبل الموت، ولسنا هنا بصدد الحديث والتدليل على ذلك، فما يعنينا في هذا المقال هو التحضيرات التي لجأت أو سيلجأ إليها الطرفان المهمان والمعنيان في هذه المعادلة، طرف خاسر بكل تأكيد وهو الدول المتحالفة مع الأمريكيين، وحرصت على دعم هذا المخطط منذ البداية، ونافحت عنه، وسعت إلى إنجاحه لبلوغه نتيجته غير المنطقية، وطرف مقاوم لم يكشف عن المرحلة الجديدة باستثناء برنامج القاعدة السياسي الذي أثار جدلاً في تأييده أو معارضته، أو مجلس شورى المجاهدين الذي تشكل القاعدة رأس الحربة فيه أو عموده الفقري، في حين آثرت جماعات المقاومة الأخرى مثل الجيش الإسلامي، وكتائب ثورة(1/1902)
العشرين عدم التركيز كثيراً على شكل الدولة التي يريدانها، وهو موضوع في غاية الأهمية، وتحديداً في هذه الظروف العصيبة.
سأبدا بالحديث عن الطرف الثاني كونه الأهم في هذه المعادلة خصوصاً أن مواقفه وبرامجه ستنعكس سلباً أو إيجاباً على الطرف الأول الذي سأتطرق إليه لاحقاً، فتنظيم القاعدة منذ البداية يعتمد في إيديولوجيته وفكرته على قيام الدولة على أي بقعة أرض من أجل الانطلاق إلى ما بعدها، وهو ما تحدث عنه بإسهاب الشخصية الثانية في تنظيم القاعدة الدكتور أيمن الظواهري في كتابه فرسان تحت راية النبي، وبالتالي فلسنا بحاجة إلى بذل الجهد في معرفة مواقفه وسياساته، غير أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن أي مشروع لا بد أن يكون متسقاً مع ظروفه وبيئته والجهات العاملة هناك، حتى يكتب له النجاح أولاً، ولا يصطدم مع قوى نافذة أحياناً، لكن المهم هنا معرفة موقف الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وتحديداً الموقف السياسي، فحتى الآن حسب معرفتي القاصرة لم نلمس لهما تأكيداً واضحاً على قيام الدولة الإسلامية وشكلها، وربما أكون مخطئاً.
هذا السؤال في غاية الأهمية، وهنا لست معنياً في أن يلجأ الجيش الإسلامي أو كتائب ثورة العشرين في تأييد القاعدة وبرنامجها في دولة العراق الإسلامية بقدر ما أنا معني في الكشف عن برامجهما السياسية لمرحلة ما بعد رحيل الاحتلال، فظهور ممثل البعث العراقي على شاشة الجزيرة، وحديثه السياسي يرافقه صمت الآخرين يستدعي الكثير من التوقف والتبين، ويستدعي بالمقابل مزيداً من قراءة المستقبل، وخشية جدية من أن تُسرق الجهود مرة أخرى، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار ما رددته وسائل إعلام غربية عن إمكان أن تلجأ أمريكا إلى البعثيين لملاحقة الجهاديين - أو القاعدة تحديداً - وهو ما عكسه مقال مطول لبيتر برغن في النيويورك تايمز يوم الجمعة الماضي.
هل سنشهد ملاحقة عناصر القاعدة أو الجهاديين بشكل عام في مرحلة ما بعد خروج المحتل كما حصل للمجاهدين العرب في أفغانستان حين طوردوا واعتقلوا في بيشاور وغيرها، أم أن فصائل المقاومة ستفاجئنا وتكشف عن برنامجها السياسي، وتخفض جناحها بعضها لبعض بحيث تتنازل عن حظوظ نفسها، تحقيقاً للمصلحة العليا وهي مصلحة مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعوقين، وقبلهم مئات الملايين من الأحياء منهم والمتعاطفين معهم.
الأمر الآخر الذي يثير الاستغراب هو عدم طرح مقاومي الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين لرموزهم، وتعريف الناس بهم عبر وسائل الإعلام، بينما الكل يقدم رموزه، فالرمزية مهمة في مرحلة الالتفاف الشعبي، وكذلك في مرحلة ما بعيد رحيل الاحتلال.
الطرف الآخر من المعادلة العراقية الصعبة هنا هو أمريكا والدول الحليفة لها في المنطقة من غربية وعربية وإسلامية، بداية لا بد من تذكر ما قاله مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيغينو بريجنسكي الذي هو مع وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر يشكلان كعب أخيل في كل(1/1903)
الحكومات الأمريكية وحتى الحالية؛ بريجنسكي قال في الذكرى السنوية الخمسين للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 إن هذا العدوان شكل علامة فارقة لتراجع الدور البريطاني وهيمنة الدور الأمريكي، وإن الوقت الحالي يشكل نهاية وتراجع الدور الأمريكي بعد غزو العراق، مضيفاً:" إننا نواجه وضع تراجع حقيقي على مستوى الشرق الأوسط، واحتمالية طردنا من المنطقة، "أما ريتشادر هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي الذائع النفوذ فقد قال في مقال له مطول في فصلية الشؤون الخارجية الأمريكية: "إن عصر الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط انتهى، وعصر جديد لتاريخ المنطقة المعاصر قد بدأ".
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وصف هزيمة الأمريكيين والبريطانيين في أفغانستان والعراق إن حصلت بأنها هزيمة للغرب كله، أما كيسنجر فقد قال إنها هزيمة لمكاسب حصدها الغرب طوال خمسة قرون ماضية، واقتفى أثر تصريحاتهما أيضاً الجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة أركان القوات الأمريكية المشتركة بقوله: "إن انتصار قوات التحالف على المقاومة العراقية كمثل الانتصار في الحرب العالمية الثانية أو أزيد".
أما حلفاء أمريكا في الدول العربية والأطلسية فسيكونون أحد الضحايا الأساسيين للهزيمة الأمريكية، ورحيل واشنطن عن المنطقة، ينضاف إليهم رموز الليبرالية العربية وهو ما سيعني تلقائياً تصاعد المد الإسلامي والمقاوم، فقد تحدثت تقارير كثيرة عن عكوف دول الأطلسي للبحث في مرحلة ما بعد الهزيمة الأمريكية، وانسحاب الجيوش الأمريكية من العراق وأفغانستان، كما أن بعض الدول الخليجية بدأت بفتح علاقات جديدة مع دول في شرق آسيا كماليزيا وسنغافورة وغيرهما من أجل التعويض عما سيحصل في حال الهزيمة الأمريكية، وانسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان.
لكن يبدو أن ما يساعد أمريكا حتى الآن هو عدم وجود المنافس أو البديل للحلول محلها في المنطقة، فالاتحاد الأوربي فشل في اجتراح سياسة واستراتيجية عسكرية للحلول محلها، كما أنه لا تستطيع أي دولة في العالم أن تقدم مثل هذا العدد الضخم من الأموال لتنفقها في العراق فضلاً عن نشر مئة وأربعين ألف جندي هناك.
http://www.almokhtsar.com:المصدر
ـــــــــــــــ
استراتيجية تقزيم الهزيمة
د. حنان فاروق
يقول علماء تنمية وتطوير الذات في العصر الحديث: إن الفشل أو الهزيمة ليسا المشكلة الحقيقية لمن يُمنَى بهما، لكن المشكلة الرئيسة هي الاستسلام لهما والرضا بهما.(1/1904)
إن الإنسان المهزوم هو الذي يسلم قياده لهزيمته ويرتاح بطريقة أو بأخرى في كنف (عدم استطاعة) وفي أغلال (فقدان المقدرة) على تغيير الواقع والعمل على خلق غدٍ أفضل بإذن الله؛ وهو الذي يركز على الجانب السلبي للفشل ولا ينظر إليه بمنظار مختلف وناحية مغايرة للانكسارية والتيه والضياع.
لقد أدرك الغرب المناوئ للإسلام وأمريكا سيدة مشروع (القرن الأمريكي الجديد) هذا الأمر، وفهمت أن سحق أي أمة لا يأتي إلا من داخل قلوب أبنائها وعقولهم قبل أن يكون جهاداً بالسلاح، ومن ثَم فقد عملت على تأكيد هذا السحق وتعميقه حتى تبدد أي أمل في النصر القادم الذي وعدنا به رب العزة تبارك وتعالى، وكذلك حتى تنسى الأمة نهج رسولها - صلى الله عليه وسلم - واستراتيجياته في معالجة الهزائم وتحويلها إلى بدايات لانتصارات جديدة حين يتكالب الطغاة والبغاة على الأمة تكالب الأكلة على قصعتها. وها هو - صلى الله عليه وسلم -، في بداية رسالته ونزول الوحي، عندما أتاه خبَّاب بن الأرتّ - رضي الله عنه - وهو متوسد بُرْدَه في ظل الكعبة وقال له: ألا تدعو الله؟! فقعد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمرُّ الوجه، ثم قال: «لقد كان مَنْ قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ: والذئب على غنمه» وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون».
كان المسلمون آنذاك في أوج هزيمتهم النفسية، يسامون سوء العذاب ليل نهار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبشرهم بالنصر والتمكين؛ بيد أنه حين رأى أن نفوسهم قد دخلت إلى منعطف الاستسلام لانكسارهم واليأس من حاضرهم أمدهم بجرعة أمل منبعثة من أعماق الإيمان برسالته؛ وكأنه يقول لهم قول الله ـ - تعالى -ـ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}. فالضعف لا يزيد الإنسان إلا خساراً وترهلاً نفسياً لا يؤهله لأن تقوم له قائمة، أو تبزغ له شمس.
وحين ذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ولقي ما لقي من الأذى والعنت والسخرية اضطر للعودة إلى مكة مرة أخرى واستئناف ما بدأه هناك، فقال له زيد بن حارثة الذي كان يصحبه في رحلته تلك: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك (يعني قريشاً)؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا زيد! إن الله جاعلٌ لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصرٌ دينه ومظهرٌ نبيه» فبدل بقوله هذا ما أحسه زيد من انكسار وقلة حيلة وهو يرى نبي الله وأباه بالتبني ـ قبل أن يحرّم ـ يُسَبُّ ويرمى بالحجارة، إلى أمل وإيمان بنصر عزيز من لدن حكيم خبير. وحين هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة تاركين وراءهم أموالهم وديارهم وحياتهم بجوار بيت الله الحرام بعد أن سلبتهم قريش كل شيء مقابل خروجهم سالمين؛ كانوا وقتها يشعرون بالظلم القاهر لما اضطروا إليه فراراً من أذى قريش الذي أرهق أرواحهم قبل أجسادهم، وكانوا موقنين أنهم على الحق، لكنَّ تأخُّر النصر يؤلمهم ويقض مضجعهم. كانوا يتحرقون شوقاً لأن يسترجعوا حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المنهوبة؛ فلم يتركهم الله(1/1905)
ورسوله لهذا الشعور لكي يتغذى على نفوسهم وإيمانهم فيستسلموا له، بل نزلت الآيات الكريمة بالإذن بالقتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
فكانت السرايا والغزوات التي أعطتهم الدفعة نحو الأمام والثقة بأنهم قادرون على الانتصار بإذن الله؛ لا يفت في عضدهم قصور في العدة أو العدد؛ مثل سرية سِيف البحر ورابغ والحزار، وغزوة الأبواء وبواط وسفوان، وغزوة ذي العشيرة، وسرية نخلة.. تلك السرايا والغزوات لم تكن إلا لرد كرامة المسلمين الذين لم يقترفوا ما يدعو إلى إيذائهم والاعتداء عليهم إلا أنهم اختاروا الله الواحد الأحد، فباعوا له أموالهم وأنفسهم، ونصروه ولم يستسلموا للتخذيل الهدام الذي كان يبثه المنافقون في نفوسهم؛ فلما أبوا الاستسلام ونصروا ربهم نصرَهم نصراً عزيزاً مؤزراً بعد سنوات من العذاب والصبر والتحمل.
أما ما حدث بعد الهزيمة النفسية المؤلمة التي تعرض لها المسلمون في أُحُد فهو الدرس الواضح الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في استراتيجية مقاومة وتقزيم الهزيمة؛ فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين الذين شهدوا معركة أحد والمثخنين بالجراح والأحزان صباح الغد من الهزيمة بالخروج ليطاردوا فلول الكفار العائدين بنصرهم المؤقت؛ فرحين يخططون لإعادة الكرَّة للإغارة على المدينة المنورة ليفتكوا بالمسلمين وهم بعدُ لم يخرجوا من روح هزيمتهم، فهبُّوا سمعاً وطاعة لرسولهم الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وعسكروا بحمراء الأسد على بُعد أميال من جيوش الكفار؛ مما جعل المشركين يفرون خوفاً منهم ومن سرعة قيام قائمتهم، وخاصة بعد أن خذّلهم معبد بن أبي معبد الخزاعي بإيعاز من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن اسلم وأدى واجبه في إكمال الحرب النفسية على الكفار والمشركين، وعاد المسلمون دون أن يمس أحدَهم سوء؛ وشعورُ النصر والقوة يملؤهم ويدفعهم دفعة جديدة بعد أن كادوا يركنون إلى إحساس الفشل والألم والحسرة.
هذا ما علَّمناه رسولنا الأمين - صلى الله عليه وسلم -. وإننا نرى اليوم الحرب النفسية على المسلمين؛ فحين تتوالى الأخبار عن هزيمة العدوان في العراق وأفغانستان أو غيرهما من بلاد المسلمين ومقتل عدد لا يحصى من أفراد القوات المحتلة.. نراهم يسمحون بتسريب أخبار عن تعذيب المسلمين في جوانتانامو وأبي غريب بأساليب تتدنى عن أحط الأخلاق الحيوانية، بل ينشرون صور ذلك الإذلال على الملأ في نشرات أخبارهم وبرامجهم السياسية والحوارية وجرائدهم المحلية والعالمية ليعمقوا إحساس المهانة لدى المسلم المتابع لقضايا مجتمعه في جميع أنحاء العالم بالصوت والصورة والشعور حتى يتغلغل داخله ويقيده فلا يستطيع منه فكاكاً.
ثم يعود العدو فينشر أخباراً عن إهانة المصحف وتدنيسه المتعمد في السجون والمعتقلات نفسها التي أُعدت خصيصاً للمسلمين القابضين على الجمر الذين جُرِّدوا من كرامتهم قبل ملابسهم تحت تهديد(1/1906)
السلاح، ثم تعرض الصحف الأجنبية رسوماً مسيئة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفض الاعتذار بدعوى أننا ـ أعني المسلمين ـ لا نفهم معنى الحرية الحقة، فيحمِّلوننا الإساءة والتخلف معاً.
ويعاود رأس الكاثوليك الكرَّة فيسيء للإسلام، ثم يقول: لم أقصد.. وهو الذي يعد رئيس دولة؛ فهو ليس زعيماً دينياً فحسب، ولكنه أيضاً يضطلع بالعمل السياسي مثل رؤساء الدول وملوك الممالك وسلاطينها ومن شابههم؛ وعليه فلا يمكن إدراج إساءاته تحت النقل أو زلات اللسان أو الهفوات الفكرية؛ لأنها بالقطع مقصودة، وتضيف لسابقاتها المتكررة المعلنة وغير المعلنة أرصدة جديدة من الألم النابض في قلوب المسلمين وعقولهم. ثم يعود الإعلام فينشر صور حاكم عربي كبير، مهما اختُلف عليه فهو مسلم، وهو بملابسه الداخلية في المعتقل الخاص المعد له دون إذن منه وكأنه يمعن في فضحه والنيل منه.
ثم يعود فينشر فيلماًَ لإعدامه صبيحة عيد الأضحى المبارك والمسلمون في أوج عزتهم وتوحدهم الذي يستشعرونه كل عام من كل فج عميق خلال رحلتهم لبيت الله الحرام عبر القنوات الفضائية العربية وغير العربية والإنترنت ورسائل الوسائط للهواتف المحمولة التي استكملت المشهد التلفزيوني الذي رفض إعلاميوه عرض أواخره، فقامت الشبكة العنكبوتية وأجهزة المحمول بالغرض وبالمهمة عنهم ليضرب مشاعر المسلمين في مقتل وائد لفرحتهم قبل أن تكتمل، وسعادتهم قبل أن تتم.
إنها الحرب النفسية واللعب على وتر التحطيم الداخلي قبل الخارجي، وإرساء حالة من الاكتئاب واليأس العام قبل تنفيذ أي مخطط بفترة كافية كي تتسنى التهيئة التامة لركوع المغتصَبين لغاصبيهم، بانتزاع كل أمل في النصر والتمكين من قلب الفريسة لتتبدد مقاومتها قبل أن تولد، ويشل تفكيرها قبل أن يتأجج، ويموت الحلم حتى في الخيال، فيدخل المحتل إلى حيث يريد، ويأخذ ما يريد في الوقت الذي يريد، ويجعل فريسته إما صورة في مرآته، أو كمّاً مهمَلاً في سلة قاذوراته.
إن هذا هو مفتاح الانتصار الذي يعتمد عليه الآخر في حروبه معنا، معنويةً كانت أو ماديةً؛ وبغير هذا المفتاح لا يهنأ لغاصب قلب ولا يغمض له جفن، ولا يفرح مهما حقق من نجاحات ومهما نفذ من مخططات؛ ولهذا فنحن مطالبون بقمع هزائمنا النفسية والفعلية، والعمل على الخروج من قوقعة اليأس، وزنزانة التكبيل الفكري، ودائرة الإحباط المفرغة التي ندور فيها بلا هدف غير البكاء والتباكي على حالنا بكل طريقة ممكنة ومتيسرة: بالكلمة والفعل وتعلُّم وإرساء مهارات العمل الجماعي، ونبذ ثقافة الحزن على اللبن المسكوب في مقالاتنا وفكرنا، ودراسة تاريخنا الحقيقي لا ذلك الذي لُقِّنَّاه في مدارسنا وجامعاتنا..وأولاً وأخيراً:بالثقة بوعد الله ـ - تعالى -ـ لنا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ـــــــــــــــ(1/1907)
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا
محمد يوسف
في كتابه "بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا" يستعرض المؤلف د. عبدالعزيز مصطفى كامل الأسباب الخفية لاحتلال العراق، ودور المقاومة العراقية واستراتيجياتها ضد المحتلين، كما يرصد واقع العراق، ومدى الخسائر الأميركية وهزيمتها في العراق من خلال عرضه لمؤشرات وشواهد الهزيمة، ودلالات الهزيمة الأميركية، كما يطرح المؤلف تحديات العراق بعد خروج أميركا مقدماً بعض التوصيات للسنة في العراق أو في العالم من أجل إحياء العراق، وعودته إلى الأمة الإسلامية والعربية.
يؤكد المؤلف في كتابه أن الولايات المتحدة مقبلة على الخروج من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم، ويشير المؤلف إلى أن المقاومة العراقية - منذ بداية الغزو - تقاتل بضراوة المعتدين والغزاة، وأن هذه النتيجة آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعود الله الذي قال: ((كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ))[البقرة: 249]، فالفئة القليلة التي لا يزيد عددها على بضعة عشرات من الآلاف في مواجهة مئة وستين ألفاً من الأميركيين وحلفائهم، وعملائهم العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيش أو الشرطة العميلة؛ استطاعوا أن يلقنوا الأميركيين وحلفائهم درساً لن ينسوه على الإطلاق، وأن يحولوا نتائجهم العسكرية والسياسية إلى فشل ذريع.
كشف القناع:
يتعرض المؤلف في كتابه للأسباب الحقيقية وراء غزو العراق، مؤكداً أن إسقاط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لم يكن السبب الوحيد أو الحقيقي في مخطط غزو العراق، مؤكداً كذب ادعاء وجود أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصار الشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة كان مجرد هراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك» المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأميركية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)، وتصريحات وزير الخزانة الأميركي الأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): "إن قرار الغزو اتخذته الإدارة الأميركية قبل ضربات القاعدة".
ويكشف المؤلف عن أن الأهداف الحقيقية للغزو هي الاستيلاء على النفط العراقي، وتأمين مستقبل الكيان الصهيوني من تهديدات أطلقها صدام مثلما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»!، وهدف تنفيذ(1/1908)
مشروع بوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين)، واختيار "الشرق الأوسط" ليكون ساحة ابتدائية لتنفيذه، واختيار العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه.
ذكاء المقاومة:
يتطرق المؤلف إلى تكتيكات المقاومة وآلياتها، فيوضح أن المقاومة بدأت بُعيد الغزو بمناوشة المحتلين؛ لتكوين الخبرات، وتنشئة العناصر القادرة على المواجهة، ثم بدأت بتنظيم هجومات تكتيكية ضمن حالة الدفع العام، ورتبت بعدها للانتقال إلى خطة الهجوم الاستراتيجي الذي يحوّل الخصم إلى موقع الدفاع، ثم جرى العمل وفق سياسة استنزاف العدو وإفقاده القدرة على الدفاع؛ لينتقل المجاهدون بعد ذلك إلى تكثيف المطاردة والإنهاك؛ لحرمان المعتدي مستقبلاً من الظهور بمظهر المنتصر، أو حتى المنسحب انسحاباً آمناً.
أما المتعاونون مع الأعداء فقد اعتمد المجاهدون سياسة إفقادهم التوازن ببثِّ الخوف في أوساط كل من يتعاون مع الأميركيين في الداخل، كما نجح المجاهدون في نقل جزء من المعركة إلى الداخل الأمريكي عن طريق اتِّباع سياسة إعلامية تركز على تصدير استراتيجية «الصدمة والترويع» - التي عانى منها الشعب العراقي في أول الحرب - إلى الشعب الأمريكي نفسه، وذلك بإصدار البيانات، وبثّ الأفلام الحية عن العمليات الناجحة، وهو ما أوجد انقساماً في الرأي العام الأمريكي تجاه جدوى الحرب، سرعان ما تحول إلى شقاق حول مشروعية تلك الحرب ومبرراتها.
ويشير المؤلف إلى أنه مع نجاح المقاومة العراقية ظهرت أيضاً بوادر تفكيك التحالف الدولي المتعاون مع الأميركيين بإجبار العديد من الدول على سحب قواتها، أو الشروع في ذلك، فانسحبت أكثر من 15 دولة من التحالف، وهو ما تسبب في ردع دول أخرى كانت ترتب لإرسال قوات مساعدة.
أبعاد الهزيمة: شواهد ومشاهد:
يصل المؤلف في كتابه - بعد التطرق لأسباب الاحتلال، ومدى قوة المقاومة، وتنوع تكتيكاتها - إلى حتمية الانسحاب الأميركي من العراق، ويعدد المؤلف شواهد الهزيمة مثل:
* حجم الخسائر البشرية الأميركية في الحرب.
*حالة الاقتصاد الأمريكي المنهك بعد أحداث سبتمبر التي زادته حرب العراق إنهاكاً، بحيث لم يعد يحتمل إطالة أمد هذه الحرب، فالمقاومة كلّفت المحتل تكاليف باهظة بلغت حتى شهر سبتمبر 2005م ما يصل إلى 700 مليار دولار في أقل من ثلاث سنوات فقط، في حين أن حرب فيتنام بكاملها التي استمرت 18 سنة كلفت الاقتصاد الأمريكي 600 مليار دولار.
* الخسارة الحضارية وهذه لا تُقّدر بثمن، حيث تستنفد أميركا رصيدها من شعارات الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، بقتلها المدنيين العراقيين، وفظائع سجن «أبو غريب»، والسجون العراقية(1/1909)
التابعة للاحتلال، وكذلك ما سبق الاحتلال من موت ما لا يقل عن مليون ونصف من أطفال العراق بسبب الحصار الاقتصادي، واستعمالها بعد الغزو القنابل العنقودية، والأسلحة المزودة باليورانيوم والفسفور الأبيض، والقنابل الثقيلة التي تُعدّ قنابل نووية صغيرة، والأسلحة الكيماوية.
* عمق هوة الخلاف بين دول الاحتلال، وتسارع وتيرة تفكيك التحالف الدولي مع أمريكا لا على مستوى العراق فحسب بل على المستوى العالمي فيما يسمى بـ«الحرب على الإرهاب»، حيث صارت عمليات الانتقام تمتد إلى حلفاء أمريكا داخل أراضيهم كما حدث في لندن وإسبانيا وتركيا، وهو ما كان سبباً مباشراً في انسحاب جيوش دول عديدة من التحالف، واستعداد أخرى للانسحاب، والانشقاق داخل أوروبا بل داخل البلد الأوروبي الواحد كما حدث في بريطانيا عندما اتهم عمدة لندن رئيس الوزراء «توني بلير» بأنه هو السبب الحقيقي في تفجيرات لندن.
* تضاعف قدرات المقاومة، وزيادة إمكاناتها كمّاً وكيفاً، وهو ما ينعكس زيادة في نوعية العمليات وتأثيرها.
* زيادة خصوم الحكومة الأمريكية في الداخل، وحالة الحرج الشديدة التي يتعرض لها بوش وإدارته، وهناك الكثير ممن كانوا يؤيدون قرار الحرب سحبوا موافقتهم منهم المرشح الديمقراطي للرئاسة في الانتخابات السابقة (جون كيري)، والرئيس السابق (بيل كلينتون).
دلالات هزيمة أمريكا:
يتطرق المؤلف إلى دلالات فشل المخطط الأميركي في العراق، موضحاً أن الهزيمة عندما تحدث بخروج أميركا بالفعل من العراق - وهي لابد أن تحدث بإذن الله - ستعني أموراً كثيرة وكبيرة منها:
* فشل المخططات الدولية مثل «مشروع الإمبراطورية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين» للإنجيليين الأمريكيين النصارى، ومشروع «القرن الأمريكي الجديد» للمحافظين اليهود الجدد في أمريكا.
* أن أحلام اليهود - من المحافظين الجدد أنفسهم - في تسلّم دفة الحكم في أمريكا في مهب الأعاصير؛ نظراً للإحباط الذريع في العراق أولى محطات التآمر العالمي ليهود أمريكا في القرن الجديد.
* أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» سوف يوضع في أدراج البنتاجون أو البيت الأبيض؛ لأن مخطط إطلاق هذا المشروع في العراق قد احترقت.
* أن عصر القطبية الواحدة آيل للأفول، وسوف تبرز أقطاب أخرى قريباً - بإذن الله - سيكون منها: القطب الإسلامي العالمي؛ فسنن الله الكونية ماضية إلى غاياتها الحكيمة، وفق محكمات السنن الشرعية الدينية؛ لأن امتثال أحكام الله الشرعية هو الطريق الوحيد لتحقيق أحكام الله القدرية حتى لو ظنها الناس معجزات أو خوارق لا يمكن أن تتحقق ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ))[الحج: 40].
تحديات ما بعد أميركا:(1/1910)
يرى المؤلف أنه من الخطأ الاعتقاد أن الصراع الدائر في العراق شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وذلك لأن المحتل الأميركي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية تحت شعارات نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق.
ويطرح المؤلف سيناريوهات وتحديات ما بعد الانسحاب الأميركي كالتالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
* قد تلجأ الولايات المتحدة إلى سيناريو اليابان بدلاً من سيناريو فيتنام؛ ففي مواجهة الهزيمة في فيتنام اكتفت أميركا بالانسحاب الذليل دون ضجة أو انتقام، بينما أفرطت في الانتقام في حالة اليابان حتى استعملت القنابل النووية كي تستعيد هيبتها، وفي حالة الهزيمة في العراق؛ لن تلجأ الولايات المتحدة إلى مثل هذه الخيارات المجنونة إلا في حالة واحدة وهي الحالة التي يمكن أن يُُعلن فيها عن إقامة دولة إسلامية سنية سلفية جهادية بعد الانسحاب، تصلح لأن تكون قاعدة امتداد إسلامي عالمي جديد، فعندها سيكون هذا بمثابة إعلان حرب على أمريكا والغرب، ولن تكون المعالجة هنا تقليدية عقلانية بل ستكون جنونية.
* اعتماد مبدأ (الفوضى الخلاَّقة)، قد يكون خيار الأمريكيين في آخر الحرب كما كان خيارهم في أولها؛ وسوف تلجأ إلى هذا الخيار إذا رأت فيه تحقيقاً لشيء من مصالحها، ضاربة عرض الحائط بمبادئ الديمقراطية، والإصلاح، والتعمير، وخيار الفوضى الخلاَّقة يمكن تنفيذه بتسعير أتون الحرب الأهلية، وما قد ينتج عنه من محاولات للتقسيم.
* ستغير الولايات المتحدة في ولاءاتها بحسب مصالحها؛ فهي وإن كانت قد استهلكت الورقة الدينية الشيعية في معظم ما مضى من زمن الاحتلال إلا أنها قد تُحل الشيعة العلمانيين محل الشيعة المتدينين، ليكون رهانها على تغيير البنية الثقافية للشعب العراقي أوقع وأقرب.
ولا يكتفي المؤلف بعرض السيناريوهات الأميركية للانسحاب وما بعده، وإنما يطرح سبل مواجهة هذه السيناريوهات بتأكيد أهمية تقريب الهوة بين فصائل المجاهدين من جهة، وبين عموم الشعب من جهة أخرى حتى لا تتمكن أميركا وحلفاؤها من عزل المقاومة، وتصويرها بصورة الخروج عن الصف العراقي، كما يشير المؤلف إلى إمكانية وأد الفوضى الخلاَّقة التي قد تُترجم إلى حرب أهلية؛ وذلك باجتماع الرؤوس الكبيرة من سنة العراق عرباً وأكراداً على استراتيجية موحدة لما بعد الانسحاب ولو في خطوطها العريضة، والاتفاق على آلية للتحاور والتفاهم من الآن.
ثانياً: إيران وأهدافها بالعراق:(1/1911)
يحذر المؤلف من المخطط الإيراني وأهدافه وخطورته بعد الانسحاب الأميركي، فيوضح أنه إذا كانت القوات الأميركية وشريكتها البريطانية، وغيرهما من حلفاء الاحتلال يفكرون من اليوم في كيفية الهروب الآمن من العراق؛ فإن القوات الإيرانية لابد أنها تستعد من اليوم للحلول مكانها، وقد تمهد الأمر من الآن لإيران بعدما تمكن شيعة العراق الموالين لها من السيطرة على معظم كيان الجيش والشرطة، ولهذا فإن ذلك يمثل تحدياً عظيماً من تحديات ما بعد الهزيمة الأميركية، ليس لأهل السنة في العراق فحسب بل لأهل السنة في العالم أجمع، هؤلاء الذين لم يجمعهم - إلى الآن - إلا التفرق والتنازع دون مرجعية علمية موحدة، أو قيادة سياسية واحدة.
ويوضح المؤلف - وفق ما ذكره موقع صيد الفوائد - أن اختراق إيران للعراق هو اختراق للخليج كله، وسوف ينعش ثورات التشيع في أكثر دول المنطقة؛ حيث قد نسمع عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في أكثر من عاصمة عربية، بل وغير عربية، وهو ما سيؤسس - إذا سارت الأمور على حسب مخططات بروتوكولات إيران - إلى مدٍّ رافضي خطير يطال العقيدة والدين بعدما يهدد الأوطان والمقدرات؛ وهنا قد تقع الشعوب الإسلامية السنية بين فكي كماشة الفرس والروم!
ويعتقد المؤلف أنه من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأميركي، وهنا يشدد المؤلف على أن يحسن سنة العراق - وبخاصة العلماء والدعاة - هذه الفرصة إذا سنحت من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء، وإيقاف الشحناء، والانتقال - أو بالأحرى - الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.
توصيات:
يقدم المؤلف في كتابه بعض التوصيات لأهل السنة بالعراق من أجل أن يقوم العراق من كبوته، ومن أهم هذه التوصيات أنه لابد من السعي المكثف لبناء برنامج سياسي لأهل السنة يراعي تعدد الاجتهادات، والسيناريوهات واختلاف الخيارات، وكذلك لابد من الاجتماع على كلمة سواء بين فصائل أهل السنة سواء المجاهدين منهم أو السياسيين.
http://www.islamicnews.net:المصدر
ـــــــــــــــ
بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الحمد لله الواسع العليم العلي العظيم المتصرف في خلقه بما تقتضيه حكمته ورحمته فهو الحكيم الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والخير العميم، وأشهد أن(1/1912)
محمداًً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة والصبر واليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله وآمنوا بقضائه وقدره، واعلموا أن ما يقضيه الله في خلقه فإنه صادر عن مقتضى حكمته ورحمته لا يخلق شيئاً سدى ولا يقدر شيئاً إلا رحمة بالعباد، فإن رحمته سبقت غضبه، ولا يقضي لعباده المؤمنين إلا ما هو خير لهم، فإن المؤمن إما أن يصاب بسراء ونعمة فيقوم بالشكر لله - تعالى -فيكون ذلك خيراً له، وإما أن يصاب بضراء ونقمة فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر من الله ويعلم أن لله في ذلك من الحكمة ما لا تدركه العقول ويكون بالصبر على المصائب خير له، وقد يقدر الله الأمر يكرهه الناس فينتج عن ذلك من المصالح ما تتبين به حكمة الله - تعالى -ورحمته قال الله - تعالى -: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] فالمقاتل مثلاً يحب الانتصار على عدوه والظهور عليه، ولكن قد تأبى ذلك حكمة الله فيغلب ويهزم وينتصر عليه عدوه فيكره ذلك ويمتعض منه، ولكن قد يكون في هذه الهزيمة خير كثير تظهر نتائجه إما عاجلاً وإما آجلاً، وذلك أن الهزيمة تمحيص وابتلاء فقد يكون المهزوم مسرفاً على نفسه مقصرا في حق ربه فتكون الهزيمة تأديباً له وتكفيراً لسيئاته، وقد يكون المهزوم مفتخرا بنفسه معجبا بقوته الداخلية والخارجية فيهزمه الله ليعرف بذلك قدر نفسه وأنه ضعيف لا حول له ولا قوة إلا بالله الذي بيده أزمة الأمور ونواصي الخلق، وقد يهزم الجنود بسبب تفرقهم واختلاف كلمتهم فتكون الهزيمة سبباً
لمعرفة الداء الذي أصيبوا منه، فيسعون في إزالة هذا الداء ويجمعون كلمتهم ويوحدون صفوفهم. وقد بين الله - تعالى -في كتابه هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة ليحذر الناس منها، ففي غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا فيه فحصلت الهزيمة عليهم، قال الله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166] وذكر لذلك حكماً عظيمة، وفي حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثنى عشر ألفاً فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فقال - تعالى -مخبرا عن ذلك: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25، 26]. والحكمة في ذلك أن يعلم العباد أن النصر من عند الله - تعالى -وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء، خصوصاً إذا افتخر العبد بها ونسي أن الأمور كلها بإذن الله، وإن العبد إذا وكل إلى قوته وكل إلى ضعف وعجز وعورة، أما التنازع والتفرق فهو أيضاًً من أسباب الهزيمة قال الله - تعالى -: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا(1/1913)
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة من أسباب الهزيمة فإن الجنود المخلصين لا بد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم ثم ليسعوا في القضاء على الداء فتكون النتيجة خيراً ويكون المهزوم أوعى وأبعد نظراً مما كان قبل هزيمته، ويكون في الهزيمة من المصالح أضعاف أضعاف النصر يقول الله - تعالى -:
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] والإنسان قد يحب أن ينال شيئاً من المال ويطمع في ذلك ثم يصرف عنه ولا يحصل له فيندم على ذلك، ولكن عندما يراجع نفسه يقول لعل الله صرفه عني لخير أراده لي فيزول ندمه ويطمئن قلبه. ففوات المحبوب أيها المسلم قد يكون خيراً لك كما أن حصول المكروه قد تكون عاقبته خيراً، والله - تعالى -يقدر هذا وهذا، فمن وفق للرضا بقضاء الله وقدره نال الخير والطمأنينة وراحة البدن، ومن فكر وقدر واعترض على القضاء ولم يرض فذلك القلق الهالك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله - تعالى -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.
11/4/1428 هـ
29/04/2007 م
http://www.alukah.netالمصدر:
ـــــــــــــــ
العراق: الهزيمة النفسية تطارد المحتل
أسامة نبيل
12/7/1429هـ الموافق له 15/07/2008م
تحقيق النصر في أي حربٍ مَا يتطلب العديدَ من المُقَوِّمات على أرض الواقع لكي يكتمل بناؤه، ولكن مع أي خَلَل في تلك المقوِّمات يصبح النصر منقوصاً، وإذا اعتبرنا أن وجود القوات الأمريكية في العراق نصر لأمريكا؛ فإنه ينبغي أن يعود هذا النصر بالفخر للجنود الذين حققوا هذا الانتصار، لكن إن علمنا أن هؤلاء الجنود يعيشون أسوأ أيامهم، فضلاً عن أنهم مهزومون نفسياً - بحسب العديد من التقارير - يشربون المخدرات، ويتعاطون الخمر بضراوة؛ نتأكد ساعتها أن المنتصر هو مَن ترك هذا الأثر النفسي السيئ في قلوب وعقول الجنود الأمريكيين الذين بات الانتحار الحل الوحيد للخروج من أزماتهم النفسية.(1/1914)
الوصول لهذه النتيجة يجعلنا نرفع القبعة للمقاومة التي يحاربها الإعلام الموالي لأمريكا، ويعتبرها مهزومةً؛ في حين أنها منتصرة، ويمتد تأثير انتصارها حتى للعائدين من الحرب وليس فقط لمن لا يزال موجوداً بالعراق.
انتحار الجنود:
لم يجد العديد من الجنود الأمريكيين سوى الانتحار للخروج من أزماتهم النفسية التي يحيونها سواء أثناء وجودهم على خطّ القتال في العراق وأفغانستان، أو بعد عودتهم إلى وطنهم، فقد أثبتت تقارير أن 115 جنديّاً انتحروا عام 2007م، وهو الرقم الأعلى منذ أن بدأ الجيش تسجيل هذه الحالات في 1980م، وأكدت التقارير أن حوالي 1000 جندي أيضاً حاولوا الانتحار، وتوقع مسئولون أمريكيون استمرار ارتفاع أعداد المنتحرين والمقدمين على الانتحار خلال العام الحالي أيضاً.
وذكر تقرير أن معظم حالات الانتحار جرت بصورة قد تكون "متماثلة"؛ حيث أقدم الجنود على الانتحار باستخدام أحد الأسلحة النارية التي بحوزتهم، وأوضح أنّ معظمهم عانوا إما من الخوف من بشاعة المقاومة، أو الانعزالية، وفشل علاقاتهم الاجتماعية والعاطفية، أو مشكلات مالية أو قانونية، أو لأسباب تتعلق بـ"عمليات قتالية".
وتحكي جريدة "النيويورك تايمز" قصة أحد جنود البحرية الأمريكية ويُدْعَى طوني كليكر، كان عائداً من ساحات القتال في العراق وتقول: إنه في معظم الليالي حينما يخلد إلى النوم في منزله بسانت بول عاصمة ولاية مينيسوتا الأمريكية يجد نفسه قد استعاد مشاهد القتال في أرض المعركة، فيقفز من نومه مذعوراً مرتعداً، ثم لا تفلح كل محاولاته في إعادته إلى النوم مرة أخرى، وبحسب الجريدة تصلح حالة الجندي كليكر لأن تكون نموذجاً لما خلّفَتْه حرب العراق من آثار نفسية ومَرَضِيَّة على من شارك فيها جراء المقاومة القوية التي لاقاها جنود الاحتلال هناك، وأنّ حالة كليكر هذه ما هي إلا جزء من شواهد عديدة بأن الإفراط في تناول الكحول بات ظاهرة متعاظمة وسط الجنود العائدين من العراق وأفغانستان.
تكرار لسيناريو فيتنام:
ويقول خبراء: إن ثمة دراسات تشير إلى أن المشكلة تتفشى بصفة خاصة بين مَنْ يعانون من اضطراباتٍ تَعْقُبُ الإصابة كما كان الحال إبان حرب فيتنام، كما تشير الدراسات إلى أن الإفراط في تعاطي المخدرات وسط العائدين زاد قليلاً، لكنه يظلّ أقل كثيراً من حالات الإفراط في شرب المسكرات، وبالتالي - تقول الصحيفة - يجد أعداد متزايدون من أولئك الجنود أنفسهم قد انزلقوا في متاهات الجريمة؛ ليقفوا أمام القضاء الجنائي متهمين، وينتهي الأمر ببعضهم في السجن لارتكابهم جرائم قتل أو غيرها من الجرائم الكبيرة، أما الكثرة الغالبة منهم فيتورطون في قضايا عراك في الحانات، أو قيادة السيارة بإهمال، أو جرائم عنف منزلي بسبب السُّكْر.(1/1915)
ووجدت دراسة أجرتها منظمة "محاربون قدامى من أجل أمريكا" أن حاجة الجنود إلى المساعدة النفسية قد تعاظمت، وأن العبء على العيادات أثقل كاهل نظام الصحة العقلية، حتى طفق الجنود ينتظرون شهراً كي يحصلوا على مقابلة الطبيب، فما كان من الجنود والحالة هذه إلا أن يضمدوا جراحاتهم في الحانات المحلية كما تقول الصحيفة.
40 ألف حالة:
وكانت بيانات للجيش الأمريكي قد أفادت أن حالات الإصابة الجديدة باضطرابات نفسية بين الجنود الأمريكيين الذين أرسلوا إلى العراق وأفغانستان ارتفعت بنسبة 46.4 بالمئة في 2007م ليبلغ إجمالي عدد الحالات في خمس سنوات نحو 40 ألف حالة، وأظهرت الإحصاءات التي أصدرها الجيش أن عدد الحالات الجديدة التي شخصتها المنشآت العسكرية على أنها اضطرابات نتيجة التعرُّض لصدمات ارتفعت إلى 13981 حالة العام الماضي من 9549 حالة في عام 2006م.
وارتفعت تلك الأعداد بعد أن أرسل الرئيس الأمريكي جورج بوش مزيداً من القوات للعراق في محاولةٍ لرفع مستوى العمليات ضد المقاومة، وزاد فترة خدمة الجندي من 12 إلى 15 شهراً، وزادت الولايات المتحدة قواتها في أفغانستان كذلك.
هزيمة نفسية:
وأكّد خبراء نفسيون أن الاضطراب الذي يصاحب عدداً من الجنود الأمريكيين العائدين من العراق وأفغانستان ما هو إلا هزيمة؛ لأن الاضطراب النفسي مسئول عن الشعور بأي إنجاز، سواء كان هذا الإنجاز سلبيّاً أو إيجابيّاً، وبالتالي عودة الجنود الأمريكيين من العراق ليدخلوا مَصَحَّات نفسية أكبر دليل على الهزيمة، أو على أقل تقدير انكسار نفسي، وهو ما يُعَدّ بداية الطريق نحو هزيمة حقيقية.
ويقول الخبير والاستشاري المصري د. محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر: الاضطراب النفسي الذي يصاحب الجنود العراقيين العائدين إلى واشنطن لا يعني إلا الهزيمة؛ لأن الانتصار له نشوة وفرحة، ولكن ما يحدث أن معظم هؤلاء الجنود يعودون إلى بلادهم ليدخلوا مَصَحَّات نفسية، وليس لهذا معنى سوى أنهم مهزومون نفسيّاً، ويحتاجون لرعاية خاصة؛ كي يستطيعوا الخروج من الحالة السيئة التي يحيونها بعد تجربة قاسية خاضوها في العراق.
ويُرْجِع الدكتور المهدي سبب الانهزام النفسي للجنود الأمريكيين في العراق إلى المقاومة العراقية التي أظهرت بَسَالةً وشجاعةً أمام جيش كان يعتبر نفسه الأقوى في العالم، وفجأة أمام مجموعات من المسلحين يقعون قتلى، ويرون ما لا يمكن أن يتخيلوه، وبالتالي النتيجة هي إما: القتل، أو التشوه، أو الاضطراب النفسي، مشيراً إلى أنه ليس بالضرورة أن نعتبر النصر في الحرب استقراراً لقوى المعتدي في البلد المحتل، وإنما لا بدّ أن نحسب النصر على كافة الأصعدة إذ ما هي الفائدة التي عادت على الجنود الأمريكيين من تجربة حرب العراق، هل هم يعيشون نشوة النصر؟ الإجابة بالطبع لا.(1/1916)
ويؤكد الدكتور المهدي أن ظهور الهزيمة على وجه الجنود الأمريكيين ربما يداريها الآن الإعلام الأمريكي، لكن مع خروج الرئيس الحالي جورج بوش من الحكم ستظهر حقائق يَشِيب لها الوجدان، وستقع ورقة التوت عن الجميع، وسيعلم العالم كيف أن المقاومة العراقية حققت نجاحات لم تحققها قوات أكبر دولة في العالم.
وبدوره وصف الدكتور عمار علي حسن مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط الحالة النفسية التي يعود عليها الجنود الأمريكيون إلى بلدهم من العراق بالانكسار، وقال: نحن أمام حالة انكسار، لكنها لم تصل بعدُ إلى درجة الهزيمة النهائية لهذه الجنود؛ لأنه عندما تتحدث عن هزيمة ونصر لابد لهذا النصر أن يكون له شروط وظواهر جوهرية على الأرض، لكنها حالة انكسار تطول كل الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب احتلال العراق، كما أنها حالة انكسار عام للولايات المتحدة بعد أن أصبحت على مشارف الهزيمة، والتي ستكتمل بانسحاب جيش الاحتلال الأمريكي من العراق.
وعن المعاناة النفسية التي يعيشها الجنود الأمريكيون يقول الدكتور عمار: المعاناة النفسية لجنود الاحتلال بالعراق بدأت مع اليوم الأول للغزو؛ لأنه هناك بعض الجنود - إن لم يكن معظم الجنود - لم يكن لديهم اقتناع بأنها حرب عادلة ومشروعة، وغياب هذا الاقتناع جعل الجنود الأمريكيين يحبطون، وزاد هذا الإحباط مع عدم اكتشاف أسلحة الدمار الشامل التي كانت الذريعة التي أعلنتها وقتها الإدارة الأمريكية لاحتلال العراق، فضلاً عن تحول السياسة الأمريكية في العراق إلى سياسةٍ ديكتاتورية تقتل ولا شيء آخر، مما كان له الأثر السيئ في نفوس الجنود الأمريكيين الذي وعوا أنها حرب لا علاقة لها بالعدل وتكريس الديمقراطية، وإنما هي لدوافع أخرى.
ويستطرد الدكتور عمار قائلاً: إدارة بوش لعبت أيضاً على فكرة احتضان القوات العراقية، ولكن مع الوقت باتت هذه الفكرة مجرّد وهْمٍ مع زيادة عمليات المقاومة ضد الاحتلال ومن يعاونهم، وإصرارها على النصر، وبالتالي ارتفاع معدلات المرضى النفسيين في العراق أمر طبيعي لكل هذه الأمور؛ لأن الجندي الأمريكي ببساطة بات الآن غير مقتنع أصلاً بسبب وجوده هناك؛ لأنه يواجه عدوّاً غير معروف، وشرساً، ولديه إصرار على الانتقام والثأر، كما أن هذا الجندي يعيش في أرض ليست أرضه، والخبرة الاستعمارية للولايات المتحدة هشَّة.
وينهي الدكتور عمار حديثه: بالطبع الانهزام النفسي لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق ربما يعدّ انكساراً لكنه انتصار للمقاومة العراقية برغم كل الظروف الصعبة التي تعيشها الفصائل الآن، لكنه ليس انتصاراً حاسماً، وإنما هو طريق واضح المعالم إلى النصر، يتعزّز كل يوم.
http://www.islamtoday.net/articles/show-articles-content.cfm?id72&catid79&artid13310
ـــــــــــــــ(1/1917)
الهزيمة النفسية
3/1424هـ
د. فيصل بن سعود الحليبي
الحمد لله الخافض الرافع ، الباسط الرازق ، القوي المتين ، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد : فيا معاشر المسلمين ، اتقوا الله فيما تعلنون وتسرون ، فإن الله يوصيكم بالتقوى فيقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
أيها الأحبة في الله : في مثل هذه الأزمات العصيبة والمصيرية التي يمر عليها العالم الإسلامي اليوم يتلذذ أقوام بوصف الأمة بالضعف والمهانة ، ويتفكهون بزرع هذه الأوصاف في القلوب ، غير متيقظين إلى أن من أسباب هذا الضعف هو بث الهزيمة في النفوس وتنشئة الأجيال على سلوكياتها والتطبع بأنماطها
إن هذا الصنف من الناس سلبي الإرادة فهو لا يجيد إلا النقد غير المجدي ، أو التشاؤم غير المفيد ، وتراه أبعد ما يكون عن ميدان العمل الجاد ، والعطاء المثمر ، كما أنه يتوهم كثيرًا من العراقيل التي تحول دون نتاجه لأمته ومجتمعه ، وربما يصل الأمر ببعض هؤلاء أن تتحول قطرات المطر في الصباح الباكر تجعله يفكر طويلاً في ذهابه إلى عمله،وقد لا يذهب !!
لن أسهب طويلاً في وصف في هذا الصنف ، لأن من العجيب كما يبدو لي أنه صنف يعي هذه الصفات في قرارة نفسه ، ويعلم وجودها فيه،غير أنه مهزوم بسببها..
ولنبحث سويًا أيها الأفاضل في بعض أسباب الهزيمة النفسية وعلاجها، علنا نتحسس الداء ، ونجد الدواء .
السبب الأول : ضعف التوكل على الله تعالى ، الذي كرر علينا الأمر بالتوكل عليه في كتابه فقال : } وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ { ، وقال سبحانه : } إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ { ، فإذا ما ملأ المؤمن قلبه بالتوكل على الله لم يبق للجزع في قلبه موضعًا ، ولا للاضطراب في نفسه مكانًا ، بل تراه ثابت الجنان ، واثق الخطى ، يعمل للدنيا كأنه سيعيش أبدا ، ويعمل للآخرة كأنه سيموت غدا .
فما خاب حقًا من عليه توكلا *** توكل على الرحمن في الأمر كله
تفز بالذي ترجوه منه تفضلا *** وكن واثقًا بالله واصبر لحكمه
السبب الثاني : الفراغ الروحي ، فإن الروح إذا لم تجعل لها جدولاً عمليًا يخدم الإنسان فيه كل من تجب عليه خدمته ، انشغلت هذه الروح بأوهام الهزيمة والضعف ، وأصبحت هشة تشرب كل خبر ، وتصدق كل نبأ ، فكلمة تميل بها يمينًا وكلمة شمالاً ، أخي الحبيب : إن الحقوق كثيرة ، فاشغل(1/1918)
نفسك بتأدية كل حق لصاحبه ، تجد نفسك في غاية الأنس والسعادة ، فأهلك في حاجتك ، وبلادك في حاجتك ، وأمتك في حاجتك ، فتأمل كيف تزيد هذا الحقوق من قوة الأمة إذا هي أديت ، وما والله ما ضعفت الأمة إلا بعد أن فرطنا في أداء حقوق بعضنا مع بعض ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ ) رواه مسلم .
عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً : فَقَالَ لَهَا مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَقَالَ : كُلْ قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ ، قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ ، قَالَ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، قَالَ سَلْمَانُ قُمِ الْآنَ ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البخاري .
السبب الثالث : عدم اليقين بنصر الله تعالى ، وضعف الإيمان بقدرته ، وإنما أتى ذلك من الجهل بعظمته ، وقلة تدبر كتابه العزيز ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقصر النظر في كل حادثة تقع ، حتى يظن بعض المنهزمين نفسيًا بأن كل قضية كبرى تحدث بأنها هي نهاية المسلمين وفيها هلاكهم ، ألم يقرأ من دبت الهزيمة في أوصاله قول الله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، وقوله سبحانه : { والعاقبة للمتقين } ، ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) رواه البخاري ، فلنوقن بأن النصر لمن نصر الله لا لمن حاربه وحارب أولياءه ، ولنؤمن بأن العاقبة لأهل التقوى ، لا لأهل الفجور والمنكرات ، ولنجزم بأن أهل الحق ظاهرون حتى يأتي أمر الله .
السبب الرابع : التعلق بالدنيا ، والمبالغة في حب البقاء فيها ، ومحاولة التلذذ بكل ملذاتها ، وبالمقابل نسيان الآخرة ، وما أعد الله فيها من النعيم للمتقين ، والجحيم للكفرة والمجرمين ، فذلك التعلق وهذا النسيان لا شك أنهما يوديان بالمرء في حفر الحرص على هذه الدنيا ، حتى يشعر بأنه لابد أن يبقى فيها بلا موت ، ويحس بأن كل صيحة عليه وعلى أمواله ، حتى يصل به الحال أن يهون حال الأمة في نظره بالنسبة لحال دنياه ، فيا بؤس من تعلق قلبه بالدنيا وهي دار الغرور والفناء ، ونسي الآخرة وهي دار البقاء والقرار { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
لو لم يكن منها إلا راحة البدن *** هي القناعة فالزمها تعش ملكًا
هل راح منها بغير القطن والكفن*** وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها(1/1919)
السبب الخامس : قلة العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف لم تهزمه أعاصير الكفر ، ولم تزده في نفسه إلا ثباتًا ويقينًا ، إلى أن استعذبت ألسنة العرب والعجم شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، فلم تكن الأحزاب لتقهره ، ولم تكن المغريات لتثنيه ، بل سار على طريق ربه عز وجل إلى أن أقر الله عينه بأمته في الدنيا ، وسيقر الله عينه بها في الآخرة ، لتكون أكثر الأمم دخولاً الجنة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، قُلْتُ مَا هَذَا !! أُمَّتِي هَذِهِ ؟قِيلَ : بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ، قِيلَ : انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الْأُفُقَ ، ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ قِيلَ هَذِهِ أُمَّتُكَ)رواه البخاري .
أيها المسلمون : لننبذ عن أنفسنا الهزيمة المقيتة ، فليست خليقة بأمة كأمة محمد صلى الله عليه وسلم ملأ ضياؤها مشارق الأرض ومغاربها ، وأصبحت شامة بين الناس بجميل أخلاقها وحسن منهجها ، فالأمة اليوم أحوج ما تكون لأفراد أقوياء في سواعدهم ونفوسهم وعقولهم وعتادهم ، لتكون بهذا كله حصنًا منيعًا يحول دون طمع الأعداء ، ويحجب دون نظرات الحاقدين ، ويحبط كيد المغرضين .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : } وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ { .أستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله مجيب دعوة المضطرين ، وناصر عباده الموحدين ، وأصلي وأسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وأجمعين .
أما بعد : فما من أزمة تمر إلا وينبغي أن تذكرنا بذنوبنا وتقصيرنا في حق الله وحق خلقه كل خلقه حتى البهائم ، يقول الله تبارك وتعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فلنرجع الله تعالى ، ولنتب إليه ، ولنكثر من الاستغفار والتضرع لله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شر الكوارث والحروب ، وأن يحفظ على المسلمين أمنهم ودينهم وأعراضهم وقوتهم ، ولنقلع عن الذنوب والمعاصي ، ولنأخذ على يد الظالم والعاصي ، بالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولنرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى أن يكشف الغمة عن ديار الإسلام ، وأن يجعل مكر السوء بأهله .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ، أن تعز الإسلام وتنصر المسلمين ، وأن تذل الشرك والمشركين ، اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قلوبنا ، وَتَجْمَعُ بِهَا أمرنا ، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِنا ، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائبنا ، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدنا ، وَتُزَكِّي بِهَا أعمالَنا ، وَتُلْهِمُنِا بِهَا رُشْدنا ، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتنا(1/1920)
، وَتَعْصِمُنِا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، اللَّهُمَّ أَعْطِنِا إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ ، وَرَحْمَةً ننَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ .
ونسألك اللهم دعوة مستجابة لإخواننا المستضعفين في كل مكان ، أنت العليم بحالهم ياربنا ، من لهم سواك ، يا سامع الشكوى ، ويا عالم السر والنجوى ، يا عظيم السلطان ، يا منزل القرآن ، يا من خضعت لك الرقاب ، وذلت لجبروتك الصعاب ، ولانت بقدرتك الصلاب ، اللهم ففك أسراهم ، وعافي مرضاهم ، واحم أطفالهم وشيوخهم ونساءهم ، وأيد مجاهديهم ، وبارك لهم في عتادهم ، وبدل فقرهم غنى ، وخوفهم أمنا ، وانشر على أرضهم دينك وكتابك يا عزيز .
ربنا اشف صدورنا في اليهود الغاصبين ،وفي كل عدو لك وللمسلمين ، اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ، اللهم شتت شملهم ، وأضعف قوتهم ، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم ، وجمد الدماء في عروقهم ، واجعلهم غنيمة للمسلمين ، فإنهم لا يعجزونك ، وأنت الله الجبار ، أنت الله العزيز ، أنت الله المنتقم ، اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ، وأدر عليهم دائرة السوء،وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين . اللهم أقر عيوننا بتحرير المسجد الأقصى ، وارزقنا فيه صلاة مطمئنة قبل الممات ، وما ذلك عليك بعزيز . اللهم أعن أولياء أمورنا وعلماءنا للعمل بكتابك ، وتطبيق سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه ، واجعل تدبيره تدميرًا له .
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــ
كيف دخل الإنكليز على مصر
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
اقرؤا التاريخ إذ فيه العِبَر ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخَبَر
من قرأ تاريخ الاحتلال الإنجليزي للبلاد المصرية المسلمة في القرن الماضي وتابع خطواته، متأملاً ما تبين من سبيل المجرمين للوصول إلى هذا الأمر الجلل؛ وجد في ذلك الكثير من العِبَر التي تستحق التدوين، ويمكن الاستفادة منها لمنع تكرار ما حدث في دولٍ أخرى -لا قدّر الله-. لأن طرائق مكر الأعداء -على اختلاف دولهم- متشابهة؛ يبني اللاحق منهم على خطط السابق، وينسج على منواله،(1/1921)
كما هو واضحٌ جداً الآن في العراق؛ حيث استفاد الأمريكيون كثيراً من الملف الإنجليزي القديم للإيقاع من جديد بهذا البلد المسلم.
وتاريخ الإنجليز مع الدول العربية والإسلامية - عامة - في هذا العصر مليئ بالخبث والحقد والمؤامرات المتنوعة في أماكن شتى من بلاد الإسلام . فمامن مصيبة تحل بهم إلا وتجد من ورائها كيد الإنجليز وتدبيرهم ، والشواهد على هذا كثيرة لاأظنها تخفى على متابع . حتى وصفهم شاعر العراق الرصافي زمن احتلالهم لبلاده بقوله في ديوانه ( 3/240-243) :
دع اللوم واسمع ما أقول فإنني *** قتلتُ طباع " التيمسيين " بالبحث
كأنهم والناس عُث وصوفة *** وهل يستقيم الصوف في عثة العُث
فكم حرثوا في أرض مستعمراتهم *** مظالم سودًا كن من أسوأ الحرث
وكم أيقظوا والناس في الليل نُوّم *** بها فتنًا كالدجن يهمي على الوعث
وهم يأكلون الزبد من منتجاتها *** ويُلقون للأهلين منهن للفرث
يقولون إنا عاملون لسعدكم *** ولم يعملوا غير الكوارث والكرث
إذا مارأيت القوم في فخ مكرهم *** رققت لهم تبكي على القوم أو ترثي
فلا ترجُ في الدنيا وفاء لعهدهم *** فلا بد في الأيام للعهد من نكث
لذا فقد أحببت أن ألقي الضوء -باختصار- على خطوات ذاك الاحتلال البغيض وما قاله المؤرخون عنه، وما يستفيده المسلمون والدول الإسلامية منه - لا سيما بلاد التوحيد - من عبر ومواعظ؛ كي يغلقوا الفرجات التي لا زال ينفذ منها شياطين الإنس.
مبتدئاً ذلك بموجز تسلسلي لما حدث، ثم بذكر أقوال المؤرخين، ثم أذكر العِبَر التي يُمكن الاستفادة منها .
سائلاً الله أن ينفع بما كتبت، وأن يهيئ له آذاناً صاغية، وعقولاً واعية، والله الموفق.
موجز تاريخي للأحداث :
- كانت مصر كغيرها من بلاد العالم الإسلامي تحكمها الدولة العثمانية . وكانت تُحكم بالشريعة الإسلامية ، وترتكز في أمورها على الإسلام بوجود الأزهر ، وهيئة كبار العلماء ، مع قصور وانحراف ، قلما يسلم منه أحد .
- قام الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت بحملتهم على مصر عام 1798م ، بعد أن مهدوا لذلك بإرسال الجواسيس الذين يدرسون وضع البلاد ومدى قابليته للاحتلال .
ولكنهم لم يفلحوا في البقاء فيها سوى 3 سنوات نظرًا لاتحاد أهل البلاد ضدهم، ووقوفهم صفًا واحدًا تجاه حملتهم -حكامًا ومحكومين- ؛ رغم تطمينات نابليون الكثيرة لهم بأنه لا يريد الإسلام بسوء !(1/1922)
- كرر الإنجليز ما قام به إخوانهم الفرنسيون؛ فأرسلوا حملة عسكرية بقيادة "فريزر" لاحتلال مصر؛ لكنها باءت بالفشل –أيضاً-؛ للأسباب نفسها.
- استمر العثمانيون يحكمون مصر من خلال الولاة الذين يعينونهم واحداً تلو الآخر، ولكن الشعب المصري لا يرتضيهم لظلمهم وتعسفهم.
- إلى أن تم تعيين (محمد علي باشا) والياً على مصر بعد أن اختاره الشعب والعلماء والوجهاء - بإذن مسبق من الدولة العثمانية- مشترطين عليه أن يحكم بالعدل!
- استغل (محمد علي باشا) الفرصة ولم يفوتها ، فحكم البلاد ، مفتتحًا حكمه بمذبحة شنيعة لبقايا "المماليك" ، الذين كانوا ينافسونه .
- انشغل (محمد علي باشا) بالأمور العسكرية التي كان من أهمها: حملته الظالمة على أهل الدعوة السلفية في الجزيرة العربية، وحملته على السودان، وغيرها من الحملات العسكرية.
- هلك محمد علي باشا عام (1849م ).
- تولى الحكم بعده حفيدة: عباس بن طوسون بن محمد علي ( من عام 1848م إلى 1854م ).
- ثم جاء بعده سعيد بن محمد علي ( من1854 إلى 1864). وفي عهده: تم منح امتياز شق قناة السويس لصديقه المهندس الفرنسي " دي ليسابس " بشروط مجحفة جرَّت على بلاد مصر الويلات فيما بعد.
وفي عهده أيضاً بدأت مشكلة الديون حيث بدأ يستدين من الغرب بفوائد ربوية لينجز قناة السويس وغيرها من الأعمال المرهقة لميزانية البلاد دون فائدة كبيرة تجنى منها .
- جاء بعده: الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي(من1863 إلى 1879م).
وفي عهده افتتحت قناة السويس، وتضخمت الديون التي كان يستدينها لينفقها بإسراف على أمور شكلية أولافائدة منها للبلاد ؛ مما اضطره لبيع نصيب مصر من القناة على الإنجليز !!
وفي عهده بدأ تدخل الدول الأوربية في البلاد بشكل سافر بدعوى حماية حقوقها المالية ؛ إلى أن وصل الحال إلى فرض وزيرين أوروبيين ضمن تشكيلة الوزراء ! إضافة إلى تدفق الأجانب في عهده على مصر ، وإقامة محاكم خاصة بهم .
- كان رئيس الوزراء في عهد إسماعيل : القبطي النصراني ! نوبار باشا الذي كانت ميوله وعواطفه إلىجانب بريطانيا.
- في عهد إسماعيل: قدم الرجل الغامض "جمال الدين الأفغاني" إلى مصر بدعوة من الوزير رياض باشا .( كان رياض من أصل يهودي، ادعت عائلته الإسلام).
- أخذ الأفغاني يبث أفكاره "الثورية" و"العصرية" بين أصناف المصريين الطامحين من مسلمين وغيرهم؛فتشكلت من حوله مجموعة من المتأثرين بأفكاره.(1/1923)
تركزت فكرة الأفغاني ومن معه على تكوين الصحف المتنوعة والمشاركة فيها، وتشويه صورة الحاكم والعلماء في أذهان الناس ، واستغلال أوضاع البلاد لتهييجهم ، إضافة إلى الإلحاح على المطالبة بالحكم النيابي، وتأسيس الأحزاب، والمشاركة الشعبية .. الخ. فعلى سبيل المثال: كان الأفغاني يهاجم الخديو إسماعيل علانية ويقول للمتجمهرين حوله: (أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!) (دراسات في تاريخ العرب الحديث، للدكتور عمر عبد العزيز عمر، ص 297) ، وغيرها من الكلمات الثورية التهييجية.
- تم عزل الخديو إسماعيل من قبل الدولة العثمانية بعد ضغوط إنجليزية لأنه بدأ يعارض بعض قراراتها .
- تولى الحكم بعده ابنه الخديو توفيق (1879-1892م) الذي أحس بخطورة الأفغاني وما يبثه من أفكار، فنفاه خارج البلاد؛ لكن بعد أن بذر بذرته الخبيثة في البلاد.
- كان وزير الحربية في عهد توفيق : (عثمان رفقي)، وهو شركسي متعصب قام بعدة أعمال ظالمة ضد الجنود والضباط المصريين؛ كمنعهم من الترقيات وغيرها.
- مما دفع بأحمد عرابي (وهوأحد المتأثرين بدعوة الأفغاني ومحمد عبده) أن يثور ضد هذا الظلم ويطالب بإقالة عثمان رفقي . فاستجيبت مطالبه بعد عدة أحداث ومنازعات.
- لم يكتف عرابي بما تحقق ؛ إنما اغتر بمن حوله وظن أنه ممثل الشعب، مما أداه إلى الاستطالة على ولي أمره، والخروج بمظاهرة ضده.
- كان الإنجليز يشايعهم الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف ستار إلى عرابي أن امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) ! (الأعمال الكاملة لمحمد عبده، 1/528، 531) .
و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (مصر المجاهدة في العصر الحديث، عبد الرحمن الرافعي، ص 34) .
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: " بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"! ، وهدفه الحقيقي فصل مصر عن الدولة العثمانية تمهيدًا لاحتلالها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا(1/1924)
مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..). (الإسلام والحضارة الغربية، ص 66).
ويقول الأستاذ مصطفى غزال عنه : ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).( دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، ص 123).
- أحس الخديو توفيق بالخطر فلجأ إلى الإسكندرية طالباً من الإنجليز المتربصين بسفنهم في البحر حماية عرشه ! مع ضغطه هو والإنجليز على السلطان العثماني لإصدار منشور في عصيان عرابي ؛ لكي ينفض الناس عنه .
- افتعل الإنجليز مذبحة للنصارى في الإسكندرية ليتخذوها ذريعة لاحتلالها عام (1882م) بدعوى حماية رعاياهم !
قبل أن تتم المصالحة بين عرابي والدولة العثمانية .
- تعاون المنافقون الخونة من أبناء مصر مع الإنجليز ، ومكنوا لهم من احتلال البلاد بعرض من الدنيا قليل !
- لم يستجب عرابي للناصحين الذين حثوه على سد قناة السويس لكي لا يتسلل منها الإنجليز إلى عمق الأراضي المصرية ؛ منخدعاً –كما سيأتي- بتطمينات المهندس الفرنسي صاحب امتياز القناة .
- قضي على الثورة العرابية بعد أن أوقعت البلاد بيد الاحتلال الإنجليزي ، الذي استمر أكثر من 70 عاماً !! (1882 – 1956م). رغم ادعاءاتهم وتصريحاتهم المتكررة بأنهم سيخرجون حالما يعود الهدوء والأمن للبلاد !!
- بعد أن تمكن الإنجليز من البلاد المصرية عاثوا فيها فساداً في جميع المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، مستعينين في ذلك كله بالمتعاونين معهم من أفراد الطابور (الخامس) ؛ وعلى رأسهم العصرانيون بقيادة شيخهم محمد عبده الذي كان له ولتلاميذه من بعده الدور الأول في تغريب البلاد وترويضها لقبول مطالب الاحتلال .
- استمر الخديو توفيق في الحكم ، ثم جاء بعده ابنه عباس حلمي (1892 – 1914) ثم حسين كامل ابن إسماعيل (1914م – 1917م) ثم فؤاد بن إسماعيل (1917م – 1936م)، ثم الملك فاروق ابن فؤاد (1936-1952م) . وجميع هؤلاء الحكام لم يكن لهم عقد ولا حل، إنما كانوا واجهة شكلية أمام الناس، وأما السلطة الحقيقية فكانت بيد الإنجليز.(1/1925)
- قام جمال عبد الناصر ومن معه بثورتهم العسكرية على الحكم الملكي عام (1952م) معلنين قيام الجمهورية العلمانية بتواطؤ وتمكين من الغرب ، ( لاسيما أمريكا التي رعت ثورتهم منذ البداية ) ( انظر : " ثورة يوليو الأمريكية " لمحمد جلال كشك - رحمه الله - ) .
- رحل الإنجليز عن مصر عام (1956م) بعد أن سلموا السلطة لمن يحققون أهدافهم في مسخ البلاد وتغريبها، والقضاء على مظاهر الإسلام فيها ؛ وعلى رأس ذلك إلغاء الحكم بالشريعة . وبعد أن تحقق أهم هدف لهم ؛ وهو التكين ليهود من إقامة دولة لهم في أرض فلسطين .
أقوال المؤرخين :
أ - حال البلاد قبل الخديو إسماعيل :
( كانت فكرة احتلال مصر قد راودت الأوساط الفرنسية مراراً في القرن الثامن عشر ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 327).
( في عهد لويس السادس عشر كتب سفير فرنسا بالأستانة سنة 1871 يحث حكومته على فتح مصر ، وكان مما جاء في رسالته " إن جيش مصر ضئيل ، والجنود لم يقفوا في ميدان حرب منظمة ، وليس لديهم مدفع واحد " ) . ( موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 313 ) .
(لم تكن حملة نابليون على مصر واحتلالها (1798-1801) مغامرة طارئة مدفوعة بظروف آنية يأتي على رأسها الصراع الفرنسي البريطاني، وفي محاولة فقط لضرب عدوته اللدود –بريطانيا- بقطع شريان مواصلاتها ومن ثم تهديد أعز مستعمراتها –الهند- وإنما كانت –وإضافة إلى ذلك- حركة بارعة ذات هدف استراتيجي مدروس بعناية فائقة، فلا شك أن نابليون يدرك جيداً –وفي ذهنه صورة الحروب الصليبية وما انتهت إليه- أن مصر هي مفتاح الشرق، وإنها هي الحاجز المنيع الذي يحمي هذا الشرق بإمكاناتها البشرية ومكانتها الثقافية والحضارية كقلعة من أهم إن لم تكن أهم قلاع الذود عن العالم الإسلامي، وموقعها الجغرافي المتميز، ولكنه يدرك أيضاً وبكل وضوح أنه وإن استطاع اختراق هذا الحاجز بحراب جيشه لن تلبث هذه الحراب أن ترتد وتنكسر إن لم ينسف هذا الحاجز من أساسه، هذا الحاجز هو الحاجز الديني بإيديولوجيته الثقافية ومضمونه الحضاري ، ومن ثم يستطيع أن يحول مصر إلى قاعدة أوربية يستطيع بواسطة إمكانياتها البشرية وموقعها الاستراتيجي المتميز أن يبسط سيطرته على كل هذا الشرق ويحقق أهداف أسلافه رواد الحركة الصليبية متجنياً المواجهة السافرة بين الإسلام والمسيحية باستخدام قوة إسلامية لتحقيق أهداف صليبية ).
( قراءة جديدة لسياسة محمد علي باشا التوسعية ، د سليمان الغنام ، ص 12-13).
( إن الباحث المنصف يجد الحملة الفرنسية فتحت على مصر باب المتاعب والاستعمار ، فقد لفتت أنظار الإنجليز إلى أهمية مصر .. ) . (موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 333 ) .(1/1926)
( وفي عهد الحملة الفرنسية فكر نابليون .. في وصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وعهد بدرس هذا المشروع إلى المسيو (لوبير) كبير مهندسي الري والطرق والجسور ، فقضى عامين في درسه وفحصه ، وعاونه فيه بعض مهندسي الحملة، وقدم تقريرًا إلى نابليون بعد مغادرته مصر ). ( عصر إسماعيل ، الرافعي ، ص 53 ) .
كان التفكير في شق قناة السويس من أيام محمد علي باشا ؛ لكنه لذكائه رفض ذلك ( خوفاً من أن تجر قناة السويس على مصر ويلات التدخل الأجنبي ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص17).
( توفي محمد علي عام 1849، وكانت مصر قد دخلت مرحلة تاريخية جديدة في حياتها السياسية والثقافية، وقد حاول خلفاؤه الاستمرار في النهضة، على أن سياسة الإسراف والتبذير التي اتبعها هؤلاء، ثم القروض المالية التي استدانوها من الأجانب فتحت الباب أمام التدخل الأجنبي في شون البلاد الداخلية). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 353).
( في عهد سلطة سعيد باشا كانت مصر بلا جدال أكثر بلاد الشرق رخاء ) . ( تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده ، تيودور روذستين ، ص 44). بسبب أن الحرب توقفت
( من أغلاط سعيد أنه .. هو الذي منح امتياز شق قناة السويس بشروط مجحفة لمصر . وقناة السويس سلاح ذو حدين ؛ فإذا استطاعت مصر حمايتها واستغلالها كانت لمصر خيرًا وبركة ، أما إذا كانت بابًا نفتحه للأجانب ، ونجلب بسببه استعمار مصر والسيطرة عليها لصالح الدول القوية التي تستعمل القناة ، فلا كانت القناة ) .(موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 411 ) .
( قدم فردينان دي لسبس (1805 – 1894) الفرنسي الجنسية Ferdinand De Lesseps إلى مصر سنة 1832، وشغل منصب نائب قنصل فرنسا بالإسكندرية ، وعثر - بمحض المصادفة - في أثناء قضائه فترة الحجر الصحي على مذكرة كتبها المهندس لوبير عن قناة البحرين، فاهتم بالمشروع أيما اهتمام، وناقش تفاصيله مع ذوي الشأن، وتمكن خلال إقامته بمصر من توثيق صداقته بالأمير محمد سعيد، أصغر أبناء محمد علي، وغادر دي لسبس مصر سنة 1836 وظل على علاقته بالأمير، وتقلب في عدة مناصب دبلوماسية إلى أن اعتزل الحياة السياسية سنة 1849، إثر أزمة تسبب في إحداثها، وتبنى عقب هذا مشروع حفر قناة تصل البحرين: المتوسط والأحمر ، وعكف على دراسة كل ما كتب عنه، ولما تولى الأمير سعيد حكم مصر سنة 1854، خلفاً لعباس، كتب إليه دي لسبس مهنئاً، فرد سعيد يدعوه لزيارته، فلبى الدعوة في نوفمبر.وسرعان ما استحوذ على إعجاب الوالي وحاشيته بشخصيته الجذابة وبراعته في الفروسية ومهارته في الصيد.. وانتهز دي لسبس فرصة تواجده مع الوالي في إحدى الرحلات فعرض عليه بلباقة وقوة حجة، مشروع حفر القناة، فاقتنع برأيه(1/1927)
ووافق عليه ومنحه في 30 نوفمبر 1854 فرمان الامتياز الأول بشق القناة ). ( قناة السويس ، جورج كيرلس ، ص 91 ) .
ب - الخديو إسماعيل وإسرافه وديونه :
(وافى إسماعيل أمته وهي في مفترق الطرق، تتنازعها حضارتان: حضارتها الإسلامية القديمة تنزع إليها بتقاليدها، والحضارة الغربية الحديثة، تندفع نحوها بحكم التجديد، فلم يتردد إسماعيل، ومال إلى الحضارة الغربية..) . ( الخديو اسماعيل باشا ، إصدار وزارة المعارف المصرية ، ص : د ) .
( كان إسماعيل باشا أول خديو على مصر، وهو الذي نقل مصر من حضارة الشرق إلى حضارة الغرب، وجعل الأهالي يلبسون الملابس الأوربية، ونظم الإدارة على المبادئ الحديثة، وأدخل قانون نابليون في المحاكم ). ( مجلة الهلال ، عدد ابريل 1928 ) .
(تربى تربيته الأولى في النمسا، ثم بعد ذلك في باريس، وهناك تعلم وأتقن اللغة الفرنسية، وبهرته باريس وما فيها من جمال وفتنة، ومن هناك نشأت ميوله الباريسية التي لازمته طوال حياته، وجعلته بعد أن تولى الحكم يسعى في أن يجعل القاهرة باريساً ثانية ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص16).
( وضع مجهوده في إعطاء مصر قشور الحضارة ومظاهرها) . ( مذكرات الزعيم أحمد عرابي ، ص 5-6).
( أخذ إسماعيل يعمل في ما في وسعه الجهد من أجل صبغ البلاد بالصبغة الأوربية، فشجع الاستثمارات الأجنبية وأخذ يرعاها ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص16).
( كان إسماعيل في مصر قد أعلن أن مصر قطعة من أوربا، وأقام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية بديلاً للقضاء الإسلامي، وكان القضاء في عهد إسماعيل موحى به من الاستعمار الفرنسي نقلاً من نظامهم في الجزائر... ) . ( اليقظة الإسلامية ..، أنور الجندي ، ص 163) .
( كان إسماعيل .. قد تلقى دراساته الأولى في باريس ؛ فأعجب بالحضارة الأوربية أيما إعجاب ، وحين تولى الحكم أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا . والمعروف عنه أنه كان مولعًا بالإسراف والبذخ ؛ حتى أغرق مصر بالديون ) . ( لمحات اجتماعية .. ، علي الوردي ، 2/51) .
( في عهده – أي إسماعيل – ازدهرت الماسونية ، ودخلها الكثير من علماء مصر وأعيانها ) . ( لمحات اجتماعية .. ، علي الوردي ، 3/364) .
( استطاع النفوذ الاستعماري استغلال إسماعيل في مرحلة ضعفه وديونه، والضغط عليه لفتح الطريق أمام التغريب، وقد كان إسماعيل باشا هو أول من حمل لواء التغريب، حين أعلى كلمته التي ما تزال لها دلالتها "إن مصر قطعة من أوربا ) . ( اليقظة الإسلامية ..، أنور الجندي ، ص 193) .(1/1928)
عهد إسماعيل ( كان بدء النكبات التي توالت على هذه البلاد بعد ذلك، حتى رمت بها بين براثن الاحتلال). ( التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 11 ) .
وديونه ( كانت الباب الذي تسرب منه النفوذ الأجنبي إلى سلطة الحكومة المصرية، ودخلت منه انجلترا حتى وضعت يدها على مصر ) . (التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 21 ) .
وكان ينفقها ( على ملاذه الشخصية وحماقته في بناء القصور، وطيشه مع النساء الأوربيات، وخَرَقه في إقامة الحفلات الملوكية..) . (التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 18 ) .
( هذه الديون لم يكن لها إلا سبب واحد؛ هو إسراف الخديو إسماعيل وتبذيره وفساد حكمه ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 9 ) .
( معظم هذه القروض عقدها إسماعيل للإنفاق والبذخ على حياته الخاصة) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 252).
( دفع مبلغ 6958 جنيهاً ثمناً لأطقم قهوة من الذهب المرصع بالماس ومشبك مرصع بالماس ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 252).
( مد يده إلى المرابين الأجانب يستدين منهم بغير تدبير ولا حساب؛ حتى قاربت تلك الديون مائة مليون جنيه؛ فأتاح بذلك للمستعمرين أن ينشروا ظلهم الأسود على مصر). ( ثلاثة من أعلام الحرية ، قدري قلعجي ، ص 40 ) .
كان ( فاسد التدبير، سيئ التقدير) . ( 50 عامًا على ثورة 1919، هيكل ، ص 16 ) .
( كان يتوهم حسن نية الدول الأوربية نحوه، ونحو مصر، وظل هذا الوهم مسيطراً عليه حتى أدرك خطأه في نهاية عهده ) . ( تاريخ العرب الحديث ، د عمر عبدالعزيز ، ص 253 ) .
( إنها - أي مصر في عهد إسماعيل - تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعاً ) . ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22، تقرير لإنجلترا من مندوبها ) .
( ترك إسماعيل مصر مثقلة بالديون وترك موارد البلاد ومرافقها في قبضة الشركات الأجنبية تستغلها لحسابها. ).( كشف الستار ، أحمد عرابي ، ص ح ).
صندوق الدين ( أول هيئة رسمية أوربية أنشئت لفرض التدخل الأجنبي في شئون مصر ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص33).
( أنشئ صندوق الدين مايو 1876 وكان بمثابة حكومة أجنبية مطلقة التصرف في مصر ) . ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 72) .(1/1929)
( بدأ هذا التدخل مالياً، ولكنه يطوي في ثناياه عوامل التدخل السياسي ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص31).
( وجدت كل من إنجلترا وفرنسا في الديون الكبيرة التي تورط فيها الخديو إسماعيل فرصة ذهبية للتدخل في شئون مصر الداخلية، والسيطرة على اقتصادها) . ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 50 )
( إن قروض إسماعيل من فرنسا عندما زادت تدخلت بريطانيا لكي تلفت نظر الباب العالي إلى ممارسة سلطته في منعه من الاقتراض، وكانت تهدف بذلك إلى إحباط خطة فرنسا للتسلط على مصر ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 91 ) .
( هذا البذخ نتجت عنه القروض التي عقدها إسماعيل والتي كانت فرصة حقيقية للتدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 253).
( إن مشروع قناة السويس كان من العوامل الرئيسة التي أثقلت الخزينة المصرية، وجعلتها ترزح تحت أعباء مالية قاسية ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 354).
( وقد أثقلت مصر من جراء المشاريع التي ذكرناها، بالديون، وكان الدائنون من الأجانب، من مرابين ومن مصارف، وقد استنزف المرابون ثروة الأمة بالربا الفاحش، وبذلك فتح المجال لتدخل الأجانب في الأمور السياسية، وكان هذا التدخل سافراً عندما فرضت إنكلترا وفرنسا وزيرين في الوزارة المصرية، واحد بريطاني، وآخر فرنسي، وأعطيا مركزاً ممتازاً فيها، فأوجد ذلك مراقبة ثنائية إنجليزية أفرنسية، كما فرض بوغوص نوبار رئيساً للوزارة، وبوغوص هذا أرمني تمصر، عرف بولائه للأجانب، وكان متهماً في أنه أثرى عن طريق السمسرة لأصحاب الأموال والمرابين على حساب الشعب، كما كان أيضاً أول من أنشأ المحاكم التي عززت الأجانب ). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 358-359) .
( عندما تولى إسماعيل وجد أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى ، وكان الواجب انهاء هذه الفوضى بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مكانها ، وجعلها هي المهيمنة على الحكم ، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي تخالف ذلك ، والجهاد في سبيل تحقيق ذلك مهما كلف الأمر . ولكن بطانة السوء لا تأمر إلا بالشر ، ولاتدعو إلى خير أبدا ؛ لقد رأى نوبار باشا وزير الخارجية المصري ( الأرمني ) في ذلك الوقت أن سبيل الإصلاح هو إيجاد المحاكم المختلطة ) . ( الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية ، د عمر الأشقر ، ص 68 - 69 ) .
ج - إسماعيل يبيع نصيب مصر في قناة السويس ! والإنجليز لم يفوتوا الفرصة !!
( انتهزت الحكومة البريطانية هذه الفرصة الذهبية وسارعت لا إلى رهن الأسهم المصرية في شركة قناة السويس لديها، وإنما إلى شراء حصة مصر بأكملها من الخديو إسماعيل، وتمت هذه الصفقة ، التي(1/1930)
خسرت مصر فيها أسهمها في القناة في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني، نوفمبر من عام 1875، ولقد كان لبعض الصهاينة دور معروف في إتمام هذه الصفقة وأشهر هؤلاء الذين لعبوا أدوارهم بدقة هما: دزرائيلي رئيس الوزارة البريطانية آنذاك، وروتشلد الثري البريطاني المعروف، فوقعت اتفاقية حفظت لمصر بعض الحقوق، إلا أن احتلال الإنكليز لمصر عام 1882 وأحداث الحرب العالمية الأولى التي أعقبت ذلك، ووقوف الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، جعلت بريطانيا تستولي على القناة وتقيم عليها التحصينات، ضاربة عرض الحائط بما كان من اتفاق بينها وبين الحكومة المصرية، ولما قامت الحرب العالمية الثانية، مكنت بريطانيا قبضتها على القناة، خوف استيلاء الألمان عليها ؛ فحصنتها واستولت على منشآتها العسكرية ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 357) .
( وتصاعدت الأزمة المالية عام 1875م، وتفاقمت أحداثها، إلى أن سارع "ديزرائيللي" رئيس وزراء بريطانيا آنذاك –دون انتظار لموافقة مجلس الوزراء- لشراء كل أسهم مصر في قناة السويس، مقابل أربعة ملايين من الجنيهات!.. دفعها "روتشيلد" أحد ذئاب الرأسمالية اليهودية العالمية، ليحقق دزرائيللي أعجب صفقة مالية في التاريخ!.. كانت سبباً مباشراً في تدخل انجلترا لإدارة الشئون المالية لمصر، حتى انتهى الأمر في عام 1882م باحتلالها العسكري للبلاد ). ( القاهرة في عصر إسماعيل ، عرفه عبده علي ، ص 89) .
د - خلع إسماعيل :
( ثم إن إسماعيل باشا رأى منهم أنهم صاروا يتدخلون في أكثر الأمور، ويريدون أن لا يفعل شيئاً إلا بإطلاعهم ومعرفتهم، فخاف من اتساع الأمر وسلب الملك منه، فأراد أن يجعل له عصبية من أهالي مصر، وأن يشكل منهم مجالس، ويكون أعضاؤها من العلماء ووجوه الأهالي والعمد من مشايخ البلدان، فشرع في ذلك ليكون الأمر بيدهم صورة، وأنه لا يفعل شيئاً إلا بمشورتهم؛ ليدفع بذلك تغلب الإنكليز والفرنسيين وتسلطهم، ففطنوا لذلك، فسعوا في خلعه..) ( خلاصة الكلام .. ، دحلان ، ص 65) .
هـ - هجرة الأجانب إلى مصر :
( كان من الطبيعي أن يكون لسياسة إسماعيل المذكورة أثر كبير في زيادة مجيء الأجانب إلى مصر للاستفادة من هذه الفرص، وللمشاركة في المشاريع الجديدة، وأعمال التعمير ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص17).
(من محاولاتهم لتحقيق الاستعمار الشامل: تشجيع هجرة الأوربيين إلى مصر؛ ومنهم كثير من الإنجليز والفرنسيين، حتى يكونوا عوناً لهم في احتلال البلاد ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 51-52 )(1/1931)
( كان من الطبيعي مع زيادة أعداد الأجانب في مصر وتزايد جالياتهم، ووضوح نفوذهم السياسي أن يفرضوا أنفسهم على خريطة السلطة في مصر، وأن يكون لهم دولاً تحمي مصالحهم وتدافع عنهم، بل وتدافع عن استلابهم للبلاد..) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 159).
( من أخطر الأمور التي أسفر عنها إنشاء هذه المحاكم – فضلاً عن اختصاصاتها- أن أغلبية القضاة كانوا من الأجانب، وأنهم كانوا يرأسون الدوائر.. ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 161).
و - حركة أحمد عرابي :
( أدركت الطبقة الممتازة من الأمة ! أن إصلاح هذا النظام إنما يكون بقيام الدستور، وإنشاء مجلس نيابي يوطد مبادئ العدل والحرية، ويتحقق فيه معنى الرقابة على الحكام، ويحول دون ارتكاب المظالم... ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 15).
عرابي( هو الذي بث في نفوس الضباط روح التضامن والاتحاد للمطالبة بحقوقهم المهضومة، وتقدم الصفوف لعرض مطالبهم جهاراً على ولاة الأمور، وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة.. فهذه الجرأة كان لها أثر كبير في ظهور الثورة ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 13).
و( كان للباقته وفصاحته في الكلام، واستشهاده ببضع الأحاديث الشريفة النبوية، والحكم المأثورة تأثير كبير في نفوس الضباط، اجتذبهم إليه، ومال بهم إلى تلبية ندائه، والاستماع لنصائحه، والاقتناع بآرائه ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 123).
( إن بداية الثورة العرابية كانت عسكرية تهدف إلى فتح المجال العام أمام المصريين للترقي في رتب الجيش، لكنها تطورت إلى ثورة سياسية تشريعية تنادي بالديمقراطية وبالدستور..) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 366).
كتب عرابي منشورًا (يبين فيه أخطاء الحكومة واستبدادها، ويدعو الناس إلى معاونته لانتشال البلاد مما هي فيه). ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22)
وكان يقول قبل الإحتلال : ( دعهم يأتون! فكل رجل وطفل في مصر سيقاتلهم ) . ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 170).
ولكن :( كانت عاقبة الثورة الوقوع في قبضة الاحتلال) !! ( الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره ، د رحاب عكاوي ، ص 49 ) .
( لا يخفى أن موقف هذا الرجل لا يزال محوطاً بأسرار كثيرة، فإن التاريخ لم يكشف لنا حقيقة الدافع له على ما فعل، ولم يبين لنا المؤثرات التي كان خاضعاً لها ) .( ثورة 1919 ..، عبدالرحمن الرافعي ، 129).(1/1932)
أما هو - أي عرابي - فيقول في مذكراته : ( والله الذي لا إله إلا هو فالق الحب وبارئ النسمة أني ما خدمت بذلك دولة إنكلترا ولا فرنسا ولا كنت آلة لدولة ما). فالله أعلم .( مذكرات الزعيم أحمد عرابي ، ص 61).
ز - حركة عرابي إحدى ثمار فكر الأفغاني :
سبق معنا أن الأفغاني قدم مصر بدعوة من الوزير رياض باشا ، الذي كان ( من أصل يهودي، وكان ميالاً إلى الإنجليز والأجانب، رغم أنه دخل في الإسلام، والله أعلم بإسلامه، يقول الصحافي والكاتب المشهور أديب اسحق –وهو أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني- تحت عنوان رياض باشا ما يأتي: هو من بيت الوزان، من يهود مصر الأذكياء، أقيم جده على وزانة النقود، فأظهر الإسلام، وتبعه بنوه من بعده ) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 157).
يقول أبو رية: ( اتخذ السيد! جمال الدين طوال حياته لتحقيق غاياته: وسائل الثورة السياسية ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 370).
ويقول أنور الجندي: ( آمن جمال الدين بأن الثورة السياسية هي الوسيلة المثلى لتحقيق دعوته ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 371).
( كانت ثورة عرابي من تحريضه ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 371).
( اتفق المؤرخون على أن بذور الثورة في مصر قد وضعها جمال الدين ( الأفغاني ) قبل أن يُطرد من البلاد ) . ( التحفة الندية في الفتنة العرابية ، أحمد سعيد نونو ، ص 66 ) .
( أوعز جمال الدين إلى تلاميذه إنشاء الصحف ) . ( المرجع السابق ، ص 67 ) .
( لم تكن فكرة تدخل الشعب في السياسة واعتراضهم على الحكام موجودة في مصر حتى دخول الأفغاني مصر . وفي هذه الفكرة مفاسد كثيرة ، بل هي أصل من أصول إفساد الشعوب والبلاد .. وإثارة الشعوب على حكامها تؤدي إلى ثورات وإراقة دماء وفتن جاء الإسلام بالقضاء عليها ووأدها ) . ( المرجع السابق ، 132 ) .
( تحول الفكر المصري في آخر عهد إسماعيل ، وكثر الحديث عن الظلم والظالمين ، والحقوق ، والحد من سلطة الحاكم ، والدستور ، وبدأت الصحف في نشر معايب الحكومة ؛ فظهرت أفكار لم تكن موجودة من قبل ذلك في مصر ) . ( المرجع السابق ، ص 133 ) .
ح - دور الإنجليزي بلنت في تحريض عرابي ! :
( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحياناً يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعاً من الدهاء والحنكة الإنجليزية) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 123).(1/1933)
وهو (واضع كتاب (مستقبل الإسلام) الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية، بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب الضعفاء، ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية)! ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
(كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
( بلنت شجع عرابي على الثورة، وهو يعلم أنه ضعيف لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الاحتلال، وهو الذي زين لعرابي الحكم الجمهوري) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
(بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده إلى الهاوية، ومع ذلك لم يفطن عرابي لخطره، بل بقي على صداقته له بعد ذلك). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
ط - دور القنصل الفرنسي في تحريض عرابي على الثورة ! :
( أرسل إلى عرابي كتاباً يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة )!!( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 34).
ي - الذرائع التي تعلق بها الإنجليز والفرنسيون للضغط على مصر :
(بدأت الدولتان التحرش بالحكومة بافتعال سلسلة من الأزمات التي تضع العراقيل في طريق تقدم سير الأمور، فلم يكد مجلس شورى النواب يجتمع في 26 ديسمبر 1881 حتى طلب المراقبان الإنجليزيان عدم تعرضه للميزانية؛ لأنها من اختصاصهما) ! ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 169).
( سوغت الدولتان هذا العمل العدواني بأن الغرض منه حماية رعاياها من الأخطار التي يستهدفون لها) .( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 81).
(كانت الأسباب الظاهرية التي تذرعت إنجلترا بها لإرسال سفنها الحربية هي حماية الأجانب في مصر). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 54 )
(ولم يكن ثمة خطر ولا خوف من هذه الناحية، وإنما هي حجة مصطنعة ووسيلة باطلة تستر الغرض الحقيقي، وهو خلق الذرائع للتدخل المسلح في شئون مصر ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 81).
( كان من أهم أسباب الاحتلال إذ ذاك عسر المالية وتدخل الأجانب في أمور البلاد، واستئثارهم بها على عهد الوزارة المختلطة في آخر مدة إسماعيل باشا، واشتداد وطأتهم وطموح أبصارهم إلى ما أوجب استحكام الضغائن في صدور الجهادية واستيائهم من الأجانب بسبب قطع مرتباتهم ).( كشف الستار ، أحمد عرابي ، ص 125 )(1/1934)
(ظهر استعانة الإنجليز بالأجانب على ذلك النحو في تدبير مذبحة الإسكندرية ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 52 ).
( وقد وجدت كل من إنجلترا وفرنسا في الديون الكبيرة التي تورط فيها الخديو إسماعيل فرصة ذهبية للتدخل في شئون مصر الداخلية والسيطرة على اقتصادها). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ، ص 50 ).
ك - تواطؤ الفرنسيين مع الإنجليز :
( انسحبت فرنسا من الميدان، وأمرت أميرال أسطولها بمغادرة الإسكندرية قبل الضرب ، فبارحها مساء 10 يوليه سنة 1882، ومعنى ذلك أن الحكومة الفرنسية تركت إنجلترا تفعل ما تشاء وتعتدي ذلك الاعتداء الغشوم على المدينة فتدك حصونها وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها دون أن تبدي حراكاً، قابلت فرنسا هذا الاعتداء الوحشي بالجمود ). ( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، ص 123 ) .
(لم يكد الجيش الإنجليزي ينتصر على العرابيين في واقعة التل الكبير حتى بادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة اللورد جرانفيل وزير خارجية انجلترا وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار . وكان جواب جرانفيل على تهنئته : " إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوربي ، ولو انهزم الجيش الانجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابًا للتعصب الإسلامي" ! ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 124).
ل - الخيانة من أسباب هزيمة عرابي :
(إن العامل الجوهري في الهزيمة كان الخيانة). ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22) .
( كان للخيانة أثر كبير في إحداث هذه الهزيمة ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 365).
( هدى شعراوي هي ابنة محمد باشا سلطان الذي كان يرافق جيش الاحتلال في زحفه على العاصمة، ويدعو الأمة إلى استقباله وعدم مقاومته، ويهيب بها إلى تقديم كافة المساعدات المطلوبة له ). ( الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار ، ص 82 ) .
محمد سلطان ( لعب دوراً هاماً في تدعيم موقف العناصر الخائنة ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 424 ) .
و ( كان من أهم العوامل في إخفاقها وخذلانها) . ( الأعلام الشرقية ، زكي مجاهد ، 1/161) .
(كان – أي سلطان باشا - أكبر مساعد للإنكليز على قومه بالرشوة مع أنه من أكبر الأغنياء ). ( تاريخ الأستاذ الإمام ، رشيد رضا ، 1/233) .(1/1935)
( إن سلطان باشا قد لعب دوراً هاماً في تدعيم موقف العناصر الخائنة ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 424) .
( الرشوة اللعينة كانت تنساب في الظلام فتقتل بسمومها بعض الضباط ؛ أمثال الخائن علي يوسف الذي أخلى الطريق للإنجليز عند التل الكبير ) . ( موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 474 ) .
( وقد لعبت الخيانة أقذر أدوارها في هذه الفترة من الحرب: فإن الأميرالاي علي يوسف خنفس أثرت الرشاوي الإنجليزية في نفسه الضعيفة، فجعل من نفسه جاسوساً للإنجليز داخل صفوف الجيش المصري الباسل ). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ،ص 83) .
( ويذكر بلنت أن وزارتي الحرب والبحرية في إنجلترا قد عقدتا النية منذ أوائل السنة أن يكون الهجوم على مصر من ناحية قناة السويس، وأنه تقرر في أواسط يوليو أن تمهد السبل لذلك بالرشوة بين بدو الشرق ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 427) .
م - انخداع عرابي بالفرنسي ( دي ليسابس ) من أهم أسباب الهزيمة :
(إن مجلساً عسكرياً عقد في كفر الدوار أجمع فيه المجتمعون باستثناء عرابي وحده على عدم اعتبار رسالة دلسبس، ووجوب سد القناة). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 457 ) .
( كان عرابي قد فكر ردم القناة كإجراء دفاعي، لكن (دي ليسابس) أكد له أن القناة لن تُستخدم في الهجوم على مصر، وأنه يضمن له ذلك، وقد أرسل له كتاباً في هذا الصدد "لا تحاول أية محاولة في سد قناتي، فإني هنا، فلا تخش شيئاً من هذه الناحية، فإنهم لن يستطيعوا إنزال جندي إنجليزي..) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).
( انتقلت البوارج البريطانية تحت جنح الظلام إلى بور سيعد، ثم دخلت القناة، ومن منطقة القناة بدأت أعمالاً حربية انتهت بهزيمة عرابي). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).
( ولو سُدت قناة السويس في بداية القتال لامتنع الاتصال بين القوات الإنجليزية الآتية من البحر المتوسط والقوات الآتية من الهند، واستحال عليها الوصول إلى الإسماعيلية من طريق القناة، وفي هذه الحالة يضطر الجنرال ولسلي إلى المغامرة بجيشه في الصحراء الشرقية حيث لا ماء ولا كلأ، أو يهاجم مصر من طريق الدلتا فتعوق الترع والجسور زحفه وخاصة في أيام الفيضان (أغسطس-سبتمبر)، ولكن عرابي لم يستمع لنصيحة محمود فهمي وخشي عواقبها، وظن أن الإنجليز يحترمون حياد القناة فلا يتخذونها قاعدة للزحف، فكان هذا الخطأ أكبر عامل في إخفاق خطة الدفاع التي وضعها محمود فهمي، واكتفى عرابي بإقامة معسكر في التل الكبير على بعد نحو خمسين كيلو متراً من الإسماعيلية، و110 كيلو مترات من القاهرة حشد فيه جانباً من الجيش، ولكنه وزع معظم قواته في كفر الدوار وعلى سواحل البحر المتوسط، فكان الجنود السودانيون وهم من خيرة الجنود مرابطين في دمياط(1/1936)
بقيادة عبد العال حلمي، ورابط في رشيد فيلق كبير، واستقر معظم الجيش بقيادة طلبة عصمت في كفر الدوار، ومع أن الإنجليز استعجلوا الحركات الفدائية في قناة السويس وكانت هذه الحركات نذيراً كافياً لعرابي بما اعتزموه من خرق حياد القناة، فإن عرابي أحجم عن العمل بنصيحة محمود فهمي في سدها ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، ص 131 ) .
وقد قال القائد البريطاني (ولسلي) فيما بعد: ( لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي أن يفعل، لكنا للآن لا نزال في البحر نحاصر مصر ). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).
( وكان من أكبر أخطاء عرابي تردده في سد القناة، وانخداعه بالمؤامرة القذرة التي دبرها الإنجليز مع ديلسبس ). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ، ص 80 ) .
( لقد خدع فرناند عرابي وخانه ، وفُتحت القناة أمام الأساطيل لتحتل بورسعيد والإسماعيلية ، ثم بدأت القوات بعد ذلك تتجه إلى القاهرة ) . ( الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ، د عبدالودود شلبي ، ص 129 ) .
ن - من أسباب الهزيمة انفضاض الناس عن عرابي بسبب منشور السلطان :
( ظلت إنجلترا تضغط سياسياً على السلطان حتى أصدر منشوراً بعصيان عرابي لسلطان المسلمين، وبشرعية اشتراك الجيش الإنجليزي في إخماد الثورة المصرية). ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 236).
(وأدت منشورات الخديو المرفقة بمنشور السلطان إلى ذهاب الحمية الدينية من النفوس، وجعلت الجنود يعتقدون أن من يموت في هذه الحرب ليس شهيداً كما كانوا يظنون، بل يكون مأواه جنهم لأنه عاصٍ للسلطان خليفة الله في الأرض). ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 237).
يقول عرابي : ( نصحناهم بأن هذا المنشور مخالف لأحكام الدين الإسلامي؛ لأننا إنما نقاتل أعداء المسلمين الذين يريدون أن يستولوا على بلادنا الإسلامية). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 466 ) .
ص - أيمان الإنجليز الكاذبة بعد الاحتلال ! :
( في مجلس العموم البريطاني، وفي 24 يوليو 1882، وفي أعقاب ضرب الإسكندرية: صرح جلادستون رئيس الوزراء البريطاني بأنه: ليس لبريطانيا العظمى مطامع في مصر، ولم ترسل الجنود لها إلا لإعادة الأمن فيها). ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص161) .
( وأقسم جلادستون غير مرة بشرف بريطانيا! أنها لن تستمر في احتلال مصر، أقسم بذلك في مجلس العموم في 9 أغسطس 1882 قائلاً: إن الحكومة البريطانية لم تفكر في ضم مصر.. ) . ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص162) .(1/1937)
( منذ أن دخلت بريطانيا مصر محتلة لم تكن تفكر أبداً في الانسحاب منها).( مجلة العربي ، العدد 80) .
ع - مفاسد الإنجليز في مصر بعد الاحتلال :
( منذ أن احتل الإنجليز مصر وهم يعملون على إضعافها بشتى الوسائل؛ تارة بمحاربة اللغة العربية، وأخرى بنشر الحركات الاجتماعية الهدامة، وثالثة بخلق الأحزاب السياسية التي تفرق الأمة..) . ( الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار ، ص 71 ) .
( وأخذ الاحتلال .. يثبت أقدامه ، ويدعم كيانه ، فتسلط على الجيش بعد أن حله وأعاد تكوينه ضئيلا هزيلا أعزل ، لا يتجاوز عدده ستة آلاف في قبضة سردار إنجليزي يعاونه نفر من كبار الضباط من بني جنسه . وأغلقت جميع مصانع الأسلحة .. الخ ) . ( الاتجاهات الوطنية ، محمد محمد حسين ، 1 /160 ) .
(.. وافتتحت الخمارات في كل مكان، حتى تغلغلت إلى الريف وإلى أحياء العمال، وافتتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كل العواصم، وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر باسم الحرية الشخصية التي لم يفهموا منها إلا أن يحل الناس أنفسهم من كل قيد، ولا يُبالون ديناً ولا عرفاً ولا مصلحة ). ( الاتجاهات الوطنية ..، محمد محمد حسين ، 1 / 264) .
( فرض الاحتلال للتعليم المدني هدفاً ضيقاً لا يتجاوزه، وهو إعداد طبقة من الموظفين الحكوميين، على أن يكون ذلك في أضيق نطاق ممكن، وعلى أن تسيطر الثقافة الإنجليزية على مناهجه ) . ( الاتجاهات السياسية والفكرية والاجتماعية في الأدب المعاصر ، سالم قنيبر ، ص 89) .
( شرع كبار رجال القانون الإنجليز يدرسون القوانين الجديدة التي يجب أن تطبق في مصر، وصبغ مصر بالصبغة الإنجليزية، ورفع شأن العامية للقضاء على العربية الفصحى، ورفع شأن الفرعونية التي غادرتها مصر منذ أكثر من ألف عام، وملؤا الوظائف بالموظفين الإنجليز، وجعلوا الوظائف الكتابية الصغرى في يد المصريين، وفرضوا على مصر اقتصاديات ارتبطت مالياً وتجارياً بالصناعات الإنجليزية، والبيوت التجارية البريطانية ) . ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص 189) .
(وكان مما فوجئ به - أي عبدالله النديم - عقب عودته موجة من الانحلال والفساد الخلقي في البلاد، فإفراط وجهرة في شرب الخمر لم يكن معهوداً من قبل، واستهتار الشاربين بنقد النقاد، وانتشار الخمارات انتشاراً كبيراً في البلاد والقرى يبتز الأروام عن طريقها أموال الأهالي. وانحلال الأسرة بسبب الشراب، وتقليد النساء المصريات للأجنبيات في شرب الخمر، وانتشار الحشيش والمعاجين والمخدرات، والاحتفاء بمجالسها، ثم إساءة فهم معنى الحرية واستعمالها وسيلة للانهماك في الملذات والشهوات ، ثم السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليداً أعمى ..) . ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 333).(1/1938)
( وقد وصل التغيير إلى نساء المسلمين في عاداتهن وحياتهن الاجتماعية ؛ حتى في زيهن ، فكنّ قبل الاحتلال لا يعرفن إلا التستر والحجاب وعدم مخالطة الرجال وعدم الجلوس في مجالسهم ، وتغطية المرأة لوجهها ، وما تطور من ذلك إلى البرقع المعروف في الأجيال السابقة القريبة ؛ فأصبحن يتزين بزينة الكافرات الفاسقات الأوربيات .. ) . ( التحفة الندية في الفتنة العرابية ، أحمد سعيد نونو ، ص 231 ) .
ف - تعاون الاحتلال مع الطائفة العصرانية التي تُضعف روح مقاومته وتروج أفكاره :
(لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتعلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها) . ( عقبات في طريق النهظة ، أنور الجندي ، ص 59 ) .
كرومر : (كان يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية للمشاركة في الحكم).( سعد زغلول بين اليمين واليسار ، ص 23).
من جهود العصرانيين ! : ( نذكر أصحاب الفضل على التمثيل من غير المحتلين، في مقدمتهم حكومة سعد زغلول التي عنيت بالتمثيل، وأجازت للممثلين فترة يمثلون فيها على مسرح الأوبرا ) .( روز اليوسف سيرة وصحيفة ، د ابراهيم عبده ، ص 31-32).
أرسل محمد عبده رسالة إلى شيخه الأفغاني يلخص فيه مهمتهم :
( نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ) !! ( الأعمال المجهولة / محمد عبده ، تحقيق : د علي شلش ، ص 53) .
دروس وعبر .. من احتلال الإنجليز لبلاد مصر :
العبرة الأولى: أن أعداء الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى وغيرهم لم ولن يفتروا عن محاربتها والكيد لها، ومحاولة تفريق شملها، وبث التنازع داخل صفوفها ، وإيجاد الثغرات التي يتمكنون من الولوج من خلالها ، واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها. قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم).
العبرة الثانية: أن لا تأمن الدولة المسلمة كيد عدوها لها، ومكره بها، بل تقدر أسوأ الاحتمالات نتيجة لهذا الكيد والمكر، ولو كان احتلال أرضها ، ولتكن كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) وكما قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). فتُعد القوة اللازمة الرادعة للعدو من أسلحة متنوعة متعددة المصادر لردعه إذا ما فكر في الأمر السابق.
العبرة الثالثة: أن تحذر الدولة المسلمة من جواسيس أعدائها الذين يقدمون إليها على هيئات مختلفة –إما خبراء أو سياح أو باحثين..- وهم إنما يرصدون أحوالها تمهيداً لما ينوون التخطيط له تجاهها؛ إما غزواً ثقافياً أو عسكرياً.(1/1939)
العبرة الرابعة: أن الأفكار العنصرية الجاهلية التي يقع فيها بعض المسلمين؛ من تعصب لجنس أو أرض، تؤدي إلى تفريق الدولة المسلمة وإضعافها؛ مما يسهل المهمة أمام العدو المتربص بها.
فلو لم تكن هناك فجوة عنصرية جاهلية بين الترك والعرب –مثلاً- لما استطاع الغرب تفتيت العالم الإسلامي، مستغلاً هذا الأمر في إذكاء نار الفرقة بين الطائفتين . فلتأخذ الدولة المسلمة على يد كل من يثير مثل هذه النعرات الجاهلية بين أبنائها؛ ولو كان على سبيل المزاح.
العبرة الخامسة : أن مخالفة أوامر الله بالركون إلى أعدائه من اليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع ، وتوليتهم المناصب، وتقريبهم ؛ يؤدي حتماً بالبلد المسلم إلى الهاوية، وتسليمه للعدو –سياسياً أو فكرياً- بأبخس الأثمان – كما حدث في مصر بجهود اليهود والنصارى الأرمن والمنافقين وغيرهم - . والله يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً..) وكم في التاريخ من نماذج وأمثلة للخيانات التي قام بها الكفار والمنافقون لأمة الإسلام . فلتحرص الدولة المسلمة على عدم تقريب هؤلاء من السلطات المؤثرة ، واتخاذهم بطانة ؛ فإنهم سرعان ما ينقلبون عليها ساعة العسرة. ولا يبقى لها إلا أهل الإيمان، وأصحاب العقيدة السليمة.
العبرة السادسة: أن تبتعد الدولة المسلمة عن الإسراف وتبذير الأموال فيما لا ينفع العباد والبلاد؛ مما يؤدي بها إلى الاستدانة من أعدائها بفوائد ربوية تتراكم عليها، تكون نهايتها وقوع البلد في قبضتهم رويداً رويداً، ثم يبدأ الابتزاز والضغط عليها لتنصاع لأهوائهم في شتى المجالات.
فخير للبلد المسلم أن يبتعد عن الترف والإسراف والتعامل بالربا الذي عاقبته المحق والهلاك وتسلط الأعداء. قال تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنه لا يُحب المسرفين ) وقال :( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) .
العبرة السابعة: إذا اضُطرت الدولة المسلمة إلى المال فليكن ذلك عن طريق التعاون مع أبنائها أو الدول المسلمة الأخرى عبر صناديق تعاونية مشتركة تحميها من الربا والاستدانة من أعدائها.
العبرة الثامنة: أن تنظر الدولة المسلمة في عاقبة أي مشروع ضخم يُقْترح عليها أو تقوم به، ومدى مصلحته للبلاد، وتوازن بين مصالحه ومفاسده، وتستشير الخبراء من أهل الأمانة.
العبرة التاسعة: أن تحد الدولة المسلمة من هجرة الأجانب (غير المسلمين) إليها؛ ممن يُكونون أرضية ممهدة لتدخل الأعداء ، وفرض الامتيازات لهم .. الخ . ولتتخذ الاحتياطات اللازمة حال الحاجة لبعضهم لتجنب شرورهم؛ كالتفريق بينهم ومراقبتهم.
العبرة العاشرة: أن تحذر الدولة المسلمة من الشخصيات المشبوهة التي تحل أرضها –سواءً ممن يدعون الإسلام أم من غيرهم- ويكون لها نشاط مريب في بث الأفكار المنحرفة بين شباب البلاد؛ مما يكون عاقبته شراً ؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر.
وتأمل ماذا فعل الأفغاني المشبوه وهو فرد واحد بأهل مصر حتى أرداهم في الهاوية بأفكاره السامة.(1/1940)
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما *** تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هدّ قُدمًا عرش بلقيس هدهدٌ *** وخرّب فأرٌ قبل ذا سدَ مأرب
العبرة الحادية عشرة: أن تعلم الدولة المسلمة أن ما يسمى بـ"الحرية الإعلامية" –سواء في الصحافة أم في غيرها- التي تجعل مسائل الشرع كلأ مباحاً لكل أحد، وتسمح بالجرأة على العلماء ورجال الدولة هي فكرة مخادعة ضارة بالبلاد؛ لأنها تؤدي إلى بث الاختلافات المتنوعة بين الناس وتغذية النزاعات والخصومات، وشحن النفوس، وتهييجها وتحزيبها، وتمهد بتمزق البلاد فكرياً قبل تمزقه سياسياً.
فلتحد الدولة المسلمة من هذه الحرية المزعومة التي يروج لها الأعداء بخُبث ؛ لأنهم يعلمون ما يجنونه منها، ولتوجه وسائل إعلامها إلى ما ينفع الناس ويجمعهم على الحق الظاهر.
وخير ما تفعله الدولة في وسائل إعلامها: تقليل برامج ومقالات الرأي التي تؤدي إلى ما سبق بيانه، والاستغناء عنها بالمقالات العلمية النافعة (سواء في الطب أو الحاسب أو الهندسة أو الفيزياء... الخ). وبعث ذوي العقول والنوابغ الموجودين لديها بدلا من عبث أهل الرأي وخوضهم بالباطل .
العبرة الثانية عشرة: أن تتيقن الدولة المسلمة أن أعداء الإسلام (يهودًا ونصارى ومنافقين وغيرهم) سيقفون صفاً واحداً أمامها وقت الفتن والأزمات –مهما اختلفوا فيما بينهم- كما قال تعالى: (تحسبهم جميعاً ). وقد رأينا كيف غضت فرنسا الطرف عن احتلال الإنجليز لمصر رغم عداوتهما الظاهرة –ولكن الكفر ملة واحدة-. وكما فعل " ديلسبس " الفرنسي عندما غدر بعرابي في حادثة سد القناة .
العبرة الثالثة عشرة: أن أعداء الإسلام يفتعلون الأحداث، ويستغلون الذرائع –مهما كانت صغيرة- ليتدخلوا في شؤون الدولة المسلمة، ولو أدى ذلك إلى احتلالها، ومن هذه الذرائع: حماية الرعايا الأجانب، أوضمان حقوق الأقليات!، أوضمان حقوق المرأة!، وهكذا ..
العبرة الرابعة عشرة: أن الأعداء يحرصون جداً تجاه الدولة المسلمة التي يريدون الضغط عليها أو التحرش بها أن ينشروا بين أبنائها –بواسطة عملائهم- فكرين خبيثين هما: فكر التهييج والثورة، وفكر العصرنة والتميع.
فبالفكر الأول تُتاح لهم فرصة التدخل في شؤون الدولة المسلمة.
وبالفكر الثاني: يضمنوا مسخ عقول أبناء المسلمين وترويضهم نفسياً لقبول التغريب .
فعلى سبيل المثال: من يشكك في مبدأ الولاء والبراء ، كيف يرجى منه أن لا يتعاون مع الكافر أو يتخذه أخاً يحقق له مصالحه ولو على حساب دينه وبلده ، وهو قد أزال الحاجز الإيماني الذي يصونه عن ذلك ؟!(1/1941)
فلتحرص الدولة المسلمة على اجتثاث هذين الفكرين الخبيثين قبل أن يتغلغلا في عقول بعض أبنائها ممن يكونون سلاحاً بيد عدوها ضدها.
ويكون ذلك بالحزم مع من يحمل أياً منهما، وعدم تصديرهم في وسائل الإعلام والتأثير، فإن التهاون في مثل هذه الأمر – تحت أي مسوغ - قد يُكلف الكثير لاحقاً.
أرى خلل الرماد وميض نار *** ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يُطفها عقلاء قوم *** يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب أولها كلام
العبرة الخامسة عشرة: أن الأعداء يفرحون كثيراً بتلقي أبناء المسلمين العلوم عندهم، لاسيما أبناء الذوات ممن هم مهيؤون لتولي المناصب المهمة إذا ما عادوا إلى بلادهم ؛ لأنها تعلم أنهم سيتأثرون –عرضاً أو قصداً- بثقافتها ، وسيكونون خير ناقل لها إلى بلاد المسلمين؛ كما رأينا ذلك واضحاً في حياة سعيد باشا والخديو إسماعيل اللذين تربيا في بلاد الغرب ، ثم أرادا محاكاتها لما توليا الحكم . فلتحرص الدولة المسلمة على أن يكون تلقي أبنائها للعلوم داخل أرضها؛ دون حاجة إلى البعثات الدراسية الخارجية إلا في حالة اضطرارية محدودة ؛كما في التخصصات الدنيوية النادرة مثلاً، مع تحصين المبتعث ضد الأفكار الغربية الضارة.
العبرة السادسة عشرة: أن الأعداء لن يعدموا أن يجدوا من المسلمين أفراداً مغفلين أو طامحين يخدمونهم من حيث لا يشعرون، ممن يصدق فيهم قول الشاعر :
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ *** نصيب ولاحظٌ تمنى زوالها
ولو كان ذلك على حساب دينهم وبلدهم -كما فعل عرابي في مصر- وسيلجأ الأعداء للاتصال بهم، والاهتمام بقضيتهم، وتشجيعهم على المضي في معارضة الدولة المسلمة تحت مسمى "الإصلاح!". وهدفهم من هذا كله ليس حباً في هؤلاء الإصلاحيين –زعموا- إنما ضربهم بالدولة المسلمة، لتفريق أهلها، وزرع الفتن والشقاق بين الراعي والرعية؛ حتى يلجأ كلٌ منهم –خاضعاً مطيعاً- إلى العدو لحمايته من الآخر!! وقد تقع البلاد بعدها –لا قدر الله- في احتلال أجنبي بغيض بعد أن استغل هذا النزاع والتفرق –كما حدث في مصر- حيث لجأ الخديو توفيق للإنجليز في الوقت الذي كانوا فيه يُهيجون عرابي ومن معه عليه !
فلتأخذ الدولة المسلمة على أيدي هؤلاء المعارضين الطامحين أو المغفلين من مدعي الإصلاح قبل أن يتعاظم شرهم فيوقعوا بلاد الإسلام فيما لا تُحمد عقباه؛ كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار). وقال : ( وكان في المدينة تسعة رهط يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون ) .
وجرمٌ جره سفهاء قوم *** فحل بغير صاحبه العقاب(1/1942)
العبرة السابعة عشرة: أن تبادر الدولة المسلمة بالإصلاح الحقيقي النافع القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجد غيرها قد سبقها إلى طرح إصلاح مزعوم لا يرضي الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. بل يرضي أعداء الإسلام الذين ينفخون فيه وفي أهله لمآربهم - كما سبق - .
والإصلاح الحقيقي هو الذي يكون غايته وهدفه الأول تعبيد الناس لرب العالمين وتحقيق التوحيد؛ عن طريق كل ما يساهم في ذلك من وسائل ؛ كالاهتمام بأمر العقيدة والدعوة إليها ، وإزالة ما يُخالفها .
وهو الإصلاح الذي ينشر الفضيلة بين المسلمين ، ويدعم أسبابها ومنافذها . ويُحارب الرذيلة ويُضيق على أهلها .
وهو الإصلاح الذي ينشر العدل بين الناس ، ويباعد بين الدولة المسلمة وبين ظلم الرعية، فيؤمن احتياجات المسلمين ، ويوفر لهم أسباب العيش الكريم دون أن يحوجهم إلى الآخرين . عن طريق إقامة المشاريع النافعة التي تتبناها الدولة ؛ كإقامة المجمعات السكنية لذوي الدخل المحدود ، وتشغيل العاطلين ، وإعطاء العاملين والموظفين الرواتب المجزية التي تتناسب مع حال المعيشة ... الخ
وهو الإصلاح الذي يحقق للمرأة المسلمة بيئة العلم النافع ، والعمل الكريم - إذا احتاجت إليه - بعيدًا عن كل ما يخالف شرع الله .
وهو الإصلاح الذي ينهض بالبلاد - دنيويًا - في مجالات التقنية والصناعة والزراعة .. وغيرها ؛ عن طريق تشجيع العقول والنوابغ ، وتسهيل أمورهم ، وإعطائهم الثقة ، ووضعهم في المكان المناسب ، وتنفيذ مخترعاتهم وأفكارهم .. الخ.
العبرة الثامنة عشرة ( الأخيرة ) : أن تعلم الدولة المسلمة أن خير منجى لها من مكر الأعداء وفتنهم هو الاعتصام بالكتاب والسنة ، والثبات على دين الله ، وعدم المساومة أو التنازل عنه ولو بالقليل . قال تعالى : (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) . وقال محذرًا من مداهنة الأعداء : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ) .
أسأل الله العظيم أن ينفع بما كتبتُ ، وأن يوفق بلاد المسلمين عامة وبلادنا خاصة للتنبه لكيد أعدائها ، ويثبتها على الحق ، ويصرف عنها الشر وأسبابه . والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
ــــــــــــــ
علم يهدي وسيف ينصر
محمد بن عبدالمجيد المصري
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد:-(1/1943)
موضوع فقه التمكين في القرآن يحتاج لبحث تحليلي عميق لخطورته ولأهميته في حياتنا المعاصرة حيث إن الأمة تمر بفترة عصيبة من تاريخها, فهي في أشد الحاجة لفهم فقه التمكين حتى ترسم أهدافها وتسعى لتحقيق آمالها وفق سنن الله الجارية في الشعوب والأمم والمجتمعات والدول، ولقد لاحظت في دراستي للقرآن الكريم أن أصول فقه التمكين واضحة المعالم في كتاب الله الكريم, فما على الباحث إلا أن يجمعها ويرتبها ويحللها ويبين أثرها على حياة الأمة عندما حرصت على تطبيقه في كل شئون حياتها، وماذا أصابها عندما ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها صلي الله عليه وسلم، إن وصول الأمة الإسلامية في هذا الزمان إلى التمكين ليس بالأمر السهل، ولكنه كذلك ليس بالأمر المستحيل، إذ على الرغم من التضييق الشديد والحرب الضروس التي تشن على الإسلام والمسلمين، فإن كثيرًا من المسلمين يرون أن التمكين لدين الله قاب قوسين أو أدنى من ذلك، ومهما رأى الأعداء أن التمكين للإسلام بعيد يشبه المستحيل فإن المسلم واثق بوعد الله أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وهذا ليس من باب الأحلام والتمنيات، ولكن من باب الثقة في الله تعالى، واليقين بوعده، إن كثيرًا من علماء الأمة وطلاب العلم فيها أجادوا في التصنيف في فنون متعددة ومتنوعة من علوم الدين، كما أنهم أفادوا الأمة في شرح الداء الذي أصيبت به الأمة, وفي بيان المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل اليهود والنصارى وأعداء الإسلام، وبينوا شراسة الحملة التي شنها أعداء الإسلام بضراوة، وبكل الصور والأساليب على الأمة الإسلامية لتثبيط المسلمين، وخنق الأمل في صدورهم، وبث روح الهزيمة النفسية بين جوانحهم حتى لا ترتفع رؤوسهم، ولا تقوى عزائمهم، فيظلون في ذلك الضعف والهوان الذي صاروا إليه، فيصل بهم الأمر إلى الذوبان، والضياع، والتمزق بين سطوة الأمم التي تداعت عليها كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها، لقد تحدث بعض الخطباء والوعاظ عن
مشاكل الأمة، وفساد أحوالها، بصورة تنشر اليأس وتوصد أبواب الأمل في وجه أبناء الأمة الغيورين، وشاعت روح الهزيمة بين صفوفهم، وأصبحنا كثيرًا ما نسمع من يقول: ماذا نفعل؟ ضاع الإسلام والمسلمون!..ويقفون على ذكريات الماضين ويتغنون بأمجادهم، فأدركت أن الأمر كبير, والقضية خطيرة ورأيت أن الأمة في أمسَّ الحاجة إلى ما يرد إليها ثقتها بربها، ومنهجها، في حاجة إلى من يوقظ الإيمان في قلبها، ويرشدها للأخذ بأسباب التمكين وشروطه، ويبين لها طبيعة الطريق، وكيفية السير فيه، ويوضح لها المعالم لتعرف كيف تعمل؟ وإلى أين تسير؟(1)
ولهذا جاء هذا المبحث المتواضع الذي أقوم فيه بعرض أحد العوامل اللازمة للتمكين لدين الله في الأرض وهي العلم والمعرفة ،ولا أزعم أن قدمت جديد في هذا المبحث وإنما قمت فقط بتسليط الضوء علي أحد المعالم التي أحسبها هامة في فقه التمكين لدين الله ،وعملي في هذا المبحث لا يعدو عن قيامي بتجميعات نقولات وأبحاث مختلفة مترامية هنا أو هناك ،أقوم بتجميعها وتهذيبها وإلقاء الضوء عليها لتخرج في صورة تبين المعني وتجلو المقصود،وإن تكررت في هذا المبحث بعض المعاني(1/1944)
والكلمات فبغرض تثبيت المعني وتقرريه ،فالعبارات إذا تكررت تقررت كما يقولون ،وطبيعة المبحث نفسها تفرض الإسهاب أحيانا ً والتكرير ،وما هي إلا محاولة أقوم بها فإن كانت موّفقة فهذا فضل من الله وحده،وإن كان فيها من خلل فمن نفسي والشيطان والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
العلم قبل القول والعمل(2)
اصطفى الله ـ تبارك وتعالى ـ رسله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، وتولاهم بحسن النشأة، وتعهدهم بتمام الرعاية، ونبأهم بما يحتاج إليه العباد من العلم؛ فكان للعلم في دين الله شأن ينبئك عنه أول القرآن نزولاً على نبينا-صلى الله عليه وسلم- حين خاطبه ـ تبارك وتعالى ـ بقوله: ((اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ)) (3) وبهذه الآيات وضع الله ـ تعالى ـ معالم الرسالة الإسلامية الخالدة في عمومها المطلق وشمولها الأعم مبيناً أنها رسالة العلم والمعرفة والعقل، وهي أعظم نعم الله ـ تعالى ـ على الإنسان)(4) وبهذه الآيات البينات، وما تضمنته من الإشادة بالقراءة والكتابة والعلم، أبان الله ـ عز وجل ـ لنبيه-صلى الله عليه وسلم- ولأمة الإسلام أن المعرفة بوسائلها: من قراءة وكتابة وتعلّم هي الأسلوب الأمثل لتبليغ الرسالة.
وبهذه الآيات أعطيت الأمة مفاتيح الإصلاح والتقدم والرقي؛ لتعلم أنه لا إصلاح ولا مدنية ولا حضارة بغير علم ومعرفة؛ فالجهل ـ وهو نقيض العلم ـ لا يأتي إلا بالشر والفساد والتخلف، كما أن الهداية إلى معرفة الحق واعتناقه والحرص على إقامة معالمه والدعوة إليه لا يكون إلا مع العلم، ولا يكتب للعلم النمو والانتشار إلا إذا سجله القلم ونشره وأعلن عنه(5) ومن اللافت للنظر أن استفتاح الوحي بهذه الآيات البينات فيه دلالة واضحة على أن العلم في دائرة سنن الله في الحياة يعد من أهداف الأمة الإسلامية في تبليغها رسالة الإسلام؛ (لأن العلم هو العنوان الأعظم على خلود هذه الرسالة، وهو العنصر الحيوي في تكوين حقيقتها الهادية الراشدة، وهو الآية الكبرى على صدقها وصدق رسولها)(6) ، وبقي شعاره التمثل لهذا الأمر مع طلب الزيادة منه: ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))7 وذكر بعض المفسرين أنه -صلى الله عليه وسلم- ما أمر بطلب الزيادة من شيء سوى العلم، وكان يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً) وكان يستعيذ من العلم الذي لا ينفع.8 ، فأعلن منهجه أبلجَ يضاهي وضوحه ضياء الشمس: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...}9.
من هنا كانت سنة الدعاة ـ المقتدين بالرسل في الوظيفة ـ تري طريقتهم في التكوين والنشأة.. فصارت الركيزة الأولى في تكوين الداعية: العلم، فهو الذي يهتدي به العمل، ويُحفظ به الدين.
قوام الدين: "علم يهدي، وسيف ينصر" {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 10،وكما حرس الله بيضة الإسلام بالمجاهدين في سبيله، فقد حفظ شريعة الإيمان بالعلماء والمتعلمين.(1/1945)
والجهاد لا يتم على وجهه الحق إلا بالعلم المؤهل المؤصل المفصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية. فالعلم ضرورة فوق ضرورة المأكل والمشرب والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولا غرو فإن الدعوة إلى الله إذا كانت (أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد يصل إليه السعي) 11 ،ولقد كان من أعظم أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر: الجهل، وقلة العلماء العاملين، وسوء الخطط في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية، وضعف الهمم والعزائم في الجد والبحث والتحصيل، والتخصصات الجزئية التي أضعفت العلوم الشرعية، والانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى التخصصات الشرعية نظرة دونية.
هذه الأسباب وغيرها جزء من واقع الأمة ـ في الجانب العلمي ولا شك أن بُعْد الهوّة بين الأمة وماضيها أذهل دعاتها الغيورين عن كثير من مصالحهم، وأفقد بعضهم شيئاً من التوازن سواء في تربيتهم لأنفسهم، أو في برامجهم التربوية المطروحة التي يسعون لتحقيقها؛ فلربما كانت الحركة الدؤوب على حساب بعض العلم، فإذا وضع هذا في الحسبان عرفنا ما يجب الفئة التي تضلع لإحياء الأمة والعمل للتمكين للدين تجاه العلم، وأنه لا بد من منح الهدف العلمي أولوية تليق به، بل يجب أن تصاغ الأهداف الأخرى على ضوئه؛ لأن التعليم والتربية صنوان لا ينفكان: {هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}12
إن العاملين للتمكين لدين الله في الأرض اليوم يجب أن تصاغ خططهم ومناهجهم في كل الجوانب الدعوية والتربوية والفكرية صياغة كاملة شاملة على أساس علمي متين؛ لأن التغيير الذين يرمون إليه عبء ثقيل وأمانة عظمى لا تتأتى إلا ببناء العقول وإصلاح الفكر؛ وهو أمر غاية في الخطورة والصعوبة، لا يحصل بالأحلام والأمنيات، ولا بالعواطف والانفعالات، ولا بالارتجال والاحتمالات.
إن قاعدة هذا التغيير والبناء والإصلاح متينة، ترسم أهدافاً عنوانها: الشرعية والوضوح والمرونة والملاءمة، وتنهج طريقاً واضحة علائمه، بيّنة منائره.. إنه منهج تعظيم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وفهمها بفهم سلف الأمة ـ الذين اختارهم الله لإقامة دينه وحمل رسالته ـ، ثم التسليم والانقياد لها خِلْواً من المعارضات المرفوضة التي تتكئ إلى القياسات العقلية الفاسدة، والأذواق الرديئة، والمنامات الفارغة.. التي ما ناب الأمة منها إلا التفرق والشقاق والتيه والتأخر.
بهذا المنهج السلفي يجب أن تدرس وتفهم أصول الدين ومهماته من مسائل الاعتقاد والسلوك، ثم فروعه وأحكام الحلال والحرام، وبه تُدرك سبيل المجرمين، ويُفهم الواقع، وتُصنع الحياة.(1/1946)
ويوم أن نهجت الأمة ذلك النهج سطع نجمها، وعلا ذكرها، وامتد سلطانها، وبقي ذكرها، ونالت المجد والسؤدد... يومها وأدت نوابت السوء في مهدها، وكان السيف ينصر يوم أن كان العلم يهدي.
-------------------------------
ثبت المراجع
*القرآن الكريم.
*مأخوذ من مبحث "المعرفة وفقه التمكين"للباحث محمد المصري.
-1 مقدمة كتاب فقه التمكين في القرآن للدكتور علي بن محمد الصلابي.
-2مجلة البيان العدد 132شوال 1418هـ-فبراير 1998م افتتاحية العدد.
-3سورة[العلق: 1].
4-محمد الصادق عرجون: محمد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ج1، ص 542.
5 -المصدر السابق ج1 543.
6- المرجع السابق، ج1، ص 545.
7-سورة[طه: 114 ].
-8 أصول التربية والتعليم كما رسمها القرآن د. أحمد بن شرشال
دار الحرمين لنشر التراث.
-9سورة[يوسف: 108 ].
-10سورة[الفرقان: 31].
-11مفتاح دار السعادة 1/154.
-12سورة[الجمعة: 2 ].
ــــــــــــــ
الدروس والعبر المستفادة من رمي اليهود بالحجر
الحمد لله القائل في كتابه : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )) والصلاة والسلام على إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين الذي جاهد في الله حق جهاده، فأقام به الملة ورفع آية التوحيد وحذر أمته من تركه فقال : " ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا ".
وعلى آله وصحبه أجمعين الذين ضربوا بجهادهم أروع الأمثلة وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير قدماً في مسيرة الجهاد فقالوا :
نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما حيينا أبداً(1/1947)
وعلى من اقتفى أثرهم في مسيرة الجهاد إلى يوم الدين أما بعد :
يتعرض الشعب الفلسطيني المسلم اليوم وعلى تراب الأرض المقدسة إلى أبشع ألوان القتل والتعذيب والتنكيل والتشريد من أحفاد القردة والخنازير اليهود ، وهذا القتل وهذه المجازر تعرض لها شعبنا علي مدار تاريخه الجهادى وفي مقدمتها مذابح المسجد الأقصى ،وما من قرية ومدينة في فلسطين إلا وكان لها نصيب من هذه المجازر على مرأى ومسمع العالم، ولا تمر سنة من السنين إلا ويرتكب فيها اليهود مجازر جماعية ومجازر فردية، وها هي المجازر اليوم ترتكب في كل مدينة وقرية وشارع وزقاق على أرض الإسراء والمعراج ، ولكن مع بشاعة الجريمة التي يرتكبها اليهود بكل غطرسة إلا أن جميع أفراد الشعب مصممون على مواصلة الطريق حتى يندحر على الأقل أذى الاحتلال عن أرض فلسطين فضلاً عن تحرير كل شبر من أرض فلسطين بما في ذلك المسجد الأقصى ومدينة القدس.
وبات واضحاً لكل الشعوب الإسلامية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي يواجه غطرسة الاحتلال وهمجيته أن لا بديل عن مواصلة الجهاد لأن الاتفاقيات التي تسمى باتفاقيات السلام لم تحقق على أرض الواقع إلا مزيداً من القتل والتعذيب والاعتقال ومصادرة الأراضي وتدنيس المقدسات والدمار الاقتصادي والفساد الاجتماعي وتمزيق شمل الأمة الواحدة.
ولذا فإن الأمر الذي يترسخ لدى الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة نتيجة الشعور بالاضطهاد والظلم هو مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة ومواصلة الطريق ولو أريقت الدماء وأزهقت الأرواح.
وقد تحققت للأمة العربية والإسلامية دروس وعبر وثمرات جلية تعتبر بمثابة معجزة يجنيها ذوو العقول والأبصار، لو رسمت لها خطة وبدأ بتنفيذها ما كان ليتحقق لها بعض هذه العبر، ولو أمضت فيها عقوداً من الزمن ومليارات من الدولارات ولكن قبل الخوض في بيان هذه الدروس والعبر تريد أن نبين السبب الحقيقي للصراع على ارض فلسطين .
السبب الحقيقي للصراع بيننا وبين اليهود على أرض فلسطين :
يحلو للبعض أن يصور الصراع بين المسلمين في فلسطين وبين اليهود صراعاً سياسياً واقتصادياً ويغفلون أو يتغافلون عن السبب الحقيقي للصراع إلا وهو اختلاف الدين كما قال الله تعالى : (( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )) وقال تعالى : (( ولو شاء الله ما اقتتل الذي من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات فمنهم من آمن ومنهم من كفر)) والذين يريدون إبعاد الناس عن السبب الحقيقي للصراع يظلمون أنفسهم وغيرهم ويورطون الأمة في مصائب لا حصر لها ويحرمونها من ثواب الدنيا بالنصر والتمكين، ومن تراب الآخرة برضوان الله ودخول جنات النعيم، ففكرة حصر هذه القضية في الفلسطينيين وحدهم أو في منظمة هي فكرة خبيثة، الهدف من ورائها تجنب الصراع مع مليار مسلم على وجه الأرض ولكن اقتضت حكمة الله جل وعلا أن يكون المسجد الأقصى بؤره الصراع لينال كل مسلم على وجه الأرض شرف المشاركة في الجهاد للدفاع(1/1948)
عن المسجد الأقصى والأرض المقدسة، فلم تأت قدسية المسجد الأقصى والأرض المقدسة من كوننا فلسطينيين أو كنعانيين، وإنما ترسخت هذه القدسية في قلوبنا لأننا مسلمون نؤمن بما جاء في كتاب ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم من مكانة للمسجد الأقصى والأرض المقدسة وبيان ذلك فيما يلي :
1) منزلة المسجد الأقصى والأرض المقدسة في دين الله :
إن لفلسطين والمسجد الأقصى بمدينة القدس مكانة عظيمة عند المسلمين فقد سمى الله أرض فلسطين بالأرض المقدسة وهي جزء من الأرض المباركة في عدة مواضع في القرآن قال سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ))(الأنبياء 71). ولما خرج موسى بقومه بنى إسرائيل من مصر قاصداً أرض فلسطين قال لهم : (( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين )) (المائدة 21).
ولما نكلوا عن دخولها حرمها الله عليهم أربعين سنة وضرب عليهم التيه في أرض سيناء، فلما نشأ فيهم جيل على شظف العيش ومكابدة الصحراء وأصبحوا مؤهلين للجهاد في سبيل الله استحقوا الدخول إلى الأرض المقدسة وتحقيق موعود الله على يد نبي الله يوشع بن نون عليه السلام : (( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا )) (الأعراف 137)
وبين القرآن بركة أرض فلسطين بجبالها وسهولها وطيورها بالتسبيح والتهليل والتكبير إذ أسمع الله نبيه داود ذلك بقوله (( يا جبال أوبي معه والطير)) وبتسخير الريح لسليمان ((ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها )) (الأنبياء81)
وعظمت بركة أرض فلسطين وازداد شرفاً بمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتبط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام بأوثق رباط إلى يوم القيامة وبقيت أرض فلسطين وستبقى مرتبطة بمنهج الإسلام وعقيدة التوحيد ، هذا المنهج هو منهج الأنبياء في رحاب المسجد الأقصى، يقول الله تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )) (الإسراء 1)
وتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن رحلة الإسراء والمعراج فقال : " أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت ركعتين ثم عرج بي إلى السماء " رواه مسلم.
والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المساجد بعد الحرمين (1) فقد توجه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إليه في صلاتهم ثمانية عشر شهراً ثم حولت القبلة إلى المسجد الحرام كما قال تعالى :(1/1949)
(( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ))
والمسجد الأقصى أحد المساجد التي تشد إليها الرحال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم.
ويعظم أجر الصلاة فيه كما جاء في حديث رسول الله : " لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً : " حكماً يصادف حكمه،وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وألا يأتي هذا المسجد أحد ، لا يريد الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " فقال النبي : " أما اثنتان فقد أعطيهما ، وأرجوأن يكون قد أعطى الثالثة " رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وأرض فلسطين قلب أرض الشام التي جاءت الأحاديث تبين فضلها ومكانتها ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (طوبى للشام طوبى للشام، قال زيد بن ثابت راوي الحديث : قال مابال الشام؟ قال : الملائكة باسطوا أجنحتها على الشام " رواه الترمذي وأحمد والحاكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
2) أرض فلسطين تتنازعها الديانات :
يتنازع على أرض فلسطين المسلمون واليهود والنصارى ،أما اليهود فيزعمون حسب كتبهم المحرفة أنهم أصحاب الحق في هذه الأرض ومن هذه النصوص :
أن نوحاً قال لسام الذي يعتبره اليهود أباهم : " ملعون كنعان (جد قبائل فلسطين الكنعانية) عبد العبيد يكون لأخويه، فقال : مبارك الرب إله سام، وقال: ليكن كنعان عبداً لهم" (سفر التكوين / الأصحاح 9)
ومنها أن الله قال لإبراهيم " أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، أرض غربتك، كل ارض كنعان ملكاً أبدياً " (سفر التكوين / الأصحاح 12)
ويرون أن هذا الوعد خاص بأبناء اسحق دون أبناء إسماعيل فقد جاء في التوراة قولها : ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده سارة في هذا الوقت من السنة الآتية) (سفر التكوين / الأصحاح 17)
وتوضح التوراة حدود الأرض التي منحت لبني إسرائيل " لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين / الأصحاح 15)
ويعتبرون أن سكناهم في أرض فلسطين تغفر لهم ذنوبهم حيث جاء في التوراة عن أرض فلسطين (الشعب الساكن فيها مغفور الاثم " (سفر أشعيا / الإصحاح 33) ولذا تقول جولد مائير رئيسة(1/1950)
وزراء دولة اليهود : " ومن يعيش داخل أرض إسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً ، وأما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له"
ولذا يرتكب اليهود أبشع الجرائم وينتهكون الأعراض ويدنسون المقدسات ويقتلون الأطفال والشيوخ وينهبون الأموال ويصادرون الأرض من سكانها الفلسطينيين المسلمين ظلماً وعدواناً ويعتبرون أنهم بذلك يرضون إلههم .وهنا سأذكر عبارتين من كتبهم المحرفة تشكلان العقيلة اليهودية الإجرامية.
في التوراة " وكلم الرب الإله إسرائيل قائلاً : سأنزل يا إسرائيل ، وأضع السيف في يدك، واقطع رقاب الأمم واستذلها لك" وعبارة التلمود " الأمميون (2) هم الحمير الذين خلقهم الله ليركبهم شعب الله المختار وكلما نفق حمار ركبنا حماراً آخر ".
أما النصاري فإنهم على الرغم من اختلافهم الكبير مع اليهود في الدين فإنهم يؤمنون بحق اليهود في فلسطين وبظهور المسيح ثانية في فلسطين ليقودهم إلى النصر المبين، ويرون أن قيام دولة إسرائيل شرط في رجوع المسيح الذي سيحكم أرض إسرائيل في رجوعه الثاني، فيما يعتبر اليهود أن القادم ليس هو مسيح النصارى بل آخر يأتي لأول مرة، وفي التبشير بهذا القادم تقول التوراة " يولد لنا ولد ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه،ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسة وللسلام ، لانهاية على كرسي داود (عرش فلسطين) وعلى مملكته ليثبتها ولا يعضدها، بالحق والبر، من الآن إلى الأبد، وغيرة رب الجنود تصنع هذا " (سفر إشعيا / الإصحاح التاسع )
يقول المبشر المسيحي أوين " إن إرهابيين يهوداً سينسفون المكان الإسلامي المقدسي وسيستفزون العالم الإسلامي للدخول في حرب مقدسة مدمرة مع إسرائيل ترغم المسيح المنتظر على التدخل".
ويقول رونالد ريجان رئيس أمريكا الأسبق " أجد في التوراة أن الله سيلم شمل بنى إسرائيل في أرض المعاد، وقد حدث هذا بعد قرابة ألفى سنة، ولأول مرة فإن كل شيء مهيأ لمعركة مجدو والمجئ الثاني للمسيح" ومعركة مجدو هي (المعركة النهائية التي يتوقع النصارى أن ينتصروا فيها هم واليهود على عدوهم).
أما نحن المسلمين فنقول : إن الله وعد إبراهيم عليه السلام ببركة واستخلاف في ذريته حين طلب ذلك من الله : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين )) (البقرة 124) ، وكان هذا الوعد الإلهي مشروطاً بالصلاح،وقد تكرر هذا الشرط عندما سأل إبراهيم ربه أن يرزق أهل البلد الحرام من كل الثمرات : (( إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)) (البقرة 126)، فالتمييز يكون باعتبار الصلاح والفساد ،قال الله عن اسماعيل (( وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين )) (الصافات :113) وعلى ذلك نقول إن الصالحين المؤمنين من ذرية إبراهيم هم الذين يستحقون(1/1951)
البركة والاستخلاف وهذا لا يتحقق إلا فيمن آمن برسالات جميع الأنبياء وآخرهم محمد ?، وبين الله كذب اليهود في ادعاء أن لهم خصيصة ومزية على الناس بقوله تعالى: (( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )) (الأنبياء 105 ) ، وقوله تعالى : (( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ، بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض ومابينهما وإليه المصير)) (المائدة 17)، .وقد كان استخلاف بني إسرائيل في الأرض المقدسة مشروطاً بإقامة منهج الله في الأرض، أما وقد كفروا بالله وخاتم رسله محمد ?وناصبوه العداء وألبوا عليه قوى الكفر والطغيان وحسدوه على نبوته وعملوا جاهدين على قتله والتخلص منه فإنهم بذلك فقدوا استحقاقهم لاختيار الله واصطفائه، ونقل هذا الاصطفاء والاختيار إلى الأمة الإسلامية التي تعبد الله وحده وتقيم دينه وشريعته قال الله سبحانه : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون )) (آل عمران 110) وتمضي الآيات توضح حال اليهود وبيان السبب الذي من أجله نزع الاصطفاء والتفضيل منهم فتقول : (( ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )) (آل عمران 112).
الدروس والعبر المستفادة من قذف اليهود بالحجر :
بعد هذا الإيضاح المختصر جداً عن بعض المفاهيم المتعلقة بحديثنا نود أن نستقي الدروس والعبر مما ابتلينا به لنواصل معاً وسوياً سبيلنا لتحرير أرضنا المقدسة ومسجدنا الأقصى من دنس اليهود .فإن الله تعالى قص علينا في القرآن قصة يهود بني النضير وما أحل بهم غضبه عليهم وإجلائهم عن ديارهم ثم أرشدنا قائلاً : (( فاعتبروا يأولي الأبصار )) ولأخير فينا إن لم نتعظ ونعتبر وننظر في سنن الله في الأرض :-
1) إن طريق الجهاد هو طريق عزة المسلمين : وقد أمرنا الله جل وعلا به في آيات كثيرة من كتابه منها قوله تعالى : (( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )) التوبة 41. وحذر سبحانه عن التقاعس والنكول عن الجهاد فقال : (( إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولاتضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير )) التوبة 39. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ماترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) أخرجه أبو داود والبيهقي وهو حديث حسن. وحينما نتكلم عن الجهاد إنما نعني به الجهاد الوارد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف(1/1952)
الأمة ، الجهاد الذي ترفع به راية التوحيد وتحمى به الديار وتأمن به السبل وتحفظ به الأرواح والدماء والأعراض والأموال ، وتهيأ به السبل للدعوة إلى الله لينعم الناس بالعيش في ظلال الإسلام (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))،فإن منهج الإسلام هو المنهج الحق الذي من سار عليه لا يضل ولا يشقى ومن خالفه فإن له معيشة ضنكى ، وذلك كله (( ليهلك من هلك على بينة ويحي من حي عن بينة)).
2) أن الأمة الإسلامية تملك قدرات وإمكانيات هائلة لو أحسنت استغلالها لساهمت مساهمة فعالة في تغيير واقع الأمة من الضعف إلى القوة : فهاهم الأطفال والشباب في فلسطين على الرغم من سوء الأوضاع التي يعيشونها وقلة ذات اليد إلا أنهم لا يهملون أي وسيلة تردع العدو عن غطرسته ولو كان حجراً لا يقدم ولا يأخر بالنسبة للأسلحة الفتاكة التي يستعملها اليهود ولكنه علامة خزي وعار لأعداء الله ، وللمجاهدين أسوة في ذلك نبي الله داود عليه السلام حينما وقف في وجه عدو الله جالوت وقذفه بمقلاع كان في يده فأصابه في أم رأسه فقتله ، ولذا فإن المسلم لن يعدم الوسيلة في قتال الأعداء مهما بدت في نظر الآخرين ضعيفة وغير مجدية ، فالمهم أن ينالوا من عدوهم ويشعروه بأنه مهدد دائماً قال الله تعالى : (( ... ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولانصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح ... )) (التوبة 120) ومن هنا نجد التركيز القرآني على الثقة بالنفس والثبات على الحق ،فإن شر الهزيمة هي الهزيمة النفسية التي تعقبها الهزيمة العسكرية ، والأمة الإسلامية تملك إلى جانب الأمور المادية قواعد إيمانية دونها الجبال الراسيات قال الله تعالى : (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين )) وقال سبحانه : (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون )) .
3) أن السلام مع اليهود ضرب من العبث : فالسلام الذي يريده اليهود هو سلام أمنهم وأرواحهم وممتلكاتهم ، فهم يستترون وراء هذا السلام المزعوم لإخفاء كل أنواع المكر والخديعة للوصول إلى أهدافهم ومآربهم ، ولاشك أن أي مسلم يحب السلام ولكنه السلام القوي الذي يستند إلى شريعة الرحمن لا إلى إملاءات اليهود ، فاليهود لم يسالموا رب العالمين كما حكى عنهم القرآن (( وقالت اليهود يد الله مغلولة )) و(( قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء )). ولم يسالموا الأنبياء حيث قتلوهم واتهموهم بالفواحش وأثاروا عليهم قوى الكفر والطغيان ،فقد أهدوا رأس نبي الله يحيى عليه السلام إلى بغي من بغاياهم ، أفننتظر منهم بعد كل هذا أن يسالمونا ، هذا شيء عجاب .
4) إنقاذ الشعوب الإسلامية من التهور في بناء علاقات مع اليهود : فما يكتوي بناره الشعب الفلسطيني لا نريد أن يكتوي به أي شعب مسلم على وجه الأرض، فاليهود داء عضال يبدأ أول ما يبدأ ضعيفاً ثم يستشري شيئاً فشيئاً حتى يعم الجسم كله، كالشيطان يدلك على سبعين باباً من أبواب الخير ليصل بك إلى باب واحد من أبواب الشر، ولا تستطيع أن تخلص نفسك منه بعد ذلك .(1/1953)
5) أن اليهود لايحسبون للمسلمين حساباً ماداموا متفرقين : وهم يسعون جاهدين لتفريق كلمة المسلمين وبث الخلافات بينهم ، ولكن الله جل وعلا سيخيب آمالهم ، فها نحن نرى –بحمد الله – كلمة المسلمين بدأت تتوحد وجهودهم تتظافر وخلافاتهم تذوب عملاً بقول الله تعالى (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا )) وستتوج هذه الوحدة –بإذن الله تعالى – حينما تجتمع الكلمة على خليفة واحد ،وسيكون ذلك بمشيئة الله كما أخبر رسول الله ? بقوله: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون ،ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها،ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت " رواه أحمد ، نرجوا أن يكون ذلك قريباً.
6) أن إرادة الشعوب لا تقهر إذا ترسخت لديها العزيمة على التغيير : فكيف إذا منحت قدراً كافياً من الوعي والتوجيه فإن القوة ستتضاعف وتأتي بآثار طيبة قال الله تعالى : ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) وقال سبحانه : (( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة )).
7) أن الأمة الإسلامية هي الأمة المؤهلة لقيادة العالم ورعاية شئونه : فإن الله ائتمنها على ذلك إذ جعلها خير الأمم (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) وجعلها خيار الأمم والشهيد عليها (( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )) وجعلها أمة الدعوة (( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) وهي أمة الجهاد في سبيل الله (( وجاهدوا في الله حق جهاده )) ولذا فإن الأمة الإسلامية هي الأمة المؤتمنة على إقامة دين الله في الأرض الذي تحفظ به العهود والمواثيق والمقدسات والأرواح والدماء والأعراض والأموال من العبث والتخريب والدمار .
8) أن الأمة مستهدفة في دينها ، ودينها هو أساس عزتها وكرامتها : فإن ضيعت دينها كانت لغيره أضيع . وإقامة الدين تحتاج إلى قوة علمية وقوة مادية ، وذلك ليتقوى الدين بقوة الحديد ،وينضبط الحديد بقوة الدين ،وقد وضح الله ذلك في كتابه العزيز بقوله : (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز )) .
9) تحطمت لدى اليهود فكرة التعايش السلمي مع العرب في فلسطين : حيث كانوا يراهنون على أبناء الجيل الذي نشأ بعد حرب 1967 أن يشكلوهم حسب العقلية اليهودية وقد تحقق لهم بعض ما يريدون ولكن جاءت هذه الأحداث المتلاحقة وإذا بهذا الجيل هو الذي يتصدى لليهود ويقارعه ويواجهه بالحجر ويصرخ في وجهه بالتكبير والتهليل ويكيل له الصاع صاعين .حقاً إن هذا الجيل آية من آيات الله الباهرة ، إنه جيل لا يخشى الموت ولا يرهب الردى ، جيل يتمنى الشهادة في سبيل الله(1/1954)
، جيل يعلو بإيمانه وعزيمته على كل ألوان الغطرسة والهمجية اليهودية ، فلعله يكون هو الجيل أو مقدمة للجيل الذي شرفه الله بالإضافة إلى نفسه في جهاد اليهود كما كان سلفهم الأول من الصحابة الكرام رضي الله عنهم (( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ماعلوا تتبيراً )).
10) أن على الأمة أفراداً ودولاً أن تكون على استعداد تام في حالات السلم والحرب لمواجهة أي طارئ يحدث لها حتى لا تؤخذ على حين غرة : وهذا يعني إعداد العدة التي أمر الله بها في كتابه حيث قال (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )) فكل عدو لله فهو عدو لنا ، وأشكال الإعداد التي ترفع بها راية الحق وتخفض بها راية الباطل كثيرة ومتنوعة منها على سبيل المثال لا الحصر بناء الجامعات والمعاهد والمدارس والمشافي وأقامة الحصون والتدريب المستمر على كافة أنواع السلاح ،وبناء مصانع السلاح ومصانع الأغذية واستصلاح الأراضي وزراعتها بالزراعات الأساسية للفرد والتخلي عن سياسة الاستيراد من الدول الأخرى والاهتمام بوسائل الإعلام لتؤدي دورها في نشر الفضيلة والبعد عن الرذيلة،وعلى كل فلن يعدم المسلمون وسائل الإعداد التي يقهر بها العدو ويعز بها الإسلام والمسلمون ويتحقق بها النصر المبين على الكفرة المجرمين أعداء الدين ، وما ذلك على الله بعزيز.
11) أن ارتكاب المعاصي سبب تسلط اليهود على المسلمين في فلسطين : ودليل ذلك عدم الاستجابة لتحذير العلماء والخطباء والوعاظ والمرشدين والغيورين على الدين من مفاسد الصيف ، إذ كثرت الحفلات الموسيقية في الأفراح طوال الليل وكأن الناس ليس فيهم من قتل له قتيل أو أصيب له مصاب مازال يعاني الويلات وهو يتردد على أبواب المؤسسات يسأل عمن يمد له يد العون والمساعدة ، ومن أغرب ما أرقنا وقض مضاجعنا وخشينا نزول الغضب علينا هو عدم الاتعاظ والشعور بمصائب الآخرين حينما يقف المشيعون للجنازات على المقابر وهم يدفنون ميتهم وآلات الموسيقى وأصوات المغنين بالليل والنهار تصك آذانهم ، وأمام الفساد والانحلال الخلقي الذي بدأ ينخر في جسد الأمة نردد مع أصحاب العاهات والمصائب والنكبات التي أصابت أمتنا وشعبنا في فلسطين قول الله تعالى :
( حسبنا الله ونعم الوكيل ) وانتشرت الصالات التي ترقص فيها الراقصات شبه عاريات ويدار بكئوس الخمر فيها على الشاربين ، يفعل كل هذا من لا خلاق لهم بينما اليهود في انتفاضة الأقصى الماضية تعلموا درساً قاسياً فحصنوا مستوطناتهم ومواقعهم وأعدوا عدتهم لمواجهة كل طارئ فسارعوا منذ اللحظة الأولى التي اندلعت فيها المواجهات إلى الضرب بيد من حديد لكل من يقف في وجوههم فهل نتعظ ؟؟ ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
نسأل الله تعالى أن يشتت شمل اليهود، ويفرق كلمتهم ويجعل الدائرة عليهم، ويقينا شرهم ، ونسأله تعالى أن يوحد كلمتنا ويسدد رمينا ويصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ويصلح لنا دنيانا التي فيها(1/1955)
معاشنا ويجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر وأن يرزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين آمين.
كتبه ناصح أمين للإسلام والمسلمين
ــــــــــــــ
(1) توسع الناس في إطلاق كلمة الحرم على الكثير من المساجد ومنها المسجد الأقصى بل قالوا عن ساحات الجامعات بأنها حرم وهذا خطا، فالحرم لا يطلق إلا على المسجد الحرام والمسجد النبوي ومعنى أنها حرام.أنه لايقطع شجرها ولايصاد صيدها ولاينفر طيرها
(2) الأمميون عند اليهود هم غيرهم من الأمم
ــــــــــــــ
من سيد قطب إلى أبطال "غزة" الصامدين
وبعد تلك السنين التي وسدت فيها في قبري حركني زيارة العديد من إخواني الشهداء القادمين من أرض الرباط والعزة "غزة" فأحببت أن أرسل من مرقدي رسالة لمن بقي منهم عسى أن ينطبق عليهم قول الحق جل شأنه: ?? مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ?? [الأحزاب:23]
أكتب لكم ـ يا أهل "غزة" ـ هذه الرسالة بدمي الذي ما زال يتضرج ويفوح.... أكتبها بدمي لعله أن يكون مشعلا لكم في "غزة" كما كان مشعلا للعددين منذ أن تقدمتُ رابط الجأش رافع الرأس لمنصة الظلم والكفر والإلحاد فقتلتُ من أجل "لا إله إلا الله".
إن الثبات على المبادئ والقيم يعني سفك الدماء الطاهرة من جهة، وهو أول علامات النصر من جهة أخرى... إن وعد الله قاطع جازم: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . }. . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد. . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. وهي مقاييس بشرية صغيرة. فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان. ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها. فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها. وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!(1/1956)
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم. ولكن صور النصر شتى.
وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة. . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها. . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟
ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة. وهما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب!. . والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟
في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين. من المسلمين. وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده. وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد. وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال. .
ما النصر؟ .... وما الهزيمة؟
إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور. ومن القيم . قبل أن نسأل: أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض. فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً. من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة. فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية. وفق تقدير الله وترتيبه .
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك. إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا. ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها. وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها. وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله. وإن هنالك لأشكالاً من(1/1957)
الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده، ويتوكل عليه وحده، ويطمئن إلى قضاء الله فيه، وقدره عليه، ويحس أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله.
ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول.
وحين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي الله ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير .فسيكل هذا كله لله.
ويلتزم ويتلقى كل ما يصيبه على أنه خير.. وذلك من معاني النصر.. النصر على الذات والشهوات.. وهو النصر الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.
?? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ?? [غافر:51]
أقول هذا لمن يفهم حقا معاني النصر الحقيقية، أما من في قلبه شيء من الريب والشك، ويسأل عن أسباب تأخر النصر عن الجماعة المؤمنة فأذكر له بعض أسباب تأخر النصر الظاهر القريب...
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات. فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى. فأيها في سبيل الله. فقال: « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».
قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!(1/1958)
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً. فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
يا أهل الجهاد والرباط في "غزة" الأبية إنكم بايعتم الله على الثبات على الدعوة والجهاد وعدم التراجع فلا تيأسوا من روح الله، وإن اليأس من النصر قد يصيب حتى أولى العزائم الكبيرة والهمم السامقة، فقد بلغ اليأس قلوب أعظم الدعاة والمجاهدين ألا وهم بعض الأنبياء عليهم صلوات ربي وسلامه { حتى إذا استيأس الرسل ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}. .
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يجاهدون ولكن يتأخر النصر عنهم، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.
إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس. . تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله . . . ؟ } ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق.
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة. . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً:
{ جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين }. .(1/1959)
تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير.
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء.
والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات!. . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً. ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً .
أخيرا هذه كلمتي الأخيرة إلى أهلي في "غزة" العز والنصر والإباء
اعلموا أن عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة. والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا(1/1960)
الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي.
سيد قطب
المصدر موقع ( لُجينيات )
ــــــــــــــ
هزيمتنا في العراق .. في إطارها الصحيح
هيثم بن جواد الحداد
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، لا يحصى عدد نعمته العادون، ولا يؤدى حق شكره المتحمدون، ولا يبلغ مدى عظمته الواصفون، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
أحمده على الآلاء، وأشكره على النعماء، وأستعين به في الشدة والرخاء، وأتوكل عليه فيما أجراه من القدر والقضاء
وأشهد ان لا إله إلا الله وأعتقد أن لا رب إلا إياه، شهادة من لا يرتاب في شهادته، واعتقاد من لا يستنكف عن عبادته.
وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, دعا إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه, كانوا في هذه الأمة قدوتها ومصابيحها, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
وبعد،
فلقد خلق الله جل وعلا هذه الحياة الدنيا للإمتحان والإبتلاء (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، ولذلك فإن الله جل وعلا لم يجعل النصر فيها حليفا للمسلمين في كل وقت وكل زمان، بل إن من حكمته جل وعلا أن يصيب المسلمين بهزمات ونكبات، ومن استقرأ التاريخ رأى هذا الأمر رأي العين، ولهذا فإن المؤمن الواثق بدينه يعلم أن ما يجري على المسلمين من نكبات في هذه الأيام ما هو إلا إنموذج من سنن الله في هذه الحياة، فهو أمر طبيعي
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } سورة آل عمران (3)(1/1961)
أمة الإسلام في قلب هذه الأزمة، ومع هذه الهزيمة الشنيعة التي حلت ببلد من بلاد المسلمين، قد تتسائل الجموع المسلمة بعد أن أحرق قلبها ما شاهدته مقل أعينها في عاصمة الإسلام لخمسة قرون من الزمن، تتسائل هذه الجموع المؤمنة، وهل انقضى كل شيء، أم هل اننتهى دورنا، وحتى نقدم بإجابة متزنة بعيدة عن أمل مفرط، ويأس محبط، لا بد لنا من أدراك أمور:
الأمر الأول: لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين
عباد الله: إن الهزائم العسكرية المادية التي جرت على الأمة لم تكن يوما من الأيام إيذانا بفنائها، ولا علامة على قرب زوالها، بل كانت تلك الهزائم تحمل في طياتها بذور النصر، وشعاعات الأمل
بغداد لا تهني فالله منتصرٌ *** لأمة الحق إن آبوا وإن عادوا
بغداد فلتقرأي التاريخ إن به *** أخبار من قبلنا فيهن أشهادُ
فرعون حاصر موسى من تغطرسه *** فأغرق الله من عن دينِهِ حادوا
حادوا ، فبادوا وكان الله منتصرا ً *** لجنده وبفضل الله قد سادوا
بغداد كل قوى الكفار فانيةٌ *** كما فنى قوم نوحٍ أو فنت عادُ
لم يحدث في تاريخ المسلمين كله أن هزم المسلمون هزيمة عسكرية في ناحية من النواحي، أعقبها اجتياح عام لكل بلاد المسلمين، وتلا ذلك ظهور دائم للكافرين على المسلمين في الأقطار كلها.
ولم يحدث في تاريخنا كله أن هزيمة حلت بنا، قصمت ظهورنا فلم تقم لنا بعد ذلك قائمة، لم يحدث هذا ولن يحدث هذا أبدا.
روى مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها، و إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، و إني أعطيت الكنزين الأحمر و الأبيض، و إني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكوا بسنة عامة و لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم،
و إن ربي عز و جل قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد و إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، و أن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و لو اجتمع عليهم من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يفني بعضا، و إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين
ثم قال صلى الله عليه وسلم (و لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ([1]).
إن المتأمل يا أمة الإسلام في تاريخنا الطويل الممتد أربعة عشر قرنا يكاد يلحظ أن كثيرا من هذه المصائب العسكرية التي تصيب الأمة، وما يصاحبها من سفك وقتل وتعذيب وتشريد، تبث فيها الحياة من جديد، أو توقظها من غفلة رانت عليها، أو تدغدغ فيها خلايا النشاط النائمة.(1/1962)
أمة الإسلام: هذه الأمة تسقي شجرة حياتها، بدماء تسيل من جوانبها، حياتها تنبعث من الموت، وأملها يولد من الألم، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } البقرة
هذه هي الحقيقة، حقيقة مرة، لا يتجرعها إلا من ذاق حلاوة الإيمان وبرد اليقين، وألئك هم الذين تحيا الأمة على كواهلهم
إن غياب هذه الحقائق عنا هو الخطر الداهم، والمصاب الحقيقي، فإنه يجلب علينا الهزائم الحقيقة، ويرمي بنا في أوحال الذل، ويغرقنا في للجج الأسى.
أمة الإسلام: ولما كان هذا هو الداء القاتل لهذه الأمة، فلم نر الأمة يوما من الأيام قط تجرعته، ولم يشهد التاريخ عليها أنها استسلمت له.
في غزو أحد ابتلي المسلمون بلاء عظيما، أحاط بهم الكفار، وأخذوا يقتلونهم، قتل جمع من كبرا الصحابة، وسارت شائعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، قتل أملهم، وقتل قائدهم، فهل انتهى كل شيء، مر أنس بن النضر الصحاب الجليل عم أنس بن مالك، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، مر هذا الصحابي وهو في لجج المعركة بعمر بن الخطاب ومعه رهط فقال ما يقعدكم؟ قالوا قتل رسول الله قال فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم جالد بسيفه حتى قتل فوجد قتيلا وفيه بضع وثمانون من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم
لا تسقني ماء الحياة بذلة واسقني بالعز كأس الحنظل
فاختر لنفسك منزلاً تعلو به أو مت كريماً تحت ظل القسطل
موت الفتى في عزة خير له من أن يبيت أسير طرف أكحل
الأمر الثاني: قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار
أيها المؤمنون: إن اليأس ليس له مكان في حياة المسلم أبدا، وإن الشعور بالإحباط وليد ضعف الإيمان، وهو من ثمرات تسلط الشيطان الرجيم على بني آدم، ولذلك فإنك تجد المؤمن مستبشرا دائما، قوي النفس، ثابت الجأش، لا تهزه الرياح، ولا تزحزحه الأعاصير.
أيها الإخوة: لو فرضنا جدلا أن الذي حدث في بغداد هو نهاية مطاف هذه الأمة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تربعت على عرش حكم العالم إلى أبد الدهر، أين إيماننا بالموت، وأين إيماننا بنهاية الحياة الدنيا { قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } آل عمران
أين نحن أيها المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر هاذم اللذات : الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه و لا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه) ([2]) وانظروا إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعدما أعلنت هزم المسلمون في غزوة أحد(1/1963)
هزيمة عنيفة، وقتل من الصحابة جمع كثير، قال ابن اسحاق ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته أعلمتم أن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، فقال رسول الله لعمر قم يا عمر فأجبه، فقال: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
أجابه عمر بن الخطاب موضحا له الميزان الحقيقي، وأن هذه الدنيا لا تعبر عن الميزان الحقيقي، قال له لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
نعم هذا هو المقياس، لا مقياس الحياة الدنيا، قتلانا نحن في الجنة وقتلاكم أيها الصليبيون في النار، لا سواء.
{ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ * ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
الأمر الثالث: الأمل في قلب المحنة
أمة القرآن: إن المسلمين مطالبين بأن تكون لهم الغلبة، ومطالبين ببذل كل ما يستطيعون في سبيل الوصول إلى ذلك (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ([3]) نعم هم مطالبون بذلك، لكن لا يجوز أبدا أن يكون عجزهم عن تحقيق ذلك الأمر سببا لإسلامهم إلى اليأس والإحباط، ولا يجوز أبدا أن يكون ذلك مانعا لهم من اصطحاب الأمل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الأمل والتفاؤل في أشد الظروف وأحلكها، في غزوة الأحزاب، حيث تكالبت القوى التي تحمل الكره للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتتمنى أن تستأصل هذه الدعوة من شأفتها، والنبي صلى الله عليه وسلم في قلة من أصحابه، والمدينة النبوية كلها قطرة عذبة وحيدة في وسط أمواج هائلة من رمال الكفر والطغيان، في هذا الوقت، والصحابة يحفرون الخندق إذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يبشر أولئك العدد المحدود المحاصر يبشرهم بماذا، يبشرهم بفتح قصور كسرى وقيصر.
الأمر الرابع: إنكم قوم تستعجلون
جاء الصحابي الجليل خباب بن الأرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقي من المشركين شدة، فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ؟
فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق(1/1964)
باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه " ([4]) .
أيها الإخوة المؤمنون مقياس الزمن عند ربنا غير المقياس عند البشر { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } الحج
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا (اقتربت الساعة وانشق القمر) منذ أربعة عشر قرنا أربعة عشر قرنا يا عباد الله اقتربت الساعة، منذ ألف وأربعمائة سنة اقتربت الساعة، إن العشر سنين، والخمسين سنة، بل والمائة سنة، ليس لها في مقياس الزمن أي قيمة، وانظروا أيها المسلمون يوم تنتهي هذه الحياة الدنيا، ويحشر جميع الناس ملايين الملايين، من عهد آدم عليه السلام، منذ آلاف السنيين، حتى تنتهي الدنيا، يحشر الناس الذين يعيشون في بلاد الأرض كلها، يحشر الأبيض والأسود، والصغير والكبير، يحشر الملايين من البشر في صعيد واحد في وقت واحد، ينتهي مقياس الزمن الذي نعرفه، وتتضاءل هذه الانتصارات التي حققها الكفار علينا، وتضمحل تلك السعادة التي أحسوا بها، انظر ماذا يتذكرون
{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } المؤمنون 23
الأمر الخامس: وزلزلوا
أمة الإسلام، قال ربنا جل وعلا في كتابه الذي هو شفاء لما صدورنا، وتسلية لمصابنا، الذي يتنزل علينا كالبلسم الشافي، قال جل وعلا { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } البقرة
من الذي زلزل بالله عليكم أيها المؤمنون، من الذي زلزل حتى تسائل أين نصر الله، من الذي زلزل حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت من أيها المؤمنون، من أيها اليائسون، من أيها المستسلمون، من أيها المتخاذلون
نبي من أنبياء الله، نبي اصطفاه الله، نبي يتنزل عليه الوحي، نبي يؤيده الله، زلزل، وزلزل ، وزلزل الذين آمنوا معه، زلزلوا حتى أصبحوا يقلبوا نواظرهم في السماء، أين أنت أيها النصر، أين أنت أيها النصر، هزيمة تعقبها تعقبها هزيمة، وذل يتلوه ذل، رحماك ربنا رحماك، أين نصرك الذي وعدت، أين نصرك الذي ضمنت للموحدين، أين نصرك على ألئك الذين كفروا بك.
أيها الإخوة استغفروا ربكم من هذه الظنون الذي ظننتموها بربكم، استغفروا ربكم من تقصيركم في حق ربكم، استغفروا ربكم إنه كان غفارا(1/1965)
الخطبة الثانية
وبعد،
أيها المؤمنون:
بعد كل هذا لا بد من ذكر تنبيهين هامين، ونحن نعالج الآثار المترتبة على هذه الأزمة :
التنبيه الأول:
إن يقيننا بجميع ما تقدم لا يجوز أن يكون مخذلا لنا، ومخدرا عن العمل الجاد، فالنصر لا يبنى إلا على بسواعد أبناء الأمة، ولا يرقى إلا على أكتاف الرجال.
كسب المعالي بحب الموت مرتبط *** ما بالسلامة مجد نيل والكسل
فاخرج متى ترتضي حب السلامة من *** تحت السماء الى ما شئت وارتحل
وإن رضيت قليل العيش مقتنعا *** قم واتخذ نفقا في الأرض واعتزل
رضا الجبان بحب الجبن أجبنه *** والمجد بين ظهور الخيل والأسل
نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الموعود بالنصر من السماء، قاتل وجاهد، وصبر وصابر، ولما تنزل عليه القرآن إذا به يقول لخديجة عليها السلام مضى عهد النوم يا خديجة.
نحن يا أمة القرآن أولى بهذه المقولة، أولى أن نردد دائما مضى عهد النوم أيها المسلمون، مضى عهد الدعة والراحة، مضى عهد العيش الرغيد،
ليس أمامنا إلا طريق مخضب بالدماء، ليس أمامنا إلا ذل وقهر، أو عز نصر فلنختر لأنفسنا، { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } سورة الفتح (48)
التنبيه الثاني:
حذار ثم حذار يا عباد الله أن نظن أن ثمة مقياس زمني قصير لتلك الوعود الربانية، متى يأتي وعد الله، هل يأتي خلال سنة، أم سنتين، أم عشر سنين، أم عشرين سنة، العلم عند الله تعالى، ولهذا فإنه يجب علينا العمل، والعمل، ومتى تحصل النتيجة، ومن يقطف الثمرة، العلم عند الله تعالى.
قتل حمزة بن عبد المطلب ولم ينعم برؤية هزيمة قريش وهو الذي امتلء قلبه كرها وبغضا لهم، وحنقا عليهم، قتل مصعب بن عمير بعد أن تخلى عن جميع ما يملك، وترك أمه المنعمة، وهاجر إلى المدينة النبوية في عمل دؤوب، وإعداد مستمر، قتل ولم يجد الصحابة له كفنا يكفنونه به، قتل عمار بن ياسر تحت وطئة التعذيب، وقتل سمية، وزوجها وأبوها.
أيها المؤمنون: هذه سنة كونية، ليس خاصة بالمسلمين، بل هي عامة لأمم الأرض كلها، أتحسبون أيها المسلمون أن هذا النصر الذي تحققه الولايات المتحدة الأمريكية وليد سنة أو سنتين، إنه وليد عشرات من السنين، بل وليد مئات من السنين.(1/1966)
أتحسبون هذه القوة التي تملكها هذه الدولة الطاغوتية نتيجة أعمال متناثرة قامت بها تلك الدولة بصورة هزيلة.
لقد عمل الأمريكيون أثناء الحرب العالمية الأولى بجد واجتهاد، كان جنودهم يقاتلون على جبهات القتال، وكان علماؤهم ومفكروهم يصلون الليل بالنهار حتى اخترعوا القنبلة الذرية، فتحقق لهم النصر الساحق على اليابان.
أمة الإسلام: الحذر كل الحذر من أن تعمل المصائب التي تنزل بساحتنا على خلخلت طريقة تفكيرنا، وصرفنا عن استبصار طريق النصر، فنقعد عن الأعمال المؤثرة، والمشاريع البناءة، بحجة أنها بعيدة المدى، ضعيفة التأثير، لا ترى نتائجها.
غزو العراق واحتلال منابع النفط خطط له الأمريكان من عهد رئيسهم الأمريكي القس كارتر، أي قبل أكثر من عشرين سنة، وقوة التدخل السريع أنشأت في عهد ريجان، أي قبل عشرين سنة تقريبا، ونحن نريد أن نخطط اليوم، فننفذ غدا، فننتصر بعد غد ...
هذا أحد ما يريده أعداء الإسلام منا، لقد صممت حرب العراق بصورة تبعث على اليأس في قلوب المسلمين، وتورث الإحباط، تعلق المسلمون وهفت قلوبهم إلى هزيمة هذه الدولة الظالمة، صمد العراق أياما، وقتل من الأمريكان أعدادا، وامتص العراقييون الصدمة، أصبحت قوات البغي في وضع حرج، خطوط الإمداد طويلة، وحرارة الجو تدخلت في المعركة، فاشرأبت الأعناق، وجحظت الأبصار، وأصبح الناس يتحدثون عن فيتنام ثانية، بل ربما قال القائل كيف سيكون شكل العالم بعد هزيمة أمريكا
بدأت طلائع المعتدين في الدخول إلى بغداد، وترقب الناس سحقهم على أسوار بغداد، قلب المسلمون شاشات التلفاز حتى يمتعوا نواظرهم بأشلاء المعتدين، ودماء المجرمين
وبين ليلة وضحاها، إذا بكل شيء ينتهي، ينتهي بكل سهولة، في لغز محير، سقطت بغداد، سقطت بغداد في أيدي تتر القرن الحديث، وسقطت وسقط معه كل أمل بناه المسلمون خلال عشرين يوما، سقطت وسقط همم المسلمين، سقطت وسقط عزائم أفراد الأمة ...
هذا ما أراده الأعداء، وهذا ما يريدونه، إنهم يدركون أن الهزيمة الحقيقية هي الهزيمة المعنوية، إنها تربك الخصم، وتشل قواه عن المقاومة، وتكبله عن أي عمل، إنها تجعله كالنعجة حينما يهاجمها الذئب، تستلم له، فيأكلها لقمة سائغة.
عباد الله: هل يكون منا نعاجا، وهل يكون منهم ذئابا، لا والله لا يكون، لا والله لا يكون، وهذا القرآن في أيدينا، وهذا الكتاب في صدورنا
أخوكم
هيثم بن جواد الحداد(1/1967)
المنتدى الإسلامي لندن
----------------------------
([1]) (حم م د ت هـ) عن ثوبان. وهو صحيح، انظر حديث رقم: 1773 في صحيح الجامع
([2]) (هب حب) عن أبي هريرة (البزار) عن أنس وهو حديث حسن ، انظر حديث رقم: 1211 في صحيح الجامع.
([3]) الأنفال آية 39
([4]) أخرجه البخاري
ــــــــــــــ
لن تضيع فلسطين .. كيف
الدكتور راغب السرجانى
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أما بعد؛
فإنَّه في يوم 2 من ربيع الأول في سنة 897 هجرية، الموافق 2 يناير سنة 1492 ميلادية وقَّع أبو عبد الله محمد الصغير -آخر ملوك الأندلس من المسلمين- معاهدة الاستسلام, وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت بين ربوع غرناطة -آخر معاقل المسلمين في الأندلس-، وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة، ووقف علي تلٍ من التلال القريبة من قصر الحمراء -قصر الحكم في غرناطة- وهو يبكي وينتحب، فقالت له أمه عائشة الحرة: " أجل فلتبكِ كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال"، وخرج المسلمون بذلك من الأندلس خروجاً نهائياً بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون، غير أن الأيام تحمل معها مفاجآتٍ كثيرةٍ فتلك البلاد التي حُكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا حوالي مائة ألف مسلمٍ فقط، فهي من أقل بلاد العالم تعداداً للمسلمين، وهو درس لابد أن يفقهه المسلمون.
وكأني ألحظ دهشة تعلو الوجوه!, لماذا الحديث عن الأندلس؟ أليس موضوع الكتاب خاص بـ " فلسطين "؟! نعم.. يدور حديثنا هنا عن فلسطين، ولكن العلاقة وثيقة جدا بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية.. سبحان الله.. مع تباعد الزمان وتباعد المكان فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين؟ ولعلنا ندرك ذلك من خلال هذه الملاحظة وهي في غاية الأهمية:
لماذا لم يعد للإسلام ذكر في هذه البلاد إلا آثاراً قليلةً، وبعض المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما احتلت بلادٌ إسلاميةٌ كثيرةٌ غير بلاد الأندلس ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام؟! احتلت مصر،(1/1968)
والجزائر، وسوريا، والسودان، وليبيا، والعراق، ومعظم بلاد العالم الإسلامي لكن هذه البلاد لازالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل، أما أسبانيا والبرتغال -أو الأندلس- فالوضع فيها مختلف، لماذا؟! لأن الاحتلال الأسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالا استيطانيا إحلاليا سرطانيا، بمعني أن الأسبان ما كانوا يدخلون المدينة الإسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعا, ويقومون بمذابح جماعيةٍ في كل مكان، أو يطردونهم خارج البلاد، وهكذا وبمرور الوقت يتحول سكان البلد المسلمون إلى شهداء أو لاجئين، ثم يأتون بالأسبان من كل مكان ليوطنوهم في هذه البلاد، وهكذا وبمرور الوقت أصبح سكان الأندلس كلهم من الأسبان وليسوا من المسلمين واختفي المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس.
تري كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس في البلاد المجاورة، في تونس والجزائر والمغرب ومصر والشام؟ كيف كان حال المسلمين وقت سقوط الأندلس؟ كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف، ومع ذلك فإنهم - ولا شك - فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس، ولكنهم لم يستطيعوا هذا لقلة حيلتهم، ومن المؤكد أن المسلمين الذين خرجوا من بلاد الأندلس عند السقوط فكروا يوما ما في العودة، ولكن لم يستطيعوا لضعف إمكانياتهم, وهكذا مرَّ شهرٌ أو شهران، وعامٌ أو عامان، وقرنٌ أو قرنان بل خمسة قرونٍ, وضاعت الأندلس - أسبانيا والبرتغال - من ذاكرة المسلمين، فَمَنْ مِن المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس؟ لا أحد، فالأندلس الآن عبارةٌ عن دولتين تربطهما مع كل بلاد المسلمين علاقات حميمة.
كان المؤرخون قديماً عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون "أعادها الله للمسلمين"، مثلما يتحدث مؤرخ فيقول " فتح طارق بن زياد رحمه الله بلاد الأندلس - أعادها الله للمسلمين - في سنة 92 من الهجرة ", ذلك لأنها كانت دائما في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت الكلمة - كلمة أعادها الله للمسلمين - اختفت من أفواه المؤرخين.
ما أشبه اليوم بالبارحة فالأندلس تتكرر من جديد.. أين؟ في فلسطين!!. نعم في فلسطين!!؛ نفس طريقة الاحتلال الأسباني, قتل أو طرد للمسلمين، تحويل الشعب إلى لاجئ وشهيد، هدمٌ للمباني والديار، وإقامة للمستوطنات اليهودية في كل مكان، عملية إحلالٍ منظَّمةٍ للشعب الفلسطيني بالشعب اليهودي؛ وإن تُرك الأمر علي حاله في تراجعٍ ودعةٍ من المسلمين فإن المصير سيكون واحدا, وستلقى فلسطين نفس مصير الأندلس. إذا تقادم العهد علي عملية الاستيطان والإحلال سيصبح المكان مع مرور الزمان اسمه إسرائيل, كما أصبحت الأندلس مع مرور الزمان اسمها أسبانيا والبرتغال. إذا تقادم العهد على الاحتلال فسيصبح هذا أمرًا واقعًا.. المسلمون منذ ثلاثين سنة مثلاً كانوا لا يعترفون بالكيان الصهيوني مطلقًا.. بل كانوا يصفون اليهود بأنهم مجموعة من اللصوص سطوا على أرضٍ ليست أرضهم فنهبوها واستوطنوها.. ثم مرت الأيام وقبل الرافضون القدماء من العرب بوجود(1/1969)
إسرائيل على مساحة 78% من الأرض المحتلة وهي كل أرض فلسطين خلا الضفة الغربية وغزة.. ثم سيقبلون بعد ذلك بأن تحتل إسرائيل مساحة 60% من الضفة الغربية وغزة, بالإضافة إلى الـ78% الأصلية وذلك على هيئة مستوطنات يهودية داخل الضفة الغربية وغزة..
ثم ستأتي مرحلة جديدة لا محالة يسعى فيها اليهود لإنهاء الوجود الفلسطيني بالكلية.. وساعتها قد يصرخ المسلمون يومًا أو يومين أو سنة أو سنتين أو قرنا أو قرنين.. ويتقادم العهد، وتصبح فلسطين إسرائيل.. ويرتبط المسلمون معها بما يرتبطون به الآن مع أسبانيا والبرتغال. إذا تقادم العهد علي احتلال فلسطين فقد يأتي زمان يزور فيه المسلمون المسجد الأقصى بتأشيرة سياحة من السفارة الإسرائيلية كما يزورون الآن مسجد قرطبة بتأشيرة سياحة من السفارة الأسبانية!!.
قضية فلسطين قضيةٌ من أخطر قضايا أمة الإسلام, بل لعلها الأخطر على الإطلاق. قضية فلسطين هي قضية أمةٍ, تذبح, وشعبٍ يباد, وأرضٍ تغتصب, وحرماتٍ تنتهك, وكرامةٍ تهان, ودينٍ يضيع.
الدور المنوط بنا حتى لا تصبح فلسطين أندلسًا أخرى؟
أنا في هذا الكتاب لا أخاطب الحكومات والهيئات الرسمية..
أنا أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية..
أخاطب الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأعمال..
أخاطب النجار والحداد والعامل والفلاح..
أخاطب أستاذ الجامعة كما أخاطب الطالب..
أخاطب العلماء كما أخاطب الرجل البسيط الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولكن فقط.. يتألم.. لفلسطين.
أنا – أيها المسلمون- أخاطب عموم المسلمين الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش, ولا قطع العلاقات, ولا غلق السفارات, ولا وقف التطبيع, ولا محاكمة شارون, ولا وحدةُ قادة المسلمين..
يقول الله عز وجل: [لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها] {البقرة: 286}.
نحن في هذا الكتاب نحاول أن نضعَ أيدينا على هذا الوُسع.
أنا أريد منك ستة أدوار.. ستة واجبات، إذا فعلتها على الوجه الأكمل كنت ممن أدى حقَ فلسطين.. وكنت مساهمًا في تحريرها.. وكنت مستنفذًا لوسعك وطاقتك, ويوم القيامة تقول.. يا رب.. تألمت لفلسطين ففعلت كذا وكذا, وهذا ما كنت أملك.. مع العلم أنني في هذا الكتاب لا أخاطب إخواننا المجاهدين المرابطين في أرض فلسطين, فإن عليهم دورًا يسبق كل هذه الأدوار وهو الجهاد في سبيل الله.. فلا شيء يعدلُ الجهادَ ضد اليهود.. نسأل الله لهم الثبات والإخلاص..
الواجب الأول:: فهم القضية فهمًا صحيحًا وتحريكها بين الناس بسرعة.
الواجب الثاني: قتل الهزيمة النفسية وبث الأمل في عودة اليقظة للأمة الإسلامية.(1/1970)
الواجب الثالث: بذل المال قدر المستطاع وتحفيزُ الناس عليه.
الواجب الرابع: المقاطعة الاقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي أو من أي دولة أو شركة تؤيد اليهود بسفور.
الواجب الخامس: الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل.
الواجب السادس: إصلاح النفس والمجتمع.
مع هذه الواجبات نعيش في هذه الصفحات القادمة؛ ونسأل الله التوفيق..
الواجب الإيجابي الأول: تحريك القضية
لا يجب أن تموت قضية فلسطين أبداً أو تنسى..
وسبحان الله فقد حركها الله سبحانه وتعالى لنا؛ تذكرون أن قضيه فلسطين قد خمدت فتره من الزمان - حوالي سبع سنوات كاملة - بعد معاهدة أوسلو؛ لكن الله حركها بزيارة شارون للمسجد الأقصى في 28 سبتمبر سنه 2000, وهو حدث - مع عظمه - أهون من أحداث سابقة كثيرة. هناك أحداث كثيرة جدا سبقت زيارة شارون للمسجد الأقصى لم يتحرك لها المسلمون هذا التحرك. حدث قتل للمسلمين.. حدث تدمير وتشريد.. حدثت مذابح مثل مذبحة صبرا وشاتيلا، ولكن تحركوا لزيارة شارون وهي أهون من قتل المسلمين. إذن هذه الحركة للقضية فعلها سبحانه وتعالي, ولابد أن نشكر هذه النعمة - نعمة تحريك القضية - وشكر النعمة يكون باستمرار تحريك القضية.
أحذر أن يمر عليك يوم أو يومان دون أن تذكر فلسطين وتُذكَّر بها..
احمل هم القضية وتحرك..
في كل الدوائر تحرك..
في كل الأماكن تحرك..
في كل الأوقات تحرك..
تحت كل الظروف تحرك
تحدث عن فلسطين في دائرة بيتك.. مع أبيك وأمك.. مع إخوانك وأخواتك.. مع أولادك وأحفادك..
تحدَّث عن فلسطين في دائرة الأقارب.. القريبة والبعيدة.. كل من تعرف من أهلك.. تحدث معهم..
تحدث عن فلسطين في دائرة أصدقائك.. وفي دائرة العمل.. فلنترك جانبًا في هذه الأيام العصيبة الحديث عن المباريات والدوري والكأس والمسلسلات والأفلام.. والقيل والقال.. وفلان وعلان.. فلنتحدث عن فلسطين..
حتى في الدوائر السطحية التي تلتقي بها قدرًا ودون ترتيب تحدث عن فلسطين.. سواءًا أكنت منتظرًا في عيادة طبيب.. راكبًا في وسيلة مواصلات... تحدث عن فلسطين..(1/1971)
ثم فكر أن توسع دوائر التحريك:
مقال في جريدة أو خطاب إلى بريد إحدى الصحف..
مقال في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة..
كلمة بسيطة سريعة في مسجد أو في فصل أو في مدرج.. دقيقتين أو ثلاثة.. خبر عن عملية استشهادية أو سؤال الدعاء لأهل فلسطين.
خطبة جمعة - لو تستطيع - أو تنصح الخطيب بذلك..
اعمل صالون ثقافي في بيتك وادع أصدقائك وناقشوا القضية.. ولا مانع إن تدعو إلى اللقاء متحدثًا يدرك أبعاد القضية, يحاورهم ويشرح لهم..
ابعث رسائل على الإنترنت لكل من تعرف من الأفراد والهيئات في كل بقاع العالم.. ابعث للمسلمين ولغير المسلمين.. اشرح القضية.. وضح فضائح اليهود.. اعمل رأي عام عالمي مضاد للإعلام اليهودي.. تحرك.. ليس هناك وقت..
حتى المظاهرات السلمية تعتبر تحريكا للقضية.. لكن مع الأخذ في الاعتبار أن المظاهرة تكون بالضوابط الشرعية.. ليس فيها تكسير أو إفساد حتى للمحلات الأمريكية وغيرها.. فهي في عهدنا والمسلمون لا ينقضون العهود.. وليس فيها سباب.. فليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذيء.. وليس فيها اختلاط مخل بالآداب الإسلامية.. وليس فيها شعارات ضالة تؤخر القضية بدلاً من تقديمها..
هذا التحرك –يا أخي- لا بد أن يكون بسرعة..
فعلاً ليس هناك وقت..
مرور الوقت –دون عمل- ليس في مصلحة القضية..
- مع مرور الوقت يزداد عدد الشهداء, وتفقد الأمة أفرادها الواحد تلو الآخر..
- مع مرور الوقت تهدم المنازل, وتجرف الأراضي, ويُشتت الناس, ويتزايد عدد من لا مأوى لهم، وكل هذا يُكثِّر من أوراق الضغط اليهودي.
- مع مرور الوقت تزداد المستوطنات, وتزداد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينيين, ويزداد الإحلال اليهودي للشعب الفلسطيني..
- مع مرور الوقت يتناقص الغذاء والكساء والدواء, وذلك لغلق كل الحدود والمعابر..
- مع مرور الوقت تتزايد الجرأة اليهودية على المسلمين فنسمع عن أشياء جديدة وبصورة متكررة:
نسمع عن عملية اغتيال لأشخاص بعينهم..
نسمع عن عمليات اختطاف لأفراد بعينهم من عقر دارهم..
نسمع عن قصف بالمروحيات والأباتشي..(1/1972)
نسمع عن اجتياح بالدبابات والجرافات..
نسمع عن مذابح جماعية.. ونشاهد سكوتا عالميًا مخزيًا!!..
- مع مرور الوقت يحدث شيء خطير أسميه إلف المأساة..
يتعود المسلمون على منظر الدماء..
يتعودون على منظر الجرحى بالمئات والآلاف..
يتعودون على منظر الأمهات الثكالى..
يتعودون على منظر الأطفال الباكية المشردة..
يتعودون على مناظر الهدم والتجريف والظلم والإبادة..
يتعودون على كل ذلك فلا تتحرك القلوب كما كانت تتحرك، ولا تُذرف الدموع كما كانت تُذرف ولا تتأثر المشاعر كما كانت تتأثر.. إلف المأساة..
ثم أتدري كم ستعيش في هذه الأرض؟!.. الموت يأتي بغتة.. ومن مات قامت قيامته.. ولا شك أننا سنسأل عن هؤلاء الذي يقتلون صباح مساء على بعد أميال منا.. لا داعي أن نأخذ الموضوع ببساطة..
لكي تشعر بالمشكلة ضع نفسك مكانهم.. وليس ببعيد أن يبدل الله الأدوار عما قريب.. تخيل أنك تسير في الشارع ومعك ابنك 8 سنوات أو 10 سنوات, فجاء يهودي وأطلق رصاصة استقرت في قلبه أو في رأسه فسقط بين يديك، وأنت لا تملك له علاجًا، حتى مات أمام عينيك, فترفع رأسك فإذا بأكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون!.. ماذا تفعل؟! ألا ترفع يدك إلى السماء وتدعو على من شاهد ولم يتحرك؟.. وتدعو على من سمع ولم يعقل؟
تخيل نفسك في هذا المقام!!
ألا تخشى من دعوة هؤلاء المظلومين على إخوان لهم في الدين, شاهدوا الأرواح تزهق، والأرض تُسرق, والشعب يُشتت, فتأسفوا قليلا, ثم سارت حياتُهم بصورة طبيعية كما كانت..
تحريك القضية وبسرعة واجب حتمي يحفظ القضية من الموت أو النسيان ولكن..
لابد أن يكون التحريك بالمفاهيم الصحيحة..
تحريك القضية بمفاهيم خاطئة قد يضر بها ويُعطل سيرها.. بل ويعجل بموتها..
لابد من تفريغ الوقت لفهم القضية فهما صحيحًا وتفهيمها لغيرنا..
أعداء الإسلام يدبرون مؤامرات لا حصر لها لهدم الإسلام وإبادة أهله.. لا يهدأون ولا يكلّون.. وعلى قدر هذا النشاط من أعداءنا يجب أن تكون حركتنا أو يزيد..
مؤامرات سياسية عن طريق المفاوضات والسفارات والهيئات والأحلاف.
مؤامرات عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج.(1/1973)
مؤامرات اقتصادية عن طريق الحصار والقيود الاقتصادية والديون والعولمة.
مؤامرات تفريقية للتفريق بين الشعوب الإسلامية وبين أفراد الشعب الواحد بل وبين أفراد الأسرة الواحدة.
مؤامرات أخلاقية عن طريق إفساد أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتليفزيون والصحف الصفراء و البيضاء.
ثم مؤامرات فكرية عن طريق تغيير أفكار المسلمين وتبديل المعايير الصحيحة وقلب الموازين العادلة.
وكل هذه المؤامرات خطير.. وكلها قاتل وفتاك..
لكن أشد هذه المؤامرة خطورة هي المؤامرة الفكرية..
المؤامرة الفكرية.. التي تقلب الحق باطلاً والباطل حقًا..
تخيل أن رجالاً عاشوا طويلاً, وكافحوا وتعبوا وسهروا وبذلوا, من أجل أفكار ضالة, وعقائد منحرفة, وأهداف تافهة.. كل ذلك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا..
كارثة!.. المؤامرة الفكرية تقتلع الأمم من جذورها..
لا أمل في النجاة إن انحرفت أفكار الناس..
ومن انحرف ولو درجة, فلا يرجى له وصول..
كثيرٌ ممن يكافح من أجل فلسطين.. يكافح للدفاع عن أفكارٍ منحرفة, ومفاهيم خاطئة.. ولذا فهم يؤخرون أو يضيعون القضية..
تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة من أقوى الأسلحة في حرب التحرير..
هيا نختبر مفاهيمنا حول القضية..
الواجب الإيجابي الثاني: إحياء الأمل
الواجب الثاني هو قتل الانهزامية وعلاج الإحباط الذي دخل في نفوس المسلمين, أو قل رفع الروح المعنوية وبث الأمل في القيام من جديد.. واجب من أعظم الواجبات, ليس فقط ناحية قضية فلسطين ولكن ناحية أمة الإسلام بأسرها. وقد يعجب المرء أن تُحبط أمةٌ تملك شرعًا مثلَ شرع الإسلام, وتاريخًا مثل تاريخ الإسلام, ورجالاً مثل رجال الإسلام..
لكنَّها حقيقةٌ مشاهدة وواقعٌ لا ينكر!!..
لماذا أُحبط المسلمون؟!
أمورٌ كثيرة تفاعلت فأورثت هذا الإحباط في نفوس المسلمين..
- الواقع الذي عاشه المسلمون من هزائم كثيرة وانتصاراتٍ قليلة في خلال القرن العشرين بدءًا من سقوط الخلافة العثمانية وهزيمة 1948 و1956 (مع أنها صُورت على أنها نصر) وهزيمة 1967 والانتصار الذي لم يكتمل في 1973 واجتياح لبنان في 1982..(1/1974)
- الواقع الذي نعيشه من مذابح بشعة في فلسطين وكوسفو والبوسنة وكشمير والشيشان والعراق والصومال وغيرها..
- الواقع الذي نعيشه من ظلم وفسادٍ وإباحية وانهيار للاقتصاد واختلاسٍ بالمليارات وديون متراكمة وإفلاسات مشهرة،- وفرقة وتناحر وتشاحن وبغضاء..
- هذا الواقع المر بالإضافة إلى تزوير التاريخ حتى خرج إلينا مسخًا مشوهًا يستحي منه الكثير ويتناساه الأكثر
- بالإضافة إلى تزوير الواقع وتشويه صورة الإسلام,- وإلحاق كل الجرائم بالمتمسكين بدينهم,- ونفي كل مظهر من مظاهر الحضارة والرقي عنهم..
- هذا كله بالإضافة إلى تعظيم الغرب وتفخيمه حتى يصبح منتهى أحلام الشباب أن يلقوا بأوطانهم وأهلهم وراء ظهورهم وينطلقوا إلى الجنة: أمريكا وأوروبا كما يقولون!..
تفاعلت هذه الأمور وغيرُها حتى رسخّت الإحباط في نفوس الكثيرين من أمة الإسلام..
إلى هؤلاء الذين أحبطوا ويأسوا.. وإلى أولئك الذين يريدون أن يبثوا الأمل في قلوب القانطين.. أوجه هذه الكلمات:
الواجب الإيجابي الثالث: الجهاد بالمال..
ما أحوجَ أهلِ فلسطين للمال في هذه الأوقات.. حصار اقتصادي رهيب.. طرد من الأعمال.. إغلاق للمعابر.. تجريف للأراضي.. هدم للديار.. نقص في الغذاء والدواء والكساء والسلاح.. استشهاد للشباب, وعائلات لا حصر لها تفقد عائلها..
أخي في الله.. استمع جيدًا..
إن كنت تريد جهادًا في سبيل الله وقد حيل بينك وبينه, فأثبت صدقُك لله بجهاد المال.. من جهز غازيًا فقد غزا.
أخي لا تسوف.. سارع.. "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.. (أول صفة لهم) الذين ينفقون في السراء والضراء"..
"وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموت فيقولَ رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين, ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون"..
فكّر يا أخي..
جنيه واحد لفلسطين يساوي عند الله سبعمائة جنيه أو يزيد.
ألف جنيه لفلسطين تساوي عند الله سبعمائة ألف جنيه أو يزيد.. لا تتردد.. ثم كن على يقين أنك ستُعوَّض.. "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه".
"ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: (أول شئ) ما نقص مال من عبد من صدقة"..(1/1975)
أخي في الله.. اهزم الشيطان.
"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء, والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً, والله واسع عليم"..
والله يا أخي ستمر الأيام, وستذهب أنت, ويذهب المال, ويذهب أهل فلسطين، ولا يبقى شيء إلا ما عند الله, فآثروا ما يبقى ويدوم, على ما يفنى وينعدم..
اجعل بذل المال لفلسطين قضيةً ثابتة في حياتك، اقتطع نسبة ثابتة من دخلك الشهري أو اليومي أو الموسمي.. لا تنتظر حتى تتراكم الأموال فتكبر النسبة في عينيك، أولاً بأول تهزمُ الشيطان.. ولا تمتنع عن الإنفاق..
حفز الآخرين على الجهاد بالمال.. ربي أولادك على الإنفاق وإن كان قليلاً.. اشرح لهم بأسلوب مبسط أحوال أطفالِ فلسطين..
زكاة المال جائزة على أهل فلسطين.. بل هي محمودة.. ففيهم الفقير والمسكين والغارم والمجاهد في سبيل الله.
لا تمن بعطيتك, ولا تتكبر بها، ولا ترائي, ولا تستقلن تبرعًا, فرب درهمٍ سبقَ ألف درهم..
واعلم يا أخي أن الله عز وجل قسّم الأعمال بين عباده وكان نصيبُك النصيب َ الأيسر، عليهم في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم، وعليك أنت - في بيتك الآمن - أن تدفع مالك. فارض بما قسم الله لك من العمل، يرفع عنك من البلاء ما لا تُطيق.
الواجب الإيجابي الرابع: المقاطعة
وأقصد به المقاطعة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي أو لكل من يساعد اليهود, سواء كان دولة أو شركة.. وهو واجب هامٌ هامٌ هام.. ومؤثر إلى أبعد درجات التأثير وله من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ما لا يمكن حصره في هذه المساحة الضيقة..
وقد فصّلت في شرح جدوى المقاطعة في كتيب خاص بها, وذكرت فيه عشرة فوائد لها.. سواء على المستوى المحلي أو الإسلامي أو العالمي أو اليهودي.. وذكرت أنها لا محالة ستؤثر على الشركات التي يصفونها بأنها متعددة الجنسية, وأشرت إلى ضوابطنا الشرعية في المقاطعة.. والفرق بين مقاطعتنا لمنتجاتهم وحصارهم لبلادنا..
وعلقت على كثير من الشبهات التي تجول في أذهان الناس.. مثل من يقول أن الأيدي العاملة في هذه المصانع والشركات وطنية مائة بالمائة, وسيؤدي ذلك إلى تشريد الآلاف ومثل من يقول رأس المال الوطني سيخسر.. ومثل من يقول أن المقاطعة ستؤدي إلى كراهية الشعب الأمريكي لنا، ومثل من يقول أن الشركات الأمريكية ستنعش الاقتصاد الوطني، ومثل من يقول أننا لا نستطيع أن نعيش بدونهم, ومثل من يقول أنا لا أستطيع أن استغنى عن كذا أو كذا.. شبهات كثيرة جدًا تعرضت لها، وفصلّت في الرد عليها, وأذكر أيضًا أنني عرضت لبعض فنون المقاطعة وطرائقها.. ذكرت كل ذلك(1/1976)
وغيره في كتيب المقاطعة, وأشعر أنه من المستحيل أن نفصل في هذه الأمور في هذه الوريقات, فأرجو أن تعودوا إلى كتيب المقاطعة..
الواجب الإيجابي الخامس: الدعاء...
الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر, والدعاء على اليهود وأعوانهم بالهلكة والاستئصال..
والدعاء - يا إخواني - من أقوى أسلحة المؤمنين في حربهم مع الكافرين.. الدعاء ليس شيئًا سلبيًا.. كثيرٌ من الناس يعتقدون أن الدعاء أمرٌ مقابلٌ للأخذ بالأسباب..
أبدًا.. الدعاء يرفعه العمل الصالح.. إن ترك المؤمن الأسباب واكتفى بالدعاء فهو متواكل ولا يرجى له إجابة.. ولذلك جعلتُ الدعاء الوسيلة الخامسة حتى لا يعتمد المرء عليه وينسى بقية الواجبات..
الدعاء ليس أمرًا جانبيًا في قضية فلسطين.. ليس أمرًا اختياريًا إن شئنا فعلناه وإن شئنا تركناه.. أبدًا.. الدعاء ركن أساس من أركان النصر.. وسببٌ أكيد من أسباب التمكين.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الدعاء أبدًا, وما يأس منه قط, مهما تأخرت الإجابة, ومهما طال الطريق, ومهما عظم الخطب.. وكان أشدُ ما يكون دعاءًا ورجاءً وخشوعًا وابتهالاً عند مواقف الضيق والشدة.. يفزع إلى ربه, ويطلب عونَه, ويرجو مددَه وتأييدَه.. في بدر.. في أحد.. في الأحزاب.. في كل أيامه صلى الله عليه وسلم..
وفلسطين يا أخواني.. تحتاج إلى دعاء لا ينقطع, وتحتاج إلى رجاءٍ لا يتوقف..
o من أدراك أن طائرة تقصف فَيُصدُ قصفُها بدعائك..
o من أدراك أن مخططًا يهوديًا يدبر في الظلام فيحبط بدعائك..
o من أدراك أن شابًا فلسطينيًا أطلق حجارةً أو رصاصة فأصابت هدفها بدعائك..
نريد دعاءً لحوحًا مستفيضًا متكررًا في كل يوم وليلة أكثر من مرة..
دعاء في القنوت وفي السجود..
دعاء فيه يقين في الإجابة..
دعاء ليس فيه عجلة ولا يأس..
دعاءٌ فيه حضور للقلب.. وتضرع وتذلل وانكسار لله عز وجل..
ويتحرون ويتحرون الأوقات الفاضلة, دعاءٌ من رجال يتحرون المال الحلال, الأحوال الشريفة..
دعاءٌ في جوف الليل وقبل الفجر..
دعاءٌ يجتمع فيه أهل البيت وأهل العمل وأهل المسجد..
أخي الحبيب إن أردت أن تساعد المحصورين والمجاهدين والجوعى والجرحى.. فاستيقظ الليلة.. الليلة قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة وادع الله لهم.. أن يوحد صفَّهم, ويسددَ رميتَهم, ويقوي(1/1977)
شوكتَهم, ويثبت أقدامَهم, ويُعلي راياتِهم, وينصرهم على أعداءهم, ويُمكنَ لهم في أرضهم, ويزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم..
والله لا محالة سيستجيب.. فقد وعد.. وقال ربكم ادعوني استجب لكم.
إذن تحدثنا حتى الآن عن خمس وسائل إيجابية لنصرة حبيبتنا فلسطين.. هذه الوسائل هي:
فهم القضية فهمًا صحيحًا وتحريكها بين الناس بسرعة،
قتل الهزيمة النفسية وبث الأمل في عودة اليقظة للأمة الإسلامية،
بذل المال قدر المستطاع وتحفيزُ الناس عليه،
المقاطعة الاقتصادية الشاملة والكاملة لكل ما هو يهودي أو أمريكي أو إنجليزي،
وأخيرًا الدعاء المستفيض اللحوح لله عز وجل..
كانت هذه وسائل خمسة.. ولا شك أن في أذهانكم وسائل أخرى، والأمر على إطلاقه بين المسلمين، كلٌ يدلي بدلوه.. وكل يساهم بطاقته..
لكن تبقى الوسيلة السادسة هي الوسيلة التي تشمل كلَ ما سبق.. وتبقى الوسيلة السادسة دافعةً لكل ما سبق من وسائل.. وإن لم تُفعل فليس هناك نجاحٌ لأيٍ من الوسائل السابقة..
الواجب الإيجابي السادس: إصلاح النفس والمجتمع
لابد أن نسأل أنفسنا لماذا هذا التدهور لهذه الأمة الإسلامية التي تعودت أن تسود؟
ولماذا يسيطر 5.2مليون يهودي على بلد مبارك مقدس كفلسطين, مخرجين ألسنتهم لمليار وثلث مليار مسلم في الأرض؟
ولماذا لا يكترث زعماء الشرق والغرب وزعماء اليهود بأعدادنا؟
ولماذا لا تتحرك الحمية في قلوب بعضنا وقد انتهكت الحرمات ودُنست المقدسات وسالت الدماء؟
لابد أن الأمة قد وقعت في خطأ فادحٍ مهد الطريق لهذا الوضع.. فأمة الإسلام لا تهزم بقوة الكافرين ولكن تهزم بضعفها..
يلخص هذا الموقف حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان رضي الله عنه.. وفيه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحداث وكأنه يراها رأي العين.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يوشك الأممُ أن تَدَاعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها.. (أي يدعو بعضُها البعض ليأكلوا من أمة المسلمين) قال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنت يومئذ كثير (مليار وثلث مليار) ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل.. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم.. وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن.. قالوا وما الوهْن يا رسول الله قال: حبَ الدنيا وكراهية الموت..(1/1978)
هذا هو موطن الداء.. هذا هو الخطأ الفادح: حب الدنيا وكراهية الموت.. إذن مصيبة الأمة هي تعاظمُ حب الدنيا في قلوب المسلمين ومن أجل الدنيا يرضى المسلمون بالدنية في دينهم.. ولو هانت عليهم الدنيا لقويت شوكتهم وعز سلطانهم..
الدنيا كلما تعاظمت في النفوس قلت قيمة الآخرة عند الإنسان.. الدنيا كانت سببًا مباشراً لاحتلال فلسطين.. ولن تحرر فلسطين إلا إذا خرجت الدنيا من القلوب.. قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً..
إن وجدت صراعًا بين الأخوة, وتنافسًا على أشياء كان من الواجب أن يتعاونوا عليها..
إن وجدت موالاة لكافر على حساب مؤمن..
إن وجدت خيانة لأمانة ونقضًا لعهد وحربًا لفضيلة ونشرًا لإباحية وإنكارًا لمعروف..
إن وجدت تقديما لأهل الرذيلة وعلوًا لأهل الفسق والفجور وتأخيرًا للعلماء والفضلاء وسجنا وتعذيبًا للدعاة والمجاهدين..
إن وجدت الحبيبَ يترك حبيبَه، والولد يهملُ والديه، والحاكمَ يظلم شعبه والرجلَ يكره وطنه..
إن وجدت الأجساد هامدة والعقول خاملة والعزائم فاترة والغاياتِ تافهةً منحطة منحدرة..
إن وجدت كلَ هذا فاعلم إنها الدنيا، واعلم أن ذلك متبوع بهلكة والهلكة متبوعةٌ باستبدال.. وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
روى الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يضع أحدُكم إصبَعَه هذه (وأشار راوي الحديث إلى السَبابة) في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع".
من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نعيد ترتيب أوراقِنا وتنظيمَ حياتِنا وتعديلَ أهدافنا.. من هذا المنطلق لحجم الدنيا والآخرة نريد أن نصطلح مع ربنا.
نعم يا أخواني.. يطول الفراق أحيانًا بيننا وبين ربنا.. وهو سبحانه لا تضره معصية ولا تنفعُه طاعة.. نحن الذين نخسر ونحن الذين نفوز..
القضية يا أخوة ليست قضية فلسطين فقط.. القضية قضيةُ الأمة بأسرها.. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. قاعدة لا تتبدل ولا تتغير.
والله والله والله.. لن يتغير حالنا من ذِلةٍ إلى عزة, ومن ضعف إلى قوة, ومن هوان إلى تمكين, إلا إذا اصطلحنا مع ربنا, وطبقنا شرعه, وأخرجنا الدنيا من قلوبنا, وتبنا من ذنوبنا, وعظمت الجنةُ في عقولنا..
ساعتَها.. ستصبح كلُ حركة, وكل سكنة في حياتنا, دعمًا لقضية فلسطين..(1/1979)
من هذا المنظور يا أخوة ستصبح صلاتنا في جماعة وقراءتُنا للقرآن وذكرُنا وصيامنا يصبح كل ذلك دعمًا لفلسطين..
ويصبح بر الوالدين وصلة الرحم ورعاية الجار وحفظ الطريق وعون الملهوف يصبح كل ذلك دعما لفلسطين..
ويصبح غض البصر وحفظ الفرج وصيانة اللسان ووقاية السماع يصبح كل ذلك دعما لفلسطين..
وكذلك يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس الخير ودعوة الآخرين إلى الفضيلة يصبح كل ذلك دعما لفلسطين..
وكذلك تصبح محاربة الربا ومقاطعة الرشوة ونبذ الفرقة وترك المحرمات والبعد عن الشبهات يصبح كل ذلك دعمًا لفلسطين..
وهكذا تتحول حياتُنا - كلُ حياتِنا - لدعم فلسطين.. وغير فلسطين من أقطار الإسلام الجريحة.. يرفع الله عنا البلاء، ويكشف الضراء وتشرق الأرض بنور ربها..
كلمة أخيرة...
بعد هذه الرحلة السريعة في ربوع فلسطين..
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله..
دينك دينك لحمك دمك..
الله الله في إسلامك وشرعك..
الله الله في أهلك وأرضك..
اغضب لدينك أشد من غضبك لنفسك..
أذكر الله أشد من ذكرك لأبيك وقومِك..
احرص على أمتك أشد من حرصك على مالك وبيتك..
لا عذر لك أن خلص لفلسطين وفيك قلب ينبض, أو عين تطرف, أو نفس يتردد..
أخي في الله..
طريقنا طويل فلا تسيرن فيه بغير صحبة، وانتق من الناس من إذا رأيتَه ذكرك بالله..
لا تفتر أبدًا.. فرب فتورٍ لا يتبع بقيام..
ولا تركن فإن الماء الراكد يأسن ويتعفن..
ابدأ الساعة, واعمل حثيثًا, فرب نفس خرج ولا يعود، ورب دقةِ قلب لا تتبع بأخرى..
أخي في الله..
لا يكفي الألم فقط لتحرير الشعوب..
لا تكفي الدموع وأنت تشاهد الأطفال يقتلون, والمجاهدون يحاصرون, والأمهات يصرخن وينتحبن..(1/1980)
لا تكفي الدموع لتحرير فلسطين..
لابد من عمل.. وها قد عرضنا بعض الوسائل التي في مقدورنا جميعًا..
لا تعتذر بأنك لا تملك قراراً ولا سلطة.. ولا تقول لو كان في يدي لفعلت كذا وكذا.. أبداً.. أنت تملك أسبابًا كثيرة ولابد أن تعرف ذلك..
لا تنظر إلى فلسطين على أنها عبء على كاهلك.. وهمٌ في قلبك. أبدًا.. أنظر إليها على أنها "اختبار".. فلسطين اختبار من الله عز وجل لعباده المؤمنين.. وكل يوم وكل ساعة وكل ثانية تمر عليك هي جزء مر من الامتحان.. إحذر أن ينتهي عمرك ولم تكمل الإجابة.. لأن الموتى لا يعودون إلى يوم القيامة. لا تنشغل بمن باعوا وخانوا وبدلوا وغيروا.. عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، واعلم أن كل نفس بما كسبت رهينة..
حاسب نفسك كل يوم: ماذا عملت اليوم لفلسطين فإن وجدت خيرًا فاحمد الله, وإن وجدت غير ذلك فأسرع بالعمل قبل أن يأتي يوم لا عمل فيه.
بهذه البداية يا أخوة لن تكون نهايةُ فلسطين.
بهذه البداية لن تصبح فلسطينُ أندلسًا أخرى.
[فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
ــــــــــــــ
{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة }
أ.د. عبدالكريم بكار
خلق الله جل وعلا الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبتار ، ومن ثم فإنه جعل الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره ، والرخاء والشدة ، والخير والشر ، ليرى سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد ، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال ، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء : من الآية35] .
ولعلنا نقبس من نور هذه الآية المباركة في الوقفات التالية :
1- الناظر في النُظُم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر (الابتلاء) يقوم على (التشتيت بين المتقابلات) حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة الراهنة أو ما سماه القدماء بأدب الوقت إلى الإخفاق في الامتحان الذي يعني تحول الخير إلى شر أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور ، ولعلنا نميط اللثام عن هذا المعنى من خلال نموذجين اثنين :
(أ) يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي ، وهذا التماثل من الخير ولا ريب لأن البديل عنه هو الشقاق والاحتراب الداخلي لكن التجربة الاجتماعية أثبتت أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى انقسامه على نفسه ، حيث يتشوف أعضاؤه ولاسيما الصفوة منهم إلى النفاذ إلى واقع(1/1981)
المجتمع على نحوٍ منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر الاجتماعي ، ويجعل (التماهي) الظاهر عبارة عن شكل فارغ من المضمون ، فينتشر النفاق الاجتماعي والازدواجية في السلوك ، ومن ثم فإن المطلوب هو قدر من التنوع الاجتماعي واحترام الخصوصيات في إطار النظم الكبرى للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة .
(ب) حث الإسلام على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة ، ورتب في ذلك أحكاماً وآداباً عديدة ، والالتزام بها ورعايتها من الخير العظيم ، لكن ذلك لابد أن يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى لا تقل أهمية وحيوية من مثل احترام النظم التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع ، حيث لا يصح لعامل القرابة أن يمس العدالة الاجتماعية أو يضغط عليها ، الملحوظ أن ما تسمى بـ (سيادة القانون) لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور الحديثة إلا حيث اضمحلت العلاقات الأسرية والقرابية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية أما في المجتمعات الإسلامية حيث التواصل الأسري والعائلي أمتن وأفضل ، فإن من الملحوظ أنه يتم الكثير من التجاوز والتفلت من النظم العامة في سبيل إعطاء الأقرباء ما ليس لهم من مكتسبات ظناً أن في ذلك صلة للرحم ! لكن هذا يعني عدم النجاح في الابتلاء والتشتت بين المتقابلات ، إن إكرام الأقرباء لا ينبغي أن يتم على حساب الآخرين ولا بخرق النظام العام ، وإلا كان شراً وبلاءً .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن الإسلامي في تاريخنا الطويل كان نقل العرب من مرحلة (القبيلة) إلى مرحلة (الدولة) حيث يتم الفصل شبه الكامل بين العلاقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية ، ونجد إلى جانب هذا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلوك أصحابه الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال : يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئاً [1] وهو الذي قال : .... لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها [2] .
2- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعاً من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها ، وهذا يعني نوعاً من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه ، والذوبان فيه ، وذلك إنما يقع عند الغفلة عن (نواة) الابتلاء الكامنة فيه ، على نحو ما حدث من غفلة الرماة يوم أحد عن نواة الابتلاء في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالبقاء في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة ، فأدى ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح في مستهل المعركة إلى هزيمة ! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع المسلمين يستسلمون لمرارة الهزيمة ، ويغرقون في التلاوم والندم ، وإنما اندفع بهم إلى ساحة ابتلاء جديد بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو ! [3] .(1/1982)
ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الاستبصار وتقليب النظر في الحالة الراهنة خيرها وشرها ، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى ولادتها وتجسدها ، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة ، ونتصرف إلى اتجاهات سيرها وتطورها ، فإذا كان الابتلاء عبارة عن خير أي خير أصابه المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد على نفس الوتيرة التي كان عليها ، وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن ورث مالاً وفْراً وجب عليه أن يشكر الله على ذلك أولاً ، وأن يقوم ثانياً ببحث الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته ، حتى لا يشعر يوماً ما أن النعمة التي هبطت عليه لم يكن يستحقها ! .
وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه ، فإن النجاح في مواجهة ذلك الابتلاء لا يكون إلا بالخلاص مما اقترفت يداه ، وبذلك يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد : 11] .
وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر ، ويحاول أن يتجاوز ما هو فيه من بلاء بتحوله من (صالح) إلى (مصلح) لأن البلاء حين يعم بسبب انتشار الفساد لا يتأهل للنجاة منه إلا الذين يسعون إلى تحجيمه وتطهير المجتمع منه ، كما قال سبحانه : ] فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ [ الأعراف : 165] ، ولابد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة والمكاشفة والنقد المنصف البناء حتى لا تندغم الذات في الموضوع ، ونصبح كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح يجري وراءها مستسلماً لقوة اندفاعها .
3- إن مبدأ (الزوجية) ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات والموجودات ، وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع كذلك هو سبب في تحول حالات الرخاء والشدة ، ففي رحم كل رخاء (نواة) لمحنة ، كما أن في أحشاء كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله جل وعلا : { فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا } (الشرح : 5 ، 6) إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع الحالة الراهنة التي نعيشها في السياق التاريخي والسببي ، حتى يتبين لنا أنها ليست أكثر من حلقة في سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات .
إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع (الأحوال النهائية) في خير أو شر ، وإنما هناك دائماً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا التصرف بالإمكانات التي بين أيدينا ، وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تفجّر روح المقاومة والإصرار والعناد ، تلك الروح التي كثيراً ما تظل هاجعة خامدة إلى أن تأتيها صدمة قوية توقظها من سباتها ، وهكذا فالمطلوب دائماً أن نكون في الموقع الصحيح لمواجهة الابتلاء .(1/1983)
إن طبيعة الابتلاء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة ، والإنسان المبتلى يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا ...
4- تمتلك أمة الإسلام بحمد الله عدداً من المنظومات المعيارية والرمزية التي تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه الابتلاء فيها ، بل وتمكن الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم الإيجابيات والسلبيات في الواقع المعاش ، وهذه المعرفة تنظم أيضاً ردود أفعالنا على الطوارئ والوافدات الجديدة رفضاً ومدافعة وتعديلاً وتهذيباً وقبولاً وترحيباً ، وهذا يعني أن كل ابتلاء جديد لا يدخل في حياة الأمة (الحية) إلا بعد أن يمر بمصفاة قيمها ومبادئها و (عقيدتها الاجتماعية) [4] أيضاً ، وكلما كان وقع الابتلاء الجديد حاداً ومكشوفاً استطاع أن يستفز ردود أفعال الأمة عليه بصورة قوية وسريعة ، فظاهرة الردة الأولى كانت ابتلاء كبيراً جداً واجهته دولة الخلافة الوليدة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بالقوة والسرعة المكافئة ، لكن الابتلاء (المتدرج) الذي حصل بعد ذلك في صورة فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة وفق اتساع أمة الإسلام لم يستوفز الطاقات الكامنة في الأمة ، فلم تقم بواجبها تجاهه ، ولعل هذا يدفعنا إلى القول : إن أخطر ما يغيب الإحساس بالابتلاء على مستوى الفرد والجماعة معاً ليس الكوارث الكبرى ولا الجوائح العظيمة وإنما (التغيرات البطيئة) التي تدخل من أضيق المسام ، فتتكيف الأمة معها سلبياً على سبيل التدرج، وهذا ما حصل بالنسبة لأمة الإسلام وما حدث لدول عظمى في عصرنا الحديث ، فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها العالمي ، وبدأت الشيخوخة تدب في أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم يظهر إلا في الحرب العالمية الثانية .
ومن الطريف أن بعض علماء (الأحياء) جاءوا بضفدع ، ووضعوه في إناء وأوقدوا تحته ناراً هادئة ، فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء ، وكان المأمول أن يقفز الضفدع عندما يحسّ بسخونة الماء لكن حدوث التسخين على نحو بطيء أدى إلى أن يتحول (المحرّض) إلى (مخدّر) وكانت النتيجة أن الضفدع انسلق دون أن يبدي أية مقاومة !
وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون حاسة (الاستشعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الآوان ، ويقومون بما تستحقه من مواجهة وعمل ، وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله : الفتنة إذا أدبرت عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم .
وحتى ننجح في مواجهة الابتلاء (التغيرات البطيئة) فإن علينا أن نقوم بأمرين:
أ- الانشداد إلى الأصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير المستجدات على تلك الأصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي ترسخها ، وتجعلها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .(1/1984)
ب- المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا لا من خلال الحدس والتخمين والملاحظة العامة ، وإنما من خلال ( الرقم ) والأساليب الكمية ، حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة والمآلات الصائرة إليها ، وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة تنظيم حياتنا ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة قسماً أو موظفاً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو إحساس الناس ب (الكم) وطريقة قياسه ، وليس من المستفز اليوم ذلك التلازم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الإحصاء فيها .
إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله تعالى في كل حالة من أحواله ، ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين .
________________________
(1) أخرجه البخاري .
(2) أخرجه البخاري .
(3) انظر الرحيق المختوم : 318 .
(4) العقيدة الاجتماعية عبارة عن جماع المبادئ والمصالح ومركز التوازن بينهما .
ــــــــــــــ
أهمية الرمز في حياة البشر
د.ناصر الحنيني
الحمد لله واهب النعم ، ودافع النقم ، الحمد لله الذي خلق الخلق بقدرته ، فأحسن خلقهم ، وفاضل بينهم بعدله وحكمته ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في أسمائه وصفاته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله ، كان رحمة للعالمين وحجة على البشر أجمعين بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة حتى أتاه اليقين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأطهار ، نور الدجى ، وقدوة الورى ، وخير من وطيء الثرى بعد الأنبياء ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المسلمون : إن الله عزوجل قدر في الكون أن الصراع بين الحق والباطل ، وأن الأيام دول {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وجعل سبحانه لكل شيء ولكل نصر وغلبة سبباً ، فمن أخذ بأسباب النصر والغلبة حازه ولو كان من أصحاب الباطل .
وإن من الأسباب التي لها أثر على مر التاريخ ، لها أثر في النصر والهزيمة ، وفي التقدم والتأخر ، وفي التحضر والتخلف ، هم الرموز والأشخاص ، فالنصر لاينزل من السماء دون أن يحمله رجال ويقوم به أقوام ، وعلى قدر البذل والتضحية تكون النتيجة ، ولهذا أولى القرآن الرموز والأشخاص عناية واهتماماً خاصاً سواء الذي كان لهم أثر إيجابي كالأنبياء والصالحين ، أو الذين لهم أثر سلبي كرؤوس(1/1985)
الكفر والطغيان ، فالقرآن تحدث عن الأنبياء وبين أن الذين حملوا النور والهدى وأصلحوا وغيرو ا المجتمعات وقاوموا الفساد إنما هم أشخاص كانوا رموزاً معروفة بين أقوامهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }[الأنعام 90]، وبلغت العناية بهؤلاء الرموز في القرآن حتى سميت سور بأسماء هؤلاء الأنبياء وكررت قصصهم وذكرت جوانب من حياتهم وسيرتهم وصراعهم مع رموز الباطل وكيف قابلوا المكر والكيد الكبار ، فاقرأوا إن شئتم سورة نوح ، ويوسف وهود ومحمد وإبراهيم ، فموسى عليه السلام ذكرت قصته وتكررت في القرآن وفي كل مرة فيها من العبر والدروس ما لا يخطر على بال حتى نأخذ بهديهم ونقتدي بهم حتى ننتصر ونجو كما انتصروا ونجوا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
وإن أعظم رمز عرفه التاريخ هو حبيبنا وقدوتنا وقرة عيوننا محمد بن عبدالله المطلبي القرشي الهاشمي ،صلى الله عليه وسلم ، الصادق الأمين ، الرؤوف الرحيم بأمته ، كان قدوة للعالمين وحجة على البشر أجمعين إلى قيام الساعة هو رمزنا الذي نفاخر به الأمم في الدنيا وفي الآخرة ، خاتم الرسل وأفضلهم ، ومقدمهم وإمامهم ، هو الرمز الذي لا يمكن لا أحد أن يعرف النصر في الدنيا ولا النجاة والسعادة في الآخرة إلا من طريقه ، فوجه الأمة وحفظ الله لنا أقواله وأفعاله وسننه وأيامه وسيرته ومواقفه لتكون لنا نبراساً وهدى فما أعظم هذه النعمة علينا ، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة128]،إن أي أمة بغير رمز يكون لها هادياً وإماماً فهي كالقطيع الضال بلا راع تهيم على وجهها لا تعرف للسعادة والنعيم والطمأنينة طريقاً ، إن من رحمة الله بهذه الأمة أن أرسل إليها هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وحتى يبقى محمد بيننا حتى بعد موته حفظ الله لنا سنته وسيرته وأيامه فنحن نقلبها ونستفيد منها كاننا نعيش معه صلى الله عليه وسلم فنقلها إلينا خير رموز عرفتهم البشرية بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام البررة الأطهار الذين بلغوا لنا هذا الدين وأثنى عليهم وعدلهم وزكاهم رب العالمين {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }[الفتح29]،لقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أهمية الرمز بعد وفاته وأنه تحفظ بهم الأمم وبهم تقتدي حتى تنجوا وقت الفتن ، وحتى تسلم وقت المحن ، فكان يهيء أصحابه على هذا الأمر ويظهر اهتمامه بالقواد والرموز من بعده ، فكان يذكر ويعرض بمن يأتي من بعده ويأمر الأمة بالاقتداء بهم على وجه العموم }عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ { لأنه يعلم أن الأمة تحتاج إلى أهل علم وفقه وقت(1/1986)
الأزمات وقت النوائب والنوازل الحادثة فأوصى بمن يأتي بعده ، ولكن الرسول اهتم لهذا الأمر وصرح وقال كما جاء في الحديث الصحيح }اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر { ويأمر أبا بكر أن يصلى بالناس ، ويسمر ليناقش قضايا المسلمين مع ابي بكر وعمر ، كل هذا تهيئة لهذين الرمزين العظيمين من بعده ، حتى أصبح معروفاً مألوفاً حتى عند أعداء الدعوة من كفار قريش فيوم أحد بعد أن انتهت المعركة ينادي أبو سفيان وكان آنذاك زعيم المشركين وقال هل فيكم محمد ، وكان أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمات ، فأمرهم أن لا يجيبوه ثم قال هل فيكم أبوبكر فلم يجيبوه ، فقال هل فيكم عمر ، فقال عمر : أبقى الله ما يخزيك ياعدوا الله ،والشاهد من هذا أن الكفار يعرفون أن الرمزين اللذين برزا على غيرهما من الصحابة هما أبو بكر وعمر ، ولم توليا أمور المسلمين كانا خير خليفتين ثم جاء عثمان ثم علي واستمرت الأمة في عزها ونصرها رغم المحن ، ويشير النبي ويوصي امته إلى بعض الرموز فيقول عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه }إن أبنى هذا سيد وإن الله سيصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين { ويتحقق الوعد النبوي فيكون هذا الرمز الصالح هو الذي تنتهي على يديه أعظم فتنة في عصر الصحابة وهو الخلاف الذي حدث بين علي ومعاوية وسمي عام الجماعة ويتنازل هذا الرمز لأجل أن
ينقذ الأمة لمعاوية وهكذا تكون الرموز المؤثرة أنها تضحي بحظوظ نفسها لأجل غيرها ، ويستمر التاريخ ويظهر رمز يؤثر في البشرية أيضا إلى يومنا هذا عمر بن عبد العزيز ، ثم الصالحون والمجددون كل رمز في تخصصه القائد والملك والخليفة والعالم في العلم الشرعي أو العلم التجريبي ، ويكونون مشعل هداية ونور للأمة ، ولعل من أبرز الرموز التي كان لها أثر في التاريخ هم العلماء الذين حملوا أمانة العلم ، وصدعوا بالحق ووقفوا موقف الشجاعة والبطولة ولو خالفت أهواء ذي السلطان حتى يصل الدين صافيا نقيا إلى الأمة ، وكيف أنهم كانوا صمام الأمان وقت الأزمات ، فالأئمة الأربعة }أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل { حفظ الله بهم شريعة المسلمين وأحكام رب العالمين التي يتعبد الناس بها لله ، ووقفوا أمام الفتن في عقائد الناس وأديانهم كما صنع أحمد بن حنبل وقت المحنة ، ثم تتابع المصلحون والعلماء على مر العصور والقائمة طويلة .
أيها المسلمون : وكما أن رموز الخير والصلاح كان لهم أثر إيجابي على الأمة فنشير إلى الأثر السلبي لرموز الباطل ، فهذا فرعون الذي وصل به الطغيان إلى أن قال {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }[القصص38]،إن هذا الرمز بلغ من تأثيره أنه ألغى عقولهم فلم يعودوا يفكرون إلى أي هلكة سوف يودي بهم {فاستخف قومه فأطاعوه } وكذلك النمروذ بن كنعان ، وقارون ، هامان ، أبو لهب وأبو جهل ، كانوا رموز للطغيان ولضخ الحياة في الباطل حتى لا يتراجع ، لقد كان أثر هذه الرموز كبيراً سواء تأثير عن طريق المنصب السياسي أو من طريق المنصب العلمي ، أو من(1/1987)
خلال الوسائل الإعلامية ، ومن ضمن الوسائل الإعلامية القديمة والتي ما زالت مؤثرة الكتابة والتاأليف ، كم من مذاهب قامت وآمن بها الملايين وقامت لها دول وكانت في بدايتها فكرة ألف وكتب فيها وانتشرت وما فكرة الشيوعية والإلحاد عنا ببعيد.
أيها المسلمون : يجب أن لا نستهين بصناعة الرمز فهو عامل مؤثر في الأمة ، وعليه لابد أن نضع النقاط على الحروف من خلال الآتي :
أولاً: لا بد أن نساهم نحن المسلمين كل منا في موقعه في إبراز رموز الخير وسيرهم وجعلها قدوة للأجيال وخاصة الرموز التي حققت نجاحاً في حياتها وفي المجتمعات التي عاشت فيها فأعظم رمز يجب العناية به هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، وقبلهم الأنبياء الكرام ، ثم العلماء والمصلحون والمجددون .
ثانياً: إن أولى جهة بإبراز الرموز هي الجهات التعليمية والتربوية والعاملين فيها من موجهين ومشرفين ومعلمين فهم الذين سلمنا أبنائنا وأجيالنا بين أيديهم فأي الرموز التي سوف تكون قدوة لأجيالنا .ويلحق بهم المنزل وخاصة الوالدين .
ثالثاً: أن أخطر جهة تؤثر في كل شرائح المجتمعات هي وسائل الإعلام فهي التي تستطيع بالمؤثرات الصوتية والمرئية أن ترفع من شأن الرمز أو تخفضه ، تستطيع أن تصنع الرمز أو تتلفه ، ومن نظر نظرة عدل وإنصاف إلى وسائل إعلامنا العربي ليعجب أي رموز تمجد وتصنع ، هل تربي وسائل الإعلام الأمة على سيرة الأنبياء والصحابة والمجددين ، هل تذكر سيرهم وجهادهم وبطولتهم وتضحيتهم هل تبرز إبداع علماء المسلمين وحضارتهم وماضيهم المشرق ، لقد نجحت وسائل إعلامنا في إبراز رموز لكن رموز الشر والإفساد رموز الهزيمة والتخلف ، رموز اللهو واللعب ، رموز تعلمنا كيف نعيش عيشة الانحطاط والبهيمية فهنيئاً لنا بهذه الوسائل ، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المسلمون : ماذا نقول ، لقد فضحنا أمام الأمم ، في حين تحتفل الدول بإطلاق مركبة فضائية ، وتحتفل بصناعة نوع جديد من الأسلحة العابرة للقارات ، تحتفل بآخر رجل أمي في بلدها ، أمم تعيش هم المنافسة والسعي للسيطرة على العالم ، أمم تعيش لتصنع من أبنائها وشعوبها قادة للعالم ، في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية ، أمام هذه الأمم نحن نحتفل بأن هشام فاز في برنامج ستار أكاديمي ، هنيئاً للشعب السعودي شاب سعودي انتصر على البنات الناعمات فأصبح يغني ويرقص أحسن من تلك الناعمات ، استطاع أن يستعرض أما الراقصات ويغني أمام المغنيات هنيئاً لهذا الفتح ،(1/1988)
في وقت يعاني فيه شبابنا من البطالة ، من الضحالة في الفكر والتخلف نعاني من الفتن والقلاقل ، ونحتاج إلى من يطفئ النار وإعلامنا يوقد النار فيها ، نحتاج إلى من يعلم أبنائنا كيف الجد في التحصيل والدراسة كيف يكون جاداً في العمل كيف يكون صبوراً قنوعاً له ولاء لوطنه وشعبه وأمته ، في وقت والحرب مستعرة على حدودنا في العراق وفي فلسطين وإعلامنا يبرز لنا قدوات في الغناء والرقص يبرز لنا رموز يتربى عليها الشباب والأطفال ، ياقومنا أليس منكم رجل رشيد ، ياأرباب المال يا من تمولون القنوات الفضائية لقد أصبحنا أضحوكة للناس في كل العالم لقد آذيتمونا في ديننا وفي هويتنا وها أنتم تصنعون لنا رموزاً وقدوات يرسخوا فينا العجز والهزيمة والميوعة والليونة في وقت نحن أشد من نحتاج إلى الرجولة والفحولة وإلى أسباب النصر والغلبة .
أيها الآباء الكرام والأمهات الفاضلات : أنا لا ألوم تلك الفتاة الطائشة المراهقة ولا ذلك الطفل السفيه أنا ألوم ذلك الرجل صاحب العقل والرجاحة الذي يدفع من حر ماله لكي نصوت لهشام الرقاص تدفع الآلاف ، وتعلق صوره على صدور بناتنا ويستقبل استقبال الأبطال أهذه الأمانة التي حملكها الله أيها الأب الكريم وأنت ياأيتها الأم الفاضلة .( كلكلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ).
أيها المعلم الفاضل والمعلمة الفاضلة : ليكن لك دور فأبناونا وبناتنا بين أيديكم قولوا لهم إن هؤلاء لا يمثلون الأمة ولا يمثلون دينها ولا هويتها علموهم وأرضعوهم بغض هذه الرموز النكرة الفاسدة المفسدة ورسخوا في قلوبهم وعقولهم رموز الخير رموز البطولة والرجولة والإبداع رموز الحضارة وصناع الرأي والحكمة في تاريخ الأمة .
إلى كل مسؤول وإعلامي لا تساهموا في هزيمة الأمة نحن بحاجة إلى جيل النصر جيل القوة جيل العزة حتى نسلك طريق النجاة إن هذه خيانة للأمانة التي أنيطت بكم فيا صاحب القلم السيال ساهم في رفع مستوى وعي الأمة ويا مقدم البرامج وياصاحب الكلمة في الإذاعة وياصاحب المال ساهموا في أبراز رموز الحضارة الحقيقية الذين بهم يصنع النصر وتقوم الأمة من كبوتهم .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذلك فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ياسميع الدعاء .
- - - - - - - - - - - - - - -(1/1989)
الفهرس العام
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1990)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1991)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.(1/1992)
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
خطأ! مرجع الارتباط التشعبي غير صالح.
83- ... التحرر من الدينونة لغير الله : ... 494
84- ... الأخذ بفقه الحركة لا فقه الأوراق : ... 509
85- ... من صفات جيل النصر المنشود : ... 523
86- ... لا بد من الفتنة : ... 539
87- ... الصبر لحكم الله : ... 543
88- ... التطلع إلى ما عند الله دون سواه : ... 545
89- ... التسبيح والاستغفار قبل وبعد النصر : ... 549
90- ... تحمل المشاق في سبيل الله : ... 552
الباب الرابع ... 555
عوامل الهزيمة الخاصة في القرآن والسنة ... 555
1. ... الانحراف عن الصراط المستقيم: ... 555
2. ... عدمُ الإنفاق في سبيل الله : ... 557
3. ... أكلُ الربا : ... 563(1/1993)
4. ... انتشارُ الربا والزنا : ... 569
5. ... الركونُ إلى الدنيا: ... 570
6. ... حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت: ... 574
7. ... إيثارُ الدنيا ومتاعها الزائل على الآخرة : ... 576
8. ... الركونُ إلى الظالمين: ... 578
9. ... تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر : ... 579
10. ... الترف: ... 590
11. ... عدمُ الإنابة إلى الله : ... 594
12. ... ارتكابُ خمس فواحش : ... 595
13. ... تركُ الجهاد في سبيل الله : ... 597
14. ... الهزيمةُ النفسيةُ ... 605
15. ... ارتكاب المعاصي التي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً: ... 610
16. ... التنازعُ والخصامُ على الدنيا والعلو في الأرض: ... 611
17. ... أن يكون بأسنا بيننا : ... 613
18. ... الغفلةُ عن أسلحتنا وأمتعتنا : ... 615
19. ... تولي الكفار والثقة بوعودهم : ... 616
20. ... تولي المنافقين والتهاون معهم : ... 622
21. ... الظلمُ بكل أشكاله : ... 629
22. ... كثرةُ الفساد والإفساد : ... 631
لا ينجو من عذاب الله إلا الذين كانوا ينهون عن الفساد ... 636
23. ... كثرةُ الذنوب و المعاصي : ... 637
24. ... السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ... 644
25. ... اتباعُ الشهوات : ... 648
26. ... التحاكمُ إلى الطاغوت (مهما كان نوعه ) : ... 650
27. ... التقدمُ على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقول أو فعل : ... 657
28. ... عدمُ تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شئون حياتنا : ... 659
29. ... تولي أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والفجار ... 660
30. ... تولي اليهود والنصارى : ... 661
31. ... عدمُ تحكيم شرع الله تعالى في شئون حياتنا : ... 664
32. ... الإيمانُ ببعض الكتاب والكفرُ ببعضٍ : ... 675
33. ... تضييعُ الأمانة : ... 677
34. ... الغلولُ : ... 677(1/1994)
35. ... التلاعب بإقامة الحدود أو تركها : ... 680
36. ... عدمُ التراحم : ... 685
37. ... نقضُ العهود والمواثيق : ... 686
38. ... الغدرُ : ... 692
39. ... الخيانةُ : ... 694
40. ... إيثارُ حب ِّ الأشياء على حب الله ورسوله ... 698
41. ... الأمرُ بالمنكر والنهي عن المعروف ... 700
42. ... الاستهزاءُ بدين الله أو رسله : ... 702
43. ... الجحودُ بآيات الله تعالى : ... 705
44. ... البطرُ في المعيشةِ : ... 709
45. ... الكفرُ بآيات الله وقتل النبيين بغير حق ... 711
46. ... الفشلُ والتنازعُ في الأمر ... 713
47. ... عدم شكر النعم ولاسيما بعد النصر : ... 715
48. ... الاغترار بالعدد والعدة : ... 719
البابُ الخامس ... 724
النصر قادم بإذن الله تعالى ... 724
1- المستقبلُ لهذا الدين : ... 724
2 . من معاني النصر الحقيقية : ... 728
3. لماذا يبطئ النصر ؟ ... 744
4. النصر له ثمن باهظ : ... 746
الباب السادس ... 749
تصحيح مفاهيم خاطئة في صراعنا مع اليهود والنصارى ... 749
1. ... الصراع ديني وليس سياسيا ... 749
2. ... أشد الناس علينا : ... 749
3. ... حريصون على إضلالنا : ... 760
4. ... حريصون على كفرنا : ... 764
5. ... حريصون على فتنتنا : ... 773
6. ... نقضهم العهود المواثيق : ... 775
7. ... يريدون منا اتباع الشهوات : ... 788
8. ... يريدون منا اتباع سبيلهم : ... 789
9. ... حقدهم وحسدهم لنا : ... 789
10. ... ولأننا مأمورون بقتالهم : ... 800(1/1995)
11. ... معركتنا مع اليهود : ... 808
12. ... الصراع بيننا وبينهم حتى قيام الساعة : ... 818
13 - لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا : ... 819
14 - لا قيمة لأموالهم ولا أولادهم عند الله : ... 822
15 - عدم الاغترار بتقلب الكافرين في البلاد : ... 826
16 - هلاك الظالمين والمجرمين والطغاة عبر التاريخ : ... 828
الباب السابع ... 836
بحوث ومقالات حول أسباب النصر والهزيمة ... 836
معيار النصر ... 836
يوم النصر للمجاهدين الأفغان ... 836
في مقدمات النصر القادم ... 840
أسباب النصر وأسباب الهزيمة ... 843
الانتفاضة وبشائر النصر ... 846
النصر الموعود ... 857
سبيل الوحدة وطريق النصر ... 862
تعريف المسلمين بسبيل النصر والتمكين ... 868
أسباب النصر والتمكين ... 874
طريق النصر ... 878
فعليكم النصر ... 884
السبيل إلى النصر والتمكين ... 888
من معاني النصر ... 893
النصر من الله وحده ... 901
حِكم تأخر النصر ... 905
شهر النصر ... 909
التوكل على الله سبيل النصر ... 914
يوم النصر العظيم وفضل يوم عاشوراء ... 918
النصر أسبابه ومقوماته ... 925
لماذا يتأخر النصر؟! ... 929
بشائر النصر في فلسطين ... 934
خواطر حول النصر والهزيمة ... 938
وما النصر إلا من عند الله ... 942
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله ... 947(1/1996)
أسباب النصر وأسباب الهزيمة من خلال سورة الأنفال ... 950
أسباب النصر وأصول التمكين ... 954
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي ... 961
أسباب النصر ... 973
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء ... 975
أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة ... 981
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة ... 982
التمكين وتأويل الأحاديث ... 985
الجهاد في سبيل الله فضله ومراتبه وأسباب النصر على الأعداء ... 988
الخوف من الله ..وجيل النصر ... 998
بوابة النصر الانتصار على النفس 26/7/1425 ... 1003
بوابة النصر ... 1006
تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم ... 1014
حَقِيقَةُ الْنَّصْرِ ... 1016
ذكر الله تعالى ...وجيل النصر المنشود ... 1020
شروط النصر ... 1025
شَوْقُ الجهَاد وجلاَلُ النَّصر ... 1029
عاشوراء يوم النصر العظيم ... 1031
مؤهلات النصر في جيل الصحابة ... 1037
من فقه الأولين النصر ساعة صبر !! ... 1041
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي ... 1042
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ... 1054
النصر مع الصبر والفرج مع الشدة ... 1063
بلاد الشام ... بين قدسية الأرض وأسباب النصر ... 1067
بوابة النصر ... 1072
لماذا يتأخر النصر ؟ ... 1080
النصر والتمكين في يوم عاشوراء ... 1104
النصر الحقيقي ... 1110
بشائر النصر لهذا الدين ... 1115
بشائر النصر في فلسطين ... 1117
التوكل على الله سبيل النصر ... 1120
شهر النصر ... 1124(1/1997)
معيار النصر ... 1129
بشائر النصر لهذا الدين ... 1130
واقع العراق وأثر النفاق في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين ... 1132
النصر بيد الله وحده ... 1145
سيأتينا النصر عندما تتوفر شروطه في واقعنا ... 1146
شَوْقُ الجهَاد وجلاَلُ النَّصر ... 1155
وما النصر إلا من عند الله ... 1157
مقوّمات النصر ... 1161
من أسباب النصر ... 1164
الصراع بين المسلمين واليهود وحتمية النصر عليهم ... 1165
الحكمة من استنصار النبي ربه يوم بدر مع تحققه من النصر ... 1166
شروط النصر والتمكين للمسلمين ... 1166
النصر ليس مرتبطا بظهور المهدي ... 1168
التمسك بالقرآن وتحقيق النصر ... 1169
استعجال النصر.. الجائز والممنوع ... 1171
طريق النصر على الشيطان والهوى ... 1171
علامات النصر والتمكين ... 1173
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة ... 1174
مؤتمر القمة الإسلامي وعوامل النصر (1) ... 1178
المجلس العشرون : في أسباب النصر الحقيقية ... 1183
أسباب النصر ... 1186
القادم صعب و النصر حتمي و ما أحوجنا إلى الصبر ... 1193
ووجدتُ من يؤخر النصر عن المسلمين !! ... 1195
حتى نستحق النصر ... 1197
أخلاق النصر عند المسلمين كما يحكيها راهب [سنت دنيس] ... 1200
الصوم.. وتربية الأمة على النصر ... 1201
بناء الأمم دعائم النهضة ومعالم النصر ... 1206
بشائر النصر ... 1208
الإيمان والثقة بالله والصبر أقوى أسباب النصر ... 1210
الانتفاضة شعلة النصر وبوابة الاستقلال ... 1215
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ... 1218
الجهاد طريق النصر ... 1227(1/1998)
رمضان شهر النصر ... 1228
مؤهلات النصر والتمكين ... 1230
انهيار “ إسرائيل ” لا يكفي لتحقيق النصر ... 1232
عوامل النصر في القرآن الكريم ... 1235
رياح النصر هبت من الفلوجة ... 1248
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله ... 1257
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله ... 1261
أسرى فلسطين .. وثمن النصر ... 1264
حتى لا يتأخر النصر ... 1265
نعم النصر قريب .. لكن في أي اتجاه ؟!! ... 1266
دور الإعلام في النصر والهزيمة ... 1272
يوم النصر العظيم ... 1275
قرار صائب ثم يأتي النصر ... 1281
التوكل على الله سبيل النصر ... 1283
الفلوجة وحلاوة النصر ... 1286
كيف يتحقق النصر ؟ ... 1288
بشائر النصر ... 1289
النصر القادم ... 1295
سبيل الوحدة وطريق النصر ... 1295
القدس في الذاكرة حتى النصر ... 1301
النصر أسبابه ومقوماته ... 1303
أختاه..حتى تكوني من أسباب النصر ... 1307
الكتاب والسنة مرجع المسلمين ومصدر النصر ... 1309
مفاهيم قرآنية لأسباب النصر (2/1) ... 1311
خطه النصر ... 1324
أسباب النصر والتمكين ... بشرى للمؤمنين ... 1329
أسباب النصر ... 1331
إذا سب الرسول فانتظر النصر المأمون ... 1335
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى ... 1340
الحُلولُ الإسلاميَّةُ للقضية الفلسطينية ... 1344
أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم ... 1359
وما النصر إلا من عند الله ... 1360(1/1999)
الهزيمة النفسية ... 1364
أسباب الهزيمة وعوامل النصر: الطاعة والمعصية ... 1366
متى... متى... متى... متى النصر؟ ... 1368
عوامل النصر في المعارك الإسلامية ... 1373
وقفات مع آيات النصر في كتاب الله ... 1380
متى نصر الله؟ ... 1383
ولكنكم تستعجلون ... 1386
لايغُرَّنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد ... 1389
ألا إن نصر الله قريب ... 1392
تأخير نصر الدين ... 1397
خطوات على طريق الفلوجة ... 1403
أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ... 1404
غزة تحت الحصار القرشي!! ... 1406
ومتى فقناهم عددا أو عدة؟ ... 1409
غزة ألم وأمل ... 1420
من يبلغ عني أهل الجهاد في العراق ؟! ... 1425
دور العقيدة الإسلامية في صياغة الشخصية ... 1428
كيف انتصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ... 1433
سقوط بغداد أم سقوط أخلاق؟!!! ... 1437
دروس مستفادة مما حصل في العراق (*) ... 1438
الطاعة طريق العزة والتمكين ... 1443
وتلك الأيام نداولها بين الناس ... 1446
وقام صائحهم بأعلو هبل( العصر).. ألا نجيب..؟؟؟ ... 1452
تأملات قرآنية ( متى نصر الله ؟ ) ... 1456
آداب الجهاد بعد انتهاء المعركة ... 1457
من أسباب نصر ونجاة الأمة ... 1469
دور العلماء ورجال الحسبة في الانتصار العسكري والسياسي والحضاري ... 1480
جهاد فلسطين . . أمال عظيمة رغم الألام الجسيمة ... 1483
القيادات الانهزامية في ضوء القرآن ... 1495
لا لليأس والإحباط ... 1501
لماذا لا ننتصر؟! ... 1506
خطوات مهمة لكشف الغمة ... 1516(1/2000)
التمحيص طريق التمكين ... 1526
أثر الدعاء في نصرة المجاهدين ... 1528
{ وإن جندنا لهم الغالبون } ... 1539
أمة لن تموت ... 1543
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } [*] ... 1564
كيف نغير ما بأنفسنا ؟ ... 1568
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ... 1575
فن استجلاب معية الله ... 1582
فلنعد قبل أن تأتينا الطامات وتحل علينا العقوبات! ... 1585
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا !! ... 1588
بين المقاومة والمهادنة ... 1593
الهزيمة في معركة أحد ... 1598
لا يأس مع الهزيمة ... 1602
فقه الهزيمة والنصر ... 1606
سنة الهزيمة والنصر ... 1611
المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية ... 1615
مَعْرِض الهزيمة ... 1617
الهزيمة عقوبة ... 1617
أسباب الهزيمة الموجودة في الأمة ... 1618
النفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة ... 1620
صفاً! لهزيمة التطبيع.. لا تطبيع الهزيمة ... 1625
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق ... 1639
الهزيمة النفسية .. وفقه المرحلة ... 1667
بشائر الهزيمة الأمريكية ... 1680
لغة الهزيمة ... 1686
استراتيجية بوش: استثمار عوامل الهزيمة ... 1687
استراتيجية تقزيم الهزيمة ... 1693
فصول الهزيمة الأمريكية في العراق ... 1696
الهزيمة في العراق أم في أفغانستان: أيها أخطر على أمريكا؟! ... 1704
إضاءات في الهزيمة النفسية ... 1706
ثقافة الهزيمة إلى مزبلة التاريخ ... 1709
.مظاهر الهزيمة النفسية في مجال الفكر ... 1713(1/2001)
من وحي الهزيمة ... 1715
نشوة الهزيمة ... 1721
المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية ... ... 1724
الهزيمة والخزي مصير الخائنين ... 1731
الهزيمة التفسية ... 1733
مهلا يا دعاة الهزيمة ... 1746
الرد على حكماء الهزيمة ... 1761
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا ... 1765
خاطرة ((أفراح الهزيمة)) ... 1789
غبار الهزيمة ... 1791
حوار.. على ضفاف الهزيمة ... 1792
نحن أمة لا تعرف الهزيمة ... 1795
نشوة الهزيمة ... 1797
غبار الهزيمة ... 1799
إذ تمسي ثقافة الهزيمة جزءً من ثقافتنا الوطنية ... 1800
الرد على حكماء الهزيمة ... 1803
الإسلام : أمل فلسطين بعد عشرين عاما على الهزيمة ... 1807
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق (1 - 2 ) ... 1838
الهزيمة النفسية بدور تحفيظ القرآن الكريم ... 1865
الهزيمة النفسية .. وفقه المرحلة ... 1867
الهزيمة في معركة أحد ... 1881
بشائر الهزيمة الأمريكية آيات وتحديات ( 2 ـ 2 ) ... 1884
الهزيمة والخزي مصير الخائنين ... 1896
الهزيمة واضحة ورامسفيلد لا يزال يكذب ... 1898
الهزيمة تحدق بأمريكا وإن فاز الديموقراطيون ... 1900
تحضيرات ما بعد الهزيمة الأمريكية ... 1902
استراتيجية تقزيم الهزيمة ... 1904
بشائر الهزيمة الأمريكية وتحديات ما بعد أمريكا ... 1908
بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج ... 1912
العراق: الهزيمة النفسية تطارد المحتل ... 1914
الهزيمة النفسية ... 1918
كيف دخل الإنكليز على مصر ... 1921(1/2002)
علم يهدي وسيف ينصر ... 1943
الدروس والعبر المستفادة من رمي اليهود بالحجر ... 1947
من سيد قطب إلى أبطال "غزة" الصامدين ... 1956
هزيمتنا في العراق .. في إطارها الصحيح ... 1961
لن تضيع فلسطين .. كيف ... 1968
{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ... 1981
أهمية الرمز في حياة البشر ... 1985(1/2003)