وهذه الصفات تفيد استطاعتهم على المحافظة على النصر والقدرة على إقامة شرع الله في الأرض بما يملكون من مقومات تؤهلهم للاستمرار في التمكين في الأرض؛ وذلك يشمل الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
إن استعلاء هؤلاء على شهواتهم وأهوائهم؛ حيث شكروا نعمة الله فأقاموا شرعه مع قدرتهم على مخالفة أمر الله من غير خوف من أحد من البشر؛ حيث إنهم ممكنون في الأرض ليدل دلالة واضحة على أن نفوسهم بلغت من الصلاح والتقوى مبلغاً عظيماً جعلهم ذلك ينشطون في نصرة دين الله أولاً، ويتحملون أعباء النصر وتكاليفه ثانياً، وهذا لا شك في أنه لا بد أن يسبقه تربية طويلة ومرور على أحوال من الدهر وصروف تظهر الصادق الصابر من غيره، ولعل هذا ما يلمح من قول الله - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. فابتلوا من قبل أن يمكنوا، فمسهم الفقر والشدة والمرض(2)، وزلزلوا بما تفيده هذه الكلمة من شدة التحريك والاضطراب؛ فهم قد خُوِّفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً(3)، وقلبوا من كل جانب، وطالت عليهم هذه الأيام حتى بلغ بهم الحال أن قال الرسول والذين آمنوا معه: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟ فأخبرهم أن نصره قريب من هذه الفئة التى ثبتت على الشدائد والمحن، وهي التي تَقْدُر للنصر قَدْرَه بعد أن يمكنها الله في الأرض لا من يأتيه النصر وهو متكئ على أريكته لم يبذل من أجله شيئاً، أو بذل شيئاً يسيراً؛ فما أسرع ما يفرط فيه. وإذا استمر المسلمون على إقامة دين الله بعد النصر فإن الله يكفيهم أعداءهم ويظهرهم عليهم فما هم بمعجزين؛ وهذا ما يدل عليه ترتيب الأيات في سورة النور(4). قال الله - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 55 - 57]. فإن تكاسل المسلمون عن إقامة الدين وفرطوا وأهملوا التكاليف فإن {لِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} يصرِّفها كيف يشاء، فيبدل النصر هزيمة(5)، والأمن خوفاً، والعز ذلاً.
العامل الخامس: حسن التعامل مع الهزيمة يحولها نصراً، ويشمل عدة أسباب:
فقد حكى عن أصحاب ذلك النبي لما قاتل ومن معه فهزموا فكان موقفهم من الحدث موقفاً صحيحاً حوّل هزيمتهم إلى نصر وعزة. قال الله - تعالى -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن(1/1241)
قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148].
إن هذه الأيات ترسم الموقف الشرعي لتعامل المسلم مع الهزيمة حتى تتحول نصراً بإذن الله؛ وذلك لأمور:
1 - أنها موقف رِبيّين وهم المتبعون لشريعة الرب، وهم أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء(1).
2 - أن هذه الأيات ذكرت خلال الحديث عن غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها؛ ففيها إشارة للمسلمين أن يسلكوا مسلكهم حين أصيبوا.
3 - أن الله أثابهم على موقفهم هذا بالنصر والعزة والغنيمة {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ}.
4 - أن الله وصف فعلهم بالإحسان {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
أما الموقف الذي اتخذوه فهو من خلال الآيات، ويتمثل فيما يلي:
1 - الحذر من الوهن والضعف والاستكانة (لأن المؤمن يركن إلى من بيده ملكوت السموات والأرض)(2)، كما قال الله عنهم: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. (الوهن قلة القدرة على العمل وعلى النهوض في الأمر، والضعف ضد القوة في البدن وهما هنا مجازان؛ فالأول أقرب إلى خَوَر العزيمة ودبيب اليأس في النفوس والفكر، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة. وأما الاستكانة فهي الخضوع والمذلة للعدو. ومن اللطائف ترتيبها في الذكر على حسب ترتيبها في الحصول: فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء وجاء الاستسلام فتبعته المذلة والخضوع للعدو)(3).
إن المؤمن لا ينبغي أن يَهِن ولا يحزن ولا يضعف ولا يستكين؛ إذ كيف يهن وهو الأعلى بإيمانه وعزته وعون ربه له؟ {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وكيف يهن ويحزن لما أصابه وقد أصاب الكفار في وقائع أخرى مثل ما أصابه أو أكثر؟ {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140]. {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165]. فقد أصابتهم مثل ما أصابهم أو أزيد، والفرق بين المؤمنين والكافرين فيما أصابهم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104]. وكيف يهن المسلم ويحزن وهو يعلم أن انتصار الكفار على المؤمنين في بعض الأحيان سُنَّة ماضية، لله فيها حكمة بالغة والعاقبة للمتقين؟ {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142]. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. إن الهزيمة النفسية تفعل في(1/1242)
الأمة أشد من فعل أعدائها بها، وهو ما تعاني منه الأمة الإسلام ية اليوم. نسأل الله أن يهيئ لها من أمرها رشداً.
2 - الصبر الجميل كما قال الله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. وقد سبق الكلام عليه.
3 - مراجعة النفس ومحاسبتها على تقصيرها في حق الله - تعالى - أو في الأخذ بأسباب النصر المادية {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]. فمع هزيمتهم ومصيبتهم لم يبدر منهم تردد في صدقه وعدالته؛ بل كانوا واثقين به موقنين بتأييده، وإنما تخلف عنهم لعلّة، فاتهموا انفسهم بالتقصير في حق الله {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}(4) [آل عمران: 147].
إن المعاصي سبب لخذلان الله للعبد أحوج ما يكون إليه {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]. وقد عاقبهم الله ببعض ما كسبوا؛ فكيف لو عاقبهم به كله؟ {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [آل عمران: 165].
إن الطاعة سبب لتثبيت الله - تعالى - لعبده في المواقف الدنيوية والأخروية {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. إن اصلاح النفس من أهم مقومات النصر، ولذا جاء الحديث عنه في وسط الآيات التي تتحدث عن غزوة بدر؛ فكأنه إشارة إلى أن سبب نصرهم في بدر إنما هو طاعة الله باتباع أمره واجتناب نهيه. قال الله - تعالى - في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ(1/1243)
عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 20 - 30].
والتقصير الذي اعترف به هؤلاء الربيون يحتمل أنه مع التقصير في حق الله تقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال والاستعداد له أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة أمر في قوله: {وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]. بأن يكونوا شكوا ان يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئاً عن سببين: باطن، وظاهر. فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر؛ وهذا أوْلى من قصره على السبب الأول فقط)(1) لدلالة الأية على الأمرين لا لنقص أهمية السبب الأول.
4 - الدعاء والالتجاء إلى الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147]. وهذا شأن المؤمنين يلتجئون إلى ربهم، ويتضرعون إليه يستنزلون نصره ومدده؛ فلا حول ولا قوة لهم إلا به - تعالى -: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 249 - 250]. وهو ما فعله المؤمنون في بدر فاستجاب لهم {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]. وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل معركة بدر في العريش يناجي ربه طويلاً حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وما أحوج الأمة اليوم في ظل المحنة التي تعيشها أن تسلك هذا الهدي النبوي؛ فتجأر إلى ربها وتلجأ إليه معلنة فقرها وضعفها بين يديه علّ نظرة رحمة منه تدركنا فترفع غُمّتنا، وتزيل كربتنا.
العامل السادس: عدم موالاة الكفار والركون إليهم:
قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149 - 150]. هاتان الآيتان جاءتا خلال الحديث عن غزوة أحد لتحذر المسلمين من التفكير في موالاة الكفار والركون إليهم سواء كانوا كفاراً مظهرين لكفرهم أو كانوا منافقين(2)؛ فمهما اشتد الكرب وعظمت المصيبة فلا يجوز للمسلمين أن يمدوا أيديهم إلى الكفار راكنين إليهم؛ فإن العاقبة وخيمة: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} خسارة الدنيا. وإن بعض النفوس الضعيفة عند الهزيمة قد تتطلع إلى ما عند الكفار تتلمس العزة عندهم؛ فمن كان حاله كذلك فليتذكر: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}، ولعل في التاريخ خير شاهد فيما جرى لمسلمي الأندلس حين أطاعوا النصارى ووالوهم وركنوا إليهم.(1/1244)
العامل السابع: اجتماع الكلمة:
إن تفرق الكلمة سبب للفشل وذهاب القوة والهيبة من نفوس الأعداء {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. بل قد يحول النصر إلى هزيمة {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]. إننا اليوم في أشد الحاجة إلى جمع الكلمة ورص الصفوف، واستثمار كافة الطاقات، ونبذ كل فرقة بنيت على خلاف اجتهادي، أو على خلاف قطعي لا يخرج عن ملة الإسلام لدفع عدد أكبر يريد إهلاك الحرث والنسل، ما أحوجنا إلى ترك بُنيات الطريق(*). والله المستعان.
العامل الثامن: الإيمان الكامل بالله - تعالى -:
وهذا هو جماع الأسباب كلها فهو إذا تحقق فلا بد أن تأتي أسباب النصر الأخرى له تبعاً، ولذا وعد الله المؤمنين في أكثر من موضع في كتابه بالنصر والتمكين والاستخلاف {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] إنه الإيمان المقتضي للعبودية التامة لله - تعالى - والدخول في السلم كافة. (إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستفرق النشاط الانساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله؛ فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله، لا يبغي به صاحبه الا وجه الله - تعالى -، وهي طاعة الله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة ألا وهو يستغرق الإنسان كله.. وخلجات قلبه وأشواق روحه وميول فطرته وحركات جسمه ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس أجمعين.. يتوجه بهذا كله إلى الله)(**). وحينئذ يتحقق وعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55].
العامل التاسع: العمل بالأسباب المادية:
تأمل معي قول اله - تعالى -: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 59 - 60]. ففي الأية الأولى توهين بشأن المشركين مهما بلغت قوتهم وإعداداتهم وإمكانياتهم، لكن الله أعقبها بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. حتى لا يظن ظان من المسلمين أن الكفار صاروا في قبضتهم من غير عمل ولا أخذ بالأسباب، بل لا بد من ذلك، ويكون هذا العمل وهذا الاحتراس هو سبب جعل الله الكافرين لا يعجزون(1).(1/1245)
وجاء في لفظ الآية «ما استطعتم» ليشمل كل إعداد مقدور عليه ويلزم منه استفراغ الجهد والطاقة سواء كان جهداً بدنياً أو عقلياً أو غيره في سبيل الإعداد.
كما جاء في لفظ الآية «من قوة» فهي نكرة في سياق الإثبات، فتقيد العموم لتشمل كل قوة نافعة في الجهاد في سبيل الله وإرهاب أعدائه. ومن ذلك القوة العسكرية بكل صورها المعاصرة، والقوة السياسية، وقوة الرأي(2)، والقوة الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، والتقنية، وغيرها.
وفي الأية إشارة ـ والله أعلم ـ إلى أن المكانة بين الدول، وهيبة الجانب، واعتبار الرأي في المؤتمرات الدولية؛ لا يكون إلا إذا استندت الدولة الإسلام ية إلى القوة في بنائها بكل صورها السابقة كما يفيد ترتيب الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} وتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - للقوة بأنها الرمي ثلاثاً كما رواه مسلم(3) معناه: (أكمل أفراد القوة آلة الرمي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي)(4).
ولما كان هذا الإعداد للقوة يستلزم بذل الجهد والوقت والمال، وبذل المجهود البدنية والعقلية والنفسية وغيرها، وكانت النفوس بطبعها شحيحة مؤثرة لهواها ومصالحها الشخصية ذكّرهم الله بقوله في آخر الآية: {ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} فكل شيء محفوظ وإن صغر ودق، وقوله (شيء) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم لتشمل كل شيء مالاً كان او وقتاً أو علماً.. صغيراً كان أو كبيراً. نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه.
ومع بذل المسلم لهذه الأسباب يجب أن يتعلق قلبه بالله - تعالى -؛ فالأمور بيده يصرِّفها كيف يشاء {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. {إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
إن الأسباب مهما بلغت مكانتها تبقى في دائرة الأسباب فلا يتعلق القلب بها، بل يتعلق بالله - تعالى - الذي له ملك السموات والأرض، ولقد أكد الله على هذه الحقيقة عند ذكره لإمداد المسلمين في غزوة بدر بالملائكة: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10]. فالملائكة ما هم إلا سبب، ويجب ألا تتعلق القلوب بهم، بل تتعلق بالناصر الحقيقي وهو الله - تعالى -. ولعل هذا من حكم مشروعية ذكر الله عند ملاقاة العدو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
ولما ركن المسلمون إلى بعض الأسباب المادية في غزوة حنين فأعجبوا بكثرتهم خذلهم الله، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين حتى تداركهم الله برحمة منه(1/1246)
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم اجعلنا ممن نصرك فنصرته، اللهم مكّن لعبادك المؤمنين في الأرض يا قوي يا عزيز!
----------------------------------------
(1) أخرجه أحمد مسند الشاميين، رقم (16344).
(1) فتح القدير (2/359).
(2) قال الشوكاني: اتقوا موالاتهم أو ما حرم الله عليهم (1/376). ويرى الظاهري بن عاشور أن معناها الحذر: أي اتقوا كيدهم وخداعهم. التحرير والتنوير (4/68) فيكون من باب الأخذ بالأسباب، وسيأتي الحديث عنه.
(3) التحرير والتنوير للطاهر عاشور (4/68). (4) تفسير ابن كثير (1/408).
(5) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا (4/108).
(6) وسيأتي بإذن الله - تعالى - مزيد من تفصيل لهذه الأسباب.
(1) ثواب الدنيا: النصر والغنيمة والعزة ونحوها. فتح القدير (1/378).
(2) التحرير والتنوير (4/208).
(3) المرجع السابق. (4) التحرير والتنوير (26/85).
(5) في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/3288).
(6) التحرير والتوير (23/195).
(7) في ظلال القران (6/3289).
(1) التحرير والتنوير (26/85).
(2) التحرير والتنوير (17/281).
(3) فتح القدير (1/173). (4) المرجع السابق (1/215).
(5) في ظلال القرآن (4/2530).
(1) المرجع السابق (4/5428). (2) التحرير والتنوير (4/118).
(3) متى نصر الله. لعبدالعزيز الجليل، ص 79. (4) التحرير والتنوير (4/119).
(1) التحرير والتنوير (4/119). (2) المرجع السابق (3/120).
(*) بنيات الطريق: الطرق الفرعية.
(**) في ظلال القرآن، 4/ 2528.
(1) التحرير والتنوير (4/121).(1/1247)
(2) في ظلال القرآن (4/2528).
(3) تفسير السعدي (2/212).
(4) مسلم، حديث (1917).
(5) التحرير والتنوير (10/55).
جمادى الآخرة 1425هـ * يوليو / أغسطس 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــ
رياح النصر هبت من الفلوجة
28 شوال 1425هـ
اليوم وبعدما بدأت الحقائق تتبدى للعالم أجمع تجاه الحرب الأمريكية القذرة على الفلوجة، وبعدما بدأت تباشير انتصار المقاومة العراقية الباسلة تتبدى لكل المراقبين السياسيين، والمحللين الإعلاميين, والمسئولين الحكوميين؛ تنطق بها التصريحات الرسمية قبل الإعلامية، وتشير إليها أصابع العسكريين قبل السياسيين، لتفضح عوار الكذب الأمريكي المستور، وتبدي شينة الولاء الإعلامي العربي الخائن لقضية أبناء شعبه ودينه، في مدينة سيكتب التاريخ عنها، إنها مدينة الشموخ الأبي في زمن الانكسار العربي, ومدينة العزة في زمن الذلة المهينة, ومدينة الانتصارات الخارقة التي تعدت كل الحسابات, وأفشلت كل التوقعات، وأعادت للعقل الإسلامي التذكير الحقيقي بضرب المعجزات عندما يكون الإيمان وحده هو المقاتل, وتكون العقيدة وحدها هي المثبت، وتكون المبادئ والثوابت الشفافة هي المدد والدعم، وتكون الشهادة هي الأمنية.
لقد أدت الهزيمة النفسية لكثير من أبناء أمتنا الإسلامية أن تصوروا استحالة ثبات الفلوجة أمام تلك الجحافل التي تقدمتها الطائرات القاذفة، والمدرعات العملاقة، والعشرون ألفاً من الجنود الأمريكيين, يتبعهم آلاف العراقيين الشيعة من أتباع السيستاني والحكيم, وممن لا قيمة لهم ولا مبدأ ولا انتماء.
[ نقلت صحيفة أخبار الخليج يوم 10\11 أن الكتلة الشيعية في برلمان البحرين قد رفضت إدانة الحرب على الفلوجة، واعتبرته تدخلاً في شئون دولة أخرى!!, كما نقلت الفرانس برس يوم 11\11 عن الشيخ مهدي الصميدعي إمام مسجد ابن تيمية، وعضو هيئة العلماء في العراق انتقاده الشديد للسيستاني بسبب صمته حيال ما يحدث في الفلوجة، وأن ذلك يعكس تأييده للحرب عليها والتحريض على ذلك ].
هزيمة نفسية:(1/1248)
وكان أن انهزمت الأمة نفسياً لدرجة أن بحت الأصوات، وسكنت الحركات, ووقف الجميع صامتين ينتظرون الإعلان عن إبادة أبناء المدينة العظيمة، ينتظرون الصرخة الأخيرة لآخر طفل رضيع في الفلوجة؛ بينما يذبحه الأمريكي الدموي بدم بارد.
[ في يوم 16نوفمبر أعلنت الحكومة العراقية أن سكان الفلوجة ليسوا بحاجة لأي مساعدات من أي نوع!! ].
ولم تخرج من ذي قلب كلمة استنكار رسمية واحدة لمدة تعدت عشرين يوماً كاملة، تدك فيها المدينة الفاضلة, وتهدم مساجدها قبل بيوتها, ويقتل شيوخها قبل شبابها, ويذبح أطفالها قبل رجالها, وتستباح الأم والجدة والأخت والبنت, ويقتل العلماء وأئمة المساجد، وتحرق المصاحف، وتوطأ الحرمات!!
[ نشرت وكالة الأنباء الفرنسية يوم 7 نوفمبر صورة لإحدى الدبابات في اقتحام المدينة وقد بدا على فوهة مدفعها صليب ضخم!!].
وكان لابد لإتمام المذبحة التتارية الصليبية الخائنة أن تكون مدعومة إعلامياً؛ من الإعلام الصهيوني العالمي من جانب, ومن الإعلام العربي من جانب آخر، فكممت أفواه الكماة المغاوير من الإعلاميين العرب [الناعقين إذا ما ثمنت الكلمات، الخارسين إذا ما لوح بالعصا، أو نادت شريفات الفلوجة ' وامعتصماه '! ].
ولم يعد المرء يقرأ أو يسمع عبر مئات الوسائل الإعلامية العربية سوى التصريحات الرسمية الكاذبة للجنرالات الأمريكيين, أو مقاطع الفيديو [ الممثلة أو ' الممنتجة ' ] في استوديوهات الجيش الأمريكي, تبث الترهات مما لا علاقة له بما يدور على أرض الفلوجة الباسلة الأبية، وتصور المقاومة العراقية كشياه جزار تنتظر ذابحها, لتكسر إرادة المسلم في كل مكان, وتبث الرعب في قلوب أهل العراق وذويهم, وتعمق كون الجيش الأمريكي أسطورة لا تقهر [ بثت شاشات الفضائيات العربية والعالمية مقطعاً من الفيديو - الموجه من الآلة الإعلامية اليهودية - ممنتجاً لجنود أمريكيين يقتلون جرحى مسلمين بأحد المساجد ].
دناءة العدو؛ وعجز الصديق على مرأى ومسمع العالم:
ولقد استخدمت أمريكا في سبيل تركيعها للفلوجة وكسرها لإرادتها وعزيمتها أخس الأساليب، وأحط الوسائل التي نبذتها كل الشعوب التي لا يزال بها بقية من إنسانية، أو ذرة من عدل:
- قصفت المنازل، وهدمت المنشآت الحيوية بالمدينة بدعوى وجود الزرقاوي [ كان علاوي قد اشترط على أهالي الفلوجة تسليم الزرقاوي لمنع الهجوم عليها, ثم أعلن الجيش الأمريكي والحكومة العراقية التابعة للاحتلال يوم 9\11 أن الزرقاوي وأتباعه قد خرجوا من الفلوجة قبل الهجوم؛ ورغم ذلك استمر الهجوم حتى هذه الساعة ].(1/1249)
- هدمت المساجد وسوي منها 33 مسجداً بالأرض, وقصف الباقي، ومنعت الصلاة فيها من ساعة الهجوم وحتى هذه اللحظة.
- قطعت القوات الأمريكية عن المدينة الماء والكهرباء تماماً, ونشرت الأسوشيتدبرس يوم 14\11أن هيئات الإغاثة العالمية تنذر بحدوث كارثة إنسانية في الفلوجة نتيجة قطع المياه منها.
- قصفت المستشفى الوحيد الباقي في الفلوجة, وقتلت أطباءه في مذبحة ' الاثنين ' الشهيرة، واعتقلت المرضى.
- منعت قوافل الإغاثة من دخول المدينة.
- اعتقلت الآلاف من الصبيان والنساء والشيوخ في ساحات المدارس بلا غطاء، ولا طعام، ولا ماء، وقامت بالتحقيق المهين معهم، ما تسبب في موت العديد منهم.
مفكرة الإسلام وموقف يذكره التاريخ:
ولم يكن لدى مفكرة الإسلام الإمكانات الفائقة التي يتمتع بها الإعلام العربي الكسيح, ولكن كان لديها مبادئ إيمانية تبشر بالانتصار, ومراسلون يؤمنون بقضيتهم, لم يملكوا من نصرة أوطانهم غير الدعاء؛ وكلمة إعلامية صادقة يصفون بها الوقائع الحقيقية داخل الفلوجة وغيرها من مدن العراق.
[ تعتزم مفكرة الإسلام أن يكون لها في القريب مراسلون في معظم البقاع الإسلامية والعالمية، يبثون للعالم آلام المسلمين وآمالهم ].
وكان مراسلو مفكرة الإسلام يبكون في رسائلهم من داخل المدينة الثابتة دموعاً صادقة، قد تختلط أحياناً بالدماء لهول ما ينقلوه من وقائع هي أقرب إلى الخيال.
وصار الناقلون الإعلاميون من الفلوجة قسمان: قسم يصاحب القوات الأمريكية المحتلة، ويستظل بظلها، ويأكل معها، ويشرب ويحتمي بحماها؛ ومن ثم فهو يأتمر بأمرها، ولا يذكر في رسالته الإعلامية إلا ما أملاه عليه مسئولو الحملة الإعلامية في القوات الأمريكية المحتلة.
والقسم الثاني هم مراسلو مفكرة الإسلام الذين لم يتشرفوا بكونهم من أفراد المقاومة الفلوجية الباسلة؛ ولكنهم تشرفوا بنقل كلمة حق واقعة، وأحداث صدق ثابتة، قد كلفتهم في بعض الأحيان ما تكلفة تيسير علوني من اتهام واعتقال جراء كلمته الصادقة, أو أصابتهم برصاصة غدر أمريكية أفقدتهم على إثرها إحدى جوارحهم, وربما ألحقت بعضهم بمواكب الشهداء.
وكان أمام مفكرة الإسلام اختياران لا ثالث لهما؛ إما أن تتبع في أخبارها الإعلام العربي والعالمي الممارس للتعتيم والتضليل, وإما أن تقتدي بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل: ( لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو سمعه, فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق ) رواه أحمد وابن ماجه.(1/1250)
وكان أن اختارت سبيل الكرام، وعزة الإسلام, وشاء الله أن يثبت عبر الأيام صدق أخبارها، وسوف تنبؤنا الأيام القادمات من دلائل صدقها ما تقر به أعين الصادقين.
من بشائر الانتصار:
إنه ليس خبراً مزوراً كتلك الأخبار التي لطالما بثتها لنا الآلة الإعلامية الغربية ومن قلدها من وسائل الإعلام العربية, وليس خبراً مبالغاً فيه كأخبار الجيش الأمريكي التي تخالف العقل الإنساني السوي, كما إنه ليس خبراً كاذباً كتلك التي يصرح بها بوش ورامسفيلد وجنرالاته سفاكو الدماء وأذنابهم من المسئولين العراقيين الموالين للاحتلال.
[ أعلن رامسفيلد يوم 12 \11 أن عمليات الفلوجة توشك على الانتهاء بنجاح كبير, وفي ذات اليوم أعلن قاسم داود وزير الداخلية العراقي الموالي للاحتلال أن عملية الفلوجة قد انتهت، وأن المدينة قد حررت تماماً إلا من جيوب صغيرة يتم التعامل معها ].
ولسنا ننتظر أن تعلن أمريكا هزيمتها - بالطبع -، ولا أن يتنازل رامسفيلد لقادة المقاومين أو للشيخ حارث الضاري عن المدينة في حفل يحضره قادة أوروبا والصين.
ولكننا نسطر كلمات هي للتاريخ صيحة ذكرى، وللأمم رجفة إيقاظ, تنطق علاماتها بالأمل الغائب عن أحلام أطفال المسلمين, وترفع هامة رجالات الإسلام عزاً بنصر قد لاحت بشائره.
لقد كان للانتصار في الفلوجة بشائر ليست كلها أخباراً عن دائرة المعركة - التي أبلى المقاومون فيها أحسن البلاء -، ولكنها بشائر نصر يفهمها جيداً كل المؤمنين بموعود الله - سبحانه -.
لقد كان في ثباتهم أمام تلك الجحافل نصر وحده, وكان في رفعهم للواء التوحيد أمام هجمة الصليب نصر وحده, وتركهم البيوت والأزواج والأولاد، ودفاعهم عن أرضهم وأوطانهم حين تقاعس القادرون نصر آخر، لقد كان يكفيهم لو لم يلحقوا هزيمة نكراء بعدوهم أن حققوا تلك المعاني من الانتصار، ولكن شاء الله أن يبشرهم بما يحبون، نصر من الله وفتح قريب.
وهذي بعض اعترافات سقناها لك من أفواه عدوهم [ والفضل ما شهدت به الأعداء ]، وافقت كلها خبر مراسلينا, غير أن هناك فارقين أساسيين بينهما:
الأول: أن أخبارنا كانت تسبقهم في معظم الأحيان بيوم أو يومين.
والثاني: أن أخبارهم هي غيض من فيض، ونقطة من بحر الأخبار الصادقة الحاصلة في المدينة الفاضلة.
1- مراسل هيئة الإذاعة البريطانية يوم 9\11 يقول: ' لقد شاهدت دبابتين وثلاث مدرعات مدمرة هذا الصباح '.
2- مراسل الفرانس برس يوم 9\11 ' نقلاً عن أحد قادة المقاومين بالفلوجة: ' لقد سمحنا لهم بدخول الدبابات لنوقف القصف الجوي، ثم نقاتلهم وجهاً لوجه '.(1/1251)
[ وكانت مفكرة الإسلام قد أعلنت يوم 8\11 أن المقاومة قد سمحت للمدرعات بالدخول كاستراتيجية لوقف القصف على المدنيين في المدينة ].
3- مراسل الفرانس برس يوم 9\11 أكد أنه رأى دبابتين تحترقان في أحد الشوارع وآليات مدرعة أخرى تتراجع.
4- استخفت صحيفة 'تاجسبيجل' الصادرة في برلين بإعلان الحكومة العراقية المؤقتة حالة الطوارئ قبيل الهجوم على الفلوجة، متسائلة: 'ألا توجد هذه الدولة بالفعل في حالة طوارئ مستمرة؟' إنه لا تكاد ساعة تمر بغير هجوم من المقاومة!!.
5- ما ذكرته إذاعة 'دويتش ويل' الألمانية من أن الحكومة الأمريكية قد خدعت الأمريكيين في قرار الحرب على الفلوجة، وأن الأمريكيين يسقطون في تلك الحرب كالذباب.
6- في تصريح لـ رويترز يوم 9\11 قال الكابتن روبرت بوديش قائد فرقة دبابات أمريكية في تعليق على الهجوم على حي الجولان: إنهم أناس أقوياء البأس، إنهم يقاتلون قتالاً قوياً, لقد رأيت كثيرين منهم في الشارع الذي كنت فيه، اندفع رجل من خلف جدار وأطلق قذيفة 'أر. بي. جي' على دبابتي.
[ وكان مراسل المفكرة في الفلوجة قد كذب ما تناقلته وكالات الأنباء حول سيطرة قوات الاحتلال على حي الجولان ].
7- وكالة الأنباء الفرنسية يوم 10\11 تعلن على لسان مراسلها قوله: ' في شارع الأربعين أرى دبابتين تحترقان، ومقاتلين غير آبهين بالموت يندفعون إلى المعركة, إنهم يستولون على دبابتين أخريين متروكتين'.
8- يوم 10\11 نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية تحقيقاً حول تأثير إعادة انتشار فرقة 'بلاك وتش' البريطانية في مواقع خطيرة جنوبي غرب بغداد في المنطقة التي يطلق عليها 'مثلث الموت'، وأشارت الصحيفة إلى أن جيمس كوان كبير ضباط الكتيبة كان قبيل إعادة الانتشار قد أعرب عن قلقه من القرار الذي يأمر بتحرك جنوده إلى معسكر دوجوود؛ والذي يبعد 25 ميلاً جنوبي غربي بغداد، وحذر في سلسلة من الرسائل الإلكترونية أنه من المتوقع أن تتعرض الفرقة لهجمات متوالية من قبل من وصفهم بـ'الإرهابيين'، حيث وصفهم بأنهم سيهبطون كما يهبط 'النحل إلى العسل'!
[ وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت نبأ تحرك الكتيبة البريطانية قبل أيام من نشره في وسائل الإعلام رغم التكتم الشديد على تلك المعلومات العسكرية مخافة هجوم المقاومة, ولا غرو أن نذكر أن مفكرة الإسلام كان لها قصب السبق في عدة أنباء تخص القوات البريطانية عادت وكالات الأنباء لتؤكدها فيما بعد, وبالتأكيد تعتبر هذه القوات تابعة لجيش هو من أكثر الجيوش غموضاً في تحركاته وسكناته؛ فقد كانت المفكرة الأولى في نشر خبر تحرك القوات البريطانية من البصرة إلى بغداد, والأولى في(1/1252)
حديثها عن اشتراكها في معركة الفلوجة, والأولى في الحديث عن انسحابها منها, والمنفردة بذكر الجهة التي انسحبت إليها القوات البريطانية من الفلوجة، وهي الجهة التي لم يكشف عنها إلى الآن أية جهة؛ حتى الصحف شبه المستقلة والقوى المناوئة للحرب في بريطانيا ].
9- يوم 10\11إعترف مساعد وزير الدفاع العراقي بضراوة المقاومة المسلحة، وبفشل خطتين لعبور نهر الفرات من جهة الغرب, وأكد العقيد أحمد نجاة رمضان في اتصال مع جريدة المدينة السعودية أن خطة اجتياح الفلوجة تغيرت مرتين، وقال يبدو أن المقاتلين يمتلكون مخزوناً هائلاً من السلاح لم نكن نقدره في السابق.
[ وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت في نفس اليوم خبراً بتقهقر قوات الاحتلال إلى الشمال من منطقة السكة الحديد ].
10- أعلن تقرير عسكري صيني نشرته وكالة الأنباء الصينية شينخوا يوم 10\11 أن: ' الخسائر في معارك الفلوجة هي بنسبة 1: 3 في صالح المقاومة [ غير داخل في ذلك خسائر المدنيين ].
11 - الأسوشيتدبرس تنشر يوم 11\11 أن 215 جندياً أمريكياً قد نقلوا إلى مستشفى في ألمانيا نتيجة جراح خطيرة جداً إثر معارك الفلوجة.
12- مراسل الفرانس برس يوم 12 \11 يقول: ' المقاومون مستمرون في القتال بضراوة, وقد تمكن اثنان من المسلحين من مواجهة القوات الأمريكية لساعات، وهما يتخذان وضعاً قتالياً على أسطح المباني، ويقاتلان باحتراف شديد.
13- مراسل البي بي سي ' بول وود ' 12\11 يقول: ' إن المؤشرات تدل على أن المقاومين قد أعادوا تجميع قواهم، وأن مقر المارينز قد تعرض للقصف الشديد أربع أو خمس مرات فقط في يوم أمس من مواقع مختلفة، وأن هذا القصف يحدث بصورة يومية. [ وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت يوم 9\11 خبراً بقصف المقاومة لمراكز الاحتلال بأكثر من 150 صاروخاً موجهاً ].
14- نشرت إذاعة البي بي سي يوم 12 \11 أن مروحيتين قد أصيبتا بنيران المقاومة في الفلوجة.
15- قالت مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية يوم 12\11: إن قوات البحرية البريطانية قد اضطرت إلى طلب معونة من سلاح الجو الذي قام بأربع غارات, وقد تعرضت فرقة المشاة التي تطارد المقاومين في البيوت إلى الهجوم المتكرر بمجرد مغادرتها قاعدتها.
16- هيئة الإذاعة البريطانية يوم 12\11 تنقل عن ماري شو - المتحدثة باسم المستشفى الألماني التابع للقوات الأمريكية - قولها: ' لقد اعتدنا إدخال ثلاثين مصاباً يومياً، ومنذ الهجوم على الفلوجة ندخل يومياً سبعين مصاباً معظمهم من الفلوجة '.
17- مراسل وكالة الأنباء الفرنسية يوم 13 \11 في مقابلة مع أحد المقاومين في الفلوجة: ' دمرنا خلال الليل معظم المدرعات التي دخلت حي الجولان '.(1/1253)
18- نقلت وكالة إسوشيتيد برس يوم 13 \11 نقلاً عن مصادر عسكرية أمريكية إن طائرتين من نوع [Kiowa OH-58] أسقطتا في كمين للمقاومة في المنطقة الشمالية الشرقية من الفلوجة، وأضافت المصادر الأمريكية أن مروحيتين من نوع بلاك هوك [UH-60] أسقطتا قرب منطقة التاجي يوم الجمعة 12 \11 [ كانت مفكرة الإسلام قد أعلنت سقوط 6 طائرات في الفلوجة وضواحيها يوم الجمعة 12\11 ].
19- شبكة فوكس الإخبارية تنقل كلام أحد الجنود الأمريكيين المصابين في الفلوجة يوم 14\11 يقول الجندي ' رايان شابمان' : ' بصراحة شديدة من الصعب جداً محاربة رجال مستعدين للموت، ويقبلون عليه'!!
20- يوم 17\11 كذب مراسل وكالة الأنباء الفرنسية ما أشاعته القوات الأمريكية عن مقتل ألف مقاوم في الفلوجة. [ وكانت مفكرة الإسلام قد نفت هذه الأعداد تماماً، وأوضحت أن القتلى هم من المدنيين من الصبيان والنساء والشيوخ ].
21- قالت سي إن إن يوم 14 \11 أن قوات الاحتلال لا تذكر أعداد القتلى من المدنيين أبداً!!
22- يوم 15 \11 قالت سي إن إن نقلاً عن الجنرال ساتلر قائد قوات المشاة الأمريكية: أن قواته اعتقلت قرابة ألف شخص إلا إنه يتوقع أن يفرج عن أكثرهم.
[ والسؤال هنا كيف يفرج عن أكثرهم وهم من المقاومة - على حد زعمهم -؟، ويؤكد ذلك ما أعلنت عنه مفكرة الإسلام من أن المعتقلين هم من المدنيين والنساء والأطفال ].
23- يوم 15 \11 تنشر نيوزويك في صفحتها الحادية عشر قول مراسلها: ' رغم الإعلان عن القتلى من المقاومين غير أنه لا يمكن العثور في أي مكان على جثث المقاومين في الفلوجة، ويبقى ذلك لغز محير عجيب!
24- نقلت الفرنس برس يوم 17 \11 قول الجندي في قوات المارينز تريفيس شيفر الذي جرح في يده بشظايا قذيفة: 'إنه قتال من سطح إلى سطح نرى فيه القناصة 'الإرهابيون ' يقفزون من مبنى إلى آخر'.
وتابع الجندي: 'بصراحة أقول: إنني دهشت لعدد قطع الأسلحة التي كانت لديهم'، مشيراً إلى رشاشات وأسلحة أوتوماتيكية للمقاتلين، وسيارات مفخخة', كما نقلت الوكالة قول الكولونيل مايكل ريجنر قائد عمليات قوة مشاة البحرية الأمريكية: 'إن المقاتلين في الفلوجة يواصلون القتال حتى الموت، ويجعلون حياة عناصر المارينز والجنود صعبة للغاية!!'.
25 - صحيفة هاآرتس الصهيونية يوم 17 \11 تتهكم على الحرب في الفلوجة قائلة: ' إن الأمريكيين يعلنون بين الحين والآخر أنهم احتلوا قرابة 80% من الفلوجة في وقت تشير فيه تقارير الهلال الأحمر أن غالبية القتلى بالفلوجة من الأطفال و المدنيين، بينما لا يزال ' المتمردون' يسيطرون(1/1254)
على معظم مساحات المدينة، ذلك أن القوات الأمريكية تستخدم أسلوباً خاطئاً في التعامل مع المعركة في الفلوجة، عن طريق القصف الجوي الذي يؤدي إلى تدمير مناطق الحضر، وقتل الكثير من المدنيين، بينما الهدف الحقيقي لا يتم إصابته, وأنهت الصحيفة تقريرها بمطالبتها لواشنطن بالبحث عن حل لما أسمته بمشكلتها الكبيرة في الفلوجة؛ بدلاً من ارتداء ثياب الوعظ الأخلاقية لأي نزاع في العالم'!!
26- نيويورك تايمز يوم 18 \11 تنشر تقريراً سرياً أعده عسكريون أمريكيون لتقييم الوضع في الفلوجة، يقول التقرير: ' إن النجاح النهائي في الفلوجة ليس حاسماً، وأن احتمالات عودة المقاومة إليها قوي للغاية '.
27- أعلنت فضائية العربية والجزيرة يوم 18 \11 أن المقاومة تسيطر على حي الشهداء، وأنه تحدث هناك أعنف اشتباكات شهدتها الفلوجة [ وكانت مفكرة الإسلام قد أكدت تلك الأنباء قبلها بما يزيد عن عشر ساعات كاملة ].
28 - صحيفة شيكاغو تريبيون الأمريكية تنشر يوم 19\11 تقريراً بعنوان: ' تعتيم إعلامي واسع حول الخسائر الأمريكية في الفلوجة '
29- ذكرت صحيفة هاآرتس الصهيونية يوم 19\11 ما قاله الحاخام 'أرفيننج ألسون' - حاخام بمدينة نيويورك الأمريكية - عن عدد الجنود اليهود في الفلوجة قائلاً: إنهم حوالي 1000 جندي منهم بعض الضباط الكبار. [ وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت أخباراً عن تواجد يهودي كبير في الهجمة على الفلوجة ].
30 - يوم 21 \11 نشرت صحيفة ' آى إيه آر نوتيثياس ' الإسبانية تقريراً يشير إلى وجود أكثر من 400 قتيل أمريكي و700 جريح وإحدى عشر مروحية وطائرتين إف 16, وخمس طائرات تجسس بدون طيار، ومروحية نقل من طراز شينوك تقل 60 جندياً, وإحدى عشر دبابة من طراز أبرامز، وعدد من العربات المدرعة، وسيارات الهمر, كخسائر أمريكية في معركة الفلوجة الحالية, واستندت في تقريرها إلى مصادر عالمية موثوقة. [وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت قبلها بكثير نقلاً عن مجلس شورى مجاهدي الفلوجة بياناً يطابق هذا العدد].
31 - وكالة الأنباء الصينية 'شينخوا' تعلن يوم 22\11 أن المقاومة العراقية تسيطر على 60% من مدينة الفلوجة، وتحيط بعشرات الجنود الأمريكيين من المارينز في حي الجولان.
32 – كشف الجنرال مايك جاكسون قائد السلاح البري البريطاني أنه سيتم سحب الفرقة البريطانية، ولن تستبدل بفرقة أخرى، وقال جاكسون في حديث مع صحيفة 'الإندبندنت' البريطانية يوم 22\11: سيتم سحب كتيبة 'بلاك ووتش' خلال أسابيع، ولن يتم استبدالها بأخرى في معسكر 'كامب دوغوود' التي تم نشر الكتيبة فيها قرب بغداد, [ وكانت مفكرة الإسلام قد أعلنت أن الكتيبة البريطانية قد تعرضت لهجمات راح ضحيتها عشرات الجنود، وجرح منها أعداد كبيرة ].(1/1255)
33– وصف الخبير الاستراتيجي الفرنسي ' باسكال يونيفاس ' مدير معهد الأبحاث الاستراتيجية في باريس الحرب على الفلوجة بقوله: ' هي حرب بدأت خاسرة استراتيجياً، وستنتهي خاسرة عسكرياً '.
34- الشيخ الكبيسي يعلن أن المقاومة تسيطر على أكثر من 60% من الفلوجة. [ كانت مفكرة الإسلام قد نشرت يوم 10\11 أن المقاومة تسيطر على 70% من مدينة الفلوجة ].
35 - كشف الشيخ 'عبد الله عواد' عضو هيئة علماء المسلمين بالعراق يوم 24\11 عن حقيقة وجود علامات أكيدة لانتصار المقاومة العراقية على قوات الاحتلال في مدينة الفلوجة تبدو في الأفق.
36 – نشرت وكالات الأنباء يوم 3\12 آخر إحصائية صدرت من البنتاجون حول الخسائر قي العراق، والتي بلغت - على حد قول البنتاجون ! - عشرة آلاف وخمسمائة جندي بين قتيل وجريح [ أي بمعدل 15 جندياً يومياً ].
[ يلاحظ عدم اعتبار قوات المرتزقة الأمريكية في عداد الإحصاءات الأمريكية الرسمية، وهم الغالبية العظمى في القوات المحتلة, وهو ما نشرت به تقارير رسمية أعلنتها صحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز ].
37 – أعلنت شبكة سي بي إس يوم 1\12 أنه لم تصدر بيانات رسمية عن البنتاجون حول الخسائر الأمريكية منذ أسبوع كامل, وتتساءل الشبكة عن أسباب ذلك, وترجعه للتضارب الكبير في أعداد القتلى الأمريكيين في الفلوجة بين المصادر العالمية المختلفة.
38 – نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية يوم 2\12 أن القوات البريطانية قد أخلت ثلاثة آلاف جندي جريح من جنودها في العراق - وهو ما يمثل أكثر من ثلث عدد الجيش البريطاني في العراق.
39 – أعلنت القوات الأمريكية المحتلة أنها وجدت معملاً كيميائياً في الفلوجة، وعرضت صوراً له قائلة إن المقاومة قد استخدمته في عمليات هجومية, [ وكانت مفكرة الإسلام قد نشرت أخباراً أكيدة عن هجوم من المقاومة لإحدى القواعد الأمريكية بمواد كيماوية كرد لهجوم القوات الأمريكية بالكيماويات على المدنيين في الفلوجة ], وإن كانت الخيبة الكبيرة قد لحقت بهم عندما أعلن بليكس رئيس المفتشين المستقيل في 26\11عن استبعاده أن تكون الصور المعروضة من قبل الأمريكيين هي صور معمل كيمياوي!
40 – أعلن الشيخ الكبيسي رئيس قسم العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين في العراق في حديث هاتفي نقلته الجزيرة الإخبارية يوم 27\11: ' أنه إلى اللحظة لا يزال أكثر من نصف الفلوجة بأيدي المقاومة العراقية, وسخر من التقارير التي كانت تزعم القضاء على المقاومة في الفلوجة في يومين, وقال: إن علامات النصر بادية قريبة - إن شاء الله -'.(1/1256)
41 - نشرت صحيفة ' آى إيه أرنيثياس ' الإسبانية تقريراً يوم 5\12 قالت فيه: ' إن العسكريين الأمريكيين أنفسهم يعترفون بأنهم لم يتمكنوا من هزيمة المقاومة التي تسيطر على مناطق حيوية ومؤثرة، وفي كل بقعة من المدينة, والتي تظهر وتختفي كالأشباح، مسببين خسائر مادية وخسائر كبيرة في الأرواح في صفوف المارينز, الأمر الذي يؤكد أن استراتيجية الحرب في الفلوجة قد فشلت!!'.
وما من شك أن التقارير الإخبارية بهذا الخصوص لا يمكن حصرها بسهولة, وليس يعني هذا أننا نستمطر المصداقية من لدن أناس يعرفون الإعلام بأنه مهنة الكذب, فقط نقولها وبكل أسف: أننا بحاجة دوماً لأن نحشد مثل هذه الشواهد فقط لأولئك الذين لا تشم أنوفهم إلا رائحة حبر وكالات الأنباء الصهيونية, ويصمون آذانهم أن تسمع إلا شهادات الجزار, وتريد أن تحرم الضحية حتى أن يجري الحق على لسانها قبل أن يتبعه الدم المنساب.
(( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ))
ونسأل الله العلي القدير للإعلام الإسلامي نهضة رائدة, وللقراء توفيقاً بالدعاء لحماة الثغور في الفلوجة وغيرها، ملتمساً كاتبه في آخر الأمر دعوات القراء الصالحات.
المصدر : http://www.islammemo.cc/taqrer/one_news.asp?IDnews285
ــــــــــ
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله
محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -
الحمدُ لله، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، وأصحابه، والتابعينَ لهم بإِحسانٍ وسلَّم تسليماً، أما بعد:
فلقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ، والأحزابِ، والفتحِ، وحُنينٍ، وغيرها:
1- نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه: {... وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47)} [سورة الروم].)إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر:52)
2- نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها: فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]} [سورة التوبة].
3- نصَرَهم اللهُ لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ: فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ لَهُم، وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا(1/1257)
وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [139] إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ[140]} [سورة آل عمران]. {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً[104]} [سورة النساء]. {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]}[سورة محمد]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِيرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ.
وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيء فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ[60]} [سورة الأنفال] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ، والقوةِ العسكريةِ الظاهرة.
4- نصرهم الله - تعالى -لأنهم قامُوا بنصر دينِه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. فوعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية: أما المؤكدات اللفظية: فهي القسمُ المقدَّرُ؛ لأنَّ التقديرَ: واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ. وكذلك اللامُ والنونُ في: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كلاهُما يفيدُ التوكيدَ.
وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ: ففي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} فهو - سبحانه - قَويٌّ لا يضْعُفُ، وعزيزٌ لا يذِلُّ، وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً. وفي قولِه: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه، فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر - سبحانه - ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه.
أوصاف من يستحقون النصر:
وفي هاتين الآيتين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال - تعالى -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ(1/1258)
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه، وأفعالِه، وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاهاً، ولا ثناءً من الناسِ، ولا مالاً، ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ؛ مكَّنَ الله له في الأرض.
إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ:
الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ: بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه، قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها، وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا، رواه أبو داود وأحمد.
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ: {... وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[43]}[سورة البقرة]. بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم، كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم، ويطهِّرون أموالَهم، وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروفُ: كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءً لشريعةِ اللهِ، وإصلاحاً لعباده، واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه، فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه.
والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الآمر قائماً بما يأمرُ به؛ لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ: {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} والمُنْكَرُ: كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها، مما يتعلقُ بالعبادةِ، أو الأخلاقِ، أو المعاملةِ؛ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله، وحمايةً لِعباده، واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ، وتَشَتَّتَ بها المسالكُ؛ ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ(1/1259)
الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]}[سورة آل عمران].
فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً، وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون.
وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]}[سورة آل عمران].
وبتَركه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79]}[سورة المائدة].
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ، والعزيِمَةِ، وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة؛ حصل النصرُ بإذنِ الله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[6]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[7]}[سورة الروم]. فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ.
وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها:
افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً، فقال الله - تعالى -: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ[15]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ[16]}[سورة فصلت].
وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ، وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه، وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين.
وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها، فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون: 'لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً، فننحرَ فيها الجزور، ونَسْقِيَ الخمورَ، وتعزفَ الْقِيانُ، وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً'. فَهُزمُوا على يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ.
ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصر، وقُمْنَا بواجبِ دينِنا، وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين، ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا، وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ؛ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه، ونصر عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[23]}[سورة الفتح].(1/1260)
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا، ورفعةُ الإِسلام، وذُل الكفرِ والعصيانِ؛ إنك جوادٌ كريمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ، وعلى آلِهِ، وصحبِه أجمَعين.
21 شعبان 1425هـ - 5 أكتوبر 2004 م
http://links.islammemo.cc المصدر:
ــــــــــ
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله
محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -
الحمدُ لله، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، وأصحابه، والتابعينَ لهم بإِحسانٍ وسلَّم تسليماً، أما بعد:
فلقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ، والأحزابِ، والفتحِ، وحُنينٍ، وغيرها:
1- نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه: {... وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47)} [سورة الروم].)إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر:52)
2- نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها: فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]} [سورة التوبة].
3- نصَرَهم اللهُ لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ: فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ لَهُم، وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [139] إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ[140]} [سورة آل عمران]. {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً[104]} [سورة النساء]. {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]}[سورة محمد]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِيرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ.
وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيء فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ[60]} [سورة الأنفال] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ، والقوةِ العسكريةِ الظاهرة.(1/1261)
4- نصرهم الله - تعالى -لأنهم قامُوا بنصر دينِه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. فوعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية: أما المؤكدات اللفظية: فهي القسمُ المقدَّرُ؛ لأنَّ التقديرَ: واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ. وكذلك اللامُ والنونُ في: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كلاهُما يفيدُ التوكيدَ.
وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ: ففي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} فهو - سبحانه - قَويٌّ لا يضْعُفُ، وعزيزٌ لا يذِلُّ، وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً. وفي قولِه: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه، فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر - سبحانه - ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه.
أوصاف من يستحقون النصر:
وفي هاتين الآيتين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال - تعالى -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه، وأفعالِه، وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاهاً، ولا ثناءً من الناسِ، ولا مالاً، ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ؛ مكَّنَ الله له في الأرض.
إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ:
الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ: بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه، قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها، وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ،(1/1262)
وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا، رواه أبو داود وأحمد.
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ: {... وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[43]}[سورة البقرة]. بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم، كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم، ويطهِّرون أموالَهم، وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروفُ: كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءً لشريعةِ اللهِ، وإصلاحاً لعباده، واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه، فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه.
والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الآمر قائماً بما يأمرُ به؛ لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ: {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} والمُنْكَرُ: كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها، مما يتعلقُ بالعبادةِ، أو الأخلاقِ، أو المعاملةِ؛ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله، وحمايةً لِعباده، واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ، وتَشَتَّتَ بها المسالكُ؛ ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]}[سورة آل عمران].
فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً، وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون.
وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]}[سورة آل عمران].
وبتَركه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79]}[سورة المائدة].(1/1263)
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ، والعزيِمَةِ، وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة؛ حصل النصرُ بإذنِ الله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[6]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[7]}[سورة الروم]. فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ.
وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها:
افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً، فقال الله - تعالى -: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ[15]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ[16]}[سورة فصلت].
وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ، وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه، وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين.
وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها، فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون: 'لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً، فننحرَ فيها الجزور، ونَسْقِيَ الخمورَ، وتعزفَ الْقِيانُ، وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً'. فَهُزمُوا على يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ.
ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصر، وقُمْنَا بواجبِ دينِنا، وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين، ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا، وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ؛ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه، ونصر عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[23]}[سورة الفتح].
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا، ورفعةُ الإِسلام، وذُل الكفرِ والعصيانِ؛ إنك جوادٌ كريمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ، وعلى آلِهِ، وصحبِه أجمَعين.
21 شعبان 1425هـ - 5 أكتوبر 2004 م
http://links.islammemo.cc المصدر:
ــــــــــ
أسرى فلسطين .. وثمن النصر
هل يستطيع الفلسطينيون انتزاع حقوقهم دون عناء أو مشقة؟! وهل يمكن أن تنتصر الدعوات بغير البذل والتضحية والثبات على الحق..؟!(1/1264)
إنها سنَّة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، جاء بيانها في قول الله - عز وجل - :{الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 1 - 3].
إذن هو الابتلاء الذي تُمتحن فيه الأمة، وتتميز فيه الصفوف!
إنه طريق طويل فيه من الشدّة واللأواء والجراحات الشيء الكثير، ولا يقوى على تحمل آلامه وعنته إلا المخلصون من أولياء الله.
المخلصون الذين أيقنوا بموعود الله لهم، فبذلوا نفوسهم رخيصة في سبيله - عز وجل - لا يتطلعون إلى مغنم أو جاه أو شرف شخصي، بل يرجون ما عند الله والدار الآخرة.
ومن حكمة الله - عز وجل - أن هذا الطريق لو كان يسيراً هيناً لتكاثر فيه المتسابقون من طلاب الدنيا، ولتزيَّن به أقوام من أصحاب الأهواء، وصدق المولى - جل وعلا -:{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42].
ونحسب أن الأسرى والأسيرات الفلسطينيين في سجون العدو اليهودي ممَّن ضرب أروع الأمثلة في الثبات والصبر والعض على الدين بالنواجذ، بعيداً عن المزايدات السياسية، أو الادعاءات الحزبية.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــ
حتى لا يتأخر النصر
د. عبد الكريم بكار
هل طال النفق الذي نسير فيه أكثر مما ينبغي وأكثر مما هو متوقع؟ وهل طال انتظارنا للنصر الكبير والإصلاح الشامل والازدهار العام أكثر مما كنا نظن؟
أعتقد أن ذلك صحيح. ويمكن لكل ذلك أن يستمر عقوداً أو قروناً. وهناك إمكانية للانتكاس والارتداد على الأعقاب؛ فالتدهور لا قعر له، ولا حدود تجعله يتوقف.
لماذا لا يقدُم البشير وينبلج الفجر الجديد؟
ربما كان السؤال الأكثر دقة: لماذا يقدُم البشير ويلوح النصر الحاسم؛ ونحن لم نغيِّر في أنفسنا وسلوكاتنا وعلاقاتنا، ولا نشعر أننا نتقدم بخطى ثابتة في الاتجاه الصحيح؟
إن التخلص من وضعية الشَّرْذَمة والانكسار والوهن يحتاج إلى الكثير من العمل والكدح، ويحتاج إلى الكثير من العلم والفهم، كما يحتاج إلى التوقف عن الممارسات السيئة أو بالغة السوء. وأود هنا أن أشير إلى الملمحين الآتيين:
1 - علينا أن نكف عن ممارسة دور الضحية ودور المظلومين الذين اعتُدي عليهم، وسُلبت حقوقهم. الأمة تعزو تخلفها إلى الاستعمار القديم والجديد، والمدارس تعزو إخفاقها في تخريج جيل يعرف ويحب(1/1265)
المعرفة إلى تقصير الأسر أو تقصير الجهات العليا في إمدادها بحاجاتها، والموظف المفصول من وظيفته يشكو ظلم رؤسائه...وهكذا فإنك لا تواجه إلا المظلومين، ولا تواجه ظالمين أو معتدين.كل واحد فينا يذكر محاسن ذاته، ويتحدث عن الأعمال العظيمة التي قام بها... ومن النادر أن نجد فرداً أو جماعة أو فريقاً يتحدث عن إخفاقاته أو أخطائه، ومن النادر جداً أن تجد كاتباً من كتّابنا يتحدث عن قصور معالجته لمسألة من المسائل أو يقول: إن هذه المسألة لم تتضح في ذهنه على النحو المطلوب. كل شيء على ما يرام. كلنا ضحايا. نحن لم نفعل إلا ما يجب فعله. والآخرون دائماً هم المذنبون وهم المطالبون بالتغيير!!
لا شك أن شيئاً مما نقوله صحيح، لكن الأصح منه هو ما لا نقوله. الحقيقة المؤكدة هي أن إساءاتنا لأنفسنا هي أكبر بكثير من إساءات الآخرين لنا، بل لا يستطيع الغرب والشرق وكل الخصوم والمنافسين أن يفعلوا بنا أسوأ مما فعلناه بأنفسنا، والله - جل وعلا - قال لمن هم أكرم منا وأتقى وأنبل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
2 - من غير الممكن الحصول على الازدهار الروحي والعمراني من غير ترسيخ فضيلة (الصدق) في حياتنا، ومن أهم مظاهر الصدق ولوازمه تحمل المسؤولية بأريحية عن أعمالنا. ولهذا فنحن في حاجة إلى أن نرسخ في تقاليدنا الثقافية وفي أعرافنا ونظمنا وقوانيننا سهولة الاعتراف بالخطأ، والاستعداد لتحمل النتائج المترتبة عليه عوضاً عما هو سائد اليوم من القول: كلنا مسؤول، وكلنا مقصِّر، وعلى الجميع أن يصلح شؤونه، إن هذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن التعميم الزائد عن الحد يُفضي إلى عكس المطلوب؛ حيث تكون المحصلة النهائية عدم وجود مسؤول تمكن محاسبته. عدم تحديد المسؤولية يعني عدم الخوف من وقوع العقوبة، وعدم الخوف من وقوع العقوبة يعني استمرار الأخطاء واستفحالها، وربما كانت حرية التعبير المنضبط بضوابط الشريعة الغراء هي الشرط الأساس لذلك. إن أجواء الكبت والقهر لا تساعد أبداً على تكوين الأشخاص النبلاء ولا تنشئة جيل يبادر إلى الخير، ويتحمل مسؤولية ما عمل.
والله الموفق.
السنة التاسعة عشرة * العدد 205* رمضان 1425هـ * أكتوبر/نوفمبر 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــ
نعم النصر قريب .. لكن في أي اتجاه ؟!!
أحمد فهمي(1/1266)
هذه بعض المسلمات المهمة نقدم لها بين يدي المقال حتى لا تثور بشأنها تساؤلات في ثنايا الكلام، والحديث يتناول مسيرة المقاومة الفلسطينية في الأساس وكيفية قراءة توجهاتها ومستقبلها، وهذه المسلمات هي:
1.المقاومة في فلسطين أكثر حركات المقاومة بسالة وفداء وأكثرها بُعدا عن الشبهات والزلات.
2. دعم المقاومة في فلسطين حق على كل مسلم ولو بالدعاء.
3. نجحت فصائل المقاومة في تحقيق إنجازات باهرة في انتفاضة الأقصى.
4. فصائل المقاومة تمكنت من إعادة التفاؤل بقرب النصر لدى الشعوب المسلمة.
5. استمرارية المقاومة أصبحت هدف أمة وليست مجرد هدف محلي أو إقليمي..
أما موضوعنا الرئيس فهو: كيف نُقوِّم مسيرة المقاومة الفلسطينية؟ وما هو المنهج الذي نتعامل به مع الأحداث والمتغيرات المتلاحقة بما يجنبنا الإغراق في التفاؤل أو الانغماس في اليأس؟..
إن المنهج الذي ينبغي أن نستخدمه في تقويم مسيرة المقاومة يتضمن محددات شرعية وأخرى واقعية، وجانب كبير من الخلل في تقويم الواقع وقراءة المستقبل يكون مرده إهمال الرؤية الشرعية للأحداث، ونتناول فيما يلي كلا النوعين..
المحددات الشرعية لتقويم مسيرة المقاومة الفلسطينية:
المقاومة الفلسطينية هي جهاد شرعي ضد الاحتلال اليهودي، وهذا الجهاد له مراحله وتدرجاته، وينبغي عند تناول مراحل الجهاد الفلسطيني استحضار الرؤية الشرعية للأحداث وإلا فلن نصل إلى فهم دقيق وحقيق لما يحدث ويمكن أن يحدث، وهذه بعض المحددات وليس كلها - التي نحتاج إلى استيعابها لفهم الأحداث الأخيرة في فلسطين:
أولا: تتبع مشاهد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر إلى أحد إلى الخندق ثم فتح مكة - من خلال تناول القرآن الكريم لها - يقدم لنا إرشادات بالغة الأهمية حول طبيعة المراحل المتتالية للمقاومة والصراع، وفي غزوة أحد بالذات لم يكن هناك تعارض بين حفظ مكانة صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - والحديث عن الأخطاء والتجاوزات من خلال ألفاظ واضحة مثل ' فشلتم تنازعتم عصيتم منكم من يريد الدنيا.. ' ويلفت ابن القيم - رحمه الله - إلى معنى بالغ الأهمية في مجال الصراع بين الإسلام والكفر، فيقول في ثنايا تعليقه على أحداث غزوة أحد: 'إن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى لكن تكون لهم العاقبة' [زاد المعاد ج3 ص 172].
وعندما نتتبع الآيات التي تناولت الغزوة يتبين لنا أنها تركز على أمرين رئيسين:
أولهما: نقد أداء بعض المسلمين في الغزوة وبيان سبب ما حدث.
وثانيهما: بيان الحكمة الشرعية في ابتلاء المؤمنين..(1/1267)
وعلى ضوء هذه الآيات الكريمة يتكشف لنا ما في كثرة الحديث عن المقاومة سواء في فلسطين وأيضاً العراق من مبالغة شديدة في إنجازاتها أو في النصر الذي تحققه أو في وصف أدائها وفزع الأعداء منها، والاعتراض ليس على ذلك فأغلبه صحيح بإذن الله، لكن الاعتراض على خلو الخطاب الذي يتناول المقاومة من النقد وبيان الأخطاء وكشف العيوب والزلات، فكل ما تقوم به المقاومة حكيم وكل ما تنفذه ناجح، وأي خطأ أو إخفاق يوصف على الفور بأنه ' تكتيك '، مع أن الله - تعالى -يقول: [وتلك الأيام نداولها بين الناس] يعني ليس هناك من حرج في الإقرار بإخفاق أو فشل بل قد يكون ذلك لحكمة ربانية كما ذكر ابن القيم..
والعجيب أن يُسقط البعض في هذا المقام النتائج الموضوعية للأرقام بجرأة مدهشة فيرفض إثبات دلالاتها، وكأن الأرقام تستخدم فقط لإثبات خسائر العدو وإنجازات المقاومة أما عند الحديث عن أي تراجع في أدائها أو تفوق للعدو يأتي الرد على الفور، إنه ' تكتيك '، والأمر المثير للحيرة أن موقع حركة حماس على الإنترنت يحفل بمثل هذه الأرقام والإحصاءات التي تبين مسار الانتفاضة، ويحلل رموز الحركة الأسباب التي أدت إلى تراجع العمليات الاستشهادية دون أي حرج أو تكلف، فلماذا يأتي الحرج من غيرهم؟..
والطريف أن هكذا أسلوب تحويل التراجعات إلى تكتيكات - يمكن للإدارة الأمريكية على سبيل المثال أن تستخدمه لإقناع الرأي العام الأمريكي أن ما يحدث في العراق ليس خسارة، بل هو مجرد تكتيك وأرقام القتلى والخسائر المادية لا تدل على أي تراجع..
ثانيا: من الأمور اللافتة أن المنظار الصحيح الذي يمكن به أن نرى بعدنا أو قربنا من النصر الحقيقي يختلف تماما عن أي منظار آخر.
وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -تعليقا على غزوة أحد أيضا: ' أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار، قال - تعالى -: [ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة] آل عمران 123، وقال: [ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا] التوبة 25، فهو - سبحانه - إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره كسره أولا ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره '[زاد المعاد ج 3 ص 173].
وكلامه - رحمه الله - يعني أن الحديث عن الانكسار يتضمن في أحيان كثيرة الحديث عن قرب النصر، وعندما نستعرض الفترات الزمنية التي تسبق انتصارات المسلمين مباشرة نلاحظ تأثير حالة الانكسار التي تحدث عنها ابن القيم، فكثيرا ما يصبح النصر قريبا جدا عندما يظنه الناس بعيدا جدا [حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا]، ويقول - تعالى -: [أم حسبتم أن(1/1268)
تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب]..
ومن ناحية أخرى كثيرا ما ظن الناس قرب تحقق النصر دون أن يحدث ذلك فعلا كما حدث في غزوة حنين عندما توفرت قناعة تامة بالنصر مع اختلاف الأسباب - ولكن انهزم الناس في أول الغزوة..
وبذلك يمكن القول أننا قد نتفق على قرب النصر، ولكن الخلاف في تحديد اتجاه النصر القريب بناء على اختلاف تقويم الواقع..
مثال: الأسلوب الخاطئ في تقويم الجهاد الأفغاني ضد السوفيت وكثرة الحديث عن النصر والتعبئة الجماهيرية العامة الهائلة التي أعقبها إحباط غير مسبوق على أسوار كابل، وعندما اندلع القتال بين الفصائل تكشفت الخبايا والخفايا التي لم يجرؤ على الجهر بها في أول المسيرة إلا القليل، وتحول بطل تاريخي مثل حكمتيار إلى طالب سلطة وسافك للدماء لا يرعوي!!
ولا يعني ذلك وجود خفايا مماثلة لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، بل ما يهمنا هنا التأكيد على المبدأ ذاته وهو أن: الحديث عن الأخطاء والإخفاقات وحالة الانكسار لا يعني أبدا البعد عن النصر أو إثارة الفزع والقلق بين الشعوب المسلمة..
وتكمن الصعوبة هنا في عدم القدرة على تلمس معالم النصر من ملامح التراجع أو الانكسار باستخدام المحددات الشرعية، فيُستبدل ذلك بإجراء عملية تجميل لهذه الملامح لكي تتحول إلى نصر باستخدام منهج توفيقي يعتمد على مبادئ من قبيل: ' كله تمام '..
ثالثا: عندما نقول أن المعركة بين المقاومة الفلسطينية والصهاينة ليست معركة محلية بل هي معركة أمة بأسرها، فإن ذلك ليس من قبيل ترداد الشعارات، ولكن هذا قول له تبعاته، وليس في ميدان الصراع بين الإيمان والكفر في المعتقد الإسلامي مقاعد للمتفرجين، فالجميع ينبغي أن يشارك إما بالحراب وإما في المحراب، وهذا يعني أن الحديث عن تأخر النصر ليس قائمة اتهامات توجه للمقاومة، بل هو لفت نظر للشعوب المسلمة كي تعلم أنها بقصورها عن الرقي إلى مستوى الأمة المجاهدة تُضعف تأثير المقاومة وتفشل جهودها، وقد تكون فصائل المقاومة على مستوى المسؤولية ولكن الشعوب الغافلة عن دينها لا تستحق تحقق النصر.
وهنا يكمن معنى آخر من معاني النصر وهو استمرارية المقاومة حتى مع الخذلان الجماهيري، كما جاء في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ' لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ' [رواه مسلم] وحركات المقاومة في فلسطين نجحت مرتين في تقريب أسباب النصر ووضعته بين يدي الأمة ولكن كان الخذلان في المرتين، مرة حين ذهب العرب يتوسلون في أوسلو، وفي الثانية تمثلت العقبة في شرم الشيخ..(1/1269)
رابعا: ينبغي التفريق بين حركات التحرير- من الاحتلال - الإسلامية وغير الإسلامية، وقد أفرط كثير من الناس في الاستشهاد بالحركات التحررية لتقويم مسار حركات إسلامية رغم اختلاف المنطلقات والأهداف، وفيما أعلم لا تكاد تكون هناك حركة تحررية إسلامية المنطلق نجحت في تحقيق أهدافها في العصر الحديث، وفي غالب الأحيان يتم سرقة إنجازاتها أو إفشال جهودها أو تعرضها للخذلان من أغلب الدول الإسلامية، ورغم ذلك لا يمكن أن نزعم أنها لم تنتصر، فالانتصار في المفهوم الإسلامي له أبعاد مختلفة، ويمكن الرجوع في ذلك للرسالة القيمة التي كتبها الدكتور ناصر العمر ' حقيقة الانتصار '..
محددات واقعية في فهم الأحداث:
هناك ثوابت منهجية لا غنى عنها عند التصدر لتقويم مسيرة المقاومة الفلسطينية بعيدا عن أسر العاطفة وأثر الحماسة الزائدة، ومنها:
أولا: المعلومات لابد أن تكون متساوقة مع عملية التحليل والاستنباط، فالمعلومات بالنسبة للمحلل السياسي بمثابة الدابة للمسافر يركبها لقطع الطريق، وعندما يتخلى عنها فإنه يركب الهواء ولا يقطع طريقا ولا يحفظ حقيقا، وعندما يقوم المختصون باستبدال بعض المعلومات ببعض العاطفة يحدث خلل في الرؤية، ويتزايد الخلل بحسب ما يتم الاستغناء عنه من المعلومات في مقابل العاطفة، ويحدث الخلط عندما تتهاوى الفواصل بين ما هو كائن بالفعل وما يجب أن يكون أو ما نحب أن يكون..
ثانيا: في الآونة الأخيرة حدثت طفرة معلوماتية بفعل تعدد المصادر وتنوعها، ونتيجة لذلك تزايدت مستويات الوعي والتفاعل مع الأحداث لدى الشعوب مقارنة بعقود سابقة، وقد أدى ذلك إلى تبلور خطاب سياسي إعلامي تفاعل بدوره مع الأحداث وتأثر بتفاعل الجماهير، وأصبح هناك نوع من الضغط غير المباشر الذي يمارسه الرأي العام العربي والإسلامي على هذا الخطاب لكي يصبح معبرا عن آمال وطموحات الشعوب وليس عن الواقع بغض النظر عن السلبيات أو الإيجابيات، وبالتالي أصبح كل من يجهر بعيوب أو سقطات أو إخفاقات مغردا خارج السرب..
وقد ساهمت وسائل الإعلام المتعاطفة أو ذات التوجهات الخاصة - على اختلافها في ترسيخ هذه الحالة بصورة كبيرة، بحيث إنها أصبحت تتناول القضايا الساخنة من منظور ' ما يطلبه المستمعون ' ولعلنا نذكر الأيام الأولى للغزو الأمريكي للعراق عندما أسرف خبراء عسكريون ومحللون سياسيون في الحديث عن المفاجآت التي أعدها صدام واستراتيجية الاستدراج التي ينفذها في مواجهة الأمريكيين وعن المقاومة المتوقعة للجيش العراقي وأن الاحتلال الأمريكي سوف يسارع بالهروب عندما يصل عدد القتلى إلى ألف عسكري، ثم بعد ذلك كله جاءت اللطمة التي تلقاها الاحتلال من أطراف أخرى غير متوقعة وتأسست هيئة علماء المسلمين لتعطي بعدا آخر للمقاومة العراقية لم يكن في الحسبان، وهذا يلفتنا إلى أنه ليس في صالح المقاومة الإسراف أو المبالغة في الحديث عن إنجازاتها(1/1270)
وخططها المستقبلية، ولولا الخشية من سوء الفهم لأوردت أمثلة كثيرة جدا على تناقضات أو تصريحات جزافية أو وعود بالنصر القريب أطلقها كثير من قادة المقاومة في فورة حماستهم ولم يتحقق منها شيء وذلك لا يقدح في مصداقيتهم قطعا - وعندما يصل الأمر إلى مستوى التصريح الصريح والمعلن فلا يمكن هنا الحديث عن ' تكتيكات '..
ثالثا: عند الحديث عن أطروحات أو تصورات أو خطط أو استراتيجيات تتبناها إحدى الجهات لابد أن يكون الكلام موثقا من قبل هذه الجهة.. من أدبياتها ووثائقها أو من تصريحات وأقوال ومقالات قادتها، وإلا فإن الكلام عندها يصبح محصورا في اتجاهين لا ثالث لهما: إما أنه كلام عاطفي مرسل لا مستند له من الواقع، وإما أنه من قبيل الأسرار التي يمكن أن يؤدي كشفها إلى إلحاق الضرر بالمقاومة أو الانتفاضة، وعلى سبيل المثال فإن التعريفات والتوصيفات المتعلقة بالانتفاضة الفلسطينية ومرادفاتها لابد أن يكون مصدرها الأساس فصائل المقاومة لا غيرها فهذا مقام توصيف ونقل للواقع وليس مقام تنظير، ولا يُعقل أن يتم دبج تعريفات أو توصيفات لم يقلها أو يطلقها قادة المقاومة، ولا يسوغ أن يتم إعادة صياغة الواقع الفلسطيني ونظم مفرداته ومتغيراته في سياق لم تُسلم به أو تُعلنه فصائل المقاومة نفسها..
رابعا: وتبقى إشكالية التفرقة بين الانتفاضة والمقاومة قائمة، والذي يهمنا في هذا السياق التأكيد على أن الانتفاضة شكل من أشكال المقاومة، ولا يعني توقفها أو إنهاءها أن المقاومة توقفت، ولا ينبغي التعامل مع قضية توقف الانتفاضة وكأنها نهاية العالم، والمتابع لتصريحات قادة المقاومة خاصة من حماس في الآونة الأخيرة يلحظ ذكرهم للمصطلحين بكثرة في مقام واحد، وربما يكون ذلك للإشارة إلى الفرق بينهما، ونشير هنا إلى أنه من الأجدر أن نترك قادة المقاومة يخططون لمسيرتهم ويحددون استراتيجيتهم بأنفسهم دون أن نجبرهم على توجهات بعينها إلا أن ننص على أن ما نطرحه هو من قبيل التوصيات والنصائح..
وإذا كنا نتحدث عن التفرقة بين الاستراتيجي والتكتيكي فلماذا لا يكون ' تبريد ' الانتفاضة أو إيقافها مؤقتا مجرد إجراء تكتيكي لا يعني أبدا أن المقاومة توقفت، بل ربما يحقق مكاسب سياسية في حين أن العمليات الفدائية يمكن أن تظل مستمرة كما سبق وحدث في المرحلة بين الانتفاضتين، والتي بلغ من قوة أداء المقاومة أثناءها أن تداعى حكام العالم وعلى رأسهم بل كلينتون في شرم الشيخ لتدارك الأمر، ونكرر مرة أخرى أن هذا الكلام ليس دعوة لوقف الانتفاضة ولكنه إعادة صياغة مفاهيمية لكي نكون أكثر مرونة في التعامل مع المتغيرات والأحداث..
خامسا: من التأثيرات السلبية للتناول العاطفي المفرط للمقاومة الفلسطينية تجاهل حقيقة أن العدو يفكر ويخطط ويناور ويمكر وينجح بعض مكره، فهل يعني ذلك القدح في قدرات المقاومة والتشكيك(1/1271)
بمستقبلها؟ لقد ذكر الله في كتابه الكريم حالة صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - في غزوة الأحزاب بما يتناسب مع طبيعتهم البشرية، فقال - تعالى -[وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا] فلماذا نستنكف أن يتعرض رجال المقاومة لمثل تلك النزعات البشرية؟!.. ينبغي أن نكون واقعيين ونحن نتعامل مع الواقع..
وفي الأخير قد نقول إن النصر قريب ويكون ذلك القول حقيقة لا شك فيها، ولكن مع ذلك يتأخر النصر ولا يتحقق مع تتابع السنين، وتوضيح ذلك يكمن في معنى القرب، حيث المقصود به ليس فقط القرب الزماني ولكن أيضا الإرادي، فيكون المعنى أن أسباب النصر باتت قريبة بحيث لو اجتمعت إرادة الأطراف المعنية على تعاطي أسبابه لتحقق على الفور، ولكن قد يظل النصر القريب معلقا لفترة طويلة في انتظار اجتماع الإرادات، والملاحظ في طبائع المقاومة الإسلامية في العصر الحديث أنها تحقق نتائج مبهرة تقربها كثيرا من النصر، ولكن الخطوة النهائية تحتاج دوما إلى مشاركة أطراف أخرى، ومن هنا يأتي الخذلان الذي يؤخر النصر لكن لا يضر الساعين إليه، ومن هنا أيضا وجه الجمع بين قرب النصر وتأخره في ذات الوقت..
الثلاثاء 13 محرم 1426هـ - 22 فبراير 2005 م
http://www.islammemo.cc المصدر:
ــــــــــ
دور الإعلام في النصر والهزيمة
سلاحان ماضيان يستعملهما العالم القوي ضد العالم الضعيف: سلاح النار وسلاح الإعلام. الكمية الضخمة من الأسلحة بأنواعها التي تصنعها مختبرات العالم المهيمن، والتي تصدر عنوة للعالم المهيمن عليه تحت أعذار ومبررات واهمة، وتحت الشعور بالخوف من قضايا غامضة قادمة..أنظمة..فكر.. حدود.. أعراف.. انقلابات.. إلخ.. والكمية الضخمة من المعلومات الموجهة التي تخترق عقول الناس وتشعرهم إثرها بالضآلة والانهزام إضافة إلى الخوف وعدم الجدوى كأفراد وكأمة وكأنظمة وكحضارة.
الإفريقي في هذا الإعلام: متوحش يعيش على أدمغة الناس.. العربي في هذا الإعلام: جنسي أكول نؤوم دموي. الغربي في هذا الإعلام: بطل بكل معنى الكلمة.. اليهودي في هذا الإعلام: ذكي وعبقري ومضطهد ولابد من مؤازرته.
لتحقيق هذه الأغراض وما شابهها تقوم في العالم القوي شبكة متكاملة من وسائل الإعلام تصل إلى حد الأسطورة:
أولاً: أكثر من مائة معهد معلوماتي مخابراتي صهيوني/ أمريكي، تقوم برصد كل ظواهر وبواطن النفسية العربية والبلاد العربية والحضارة العربية:(1/1272)
- معهد "أونيل دانجمان" التابع للمخابرات الإسرائيلية والذي انضمت إليه مؤخرًا مصر بعد كامب ديفيد.
- معهد المركز الأكاديمي الإسرائيلي، وتشرف عليه السفارة الإسرائيلية في القاهرة.
- مؤسسة "روكفلر" للدراسات الاستراتيجية.
- مؤسسة "فورد فونديشن" للمعلومات.
- مؤسسة راند للدراسات العربية والإسلامية.
- مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية لدراسات الشرق الأدنى والأوسط.
- جماعة أبحاث الشرق الأوسط.
- مؤسسة "فرديش أيبرت" الألمانية.
- معهد "بيركلي" للدراسات الدولية.
- مركز شيكاغو للدراسات الخارجية والعسكرية.
- مركز "برنستون" للدراسات الدولية.
- مركز "هارفارد" للشؤون الدولية.
- وكالة التنمية الأمريكية.
وعشرات، بل ومئات المراكز الأخرى الجاسوسية والبحثية والاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والدينية.. إلخ. وكلها تبحث بأسرار وتوجهات وإمكانيات وثروات ونقاط ضعف ونقاط قوة الإنسان العربي أولاً ثم الإنسان الجنوبي (المعتر).
هذه المراكز هي التي توجه الأحداث القادمة وهي التي توجه السياسات العالمية باتجاه العالم الثالث، وهي التي تدعم الصهيونية بكل وسيلة، وهي التي تكيد للوطن العربي وللعالم الإسلامي وللعالم الثالث بكل وسيلة أيضًا.
هذه المراكز تبحث في دقائقنا، في نفسياتنا، في شهواتنا، في تفكيرنا، في أحلامنا، في أطفالنا ونسائنا.. ولذلك كله؛ ولأن الفكر ابن المعلومة، فإن المعلوماتية الغربية/ الصهيونية هي صاحبة الكلمة في مستقبلنا.
ثانيًا: الإعلام الطاغي المعادي يدخل بيوتنا وقلوبنا، ويدخل مكاتب أصحاب القرار في بلادنا، ويغسل أدمغة المواطنين والحكام والصغار والكبار، حتى أنه هو الذي يقرر متى تشتري نساؤنا مكانس الكهرباء، ومن أي شركة، ومتى يصبح الجيش العراقي خطرًا عالميًا، وإلى أي مدى يجب تدمير لبنان وحرق بناه التحتية.. هل يتصور أحدنا أن السينما الأمريكية عرضت فيلمًا عن احتلال العراق للكويت وعن الحرب العالمية ضد العراق قبل الحرب ذاتها بأكثر من عشر سنوات؟!(1/1273)
نعم لنا أن نتصور ذلك؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية تملك 50% من كل صحف العالم اليومية، و45% من كل محطات الإذاعة العالمية، و26% من كل المحطات التلفزيونية العالمية، أما شبكات الإنترنت فهي أمريكية أصلاً، وهي التي تنشر فكر العولمة الأمريكية إلى العالم دون منازع.
الدول المهيمنة على العالم تملك أكثر من 90% من كل وسائل الإعلام العالمية، وهي رقميًا تملك حوالي سبعين ألف محطة إذاعية مقابل ما لا يزيد عن سبعة آلاف محطة إذاعية في كل العالم الثالث (ونحن منه)، كما أنها تملك أي الدول المهيمنة على العالم حوالي خمسين ألف محطة بث تلفزيوني مقابل ما لا يزيد على ثلاثة آلاف محطة تلفزيونية في كل العالم الثالث (ونحن منه)، ناهيك عن الأقمار الصناعية التي تجوب سماءنا وسماء العالم الثالث، وتحصي علينا أنفاسنا العلوية وأنفاسنا السفلية كذلك!!
ولا يخفى على أحد الآن أن هذه الأقمار الصناعية هي التي وجهت الطائرات الإسرائيلية في الحروب العربية الإسرائيلية، وهي التي وجهت الطائرات العالمية في تدمير العراق.
أما فيما يتعلق بالصحافة ووكالات الأنباء، فأكثر من 90% من كل المعلومات والأخبار العالمية تصدر عن خمس وكالات هي:
1- "الاسوشييتد برس". أمريكية.
2- "اليونايتد برس" أمريكية.
3- "رويتر" بريطانية.
4- وكالة الصحافة الفرنسية.
5- وكالة الأنباء الألمانية.
ورحم الله أيام "نوفوستي" و"تاس" السوفياتيتين.
هذه الوكالات توزع يوميًا أكثر من أربعين مليون كلمة على صحف العالم، تحتل أمريكا منها أكثر من النصف، أما في كل دول العالم الثالث (ونحن منه)، فالوكالات لا توزع أكثر من 300 ألف كلمة، أي أن العالم الثالث كله لا يبث أكثر من 1% من مجمل ما تبثه وكالات الأنباء التابعة للمهيمنين على العالم، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
أما ما يتعلق بالصحف اليومية، وهي تمثل الصحافة الفاعلة، فإحصائيات الثمانينيات ـ وهي تعتبر قديمة جدًا ـ تُشير إلى صدور 76808 صحيفة يومية في العالم. نصيب الولايات المتحدة فيها 1772 صحيفة يومية، توزع حوالي 62 مليون نسخة صباح كل يوم، أما في مصر وهي أكبر الدول العربية، فيصدر فيها 15 جريدة يومية، وتوزع حوالي 775 ألف نسخة يوميًا.(1/1274)
فيما يتعلق بالكتب، فقد أظهرت إحصائيات التسعينيات أن دول العالم المهيمن (شمال العالم) يُصدر 81.3% من كل إنتاج العالم من الكتب، بينما يتقاسم أكثر من ثلاثة أرباع العالم (المعتر) ونحن منه، ما نسبته 16.1% فقط.
وعندما نتحدث عن الكومبيوتر والأقراص المدمجة، فإن العالم الثالث يراقب هذه الأجهزة ويحلم بها، وهي غالبًا إن وجدت فللألعاب وللمعلومات الساقطة، أما الشركات الأمريكية والكندية فتحتكر 62% من هذه الأقراص، وتحتكر أوروبا الغربية 30% منها، ويظل 8% لاستراليا واليابان.
وحتى لا يُصاب القارئ بالخيبة أكثر فأكثر، فلن نُكمل الأرقام عن بقية وسائل الإعلام، وعن ساعات البث التلفزيوني الأمريكي والأوروبي لبلادنا، وعن نوعيتها، وعن أثرها فينا.
المعلومات والإعلام مهيمنان على العالم بكل معنى الكلمة، ويكفي أن نراقب برامج - الفضائيات اللبنانية على سبيل المثال لتستنتج الفرق بين اهتمامات الإعلام الغربي مقابل اهتماماتنا. (ولا عزاء لأهل الجد وأصحاب الطموح).
وللعلم فقط نقول بأن المعلومات ممنوعة في بلادنا، والإعلام موجه في بلادنا، ولذلك كله يظل الوطن العربي بعيدًا عن الشر ويعزف له، مصداقًا للمثل القائل: بعد عن الشر وغنيلو!!
07/03/2005
http://www.islamweb.net المصدر:
ــــــــــ
يوم النصر العظيم
د. عبد العزيز الفوزان
الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان قديم قدم البشرية ذاتها، ولن يزال مستعراً مشبوباً إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 76) وقال - تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (محمد: 4) فالله - تعالى - قادر على أن يُهِلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين؛ ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم، وجهادهم وبذلهم، فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق، ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل.
ولقد قص الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين. ومن هذه القصص العظيمة: قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - مع فرعون مصر في عهده، التي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعاً، وهي أكثر القَصص القرآني تكراراً، وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول -(1/1275)
صلى الله عليه وسلم - من صناديد قريش وفراعنة هذه الأمة، ولما فيها من التسلية والتأسية له وللمؤمنين، حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة، والدروس والحكم الباهرة، والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون، منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه فقد قيل لفرعون: إن مولوداً من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك.
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب - عليهما السلام -، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصاً، ثم لم يزل عددهم ينمو، ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.
وعندما أُخبر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم؛ حذراً من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21)، واحترز فرعون كل الاحتراز أن لا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه من ساعته.
وكان هارون - عليه السلام - قد وُلِد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى - عليه السلام - فإنه لمَّا حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفاً عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهم والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله - جل وعلا - ألهمها بما يثبِّت به فؤادها، كما قال - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 7).
فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقاً، وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، فألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خالياً من الطمأنينة، خالياً من الراحة والاستقرار، ولولا أن الله ربط على قلبها بالإيمان، وشد عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: 10)
ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحُفُّه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف، ولكن رب الأرباب، ومالك القلوب والألباب، يُلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضاً من الرحمة والرأفة(1/1276)
والحنان، على هذا الطفل الرضيع: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (القصص: 9).
وكانت آسية عاقراً لا تلد، وقوله - تعالى -: {وهم لا يشعرون}، أي: كدناهم هذا الكيد، وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدواً وحزنا وهم لا يشعرون. وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير، فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته.
ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو يرفض ويزيدهم عنتاً وحيرة، وبينما هم كذلك، إذا بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره، وتستطلع خبره: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (القصص: 11). ففرحوا بذلك فرحاً شديداً وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنهم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله - عز وجل - إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله - تعالى -: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص: 13).
وما زالت الأيام تمضي، والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكماً وعلماً، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفَّع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحدٌ من أهل بيته، قال الله - تعالى -: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص: 14)
وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوَّف من الطلب، ففر هارباً إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلَّمه من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، {فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى} (النازعات 21 ـ 24) وادعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس: 81 ـ82). {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الشعراء: 45).
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ* قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الأعراف: 118ـ122)(1/1277)
ولما انقطعت حجة فرعون، وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه، لجأ إلى القوة والبطش، والتعذيب والتنكيل، والملاحقة والتشريد، وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يظهر الحق، ويتمكَّن أهله ورواده.
ثم أرسل الله - عز وجل - إلى فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة، من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ولكنها والعياذ بالله لم تزدهم إلا عناداً واستكباراً، وظلماً وعدواناً، يقول الله - تعالى -: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) (الأعراف: 133)
ولمَّا تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام.
فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه، وجنَّد جنوده من شتى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه: {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون}.
فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء: 61)
فالبحر أمامهم والعدو خلفهم!! فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء: 62)، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق بإذن الله اثني عشر طريقاً يابساً، وصار هذا الماء السيال، وتلك الأمواج العاتيات، كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه، وتكاملوا خارجين، وتكامل فرعون وقومه داخلين، أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}(طه: 77ـ78ـ79)
وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله - تعالى -: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40).
ويستفاد من هذه القصة أيضاً: أن العاقبة للمتقين، والنصر حليفهم، متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال: 10) {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا(1/1278)
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر: 51ـ52).
ويستفاد منها كذلك: أن الباطل مهما انتفخ وانتفش، وتجبَّر وتغطرس، وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه، أو يرد كيده وباطله، أو يهزم جنده وجحافله، فإن مصيره إلى الهلاك، وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}(القصص: 38) وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: {َأنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}(النازعات: 24) ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف: 51).
ثم يحتقر موسى - عليه السلام - وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف: 52) ولكنه حين حل به العذاب لم يُغْنِ عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} (النازعات: 25).
فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم، وتحقق هذا النصر المبين؟!! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم: شهر الله المحرم.
فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بصيامه".
وقد كان صيام يوم عاشوراء واجباً قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فُرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة. تقول حفصة - رضي الله عنها -: "أربع لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر" (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني).
وسُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن صيام عاشوراء؟ فقال: "ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم" (متفق عليه). وبيَّن النبي - عليه الصلاة والسلام - أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: "صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (رواه مسلم).(1/1279)
وروى مسلم أيضاً عن ابن عباس قال: "حين صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: فإذا كان العام القابل ـ إن شاء الله ـ صمت التاسع. فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
وجاء في حديث آخر: " خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده " (رواه مسلم).
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فمراتب صومه ثلاثة..أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم.ويلي ذلك: أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.ويلي ذلك: إفراد العاشر وحده بالصوم" ا. هـ
وبناءً عليه، فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب. وإن صمت يوماً قبله ويوماً بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصاً إذا كان مشكوكاً في وقت دخول الشهر؛ ولأن السنَّة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر محرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
ومن المفارقات العجيبة: ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضاً من قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن أبيه وأمه وآل بيته، حيث قُتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهَّر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا. ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو: أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين - رضي الله عنه -، وما يقومون به من تعذيب أنفسهم، وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم، والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين، ولطم خدودهم، ونتف شعورهم، ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة، والمنكرات الظاهرة، ومن كبائر الذنوب التي تبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مرتكبيها، فقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" (متفق عليه). وعن أبي موسى - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة " (متفق عليه). والصالقة هي: التي ترفع صوتها بالنياحة والندب. والحالقة هي: التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها. فكل عمل يدل على الجزع والتسخط، وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وصفاقة، وجهل وسفه، وتشويه لصورة الإسلام، وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه. وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وهذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام!!(1/1280)
وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار، وإعلان للبراءة منهم. وهذا لعمر الله من أعظم الضلال، وأنكر المنكرات.
ويقابل هؤلاء فرقة أخرى، ناصبوا الحسين - رضي الله عنه - العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيداً، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة، والضلالات المنكرة، والبدعة لا تُعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال، والتوسعة على العيال، واتخاذ أطعمة غير معتادة. وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين - رضي الله عنه -، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحِب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم" ا. هـ
فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار. ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام هو اعتقاد عدالتهم جميعاً، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا اختارهم الله - تعالى -لصحبته ونصرته، وتبليغ هديه وسنته. ويدينون لله - عز وجل - بمحبتهم كلهم، والترضِّي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم، وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور. وأن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم، التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهادهم معه. - رضي الله عنهم - أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://www.asyeh.com المصدر:
ــــــــــ
قرار صائب ثم يأتي النصر
محمد العبدة
لا نكون مغالين أو مجرحين إذا قلنا إن المسلمين في الأعصر الأخيرة يفتقدون القرار الصائب والحاسم في اللحظات الحرجة أو اللحظات التاريخية.
القرار الذي يُتخذ دون تردد أو خوف من النقد ولوم الشباب أو الشيوخ، ودون إرضاء لطرف على آخر.
وهو القرار المناسب وليس القرار التلفيقي الذي يظن أنه يرضي الجميع وهو في الحقيقة لا يرضي أحدًا، وقبل هذا كله لا بد أن يحسب حساب الشورى وتقليب وجهات النظر، وملاحظة واقع(1/1281)
المسلمين والمصلحة الشرعية وما يراه العلماء في القديم والحديث، عند ذلك يأتي الفرج بعد الشدة، ويفرح المؤمنون بنصر الله، وفي القرآن والسنة وواقع المسلمين أمثلة لذلك:
1- جاء في سورة البقرة أن بني إسرائيل - وفي يقظة من يقظات الإيمان - (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة: 246] وأراد هذا النبي التأكد من صدق عزيمتهم ربما لأنه يعلم ما هم عليه من الخور والتردد: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا) [البقرة: 246]؛ فأظهروا تصميمهم على القتال، فاستجاب الله لنبيه وبعث لهم طالوت ملكاً يقودهم لقتال أعدائهم، وقد ذكر لنا القرآن عن هذا القائد الحكيم أنه لم يستخفه حماس هذا الشعب، فراح يختبرهم المرة تلو المرة، ولم يصمد معه أخيراً إلا فئة قليلة.
واتخذ القرار الصعب وقاتل بهذه الفئة وجاء النصر: (وقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ والْحِكْمَةَ) [البقرة: 251].
2- بعد تكالب الأحزاب على المسلمين في غزوة الخندق رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخفف عن المسلمين هذا الضيق رحمة ورأفة بهم، فاستدعى زعماء البدو من غطفان وغيرها وطلب منهم الرجوع عن المدينة وترك حصارها ويعطيهم ثلث ثمارها، وقبل تنفيذ هذا الرأي استشار السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، قالا: يا رسول الله!، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به، أم شيئاً تصنعه لنا؟، قال: بل شيء أصنعه لكم؛ لأن العرب رمتكم عن قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله!، قد كنا وهؤلاء على الشرك وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرًى أو بيعاً، أحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ !، والله لا نعطيهم إلا السيف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت وذاك.
وكان وفد غطفان يسمع هذا الكلام فتزلزلت أركانه، ورجعوا إلى معسكرهم ثم جاء النصر ريحاً وجنوداً لم يروها وانهزم الأحزاب خائبين.
3- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعد جيشًا بقيادة أسامة بن زيد ووجهته شمالي الجزيرة والروم، ولكن الجيش لم يمضِ بعد سماع أنباء مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر - رضي الله عنه -، ورأى الصحابة إرجاع جيش أسامة بعد أن ارتدت العرب، ولكن أبا بكر قال كلمته الحاسمة الجازمة: " لا أحل عقدة عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنفذ جيش أسامة.
فقالت العرب: لو لم يكن بهم قوة وطاقة لقتال الروم لما أرسلوا لهم هذا الجيش وأصابهم الوهن والرعب بسبب ذلك، وجاء النصر من عند الله على يد قامع المرتدين خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.(1/1282)
4- عندما بلغت المدن الأندلسية في منتصف القرن الخامس الهجري - الغاية من الضعف والتفرق، واستعان بعض ملوكهم بالنصارى على بعض، اجتمع علماء أشبيلية وقرروا أنه لابد من الاستعانة بالمسلمين في المغرب، وبخاصة المرابطون وعلى رأسهم يوسف بن تاشفين وعلم ملك أشبيلية المعتمد بن عباد بذلك فوافق على هذا الرأي، ولكن بعض الناس حذروه مخوفين له من أن ابن تاشفين إذا جاء لمساعدته فسيأخذ الأندلس أيضاً، ولكن ابن عباد اتخذ القرار الصعب وقال قولته المشهورة: (لأن أكون راعي إبل خير لي من أكون راعي خنازير)، ويقصد - رحمه الله - أنه يفضل أن يرعى الإبل عند ابن تاشفين ولا يؤسر عند ملك النصارى، فقدم مصلحة المسلمين وبلاد المسلمين على مصالحه الشخصية، وجاء ابن تاشفين، وكانت معركة " الزلاَّقة " مع نصارى أسبانيا وانتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً، وتملك ابن تاشفين الأندلس فعلاً، وأُقصى ابن عباد - رحمه الله - وعاش بعيداً عن أشبيلية، ولكن مأثرته هذه لا تُنسى.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــ
التوكل على الله سبيل النصر
عكرمة بن سعيد صبري
الخطبة الأولى:
يقول الله - تعالى -في سورة آل عمران: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران: 173-175].
أيها المسلمون: قد ذكرت كتب التفسير وكتب السيرة النبوية المطهرة أنه بعد أن وقعت أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل انتشى أبو سفيان زعيم المشركين في مكة المكرمة وقتئذ فرحًا، ونادى بأعلى صوته: يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، أي: نتلاقى في العام القادم في مكان بدر، فأجابه مباشرة: ((نعم، إن شاء الله)).
أيها المسلمون، لما رجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة أصبح حِذَرًا من زحف المشركين إلى المدينة ليتمّموا غلبتهم وفرحتهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضوان الله عليهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يُعرف بحَمْرَاء الأسَد، وكان ما توقّعه الرسول _ صلى الله عليه وسلم - قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المكرمة، ولكن لما علّموا بخروج النبي من المدينة باتجاه مكة ظنوا وتوهموا أنه قد(1/1283)
حضر معه جيش كبير، فألقى الله - عز وجل - الرعب في قلوبهم، ورجعوا القَهْقَرَى إلى مكة، وعَدَلوا عن التوجه إلى المدينة.
أيها المسلمون، بينما كان في موقع حَمْرَاء الأسَد أُلقِي القبضُ مرّة أخرى على المشرك أبي عزّة الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرًا في غزوة بدر الكبرى، وقد مَنّ عليه الرسول وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرًا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبا عزّة الشاعر لم يلتزم بوعده وعهده، فاستمرّ في نظم الشعر ضد الإسلام والمسلمين، فأمر بقتله، فأخذ أبو عزّة الشاعر يتوسل ويتَمَسْكَن ليمنّ عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، فقال له: ((لا والله، لا تمسح عارضيك بالكعبة وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين)). هذا، وتعتبر غزوة حمراء الأسد أول رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، هذا درس بليغ للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ، وليس كِيْسَ قُطْنٍ، ينبغي عليه أن لا يُلدغ من جُحر واحد مرتين. أما الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي فقد لُدِغت من جُحر واحد مرات ومرات، ولم تتعظ إلى الحين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، لقد تمكّن رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عَسْكَرَ المسلمون فعلاً في موقع بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان اللذين سبق لأبي سفيان أن حدّدهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إخافة وإرجاف المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل، وإن الحرب النفسية والإشاعات لم تؤثر على المسلمين، واستمروا متوجّهين إلى مكان بدر وهم يردّدون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فازداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم.
أيها المسلمون، إذا وقع المسلم في كرب شديد فإنه يلجأ إلى الله رب العالمين داعيًا: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ لقول رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))، وقد سبق وأن ردّد هذا الدعاء سيدنا إبراهيم - عليه السلام - حينما أُلقِي في النار، فكانت النار بردًا وسلامًا عليه.
أيها المسلمون، لقد خرج المسلمون فعلاً، ومكثوا في موقع بدر ثلاثة أيام، وقاموا بأعمال تجارية بأمن وأمان، ثم عادوا غانمين سالمين، ويشير الله - عز وجل - إلى ذلك بقوله: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" [آل عمران: 173-175].(1/1284)
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه مع العمل الجاد، فإنه لا ملجأ إلا إليه - سبحانه وتعالى -، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله رب العالمين يُطوّع له المخلوقات كلها، سئل الإمام الحسن البصري - رحمه الله -: كيف تخاف من ربنا؟ فقال للسائل: "لو ركبت أنت البحر، فتحطّمت سفينتك، فلم يبق منها إلا لوح، فأمسكت به فوق الموج العالي، كيف يكون حالك؟ " قال السائل: خوف شديد، قال البصري: "أنا هكذا مع الله، في خوف منه ليل نهار".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم ييأس المسلمون مما حلّ بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يستسلموا، لم يتهرّبوا من المسؤولية، لم يتخاصموا على الكراسي والمناصب والعروش، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا بمؤتمرات سياسية ولا بقرارات، لم يُوكلوا أمرهم للأوهام والتمنيات.
وما نيل المطالب بالتمنّي *** ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منال *** إذا الأقدام كانت لهم رِكَابا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد مرّت مِحَن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية؛ لأنهم كانوا يخافون الله ويخشونه، وقد ورد عن البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - أنه كان يحثّ جُنده على تلاوة القرآن الكريم، وكان يطرد اليأس من قلوب ونفوس المواطنين امتثالاً لقوله - عز وجل -: "وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ" [يوسف: 87].، فلا بد من الرجوع إلى الله العلي القدير في كل وقت وحين، وأن يدفعنا ذلك للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [آل عمران: 126]، ومن يرزقنا؟ إنه هو الله، ومن يميتنا ويحيينا؟ إنه هو الله، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات: 50].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ورد في الأثر: إن أربعة من الملائكة يحملون عرش الرحمن، وإن هؤلاء الملائكة سَبَق أن منحهم الله - عز وجل - قوة السماوات والأرض والجبال والرياح، إلا أنهم لم يتمكّنوا من حمل العرش حتى قيل لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحينما قالوها استطاعوا حمل العرش.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون، هناك أربع نقاط تهمّ أمور المسلمين ومصالحهم العامة، أشير إليها بإيجاز:(1/1285)
أولاً: محاولة التشويه لصورة العرب والمسلمين بأنهم يهتمّون بالجنس ويشربون الكحول، وأنهم حمقى لم يقدّموا أيّ مساهمة للإنسانية. هذا ما يزعمه محاضر يهودي في جامعة حَيْفا، وكان الأحرى بهذا المحاضر اليهودي أن يُحاسب نفسه قبل أن يحاسب وينتقد غيره، ويتوجب عليه أن يكون موضوعيًا وأمينًا في الحكم على غيره، وأن يطلع على الحضارة الإسلامية من مصادرها الموثوقة قبل أن يتطفّل ويتكلّم في هذا الموضوع، والأنكى من ذلك أن الطالب الذي ناقش هذا المحاضر واعترض على هذه الافتراءات ستحاكمه إدارة الجامعة، وتحيله إلى لجنة تأديبية، أي: إن موقف إدارة الجامعة كان مع المحاضر ضد الطالب العربي. وإننا إذ نقف إلى جانب هذا الطالب الذي تصدّى للمحاضر الجاهل العنصري، ونطالب الأساتذة والطلاب العرب في جامعة حَيْفا وغيرها من الجامعات أن يبرزوا الوجه الحضاري للشريعة الإسلامية عبر التاريخ والإنجازات التي قدمتها للحضارة الإنسانية جمعاء.
ثانيًا: المقابر الإسلامية في فلسطين، هناك انتهاكات متواصلة لحرمة المقابر الإسلامية، وكان من آخرها ما أُثير حول مقبرة الاستقلال في حَيْفا، وقد أصدرنا مؤخّرًا فتوى شرعية تأكيدًا لفتاوى سابقة، تتضمن وجوب المحافظة على حرمة هذه المقابر وصيانتها من العبث ونبش القبور، وذلك بإقامة أسوار حولها وإعادة دفن الموتى.
ثالثًا: توسيع المستوطنات ومصادرة آلاف الدونمات، لقد قررت الحكومة الإسرائيلية خلال هذا الأسبوع بناء 6400 وحدة سكنية في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى توسيع المستوطنات في محيط مدينة القدس، وشقّ طرق جديدة للربط فيما بين المستوطنات لمحاصرة مدينة القدس وخنقها، وهذا يؤدي إلى مصادرة آلاف الدونمات من أراضي المواطنين الفلسطينيين، وهذا يؤكد أن السلام المطروح هو سلام مزعوم للخداع وللمراوغة وكسب الوقت، ونؤكد على عدم شرعية هذه المستوطنات، وأن حق المواطنين في أراضيهم سيبقى قائمًا إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، رابعًا وأخيرًا: المسجد الأقصى المبارك تاج القدس ودرّة فلسطين ورمز ثباتنا ومرابطتنا، تواصل الشرطة الإسرائيلية تحذيراتها من هجوم محتمل للمتطرفين اليهود. ونتساءل: هل الشرطة الإسرائيلية لا تعرف هؤلاء المتطرفين؟! ولماذا تتركهم يصِلُون ويفسدون ويعربدون دون أن تعتقلهم اعتقالاً على الأقل؟! وهل يستطيع هؤلاء المتطرفون تنفيذ مخططاتهم العدوانية دون علم الحكومة الإسرائيلية المحتلة؟! المسؤولة [مسؤولية] كاملة عن أي مسّ بحرمة المسجد الأقصى المبارك، كما نحمّل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي المسؤولية لحماية المقدسات وتحرير البلاد والعباد.
http://www.alminbar.net المصدر:
ــــــــــ
الفلوجة وحلاوة النصر(1/1286)
أسامة الأحمد
" من حدثكم أنَّ المغول قد هُزموا في معركة فلا تُصدقوه".. كلمة مهزومة سارت في ظلمات انكسارنا مسير الحقائق.. وكم تلقتها ألسنة المُرجفين والمُخذلين والجبناء..
ويشاء الله - تعالى -أن تُهزم هذه الكلمة الجبانة في"عين جالوت"أمام كلمة "وا إسلاماه".. ثم يدخل المغول في الإسلام، فلا يَحسُن إسلامهم! ويعودون من جهة الشرق بقيادة " قازان" يجوسون خلال الديار، وينشرون الفساد والدمار.. ولما اقتربت جيوشهم من دمشق، تسامع أهلُها ذلك الخبر الحزين.. فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت، وبلغت القلوبُ الحناجر، وضج الشيوخ بالدعاء، وصعدت النساء إلى أسطحة المنازل كاشفاتٍ شعورَهن، عارضاتٍ أطفالَهن على الله..
ويتخاذل سلطان دمشق عن منازلة المغول على الرغم من تحريض شيخ الإسلام.. ويلجأ الإمام إلى مصر طالباً النجدة من سلطانها.. ولكن السلطان اعتذر بأنه لا طاقة له بالمغول، فما كان من شيخ الإسلام إلا أن أقسم له ولأمرائه الأيمان بأنهم منصورون.. فبرز"الورعون" من أشباه العلماء المتخصّصين في قلب شجرة الإسلام، وقالوا: قل إن شاء الله.. فقال الإمام: إن شاء الله، تحقيقاً لا تعليقاً..
وأعادوا مقالتهم فأعاد لهم ابن تيمية نفس الجواب.. وأقسم لهم في ذلك اليوم أكثر من خمسين قسماً أنهم منصورون.. ثم اشترى "حلاوة النصر" ووزعها على أمراء الجيش قبل المعركة!..
وقاد الإمامُ ابنُ تيمية سلطانَ مصر وأمراءه وجيشه إلى بلاد الشام.. وتقابل الجيشان في شقحب، ويعود الشيطان يوسوس لأشباه العلماء بالخذلان.. فقالوا: هل شاهدتم الميل في المكحلة! كيف نقاتل المغول وهم قوم مسلمون؟!
فقال شيخ الإسلام: إذا رأيتموني في الطرف الآخر، وعلى رأسي المصحف فابدؤوا بي.. وارتفع اللواء.. وارتفع النداء.. نداء "الله أكبر"..
ونصر الله عبادَه الصالحين، وولى المجرمون مخذولين..
ويرحم الله شيخَ الإسلام..
ومن جديد.. يعود المغول من جهة الغرب إلى بلاد الرافدين.. يعودون كأسلافهم ينشرون الظلم والظلام في مدن الحضارة.. ويعلو من جديد صوت المنافقين والمُرجفين والمخذّلين.. ويعلو أكثر صوت تكبير المجاهدين.. ويقف التاريخ حابساً أنفاسَه، ممسكاً قلمَه، ناظراً إلى مدينة المآذن.. وأقول للتاريخ ما قال الإمام: أقسم بالله العظيم لينتصرنّ المجاهدون..
بالأمس قصصت على أطفالي قصة شيخ الإسلام.. وعند الصباح فاجأني صغيري بصورة تناقلتها المواقع لمجموعة من مجاهدي الفلوجة يتحلقون حول سفرة مباركة.. وعلى الصورة عبارة خطها يمين وإيمان الصغير:(1/1287)
" دققْ النظر حتى ترى طبق حلاوة النصر"..
http://www.lahaonline.com المصدر:
ــــــــــ
كيف يتحقق النصر ؟
ماجد بن عيد الحربي
في الخامس من شهر نيسان عام 1948 م كان (قائد منظمة الجهاد المقدس في فلسطين) المجاهد عبد القادر الحسيني _رحمه الله_، يقف أمام (رئيس اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية) الباشا طه الهاشمي، طالباً منه تسليمه الأسلحة التي اشتراها أهل لبنان تلبية لطلب (منظمة الجهاد المقدس)، لاستعادة بلدة القسطل التي سقطت بيد العصابة اليهودية، فرد عليه الهاشمي إن هذه الأسلحة جديدة، وسوف أعطيها إلى الأفواج التي نجندها من العلويين والدروز الذين دربوا بالجيش الفرنسي سابقاً، فقال الحسيني: هذه الأسلحة اشتريت لنا ونحن أحق بها من غيرنا وأجدر من كل أحد بالدفاع عن بلادنا، ولكن طه الهاشمي أصرّ على رفضه تلبية الطلب، فما كان من المجاهد الكبير إلا أن قذف بالخرائط التي كانت بيده في وجه الهاشمي، وقال له: إنكم تريدون قتلنا، وتمهدون السبيل إلى هزيمة رخيصة، ثم أردف قائلاً: إنني ذاهب إلى فلسطين لاسترداد القسطل وسأموت هناك، ولن أترك بلادي طعمة للأعداء.
وغادر عبد القادر الحسيني مقر اللجنة بدمشق عائداً إلى فلسطين، وقاتل مع إخوانه المجاهدين حول القدس قتال الأبطال بما يملكون من سلاح وذخيرة، واستعادوا القسطل وقتلوا من اليهود ما يربو على (350) إلا أن نفاذ الذخيرة واستشهاد القائد الحسيني واستعانة اليهود بالمصفحات البريطانية، مكّنت اليهود من استردادها وقتل جميع المجاهدين فسقطت القسطل البوابة الرئيسة للقدس، وبسقوطها دخل اليهود بيت المقدس دون أن تواجههم أي مقاومة ذات قيمة.
هذه القصة مدونة في أغلب الكتب التي صدر ت عن فلسطين بعد حرب 1948 م، ولم آت بسردها بجديد، إلا أنني أردت إعادة السؤال الذي يتردد على شفاه أفراد الأمة وإن لم تنطقه الألسنة - هل تمت محاسبة المسؤولين عن سقوط القسطل هذا السقوط والذي أدى بدوره إلى سقوط بيت المقدس بأيدي أبناء القردة والخنازير وقتل خيرة شباب الأمة من المجاهدين الذين يعول عليهم الكثير في تحرير أرض فلسطين وتطهير بيت المقدس من دنس الاحتلال اليهودي، وقد روي عن أحد أعضاء اللجنة العسكرية قوله للحسيني دعهم يحتلون القدس حتى يكون لنا شرف استعادتها منهم، واحتلت القدس الغربية ثم الشرقية ثم كامل فلسطين، دون أن ينال أعضاء اللجنة العسكرية هذا الشرف.
ولم تكن المسؤولية متوقفة على هؤلاء الأعضاء فالجزء الأكبر يتحمله حكام الطوائف في ذلك الوقت والذين أتوا من بعدهم، فأمة لا تحاسب من يفرطون بثوابتها الاستراتيجية من أبنائها وتكافئ البررة(1/1288)
منهم على ما قدموه من خدمة لدينهم وأمتهم، هي أمة قاصرة لم تعي رشدها ولن تتمكن من استعادة حقوقها المغتصبة ولا رسم مستقبلها، وستبقى تعتمد على أعدائها بكل مقومات حياتها، الأمر الذي يجعلها تستورد منهم كل شيء، حتى فيما يتعلق بأمنها الداخلي، وبالتالي لا يمكن لها أن تدعي أنها أمة ذات سيادة.
فما أراه وحال الأمة كما ذكر فإنه من العبث إضاعة الوقت بتكريس الجهود لمتابعة أخبار القمم العربية السابقة واللاحقة وتحليل قراراتها، فهذه القمم هي التي أضاعت فلسطين سابقاً ورسّخت أقدام المحتل بأرضها الطاهرة لاحقاً، فلو أعدنا إلى الأذهان نتائج اجتماعات القمم العربية منذ أول قمة وحتى قمة الجزائر الأخيرة، لوجدنا أن كل قمة تقدم تنازلات للعدو الصهيوني تفوق التنازلات التي قدّمتها القمة التي قبلها، حتى وصل بنا الحال إلى عرض فرض التطبيع مع اليهود على الشعوب العربية دون مقابل، وهذا المقترح الذي تقدم به الوفد الأردني، وأقره المؤتمرون بالجزائر تحت مسمى تفعيل المبادرة العربية، ما هو قادم أخطر إلا أن يشاء الله غير ذلك، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولن يساورنا أي شك بالنصر والتمكين لهذه الأمة.
ولكن لن يتحقق هذا النصر بعقد المؤتمرات الهزيلة واستجداء الحل من البيت الأبيض والأمم المتحدة، وإنما يتحقق النصر _بإذن الله تعالى_ ثم بسيوف المجاهدين التي لا تعرف للحل إلا طريقين لا ثالث لهما - إما طريق النصر أو الشهادة، وهذا الذي يخشاه أعداء الأمة من اليهود والصليبيين، والمتهافتين على حطام الدنيا من أبناء جلدتنا، ولعّل ما يحدث في بلاد الشام هذه الأيام ما هو إلا من إرهاصات الحل المنشود، فالقوم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
فالذي يظهر والله أعلم - أن سدنة البيت الأبيض أرادوا بهذا العمل لفت أنظار شعبهم عما يجري لجنودهم بالعراق، ولكن غاب عن صنّاع القرار هؤلاء أن إضعاف النظام السوري قد يؤدي إلى كسر أحد البوابات المؤصدة على دولة العصابة اليهودية في فلسطين، الأمر الذي سيسمح بدخول المجاهدين عبر بوابة الشام إلى فلسطين المحتلة، وسيعلم وقتها الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
15/3/1426
http://www.almoslim.net المصدر:
ــــــــــ
بشائر النصر
أحمد بن صالح السديس
ظهر في الناس اليوم اليأس، وفقد الكثيرون الأمل. وكانت مصائب الأمة ونكساتها، وحروبها وانهزاماتها؛ سبباً في أنْ ينظروا إلى واقعهم بعين السخط والتشاؤم، وأنْ يغضّوا الطرف عن أسباب للنصر وبشائر؛ فخارت منهم القُوى، وتمكّن منهم العِدا. وما أحوجهم إلى استنطاق التاريخ، وقراءة(1/1289)
النصوص، ومعرفة البشائر، وليس ذلك ليركنوا للأماني، ويسلكوا درب التواكل، ولكنْ ليعدّوا القوى، ويأخذوا بالأسباب والوسائل، في عزم صادق، وجهد متواصل وفاعل، بعيداً عن اليأس والقنوط الذي هو أول الانكسار، وبداية الانهزام، وقد يكفي العدوَّ من الغنيمة اليأسُ والانكسار؛ ذلك أنّ مَن يئس من النصر لم يعمل من أجله، ومن قنع ورضي بالذل طال لُبثه ومكوثه فيه.
لقد قضت سنة الله العليم، وتدبيرُه الحكيم، أنّ الحق والباطل في صراع وتدافع دائم، وأنّ الباطل قد يكون له في فترةٍ الفوزُ والغلب؛ ابتلاء من الله وتمحيصاً، وتربية للمؤمنين وتطهيراً: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
ومتى وُجد الكفر والفتنة فقد فُرضت الحرب والقتال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل إنّ الساعة لا تقوم إلا على شرّ الخلق.
وإنْ كانت الخصوم تبحث عن ولي لها ومعين؛ فإنّ وليَّ المؤمن أعظم الأولياء، وما خاب مَن لجأ إلى الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].
ولو صَفَت الحياة من المصاعب والمصائب؛ لكان ذلك لأفضل البشر وخير القرون!! لقد مرّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم محن وبلاء، وبأساء وضراء، كما مرّ ذلك برسل قبلهم وأنبياء، حتى تاقت نفوسهم إلى الخلاص، وتشوَّقت إلى النصر والنجاة، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. لقد بلغ الضر والبلاء بالمؤمنين في صدر الإسلام مبلغاً عظيماً، وامتُحنوا امتحاناً شديداً، حتى شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الشدة، فقالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان مَن قبلكم؛ يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه. والله ليَتِمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(1).
هكذا هي سنة الله التي لا تحابي أحداً، سأل هرقلُ أبا سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالاً، يُدال علينا ونُدال عليه. قال هرقل: كذلك الرسل تُبتلى، ثم تكون لها العاقبة.
هذا يعقوب - عليه السلام - يفقد ابنه صغيراً، وبعد سنوات طِوال من الأحزان يفقد ابنه الآخر، فيتجدّد حزنه، ويشتد مصابه، حتى ابيضت عيناه، فيقول لأبنائه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فكانت عاقبة أحزان السنوات الطوال تفريجاً ورفعة في الدرجات، وفوزاً بأحسن حال.(1/1290)
ولما خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - من مكة إلى المدينة مهاجرَين؛ جُنّ جنون قريش، واستنفرت قواها، وجعلت مائة ناقة لمن يأتيها بأحدهما حياً أو ميتاً، وطمع الناس بهذه الجائزة، ورجا كل منهم أنْ يكون الفائز بها، وكان سراقة ابن مالك ممن نشط لذلك، فانطلق يتبع أثرهما، حتى دنا منهما، فعثرت فرسه، وغاصت يداها في الأرض؛ فعرف أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - محفوظ، وأنّ أحداً لن يناله بسوء؛ فناداهما بالأمان. وقال له الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه مبشِّراً: «كأني بك يا سراقة! تلبس سوارَيْ كسرى»، فوقف سراقة متعجِّباً من هذه النبوءة والبشارة؛ محمد الذي خرج من مكة مطارَداً من قومه وأقرب الناس إليه يعدني سوارَيْ كسرى!! ولكنه اليقين بنصر الله وبموعوده الذي لا يتزلزل عند الملمّات والشدائد. وانقلب الحال فتحوَّل سراقة من عدو طامع، إلى صديق مدافع، ووقف مكانه يصرف الناس عنهما.
وفي غزوة الأحزاب التي أخبر الله عن حال المؤمنين، والشدة التي صاروا فيها، حتى زاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا، إنها الحال التي ابتُلي بها المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً. فلمّا بدؤوا بحفر الخندق بذلاً للأسباب واستعداداً، ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - صخرة صلْدةً بالمِعْول فصدعها، وبرقت منها برقة أضاءت المدينة، فكبَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكبَّر المسلمون، ولما تكرَّر ذلك ثلاث مرات؛ بشَّر - عليه الصلاة والسلام - المسلمين في ذلك الكرب وتلك الصِّعاب بأنهم سيفتحون مدائن كسرى، وقصور الروم، وقصور صنعاء.
إنّ الباطل وإنْ صال وجال، وإنْ علا في زمان أو طال؛ فإنه ولا ريب سيعود إلى ما كان عليه من التراجع والصغار، وتلك سُنَّة من سنن الحكيم القهار. وقد وعد أصدق الواعدين - سبحانه -: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]؛ ذلك أنّ هذا هو طبيعة الباطل: {إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. وإنّ الذي يمكث ويبقى هو ما ينفع الناس: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17].
إنّ المؤمنين الصابرين موعودون إحدى الحسنيين؛ فإما شهادة تعجِّل بهم إلى دار النعيم والكرامة، وإما نصر تَقرّ به عيونهم؛ ففيم اليأس والأسى؟ أما غيرهم ففيم يفرحون؟ وبم يُسرّون؟ أبالنار التي إليها يسيرون؟ أم بالعذاب الذي إليه يُساقون؟ أم بالخسارة التي إليها يُهرعون؟! ولقد قال الحكيم العليم - سبحانه -: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36 - 37]. لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصدَّ عن سبيل الله، فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم؛ لأنهم كما يقول ابن جرير الطبري - رحمه الله - عند تفسير هذه الآية: «أموالهم(1/1291)
تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله؛ لأنّ الله معلٍ كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسله إلى جهنّم، فيُعذَّبون فيها، فأعظِم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومَن هلك! أما الحي فحُرِبَ ماله، وذهب باطلاً في غير دَرْك نفع، ورجع مغلوباً مقهوراً، محروباً مسلوباً. وأما الهالك فقُتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلد فيها»، وتلك والله هي الخسارة الكبرى.
وإنّ من سنن الله - عز وجل - أنّ المستقبل لهذا الدين، والنصر لأوليائه الصادقين، مهما كاد الكائدون، وتآمر المتآمرون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، إنهم كما أخبر الله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، إنهم يكيدون الليل والنهار ويمكرون، والله خير الماكرين، وهو - سبحانه - ولي المؤمنين المتقين.
والابتلاء هو سبيل المرسلين والمؤمنين، ولكنّ أمر المؤمن كله له خير؛ فهو عند النصر والسراء من الشاكرين، وعند الكرب والضراء من الصابرين. ولقد وعد الله، ولا أصدق منه وعداً، فقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]، ونصر المؤمنين أعظم نصر وأشرفه؛ لأنه نصر للحق على الباطل، ونصر في الدنيا والآخرة، بذا وعدنا الحكيم القادر: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وجاء النص الإلهي الكريم في سورة الروم على انتقامه - سبحانه - من المجرمين الذين صدُّوا عن هدي المرسلين، ثم وَعَد بنصر المؤمنين، فقال ـ- تبارك وتعالى -ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
وإنّ من نصر الله لدينه أنْ يبعث في كل حين مَن يجدِّده، كما جاء في سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»(1). إنه رجل لا ينهض من أجل نفسه، ولكنه ينهض من أجل هذه الأمة المنصورة. إنّ الناس يموتون، ولكنّ الدين باق بعزَّة وشموخ، يقيِّض الله له من أبنائه مَن يكون عزُّه ونصره على يديه.
ومن نَصْر الله لدينه أنْ جعل الزمان لا يخلو من أهل الحق، الصابرين في سبيله، الذين يعضّون بنواجذهم عليه، ويتحمّلون في سبيله كل أذى وقتال، كما جاء في الحديث الصحيح عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس»(1).(1/1292)
إنّ الخوف على أنفسنا لا على دين الله، الخوف على أنفسنا في عالم تموج به الفتن أنْ يتخبّطنا الشيطان، أما الدين فله رب يحميه، وقد تكفَّل ببقائه وحفظه ونصره، ولا علينا أنْ يصيبنا ما يصيبنا في سبيل نصره وتمكينه، عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذلّ ذليل؛ عزّاً يعزّ الله به الإسلام، وذلاً يذلّ الله به الكفر»(2).
وفي الحديث الصحيح الآخر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ الله زوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمرَ والأبيضَ. وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم. وإنّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُردّ، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً»(3).
ومن بشائر النصر العظيمة: فتح القسطنطينية وروما، وقد تحققت الأولى، وبقيت الثانية، ولا شكّ في حصولها، فقد أخبر بذلك مَن لا ينطق عن الهوى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب؛ إذ سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيّ المدينتين تُفتح أولاً؛ قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مدينة هرقل تفتح أولاً» يعني قسطنطينية(4).
ولئن كان لليهود اليوم صولة وجولة، وكان للنصارى مظاهرة لهم وممانعة، ولئن ظنّ بعض المنهزمين ألا قدرة لنا عليهم، فقد جاءتنا البشارة بأنّ خاتمة المطاف تحمل نصراً لنا وإبادة لهم؛ إبادة يتعاون معنا فيها الحجر والنبات. أخبر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقاتلكم اليهود، فتُسلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهوديّ ورائي، فاقتله»(5). وفي رواية أخرى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود»(6).
إنّ الإيمان ـ أيها الإخوة ـ هو شرط نصركم وتمكينكم، فمتى صحَّ ذلك منكم تحقَّق وعد ربكم لكم.
وإنّ العبرة ليست بالظاهر، فلربما أخفت الحقائقَ المظاهرُ. وإنّ الكافرين وإنْ كانت لهم الغلبة الظاهرة، إلا أنّ النصر الحقيقي يتمثل في الصبر والثبات، وفي خاتمة المسار والمطاف، {وَعْدَ اللَّهِ لا(1/1293)
يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6 - 7].
لقد كانت النتائج العسكرية البحتة لكثير من الغزوات والمعارك تمثل هزائم ونكسات، ولكنها لم تكن القاضية، وكان بعدها جولات للمؤمنين غالبةٌ.
لما نجا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بالمسلمين في مؤتة؛ صاح بهم بعض الناس لما رجعوا إلى المدينة: يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله، ولكنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بل أنتم الكرَّارون، أنا فئتكم».
وفي أُحد دارت الدائرة على المسلمين بعدما كانت الغلبة لهم، واضطربت صفوفهم، وتمكّن منهم أعداؤهم، ولكنّ الحكيم العليم خاطبهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139 - 140].
وليُعلمْ علم اليقين أنّ النصر قد يتأخر، ولكنه لا يتخلّف. وقد يأتي في غير صورته المعروفة، وهيئته المألوفة؛ فالابتلاء والمصائب قد تحمل من الخير الخفيِّ الكثيرَ، وقد تكون سبباً لنصر أعظم وأشمل. وعلينا ألا نيأس من نيل النصر، وأن نبحث عن أسبابه، وأنْ نجتهد في أن نكون جنداً من جنده، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
فأبشروا وأمِّلوا، وثقوا بالنصر واعملوا، واعلموا أنّ الخير لا يُدرى أين يكون، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَل أمتي مَثَل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره»(7).
----------------------------------------
(1) صحيح البخاري، كتاب الإكراه.
(1) سنن أبي داود: كتاب الملاحم.
(1) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة.
(2) مسند الإمام أحمد.
(3) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(4) مسند الإمام أحمد.
(5) صحيح البخاري، كتاب المناقب، وصحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، واللفظ له.
(6) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة.
(7) سنن الترمذي، كتاب الأمثال.
ربيع الآخر 1424، يونيو 2003.
http://albayan-magazine.com المصدر:
ــــــــــ(1/1294)
النصر القادم
محمد أبو الهيثم
في كل صباح ننتظر النصر..ولكن لا نصر
مع ظفرات أنين خروج الليل سينبلج الفجر
هذا صلاح الدين بيده الحجر كصورة بدر
هذي الخنساء تربّي للقدس بيدها أبطال الفخر
يا كل رجال العالم ونساءه قد شُقَّ البحر
في قدس الروح وفي قلب القدس سينفلق الصخر
أطفال كالدرِّ المنثور تلألأ ليزين للقدس النحر
الحجر سلاح فتاك وبصيحات التكبير سيمتلئ الثغر
يا قدس الروح ويا روحي يا أم الخير
بجبين الأمة آلامك قسماً سنزيل القهر
النصر القادم آت لا شك، وإن طال الصبر
بسيوف السنّة والقرآن وبالحجر..سينقلع الشر
02 - 05 - 2005
http://www.islamway.com المصدر:
ــــــــــ
سبيل الوحدة وطريق النصر
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، في دنيانا المحيطة بنا أمثلة وضروب تتلوَّن وتتجدد، ثم إن بعضها يتبع بعضاً على وجه المطالبة الحثيثة بحيث إن النفوس المؤمنة تستمرِئها بسبب تتابعها رويداً رويداً، حتى تألفها فلا تكاد تتحوّل عنها.
وهذه الأمور ـ عباد الله ـ إنما هي نماذج لأحزان وأشجان وقروحٍ تمسّ بلاد الإسلام حسيّة ومعنوية، مما يجعلها سبباً لكثير من الناس في أن يسعَوا جاهدين على إزالة همومهم وغمومهم بشيء من الكيوف الموقوتة والسراب الخادع، من كل ما هو من زخرف الدنيا وزينتها. والذي يجب على(1/1295)
المسلمين جملةً أن لا يغترّوا بما يرونه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمةٍ تقطّعت روابطها وانفصمت عُراها، (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [طه: 131].
من أجل الدنيا وزينتها يغشّ التجار ويطفِّفون، ومن أجل الدنيا يتجبّر الرفعاء ويستكبرون، من أجل الدنيا وزخرفها يروّج الصحفي بقلمه الكذب والزور، ويخفي الحقائق وهي أوضح من فَلَق الصبح، من أجل الدنيا يصبح المرءُ مسلما ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا مقيت.
كل الناس على هذه البسيطة يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها، من مُترَفٍ مبطونٍ يأكل ولا يشبع، داؤه العُضال هو أن تذكّره بذوي المسغبة أو المسكنة، أو المصاب الجلل من بني ملّتِه، ومن قارونيّ يجمع ويجمع، ثم يأخذ ويمنع، ومصابُه الجلل في أن تحثَّه على الإنفاق في سبيل الله جهاداً ودعوةً وصدقةً، ومن شباب وفتياتٍ دُعُوا إلى الفضيلة فأبوا، ونودوا إلى صيانة النفس فتمرّدوا، وألقوا [ثيابهم] لكل قادم ناهب، وكشفوا أوعيتهم لكل سَبُعٍ والغ.
والحق ـ عباد الله ـ أن هذا الانطلاق المحموم في مهامِه الحياة ودروبها أفراداً ومجتمعاتٍ دون اكتراث بما كان وما يكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله، وقد عدّه الله - سبحانه - سمة من سمات المنافقين الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم: ( أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) [التوبة: 126].
أيها المسلمون، في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يُستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط، والوقوف مع النفس في مكاشفة ومصارحة في عصرٍ غلبت عليه المجاملات والرتابة، والفرقة والوحشة، والتناصُر بين النفوس شذر مذر.
ومن هنا يأتي الحديث ضرورياً عن الوحدة والاجتماع، والتآلف والتآخي، والتناصر والتكاتف، في عصر كثرت فيه الموجعات، وقلّت فيه الرادعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، لطالما تحدّث المتحدّثون، وهتف الهاتفون من أمة الإسلام بأنه يجب أن تكون هناك وحدة قوية راسخة الأسس شامخة المعالم، تَطال أمة الإسلام طُراً، حتى تكون بعد ذلك صخراً صلداً تتحطّم أمامه أمواج الضعف وتتخاذل.
وهذه الدعوة في حقيقتها ليست مستحيلة ولا ضرباً من التخييل أو نزوةً من أحلام اليقظة، كلا عباد الله، فلو كان الأمر كذلك لما حظّ الباري جل شأنه عبادَه المؤمنين على أن يكونوا إخوةً في الله متناصرين معاونين، تجمعهم كلمةٌ واحدة ورابطة واحدة، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ(1/1296)
[التوبة: 71]، ولما حرَّض رسول الله على أن يتلاحم المسلمون، ويكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
غير أن السؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو: كيف نبني هذه الوحدة؟ وعلى أي أساس يجب أن تنهض ليشتد عودها، ويستقيم ظلها؟ أتُقام هذه الوحدة على أساس من اللغة؟ لا، فاللغة وحدها غير كافية، إذ قد يكتنفها مسلم وكافر، فضلاً عن أنه لم يكن اللسان يوماً ما هو سبيل الاتحاد والوحدة، فكم هم الذين يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا، وهم في الحقيقة شياطين في جثمان إنس، كما وصفهم النبي بذلك عند مسلم في صحيحه[1].
أفتقام إذاًَ هذه الوحدة على أساس من الجنس؟ كلا، فالجنس وحده ليس معياراً يُعتمد عليه، أو يُجعل تِكأةً للائتلاف العميق، فالإسلام لا يقيم للجنس في تقديره وزنا، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، وإن كان لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فإنه لا يعدو كونه الطين والماء، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )[الحجرات: 13].
إذاً على ماذا تقام هذه الوحدة؟ وبأي شيء تكمُل؟ إنها لا تقوم حقيقةً إلا على أساس يجمع الأرواح قبل أن يجمع الأشباح، ويقنع العقول إثر سيطرته على القلوب، ويؤلف بين الرغبات والأهواء كما يؤلّف بين النبات والماء، هذا الأساس بكلِّه هو عقيدة الإيمان المستقرّة في الخواطر والصدور، وملةُ الإسلام التي تُظِل أبناءها جميعاً ليتفيّؤوا ظلالها بلواء العلي الغفار، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة: 138].
إنه يجب علينا جميعاً أن نؤمن بأن الدعوة للوحدة ليست عصبيةً أو جنسيةً أو إقليمية، أو تأليباً على الشر، أو اعتزاماً للبطش والعدوان، بل هي الوحدة المؤمنة العادلة التي يلزمها أن تقوم للناس بالحق والقسط، والدين الإسلامي هو أقوى وَتَرٍ حساسٍ في نفوس المؤمنين، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين أقطارهم وبلدانهم، ولن تجتمع كلمتهم يوماً ما دون أن تُؤَسلم قضاياهم، وتُحدد معاييرها من خلال الإطار الإسلامي الخالد، والإسلام بحقيقته ليس إلا.
والإسلام في حقيقة أمره إنما انطلق في وحدته من خلال توحيد الخالق - سبحانه وتعالى -: ( اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) [البقرة: 255]، ووحدة الرسول: ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ) [الفتح: 29]، ووحدة الدين: ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]، ووحدة الكتاب: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْءانَ يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ )[الإسراء: 9]، ووحدة القبلة: (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )[البقرة: 144]، ووحدة الأمة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )[الأنبياء: 92].
هذه هي معايير الوحدة الحقة، وأي وحدة سواها فهي كالظئر المستأجرة أو النائحة المزوَّرة.(1/1297)
عباد الله، إن من مكمِّلات الوحدة وتداعياتها نصرة الأخ المسلم، وخوض ميدان دعمه حال اشتباكه مع قوى الباطل، في معركةٍ موصولةِ الكرِّ والفرِّ، ولا يحصل مثل ذلك إلا بترويض النفس على شيء من المجاهدة والمثابرة، وحمل همّ الإسلام لنضمن شيئاً من الكفاية ونتقي الفضول، ولنكون أعون شيء على رفع مستوى الثغور والجبهات لأمة الإسلام، وتوفير العزة إرضاءً لله - سبحانه -، فإنه ـ ولا شك ـ لا يتفق طمعٌ في الدنيا وانتصار للمثل العليا، كما أنهما لا ينسجمان ألبتة، حرصٌ على إعلاء كلمة الله وحرصٌ على تكثير المغانم والعبِّ منها كما الهيم، مع استرضاء الخلائق واستزدائهم بالخور والجبن.
وفي التفاتةٍ سريعة إلى دنيا الناس في مجملها تجاه النصرة والخذلان والرفعة والدون، فإنها يُمكِن أن تصوّر لنا الناس كحال رجلين اثنين: إما رجلٌ له مال وبنون، طال أجله، وأدبر شبابه، وكان واجباً عليه أن يتهيّأ للآخرة بزاد حسن، ومثلُه لو قتل في سبيل الله فإنه لم يترك وراءه شيئاً يخاف عليه الضيعة، لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار، ومع هذا فهو أشبه ما يكون بشيطان أخرس أو ناطق، يفرق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طلباً للمزيد بنهمٍ وسعار، وفي المقابل مثل شباب لهم آمال، وتعتريهم صبوات أيما صبوات، ولهم أحمال، وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثّقت علائقهم بالدنيا أو قهرتهم الصبوة بكلكلها لما كان في سيرتهم كبير عجب، ومع هذا كله يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون ذريةً ضعافاً خافوا عليهم، ويقبلون على نصرة دين الله بنُبل وجلال.
هذان مثلان مضروبان، يمكن تنزيلهما في واقع الناس على كافة المحاور، شعوباً وحكوماتٍ، وأفراداً كلٌّ بحسبه.
ومن باب أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن المؤمن الصادق لا يملّ كثرة الحديث عن ثالث المسجدين، وعن مسرى رسول الله، عن فلسطين الآبية؛ لأنها اليوم تُعدّ نقطة الارتكاز في ميدان القضية الإسلامية والجهاد الإسلامي، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطّة امتحان وكشف لقوّة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، فهي أرض المسلمين، ولا تصلح إلا للمسلمين، أرضٌ أظهرت صور رجالها البواسل حينما أخرجت العالم من مكتبه، والعامل من معمله، واستنجدت المرأةَ في بيتها، والطفلَ في مدرسته، أمسَوا على وهج النار، وأصبحوا على دخان البارود، إنهم يدافعون عن دينهم وكرامتهم، إنهم يسوقون في وجوه الغاصبين شباباً أنضر من الزهر، وأبهى من الوضاءة، وأثبت من الجبل، وأمضى من العاصفة، إنهم يكافحون بشيوخ لهم حماسة الشباب، وشباب لهم همّة الشيوخ، ونساءٍ لهم قوة الرجال، وصغار لهم عزائم الكبار، ولئن هلك منهم فوجٌ ليأتون بأفواج، ولئن صبر مغتصبهم يوماً ما ليرمونه بأيام.(1/1298)
إن من يستشعر مثل هذا ليس له منطلق إلا الإسلام، فإنه سيوقن ولا ريب أن المسلمين أصحاب دين لا يموت، ولا ينبغي له أن يموت، مهما هبّت الأعاصير، وادلهمت الخطوب، وهو باقٍ خالد إلى قيام الساعة، وعندما يشرئبُّ أعداؤه أن تُشيَّع جنازته فإنهم سيُصعقون ببزوغ شمسه من جديد.
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن ندرك جيداً بأن انتصار المسلمين وانكسارهم لا يرجع إلى قوة أعدائهم أو ضعفهم، وإنما الانتصار والانكسار في الحقيقة يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها، فإذا وحَّدت كلمتها، ومن قبل ذلك وحّدت ربها، ولزمت أمره، وأقامت حقَّه، فإنها منصورة لا محالة، (إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ )[محمد: 7].
والقلة والكثرة ليست هي المعيار الحقيقي فقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة أذلة، ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ) [آل عمران: 123]، ثم هُزموا في حُنين وهم كثرة كاثرة، ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25].
والمسلمون ـ عباد الله ـ إنما ينتصرون إذا أحسنوا علاقتهم بالله، وعزموا على نصرة دين الله، فإن من لا يعرف إلا الله لن يغلبه من لا يعرف الله، ومن لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل.
(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، إنه كان غفاراً.
----------------------------------------
[1] يشير إلى وصف النبي لأئمة الضلال حيث قال فيهم: ((وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)) أخرجه مسلم في الإمارة (1847) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه المتقين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن العجب كلَّ العجب أن تسفُل النفس المؤمنة حتى لا تطلب رفعةً، أو تقنط حتى لا يكون لها أملٌ.(1/1299)
أما لو أيقن المسلمون أن لهذا الكون مدبراً عظيم القدرة، وأنه القاهر فوق عباده، تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوةٍ لجبروته، وأن هذا القادر العظيم بيده مقاليد كل شيء، يصرِّف عباده كيف يشاء، لما أمكن مع ذلك أن يتحكم فيهم اليأس، أو تغتال آمالهم غائلةُ القنوط.
فما على المسلمين إلا أن يتحقق بينهم روح الإخاء والتضامن في الدين، فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، وتُرفع راية التوحيد المحصنة، ويُطرح التفاهم بإخلاص في الأمور مع الاعتماد على الله، واللجوء إليه، مع بذل الأسباب المادية، ومحض النصح للقيادة، ابتغاء وجه الله، فدين الله وشرعه وإن ضعف فيه شخص المتقين المجاهدين فهو باقٍ خالد، وُضعت فيه صفات المتقين وخُطط المجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
كما أنه من الواجب على المسلمين بعامة أن يبحثوا في كل مظنَّة ضعفٍ عن سبب قوةٍ، ولو أخلصوا في تلمّس ذلك وطلبه لانقلب الضعف إلى قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا هي تهدّ الجبال، وتحيّر الألباب، ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) [الفتح: 4]، سمع معاوية - رضي الله عنه - أن رجلاً من خصمائه شرب عسلا فيه سمٌّ فمات، فقال - رضي الله عنه -: (إن لله جنوداً منها العسل)[1].
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نعترف بأخطائنا في الواقع والتي يتكاثر عدُّها، ويستحيل حصرها، والتي تخل بنظام السببية في النصر والتمكين، وأن يكون هذا الطرح بصورة صريحة في واقعنا، عبر كافة الوسائل المتاحة دون اقترافِ خياناتٍ قاتلة من ذوي الأقلام المؤثرة والألسن المستميلة في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا المهمة، والتي بتجاهلها وغضّ الطرف عنها يُؤخَّر يوم النصر ولا يُقدَّم، فتقود إلى الغرق في بحر لجيٍّ من الخداع والتضليل، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
فهل يرتفع شعار الإسلام وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية أو تبقى تحت الرايات العميَّة لنبلغ بها القاع والعياذ بالله؟!
( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) [الحج: 40، 41].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقد قال عز من قائل عليم: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ) [الأحزاب: 56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
----------------------------------------
[1] انظر: مصنف عبد الرزاق (5/460)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/311)، الثقات لابن حبان (2/298)، وصار هذا من الأمثال التي تضرب انظر: مجمع الأمثال (1/11).
29/1/1423(1/1300)
http://www.alminbar.net المصدر:
ــــــــــ
القدس في الذاكرة حتى النصر
د. توفيق الواعي
القدس لن تُنسى وستظل في الذاكرة، وإن حاول اليهود ومن وراءهم طمس معالمها وإضاعة هويتها، وهل ينسى مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثالث الحرمين، وجهاد المسلمين في استردادها، وجعلها جزءاً من تراث المسلمين المقدس؟
دخلت القدس في الحكم الإسلامي الفعلي سنة 16ه 636م في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عندما تسلم مفاتيحها من البطريرك "صفر ونيوس" وأعطى أهلها الأمان "العهدة العمرية" التي نصت على منع اليهود من الإقامة في القدس. وفي عام 1099م، وقعت القدس في قبضة الصليبيين واستطاع الناصر صلاح الدين أن يحررها عام 1187م، ثم قامت صراعات محلية في بلاد الشام بعد حملات التتار والمغول، أدت إلى تخريب القدس عام 1265م، ولكن المماليك تمكنوا من الحفاظ على القدس عربية إسلامية حتى مطلع القرن السادس الميلادي وخاصة المحافظة على الأماكن المقدسة ببناء القلاع في ساحة المسجد والمدارس وشبكات المياه...إلخ، الأمر الذي أدى إلى زيادة عدد السكان العرب المسلمين.
استمر الحكم الإسلامي لفلسطين والقدس حتى انهيار الدولة العثمانية وتولت بريطانيا الوصاية عليها عام 1916م بعد توقيع اتفاقية "سايكس بيكو" لاقتسام العالم الإسلامي بين بريطانيا وفرنسا، وبدأ المشروع الصهيوني في التبلور خلال فترة الانتداب واحتُلت معظم أراضي فلسطين والقسم الغربي من مدينة القدس عام 1948م وتم احتلالها بالكامل عام 1967م.
وكان الهدف من سريان حملات الاستيطان والتهويد في فلسطين وخاصة القدس مع بداية الانتداب البريطاني:
إضفاء الطابع اليهودي على المدينة المقدسة تمهيداً لإعلانها عاصمة موحدة للدولة الغاصبة.
إنكار أي مطالب عربية وإسلامية في المستقبل حول أحقية الأمة العربية في القدس. والجدول الذي أمامنا يبين لنا حقيقة الدور الكبير الذي لعبه الصهاينة لتغيير ملامح المدينة ولإثبات شرعية ادعائهم من جميع النواحي.
استراتيجية اليهود للاستيلاء على القدس:
خطوات التهويد: أخذت عملية تهويد القدس أشكالاً عدة يعود الفضل في تنفيذها إلى التنسيق المبرمج بين اليهودية العالمية والدول الاستعمارية. فكان من أبرز مشاريع التهويد "مشروع موشى مونتفيوري" الضابط في قصر ملكة إنجلترا ورجل الأعمال المصاهر للعائلة اليهودية العريقة الذي(1/1301)
استطاع التأثير على كل من بريطانيا وفرنسا للضغط على الدولة العثمانية من أجل استصدار فرمانات تسمح بإقامة مؤسسات يهودية في فلسطين والقدس.
الدور الذي قام به مونتفيوري:
1 تنظيم رحلات عملية إلى فلسطين لإقامة الأحياء اليهودية عام 1827م.
2 عقد اتفاق مع الطوائف اليهودية في إنجلترا وإيطاليا ورومانيا والمغرب وروسيا لإقامة مشروعه.
3 إجراء عملية إحصاء لليهود في قلب القدس عام 1839م وفي سائر أنحاء فلسطين لكي تكون مدينة بيت المقدس نقطة الانطلاق.
4 بناء 27 مستعمرة يهودية في الفترة من 1843 1897م.
5 أخذْ قطعة أرض من السلطان العثماني بحجة بناء مستشفى وإقامة أول مستعمرة يهودية عليها 1859م.
6 بناء مساكن شعبية لليهود.
وفي القرن التاسع عشر أقيمت أحياء أخرى على امتداد الطرق المؤدية إلى بوابات المدينة.
وقامت الصهيونية بالتحايل على القانون بشراء الأرض التي بنيت عليها الأحياء السكنية بمساعدة القنصل البريطاني في القدس.
وفي عام 1917م أنجز المخطط الصهيوني مرحلة مهمة بمحاصرة مدينة القدس.
وقدم "هرتزل" إلى فلسطين في 4-11-1903م، ليجسد فكرة إقامة وطن قومي لليهود، فقام بتقديم مذكرة تفصيلية لإمبراطور ألمانيا حول الصهيونية وأهدافها التي تنوي تحقيقها على أرض فلسطين، وقد خطط الاستيطان اليهودي في القدس ليكون ركيزة ينطلق منها المستوطنون إلى سائر أنحاء فلسطين.
هذا وقد حدث تبدل ملحوظ في وضع مدينة القدس إثر قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية عام 1948م، وقد حدث هذا التطور على مرحلتين مهمتين من مراحل تطور الصراع العربي الصهيوني.
المرحلة الأولى: من مايو عام 1948م وحتى نشوب حرب يونيو عام 1967م، فقد قسمت المدينة المقدسة خلال هذه المرحلة إلى قسمين يخضع كل واحد منهما لإدارة قانونية وسياسية غير التي يخضع لها القسم الآخر، وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ المدينة التي يتم فيها تقسيم المدينة إلى قسمين؛ إذ ظلت القدس طوال التاريخ غير مقسمة.
وبعدها أعلن "الكيان الصهيوني" أن القدس عاصمته الموحدة وضم القدس نهائياً وإعلانها عاصمة الكيان الصهيوني سنة 1980م، وحاولت كتلة غوش أمونيم اليهودية السيطرة على الأقصى بالقنابل والرشاشات.(1/1302)
المرحلة الثانية: في عام 1996م، قام اليهود بافتتاح النفق الثالث تحت منطقة الحرم القدسي، ثم حاولوا مفاوضة الفلسطينيين لإعطائهم قرية أبوديس بدلاً عن القدس، ومازال وضع القدس يراوح مكانه "والكيان الصهيوني" ماض في التهويد، والعرب ومنظمة المؤتمر الإسلامي في قراراتهم ماضون، ولم يتحرك أحد لإنقاذها، وكأنهم أموات لا يحسون، فهل للقدس من صلاح الدين وجيل صلاح الدين؟! لن يكون ذلك إلا بالكفاح والعمل والصبر والتوكل على الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227) (الشعراء).
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
ــــــــــ
النصر أسبابه ومقوماته
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
الخطبة الأولى:
عباد الله، لماذا ندعو الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، أن يكتب لنا النصر ولا يستجاب لنا؟ نتوجه إليه بقلوب خاشعة وألسنة طاهرة وأيد ضارعة ولا يستجيب لنا؟!.
أيها المؤمنون، لماذا لا تزال أمتنا تحت الحصار؟ لماذا لا تزال تقرب من اليمين ومن اليسار؟ لماذا يظل أعداؤنا يتحكمون فينا تحكم السادة في العبيد؟
أليست أمتنا هي القائمة على الدين الحق؟! أليست هي الشهيدة على الناس؟! ألم يخاطبنا المولى- تبارك وتعالى - بقوله: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " [آل عمران: 110]. أو ليست أمتنا الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر؟!
وقد وصف الله - عز وجل - سِوَانا بقوله: " كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " [المائدة: 79].
إذا لماذا أصبحنا أذلاء نستجدي غيرنا وقد كنا أعزاء؟ ألم تحكم دولتنا الإسلامية العالم لقرون عديدة؟!
فما هو سبب هذا التردي والانحسار؟ ما هو سبب هذا الانكسار؟
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نعالج هذه الأمور، ونضع النقاط على الحروف، حتى نعرف من أين نبدأ وإلى أين نقف؟
عباد الله، المشكل أننا ندعو الله ونحن بعيدون عن الله، ندعو الله أن ينصر الإسلام وأن يُعِزَّ المسلمين ونحن قعود على جنوبنا، ولا نريد أن نبذل أنفسًا ولا أموالاً، ولا نضحي بغال ولا رخيص، وما هكذا يستجاب الدعاء. إنما يستجاب الدعاء من قوم بذلوا ما يستطيعون وتركوا لله ما لا يستطيعون،(1/1303)
فالله - تعالى - هو الذي يكمل النقص ويسد الثغرات، لأن النصر من عنده وحده، " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " [الأنفال: 10].
وهذا نصر الله أصحاب طالوت وكانوا قلة، كانوا في عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وحينما رأوا جنود جالوت قال الكثيرون: " لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة: 249]، فماذا قال أهل الإيمان ـ اسمعوا أيها المؤمنون، ماذا قالوا ـ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "[البقرة: 249].
انظروا ـ يا عباد الله ـ إلى هذه اللفتة الإيمانية في قوله - تعالى -: " قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ "، بمجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقوا الله، قد جعل الله لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟
هكذا يجب علينا أن نفعل أيها المؤمنون، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك، حتى ينكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدد كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا، ومن هنا يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء: (إنما تقاتلون بأعمالكم). فالأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة، ومشاكلنا كثيرة، وأهل العلم والصلاح نائمون وغافلون.
ألم يقل الله - تعالى -: " اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [آل عمران: 200]، ألم يقل - سبحانه وتعالى -: " وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا " [المائدة: 23]، ألم يقل - عز وجل -: " إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ " [النحل: 128]، وقال - تعالى -: " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ " [الحج: 40]، ألم تقرؤا ـ أيها المؤمنون ـ قوله - تعالى - في سورة الأنفال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " [الأنفال: 45، 46]؟!.
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما أصابنا وحَلَّ بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدِّين إلا رسمه؛ لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا، برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.
عباد الله، ونظرة أخرى في هذه الآيات مع قوله - تعالى -: " وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ " [البقرة: 250]. هذا هو دعاؤهم، توجهوا إلى الله وهم في قلب المعركة، وهم في ساحة القتال، هذه هي الشُحْنَةً الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه، فهو ينادي قائلاً: (ربنا)؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء.(1/1304)
وتأملوا ـ أيها المؤمنون ـ في قوله - تعالى -: " أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا " أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر، ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام حتى يواجهوا العدو بإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله - تعالى -: " فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ " [البقرة: 251].
تلك هي النتيجة التي يتمناها المؤمنون، هزيمة أعدائهم، فهل تتحقق هزيمة أعدائنا أيها المؤمنون؟ نعم سوف تتحقق بإذن الله، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله: ((ساعتان تفتح أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته، عند حضور النداء، والصف في سبيل الله)).
واعلموا ـ يا عباد الله ـ علم اليقين أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم ـ ونرجو أن يكون عارضا ويزول ـ ولو قام العلماء والأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم عهد الله الذي لا يخلف، لرأيتم الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيتم نورا يُبِهِرُ الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار، وأن الحركة التي نلمسها ونحس بها الآن في نفوس المسلمين في أغلب الأقطار، تُبشرنا بأن الله - تعالى - قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جمع الموحدين، وسوف يكون قريبا إن شاء الله. فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحت لهم التوبة وعفا الله عنهم والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى الأمة وعلمائها أن تسارع إلى هذا الخير، وهو الخير كله جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، " مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17]، وما يذكر إلا أولوا الألباب، قال رسول الله: ((لا تزال يد الله - عز وجل - على هذه الأمة وفي كنفه وفي جواره وجناحه، ما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، وما لم يبر خيارهم أشرارهم، وما لم يعظم أبرارهم فجارهم، فإذا فعلوا ذلك رفعها عنهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم الفاقة، وسلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب)). وقال: ((إذا كان ذلك لا يأتيهم أمر يضجون منه إلا أردفه بآخر يشغلهم عن ذلك)).
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون، من الأمور الهامة التي تستوجب انتباه وحذر ويقظة أمتنا الإسلامية، وبخاصة نحن أهل فلسطين، قضية بيت المقدس التي قفزت إلى ساحة الأحداث الساخنة، ليس بفعل يقظة الأمة الإسلامية وإنما ـ وللأسف الشديد ـ بفعل الممارسات الإسرائيلية، والنشاط الاستيطاني المتسارع داخلها وخارجها، والأنباء التي تتحدث عن الشروع بإقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة، وبالتحديد في باب الساهرة بالقرب من برج اللقلق المجاور لباب حطة.(1/1305)
عباد الله، قلناها أكثر من مرة أن القدس في خطر، ولكن لا حياة لمن تنادي! والحقيقة الجلية هي أن إسقاط القدس من قضية ما يسمى مفاوضات التسوية، وتأجيل بحثها لما يسمى مفاوضات الحل النهائي ـ إن وجد حَلُّ أو بقيت قدس ـ، قد أعطت إسرائيل الضوء الأخضر للإسراع بتنفيذ مخططات تهويد المدينة المقدسة، مستغلة ضعف الموقف الفلسطيني، وعدم وجود أي موقف عربي أو إسلامي واضح وصريح ضد هذه الممارسات، وبعبارة أخرى هو استسلام للأمر الواقع.
أيها المؤمنون، إن الحديث عن إقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة ليس أمرًا جديدًا، بل هو مخطط قديم حان الوقت لتنفيذه، والإعلان عنه في ظل التواطئ الدولي ومعاداة دول الكفر للإسلام، وفي ظل أوضاع مزرية يعيشها شعبنا الفلسطيني المسلم.
فالقدس ـ يا مسلمون ـ تضيع رويدا رويدا، البؤر الاستيطانية تزداد اتساعا مساحة وعددا، حول المسجد الأقصى، وفي محيطه أكثر من خمسين بؤرة استيطانية، وفي حارات البلدة القديمة المتعددة نحو ثلاثين بؤرة، محال تجارية وعقارات تتسرب بالخفاء. الحي اليهودي الواقع في الجنوب الغربي من البلدة القديمة يحتل خمس مساحة البلدة القديمة. الحي الاستيطاني المزعم إقامته سيحتل مساحة كبيرة من القسم الشمالي الشرقي من البلدة القديمة. ومما يلفت الأنظار أن الحَيَّ الاستيطاني الجديد يأخذ الطابع الديني كما ذكرت الصحف ليتحدى مشاعر المسلمين، وسيقام في الحي كنيس تعلوه قبة صفراء يقولون: أنها ستضاهي قبة الصخرة المشرفة على حد زعمهم. والأنباء تتحدث عن اعتزام السلطات الإسرائيلية جلب نحو مليون يهودي خلال السنوات العشر القادمة، حيث سيتم إسكان غالبيتهم في القدس والمستوطنات اليهودية المحيطة بها.
عباد الله، ما أشبه اليوم بالبارحة؛ أبرهة الأشرم بعد أن استأثر بحكم اليمن، أراد أن ينال رضا ملك الحبشة، فبعث إليه قائلا: سأبني كنيسة كبيرة تعلوها قبة مزركشة، يتحدث عنها العرب والعجم. واسماها القليس لعلوها، وكان هدف أبرهة أن يستقطب العرب للحج إلى هذه الكنيسة بدلا من الحج إلى بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فالعرب كانوا يقدسون الكعبة ويحجون إليها قبل الإسلام، ونحن نفرط بمسرى رسول الله!. ولما دَنَّسَ العرب هذه الكنيسة استشاط أبرهة غضبا، وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة، فمذا جرى؟ محقه الله وسحق جيشه وشتت شمله ومزق جمعه، وتلك سنة الله لمن أراد لبيته بسوء، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
أيها المسلمون، ومهما طغى الطغاة، ومهما تكالبت قوى الشر والبغي والعدوان في محاربة الإسلام والمسلمين، وتدنيس المقدسات وقتل الأبرياء، فإن الغلبة لهذا الدين، وستبقى مدينة القدس درة فلسطين إسلامية العقيدة عربية الجذور، ستبقى مدينة إسلامية إن شاء الله - تعالى -.
أيها المسلمون، الأيام القادمة ستكون صعبة على أهل بيت المقدس، سيما بعد الانتهاء من بناء الجدار العنصري، والذي سيشدد على المدينة ويضعف الحالة الاقتصادية، ويزيد من معاناة التنقل والتواصل.(1/1306)
أيها المسلمون، هذا هو قدرنا، إن شرفنا الله بالرباط على ثغرة من ثغر الإسلام، فهنيئا لكم ـ يا أهلنا ـ بهذا الشرف الإلهي وهذه النعمة العظيمة، فكونوا على قدر المسؤولية، كونوا أهل نعمة وشكر، ولا تكونوا أهل نقمة وكفر، وتذكروا أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
30/6/1426
http://www.alminbar.net المصدر:
ــــــــــ
أختاه..حتى تكوني من أسباب النصر
لا تندهشي إذا قيل لك أنك أحد أسباب هزيمة الأمة أو نصرتها برغم أنك لا تملكين سلطة ولا قوة، ولا تلقي اللوم على حاكم أو أمير أو وزير فيما وصل إليه حال الأمة رغم اشتراكهم في المسؤولية، لكن اجلسي مع نفسك وتفكري في ذنوبك ومعاصيك، واسألي نفسك وقد أحببت الله ورسوله والإسلام وأهله: هل تحافظين على الصلوات المكتوبة لا سيما صلاة الفجر؟ هل تحافظين على السنن؟ هل تداومين على ورد القرآن وأذكار الصباح والمساء؟ هل تبرين والديك؟ هل تصلين رحمك؟ هل تغضين بصرك؟ هل تصدقين في قولك؟ هل تحسنين إلى جاراتك؟ هل تساعدين المحتاج والفقير؟ هل تعودين المريض؟ هل تأمرين بالمعروف وتنهين عن المنكر؟..هل.. هل.. ؟
إذا كانت الإجابة (أحياناً) فلا تدعي قدرتك على الجهاد ضد عدوّك، وقد فشلت في جهاد نفسك أولاً، في أمر لا يكلفك دماً ولا مالاً، لا يعدو كونه دقائق قليلة تبذلينها في الصلاة!! كيف تطلبين الجهاد، وأنت تتخبّطين في أداء الصلوات المفروضة، وتضيّعين السنن الراتبة، ولا تحافظين على الورد القرآني، وتنسين أذكار الصباح والمساء، ولم تتحصّني بغض البصر، ولا تبرّين والديك، ولا تصلين رحمك !!
كيف تطلبين العزة للمسلمين وأنت تحتقرين الفقير والمسكين ولا تمدين لهم يد العون !! كيف تطلبين القوة للإسلام وأنت لا تعرفين جاراتك ولا تشاركينهن أفراحهن وأحزانهن، ولا تبذلين النصح لصديقاتك؟ كيف تطلبين تحكيم شريعة الله في بلادك، وأنت لم تحكِّميها في نفسك وبين أهل بيتك، فلم تتق الله فيهم، ولم تدعيهم إلى الهدى، ولم تأمري بمعروف أو تنهي عن منكر، وكذبت وغششت و أخلفت الوعد فاستحققت الوعيد!!
لا تقولي أنك واحد في المليار من أبناء هذه الأمة، فهناك الملايين من أمثالك - إلا من رحم الله - ينتهجون نهجك فلا يعبأون بطاعة ولا يخافون معصية، وتعلّل الجميع أنهم يطلبون النصر لأنه في الأمة من هو أفضل منهم، لكن الحقيقة المؤلمة أن الجميع سواء إلا من رحم رب السماء .. فما بالك بأمة(1/1307)
واقعة في الذنوب من كبيرها إلى صغيرها ومن حقيرها إلى عظيمها.. ألا ترين ما يحيق بها في مشارق الأرض ومغاربها !!
اعلمي أن أسلافنا كانوا إذا هُزِموا من قبل الأعداء أو حل بهم البلاء.. يتفكرون ويفتشون في أنفسهم أولاً، فإذا وجدوا مخالفة للقرآن أو السنة في أي شأن من شؤونهم سارعوا بالاستغفار والعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومع أنهم كانوا أقل من أعدائهم عدداً وعدة إلا أنهم بعد تنفيذ هذه الخطوة كانوا ينتصرون بفضل الله - تعالى -، وتحقيقا لقوله - سبحانه - {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
تدبري قول الله - تعالى -{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وهذه خطوات عملية تساعدك في أن تكوني سبباً في نصر الأمة إن شاء الله:
- أقلعي فوراً عن المعاصي التي ترتكبينها، واسألي الله - عز وجل - أن يعينك في ذلك، وأكثري من الدعاء أن يثبتك الله على الطريق المستقيم، وتضرعي إليه - عز وجل -.
- حافظي على أداء الصلوات في أوقاتها، و خاصة صلاة الفجر.. {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}، وتقربي إلى الله بالسنن.
- احرصي على الاحتشام والحجاب الكامل من الآن.. ولا تقولي سوف أفعل ذلك غداً.
- احرصي على طاعة والديك وصلة رحمك، وكوني قدوة صالحة قولاً وعملاً وساعدي في نشر الخير بأي وسيلة مباحة.
- تصدَّقي على الفقراء والمساكين ولو بشيء بسيط فإن « صدقة السر تطفئ غضب الرب ».
- أخلصي في عملك سواء كان دراسة أو صناعة وتفقهي في دينك فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.
- ثقي في نصر الله - عز وجل - لعباده المؤمنين الصادقين، ولا تيأسي ولا تقنطي من طول الطريق ومشقته، فإن الفساد قد عم الأمة منذ سنين طويلة ويحتاج تغييره لوقت.
- احرصي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أهلك وصديقاتك بطريقة حسنة جميلة، وذكريهم بحاجة الأمة إليهم ولا تنسي أن تبدئي بنفسك.
- لا تتركي فرصة تقربك إلى الله -ولو كانت صغيرة- إلا وفعلتها، وتذكري « تبسّمك في وجه أخيك صدقة ».
- لا تدعي إلى شيء وتأتين بخلافه، فلا تطالبين بتطبيق الشريعة إلا إذا كنت مثالاً حياً على تطبيقها في نفسك وبيتك وعملك، ولا تطالبي برفع راية الجهاد وقد فشلتِ في جهاد نفسك، ولا تلقِ اللوم على الآخرين تهرّباً من المسؤولية، وإذا كنتِ تمضين وقتكِ ناقدة عيوب الناس، فتوقّفي واعلمي أن كلك عيوب وللناس ألسن، وابدئي بإصلاح نفسك، وسيصلح حال غيرك بإذن الله - تعالى -.(1/1308)
- اعلمي أن كل معصية تعصين الله بها، وكل طاعة تفرطين فيها، هي دليل إدانة ضدكِ فيما وصل إليه حال الأمة.
09 - 02 - 2004
http://www.islamway.com المصدر:
ــــــــــ
الكتاب والسنة مرجع المسلمين ومصدر النصر
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من محاضرة: التتار الجدد
المذيع: أنا عندي مواضع عديدة والوقت يداهمني فاسمح لي أن أطرح بعضها بسرعة، نحن أشرنا إلى أن اليهود ينقضون العهود، هذا هو الطرح الإسلامي بموجب النصوص، الطرح الآخر يقول: هذه النصوص نزلت في وقت معين ويقصد بها شيء معين، واليهود الحاليين يوقعون اتفاقيات وتستمر هذه الاتفاقيات وفقاً لمصالح دولية كما حصل مع مصر مثلاً؟
الشيخ: الحقيقة بما أننا ذكرنا هذا فيجب أن نذكر إخواننا المسلمين بأن رجوعنا إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أساس النصر في كل ميدان، أولاً على أنفسنا، وثانياً على أعدائنا، وهذه المعركة مع اليهود إذا رجعنا إلى كتاب الله نجد لها معالم تفسر لنا الموضوع، وأنا في هذا الكتاب أو (الكتيب بالأحرى) جعلت لكل فصل عنوان جزء من آية وأغلبها آيات تتكلم عن اليهود بالذات، لأننا لو رصدنا كل أعمالنا أو خرائط طريقنا أو أي شيء من خلال القرآن؛ فلن نضل ولن نشقى أبداً، لا مع أمريكا وهي العدو الأكبر الآن ولا مع إسرائيل.
نعم عندما يذكر الله - سبحانه وتعالى - نقض اليهود: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة: 100] اليهود في الحقيقة ينقضون المواثيق وهذا أمر مشهور، لماذا لم ينقضوا اتفاقية كامب ديفيد مع مصر؟ هل هي وفاء أم التزام بالمواثيق؟ لأن اليهودي عندما يوقع عقداً مجحفاً مع خصمه مربحاً له من كل الوجوه فلماذا ينقضه؟
فمساحة سيناء أكبر من أرض فلسطين مرتين أو ثلاث مرات، وهي الآن منطقة معزولة من السلاح، ثم إخراج أكبر جيش عربي وأكبر دولة عربية من دائرة الصراع وتتحول إلى وسيط، وهو دور مصر الآن، دور وسيط بين السلطة أو بين الإخوة المجاهدين في الفصائل الإسلامية وبين إسرائيل.
لكن انظر عندما تنجح المقاطعة الاقتصادية في القاهرة، عندما يسعى السفير الإسرائيلي بأنه غريب شاذ في القاهرة، كيف لو كان هذا قريباً من الحدود؟ إذاً إسرائيل لا تنقض العهد أو اتفاقية تعطيها مثل هذه المكاسب الضخمة!(1/1309)
المذيع: معي أكثر من قضية: ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً ) [الأعراف: 168] أنت أشرت إليها في كتابك لكن الملاحظ الآن أن اليهود عندهم تكاتف كبير، بل إنهم يملكون رءوس الأموال العالمية، ويدعمون بعضهم، وتقام مؤسسات ضخمة لدعم توجه الهجرة إلى اليهود؟
الشيخ: التقطيع في الأرض هو أحد العقوبات، أي: منها المسخ، وأن يكونوا قردة وخنازير، ومنها تسليط العدو كما سلط عليهم في تاريخهم القديم والوسيط والحديث، ومن ذلك أيضاً التقطيع في الأرض، والتقطيع في الأرض لا يعبر عن مرحلة انتهت فقط، بل هو حالة الآن نعيشها، بمعنى: أن هؤلاء الذين يعبر عنهم بالمرتدين أصبحوا يشكلوا نسبة (20%) وهم النسبة الأثري.
مثلاً: يأتي مهاجر من روسيا، وكما قلت فإن إسرائيل دولة عنصرية لا تقبل اليهودي الروسي لأنه يهودي بل لا بد أن يكون مهندساً أو طبيباً أو كذا في الأصل، يريدون النخب، وكلما كان له خبرة أكثر في صناعة الأسلحة هو أفضل طبعاً، يأتون به فيأتي فلا يقيم إلا أشهراً، أو يعمل حتى يستطيع أن يحصل على تذكرة حتى يسافر إلى أمريكا، ففي النهاية أصبحت إسرائيل مجرد جسر أو معبر ما بين الاتحاد السوفيتي السابق وبين أمريكا أو بريطانيا أو الغرب.
حتى قال أحدهم: إن إسرائيل تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، لكن لا كدولة وإنما كأفراد؛ لأن الطائرات تأتي محملة يومياً، تروح بطاناً وتعود خماصاً، بالعكس، بمعنى تأتي فارغة وتعود ممتلئة، وبعضهم يخرج للسياحة ولا يعود، هناك (40 أو 60%) كما يقول الإعلام لا يعودون، هذا التقطيع يحصل في دولة إسرائيل الآن.
المذيع: مستقبل الانتفاضة في نظرك هل هو مستقبل حافل؟
الشيخ: بإذن الله تبارك وتعالى، وكما سمعنا من القادة الثلاثة المجاهدين الأبطال فأنا واثق، وعندي ثقة مطلقة بإذن الله- تبارك وتعالى -ستكون هذه الانتفاضة منتصرة، نعم. هناك مصاعب كبيرة أشار إليها الدكتور عبد العزيز، وهناك مشكلات قد تتوقع وبالذات من ناحية أمريكا، لكن هذه الأمة من طبيعتها أنه كلما اشتدت أزمتها انفرجت.
النصر على الصليبيين لم يتحقق إلا عندما أصبحت أوروبا تتكتل، حتى يقول المؤرخون: كانت السفن تمتد ما بين عكا إلى صور كأنها منظار، أو كأنها حلقة، سلسلة.
المذيع: على كل حال يا دكتور أنا أشكرك، وأسأل الله أن يجزيك خير الجزاء، وكنا نتمنى أن نتعرض لموضوع مهم، وهو واجبنا نحن نحو الانتفاضة، لكن لعله وعد يكون مساهمة منك في برنامج: (من فلسطين مع التحية) ولو عبر الهاتف، مع إخواننا ما واجبنا نحو هذه الانتفاضة؟
شكراً لضيفنا الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي ونسأل الله أن يجزيه خير الجزاء.
http://www.alhawali.com المصدر:
ــــــــــ(1/1310)
مفاهيم قرآنية لأسباب النصر (2/1)
د. فهد بن عبدالعزيز الفاضل
إن الناظر إلى واقع العالم الإسلامي اليوم، وما فيه من المصائب والمحن يكاد يحبط ويصاب باليأس والقنوط من نهضة المسلمين، ونصرة الدين. فهذه دول الكفر قد تكالبت على عالمنا الإسلامي تسومه سوء العذاب، وتنشر فيه الفساد والضياع، هذه فلسطين السليبة، تئن من ظلم اليهود وبغيهم، وهذا العراق الجريح، تعبث به أيادي الظالمين المعتدين، وفي كل يوم لهم حدث في قتل المسلمين، وإذلال الآمنين، وهذه كشمير والفلبين والشيشان والأفغان وغيرها كثير، تنتهك فيها الحرمات وتسلب فيها الأموال، والعالم يقف في صمت مطبق أمام صيحات المستضعفين، وأنات الثكالى والمشردين، فما أرخص دماء المسلمين، وما أهونهم على أمم الكفر اليوم.
في ظل هذا الواقع الأليم يصاب الكثير من المسلمين بالإحباط من نصرة الدين ورفعة المسلمين، لكن العارفين أولي الألباب ينظرون من خلف الظلام إلى انبلاج النور، ومن حلوك الليل إلى انشقاق الفجر.
وبعد العسر يأتي اليسر، ولن يغلب عسر يسرين فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) {الشرح: 5، 6}.
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت
وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً
ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث
يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت
فموصول بها الفرج القريب(1)
وهدي الرسول { هو أكمل الهدي وأتمه، وهو القدوة للمسلمين وإمام الموحدين، فلقد كان { أقوى ما يكون تفاؤلاً واستبشاراً بنصرة الدين ورفعة المسلمين حال الشدة والمحن؛ لأن المنن تعقب المحن، والفرج يأتي بعد الشدة، واليسر مع العسر. فها هو { في غزوة الخندق، وقد تحرك الأحزاب لقتاله، يحفر الخندق، والمسلمون في حال جهد وضعف، فلما اعترضت صخرة، ضربها رسول الله { ثلاث ضربات فتفتتت. قال إثر الضربة الأولى: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها(1/1311)
الحمراء الساعة"، ثم ضربها الثانية، فقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض"، ثم ضرب الثالثة، وقال: "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة"(2)، وفي غزوة الخندق نفسها ينقض اليهود مواثيقهم مع رسول الله {، فيبعث نفراً من أصحابه ليستوثق من الخبر، فلما ثبتت صحته قال {: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين"(3).
تأتي هذه البشارة وقت الشدة التي صورها القرآن الكريم أجمل تصوير، حيث يقول الحق سبحانه: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا 10 هنالك \بتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا 11 وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا 12 {الأحزاب: 10 - 12}. إن الفجر اليوم لقريب وإن المستقبل لهذا الدين، كيف لا!! والله عز وجل أرسل رسوله محمداً { ليظهر دينه على الدين كله، ومهما حاول الكافرون إطفاء نور الإسلام، فهو في ازدياد واتساع، وإن خبأ يوماً، فهو في أيام شديد السطوع: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون 8 هو الذي أرسل رسوله بالهدى" ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون 9 {الصف: 8، 9} ورسول الهدى { أخبر؛ أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فعن تميم الداري } قال: سمعت رسول الله { يقول: "ليبلُغَنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عِزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر"(4).
إن النصر اليوم قريب للمسلمين، لكنه يحتاج إلى التضحيات والتمحيص، يحتاج إلى العودة للدين، واتباع هدي سيد المرسلين، يحتاج نصر الله إلى أن ننصر الله في ذواتنا ومن حولنا، ونصر الله عز وجل قريب من القلوب الطاهرة، والأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، والأعين الدامعة، والقلوب الخاشعة، والنفوس المطيعة لربها ولرسوله {.
نصر الله لا ينزل على الأمة الشاردة، المطيعة لعدوها، العاصية لربها، نصر الله قريب من المسلمين اليوم، كيف لا وهو القائل: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى" جهنم يحشرون 36 ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على" بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون 37 {الأنفال: 36، 37}.
فكفار اليوم أنفقوا الأموال الكثيرة لحرب هذا الدين صراحة، وأقاموا المؤتمرات والجمعيات واللجان وغيرها للصد عن سبيل الله، وهي أموال خاسرة وجهود ضائعة تعقبها الحسرة والهزيمة عليهم في الدنيا والآخرة. ولعل من حكم إمهال الله عز وجل لهم في هذا الإنفاق والجهد للصد عن دين الله هو تميز الخبيث من الطيب، أي لكشف عوار الكافرين في الخبث والمكر والفساد لكل أحد حتى لا يبقى في(1/1312)
قلب مخلوق صدق ما ادعاه الكافرون من العدل ومكارم الأخلاق. ولتمييز الخبيث من الطيب من أبناء المسلمين ممن سار في ركاب الكافرين وصار بوقاً لهم وأجيراً لتنفيذ مخططاتهم ومكائدهم. خابوا وخسروا. فلنعد أنفسنا للنصر، لنظفر بنصر الله لنا؛ فإن الله ينصر من ينصره، ومن هنا كانت هذه المحاولة لكتابة أسباب النصر، التي ذكرها الله عز وجل في كتابه لنهتدي بهديها، ونعمل بها ليتحقق لنا النصر الظاهر على العدو الظالم، وهي محاولة مقصر أسأل الله أن يكمّل نقصها ويجبر خللها.
النصر من عند الله عز وجل:
النصر والنصرة: العون، ونصرة الله للعبد ظاهرة، ونصرة العبد لله: هي نصرته لعباده، والقيام بحفظ حدوده، ورعاية عهوده(5). والنصير: الناصر، والجمع: أنصار(6).
والنصر من عند الله وحده، يهبه لمن يشاء والله يؤيد بنصره من يشاء 13 {آل عمران: 13}. والمؤمنون مأمورون باتخاذ الأسباب، والوسائل المعينة على النصر وأعدوا لهم ما \ستطعتم من قوة ومن رباط الخيل 60 {الأنفال: 60} الآية، وهم مأمورون أيضاً، بعدم الركون إلى الأسباب والوسائل، وإنما يستمدون النصر من مالك النصر، ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى: وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم 126 {آل عمران: 126}.
وقال سبحانه: وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم 10 {الأنفال: 10}. وقال عز من قائل: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده160 {آل عمران: 160}.
إن النصر من عند الله، لتحقيق قدر الله، وليس لأحد من الناس تدخل في تحقيقه، بل الأمر فيه لله من قبل ومن بعد، وهذه الحقيقة إذا استشعرها المجاهد في سبيل الله، اطمأنت نفسه، وسكنت جوارحه، وقوي قلبه، وأقبل على الله عز وجل، وتعلق به سبحانه يستمد منه النصر والعون، فهو المالك له، والواهب إياه لمن يشاء. وكما أن الله عز وجل مالك النصر ومنزله على من يشاء، فهو نعم النصير كما قال سبحانه: نعم المولى" ونعم النصير 40 {الأنفال: 40}. وفي الآية ثناء على الله عز وجل بأنه أحسن مولى وأحسن نصير، أي نعم المدبر لشؤونكم، ونعم الناصر لكم(7).
وهو سبحانه وتعالى خير الناصرين كما قال عز من قائل: بل الله مولاكم وهو خير الناصرين 150 {آل عمران: 150}. وذلك لأن الله عز وجل القادر على نصرة عباده في كل ما يريدون، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك، والله عز وجل نصره شامل للدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك، والله عز وجل ينصر عباده قبل سؤالهم، لأنه العالم بحالهم المطلع عليهم، وغيره ليس كذلك(8).
والله عز وجل يهب نصره لمن ينصره سبحانه، كما قال، وقوله الحق: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز 40 {الحج: 40}. وقال سبحانه: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 {محمد: 7}. فنصر الله عبده، معونته إياه، ونصر العبد ربه، جهاده في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا(9)،(1/1313)
فإذا أحسن العبد قصده وتوجهه إلى الله عز وجل نصره الله، ومن ينصر الله، فلا غالب له. بل أوجب الله تبارك وتقدس على نفسه الكريمة، نصرة عباده المؤمنين الناصرين له تكرماً وتفضلاً منه سبحانه(10). قال تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين 47 {الروم: 47}.
والقرآن الكريم سطر لنا روائع من نصر الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه وعباده المؤمنين، لما نصروا الله عز وجل نصرهم الله أكمل نصر وأعزه، من ذلك ما قص الله عز وجل في خبر طالوت ومن معه من المؤمنين: فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من \غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين 249 ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250 فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين 251 {البقرة: 249 - 251}.
ومن ذلك أيضاً، ما حدث يوم بدر لرسول الله { ومن معه من المؤمنين، لما كانوا ضعيفي القدرة قليلي العدد في مقابل كفار قريش، بعتادها وعددها، قال تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون 123 {آل عمران: 123}.
وبالمقابل امتن الله سبحانه على المؤمنين بالنصر في مواطن كثيرة، وفي غزوة حنين لما كان المسلمون كثيري العدد، فركنوا إلى عددهم، وأعجبتهم كثرتهم، وغفلوا من مالك النصر ومنزله سبحانه، وركنوا إلى أسباب النصر، وغفلوا عن المسبب سبحانه، فنزلت بهم الهزيمة في أول المعركة، وثبت رسول الله { ومن معه من القلة المؤمنة، فمنحهم الله عز وجل نصره وتأييده. يقول سبحانه وتعالى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين 25 ثم أنزل الله سكينته على" رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين 26 {التوبة: 25، 26}.
ومن أخص ما اختص به أولياء الله، أنهم يستمدون النصر من الله عز وجل، ويلتجئون إليه ويدعونه أن يهبهم نصره، ويمدهم بعونه وتأييده على أعدائه، والله قريب من عباده، مجيب لمن دعاه، ينصر من نصره، ويُعِين من أمَّله واتصل به.
قال سبحانه عن نبيه نوح عليه السلام: فدعا ربه أني مغلوب فانتصر 10 ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر 11 وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على" أمر قد قدر 12 وحملناه على" ذات ألواح ودسر 13 تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر 14 ولقد تركناها آية فهل من مدكر 15 {القمر: 10 - 15}.(1/1314)
وقال سبحانه في خبر طالوت ومن معه من المؤمنين: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250 {البقرة: 250}.
وقال سبحانه عن أتباع الأنبياء المؤمنين عند ملاقاة الكافرين: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما \ستكانوا والله يحب الصابرين 146 وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا \غفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 147 {آل عمران: 146، 147}.
محرومون من نصر الله، وما اتخذوا من دون الله من أولياء، لا تستطيع أن تنصر نفسها فضلاً عن أن تنصر غيرها: والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون 197 {الأعراف: 197}.
وقال سبحانه: واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون 74 لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون 75 {يس: 74، 75}.
قرب نصر الله تعالى:
نصر الله قريب من المؤمنين: ألا إن نصر الله قريب 214 {البقرة: 214} وعدهم الله عز وجل به، وبشرهم إياه، وأدخره لهم وكان حقا علينا نصر المؤمنين 47 {الروم: 47}؛ لأنهم هم المستحقون له، والحريون به، فهم الذين يثبتون حتى النهاية، وهم الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون في الشدة، الذين لا يتلونون، ولا يتنازلون عن المبادئ، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا من الله عز وجل، ومتى شاء الله، فهم يتطلعون إلى نصر الله فحسب، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله (11). أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى" يقول الرسول والذين آمنوا معه متى" نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214 {البقرة: 214}.
فهذه سنة الله الثابتة، وسنته المتعاقبة في الأزمان؛ أن النصر قريب لمن صبر، وأن النصر يأتي بعد الابتلاء والتمحيص والفتن، وأن ظلمة الليل تجلوها طلعة الفجر وظهور الشمس. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على" ما كذبوا وأوذوا حتى" أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين 34 {الأنعام: 34}.
ونصر الله محبوب للمؤمنين: وأخرى" تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين 13 {الصف: 13}. لأنه نصر ممن يملك النصر سبحانه وتعالى، ونصر الله لا رادّ له، ولا معكر له، فلا عجب أن يفرح به المؤمنون؛ لأن في هذا النصر إعزازاً للدين، وذلاً لأعداء الدين. ونصر الله ليس كنصر البشر بعضهم بعضاً محدود في زمان أو مكان، بل نصر الله ممتد في كل زمان ومكان، فهو نصر في الدنيا والآخرة: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد 51 {غافر: 51}، وهو(1/1315)
نصر في كل أرض الله كما قال الله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون 105 {الأنبياء: 105} فأمّةُ محمد { ترث أرض الأمم الكافرة(12).
وهكذا نصر الله سبحانه نبيه محمداً { على من خالفه وناوأه، وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، فقد جعل له أنصاراً وأعواناً في المدينة، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم له، وقتل صناديدهم، واستاق أسراهم مقرنين في الأصفاد، ثم بعد مدة قريبة فتح الله عليه مكة، فقرت عينه ببلده، وهو البلد الحرام، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
ثم قبضه الله تعالى إليه، لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله أصحابه خلفاء من بعده، فبلغوا عنه دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله. وفتحوا البلاد والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب، حتى انتشرت دعوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة، ويوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل(13).
ونصر الله عز وجل خير كله؛ لأنه ممن يملك النصر وبيده الأمر، وغيره قد ينصر ويكون نصره ضرراً للمنصور.
وفي المقابل أعداء الله محرومون من كل نصر من الله، وما عبدوا من دون الله أحقر من أن تملك لهم شيئاً أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون 191 ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون 192 {الأعراف: 191، 192}.
فنسأل الله عز وجل أن يمدنا بنصره، وأن يوفقنا للقيام بحقه. آمين.
أسباب النصر الظاهر:
يجمع أكثر هذه الأسباب قول الله عز وجل في سورة الأنفال: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 45 وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 {الأنفال: 45، 46}، وفي سورة محمد سبب واحد من هذه الأسباب وهو نصر الله، كما قال الله: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 {محمد: 7}.
وفي سورة الأنفال في آية أخرى سبب آخر من هذ الأسباب وهو إعداد القوة، كما قال جل في علاه: وأعدوا لهم ما \ستطعتم من قوة ومن رباط الخيل... 60 {الأنفال: 60}.
السبب الأول: نصر دين الله تعالى:
من أهم صفات طالب النصر من الله عز وجل؛ نصره لله سبحانه كما قال عز في علاه: ولينصرن الله من ينصره 40 {الحج: 40}، وقال تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 {محمد: 7}، وذلك يكون بحسن التوجه لله عز وجل في الجهاد والقتال.(1/1316)
قال الإمام الطبري رحمه الله: "وقوله: ولينصرن الله من ينصره 40 {الحج: 40} يقول تعالى ذكره: وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله، لتكون كلمته العليا على عدوه، فنصر الله عبده معونته إياه، ونصر العبد ربه جهاده في سبيله، لتكون كلمته العليا"(14).
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري } قال: "جاء رجل إلى النبي { فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله"(15).
وعن أبي أمامة الباهلي قال: "جاء رجل إلى النبي { فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟، فقال رسول الله {: "لا شيء له. فأعادها ثلاث مرات. يقول له رسول الله {: لا شيء له. ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه"(16).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي { قال يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا"(17).
فقوله {: "ولكن جهاد ونية"، هي النية الصالحة في جميع الأعمال، ومنها: الجهاد، فتكون نيته إعلاء كلمة الله عز وجل(18).
مما سبق يعلم أن من أهم جوالب النصر على الأعداء توحيد المقصد لله في الجهاد؛ لتكون كلمته سبحانه هي العليا، لا من أجل مقاصد دنيوية زائلة لا حصر لها في عالم اليوم، ومن لوازم إرادة رفعة كلمة الله في الجهاد امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصرة أوليائه، وكبت أعدائه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، وكلها متلازمة(19).
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: "ومعلوم أن نصر الله، إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي: العليا، وكلمة أعدائه هي: السفلى"(20).
فمن نصر الله بصدق التوجه إليه سبحانه في جهاد أعدائه نصره الله القوي العزيز، ومن ينصر الله فلا غالب له.
ومن أخل بتوجهه إلى الله، وإخلاصه له، وإرادة رفعة كلمته وكله الله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه لم يعن.
السبب الثاني: الثبات:
قال ابن فارس رحمه الله: "الثاء والباء والتاء كلمة واحدة، وهي دوام الشيء. يقال: ثبت ثباتاً وثبوتاً"(21).
وثبت ثباته وثبوته: كان شجاعاً ثابت القلب، ثابتاً في قتال، أو في كلام(22).(1/1317)
قال الشاعر يمدح أحدهم:
بكل أخلاق الرِّجال قد مَهَرْ
ثبتٌ إذا ما صيح بالقوم وقَرْ(23)
فالثبات ضد الزوال. وقد ثبت يثبت فهو ثابت. ورجل ثبت وثبيت في الحرب(24)، والفرق بين الثبات والصبر مع ما فيهما من ترابط أن الصبر شجاعة الباطن وضده: الجزع، والثبات: شجاعة الظاهر، وضده: الفرار(25)، والثبات: تابع للصبر.
قال الله جل في علاه: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا 45 {الأنفال: 45}، فهذه الآية ذكرت أسباب النصر فبدأت بالثبات، لأنه أظهر علامات النصر، فأثبت الفريقين أغلبهما، ومايدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه، وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى، فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي لا يثبت أقدام المؤمنين وهم واثقون بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ولا حياة له سواها(26).
وقال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 {محمد: 7}.
وهذا وعد من كريم صادق الوعد؛ أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال، سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات في مواطن الحرب، والثبات على الدين والثبات على الصراط يوم القيامة: ونصر الله يكون بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجه الله(27).
ولذلك كان من دعاء المؤمنين طلب الثبات، وخاصة في مواطن الحروب كما قال الله عز وجل: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250 {البقرة: 250}.
وقال سبحانه: ربنا \غفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 147 {آل عمران: 147}.
وفي مقابل الأمر بالثبات، نهى الله عز وجل عن الفرار حال الزحف، والقتال، وتوعد الفار بأليم العقاب فقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار 15 ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى" فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير 16 {الأنفال: 15، 16}.
قال ابن كثير رحمه الله: "فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب(28)، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر؛ لما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما(29)، عن أبي هريرة }، قال: قال رسول الله {: "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(30).(1/1318)
وإذا علم المسلم، أن فراره من القتال لن ينجيه من الموت هان عليه الثبات، ومبارزة الأقران، والتقدم في الميدان.
ومن صور الثبات الرائعة، ما ذكرته أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها عن نفسها في غزوة أحد قالت: قد رأيتني، وانكشف الناس عن رسول الله {، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال لصاحب الترس: "ألق ترسك إلى من يقاتل".
فألقى ترسه، فأخذته فجعلت أتترس به عن رسول الله، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجّالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله، فيقبل رجل على فرس فضربني، وتترست له فلم يصنع سيفه شيئاً، وولى، وأضرب عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي {، يصيح: "يا بن أم عمارة أمك أمك!" قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب(31)(32).
وجرحت رضي الله عنها في أحد اثني عشر جرحاً، وقطعت يدها باليمامة، وجرحت يوم اليمامة سوى يدها أحد عشر جرحاً(33).
السبب الثالث: ذكر الله كثيراً:
الذكر: الحفظ للشيء. وهو كذلك خلاف النسيان(34).
قال الراغب رحمه الله: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ(35).
قال الشاعر:
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني(36)
والذكر في الاصطلاح: يشمل كل أنواع العبادات من صلاة وصيام وحج ودعاء وثناء وقراءة قرآن...(37).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب مما يقرب إلى الله من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهي عن منكر فهو من ذكر الله..."(38).
وفي التنزيل الحكيم، ورد الأمر بذكر الله كثيراً عند ملاقاة الأعداء، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 45 {الأنفال: 45}.
قال العلامة الفخر الرازي: "وفي تفسير هذا الذكر قولان: القول الأول: أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله، وبألسنتهم ذاكرين الله... - إلى أن قال -:
والقول الثاني: أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر، لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى"(39).(1/1319)
والمجاهد في سبيل الله، أحوج ما يكون إلى الذكر؛ لأنه بذكر الله عز وجل يطمئن قلبه، وتسكن نفسه في وقت الطعان والتحام الأقران، وتتابع الأنفاس واشتداد البأس.
قال الباري سبحانه: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 28 {الرعد: 28}.
بل المعرض عن ذكر الله، قرين للشيطان بعيد عن الرحمن.
قال الحق سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين 36 {الزخرف: 36}.
وقال سبحانه: \ستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله 19 {المجادلة: 19}.
ولو ما في الذكر إلا أن الله سبحانه وعد الذاكرين له بالمغفرة والأجر العظيم لكفاه، قال الملك الكريم سبحانه: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما 35 {الأحزاب: 35}.
بل أمر الله عز وجل عباده المؤمنين بذكره كثيراً، قال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا \ذكروا الله ذكرا كثيرا 41 {الأحزاب: 41}.
ورغب البشير الهادي { بالذكر، وبين فضله، وعظم منزلته عند المولى سبحانه، كما في الحديث الذي يرويه أبو الدرداء } قال: قال النبي {: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالو: بلى. قال: ذكر الله تعالى"(41).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في التفضيل بين الذاكر والمجاهد. قال: فإن الذاكر المجاهد، أفضل من الذاكر بلا جهاد، والذاكر بلا جهاد، أفضل من المجاهد الغافل عن الله تعالى. فأفضل الذاكرين المجاهدون، وأفضل المجاهدين الذاكرون"(42).
وجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بين فضل الذكر، وفضل الجهاد في سبيل الله فقال: "وطريق الجمع - والله أعلم - أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء؛ الذكر الكامل؛ وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى؛ واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلاً من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية الجهاد إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه، أو تصدقه، أو قتاله الكفار مثلاً، فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى"(43).
ومدح الله عباده الذاكرين له الداعين إياه وقت النزال ومقارعة الأعداء، فأعقبهم الظفر وجازاهم بالنصر.
قال الحق سبحانه: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250 فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء(1/1320)
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين 251 {البقرة: 250، 251}.
وقال سبحانه: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا \غفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 147فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين 148 {آل عمران: 147،148}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الدعاء ذكر للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه للطلب،.. - إلى أن قال -: والمقصود أن كل واحد من الدعاء، والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه"(44).
وذكر الحافظ الذهبي رحمه الله في السير، عن الأصمعي قال: "لما صاف قتيبة بن مسلم للترك، وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع. فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء. قال: تلك الأصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير"(45).
إن ذكر الله ودعاءه عند العدو، يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب، والثقة بالله تعالى الذي ينصر أولياءه، ويهلك أعداءه، وهو في الوقت ذاته استحضار لحقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لنصرة دينه وإعلاء كلمته لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي(46).
إن كثرة ذكر الله ودعائه، معين في الحروب، جابر للنفوس، بلسم للجروح، مثبت للجيوش، طارد للأوهام والشرور. فحري بمن بذل نفسه للجهاد في سبيل الله أن يشتغل بذكر الله ومناجاته عن كل أحد، وأن يزيد صلته بالواحد الأحد.
*الهوامش:
1- انظر: شعاع من المحراب للعودة (339/7).
2- انظر: السير النبوية من فتح الباري للدكتور الجكني (113/2)، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصيلة للدكتور مهدي رزق الله (ص448).
3- أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم: (18219)، وانظر: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام للسهيلي (262/3).
4- مسند الإمام أحمد (103/4)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، وقد جمع الشيخ الألباني الكثير من أحاديث البشارة بمستقبل الدين في أول كتابه: سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/1).
5- انظر: مفردات ألفاظ القرآن (808-809)، وبصائر ذوي التمييز (69/5).
6- انظر: بصائر ذوي التمييز (69/5).(1/1321)
7- انظر: تفسير التحرير والتنوير (353/17).
8- انظر: التفسير لابن كثير (384/9).
9- انظر: تفسير الطبري (587/16).
10- انظر: تفسير القرآن العظيم (321/6).
11- انظر: في ظلال القرآن (218/9-219).
12- انظر: تفسير الطبري (437/16).
13- انظر: تفسير القرآن العظيم (151/7).
14- تفسير الطبري (587/16).
15- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا: فتح الباري (27/6). ومسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا... صحيح مسلم بشرح النووي (44/5).
16- أخرجه أبو داود في سننه كتاب الجهاد، باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا. عون المعبود شرح سنن أبي داود (191/7).
والنسائي في سننه - واللفظ له - كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر الذكر. سنن النسائي بشرح السيوطي (25/6). وقال الحافظ ابن حجر: روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد - وذكر الحديث - فتح الباري (28/6).
17- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد والنية، فتح الباري (37/6).
ومسلم في كتاب الجهاد، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير صحيح مسلم بشرح النووي (8/13).
18- انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (8/13)، وفتح الباري (37/6-38).
19- فتح الباري (29/6).
20- أضواء البيان (516/3).
21- معجم مقاييس اللغة (399/1).
22- انظر: معجم متن اللغة لأحمد رضا (422/1).
23- انظر: لسان العرب لابن منظور (19/2)، والبيت للعجاج يمدح عمر بن عبدالله بن معمر.
24- بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (347/2).
25- انظر: تفسير القرآن العظيم (24/4)، والتفسير الكبير (514/6).
26- انظر: في ظلال القرآن (1528/3).(1/1322)
27- انظر: فتح القدير (103/4)، وتيسير الكريم الرحمن (26/5).
28- المذكورة في الآية وهي: التحرف للقتال، أو التحيز إلى فئة.
29- انظر: صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى" 10 {النساء: 10}الآية. فتح الباري (393/5). صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها. صحيح مسلم (88/1).
30- تفسير القرآن العظيم (28/4).
31- الشعوب، اسم من أسماء المنية. فأشعب، أي مات. انظر: تهذيب اللغة للأزهري (442/1 مادة: شعب).
32- الطبقات الكبرى، لابن سعد (413/8-414).
33- المرجع السابق (416/8).
34- انظر: معجم مقاييس اللغة (358/2)، وتاج العروس للزبيدي (376/11).
35- مفردات ألفاظ القرآن (ص:328).
36- انظر: فضيلة ذكر الله عز وجل لابن عساكر (40).
37- انظر: الرياض النضرة لابن سعدي (ص:245)، والذكر وأثره في دنيا المسلم وآخرته، للدكتور البورنو (ص:18).
38- مجموع الفتاوى (661/10).
39- التفسير الكبير (479/5).
40- انظر تفسير العظيم لابن كثير (227/7).
41- أخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، انظر الجامع الصحيح (428/5) وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر. انظر: صحيح سنن ابن ماجه (316/2). والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. المستدرك (496/1).
42- الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:92).
43- فتح الباري (210/11).
44- مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/15). وانظر: الدعاء ومنزلته في العقيدة الإسلامية للعروسي (71/1-78).
ومنه قول أمية بن أبي الصلت لعبدالله بن جدعان:
أأطلب حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء(1/1323)
- إلى أن قال -:
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناء
انظر: ديوان أمية بن أبي الصلت: جمع: بشير يموت. نشر المكتبة الأهلية ببيروت 1352ه الطبعة الأولى، (ص:17).
45- سير أعلام النبلاء (121/6).
46- انظر: في ظلال القرآن (1528/3).
*استاذ الدراسات الإسلامية المساعد بكلية الملك عبدالعزيز الحربية.
ــــــــــ
خطه النصر
إبراهيم السمطى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم صلى الله علي محمد وعلى آل محمد كما صليت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك علي محمد و علي آل محمد كما باركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ثم أما بعد
عزيزي القارئ بل أخي إن ارتضيتني لك أخا إني أحبك في الله
أحب فيك ما أراه وأحسبه من تطلعك إلي القراءة الدينية في وقت انشغل فيه الشباب بسفاسف الأمور
أحب فيك رغبتك في خدمة هذا الدين ونصره
أحب فيك سعيك لمعرفة الحل لما نحن فيه وأغلب ظني أنك ستحاول جهدك أن تقدم شيئا لخدمة هذا الدين
أحبك لأني أري وأرجو فيك كل هذا وعسي ألا أكون مخطئا
أخي ..... انظر حولك فما تري؟؟؟؟؟؟
المسلمون مستضعفون .... مستكينون .... مهضومون .... مضطهدون
أليس هذا بالحق
ألم تسأل نفسك يوما لم هذا ؟؟؟(1/1324)
ألم تتألم يوما لم يحدث من حولك ؟؟؟؟
ألم ترغب يوما في فعل شئ لتغير هذا الواقع المر ولكن لم تدري ماذا تفعل؟؟؟
أخي لا تقل إنك واحد ليس بيدك شئ
إن بيدك الكثير .... بل بيدك الكثير جدا .... ولكن ... إبدأ
ألا تؤمن معي أن الله هو أحكم الحاكمين؟؟؟
ألا تري أن الله هو أصدق القائلين؟؟؟
تعال أخي لنتدارس إحدي خطط القرآن لتغيير الواقع
لتعلم واجبك ثم لتفعل .... ولا تخش شيئا فالأمر ليس به أية مخاطر فالخطة محكمة تماما ومضمونة النتائج بإذن الله رب العالمين
اقرأ معي أخي أول سورة القصص
كم مرة قرأت هذه السورة؟؟؟؟
إنها تتحدث عن موسي عليه السلام وفرعون
قد تقول وما شأن ذلك بواقعنا ؟؟؟
أقول لك اصبر أخي
إنها قصة .... ولكن ليست من تأليف الأدباء
إنها من القصص القرآني
الذي قال الله عنه :" لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"
أي أن هذه القصص يستفيد منها أصحاب العقول الذكية
فخذ لك نصيبا و تأمل لتعلم أن القرآن حقا منهج حياة
أذكرك و أذكر نفسي بأول سورة القصص :
بسم الله الرحمن الرحيم طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) صدق الله العظيم
هذا هو أول سورة القصص
تأمل ههنا كيف وصف الله الحال التي كانت عليها بنو إسرائيل وكيف أنجاهم الله(1/1325)
قال الله :" إن فرعون علا في الأرض "
وفرعون هو الحاكم في ذلك الزمان و قد بلغ من علوه أنه ظن أن البلاد كلها ملك خالص له يفعل بها ما يشاء وأنه لولا وجوده لهلك الناس :" قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " بل بلغ به الغرور أن ظن أنه إله الناس " فحشر فنادي فقال أنا ربكم الأعلي" وهو لم يدعي أنه خالق الناس ولكن أراد أنه الأولي بالطاعة كما قال الله :" اتخذوا أحبارخم ورهبانهم أربابا من دون الله" وقد بين رسول الله صلي الله عليه وسلم أن ذلك لأنهم أطاعوهم وتركوا أمر الله.
فههنا فرعون يريد أن يطاع فيما يأمر به مهما كان وانظر إلي حال الحكام في زماننا هذا وحال أحكامهم تعلم ما أريد.
ولكي يظل فرعون في هذه المنزلة لا يعارضه أحد ماذا فعل؟؟؟؟
لقد فعل أمرا مهما جدا
"وجعل أهلها شيعا" أي جعل المصالح متضاربة والناس طبقات
فكل إنسان يري أن مصلحته لا تتم إلا علي حساب الآخرين
وظهرت الطبقية والحقد الطبقي بأبشع صوره
فبالتالي لا يتعاون أحد مع الآخر لانعدام الثقة
فالكل يوالي الفرعون لأن مصلحته مع هذا الفرعون
ثم هو مع هذا لما وجد بني إسرائيل بمنجاة من هذه الأخلاق ماذا فعل
استضعفهم أي جعل أسباب الضعف من ضيق العيش والغلاء وكثرة الشواغل والخوف الدائم من البطش أشياءا ملازمة لهم, بل سعي إلي إذلالهم بذبح أبنائهم وترك بناتهم لتعمل في الخدمة لدي الأسياد وهو بكل هذا لا يريد عمار الأرض ولا يسعي إلي الإصلاح بل "إنه كان من المفسدين"
لك أن تنظر إلي ذلك الواقع وواقع المسلمين اليوم وقارن لتعلم لماذا قص الله علينا هذه القصة
إن كنت أخي قد فهمت ما أريد قوله فما الحل ؟؟؟؟
إن الله سبحانه وتعالي في نفس الآيات يرسم لنا خطة النجاة بل السيادة
" ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"
ليس مجرد النجاة هو هدف هذه الخطة بل السيادة والقيادة والملك
انظر أخي إلي مراحل الخطة وعناصرها:
1 - الإيمان "بالحق لقوم يؤمنون"
2 - المن من الله " نمن علي الذين استضعفوا "
3 - الاتباع المطلق لأوامر الله " فألقيه في اليم"
4 - الثقة بموعود الله " إنا رادوه إليكي"(1/1326)
5 - التربية علي العزة " نتخذه ولدا"
والآن أخي تعال سويا نري بالتفصيل ملامح هذه الخطة العظيمة
أولا الإيمان
إن الإيمان أخي هو الفيصل بين الأعمال
هو القوة وهو العزة وهو ما يرفع الإنسان
والإيمان ليس مجرد قول ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل كما قال السلف
أما أن تظن أن الإيمان مجرد الشهادة فهذا لا يجدي قال الله :
"إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ"
فانظر أخي كيف شهد الله عليهم بالكذب في قولهم "نشهد إنك لرسول الله"
وذلك لأن أعمالهم لا تنطق بذلك بل بضد ما يقولون فاحذر أخي أن تكون من هؤلاء
والله جل وعلا يبين أهمية الإيمان في الاستخلاف قائلا :
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
فالإيمان والعمل الصالح لا بد منهما ويقول الله مؤكدا هذا المعني :
"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ"
و ثانيا المن من الله
وهذا محض فضل من رب العالمين ولكن الله جعل أسبابا لاستحقاق هذه النعمة
قال الله " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا"
وقال " وتمت كلمة ربك الحسني علي بني إسرائيل بما صبروا "
فالصبر من أهم أسباب استحقاق النعم
ثالثا الاتباع المطلق لأوامر الله
فانظر ههنا كيف أن أمر الله جاء بلقاء الرضيع في اليم
ولو اعمل أي إنسان عقله لما فعلها إذ أن أي موجة ولو ضعيفة كفيلة باغراق الطفل الذي بالتأكيد لا يستطيع العوم ولكن لأن أم موسي مؤمنة فقد سلمت لأمر الله وأطاعت دون أن تتساءل
وهذا ما نحتاجه , أن نطيع دون مواربة فإن الطامة الكبري أننا نظن أن بإمكاننا أن ندرك حكمة كل شئ وهذا يقودنا دون أن ندري إلي أن نعبد هوانا ونطيعه والله يقول:(1/1327)
"أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا"
فاسمع يا أخي و أطع دون مناقشة فهذا من كمال الإيمان قال الله :
"إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"
أما أن تتردد فهذا نفاق و عدم ثقة بالله نعوذ بالله من ذلك
الرابع الثقة بموعود الله
فالإنسان يجد من نفسه حبا للتضحية حين يعلم أن هناك فائدة من بذله وعطائه
ولك في رسول الله الأسوة الحسنة
فتأمل كيف يعد النبي سراقة بن مالك بسوار كسري في الوقت الذي أجبر فيه علي الخروج متخفيا من بلده
وانظر كيف يعد أصحابه بفتح المدائن والشام وبلاد الروم في الوقت الذي تحاصره الأحزاب وتبلغ القلوب الحناجر وتزيغ أبصار أصحابه
فاعلم يا أخي أن النصر إنما هو لدين الله أولا وآخرا و لكن الأمر أن الله يبتلينا ويعطينا الفرصة لنبذل ما نستحق به أعالي الجنان
فماذا انت فاعل؟؟؟؟؟؟؟
الخامس و الأخير هو التربية علي العزة
فالله حين أرتد النجاة لبني إسرائيل جعل قائده عليه السلام يربي علي العزة والكرامة في بيت فرعون
لأن النفوس التي ألفت الذل لا تكون لديها همة للتغيير ولا أدني استعداد للبذل
لذا تجد أن الله حين أراد أن يدخل بني إسرائيل الأرض المقدسة لم يرضوا بالحرب بل أرادوا أن يخرج العدو ثم يدخلوا هم بلا قتال
فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة لكي يتغير الجيل الذي ألف الذل وينشأ جيل جديد في ظلال الحرية والكرامة ليكون لديه احساس وكبرياء ليستطيع البذل من أجل القضية التي يؤمن بها
وهذا هو المطلوب من كل منا
إن كنا جبناء عن البذل فلنربي أبناءنا علي أهمية العمل لدين الله
فلنعلمهم كيف يكون لديهم كرامة وعزة الإيمان
أخي كانت تلك لمحة سريعة اردت أن ألفت بها انتباهك
والأمر يطول شرحه جدا وعسي الله أن ييسر لنا ذلك يوما
أسأل الله أن ينفعني و إياك وأن يتقبل منا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ــــــــــ(1/1328)
أسباب النصر والتمكين ... بشرى للمؤمنين
الحمد لله الملك الجبار المتكبر القوي المتين ، والصلاة السلام على سيد ولد عدنان والعالمين ، قائد الصحابة المجاهدين.. محمد الأمين وعلى آله وصحبه وأتباعه أجمعين .. أما بعد:
إخوتي الأحبة:
أزُفُّ إليكم هذه النّسَمات بعد ما لمست من بعض الإخوة من العبرات ... والحزن المرتسم على صفحات الوجوه الطاهرات ... وعبرات الحروف الحزينة المكتوبة في المنتديات .. فهَمسَ هامسٌ: العزاء ... العزاء هلك المؤمنون ، فقلتُ: بل بُشْراكَ ... بُشْراك .. "فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون"
أحببت أن أزُف لكم هذه البُشرى لتطمئن قلوب المؤمنين .. وأغيظ بها الكافرين ، وأسميتها "أسباب النصر والتمكين"
أيها الأحبة
"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" .. لقد ذكر الله أسباب النصر في كتابه ، فإن تمسك بها جنده فهم الغالبون، وإن أخلّوا بها فالله غالبٌ على أمره سبحانه لا معقب لكلماته ، ولا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون..
وهاكم الأسباب استخلصتُها كلامِ مُسبِّب الأسباب:
1- إخلاص النية ووضوح الهدف.
ودليله قوله تعالى: " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ"
2- الصبر على العبادات
3- ومصابرة الأعداء
4- والمرابطة بالمداومة على العبادة والثبات
5- وتقوى الله في جميع الأُمور والأحوال
ودليله قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تُفلحون"
6- الثبات عند اللقاء
7- والإكثار من الذكر والدعاء
8- وطاعة الله ورسوله في الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة
9- والإبتعاد عن النزاع والإختلاف(1/1329)
ودليله قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين "
10- الإعداد حسب الإستطاعة
11- والإنفاق في سبيل الله
والدليل قوله تعال: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمون"
12- محبة الله ورسوله
13- وخفض الجناح للمؤمنين والتواضع لهم
14- وإبداء العزة وتحقير أعداء الله (فعلى المؤمن أن يكون ضحوكاً مع أولياء الله ، قَتّالاً لأعدائه)
15- وعدم الخوف أو التردد للإمتثال لأوامر الله (وتطبيق شرع الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ودليله قوله تعالى: " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"
16- عدم الإرتياب في دين الله ، وكمال الثقة بنصره
17- والجهاد بالمال والنفس
ودليله قوله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"
18- الغلظة على الكفار والمنافقين ومجاهدتهم (بالنفس ، والمال ، واللسان ، والدعاء ...)
ودليله قوله تعالى: " يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
أيها المؤمنون:
أُقسم بالله الذي رفع السماء بلا عمد ليس النصر بالقنابل والصواريخ وحاملات الطائرات، إنما النصر بالثبات واليقن بوعد الله "وما النصر إلا من عند الله"
وأُقسم بالذي رفع السماء بلا عمد: إن صَدَق المؤمنون الأفغان ربَّهم ينصرُهم بإذنه سبحانه "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" ...
أقول لإخواني المجاهدين أعدّوا وتوكلوا وإياكم والتعلق بالإسباب دون المسبِّب .. أو التعلُّق بالمُسبب وإهمال الأسباب ، فالتعلق بالمُسبِّب لا يتحقق إلا بإتيان الأسباب ... فالفهم .. الفهم ..(1/1330)
إخوة الإيمان:
إن من حق إخوانكم عليكم نصرتهم بالتضرع إلى الله والدعاء والإلحاح عليه والتذلل بين يديه سبحانه وسؤاله لإخوانكم النصر والثبات والتمكين ، فرُبَّ دعوة خرجت من قلبِ مؤمنٍ صادقٍ في جوف الليل يُدمّر الله سبحانه وتعالى لها جحافل الكفر والنفاق ويمزق شملهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم.
فالله الله إخوة الإيمان .. الله الله في إخوانكم .. الدعاء الدعاء ... الدعاء الدعاء .. الدعاء الدعاء .. " وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"
ومن الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب والنزال وعند القتال:
اللَّهُمَّ إنا ننْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ
اللَّهُمَّ أنْجِزْ لنا ما وَعَدْتَنا ، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنا
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحابِ، وَهازِم الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكتابِ، سَرِيعَ الحِسابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ
اللَّهُمَّ أنْتَ عَضُدنا وَنَصيرنا ، بِكَ نحُولُ وَبِكَ نَصُولُ، وَبِكَ نُقاتِلُ
اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ
اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنا وَرَبُّهُمْ، وَقُلُوبُنا وَقُلُوبُهُمْ بِيَدِكَ، وإنَّمَا يَغْلِبُهُمْ أنْتَ
اللهم أرنا ما وعدتنا في أعدائنا
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ
اللَّهُمَّ لَوْلا أنْتَ ما اهْتَدَيْنا .............. وَلا تَصَدََّقْنا وَلا صَلَّيْنا
فأنْزِلَننْ سَكِينَةً عَلَيْنا ................... وَثَبِّتِ الأقْدَام إنْ لاقَيْنا
إنَّ الأُلى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنا ................. إذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنا
أبشروا أيا المسلمون :
"سيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ . بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأمَرُّ"
"ألا إن نصر الله قريب" ، "ألا إن نصر الله قريب" ، "ألا إن نصر الله قريب" ، "وبشِّر الصابرين"
إنَّا إذَا نَزَلْنا بِساحَةِ قَوْمٍ فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ
والله أكبر .. والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين .. ولكن المنافقين لا يعلمون
ــــــــــ
أسباب النصر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه والسائرين على نهجه
أما بعد(1/1331)
فإن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به ، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو ...
نصراً يعيد لها مجدها السابق ، وحماها المستباح ....
ولاشك أن الناصر هو الله تعالى وحده .... فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها ... ولا يشكون فيها ... عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس ....
ولكن الله تبارك وتعالى قد جعل لذلك النصر أسباباً وأمر بتحصيلها والاعتناء بها حتى تؤتي الشجرة ثمرتها ....
وهنا سأحاول أن أذكر جملة من أسباب النصر مادية ومعنوية فاسأل الله تعالى التوفيق والسداد .
أول تلك الأسباب : الإيمان بالله تعالى [ باطناً و ظاهراً ] .
قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )
قال تعالى : (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )
ولاشك أن من أسباب الهزيمة المعاصي .... ومن أسباب النصر الطاعات . [ وتركت إفرادها لدخولها في الإيمان ] .
الثاني : الصبر
قال تعالى : ( بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) .
قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
الثالث : الإخلاص لله تعالى . [ أن يكون القصد نصر دين الله وإقامة شرعه ]
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) .
قال تعالى : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .
وعلامة المخلص ... (( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ))
الرابع : الإعداد المادي
قال تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ...)
فلما تركنا هذا التوجيه الرباني الكريم صرنا مطمع كل طاغية وكافر ....
الخامس : الائتلاف وعدم الاختلاف(1/1332)
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
فلما اختلفنا زرع الأعداء بيننا من ليس منا ... ليزيد الفرقة والتمزق ... حتى صرنا قطعاناً تتناهشها الكلاب ....
السادس : التوكل على الله والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع بالدعاء إليه ....[ وهذه مجموعة من الأسباب آثرت جمعها مع بعضها لقوة الترابط بينها ]
قال تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )
قال تعالى : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
قال تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ))
قال تعالى : ( ... أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )
السابع : الإقدام وعدم الإحجام ....
قال تعالى : (( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))
ولذلك كان الانغماس في العدو من أفضل الجهاد لما ينتج عنه من علو في الهمم ، ورفع للمعنويات ، وبه تقوى عزائم أهل الإيمان ، وبه تتحطم معنويات أهل الظلم والطغيان ...
وفي المقابل حرم التولي يوم الزحف وصار من السبع الموبقات لما يسببه من الهزيمة .... والتثبيط .... ورفع معنويات العدو ....
الثامن : مشاورة القائد [ حاكماً أو قائداً ] لأصحابه [ أصحاب الرأي والمشورة من أهل الحل والعقد وغيرهم ] وإشراكهم في صناعة القرار.... [ فتطيب النفوس وتقوى العزائم ]
قال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... )
قال تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )
وهذا يشمل الجهاد وغيره فهو قاعدة عامة .
وقد طبق ذلك كله المصطفى صلى الله عليه وسلم فهاهو يعتني بتربية الأتباع على الإيمان والتوكل والارتباط بالله وحده ، وهاهو يعد القوة المادية ، ويؤاخي بين الأنصار والمهاجرين ، ويزيل أسباب الفرقة من العصبيات والنعرات الجاهلية ثم لما لاقى عدوه أكثر من الدعاء والاستنصار ، وقبل ذلك كان يشاور الأصحاب ويقول : أشيروا علي أيها الناس ، وهاهو يحفر الخندق ..... والناظر في السيرة يعلم ذلك جيداً .(1/1333)
وهذه بعض الآيات الأخرى
- وحدة صفوف المقاتلين و تراصها
لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ }
- الثبات عند اللقاء
لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ }
- الإكثار من ذكر الله
لقوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ }
- الإستغاثة بالله سبحانه
لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }
- إتخاذ الحيطة والحذر مع الأعداء
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً }
- طاعة أمراء الجهاد و التصرف بإذنهم
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }
وقوله : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ }
- السرية في القول و العمل ورد الأخبار إلى ولاة الأمور
لقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }
- الرفق بالمؤمنين
لقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ }
- تحريضهم على القتال
لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }
- الحذر من تسلل المنافقين والمخذلين
لقوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }
- منع المتخلفين من القتال
{ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ }
- إرهاب الأعداء والغلظة عليهم(1/1334)
لقوله تعالى : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ }
وقوله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً }
اللهم انصر الإسلام وأهله في كل مكان ....
أخوكم التونسي
شبكة أنا المسلم
ــــــــــ
إذا سب الرسول فانتظر النصر المأمون
عمرو المصري
أولا لقد أعلى الله شأن نبيه - صلى الله عليه وسلم - دينا ودنيا:
فقال - تعالى -: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين و كان الله بكل شيء عليما} (40) الأحزاب.
و قال - تعالى -: {محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما} (29) الفتح.
قال - تعالى -: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير} (285) البقرة.
قال - تعالى -: {إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما} (56) الأحزاب.
وقال - تعالى -: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين} (6 آل عمران.
قال - تعالى -: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا} (45) الأحزاب.
قال - تعالى -: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} (128) التوبة
قال - تعالى -: {يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين} (64) الأنفال.
قال - تعالى -: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم....} (6) الأحزاب
وكرمه أعلى التكريم وأرفعه - صلى الله عليه وسلم -:
فقال - تعالى -: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (1) الإسراء.(1/1335)
قال - تعالى -: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا} (1) الكهف.
قال - تعالى -: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (1) الفرقان.
قال - تعالى -: {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور و إن الله بكم لرءوف رحيم} (9) الحديد.
وأمر باتباعه وطاعته والإيمان به - صلى الله عليه وسلم -:
فقال - تعالى -: {فآمنوا بالله و رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله و كلماته و اتّبعوه لعلكم تهتدون} (158) الأعراف.
قال - تعالى -: {و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و احذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (92) المائدة.
قال - تعالى -: {قل أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل و عليكم ما حملتم و إن تطيعوه تَهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين} (54) النور.
قال - تعالى -: {وما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و اتقوا الله إن الله شديد العقاب} (7) الحشر
قال - تعالى -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر و ذكر الله كثيرا} (21) الأحزاب
وأمر المؤمنين بعظيم الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -:
فقال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون} (2) الحجرات.
قال - تعالى -: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة و أجر عظيم} (3) الحجرات.
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم و الله لا يستحي من الحق.... } (53) الأحزاب.
قال - تعالى -: {و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما} (53) الأحزاب.
وحذر تحذيرا شديدا من إيذائه ولو بأقل القليل:
فقال - تعالى -: {و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} (61) التوبة.(1/1336)
قال - تعالى -: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتّبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا} (115) النساء.
قال - تعالى -: {إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم} (32) محمد.
ولكن السنة الكونية أن هناك أعداء له - صلى الله عليه وسلم -:
قال - تعالى -: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (112) الأنعام.
قال - تعالى -: {و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين و كفى بربك هاديا و نصيرا} (31)الفرقان.
ثانيا: حكم السب ومناطه:
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ج: 3 ص: 978... وما بعدها:
قال القاضي عياض "جميع من سب النبي أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو ساب له و الحكم فيه حكم الساب يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا نمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا وكذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزورا أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرا..
وقال ابن القاسم عن مالك من سب النبي قتل ولم يستتب قال ابن القاسم أو شتمه أو عابه أو تنقصه فانه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره وبره، وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب، وروى ابن وهب عن مالك من قال إن رداء النبي ويروى إزاره وسخ وأراد به عيبه قتل، وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه انه يقتل بلا استتابة.
وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم منها رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال تريدون تعرفون صفته هي صفة هذا المار في خلقته ولحيته، ومنها رجل قال النبي كان اسود، ومنها رجل قيل له لا وحق رسول الله فقال فعل الله برسول الله كذا قيل له ما تقول يا عدوا الله فقال اشد من كلامه الأول ثم قال إنما أردت برسول الله العقرب قالوا لا يقبل لأن إدعاءه للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله ولا موقر له فوجبت إباحة دمه، ومنها من قال(1/1337)
إن سألت أو جهلت فقد سأل النبي وجهل، ومنها متفقه كان يستخف بالنبي ويسميه في أثناء مناظرته اليتيم ويزعم أن زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها وأشباه هذا.
قال عياض فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم وان اختلفوا في حكم قتله.
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه أنه مرتد وكذلك قال أصحاب الشافعي كل من تعرض لرسول الله بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح فإن الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة على الوجهين.
وقد نص الشافعي على هذا المعنى..
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفر مبيح للدم...
ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه والازراء به أو لا يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله - تعالى - ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب..
ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد أذى الله ورسوله وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى وإن لم يقصد أذاهم...
ألم تسمع إلى الذين قالوا {إنما كنا نخوض ونلعب}
فقال الله - تعالى -: {أبالله و آياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}
وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي أو حكم من حكمه أو يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك...
وقد قال - تعالى -: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}
فأقسم - سبحانه - بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ثم لا يجدون في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في أمره وحرج لذكر رسول الله حتى أفحش في منطقة، فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بأن مقصوده رد الخصم فان الرجل لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. أ. هـ
ثالثا: سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الضرر في الدين:
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ج: 2 ص: 38
إن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له إن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وإن لم يؤذنا فحاله أشد....(1/1338)
إن الذمّي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين وأنه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه.....
و قال في الصارم المسلول ج: 2 ص: 46
و لا ريب أن من أظهر سب الرسول من أهل الذمة و شتمه فانه يغيظ المؤمنين و يؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم و أخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله والحمية لله و لرسوله و هذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله.....
و في الصارم المسلول ج: 2 ص: 453
أما سب الرسول والطعن في الدين ونحو ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق ضرر قتل النفس وأخذ المال من بعض الوجوه فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله وإذلال كتاب الله وإهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب.. (وهو الرسول).....
الصارم المسلول ج: 2 ص: 462
إن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين و إضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة.....
الصارم المسلول ج: 3 ص: 940
إن ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ما حيا لذلك الفساد....
وفى مجموع الفتاوى ج: 14 ص: 120
و كذلك تكذيب الرسول بالقلب و بغضه و حسده و الاستكبار عن متابعته أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل و الزنا و الشرب و السرقة و ما كان كفرا من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان و سب الرسول و نحو ذلك فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن و إلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن و لم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك............
رابعا: عقوبة السب الربانية:
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ج: 3 ص: 983... و ما بعدها.
فعبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي أنه كان يتمم له الوحي و يكتب له ما يريد فيوافقه عليه و أنه يصرفه حيث شاء و يغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك و زعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله و هذا الطعن على رسول الله وعلى كتابه و الإفتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به و الردة في الدين و هو من أنواع السب..(1/1339)
و كذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله و عاقبه عقوبة خارجه عن العادة ليتبين لكل احد افتراؤه إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل كاتبه أعلم الناس بباطنه و بحقيقة أمره و قد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفتر....
فروى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال كان رجلا نصرانيا فأسلم و قرأ البقرة و آل عمران و كان يكتب للنبي فعاد نصرانيا فكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله.. فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له و أعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح و قد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فالقوه...
ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة و آل عمران.. و كان يكتب للنبي فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب..
قال فعرفوه قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا...
فهذا الملعون الذي افترى على النبي أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبا.. إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا...
قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتسير ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه...
هذا و- صلى الله عليه وسلم -.
2005-01-29
ــــــــــ
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى(1/1340)
الشيخ محمد عبدالكريم
1. كل المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يتطلعون إلى خلاص المسجد الأقصى وفلسطين من أيدي أعداء الله اليهود الغاصبين، ولكن هذه الأمنية تحتاج لتحقيقها واقعاً إلى تغيير في نفوسنا، يخلصنا أولاً من العبودية لغير الله في أي صورة من صور الشرك وعبادة غير الله. فلا بدّ من تغيير عميق للجذور, نبني به رجل العقيدة المسلم, الذي يحقق العبودية لله تعالى في نفسه ويعبِّد الآخرين لخالقهم, وبهذا الأساس الصلب سينفذ جيل النصر القادم لا محالة إلى اليهود القابعين في بيت المقدس, وبذلك الوصف سينادي الحجر والشجر جند الله المؤمنين الذين سينازلون اليهود: (يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي وارئي تعال فاقتله)، وسبيل ذلك التربية المتوازنة على العقيدة الصافية التي لا تكدرها شائبة, من خرافة ومحدثة وشبهة، العقدية التي يريدها القرآن الكريم، وتريدها السنة الصحيحة أن نعتقدها بشمولها عبادة ونكساً، وولاءً وبراءً، شريعة وحكماً، دون تجزئة , أونسيان حظ مما ذكرنا به، كما قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) .
2. السعي الدؤوب لوحدة المسلمين على كلمة سواء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بهما (واعتصموا بحل الله جميعاً ولا تفرقوا) ، وأثبت الواقع أنه لم ولن تكون القومية العربية إطاراً يحقق الوحدة لأنها بناء قائم على جرفٍ هارٍ ودعوة مالها من الله من برهان ولا نصير، في حين اثبت الإسلام صلاحيته لتوحيد شعوب مترامية المسكن, مختلفة الأجناس, صهرهم في بوتقة واحدة, وصقلهم وهذب أخلاقهم وطباعهم، وأبدع بهم حضارة حكمت الشرق والغرب، وحقق لها شعور الانتماء الواحد , أكثر من الذي يشعر به أبناء البلد الواحد, واعتبر الإسلام هذه الرابطة أقوى وشيجة بقوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) وقوله تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) , وبمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (أن آل أبى فلان ليسوا بأوليائي أن وليّ الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) .
إن رابطة البنوّة فَصَمَتْ بين نوح عليه السلام وابنه عندما انعدمت رابطة الإيمان (إنه ليس من أهلك أنه عملٌ غيُر صالح) , كذلك رابطة الأبوة بين إبراهيم عليه السلام وأبيه فصمت لما انعدمت رابطة العقيدة (فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه أن إبراهيم لأواه حليم) . كذلك لم ينفع أبا لهب وهو العربي القرشي رابطةُ النسب والقوم، وكان من الهالكين لكفره, لكنّ بلالاً الحبشي, وصهيباً الرومي, وسلمان الفارسي كانوا من خير أبناء هذه الأمة, وهكذا ضمّت دائرة الإسلام العرب والفرس والأكراد والترك والبربر والهنود والصين والأفارقة وغيرهم, وجعلت منهم أمة واحدة من دون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام, فكان لهم التاريخ الواحد, والمآثر الواحدة, والأفراح والأعياد الواحدة, ولغة الدين الواحدة، وسل التاريخ ينبئك!! فها هم أولئك المماليك الذين حموْا هذه البقعة من بلاد الشام وبيت المقدس لم يكونوا من جنس العرب، وإنما كانوا من جنس التتار، ولكنهم قاتلوا(1/1341)
حميّة للإسلام، وحمى صلاح الدين هذه البلاد من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية، وهو كردي لا عربي, ولكن حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين, وكان الإسلام في ضميره هو الذي كافح الصليبيين كما كان الإسلام في ضمير بيبرس والمظفر قطز .
لقد آن الأوان لننبذ كل تلك الطروح القومية والوطنية والاشتراكية والشيوعية والعلمانية وسواها من رايات الفشل والشقاق , ونتخذ راية الإسلام شعاراً لتوحيد الجهد والجهاد في سبيل الله (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) .
3. ما أشبه الليلة بالبارحة! فكما رزء المسلمون في القرن الخامس الهجري قبل فتح بيت المقدس بالحركات الباطنية كالعبيديين, والحشاشين, والنصيريين والدروز, فإننا اليوم مبتلون بهذه الحركات وغيرها مما لم يكن في الماضي كالقاديانية والبهائية, وإذا كان الإمامان نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي قد وفقا لإدراك خطر الدولة العبيدية على وحدة المسلمين ولم شعثهم، فإننا اليوم ينبغي أن نتصدى لهؤلاء بكل الوسائل الممكنة, ويجب أن نحذر من اعتبارهم في أي وحدة لانهم كالسوس ينخر من الداخل.
4. إن السبيل الأوحد في إدارة الصراع مع اليهود, لإخراجهم من بيت المقدس وفلسطين هو قتالهم في سبيل الله، وإن من أعظم صور الجهاد، وأروع ضروب الاستشهاد، ما يقوم به شباب الجهاد في فلسطين من عمليات فدائية، أفزعت اخوان القردة والخنازير، وأقضّت مضاجعهم، حتى أبلغت قلوبهم حناجرهم. ولما كانت هذه العميات الجهادية تستوجب وجود عنصر بشري لإحداث التفجير، بسبب إحكم العدو للتدابير الأمنية، سواءً بتدريع جسم المجاهد بالمتفجرات، أو باقتحام الثكنات بعربة ملغّمة، أو بالسقوط عليها بطائرة مفخخة. فإن جماهير العلماء في عصرنا الحاضر قد نصوا على جواز ومشروعية هذه العمليات الفدائية، لعموم نصوص الكتاب والسنة المحرّضة على قتال الكافرين، بُغية الإثخان في أعداء الله، والانتصار للدين، ومن ذلك قول الله تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) ، وقوله تعالى : (يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون) وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل (فيُقتلون ويَقتُلون)، وقوله سبحانه: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) ، وقوله عز وجل: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) ، ومن الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يُحبهم الله –ذكر منهم- الرجلُ يلقى العدو في فئةٍ فينصُبُ لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هيْعَةً أو فزعة طار عليه يبتغي القتلَ والموتَ مظانَّهُ) ، ولحديث الغلام في قصة أصحاب الأخدود، وذلك أنَّه علَّم ملك نجران كيف يقتله، وأنه لا سبيل لهم إلى قتله إلا بالطريقة التي دلهم عليها، فكان متسبباً في قتل نفسه، من(1/1342)
أجل دخول دخول أهل تلك البلاد في دين الله، وكان ما أراد، حيث قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. ومن المعلوم بداهة أن قتل الأعداء من أعظم
المخاطرة، لما في ذلك من تعريض النفس للتلف..
الجود بالمال جود فيه مكرمة *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وإذا كان أكثر أهل العلم قديماً قد ذهبوا إلى مشروعية الاقتحام على العدو، والانغماس في صفوفه، مع تحقُّق الهلاك، وضعف العدة، وقلة العدد، بقصد النكاية بالعدو، وكسر عنفوانه، وفلِّ شوكته، وتوهين قناته، فإن الصورة العصرية أيضاً مشروعة لذات المقصد والغاية. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني ـ تلميذ الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله: "لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده فلا بأس بذلك، إذا كان يطمع في النجاة، أو نكاية في العدو. وإن كان قصده إرهاب العدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه. وإن كان فيه نفع للمسلمين فتَلِفتْ نفسه لإعزاز الدين، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى به المؤمنين بقوله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)" .
وصحح أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم؛ لأربعة وجوهٍ: طلب الشهادة، ووجود النكاية، وتجرئة المسلمين عليهم، وضعف نفوسهم ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع. ومن شواهد ذلك في السيرة: حمل سلمة بن الأكوع والأخرم الأسدي وأبي قتادة وحدهم رضي الله عنهم على عيينة بن حصن ومن معه، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خير رَجّالتنا سلمة) . قال ابن النحاس: "وفي الحديث الصحيح الثابت أول دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده، وإن غلب علىظنه أنه يُقتل إذا كان مخلصاً في طب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي" ، ومن المشهور أيضاً فعل البراء بن مالك في معركة اليمامة، فإنه احتُمِل في ترس على الرماح، وألقوه على العدو فقاتل حتى فتح الباب، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، ومن ذلك أيضاً قصة أنس بن النضر رضي الله عنه في وقعة أحد، فقد قال: "واهاً لريح الجنة"، ثم انغمس في المشركين حتى قُتل .
ولا ريب أن البون شاسع بين من قتل نفسه جزعاً من الحياة و تخلصاً من آلامها كما في قصة قُزمان الذي نحر نفسه فاستعجل الموت ، أو ما يقع من حوادث انتحارية جراء المعيشة الضنك، وبين صورة ذلك الشاب المجاهد، الذي يقتل نفسه ليحيي أنفس الأجيال المسلمة من بعد ذلك (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) فحاشا لمثل هذه الصورة الفدائية المشرقة أن تكون مجرد حماسة فائرة، أو عزمة مفردة، أو تغريراً بأنفس متهورة في باطل فضلاً عن أن تكون انتحاراً أو قتلاً للنفس بغير حق. قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: "إن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين" ، ونقل النووي الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .(1/1343)
وما دامت الجيوش الباسلة في بلاد المسلمين (مدجَّنةً) لا تحرك ساكناً إزاء غطرسة اليهود ومجازرهم، وحالها أنها (ملجّمة) من قِبل المخذِّلين والمنافقين، فلا سبيل إلى زعزعة هذا الكيان الجرثومي إلا بهاتيك العمليات الجهادية الفدائية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أما مفاوضات الاستسلام, فإنها تزيد اليهود غطرسة وعدواناً, ولا تورثنا إلاّ ذلاً وهواناً, لأن مشكلة فلسطين والمسجد الأقصى, قضية إسلامية بحتة, وماهي بمشكلة العرب وحدهم.. أو الفلسطينيين وحدهم.. فليس من حق كائن من كان أن يساوم عليها*, فهي من شمالها إلى جنوبها بقدسها الشريف أرض إسلامية تنتظر المخلص الإسلامي المجاهد, وهذا واجب كل مسلم وهو في حق مسلمي فلسطين ومن جاورهم أوجب, وإن أخشى ما يخشى اليهود اليوم أن تستيقظ روح الإسلام في النفوس , وتنتشر روح الجهاد وحب الاستشهاد، كما صرخ طائرهم بن غوريون قائلاً: "نحن لا نخشى الاشتراكيات, ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة نحن نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً, وبدأ يتململ من جديد".
5. يجب أن ننزع من قلوبنا حب الدنيا والتهالك عليها, ونتعلق بالآخرة التي نعيمها هو النعيم السرمدي الباقي (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزينّ الذي صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون) , وها هو ذا صلاح الدين في الماضي قد شمر عن ساعد الجد وترك اللهو, وتقمص بلباس الدين, وحفظ ناموس الشرع, فحمل هموم الإسلام والمسلمين, ولم يهدأله بال, ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه, يصف صاحب كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) صلاح الدين وهو ينقل الحجارة بنفسه لعمارة سور القدس فيقول: (ولو رأيته وهو يحمل حجراً في حجره, لعلمت أن له قلباً قد حمل جبلاً في فكره)
سيُدرك النصر إن يأذن به صمد *** بعد امتحان بخير المال والولد
ودولة الظلم لن تبقي إلى أمد *** وهل تدوم ومادامت الي أحد
ستشرق الشمس لا تجزع لغيبتها *** ويبزغ الفجر فوق السهل والنجد
وترجع القدس تزهو في مآذنها *** وعد الإله الكريم المنعم الصمد
ــــــــــ
الحُلولُ الإسلاميَّةُ للقضية الفلسطينية
للشيخ/ ذياب الغامدى
الفَصلُ الأولُ : الحلُّ الإسْلامي بَيْنَ الإيجابيَّات، والسِّلبياتِ .
إنَّ طرحَ الحلَّ الإسلامي أياً كان نوعه؛ لهو نوعٌ من أنواع النيات الصادقة، والرغبات الإيمانية، والعزمات الجهادية نحو الخروج بالأمة الإسلامية من هذا الهوان الذي تعيشه، وهذا الذلِّ الذي ما برح فوق رأسها ما يزيد على خمسة قرون أو يزيد، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله !.(1/1344)
فكان البحث عن الحلِّ الإسلامي أمراً مهماً، وفرضاً متحتِّماً على كافة المسلمين؛ وكلٌّ بقدره . " فاتقوا الله ما استطعتم " .
فإذا عُلم ما ذكرناه آنفاً؛ كان من العدل والإنصاف أن نضع الأمور في نصابها، وذلك ماثلٌ في معرفةِ حقيقةٍ مسلَّمةٍ وهي : أن طرح الحلول، وإيجادها، والكلام عنها لا يلزم منها ضرورةً الصِّحة والواقعيَّة؛ بقدر ما هي دعوةٌ إيمانيةٌ لشحذِ الهمم، والاستفادة من أفكار وطاقات المسلمين في التعامل مع قضاياهم الإسلامية لاسيما التي تَمسُّ دينَهم، وعزَّتهم، أو شيئاً من حقوقهم !.
فعند هذا؛ كان من الحكمة البالغة أن ندعوا كافَّةً المسلمين عالمَهم وجاهلَهم، كبيرَهم وصغيرَهم، ذكرَهم وأنثاهم ... للمشاركة والتعاون في طرح الحلول، وعرضها بقدر ما نملك من استطاعة .
فكلامنا حينئذٍ يدور حول نقطتين مهمتين :
الأولى: ليس من الضرورة صحَّة الحلول عند طرحها .
الثَّانيةُ : مبدأ الشورى أصلٌ من أصول السياسة الشرعية، والتدابير المرعية .
فمن قرأ السيرة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم - أو قلَّب صفحات التأريخ علم يقيناً أن الإسلام لم يُهمل أحداً من المسلمين عن إبداء رأيه، والمشاركة في قضايا المسلمين؛ فالكل سواء بسواء فما كان عنده الحل الأمثل قُبِلَ وقدِّم على غيره أيّاً كان قائله ما كانت سمة الإسلام بينهم ظاهره !، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ... المسلمون يدٌ على مَنْ سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، ويُجيرُ عليهم أقصاهم ... " الحديث، أحمد وغيره( ) . وكما قال تعالى : " وشاورهم في الأمر " آل عمران 159، وقال تعالى : " وأمرهم شورى بينهم " الشورى 38.
وتدليلاً على ذلك أنَّ آراء الصحابة ـ رضي الله عن الجميع ـ حول أسرى بدرٍ تكاثرت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال بقتلهم، ومنهم من أمر بحرقهم، ومنهم من رجَّح فداءهم ... الخ، وهذا كلُّه لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من المشورة وطرح الحلِّ الذي يخدم الأمة، كما أننا لا ننسى مشورته صلى الله عليه وسلم للصحابة يوم قال في بدرٍ : " أشيروا عليَّ أيها الناس "!، وليست عنَّا قصة سلمان الفارسي ببعيد يوم طرح حلاً لم يكن مألوفاً عند العرب آنذاك !؛ وهو أمره ـ رضي الله عنه ـ بحفر خندقٍ يحجز به العدوَّ عن دخول المدينة النبوية، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أمَّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ في عمرته التي منعه منها أهل مكةَ، وذلك عندما أمر الناس أن ينحروا الهديَ ويحلقوا رؤوسهم، فلم يقم منهم أحدٌ إلى ذلك، فكرر الأمر ثلاث مرات؛ فأشارت إليه بأن يبدأ هو بما يرد، ففعل، فقاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمَّاً( ) ... وغير ذلك من الأخبار والوقائع التي تضيق بها هذه الرسالة الخ، كلُّ هذا دليلٌ على تعزيز مبدأ مشاركة الآراء، وأخذ المشورة من كافة المسلمين .(1/1345)
إذاً فلنجعل شعارنا حينئذٍ هو ما قاله صلى الله عليه وسلم : " أشِيرُوا عَليَّ أيُّها النَّاس "
فإنَّنا من خلال ما تقدَّم ندعو كلَّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشاركنا في طرح ما يراهُ مناسباً من الحلول الشرعية تُجاه أمته الإسلامية كي يأخذ بيدها من هذا الهوان والصَّغار إلى عزِّها وسيادتها وريادتها للعالم بأسره ! .
لذا كان حقاً على كلِّ مسلمٍ أن يُدليَ برأيه حول طرح الحلول الشرعية : فالمزارع في مزرعته لا بد أن يخدم أمته في طرح ما يراه مناسباً، وكذا التاجر في متجره، والأعرابي في إبله، والطالب في مدرسته، والمرأة في منزلها، والكلُّ في أمته ... فنحن بهذه الدعوة قطعاً - إن شاء الله - سنعيد للأمة الإسلامية مجدَها وعزَّها، ولن يخذلنا الله تعالى؛ حيث يقول : " والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " العنكبوت 69 . هذا إذا علمنا أنَّنا محتاجون مضطرُّون ساعتئذٍ، والله تعالى يقول : " أمَّن يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه ويكشفُ السوءَ ... " الآية النمل 62.
اللهم أقرَّ أعينَنا بعزٍّ نراه في حياتنا، وجهادٍ نُسقيه بدمائنا، وخلافةٍ عامةٍ نستظلُّ بظلِّها، ونحوطُها بنصحنا ... اللهم آمين .
وبعد هذا حان لنا أن نذكرَ ما نراه مناسباً من الحلول الشرعية التي تتناسب مع واقعنا الذي نعيشه ونلامسه، مع اعتبار ما قرَّرنا آنفاً أن طرحنا للحلول لا يلزم منه ضرورةً الصواب؛ علمناً أننا لم نألُ جهداً في اختيار ما نحسبه - إن شاء الله - أقرب ما يكون إلى الجادَّةِ والصواب . والله الموفِّق، والهادي إلى سواء السبيل .
الفَصلُ الثَّاني : قائِمةُ الحُلولِ .
لا شكَّ أن الحلولَ كثيرةٌ جداً؛ فكان من المناسب أن نُجملها في اثنين لا ثالث لهما، وهما باختصار : ( عامٌ، وخاصٌ ) .
الأوَّلُ : حلولٌ عامةٌ لا تتقيد بزمان، أو مكان فهي مستمرَّةٌ لا تنفكُّ عن حياة المسلم ما تردَّدت أنفاسُه في جوفه؛ لأنها معلومةٌ من الدين بالضرورة . لأجل هذا لم أتكلَّف التوسعَ في الحديثِ عنها فتأمل .
وهذا الحلُّ ماثلٌ في أمور منها :
1ـ دعوة المسلمين إلى تصحيح العقيدة الإسلامية، ومنابذة الشرك .
2ـ تعليمُ المسلمين أمورَ دينِهم .
3ـ تقوية الروابط بين المسلمين .
4ـ إحياءُ قضيةِ الولاءِ والبراءِ في قلوب المسلمين .
5ـ إحياءُ قضيةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند عامة المسلمين وغير ذلك من الحلول العامة الهامَّة .(1/1346)
الثَّاني : حلولٌ خاصةٌ يحكمُها الزمان والمكان، فعند ذلك كانت القرائنُ والظروفُ هي مناطُ الحكمِ فيها وجوداً وعدماً، فهذه الحلول ليست متروكةً لاختيار المسلم بقدر ما هي ضرورةً تفرضها الوقائع والأحداث . وهذا النوع من الحلول هو بيت القصيد، والدَّافع من رسالتي هذه ! .
أمَّا إن سألت عن مثالٍ يجسِّمُ هذا الحلَّ - الثاني-؛ فهناك قضايا جسامٌ كثيرةٌ ألمَّت بالأمة الإسلامية، كإلغاء الخلافة الإسلامية، وسقوط كثيرٌ من بلاد المسلمين في أيدي الكفرة ابتداءً بالأندلس وانتهاءً ببيت المقدس ... وتحرير بلاد المسلمين من الذين لا يُدينون بدين الإسلام ممَّن يجاهر بحرب الإسلام والمسلمين؛ كالمنافقين، والزنادقة، وأذناب الغرب من العملاء العلمانيين، والحداثيين، ودعاة الفساد والرذيلة ...!! .
وحسبنا من هذه القضايا الآن : " قضية فلسطين " ! .
فعند هذا نستطيع أن نقطع القول : بأن الحلول الإسلامية التي طُرحتْ حول قضية بيت المقدس كثيرةٌ جداً ربما تفوق الحصر!، علماً أنَّ بعضها ما زال قابلاً للطَّرح والزيادة، والله أعلم .
وبعد هذا؛ فلنا أن نبدأ بذكر الحلول الإسلامية التي نراها نافعةً ناجعةً نحو قضية فلسطين - إن شاء الله - :
الحلُّ الأوَّلُ : الجهادُ ! .
نعم؛ إنَّ كلمة الجهاد، أو الحديث عن الجهاد أصبح عند كثير من المسلمين عبثاً، وما ذاك إلاَّ أن ترديد كلمة الجهاد أحدثت في نفوسهم تبلُّداً قلبي، فلم يعد لكلمة الجهاد عندهم كبير تأثير !، هذا لمَّا فقدت الكلمةُ معناها الإيماني، ومحتواها الصحيح حيث أصبحت على لسان كلِّ أحدٍ من الناس، بل غدت عند بعض السَّاسة ورقةً تجاريةً يلعب بها حسبما تُمليه عليه السُّوقُ السياسية، وكذا أصبحت عند بعضهم تهمةً يُحاكم عندها من ينادي إليها، وآخرين ليلةً ذات شجونٍ يتسامرون عليها، وهكذا حتى ذهبت قداستُها الشرعية يوم تعلَّق بها من ليس أهلاً لها ... فالله المستعان .
فليت شعري؛ لو أنَّ كلمةَ الجهادِ وقفتْ عند هذا الحدِّ !؛ بل تعدَّى هذا إلى بعض الصالحين - للأسف - يوم تجدُ أكثرَهم إذا عضَّته الصور المأساوية، وقتلته المشاهد الدموية ضد المسلمين قام ينادي بأعلى صوته فوق منبره : الجهاد أيها المسلمين !، وآخر لم يملك نفسه حتى بكى على منبره ينادي بالجهاد!، وبعضهم أخذ قلمه وكسر غمده ليكتبَ عن الجهاد وفضله ... الخ . وهكذا؛ كلٌّ تدفعه الغيرة إلى الحديث عن الجهاد، لكن هيهات !؛ حيث ذهبت كلماتُهم وعبراتُهم في مهب الريح، لا أثر لها ولا تأثير !؛ لا لشئ؛ بل لأنهم - للأسف - لم يحسنوا استخدام كلمة " الجهاد " بين المسلمين، ولم يعرفوا طرحها على أرض الواقع، وكيف توجيهها لحلِّ قضية فلسطين . إنَّ الكلامَ عن الجهاد دون فعلٍ لهو مصيبةٌ؛ يوم تبقى حبيسة النفوس وأسيرة القلوب!؛ لذا كان لنا - للأسف -(1/1347)
نصيبٌ من هذا الخطأ يوم جعلنا من كلمة " الجهاد " كلمةً جوفاء في أذان المسلين، وطَبْلاً أجوفاً كلَّه خواء ...! .
أمَّا اليوم فلنا مع الجهاد الإسلامي كلامٌ وكلام !، يوم أخذت كلمة الجهاد منحى آخر عند كثير من الناطقين بها !، فكان ما كان كما ذكرناه آنفاً .
أقول : إنَّ الأمةَ الإسلاميةَ تجتازُ مرحلةً خطيرةً من مراحل حياتها؛ مرحلةَ قوَّةٍ، أو ضَعْفٍ !؛ فلقد اعتدى الأعداء على بلادها، وأراضيها، ودنَّسوا مقدساتها، وانتهكوا محرماتها، وعاثوا في أرجائه الفساد فأصبح الجهادُ فرضاً عينياً على كلِّ قادرٍ بالنفس، والمال، وعلى كلِّ فردٍ أن يَعُدَّ نفسه ليكون جندياً بروحِه، ودمِه يجاهد في سبيل الله، وتحرير بلاده، وإنقاذ مقدساته من أيدي الطغاة المعتدين الذين اعتدوا على المسجد الأقصى المبارك أُولى القبلتين .
إنَّ المسلمين الأولين أدركوا أهمية هذه البلاد فجاهدوا في سبيلها جهاداً مستميتاً، وباعوا نفوسهم وأرواحهم رخيصةً من أجلها .
ولقد حَدَّثَ التأريخ أن هذه البلاد المقدسة كلما ألَمَّت بها ملمةٌ، أو وقعت بها نازلةٌ استصرخت من حولها فكان الغوثُ والعونُ يأتونها جماعاتٍ ووُحداناً يتنسمون منها نسمات الجنة، ويبتغون الفضل من الله والمنة .
ومنذ فجر الإسلام، وقوافلُ المجاهدين، ومواكبُ المقاتلين، ورَكْبُ الميامين تسيرُ نحو هذه البلاد المقدسة لتنال الشهادةَ على أرضها، وتلقى ربها راضيةً مرضيةً، وتَنعم في جوارِه بالحياةِ الطيبةِ، والرزق الكريم .
لقد كانت أشرفُ أُمنيةٍ، وأنبلُ غايةٍ يرجوها المؤمنُ الصادقُ من ربه أن يموتَ شهيداً في ساحات بيت المقدس؛ لِتُضم رفاتُه، ويُمزج دمُه مع دمِ الآلاف من الشهداء الأبرار الذين استشهدوا في موقعة مؤتة، واليرموك، وحطين وغيرها من المعارك الخالدة.
وأنَّ أسلافَنا الأكرمين قد سلَّموا لنا هذه البلاد المقدسةَ سالمةً نقيةً، وهي أمانةٌ في أعناقِنا علينا أن نُسلمها إلى الأجيالِ القادمةِ كما تسلَّمناها سالمةً نقيةً .
ولقد تآمرت علينا دولُ الاحتلال والدَّمار( ) في الشرق والغرب في حين غفلةٍ منا فأقامت لليهود دولةً في أرضنا، وملَّكتهُم ديارَنا ومقدساتنِا لتكون هذه الدولةُ شوكةً في قلب البلاد الإسلامية، ومصدرَ شرٍ وفساد في هذه المنطقة الحيوية الهامة من العالم، ولتكون أيضاً تكأةً يقفزون منها للاستيلاء على ما بقي من البلاد المجاورة، ولإخماد كلِّ حركةٍ إصلاحيةٍ، أو انتفاضةٍ جهاديةٍ تحرريةٍ .
وهنا علينا أن نعترف أننا بابتعادنا عن الله، وعن دينه، والعمل بتعاليمه، وإقامة حدوده، وإثارنا مصالحنَا الشخصية على مصالح الأُمة العامة، واختلاف كلمتنا، وإهمالنا إعداد العُدَّة المادية والروحية التي أمرنا الله بإعدادها، وتفرُّقنا شيعاً وأحزاباً كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون؛ كلُّ ذلك قد سهَّل(1/1348)
للأعداء تنفيذ مؤامراتهم، وتحقيق مكائدهم فسلبوا أرضنا، وانتهكوا حرمة مقدساتنا، وساموا أهلنا الخسف والاضطهاد وسوء العذاب .
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايَعتُم بالعِيْنَةِ، وأخذتُم أذنابَ البقر، ورضيتُم بالزَّرعِ، وتركتُم الجهاد، سلَّطَ الله عليكم ذُلاً لا يَنْزِعُهُ حتى تَرجِعوا إلى دينكم " أحمد وأبو داود( ) .
فنحن اليوم نخوضُ معركةً مصيريةً مع عدونا الغادرِ الماكرِ، وليس لنا من سبيل إلى التَّغلُّبِ عليهم إلا بالرجوع إلى الله، والاعتصام بحبله المتين، واتباع تعاليم الإسلام ومبادئه الرشيدة، التي كان التمسك بها عند المسلمين الأوائل، والعمل بموجبها سبباً في انتصارهم على أعدائهم، وامتدادَ فتوحاتهم في الشرق والغرب .
وهذه التعاليمُ واضحة جلية : " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " يوسف 107 .
فهي تدعوا إلى الإيمان الصادق بالله عز وجل، والاحتفاظ بالعقيدة الصحيحة، وإلى إعداد العُدَّة المادية والروحية الكافية لإرهاب الأعداء؛ كما تدعوا إلى الجهاد بالنفس والمال، والاتحاد والصبر والثبات في الميدان .
وإنَّه ممَّا يؤلمُ النفوسَ ويُدمي القلوبَ أن يَبقى عدوُ المسلمين محتلاً لبلادِهم سنوات وسنوات، ويجول فيها ويصول، ويتجبَّر ويعلوا ويتيه؛ وفي كلِّ يومٍ يظهر علينا بشيءٍ جديد؛ اعتداءات هنا وهناك، وإجراءات تعسفية بالآمنين من السكان، وقوانين ظالمة يُطرد بموجبها أصحاب الحق من بلادهم، وتصادر أموالهم وأراضيهم وممتلكاتهم، وتآمر على المسجد الأقصى المبارك تارة بإحراقه، وأخرى بإجراء الحفريات تحته وبجانبه من أجل انهياره وسقوطه لإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه بالإضافة إلى هدم العقارات الوقفية وإقامة العمارات السكنية لإسكان المهاجرين اليهود فيها لتغيير معالم بيت المقدس وتهويدها، وإزالة الصِّبغة العربية والإسلامية عنها؛ غير عابيء بالمسلمين، ولا مهتم بالعالم أجمع ! .
فاسترداد الأقصى المبارك، وتحرير الأراضي المحتلة لا يَتمُّ بالأقوال والاحتجاجات، ولا بالمسيرات والبرقيات، ولا بأي عُنصرٍ خارجٍ عن إطار الإرادة الإسلامية المخلصة وتعاليم الإسلام السَّامية التي لا ترضى لأصحابها سوى العزةِ والكرامة : " ولله العزةُ ولرسولِه وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " المنافقون 8
فالاحتجاج والمسيرات لا تُعيدُ حقاً، ولا تُرجعُ وطناً، ولا تُنقذُ مسجداً، ولا تدفعُ شراً وكلُّ من يُحاول الوصول إلى أهدافه بمثل هذه الأمور إنما يحاول عبثاً فلغةُ الاحتجاجات أصبحت في هذا الوقتِ العصيبِ وقتِ الحديدِ والنارِ - عقيمةً عديمةَ الجدوى !، فلا يَفِلُّ الحديدَ إلاَّ الحديدُ، ولا يُقابلُ القوةَ إلاَّ القوةُ، وليس للضعيفِ مكانٌ في هذه الحياة ! .(1/1349)
وإنه لمن أوجب الواجبات على المسلمين أن يَهُبوا هبةَ رجلٍ واحدٍ، وينفروا خِفافاً وثِقَالاً لنجدةِ الأقصى من أيدي إخوان القردة والخنازير .
فلا يحقُّ لمسلمٍ أن يَغمضَ له جِفنٌ، أو تنامَ له عينٌ والمسجد الأقصى المبارك في قبضة الأعداء وسيطرتهم .
والفرصة لا تزال سانحةً أمامنا فانتهزوها، فعلينا أن نملأ جوانبنا بالثقة بالله، وأن نُصمِّمَ العزم ونخلص في العمل، وأن نأخذ بالأسباب المجدية الموصلة إلى حقوقنا، وأن نجعل من أسباب هزيمتنا عناصرَ قوةٍ وشجاعةٍ، ومن أشلاءِ كارثتِنا مصدرَ بسالةٍ وإقدام.
وعلى المسلمين أن يعلموا : أنَّ هذه هي الأيامُ الخطيرةُ في تأريخهم؛ بل هذه هي الأوقاتُ الرهيبةُ التي تُمتحنُ فيها قوةُ إيماِنهم، وسلامةُ يقينِهم، وصدقُ عزيمتِهم، وثباتُهم على الحق والدفاع عنه حتى يُشرقَ الحقُّ بنوره، ويزهقَ الباطلُ أمامه ( ) . قال تعالى : " ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ الله وعدَه ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون " الروم 4-6 .
وبعد هذا؛ فقد جمعنا لك أخي المسلم حلولاً لرفع راية الجهاد نحو تحرير بيت المقدس من أيدي يهود، وهي حلولٌ قابلةٌ للأخذ والعطاء؛ بل أكثرها يحكمه الواقع !. لذا لن يكون الكلام عن الجهاد اليوم كلاماً ارتجالياً نظرياً تسعه الدفاتر، والخطب والمحاضرات كما بيَّنَّاه آنفاً كلاَّ؛ بل طرحاً فيه شيءٌ من الواقعية - إن شاء الله - ! .
فعند هذا؛ عذراً إليك أخي : إذا خانني اجتهادي، أو كذَّبتني آرائي؛ ولكن حسبي قول الله تعالى : " ... إنْ أُريدُ إلاَّ الإصلاحَ ما استطعتُ وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلتً وإليه أُنيب " هود 88، وقوله : " فاتقوا الله ما استطعتم ..." التغابن 16، وقوله : " لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها " البقرة 286 .
فطرحنا إذن للجهاد في أرض فلسطين، مجملٌ في طرائقَ، ومسالكٍ كثيرةٍ كما يلي :
ـ صدقُ النِّية، وقوَّةُ العزيمة، وجلاءُ الرغبة في جهادنا لليهود في أرض فلسطين .
نعم؛ لا شك أن أكثرَ المسلمين صادقون في رغبتهم في جهاد يهود، وإخراجهم من أرض فلسطين، ولا أبالغ يوم أقول : والله وبالله وتالله !؛ لو فُتح بابٌ إلى فلسطين لرأيت عجباً ما كان لك أن تَحلم به؛ فضلاً أن تراه أو تسمع به، وذلك يوم ترى المسلمين يركبُ بعضُهم بعضاً وهم يتدافعون على باب الجهاد كهولاً، وشباباً، وكباراً، وصغاراً؛ وكأني أتشنَّفُ صوتَ قائلهم : السكينةَ السكينةَ عبادَ الله !! فأرضُ فلسطين لا تسع لمليارِ من البشر !!.
إلاَّ أننا مع هذا التفاؤل الكبير ينبغي لنا ألاَّ ننسَ أمراً مهماً؛ أحسبه من الأهميَّة بمكان !، وإلاَّ ذهبت آمالُنا، وحلولُنا هباءً منثوراً أدراج الرياح كما يُراد لها من قبلُ ومن بعدُ !! .
وذلك كامنٌ في معرفةِ حقيقةٍ خطيرةٍ، وهي : أن قضايا الأمة الإسلامية لن تتغير أبداً، كما أنها ستبقى أمداً؛ إذا ما علَّقنا آمالنا، وحلولَنا يوماً من الأيام بأيدي وسياسة أكثر حكام المسلمين !! .(1/1350)
إن هذه الحقيقةَ ينبغي أن تكون نصب أعيننا، وقضيةً مسلَّمةً عندنا ! .
كما يجبُ علينا أن نعلم حقائقَ مهمةً، وإن سألتني عن بعض هذه الحقائقِ ؟!، أقول لك : إن العالم الإسلامي لا ينسى قضيةَ أفغانستان مع الشيوعيين، يوم انتظر المسلمون من دولةٍ إسلاميةٍ أن ترفع راية الجهاد، وأن تتقدَّم بجيوشها وعتادها لتحرِّر بلاد المسلمين من قبضة الشيوعيين !! .
وعندما طال الانتظار، ويأس أهل أفغانستان عند ذلك انتفضت حفائظ المسلمين هناك، وثار طلبة العلم، وقام المصلحون في إنقاذ بلادهم من طغيان، ووحشية النظام الشيوعي الكافر ... نعم؛ قاموا قومت الليث الكاسر، والتفَّ المسلمون حول طلبة العلم ليقوموا بواجبهم نحو بلادهم؛ ضاربين بتنديدات واستنكارات أكثر حكام المسلمين عُرض الحائط !، فكان منهم أن طهَّروا بلادَهم، ورفعوا راية الإسلام خفَّاقةً ترفرف فوق جثثِ العابثين ببلادهم ! . الله أكبر .
كما لا ننس ما صنعه أبطال المسلمين وليوث المجاهدين في أرض البوسنة والهرسك يوم أعلن العالم الغربي الكافر وقف القتال، ووضع الهدنة، وطرح السلام !!. كلُّ هذا لمَّا علم طلبة العلم والمجاهدون أن التنديدات والاستنكارات لن تفعل شيئاً !. لذا هبُّوا وحداناً وزرافات ممتثلين قول الشاعر :
قَومٌ إذا الشَّرُّ أبْدَى ناجِذَيْهِ لهمْ طَارُوا إليه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا
لا يَسْألُونَ أخاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهمْ في النَّائِباتِ عَلى ما قَالَ بُرْهَانا( )
وهل ينسى أحدٌ من المسلمين ما فعله رجال وأسود الشيشان يوم انتظروا أن ترفع راية الجهاد من بلاد المسلمين، أو تأتي الجيوش العربية لتنقذ مسلمي الشيشان !!، فلمَّا كان ما كان قام المجاهدون يدافعون عن أرضهم وبلادهم ورفع الظلم عن إخوانهم ... فكان لهم ما سجله التأريخ لهم، وما عَلِمَه العالَمُ الغربي أجمع عنهم، بأن هنالك رجالاً لا كالرجال، ونفوساً لا كالنفوس، وأبطالاً لا كالأبطال !! . إنهم مسلمون اشتروا الجنة بالحياة الدنيا !!، وباعوا أنفسهم من الله تعالى !! نعم : " ربحت البيعة ".
وليست أرتيريا عنا ببعيد يوم قام طلاب العلم بواجبهم نحو بلادهم ودينهم فرساناً وأبطالاً يجولون الصحاري، ويصعدون الجبال، ويخوضون البحار ... كلُّ هذا لعلمهم الصادق أن بلادهم لن تتخلص من أيدي النصارى والعلمانيين إلاَّ بدمائهم، وأرواحهم!، في حين أنهم قد ركلوا بأقدامهم ما يتشدق به غيرهم من أذناب الغرب !.
وهذه كشمير، فحدث عنها ولا حرج، يوم قامرت بقضيتها حكومةُ باكستان غير مرَّةٍ، وهذه الهندُ لم تزل تقتل منهم كيف تشاء، وتعبثُ بأرواحهم كما تشاء، والعالم الإسلامي بعدُ يستنكرُ ويندِّدُ !!، وغيرها كثيرٌ من بلاد المسلمين لا سيما جنوب الفلبين، وأندونيسية ...الخ .
ومحصَّلةُ كلامي هذا : أن نعلم أن قضية فلسطين متوقِّفةٌ على أبنائها من المسلمين، كالمجاهدين من العلماء، وطلبة العلم، والمصلحين الناصحين ... ! .(1/1351)
فلابد أن يقومَ أحدٌ من أبناء المسلمين هذه الأيام - خاصة - بحمل راية الجهاد، ويرفعها خفَّاقةً فوق رؤوس يهود في أرض فلسطين، أو غيرها من بلاد المسلمين . وعند ذلك سوف تلتفُّ جموع المسلمين بطريق أو آخر حوله، وسيبدأ عندئذٍ جهادُنا مع اليهود - إن شاء الله - .
كما أنَّني من هذا المكان أنادي كافة المسلمين قائلاً لهم :
" مَنَ َيأخُذُ السَّيفَ بحَقِّه " ؟!
لأجل هذا فإني أريد أن أُبرهن صدق تفاؤلنا اليوم مع يهود بموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود بني النظير !، لا سيما إذا علمنا أن قصَّة بني النظير في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مماثلةٌ في أبعادها، وأحوالها، وملابساتها بيهود اليوم في فلسطين، فما أشبه الليلة بالبارحة !، فاليهودُ يهود ولو هملجت بهم حميرُ أمريكة، أو طبَّلت لهم دولُ الكفر قاطبة ! .
كما مرَّ معنا أن يهود بني النظير قد نكثوا العهد، ونقضوا الوعد يوم أرادوا إلقاء الحجر على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند هذا قام رسول عليه الصلاة والسلام بمحاصرتهم بالكتائب، وقال : " إنكم لا تأمنون عندي إلاَّ بعهدٍ تُعاهِدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثمَّ غدا الغد على بني قُريظة بالخيل والكتائب - وترك بني النضير - ودعاهم إلى أن يُعاهِدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل إلاَّ الحلقة - السلاح -، فجاءت بنو النضير، واحتملوا ما أقلَّت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم، فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها( ) .
ويقول ابن هشام في " سيرته" :" ونزل في بني النظير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم الله به من نِقمته . وما سلَّط عليهم به رسولَه صلى الله عليه وسلم، وما عَمِلَ به فيهم، فقال تعالى : " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرُجوا، وظنُّوا أنهم مانِعتُهم حُصُونُهم من الله، فأتاهم الله من حيثُ لم يحتسبوا، وقذف في قلوبِهم الرُّعبَ يخرِّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين )، وذلك لهدمهم بيوتهم عن نُجُفِ أبوابهم إذا احتملوها . : " فاعتبروا يا أُولي الأبصار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء "، وكان لهم من الله نِقمة : " لعذَّبهم في الدنيا ) أي بالسيف : " ولهم في الآخرة عذاب النار " مع ذلك ( ) .
فإذا تدبرنا سورة الحشر وما حصل في هذه الغزوة نستطيع أن نقف مع بعض العبر، والمواعظِ التي تدفعنا إلى الاطمئنان بنصرنا وجهادنا مع يهود اليوم في فلسطين، فمن ذلك :
1ـ أنَّ يهودَ بني النظير أخذتهم العزة بالإثم يوم تحصنوا في بيوتهم وقلاعهم ظناً منهم أنها ستحميهم .
وهذا حاصل ليهود اليوم فيما بنوه وعمروه من جسورٍ، وحدودٍ !.
2ـ أنَّ يهودَ بني النظير أيضاً أن ما عندهم من العتاد والعدة ما سيكفيهم في مقاومة المسلمين، يوم علموا أن عندهم من السلاح والكراع والحافر ما يفوق ما عند المسلمين آنذاك !.(1/1352)
وهذا حاصل ليهود اليوم فيما عندهم من أسلحةٍ نووية وطيران جوي متكامل وغير ذلك من الأسلحة المتطورة !.
3ـ أنهم ازدادوا ثباتاً وقوةً يوم تحالف معهم بعض الأحلاف .
وهذا حاصل ليهود اليوم في تحالفها السَّافر مع أمريكة ودُول الغرب الكافر !.
أمَّا المسلمون آنذاك فحالهم مع بني النظير شبيهٌ بحالنا هذه الأيام بعض الشئ، وذلك في .
4ـ أن المسلمين ظنوا أنهم لن يقدروا على إخراج بني النظير من حصونهم؛ لعلمهم أنها حصونٌ قويةٌ، وعندهم من الشجاعة والقتال ما يحملهم على الدفاع عن بلادهم ... وعندهم من أدوات الحرب الكثير ما لم يكن يخفى على المسلمين ! .
وهذا شبيهٌ بحالنا مع اليهود، مع علمنا أنهم يملكون من القوى العسكرية ما لا يخفى علينا ! .
أمَّا إذا سألت عن الفوارق بين حالنا وحال المسلمين آنذاك فهي كثيرةٌ لا تحدُّ؛ لكن بحسبنا منها : الصدق مع الله تعالى في قتال اليهود، وهذا الفارق وحده كافٍ في بيان البون الشاسع بيننا وبين من سبقونا من الصادقين !.
وهذا يوم صَدَقَ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومن معه في قتال بني النظير، مع علمهم السابق أن بني النظير يملكون من العدة والعتاد الشئ الكثير كما أسلفنا؛ إلاَّ أنهم امتثلوا لأمر نبيهم، وصَدَقُوا مع الله تعالى، فكان حينئذٍ النَّصرُ حليفَهم، والعزَّةُ لهم . وذلك لمَّا علم الله تعالى منهم الصدق وامتثالهم للأمر مباشرة – نصرهم الله تعالى حين أرسل جنوداً لم يروها، جنوداً ليسوا من البشر ولا من الملائكة؛ بل جنوداً من السماء حين أنزل عليهم الرعبَ والخوفَ في قلوبهم، فما كان منهم إلاَّ أن ألقوا السلاح، وجعلوا مع هذا يخربون بيوتهم بأيديهم؛ وأيُّ حسرةٍ بعد هذا من حسرةٍ يوم يقوم الواحد بنقض بيته الذي طالما بناه وشيده ؟!.
إنها الانتصارات الإلهية، يوم تعجز القوى البشرية، وتنقطع السبل الكونية، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله، قال تعالى : " يا أيها الذين أمنوا إنْ تَنصروا الله ينصرْكم ويثبِّتْ أقدامَكم " محمد 7 .
فجديرٌ بنا أن نَصْدُقَ مع الله تعالى نياتِنا في قتالِ يهود فلسطين !، لأننا إذا صدقنا الله تعالى فسوف يتولَّى الله تعالى المسلمين حين يخذل يهود، ويقلب كيدهم عليهم، هذا إذا ما قاموا هم بتخريب ما عندهم من أسلحةٍ حربية !، وليس هذا على الله بعزيز، لكن هذا الأمر صائرٌ بأيدينا؛ عندما نَصْدُقُ مع الله تعالى .
الحَلُّ الثَّاني : إدخالُ السلاحِ لإخواننا المسلمين داخل فلسطين بطريقٍ أو آخر، وهذا الحلُّ ما أظنُّه من الصعوبة بمكان، هذا إذا علمنا أن الحدودَ كلَّها إسلامية، فخذ مثلاً من الغرب : البحر الأبيض المتوسط ومصر، ومن الشرق سورية والأردن، ومن الجنوب خليج العقبة، ومن الشمال لبنان، وأكثر هذه الحدود مكشوفة يستطيع الواحد المرور عبرها، لا سيما سيناء ! .(1/1353)
وقد تقول كيف هذا ؟. أقول لك : هل أهلُ تهريب المخدرات الذين يسعون في الأرض فساداً أحكم، وأعلم، وأوفق من المصلحين ؟! .
نعم؛ إذا صدقت العزيمة، فحينئذٍ تتحقق الأهداف سواء كانت خيراً أو شراً !.
الحَلُّ الثَّالثُ : تشجيع بعض الجماعات التي لها اهتمامٌ كبيرٌ في قضية فلسطين لا سيما جماعة "حماس" وغيرها، فهذه الجماعة لا شك أنها قد قضتْ مُعظمَ أفكارِها وطاقاتِها في تتبع قضية فلسطين، فكان عليها حينئذٍ أن تنزل في الميدان بقوةٍ لا سيما أن المسلمين هذه الأيام تغلي مراجلُهم حنقاً على يهود( ).
الحَلُّ الرَّابعُ : تشجيع العمليات الجهادية في نفوس المسلمين الذين في فلسطين( ) مع مراعاة المصالح والمفاسد، وذلك في تحقيق قاعدة " دَرْءُ المفاسدِ مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المصالحِ " .
الحَلُّ الخامِسُ : القنوت، وهو الدعاء على يهود ومن هاودهم، والنصارى ومن ناصرهم، وذلك بأن تتضافر جهود المسلمين، وتجتمع كلمتهم، وتتوحَّد دعوتهم على رفع أكفِّ الضراعة إلى الله تعالى؛ بحيث يلهج بالدعاء قرابة ( مليار ) مسلم سواءٌ في مساجدهم جماعةً، أو في صلواتهم فُرادى .
الحَلُّ السَّادسُ : المقاطعة الاقتصادية للمنتجات اليهودية، والأمريكية، والبريطانية بجميع أنواعها وأشكالها الصغير منها والكبير( ) .
وهذا الحلُّ أراه من أهم الحلول المهمة بعد الحل الأول دون منازع !؛ هذا إذا علمتَ أخي المسلم أن العالم الأوربي لا سيما أنَّ اليهود هم عبَّاد الدرهم والدينار !، لذا يعتبر الاقتصاد هو شريان الحياة لديهم، فهم قد يقبلون التنازل في كلِّ شئ سواءٌ في دينهم، أو عِرضهم، أو أرواحهم، أو عقولهم ... أمَّا المال فلا يقبلون فيه تنازلاً بأيِّ حالٍ كان !!.
فعند هذا لا أبالغ إذا قلتُ : أن مقاطعة المسلمين للمنتجات اليهودية والأمريكية سيكون له الأثر الكبير في كشف عورة يهود، وسقوط هيمنة أمريكة ! .
فكلُّ مسلمٍ مطالبٌ بنصرة إخوانه المسلمين، وبمجاهدة أعداء الدين لا سيما اليهود ومن عاونهم بقدر ما يملك من استطاعة .
وفي قصة ثمامة بن أُثال سيد بني حنيفة عبرة، يوم أخذ على نفسه ألاَّ يصل إلى كفار مكة حبة حنطة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنْ خَلِّ بَينَ قَوْمِي وبينَ مِيرَتِهم "( ) البخاري ومسلم .
فشعارنا حينئذٍ نحن المسلمين هذه الأيام في حرب المقاطعة، قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم : " ويلَ أُمِّه مِسْعَرُ حَرْبٍ لو كَان لَه أحَدٌ "
وهذا ما فهمه أبو بصيرٍ ـ رضي الله عنه ـ، يوم قالها له النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انفلت من المشركين لما أسلمه النبي صلى الله عليه وسلم لقاصدِ قريش، فأتى سيف البحر فانضم إليه جماعة،(1/1354)
فكانوا يُؤْذون قريشاً في تجارتهم، فرغبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤويهم إليه ليستريحوا منهم، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم( ) .
ونحن من خلال هذا نطالب كلَّ مسلمٍ أن يجاهد اليهود ومن عاونهم بقدر استطاعته لا سيما بـ "بطنه"!، وذلك بمقاطعة منتجاتهم .
ولا تنسَ أخي المسلم أن الله تعالى طلب من كلِّ مسلم أن يقاتل الكفار المحاربين بكلِّ ما يملك من عتاد وقوَّة . قال تعالى : " وجاهدوا في الله حقَّ جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، مِلَّه أبيكم إبراهيم ... " الآية الحج 78 . وقال : " وقاتلوا المشركين كافَّة كما يُقاتلُونكم كافَّة ... " التوبة 36، وقال : "فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ... " الآية البقرة 191، وقال : " ... فقاتلوا أئمةَ الكفرِ إنهم لا أيمانَ لهم لعلَّهم ينتهون " التوبة 12، وقال تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرهِبون به عدُوَّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون " الأنفال 60، وقال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تَخْشَون كسادها ومساكن ترْضَوْنها أحبَّ إليكم من الله ورسولِه، وجهادٍ في سبيله فتربَّصُوا حتى يأتيَ الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين " التوبة 24 .
فالجهاد إذاً لا يسقُط عن المسلم القادر بما يستطيع، ومنه كان الجهادُ المطلوبُ منك أخي المسلم مع اليهود اليوم مهماً جداً؛ كما لا تحسبه مقتصراً على القتال في ساحات المعركة؛ كلاًّ !؛ بل هو فوق هذا، فمنه جهاد البنان، وجهاد اللسان، وجهاد المال، كما أنه اليوم جهاد المقاطعة ! .
شُبْهةٌ، ورَدُّها :
ولا تقلْ أخي المسلم بعد هذا ماذا يا ترى الذي أُقاطعه من المنتجات اليهودية والأمريكية، وأنا واحدٌ لا أثَرَ لمقاطعتي في أشياء صغيرة كشراء قارورة " بيبسي" مثلاً، أو غيرها من الأشياء التي لا تفعلُ في ميزان المقاطعة شيئاً ؟! .
أقول أخي المسلم أنت بهذا قد فعلت أمراً عظيماً، وجهاداً كبيراً وذلك حين تعلم ما يلي :
1ـ أنك ساهمت في الجهاد الإسلامي ضد اليهود ومن عاونهم، وكسبتَ أجر الجهاد فلكأنك قد جاهدتَ، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله ليُدخِلُ بالسهم الواحدِ ثلاثةً الجنَّةَ : صانِعهُ، يحتسِبُ في صنعتِه الخيرَ والرَّامي به، والمُمِدَّ به ..." أحمد، وابن ماجه ( ) .
وقال صلى الله عليه وسلم :" جاهدوا المشركين بأموالِكم، وأنفسِكم، وألْسِنتِكم"( ) .
فأنت أخي المسلم عليك نفسَك وخاصةَ أهلِك، لذا عليك الجهاد قدر استطاعتك كما قال تعالى : " يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسِكم لا يضُرُّكم من ضَلَّ إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فيُنبِّئكم بما كنتم تعملون " المائدة 105. وقال تعالى : " يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها(1/1355)
الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون " التحريم 7 .
كما لا تنسَ أن جهنم التي استعاذ منها الأولون والآخرون من الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين !، يستطيع الواحد من المسلمين أن يتَّقيها بالقليل !، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فإن لم تجدوا فبِكلمةٍ طيبةٍ " متفق عليه( ) . فهذا الحديث دليلٌ على أنَّ شِقَّ التمرةِ الواحدةِ يمنع صاحبها النَّارَ !، فكيف إذَنْ من يتَّقيها بعشر تمرات قيمتها ذلكم " الريال " الذي يقاطع به قارورة "بيبسي" !.
2ـ أخي إنك بريالك هذا تُعينُ أعداءَ الدِّين على قتل إخوانك من المسلمين !، كما يقول تعال :" ... ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديدُ العقاب" المائدة 2.
3ـ لا تنظر أخي المسلم إلى ريالك بعين قاصرةٍ، وحكمٍ ضيقٍ؛ يوم تعلم أنَّ ريالَك سوف يَنْضَمُّ مع ريالِ غيرك من المسلمين وهكذا .
وعند حساباتنا التقريبية ستعلم أخي أنك مجاهدٌ كبيرٌ يوم شاركت المسلمين بمقاطعتك قارورة "بيبسي"، فمثلاً لو قدَّرنا أن خمسمائة مليون مسلم من المليار؛ سوف يقاطعون قارورة "بيبسي" !، فإذا حسبنا هذه الأموال خلال سنة سيكون العدد كبير جداً .
نوضحه بما يلي : ( 500000000 × 30 × 12 180000000000 ) ريال، أي : مائة وثمانون مليار ريال !! .
أخي هذه مقاطعةٌ بريالٍ واحدٍ لقارورة "بيبسي" فقط، فكيف بك إذا اجتهدت في مقاطعة الكثير من منتجات اليهود ومن عاونهم لا سيما الأمريكية منها ؟! .
بَشَاِئر : هناك بعض البشارات التي تُشير بأن المقاطعة الإسلامية للمنتجات اليهودية والأمريكية قد أتت أُكلها ونجحت : فقد نشرت بعض الصحف : أن المقاطعة العربية ألحقت باليهود خسارة ( 48 ) مليار منذ قامت المقاطعة ! .
كما نشرت جريدة " الحياة " ( 28/شعبان/1421هـ ) : أن خسائر شركات التكنولوجية اليهودية في الولايات المتحدة بلغت منذ بداية المقاطعة ( 20 ) مليار دولار ! . كما أكدت بعض المصادر أن بعض الشركات اليهودية والأمريكية قد انخفضت مبيعاتها في مصر إلى ( 80% ) !، - لله درُّك يا مصر - .
وقبل هذا؛ أحببنا نذكر فتوى مهمةً في وجوب مقاطعة منتجات اليهود وأمريكة وغيرهم ممَّن لهم يدٌ في مساندة اليهود :
وهي لفضيلة شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين حفظه الله :(1/1356)
نصُّ السؤال : لا يخفى عليكم ما يتعرض له إخواننا الفلسطينيين في الأرض المقدسة من قتل واضطهاد من قبل العدو الصهيوني، ولا شك أن اليهود لم يمتلكوا ما امتلكوا من سلاح وعدة إلا بموازرة من الدول الكبرى وعلى رأسها إمريكا، والمسلم حينما يرى ما يتعرض له إخواننا لا يجد سبيلاً لنصرة إخوانه وخذلان أعدائهم إلا بالدعاء للمسلمين بالنصر والتمكين، وعلى الأعداء بالذلة والهزيمة، ويرى بعض الغيورين أنه ينبغي لنصرة المسلمين أن تقاطع منتجات إسرائيل وأمريكا، فهل يؤجر المسلم إذا قاطع تلك المنتجات بنية العداء للكافرين وإضعاف اقتصادهم ؟ وما هو توجيهكم حفظكم الله .
الجواب : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ... وبعد :
يجب على المسلمين عموماً التعاون على البر والتقوى ومساعدة المسلمين في كل مكان بما يكفل لهم ظهورهم وتمكنهم في البلاد وإظهار شعائر الدين وعملهم بتعاليم الإسلام وتطبيقه للأحكام الدينية وإقامة الحدود والعمل بتعاليم الدين وبما يكون سبباً في نصرهم على القوم الكافرين من اليهود والنصارى، فيبذل جهده في جهاد أعداء الله بكل ما يستطيعه؛ فقد ورد في الحديث : " جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم " فيجب على المسلمين مساعدة المجاهدين بكل ما يستطيعونه من القدرة، وعليهم أيضاً أن يفعلوا كلَّ ما فيه إضعافٌ للكفار أعداء الدين، فلا يستعملونهم كعمال للأجرة كتَّاباً أو حُساباً أو مهندسين أو خُداماً بأي نوع من الخدمة التي فيها إقرار لهم وتمكين لهم بحيث يكتسحون أموال المؤمنين ويُعادون بها المسلمين، وهكذا أيضاً على المسلمين أن يُقاطعوا جميع الكفار بترك التعامل معهم وبترك شراء منتجاتهم سواء كانت نافعة كالسيارات والملابس وغيرها أو ضارة كالدخان بنيَّة العداء للكفار وإضعاف قوتهم وترك ترويج بضائعهم، ففي ذلك إضعاف لاقتصادهم مما يكون سبباً في ذُلهم وإهانتهم، والله أعلم . قاله وأملاه :
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
27/7/1421هـ
ويقول الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - : " فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبْيَنَ من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده " .
وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل - رحمه الله - قائلا : " إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، وإنما انظر إلى مواطئتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الرَّاوندي والمعرِّي عليهم لعائن الله ينظمون وينثرون كفرا ... وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت مصنفاتهم، وهذا يدل على برود الدين في القلب " .
فإذا تقرَّر ذلك أخي المسلم الكريم كان لنا أن نوقفك على بعض المنتجات اليهودية والأمريكية وغيرها من الدول التي تعين يهود !؛كي تستبنَ لك طريق المجرمين .(1/1357)
لا شكَّ أنَّ الشركات والمنتجات اليهودية والأمريكية كثيرةٌ جداً؛ لا يحصيها عادٌّ، ولا يسعُها كتابٌ؛ بل لا أبالغ لو قُلتُ أنَّ أحداً من الناس لو أراد أن يقيِّدَ كلَّ سلعةٍ يهودية، أو أمريكية لخرج بمجلَّدات ضخمة !، لأجل هذا وذاك؛ كان من المناسب أن نذكرَ ضابطاً يجمعُ لنا كلَّ سلعةٍ يهودية، أو أمريكية، اختصاراً للوقت، وحفظاً للبحث .
فأقول : إنَّ كلَّ سلعةٍ يهوديةٍ، أو أمريكيةٍ يجب مقاطعتها ، ويدلُّك على هذا ما يلي :
1ـ إذا كان مكتوبٌ عليها : " صُنعُ أمريكة "، أو : USA .
2ـ إذا كانت هذه السلعة مبدوءةٌ بمجموعة أرقام تأتي تحت شكل أعمدة، الرقمُ الأول منها يرمزُ إلى الدولة، فرقم أمريكة هو ( 0 )، ورقم بريطانية هو ( )، ورقم فرنسا هو (3)، وهكذا .
ـ قد يرد سؤال بأنه إذا لم أجد بديل للمنتج الأمريكي فما الحلُّ ؟.
الجواب : عليك حينئذٍ استخدامه في أضيق الحدود، مع السعي الدؤوب لإيجاد البديل، والتجربة اليابانية خير شاهد للعيان في هذا المجال، كما لنا أن نعْتَبِرَ أيضاً أنَّ المُنتجَ الذي نودُّ مقاطعته مُنتجاً قد انتهت صلاحيته؛ وَلْيَكُن ! .
الحَلُّ السَّابعُ : التبرعات المالية، وهذا لا شك أنه من الحلول المهمة؛ كيف لا؛ والله تعالى أمرنا بالإنفاق في سبيله في غير آية؛ بل قدَّمه تعالى على النفسِ في سبعِ مواضعَ من القرآن، وفي هذا دليلٌ على أهمية الإنفاق بالمال في سبيل الله تعالى .
فإذا كان الإنفاقُ في سبيل الله تعالى بهذه الدرجةِ الكبيرة من الأهمية؛ إلاَّ أنَّه أصبح هذه الأيام – للأسف – من الأمورِ التي تحتاجُ إلى تأملٍ، وتريُّثٍ !؛ كلُّ هذا إذا علمنا أن كثيراً من الذين يُنادون بجمع التبرعات جهاتٌ مشبوهةٌ ليسوا محلاً للأمانة، ولا أهلاً لهذا !، فكان الواجبُ علينا أن نَتمهَّل في هذه المسألة رويداً .
لذا؛ أرى من الواجب على المسلمين أن يجتهدوا في البحث عن الأيدي الأمينة التي تأخذ أموالهم، والجهاتِ المرضيةِ التي تجمع تبرعاِتهم؛ لأنَّ كثراً من هذه الجهاتِ تعتبرُ مؤسَّساتٌ سياسيةٌ انتهازيةٌ !؛ تَعرِفُ كيف تحرِّك مشاعرَ المسلمين في الأوقات العصيبة، وكيف تثيرُ جُودَهم وكرمَهم؛ حتى إذا حازت على تلكم الأموال قامت بوضعها في مصالحها السياسية !! .
الحَلُّ الثَّامنُ : وهذا الحلُّ يُعتبرُ الميزانُ الذي نَزِنُ به جميعَ الحلول التي مضت آنفا؛ لأن أغلبَ الحلولِ المذكورةِ لا يستطيع النَّفرُ القليلُ منَّا أن يقوموا بها، فكان لا بدَّ إذاً من مرجعيةٍ ذاتِ ثقةٍ نستطيع من خلالها أن ننطلقَ في توظيفِ هذه الحلول على أرض الواقع .
لذا؛ كان من الواجب على المسلمين هذه الأيام أن يقفوا قليلاً مع أنفسهم، وأن يُراجعوا حساباتِهم يوم زادت بينهم الشُّقَّة، وكَثُر الخلاف فيهم، وذهبت ريحُهم؛ حتى لم يَعُدْ لهم بين أعدائهم هيبةٌ، ولا(1/1358)
قوَّةٌ !، فمن هنا كان يجبُ علينا جميعاً أن تجتمع كلمتُنا، وأن تتوحَّد صفوفُنا، وأن يكن لنا مرجعيةٌ علميةٌ أمينةٌ .
في حين أننا لا نشكُّ طرفة عين؛ أنَّ جهوداً كبيرةً، وأموالاً كثيرةً قد بُذِلت وقُدِّمت على أرض الواقع من أبناء المسلمين؛ إلاَّ أنها لم تُؤتِ أُكُلُها كما ينبغي لها !؛ كلُّ هذا لمَّا غابت بيننا المرجعيةُ العلميةُ الأمينةُ !، هذا إذا علمنا أنَّ الواقعَ هذه الأيام يحتاج إلى ترتيبٍ، وتنظيرٍ، وتنظيمٍ للجهود والأفكار؛ حتى نكون بعدئذٍ قوةً رهيبةً نستطيع أن نقابلَ بها أعداءَنا الذين ما بلغوا منَّا هذا الشَّر والعداء إلاَّ يوم آمَنُوا بأهميَّةِ تنظيم الجهود، وتنصيبِ مرجعيةٍ لها هيبتُها بينهم ! .
فكان علينا بعد هذا أن نَلْتفَّ حول علمائنا؛ لا سيما الذين رُزقوا علماً في الشريعةِ، وفَهماً للواقع ممَّن شهد الواقع بصدقهم، وبلائهم في الدِّين، وأن لا نقطع أمراً دونهم؛ لا لشئ !؛ ولكن توحيداً للجهود، وتنظيماً للأدوار .
الحَلُّ التَّاسِعُ : وهو من أوسعها؛ بل إخالك تحسبه من تتمَّةِ الرسالةِ، وواجبها على قارئها، وذلك بفتح الباب على مِصْراعَيْه لكلِّ مسلمٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجتهدَ في طرحِ ووضعِ الحلولِ الإسلامية التي يراها مناسبةً للخروج بالأمة الإسلامية عامةً، وفلسطين خاصةً من هذه الأزمات، والنكبات، والضعف، والهوان، والجهل؛ كلُّ هذا إبراءً للذِّمةِ ومعذرةً إلى الله تعالى .
لأجل هذا كان من الواجب على من قرأ هذه الرسالة أن يُراعي ما يلي :
ـ أن يسعى حثيثاً في البحث عن الحلول الشرعية المناسبة التي يراها تخدم الأمة الإسلامية، والانصراف عن تلكم الاستنكارات السياسية، والتحليلات الإخبارية المُغْرِقَة .
ـ وبعد بحثه عن الحلول الشرعية التي يراها مُنَاسبةَ؛ يجب عليه بعدئذٍ أن يعرضها على أهلِ العلمِ لإبداء رأيهم فيها؛ حتى لا نَقَعَ في خطأٍ شرعي من حيثُ لا ندري؛ فعندها - لا سمح الله - ستحتاجُ حلولُنا إلى حلولٍ وهكذا ! .
ـ أن يُبلِّغ ما يراهُ حقاً من هذه الرسالة إلى من يراه من المسلمين؛ وأخص منهم العلماء، وطلبة العلم .
والحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عبدِه ورسولِه الأمين
الشيخ / ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
ــــــــــ
أسباب ضعف الأمة الإسلامية اليوم
يراد بالضعف هنا ضعف الإيمان وضعف التمسك بالدين والاقتناع من غالب المسلمين بمجرد الانتماء إلى الإسلام دون التحقيق بتعاليمه ولا شك أن لذلك أسباباً عديدية أشدها كثرة الدعاة إلى الفساد والمنكرات والمعاصي بالقول والفعل من أناس ثقلت عليهم الطاعات ومالت نفوسهم إلى الشهوات(1/1359)
المحرمة كالزنا وشرب الخمر وسماع الأغاني ونحو ذلك فقاموا بالدعوة إلى الاختلاط وزينوا للمرأة التبرج والسفور وجعلوا ذلك من حقها ودعوا إلى إعطائها الحرية والتصرف في نفسها فجعلوا لها أن تمكن من نفسها برضاها ولو غضب أبوها أو زوجها فلا حد عليها ولا على من زنا بها برضاها وعند الانهماك في هذه الشهوات ثقلت عليهم الصلوات وتخلفوا عن الجمع والجماعات ومنعوا الواجبات وتعاطوا المسكرات والمخدرات مما كان سبباً لضعف الإيمان في قلوبهم وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية كثرة الفتن والمغريات حيث توفرت أفلام الجنس وأصوات المغنين والفنانين والفنانات وصور النساء العاريات أو شبه العراة ولك ذلك سبب الانهماك في هذه المحرمات فضعف الإيمان في القلوب وهكذا من أسباب ضعف الأمة الإسلامية انفتاح الدنيا على أغلب الناس وانشغالهم بجمع الحطام الفاني والإعراض عن العلم والعمل والسعي وراء جمع المال وتنمية التجارات والمكاسب فكان سبباً لنسيان حق الله تعالى وتقديم الشهوات وما تتمناه النفس مع توفر الأسباب والتمكن من الحصول عليها، ومن الأسباب أيضاً ضعف الدعاة إلى الإسلام الحقيقي وقلة ما معهم من العلم الصحيح ورضاهم بأقل عمل مع مشاهدة كثرة الفساد وتمكن المعاصي وكثرة من يتعاطى على مرأى ومسمع من الجماهير ولا شك أن الأمة متى ضعف فيها جانب الإيمان والعمل الصالح وفسدت فطرها وانهمكت في الملاهي والشهوات وأعرضت عن الآخرة فإنها تضعف حسياً ويقوى الأعداء من كل جانب ويسيطرون على ما يليهم من بلاد المسلمين ولا يكون مع المسلمين قوة حسية ولا معنوية تقاوم قوة الأمم الكافرة وذلك
ما حصل في كثير من البلاد الإسلامية التي تسلط عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب وتسلط عليهم ولاة السوء وأذلوهم وقهروهم حتى يرجعوا عن دينهم والله المستعان.
الشيخ عبدالله بن جبرين
ــــــــــ
وما النصر إلا من عند الله
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله وعد بنصر أوليائه وبدحر وهزيمة أعدائه ، أحمده سبحانه وأشكره على فضله وجوده وعطائه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في صفاته ولا في أسمائه وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خصه الله من بين خلقه باصطفائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.أما بعد:فأوصيكم معاشر المؤمنين ونفسي أولاً بتقوى الله فهي مفتاح النصر والتمكين والمدد الرباني يقول تعالى:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}([1]) .(1/1360)
أمة العزة والإباء رمضان شهر انتصارات المسلمين في معاركهم الحاسمة وذلك على مدار التاريخ فغزوة بدر كانت في رمضان وفتح مكة كان في رمضان،وعين جالوت كانت في رمضان وغيرها من المعارك الحاسمة ونحن في هذا الشهر وفي ذكرى تلك المعارك الفاصلة العظيمة أو أن أقف بكم مع السبب الأساسي للنصر وليس أي نصر إنه نصر أمة الإسلام ، أيها الأحبة في الله إن معارك أمة الإسلام مع أعدائها تعتمد على جانبين جانب حسي وهو عدد الجنود وكثرة الآليات وحسن التخطيط لإدارة المعركة وهو جانب أعطاه الإسلام أهميته فأمر العظيم سبحانه أمة الإسلام أن تعد مثل هذا العتاد الحسي ولكنه سبحانه لم يطالبنا بأن نكون مثل الأعداء في القوة والعدد والعتاد حتى ندخل المعركة معهم وإنما أمرنا بان نبذل جهدنا في ذلك وما نستطيع فقال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}(2).
فلماذا يكون الإعداد على قدر الطاقة؟وإن كانت طاقتنا لا تمثل شيئاً أمام القوة الرهيبة التي يمتلكها الأعداء فما العمل؟الإجابة إن النصر لا يكون بالعوامل المادية فقط إلا إذا تساوى الطرفان فإذا تقابل كافر مع كافر ففي هذه الحالة تكن الغلبة للأكثر عدة وعتاداً و الأدق تنظيماً أما إذا تقابل المؤمن مع الكافر فإن الميزان يختلف،ولو كان لكثرة العدد والعتاد دور رئيس في النصر لانتصر المسلمون في يوم حنين حينما بلغوا من الكثرة حتى قال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة فماذا حدث؟استمعوا إلى ربكم يقص عليكم الخبر في آيات خلدها ليوم القيامة لتكون عبرة للمتعلقين بكثرة العدة والعتاد حيث قال سبحانه:{لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}(3).ولو كان للعدد والعتاد دور في النصر في معركة المؤمنين مع الكافرين لأباد جيش جالوت طالوت ومن معه ولو كان للعدد والعتاد دور في النصر في المعركة لأباد جيش قريش المسلمين في بدر فقد كان يفوقهم ثلاثة أضعاف العدد وقرابة عشرة أضعاف في العتاد،لو كان للعدد والعتاد دور في نصر المؤمنين على الكافرين لما قال الله:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}(5)ولما حدث للمسلمين ما حدث في أحد لم يرجع الله ذلك إلى قلة عددهم أو ضعف خططهم وإنما أعاد ما أصابهم إلى المعصية وحب الدنيا واستمعوا للعليم الخبيريخبرنا عن ذلك بقوله:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(4).هل يكون النصر إذاً من الملائكة التي تقاتل إلى جوار المؤمنين؟ ففي بدر نزل يقاتل إلى جوار المؤمنين جيش من الملائكة بقيادة جبريل فهل هم الذين حققوا النصر؟ استمعوا إلى القوي القدير ينبئنا عن ذلك بقوله :{ بَلَى إِنْ(1/1361)
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ()وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(6). نعم هذه هي القاعدة التي يجب على المؤمنين أن يدركوها وما النصر إلا من عند الله فلا العدد ولا العدة ولا حسن التخطيط والتنظيم تغني وتنصر إن لم ينصر الله،عرف تلك الحقيقة نبينا صلوات ربي وسلامه عليه فقام ليلة بدر يتضرع إلى من بيده النصر حتى سقط رداءه عن منكبه وأشفق عليه صاحبه فنزل النصر،وعرف تلك الحقيقة الملك المظفر قطز فأخذ يمرغ وجهه في التراب ذلاً لمن بيده النصر فأنزل الله عليه النصر وهزم التتار،لكن متى ينزل النصر ذكر الله لنا ذلك بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(7).نعم تنتصر أمة الإسلام يوم أن تطبق شريعة الله في حياتها وتطهر نفسها من منكرات فشت فيها عرف ذلك المعنى أقوام قاتلوا مع أنبيائهم فكان دعاءهم عند لقاء أعدائهم أن يغفر الله لهم ذنوبهم أخبرنا بذلك اللطيف الخبير حيث قال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ()وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(8).هذا المعنى فقهه الفاروق عمرy فقال ناصحاً لأحد قواده إياكم والذنوب فإنكم إن عصيتم الله كنتم أنتم وهم سواء وهم أكثر منكم عدداً وعده فيهزموكم،الله سبحانه أوصانا إذا لقينا العدو أن نثبت مهما كان عددنا وعتادنا وأن نتصل به سبحانه من خلال كثرة ذكره فقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(9).هذه الحقيقة وهذا البعد الإيماني في معركة أمة الإسلام الذي بهت في نفوس بعض المسلمين ونسيه البعض الآخر أدركه أعداؤنا وهم يحاولون أن يطمسوه في قلوب عباد الله المؤمنين من خلال استعراضهم لقنابلهم النووية وأساطيلهم البحرية وسفنهم الفضائية،وكم من المسلمين بُهروا بتلك القوة والأسلحة وظنوا بأن أعداءهم قوة لا تقهر وأنه لا غالب لهم مثل هذا الشعور سيطر على بني إسرائيل يوم أن دعاهم موسى لإخراج أعداء الله من الأرض المقدسة فقالوا :{قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}ولكن من نور الله قلوبهم بالإيمان وعرفوا أن النصر من عند الله كان لهم رأي آخر وموقف آخر:{قَالَ رَجُلَانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}(10).مثل هذا الشعور سيطر على جمع من جيش طالوت{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}ولكن الفئة التي عرفت أن النصر من عند الله كان جوابها:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}فعلى الأمة إن أرادت النصر والنجاة من ذلها وتمزقها وهوانها أن تراجع دينها وأن تقلع عن ذنوبها وأن تعرف أن النصر لا يكون(1/1362)
إلا من عند ربها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}(11).
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله وأقبلوا على ربكم واغتموا عشر شهركم فقد كان نبينا ونبيك صلوات ربي وسلامه عليه يخص هذه العشر بمزيد من الطاعات والقربات لرب الأرض والسموات كان صلوات ربي وسلامه عليه يعتزل أهله ويتفرغ للعبادة في المسجد أخبرت بذلك أمنا أم المؤمنين عَائِشَةَ yحيث قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ eإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ(12)،أتدرون لما كان يفعل ذلك كان يتحرى ليلة القدر التي قال الله عنها في محكم التنزيل:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}فما أعظمها من غنيمة باردة غفل عنها المحرومون عبادة ليلة واحدة خير من عبادة ما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً ، هذه الليلة قال فيها خير البرية صلوات ربي وسلامه عليه: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))(13).فما أحوجنا لأن يغفر لنا الكريم ذنباً واحداً وهاهو سبحانه بكرمه وإحسانه يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا بقيام ليلة واحدة،وقد أخفى الله عنا وقتها ليختبر جدية من تحراها فهي في ليالي العشر الأواخر من رمضان فمن قام جميع العشر يكون قد قام ليلة القدر ولا يشترط لنيل ثوابها معرفة أي ليلة هي،وهي في الأوتار من العشر الأواخر أكد وأكد ما تكون في ليلة سبع وعشرين،وأهل العلم جمعوا بين الأحاديث الواردة فيها بأنها متنقلة في ليالي العشر الأواخر من رمضان فاحرصوا رحمني الله وإياكم على تحريها وحثوا أولادكم ونساءكم على تحريها وبينوا لهم فضلها وما فيها وليحاول كل منا أن يطهر بيته من المنكرات ابتداء من
هذه العشر وأن يقبل بقلبه على الله عل الله أن يرحمه ويصلح حاله،واعلموا أن مما سن لكم في هذه العشر الاعتكاف في المساجد والتفرغ للطاعة،ومع الأسف هناك من يتفرغ في هذه العشر من الرجال والنساء للأسواق ونحوها.
--------------
([1]) آل عمران:125.(2)الأنفال:60.(3)التوبة:25.(4)آل عمران:152.(5)البقرة:245.(6)آل عمران:125،126.(7)محمد:7.(8)آل عمران:146،147.(9)الأنفال:45.(10)المائدة:22،23. (11)آل عمران:160.(12)البخاري،كتاب صلاة التراويح،ح1884.(13)البخاري،كتاب الصوم،ح1768.
ــــــــــ(1/1363)
الهزيمة النفسية
د. نهى قاطرجي
ضعفاء هم ، نعم ، عاجزون هم ، نعم ، مهزومون هم ، نعم ، كل كلمة من كلمات الإحساس بالخزي والضعف والمهانة تنطبق على بعض مسلمي اليوم العاجزين عن إيجاد أي انتماء لهم سواء من الناحية الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية .
إن الضبابية التي تسيطر على الرؤية عند هؤلاء تجعلهم عاجزين عن إيجاد هوية ينتمون لها ، فالإسلام الذي يحملون هويته في أوراقهم الثبوتية لا يجدون فيه ضالتهم وأمنهم لأنهم لاعتبارات تربوية جهلوا أحكامه وتعاليمه ، وثقافتهم ولغتهم التي رفع من شأنها القرآن الكريم لم تعد تفي بغرضهم لأنهم لا يستخدمونها في معاملاتهم اليومية ، أما هويتهم الاجتماعية فهي بدورها مبددة مع تبدد العادات والتقاليد ومع تفتت الأسرة وضياع كل من المرأة والرجل .
مسكين هذا المسلم الذي يعجز عن إيجاد هويته ، وهو الذي كان اعتقد قبل الآن أنه وجدها عندما ناصر من ظن فيه التجدد وقول الحق ونصرة المظلوم والدفاع عن الحريات فإذا هو أول ضحاياه ...
كل هذا الظلم يراه فاقد الهوية ولا يقتنع بحقيقة ما يرى ، فيلقي اللوم على المسلم الآخر الذي شوه صورته وجعل صديقه يغضب عليه ، لذا يقف في صف ذلك الصديق ضد أخيه المسلم عاكساً بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " ليصبح " أنصر عدوك ظالماً أو مظلوماً ، وكل هذا يقع تحت ستار حجج واهية منها :
1- الادعاء بحماية هذا الأخ من بطش عدو يملك القوة والعتاد بينما لا يملك هو إلا الإيمان الذي يمكن أن يلهب الحماس ولكنه قد يعجز عن مواجهة الأساطيل البرية والبحرية والجوية ، مع أن مثل هذا الشخص لو عاد إلى التاريخ لوجد أن الجيش الذي يحارب بمعنويات عالية وثقة بالنصر قادر " على أن ينتزع النصر من جيش يبلغ أضعاف حجمه في العدد والسلاح " ، وصدق الله تعالى بقوله : "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " .
2- الادعاء أن هذا الأخ عاجز عن إدراك كنه الإسلام وحقيقته ، واقف عند حدود الحروف والنصوص التي تبدلت أحكامها بتبدل الأزمان ، فلم تعد كلمات التعبئة التي كانت تستخدم سابقاً تفيد اليوم . من هنا لو ردد الأفغاني أو العراقي ألف مرة في اليوم " واإسلاماه " فلن يجيبه أحد لأن معتصم الأمس لم يعد موجوداً اليوم، فلقد استُبدل بالمصالح الاستراتيجية والأمنية والحدودية وغير ذلك من التعريفات التي تجعل حدود الأمن لا تتجاوز البلد الواحد .
وكل هذا لا يمنع المسلم ، في بعض البلدان ، من التعبير عن تضامنه مع أخيه والتعبير عن سخطه من ظلم الآخرين وبطشهم ، ولكن كل هذا بشرط عدم تجاوز الأمر الكلام والهتافات ، أما الأفعال(1/1364)
والمشاغبات ، بمفهوم المنهزمين ، فممنوعة بطرق عدة ، إما بإقفال الحدود أمام المجاهدين وإما عن طريق الاستخفاف بمفهوم الجهاد الذي تحاول بعض وسائل الإعلام تشبيه الداعين إليه بالأطفال الذين لا يملون من لعبة " بيت بيوت " ، تلك اللعبة التي تُشعر اللاعب بها بأنه بطل حقيقي فيتحمس ويصرخ ويندد، ولكنه بعد انتهاء الوقت المحدد للعبته يعود إلى واقعه وبيته وكأن شيئاً لم يكن .
أما المسكين الآخر فهو أيضاً ذلك المسلم الذي يعود إلى نفسه في لحظة من لحظات صفاء فطرته فيبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة عن دلائل النصر التي وعد بها الله عز وجل ، ويستغرب سبب تأخر هذا النصر مع وجود كل هذا الظلم والمعاناة التي تحيط بالمسلمين اليوم .
إن هذا المسكين قد نسي أو جهل أو أغفل أسباب النصر التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي ربطها الله عز وجل بالعمل الجاد وإخلاص النية وبذل النفس والمال وما إلى ذلك من الأعمال التي لا يمكن أن يتم من دونها نصر أو مدد ولو استغرق الظلم قروناً عدة .
لقد أدرك السلف الصالح أسباب النصر ودواعيه وعملوا منذ اللحظة الأولى التي أعلنوا فيها إسلامهم على التقيد بأسبابه ، ومع ذلك ابتلاهم الله عز وجل في بعض الأحيان بتأخير لحظة النصر حتى يمتحن صبرهم ويقينهم بالله عز وجل حتى إذا استيئسوا جاءهم النصر ، وكلنا يذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألست برسول الله ؟ قال : بلى . قال : أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ؟ قال : أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطى الدنيَّة في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيّعني " .
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم مع ما هم عليه من مرتبة رفيعة ، قد ابتُلوا بتأخير النصر فكيف بالمسلم اليوم الذي قد يصل به الجهل بدينه وأحكامه أن لا يرى في القرآن الكريم إلا آيات تتلى في مناسبات الموت والعزاء ، وأن لا يرى في أحكام القرآن وحدوده إلا تخلفاً وتقهقراً كان لهما اليد الطولى ، بزعمه ، فيما وصل إليه المسلمون من انهزام وذل .
وكذبوا والله ، فلا عز إلا بالإسلام ولا ذل إلا بالنفاق والرياء اللذان باتا من الشعارات التي يرفعها بعض المسلمين اليوم بدون حياء أو خجل ، مدعين خدمة الإسلام وتنقيته من الشوائب التي يحاول بثها بعض أبنائه الرجعيون ، بينما هم في الحقيقة يدعون إلى نسيان القرآن وهجره وترك أحكامه وإبطال حدوده .
ويستغربون ... ويستغربون ... لماذا يبطئ نصر الله عز وجل الذي وعد عباده به ؟
إن أسباب حجب الله سبحانه وتعالى النصر عن المسلمين اليوم متعددة وإن كانت لا تخرج عن مستويات ثلاث:
المستوى الأول تشريعي مرجعه الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى فيما أمر به ، والالتفاف حول حكم الدساتير والقوانين التي سنها اليهود وأتباعهم بطريقة تخدم مصالحهم وأهواءهم .(1/1365)
المستوى الثاني جماعي مرجعه التباغض والتحاسد والتنافر بين المسلمين مما مكّن الأعداء من اختراق صفوفهم والكيد لهم بأيدي إخوانهم الذين زينوا لهم الباطل وألبسوه ثوب الحق .
أما المستوى الأخير فهو فردي مرجعه تغلب حب الدنيا وحب الجاه على نفوس بعض المسلمين مما جعلهم يحوّرون مفهوم الجهاد والنصر بما يتناسب مع أهوائهم الشخصية والفردية .
وختاماً نقول ... مهزومون نحن ... نعم ... ولكن هزيمتنا ليست خارجية، بل إنها هزيمة داخلية ، وما لم نعد إلى أنفسنا ونصحح ما في ذواتنا ... فلن يأتي النصر ... لأن النصر لم ولن يكون بالقوة والعتاد ... وإنما هو بالعزم والجهاد .
ــــــــــ
أسباب الهزيمة وعوامل النصر: الطاعة والمعصية
المعصية من غير ستار يسترها عارية مفضوحة، نتنة الرائحة، خبيثة المنظر ينفر منها كل أحد ولا يستسيغها أحد، لكنها حين تحف بالشبهة وتأتي إليك وهي تنطق كلمات الله فإنها تتزين للناظرين، وهذا هو مكمن قوتها وسر قبولها ولذلك صدق من قال: كم يخيفني الشيطان حين يأتيني ذاكرا اسم الله.
العلم الصحيح القائم على الحق المطلق (الكتاب والسنة)، وترك التقليد، ونبذ التعصب، ومتابعة السنة، والاهتداء بمن ماتوا على خير، وترك التعلق بالغرائب والشذوذات، كل هذه محصنات للمسلم من أن تمرر عليه ألاعيب أهل الباطل من السدنة الكاذبين، وعلماء اللسان والسلطان، وخطباء الفتنة.
قال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم إن الله غفور رحيم}(آل عمران).
هذه الآية من سورة آل عمران في عرضها لذكر المصاب الجلل في غزوة أحد، وهذه الآية جامعة لكل معوقات النصر وموانع وقوعه: وإنما هي الذنوب.
{إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وبعيدا عما قاله أهل التفسير رحمهم الله تعالى حيث أكثروا فيها القول فإنما أقوالهم تعود إلى أمر واحد، وهو أن الشيطان لا يكون له على المسلم سبيل في تحقيق مراده منه حتى يعطي المسلم الحجة لها.
{استزلهم الشيطان}: أي أوقعهم في الزلل، والزلل هنا الهزيمة وعدم الثبات في المعركة، أي هو تعطيل النصر وعدم تحقيقه.
{ببعض ما كسبوا}: لقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن حقق فيهم الهزيمة بسبب أعمالهم وذنوبهم. فهكذا هي سنة الله الجارية في المسلمين، وهي سنة لا تتخلف ولا تتعطل وهي أن الهزائم لا تقع إلا بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه النصر وتقرب إليه الهزيمة.(1/1366)
وهنا لا بد من أمر نذكره وهو أن هذه المعاصي (أسباب الهزيمة) لا بد أن يكون لها من ارتباط سنني مع الهزيمة. أي أنها ليست مطلق المعاصي والذنوب لكنها المعاصي التي لها علاقة الحرب والقتال مثل: ترك التدريب، والإعراض عن الجماعة، وعصيان الأمير، وترك الأخذ بالسنة القدرية كعدم تعيين صاحب الأمر المفيد في بابه، وهذا لا يعني التقليل من شأن الذنوب الأخرى لكن تأثيرها على نتيجة المعركة تأثير غير مباشر بخلاف الذنوب التي لها علاقة مباشرة بعملية الجهاد والقتال، ولذلك من إبعاد النجعة حين نبحث عن أسباب الهزيمة في معركة من المعارك وموقع من المواقع أن نذهب فنعدد معصية عدم صلة الرحم، أو معصية أكل مال اليتيم كأسباب لحصول الهزيمة ونترك الأسباب المباشرة لحصول الهزيمة، فلا بد أن ننتبه إلى العلاقة القدرية بين السبب والمسبب، بين العمل والنتيجة، بين الذنب والهزيمة.
قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص).
في هذه الآية من سورة القصص يبين الله سبحانه وتعالى أسلوب الطاغوت في فرض ألوهيته على الخلق، وكيف حصل له العلو والإفساد، والعلو في القرآن مقارن للفساد: قال تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} (الإسراء).
قال تعالى: { علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) فأول أمر فعله لاستتباب حكمه وإفساده هو تفريق الناس فجعلهم شيعا.
واللفظ القرآني (جعل أهلها شيعا) فيه من الدلالات العميقة والتي تحتاج إلى كشف وبيان: فقول الله تعالى: (شيعا) دل على أن فرعون لم يستخدم كثيرا من القهر في تحزيبهم وتشتيتهم وتفرقهم، بل استخدم شيئا من المكر والدهاء في إثارة عوامل التفرق الكامنة في نفوسهم، فالتشيع هو التناصر على شيء، فشيعة الرجل أتباعه وأنصاره، هذا التشيع حصل بإثارة كوامن ذاتية في النفوس، فيها القبول الذاتي بحصول التشيع أي الأتباع والأنصار، فصارت كل فرقة تتبع وتناصر شيئا فيه الدافع الذاتي من المحسن الخارجي، وإلا فلو كان فقط القهر الخارجي هو الذي صنع الفرقة لما جاء لفظ (شيعا) ولجاء لفظ غيره. ولكنهم صاروا شيعا بعامل ذاتي فيه القبول الذاتي والرضوخ النفسي لهذا المحرض الخارجي وهو فساد فرعون.
وقد ذكر الله تعالى عقب هذا قوله: { يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} وهنا لم يذكر الله تعالى شأن الذين اتخذهم فرعون ليمارسوا القهر والذبح والسبي، فحيث اتخذ طائفة للاستضعاف فإنه ولا بد اتخذ طائفة أخرى للاستكبار والاستعلاء.
والحديث هنا في ذكر القرآن لقصة موسى عليه السلام مع بن إسرائيل، ولكن الحديث القرآني عنه في جعل الناس شيعا جاء عاما { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا}.(1/1367)
هكذا هي سنة الطاغوت في استتباب ملكه وتجذير شره في الناس: أن يكون الناس شيعا، التفرق والتنازع والتعدد.
والقران لا يذم التفرق على أساس الحق حيث يتعدد الناس إلى فرق بحسب أديانهم، بل هذا هو الواجب في دعوة الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس، فالمؤمنون ينزعون أنفسهم من بين الكافرين ويتفرقون عنهم ويتشيعون دونهم على حقهم، وأهل السنة ينزعون أنفسهم من بين أهل البدع ويتشيعون دونهم على السنة، وهذا من أسباب تحقيق الرفعة لهم والعزة لدينهم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الذنب الذي لا يجبر في هذه الدنيا فهو التشيع على الباطل، والتحزب على غير الحق، والتفرق على أسس الجاهلية، فهذا الذي يجعل لزلل الشيطان فيهم موضعا.
وكذلك من الذنب الذي تعجل به العقوبة وتحصل به الهزيمة الاجتماع على غير الحق، والالتفاف على الباطل.
ــــــــــ
متى... متى... متى... متى النصر؟
(المعنى..)
(الشروط..)
(نصر قريب..)
(الناصر الله وحده..)
ثم ماذا بعد؟.
--------------------------------------------------------------------------------
(المعنى..)
قال الله جل شأنه: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}..
إن تنصروا الله: شرط، جوابه: ينصركم..
فما نصر الله؟.. وما نصرنا؟..
متى ننصر الله؟، ومتى ينصرنا؟.
النصر في لغة العرب[معجم مقاييس اللغة 5/435] بمعنى: "إتيان الخير وإيتائه" فهو على وجهتين: الأول: إتيان الخير.. أي قصده وفعله، تقول العرب: نصرت بلد كذا، إذا أتيته، قال الشاعر:
إذا دخل الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامر
الثاني: إيتاء الخير.. أي إعطاؤه وبذله، فالنصر: العطاء، قال الشاعر:(1/1368)
إني وأسطار سطرن سطرا لقائل يا نصر نصرا نصرا
* (الشروط..)
وبهذا يتضح المعنى الشرعي للنصر، فنصرنا لله تعالى يكون بمعنى قصدنا وفعلنا للخير الذي أمر به؛ ونصره لنا يكون بمعنى إيتاءنا وإعطاءنا الخير الذي وعد به؛ ومعنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا دين الله تعالى بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتوحيده وحده بالطاعة والعبادة، لا شريك له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموالاة المؤمنين ونصرتهم، ومعاداة الكافرين، ينصركم على أعدائكم، فيظفركم بهم، ويشف صدوركم منهم، ويعليكم عليهم، ويعزكم ويذلهم، ويجعل العاقبة لكم، كما قال تعالى:
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
وقال:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}.
وقال: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
وقال: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
وقال: {والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}.
فقد اشترط لحصول النصرة من الله تعالى أمورا هي من نصر الله، هي كما وردت في الآيات:
1- توحيده بالعبادة والطاعة، في قوله: {يعبدونني لا يشركون بي شيئا}.
2- تصديقه، واليقين بما أخبر به وأمر، في قوله: {الذين آمنوا}.
3- القيام بطاعته، في قوله:{وعملوا الصالحات}.
4- المحافظة على الصلوات في أوقاتها، في جماعة، في قوله: {أقاموا الصلاة}.
5- أداء الزكاة تامة، وإخراجها في وقتها، في قوله:{آتوا الزكاة}.
6- القيام بالنصيحة، بالحث على الخير، والزجر عن الشر، في قوله:{أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}.
7- عدم الثقة في الكفار، والاطمئنان إليهم، ومودتهم، ونصرتهم، في قوله:{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}.
8- نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، بالاتباع والتأييد والذب عنه في قوله: {وعزروه ونصروه}.
9- نصرة المؤمنين، بالتأييد، والجوار، والمنع، والإكرام، في قوله:{آووا ونصروا}.
فهذه الشروط منها:(1/1369)
ما هو حق لله تعالى، من عبادته وحده، ومنع عبادة غيره، أيا كان، سواء كان قبرا وضريحا ومزارا، أو صنما ووثنا، أو شخصا ومخلوقا؛ وكذلك طاعته وحده، ومنع طاعة المخلوقين، مهما كانوا، مشايخ أو حكاما أو علماء، في معصية الله تعالى، واتخاذهم أربابا من دون الله تعالى؛ وكذلك معاداة وبغض من كفر به، ولم يؤمن برسله، والتبريء ممن تحقق عنادهم بعد البلاغ.
ومنها: ما هو حق بين المؤمنين، من صدقة الأغنياء على الفقراء، والنصيحة للمؤمنين، ومودتهم، ومحبتهم، ونصرتهم، ومنع الكافرين منهم.
فالطائفة التي تمتثل لهذه الشروط بالفهم والتطبيق هي الطائفة المنصورة، بهذا وعد الله تعالى حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}..
وقال:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}.
وقال: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
* (نصر قريب..)
هذا النصر ليس في الآخرة فحسب، بل هو متحقق في الدنيا، كما قال تعالى:
{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم مؤمنين * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}.
وقد نصر الله المؤمنين في بدر وفي مواطن كثيرة، كما قال تعالى:
{ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}.
وقال: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة}.
لكن هذا النصر مع كونه متحققا واقعا في الدنيا، إذا تحققت الشروط الآنفة، إلا أنه ينبغي التنبه إلى أنه قد يتأخر، ابتلاء وامتحانا، وصورة هذا الابتلاء: أن في تأخر النصر ترجح كفة العدو، وفي ترجح كفة العدو تظهر فائدتان جليلتان، لا غنى للمؤمنين عنهما، ولأجلهما يهون تأخر النصر:(1/1370)
الأولى:
تكفير السيئات وزيادة الأجر، حيث – والحالة هذه - يصب العذاب على المؤمنين بالأذى والقتل والتشريد والتخويف، وكل ذلك في ميزان أعمالهم، فما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كان له بها أجر، هذا في دنياه، فكيف إذا كان لأجل جهاده الكفار؟. قال الله سبحانه:
{ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ومخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعلمون}.
الثانية:
التمحيص، حيث يعلم المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب المفتون، ففي النصر السريع يكثر الأدعياء، المدعون أنهم مع المؤمنين، ليحصل لهم شيء من الغنيمة، وقد بينهم الله تعالى بقوله:
{الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم، وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}.
وقال تعالى عما أصاب المؤمنين في غزوة أحد:
{وما أصابكم يوم التقى الجمعان فإذن الله وليعلم المؤمنين}..
وقال: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
بل قد يبلغ التأخر غايته حتى ليصاب المؤمنون باليأس والضعف والوهن، وهذه حقيقة، فالنفس البشرية مهما علت في إيمانها، إلا أن الوهم قد يستحوذ عليها ويسوقها، لكن لا يستمر ذلك طويلا، فالإيمان وإن ضعف قليلا إلا إنه لا يتلاشى ولا يموت، بل ينتفض حيا، برحمة الله تعالى، حيث ينزل نصره في تلك الأوقات الحرجة، حينما يقع اليأس والخوف، مع الضراعة الحارة، كما في قوله تعالى:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
وكما في قوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.
وفي قوله: {إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}.(1/1371)
وإذا كان النصر متحققا، إذا تحققت شروط النصر، فينبغي اليقين بوقوع النصر، ولو تأخر إلى حين، وقد كان مما رد الله تعالى به على المرجفين والظانين أن الله لن ينصره دينه قوله تعالى:
{من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}،
"قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، {فليمدد بسبب إلى السماء}، أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، {ثم ليقطع}، أي ثم ليقطع النصر إن تهيأ له، {فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ}، وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وسلم، والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا، لم يصل إلى قطع النصر". تفسير القرطبي 12/21.
قال تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}.
* (الناصر الله وحده..)
إن النصر من الله وحده، والمؤمنون وحدهم هم الذين يعلمون كيف يكون منه وحده؟، إذ الأمر كله له، والعباد كلهم في حكمه وقهره، وهو يقول سبحانه:
{إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
وهو سبحانه ينهى عن الركون وطلب العون من الكافرين، إذ إنهم لا يقدرون على شيء، ثم هم لا ينصرون إلا بثمن مقابل، والثمن هو الدين، فنصرتهم خسارة كبيرة لا تعوض، يقول الله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين * بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}..
فالله هو خير الناصرين، وهو وحده النصير، وليس للمؤمنين نصير غيره، قال تعالى:
{ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير}..
وقال: {والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا}.
وما استنصر أحد بالله تعالى صادقا مخلصا إلا نصره الله تعالى وأعزه وآتاه الثواب كله، في الدنيا والآخرة، وسكن روعه، وأذهب خوفه، وأمنه من عدوه، كما قال جل شأنه:
{وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}.
وقال: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}.(1/1372)
وقال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}.
وما دعا نبي ربه أن ينصره على الظالمين إلا نصره، قال تعالى: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر}.
ثم ماذا بعد؟.
ليس بعد هذا الفضل من الله تعالى على المؤمنين إلا أن يقولوا:
{ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}..
فالحبل المتين، والصراط المستقيم، والبشارة الدائمة، والتسلية، والتخفيف، والأجر، وتكفير السيئات، والعزة والرفعة، كل ذلك من الخير الذي أنعم الله به على هذه الأمة المؤمنة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا خوف بعد هذا، ولا قلق، فالله معنا.
أبو سارة
ــــــــــ
عوامل النصر في المعارك الإسلامية
عبد الظاهر عبد الله علي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد....
فقد أرتضى الله لخلقه الإسلام دينا ليحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة وأرسل رسله هداة للبشر ليبلغوا عن الله دينه وكان أخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن الشياطين أبت إلا أن تضع العراقيل والشوك في طريق دعاة الإسلام, ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يظل الحق والباطل في صراع أبدي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويكتب الله الغلبة للحق ما تمسك به أصحابه ومن هنا فقد شرع الله الجهاد ليرد العدوان وليزيل الباطل وليحمي العقيدة وليحقق السلام الذي يقوم على العدل والتفاهم والصدق دون الأضرار بأحد أو الإساءة إليه ومن هنا رأينا الإسلام يسعى إلى السلام بقلب مفتوح والعقل الواعي والنية الصادقة ويرفض الاستسلام كما يرفض السلام الذي يقوم على الغدر أو الخيانة أو الخداع .(1/1373)
وتاريخ الجهاد الإسلامي على طول الزمان وعرضه مشرق ناصع يرد الحقوق لأصحابها ويزيل البغي والظلم اللذين ينشر هما البغاة والظالمون.
ولقد حققت المعارك الإسلامية نصراً مؤزرا على طول الزمان وعرضه ولم تر الدنيا في تاريخها معارك أشرف من معارك الإسلام ولا أسمى منها غاية, وقد خاضها رجال بواسل كانوا بحق جند الله أو كانوا رهبان الليل وفرسان النهار فملئوا الدنيا عدلا ونورا وحققوا ألوهية الله في الأرض كما هي محققة في السماء, ونشروا العدل والمساواة في ربوع الأرض فعم نور الله الكون وتحقق لهم قول ربهم, (( وأن جندنا لهم الغالبون )) وكان ذلك بعوامل النصر التي خطها لهم ربهم في قرآنه ونفذها رسول الله وخلفاؤه وأصحابه من بعده وصدق وعد الله لهم في ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ), فكانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فهل آن لهذه الأمة أن تعود إلى النبع الصافي الذي شرب منه آباؤها الأولون فعزوا وسادوا وكانوا إذا تكلموا أنصتت لهم الدنيا لتسمع مقالتهم ولتكن طوع أرادتهم ورهن إشارتهم, وما أحوجنا اليوم لأن نعيد أمجاد ماضينا لنمحو عارا علق بجباهنا في دنيا كشرت لنا عن أنيابها وقد شحذ أعداؤنا سكينا يريدون أن يجهزوا علينا بها وكان ذلك بما اكتسبت أيدينا عملا بقول الله تعالى ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
وتحقيقا لنبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم ( وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم ) .
وتحقيقا لنبؤة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ( وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا م غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم ).
فهيا يا أخوة الإسلام ننفض اليوم غبار النوم عنا لنحقق العزة التي أرادها الله لنا في قوله : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ومن نذكر بتلك الأسباب لعل قومنا يتقون ويعودون إلى الله فيحسنوا العمل ( فأن الذكرى تنفع المؤمنين ) ( أن الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون )
وهم حسبنا ونعم الوكيل
,لآن إلى عوامل النصر في المعارك الإسلامية فما هي يا ترى ؟ ,,
الشيخ
عبد الظاهر عبد الله علي
عوامل النصر في الإسلام :-(1/1374)
لقد خاض الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأجيال المسلمة من بعده معارك شتى بدءا من يوم الفرقان في بدر واستمرار في خيبر وفتح مكة وتبوك وامتداد إلى اليرموك والقادسية وفتح بيت المقدس ومصر وبلاد الأندلس إلى عين جالوت وحطين ونهاية بالعاشر من رمضان , وكان انتصارهم في كل معركة يرجع إلى عنصرين أثنين :-
العنصر الأول : -
هو تأييد الله تعالى لجنده بنصره المبين تحقيقا لقوله سبحانه وتعالى : ( وأن جندنا لهم الغالبون ) وتأكيدا للشرط والجواب في قوله عز وجل ( يا أيها الذين أمنوا أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ولانهم حققوا معية الله التي طلبها منهم فكان النصر الأكيد لهم كما جاء في قوله تعالى ( أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) وهذا عنصر لا يحتاج إلى تزكية للنفس فالله أعلم بخلقه ويعطي عباده حسبما يعلم من إيمانهم لأن ذلك وعده الذي تكرم به عنده قوله سبحانه ( أنا لننصر رسلنا والذين أمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) .
العنصر الثاني : -
هو الأسباب العسكرية البشرية , وهذه الأسباب العسكرية تتفرع إلى :
أ – عوامل معنوية .
ب – عوامل مادية .
ج – قيادة مؤمنة .
د – حرب عادلة .
هـ - وضع أجتماعي وسياسي وديني وأقتصادي وأخلاقي مترد لدى أعدائهم من المشركين ويهود وروم وفرس .
ولنأخذ في بيان العوامل العسكرية المعنوية وهي :-
1 – الإيمان وقوة العقيدة .
2 – عوامل مادية .
3 – ذكر الله .
4 – طاعة الله ورسوله .
5 – طاعة ولي الأمر أو القائد .
6 – الاتحاد وعدم التنازع والفرقة .
7 – الصبر وتحمل المشاق .
8 – النهي عن الغرور والبطر .
وأما بيان العوامل العسكرية المادية فهي :(1/1375)
1 – الأعداد الجيد والتدريب الدائم للجند .
2 – الأخذ بأحدث أساليب العصر مما يستحدث .
3 – تطوير وتصنيع الصناعات الثقيلة .
وأما القيادة المؤمنة الواعية فهي ترتكز على : -
1 – عدم الأستئثار بأي خير دون الجند .
2 – عدم التعالي على أحد منهم .
3 – التشاور معهم والأخذ برأيهم أن كان صوابا .
4 – حسن الاختيار لمن يكلف بالمهام .
5 – الاجتهاد في كشف خطة العدو ( الاستطلاع الجيد ).
6 – الحذر والحيطة وكتمان الخطة .
7 – سرعة الحركة والتعجيل في أتخاذ القرار .
ولنعد إلى تفصيل وشرح هذه الأسباب السابقة فنقول والله المستعان :
العوامل المعنوية :
1 – وأولها الإيمان وتربية العقيدة :
ونلاحظ أهمية هذا العنصر في أن رسول الله قد ظل بين قومه يبلغهم دعوته قرابة خمس عشرة سنة وكان أصحابه يلاقون الذل والهوان واشكال العذاب وصنوف البلاء من أعدائهم طوال بقائهم في مكة وكانوا يتحمسون لرد العدوان الواقع عليهم ولكن القرآن لم يأذن لهم في ذلك لأنها كانت فترة تربية على العقيدة وترسيخ لمبادئ الإيمان في نفوسهم حتى إذا ما تغلغل اليقين الذي لا يخالجه شك وأطمانت نفوسهم بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر أذن لهم بعد ذلك بالقتال ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير , الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها أسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) . 39 – 40 سورة الحج .
وحينما ثبت الإيمان في قلوبهم وثبتت العقيدة في صدورهم رأينا الإيمان يعمل عمله حينما ألتقوا بأعدائهم فما ثبتت للكفر قوة أمام هذا اليقين الراسخ بل صار الكفار أمامهم كالهباء المنثور ولقد كان الجيش الإسلامي لا يعتمد بكثرة العدد لانه لم ينظر إلى الكم بل كانت نظرته إلى اليقين المؤمنين به والداخلين فيه إذ كانوا يندفعون الى المعركة بدافع من إيمانهم سواء في ذلك الشباب والشيوخ والرجال والنساء لأنهم كانوا جند الله الذين تخاذلت أمامهم قوات اعدائهم فكانوا جميعاً مضرب المثل في القوة والشجاعة والاقدام وكان لواؤهم لا يسقط من يد حامله حتى يأخذه من خلفه وبهذه(1/1376)
العقيدة وبهذا الإيمان كان كل جندي مسلم معجزة من معجزات الحرب وبهذا كان رجل منهم يحسب بألف رجل .
فحينما طلب عمرو بن العاص المدد من عمر بن الخطاب أمده باربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل وكتب إلى عمرو ( إني أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل بمقام ألف الزبير بن عوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وخارجة بن حذافة ).
وأمثلة الإيمان وصمود أصحابه أمام خصومهم في المعارك الأسلامية أكثر من أن تحصى في يوم بدر وموقف أبنى عفراء اللذين كرا على أبا جهل فقتلاه بين معروف وموقف عمير بن الحمام وألقاءه التمرات التي في يده محفوظة بين العامة والخاصة .
وما فعله الإيمان بنسيبة بنت كعب أم عمارة وهي تدافع عن رسول الله ظاهر بين .
وموقف حنظله غسيل الملائكة يوم أحد وتركه عروسه حجلية بنت عبد الله بن أبي بن سلول ليلة زفافه ليقاتل في سبيل الله لهو أعظم دليل على انهم ما كانوا يعدلون بالإيمان شيء آخر .
لقد بذل المؤمنون كل شيء رخيصا في سبيل الإيمان الذي أعتنقوه , ففي بدر مثلاً ألتقى الآباء بالأبناء والأخوة بالأخوة والأهل بالأهل خالفت بينهم المبادئ ففصلت بينهم السيوف .
كان أبو بكر مع المسلمين وأبنه عبد الرحمن مع المشركين .
وكان عتبة بن ربيعة مع المشركين وأبنه حذيفة مع المسلمين .
ولما أستشار الرسول عمر في أسرى بدر فقال : أرى أن تمكنني من فلان قريب عمر فاضرب عنقه وتمكن .
وتمكن علياً من أخيه عقيل فضرب عنقه وتمكن الحمزة من فلان فضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين .
وفي غزوة بن المصطلق حاول رأس النفاق عبد الله بن ابي إثارة الفتنه وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن النار سوف تشب بين المهاجرين والأنصار أمر بالرحيل فورا حتى وصل الجيش إلى مشارف المدينة فطلب عبد الله بن عبد الله بن ابي من رسول الله أن يامره بقتل أبيه ولكن الرسول عفا عنه قائلا :
بل نفترق به ونحسن صحبته ما بقى معنا .
وقبيل الفتح ذهب ابى سفيان إلى أبنته ام حبيبة أم المؤمنين فطوت فراش رسول الله من تحته لانه نجس مشرك .
وموقف المؤمنين في المعارك التي خاضوها يغلب الأساطير وموقف الشهداء في أحد من أمثال مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وعمرو بن الجموح وموقف المؤمنين في غزوة الخندق حيثما رأوا تأليب قوى الكفر واليهودية والنفاق عليهم ولم يتبدل إيمانهم بل قالوا ما قصة القرآن علينا في قوله سبحانه ((1/1377)
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) .
لأكبر دليل على عقيدة المسلمين بسمو اهدافهم جعلتهم يستميتون في القتال دفاعا عن تلك الأهداف مما جعلهم اكثر الناس سعيا إلى الموت فيسبيل الله وكانوا يأملون أن يكونوا من أصحاب الجنة حيث يعيشون في ظل العناية الإلهية والرعاية الربانية فرحين بما آتاهم الله من فضله .
وهذا هو ما وصفهم به المقوقس ملك مصر في خطاب له وجهه إلى هرقل الروم فقال ( والله أنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا أن الرجل الواحد يعادل مائة رجل منا . ذلك لأنهم قوم الموت احب لهم من الحياة يقاتل الرجل منهم وهو مستبسل ويتمنى ان لا يرجع إلى أهله ولا إلى بلده ولا إلى داره ويرون أن لهم أجراً عظيماً فيمن قتلوا منا ويقولون أن قتلوا أدخلوا الجنة ونحن قوم نكرة الموت ونحب الحياة فكيف نستقيم نحن وهؤلاء وكيف صبرنا معهم ) هذا ما فعله الإيمان وفعلته العقيدة بقوم آمنوا بالله ورسوله وبذلوا كل شيء لله مقابل الجنة ورضوان الله ففازوا في العاجل والآجل ورضى الله عنهم ورضوا عنه ( أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون ) .
2 – الثبات في المعارك :
وكيف لا يثبت من علم أن الله أشترى من نفسه وماله بأن له الجنة ؟ بل كيف يفر من علم أن الشهيد يغفر له من أول دفعة من دمه ويرى مقعده في الجنة ويحاى حلية الإيمان ويزوج من حور العين ويجار من عذاب النار وبعد أن عد رسول الاسلام من السبع الموبقات الفرار يوم الزحف .
لقد قال علي كرم الله وجهه ( لا أدري من أي يومي من الموت أفر , يوم لا يقدر أم يوم يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا لأرهبه , ويوم يقدر لا يغني الحذر) .
أقول لها وقد طارت شعاعا *** من الاعداء ويحك أن تراعى
فأنك أن طلبت بقاء يوم *** على الأجل الذي لك لن تطاعى
فصبرا في مجال الموت صبرا *** فما نيل الخلود بمستطاع
وما ثوب البقاء بثوب عز *** فينغى عن اخي الخنع البراعى
سبيل الموت غاية كل حي *** فداعيه لأهل الارض داعى
ومن لم يمت يعمر فيهرم *** وتسلمه المنون إلى خداع
لقد كان الجند المسلمون يرون في الإقدام على الأستشهاد حياة وهذا هو قائلهم :
تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على العقاب تدمى كلو منا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وآخر يقول :
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي جنب كان في الله مصرعي(1/1378)
وذلك في ذات الاله وأن يشاء *** يبارك على أشلاء شلو ممزع
وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( والذي نفس محمد بيده لوددت أغزوا في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل ) .
3 – ذكر الله :-
ثم يأتي ذكر الله معينا على الثبات عند اللقاء فالمرء ينظر إلى المنايا تتخطف من حوله ويذكر زوجه ويذكر أولاده ويذكر الترقى والرفعة التي يؤمل فيها من دنياه ما الذي يجعله يتغلب على كل ذلك وينحيه جانبا بل ولا يلتفت إليه أنه ذكر الله الذي سوف يبدله زوجا خير من زوجه ودارا خيرا من داره بل وهو الذي سيعوضه خيرا من كل ما في الدنيا وزخرفها وهو الذي سيتولى أولاده من بعده فلا يضيع الله من وراءه لانه باع نفسه لله وتاجر مع الله وأذن فلن يضيعه الله فيهم ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لئلا الله تحشرون ) .
والله الذي دعاهم للشهادة فلبوا قد طمأنهم على اولادهم من بعدهم حين دعا إلى مراعاة اليتامى وحفظ حقوقهم وصيانة حياتهم واعدادهم أعدادا صالحا تماما كما يفعل الأب وأكثر ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ).
ثم هم بعد وقبل ذلك قد نبههم ربهم على مكانتهم أن قتلوا في سبيله حين قال ( قل ءأونبئكم بخير من ذلكم للذين أتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار ) وفي قوله ( والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ) وفي قوله سبحانه ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) .
5 – طاعة القيادة أو ولي الأمر : -
ويتبع طاعة الله ورسوله طاعة القائد أو ولي الأمر في غير معصية وتاريخ القيادة والتسليم لها في أوامرها لدى الجند المسلمين مضرب الأمثال والتي نتج عنها أنتصار أذهل أعدائهم فهم كما قال عليه الصلاة والسلام تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم فلقد كان القادة خير رعاة لجندهم وخير رفقاء بهم وكانوا يشاورون أهل الرأي عند الملمات والأزمات والشورى دستور الأسلام وقاعدة نظام الحكم في دولة الأسلام والقائد كان واحدا من الرعية غير أنه كان أكثرهم مسؤلية عند الله فلم يترفع على جنده ولم يستأثر عليهم بشيء , فكيف لا يطاع وكيف يعصى له أمر ؟.
6 – الاتحاد والنهي عن التنازع والفرقة : -
ولقد أعتبر الأسلام الفرد جزء لا ينفصم من كيان الأمة وعضوا موصولا بجسدها لا ينفك عنها كما أعتبر الأسلام إتلاف القلوب والمشاعر وأتحاد النيات والمناهج من أوضح تعاليم الاسلام ولا ريب أن توحيد الصفوف وأجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة ودوام دولتها ونجاح رسالتها ولئن(1/1379)
كانت كلمة التوحيد باب الاسلام فأن التوحيد الكلمة سر البقاء في الاسلام والابقاء عليه والضمان الاول للقاء الله بوجه مشرق .
وأن العمل الواحد ليختلف بحقيقته وصورته أختلافا كبيرا حين يؤديه الانسان وحيدا أو حين يؤدي مع الجماعة ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاحتراس والتحذير من عواقب الاختصام والفرقة والتنازع وكان في حله وترحاله يوصي بالتجمع والاتحاد في السلم وفي الحرب فعن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم ) وقد كان الناس في سفرهم إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والاودية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن تفرقكم هذا من الشيطان ) فلم ينزلوا بعد منزلا إلا أنضم بعضهم إلى بعض حتى قال ( لو بسط عليهم ثوب لعمهم ) , وذلك أثر أنتزاع المشاعر وأجتماع القلوب وتبادل الحب وأنسجام الصفوف .
أن الناس أن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل , وغذا لم توحدهم عبادة الرحمن مزقتهم عبادة الشيطان وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا ومن هنا كان التنازع والتخاصم من شيم وخصائص الجاهلية المظلمة ودين من لا إيمان له .
ان الشقاق يضعف الأمم القوية ويميت الامم الضعيفة ومن هنا فقد جعل الاسلام أول نصيحة لهم بعد أنتصارهم في غزوة بدر حينما أختلفوا على الغنائم - أن يوحدوا صفوفهم ويجمعوا أمرهم ( فأتقوا الله واصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله أن كنتم مؤمنين ) ثم أفهمهم أن الاتحاد في العمل هو الطريق النصر المحقق والقوة المرهوبة ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) .
وأعداء الامة يدبرون لها ويكيدون لها بمكر الليل والنهار وهم يحرصون على تفريق كلمتها وتشتيت شملها وتمزيق وحدتها وتاريخ الأمة يؤكد أن الأنتصار كان حليفا لها أيام أن كانت يدا واحدة ويبرهن أن عدوها لم ينل منها الا بعد أن فرق جمعها وأختلفت فيما بينها ولقد حذر القرآن المسلمين من عاقبة الفرقة والتنازع فقال ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءهم البينات واولئك لهم عذاب عظيم ) ويقول لهم ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) والامثلة على ذلك حية في جميع المعارك التي خاضها المسلمون ففي أحد حينما أختلفوا وتنازعوا وخالفوا امر الرسول لحقت بهم لطمة موجعة أفقدتهم سبعين .
ــــــــــ
وقفات مع آيات النصر في كتاب الله
( الحلقة الأولى )
إبراهيم بن محمد الهلالي(1/1380)
الحمد لله الذي وعد فصدق ، وأعطى فأغدق ، رحمته واسعة ، وفضائله يانعة ، وصلى الله على محمد بن عبد الله النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم ثم أما بعد :
إن الذي ينظر بعين البصيرة لأحوال المؤمنين في أصقاع المعمورة ، وما أصابهم من الذلة والمسكنة ، وضياع حقوقهم ، وتسلط أعدائهم ، واستباحة بيضتهم ، لترجع به الذاكرة إلى احوال المستضعفين من المؤمنين إبَّان إظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته في العهد المكي ، وأقصد بالمشابهة في الظروف المحيطة وإلا ففرق بين ما كان يعيشه أولئك الصحب الكرام رضي الله عنهم من الإيمان واليقين وصالح العمل مما خفف عنهم المصاب ، وثبتهم أمام الفتن ، بخلاف ما يحدث من المسلمين اليوم من تفريط في دينهم ، ونسيانٍ لتراثهم ، وتنكرٍ لهويتهم ، مما زاد في مصيبتهم وأحلهم دار البوار الدنيوية ونسأل الله العلي القدير أن يجيرنا والمسلمين من دار البوار الأخروية بمنِّه وكرمه إنه جوادٌ كريم.
ولذا كان علينا أن نستلهم العبرة ، ونكرر النظرة في أحوالهم وبم خاطبهم ربهم سبحانه ، ووجههم نبيهم صلى الله عليه وسلم لنعلم المخرج مما نحن فيه من التيه والتخبط ، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني بما ييسره الله من تدبرٍ لآيات النصر في كتاب الله سبحانه لتعلو الهمم ، وتنقشع سحب الهزيمة ، وننظر لواقعنا نظرة المتفائل الذي يعلم ليعمل ، ويترقى في سبل المعالي والعزة ، ولا يقعد به اليأس ليراوح يديه على خديه يندب حظه ، ويمقت عمره ونفسه ، فالكون سائر بمن فيه فمن تقدم معه وإلا خلفه وراءه مع الخالفين وسيقال لهم كما قيل لمن قبلهم ? إنكم رضيتم بالقعود أول مرةٍ فاقعدوا مع الخالفين ? [ التوبة 83] ، وسيكون حديثي بإذن الله عن آيات النصر حسب التسلسل في السور وليس في النزول ولا الحوادث ، إلا ما تدعو الضرورة لربطه من الآيات ببعضها والله نسأل أن يسدد القول والنية إنه جوادٌ كريم.
وهذه أولى الوقفات مع آية من سورة البقرة يقول فيها الله عز وجلَّ : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) ?
قال الإمام ابن كثير في تفسيره :
يقول تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } قبل أن تُبتَلُوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: { وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ } وهي: الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان: { الْبَأْسَاءُ } الفقر. وقال ابن عباس: { وَالضَّرَّاءُ } السّقَم.(1/1381)
{ وَزُلْزِلُوا } خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه". ثم قال: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".
وقال الله تعالى: { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 1 -3] .
وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا } [ الأحزاب 10و11 ]
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان الحرب بينكم؟ قال: سِجَالا يدال علينا ونُدَال عليه. قال: كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة.
وقوله: { مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: سنتهم. كما قال تعالى: { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ } [الزخرف: 8] .
وقوله: { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } أي: يستفتحون على أعدائهم، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } كما قال: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح: 5، 6].
وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلُها؛ ولهذا قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } وفي حديث أبي رَزين: "عَجب ربّك من قُنُوط عباده، وقُرْب غيثه فينظر إليهم قَنطين، فيظل يضحك، يعلم أنّ فرجهم قريب" الحديث.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي _ رحمه الله _ في تفسيره على هذه الآية كلاما نفيساً يجدر بنا تفهمه وتعقله أنقله بنصه أيضاً حيث يقول : (( يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها.(1/1382)
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ } أي: الفقر { وَالضَّرَّاءُ } أي: الأمراض في أبدانهم { وَزُلْزِلُوا } بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل، والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال { الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } .
فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع، قال تعالى: { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } )) اهـ
فهل يعي المسلمون اليوم الدرس ويصابروا عدوهم ويواجهوا يأسهم ، ويمتثلوا أمر الله لنبيه ومن معه بالصبر وانتظار أحسن العواقب حيث يقول عزَّ من قائلٍ عليماً وآمرٍ حكيماً ? تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ? [ هود 49].
ما أجملها من وقفات إيمانية مع آية واحدة من كتاب الله فحسب ، فكيف بمن تدبر كل آيات النصر في كتابه ، لامتلأ من الثقة ، وحُسْنَ الظنِّ بالله ما يجعله يسير إلى الله لا يلوي على شئ ، المكاره عنده أمارة صدق النية ، وعلامة صحة الطريق على حدِّ قول أحد السلف رحمة الله عليه حين قال (( لو لم نُبْتلى لشكَكْنا في الطريق )) وليس قصده تمني الفتنة ، ولا التعرض لها ولكن تسلية لنفسه عند نزول البلاء ، وحلول المصائب.
هذا ما تيسر إيراده ، ونتمنى من الله العلي القدير أن ييسر لنا الوقوف مع آية نصر ثانية في اللقاء القادم إن شاء الله والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
حرر في 14/11/1429هـ بمدينة الرياض
ــــــــــ ــــــــــ
متى نصر الله؟
د. وائل محي الدين الزرد(1/1383)
تتابع الأحداث المؤلمة على الأمة المسلمة اليوم, ويزداد المؤمنون الذين يسألون عن نصر الله متى هو؟ يستعجلون النصر القادم, ويستقدمون الفجر الآتي, وما ذاك إلا لكثرة الهموم والمصائب المتلاحقة على بلاد العرب والمسلمين, وقديماً قالوا:
ولو أنَّ الهُمومَ هَم وَاحد *** لاتقيتُهُ ولكنَّهُ, همٌّ وثَانٍ وثَالِثٌ
والإنسان بطبعه عجول كما وصفه الله تعالى في القرآن [خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ] وقال [وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولًا] وهذه العجلة كانت قد لازمت الصحابةَ رضي الله عنهم, فيوم أن كَثُرَ البلاء عليهم جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, يشكون إليه ما وقع بهم من ظلم وضيم على يد الظالمين في قريش, وكان صلى الله عليه وسلم مُتَوَسِّداً بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ, فقَالَ: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ, حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ, وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
ثم من هذا الذي لا يحب أن يرى نصر الله الآن, بل من هذا الذي لا يحب أن يرى الأمةَ عزيزة كريمة في كل مكان, ويرى آمالَ الأمة قد تحققت في كل شؤونها وعلى كل الأصعدة وفي كل ميدان, فكم من مظلوم مقهور ينتظر الفرج, وكم من امرأة تنتظر بفارغ الصبر أن يخرج إليها زوجُها من سجون الظلمة, وكم من مسلم يتوق لتحكيم شرع الله في الأرض لتسود المحبة والعدالة, وكم وكم فقائمة الظلم الممارس على أبناء الأمة كثيرة وكثيرة جداً.
ولكن:
الدنيا لا تسير وفق مراد البشر, بل إن الله تعالى جعل لكل شيء أجلاً مسمىً [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا] فالله لا يعجل بعجلة عباده, ولا يتم مراد العباد حتي يقضي الله أمراً كان مفعولاً, فيا من تظن أن النصر قد تأخر, اعلم أن الأدب مع الله يقتضي عدم استعجاله، وأن حكمة الله البالغة اقتضت أن يختبر أحبابه وأصفياءه, وأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خيرَ المؤمنين أصبح في النصر...
والسؤال عن اقتراب النصر ليس بدعاً من القول, فقد سأل ذلك من سبقنا من الصالحين والأولياء وذكر الله ذلك في القرآن الكريم [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ].
يعلق سيد قطب رحمه الله فيقول: إن سؤالهم مَتَى نَصْرُ اللهِ ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة, ولن تكون إلا محنة فوق الوصف, تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب, فتبعث منها ذلك السؤال المكروب مَتَى نَصْرُ اللهِ؟ وعندما تثبت القلوب المؤمنة على مثل هذه المحنة المزلزلة, عندئذ تتم كلمة الله, ويجيء النصر من الله تعالى أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ, إذاً هو مدخر لمن يستحقونه,(1/1384)
ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية, الذين يثبتون على البأساء والضراء, الذين يصمدون للزلزلة حتى يأتي أمر الله وهم كذلك...
نعم سيأتينا نصر الله تعالى ونحن ظَاهِرِونَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّنَا مَنْ خَذَلَنَا, ونحن عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِونَ, لَعَدُوِّنَا قَاهِرِونَ, لَا يَضُرُّنَا مَنْ خَالَفَنَا, إِلَّا مَا أَصَابَنَا مِنْ لَأْوَاءَ, حَتَّى يَأْتِيَنَا أَمْرُ اللَّهِ وَنَحْنُ كَذَلِكَ إن شاء الله تعالى, بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بإذن الله رب العالمين.
ثم إن الله تعالى يمد للظالم مداً [قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ], وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ " وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ".
وفي القرآن الكريم ما يثبت أن الله تعالى يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ [فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا], وفي الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم "التأني من الله, والعجلة من الشيطان" وقالوا: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.
ولقد ذكر الله لنا متى يأخذ الظلمة, وبَيَّنَ أنه لا يأتيهم أمر الله بالهلاك إلا بعد أخذِ الأرض لزخرفها وتزينها, وظنِّ أهلها أنهم قادرون عليها, ساعتها يأتيهم أمر الله الذي لا يُرَدُّ!
يقول الله تعالى [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ], على مثل هؤلاء القوم الذين لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة يأتي أمر الله ليلاً أو نهاراً.
هؤلاء الذين قالوا [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] وقال غيرهم [نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ] وقال أولهم [ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] وقال ثانيهم [أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ], وقال وزيره السيئ [إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي], هؤلاء جميعاً إنما أخذهم الله يوم تكبروا في الأرض [كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ], وظلمة اليوم لن يطول حسابهم, وستشهد الأيام عويلَهم بإذن الله تعالى.
وها هي آيات الله تتلى إلى يوم القيامة تصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل, قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله, وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ].
إنها صورة رهيبة, ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل, وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل, إنها ساعات حرجة, والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ في هذه اللحظة التي(1/1385)
يستحكم فيها الكرب, ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل, ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً [جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] هكذا يقول ويختم سيد قطب رحمه الله.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، والحمد لله رب العالمين
----------
إمام المسجد العمري الكبيرـ غزة
ــــــــــ
ولكنكم تستعجلون
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله المنزه عن الأشباه والأمثال والأضداد،الواحد الأحد الذي لم يتخذ صاحبة ولم يكن له أولاد، أحمده سبحانه وأشكره تكفل بنصر دينه وعباده مهما كثر عدد الأعداء ومهما ملكوا من العتاد،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم المعاد ، وأشهد أن نبينا وإمامنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى من بين العباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صلاة سرمدية إلى يوم التناد.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله تسعدوا في دنياكم وأخراكم يقول ربكم وخالقكم جل في علاه:{..وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا()وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}([1]).
معاشر المؤمنين بالله الواحد الأحد وقفنا في الجمعة الماضية مع قاعدة ربانية وضعها الله في آية من كتابه ، واليوم نعود إلى نفس ذلك الكتاب الخالد كتاب ربنا لنستلهم منه ونقتبس منه ونستنير بنوره فإن من لم يستنر بنور القرآن حكم على نفسه بالتخبط في الظلمات ، ومن لم يبن حياته على القرآن حكم على نفسه بالضيق والضنك ثم في الختام إلى النار والعياذ بالله ، واليوم أيها الأحبة في الله أود أن أقف مع صفة بين لنا ربنا وخالقنا وموجدنا من العدم أنها من طبيعة ابن آدم فقال سبحانه : {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}(2). ويقول جل جلاله : {..وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا}(3). وعجلة الإنسان لها تطبيقات عدة ولكني اليوم أريد أن أربط بين عجلة الإنسان والأحداث المؤلمة التي تعيشها أمة الإسلام في هذه الأيام ؛ حيث قد يلقي الشيطان في نفوس البعض شبهة عظيمة يقول لهم فيها ألم يعدكم ربكم بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض فأين هذا الوعد لم يتحقق ؟ ما بال الأمة تعيش هذه الحال من الذل والهوان ؟ هذه الشبهة الخطيرة مدخل لتشكيك العبد في كل وعود الله ، فهي تشككه في وعد الله بالجنة للمؤمنين الطائعين ، وفي وعده بالنار للمجرمين المعاندين ، وفي وعده بالحشر يوم القيامة وغيرها من وعود الله العظيمة، وإن لم يحصل له شك فيها فهو على الأقل يضعف تأثير تلك الوعود في نفسه ، فنقول لمن عرضت له هذه(1/1386)
الشبهة إن إيمانك بوعد الله يجب أن لا يتزحزح قيد أنمله لأن الله قد قال في محكم التنزيل :{..وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا}(4). وقال سبحانه : {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(5). وقال جل جلاله وتقدست أسماؤه :{ إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}(6). ويقول :{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ}(7).والآيات في هذا كثيرة ، لكن هل قال العليم الخبير الحكيم بأن النصر سيأتي بعد يوم أو يومين أو عام أو عامين أو قرن أو قرنين؟ لا . ولكن متى ما أخذت الأمة بأسباب النصر واقتضت حكمته سبحانه وبحمده أن ينزل ا لنصر نزل ، وما يتأخر النصر إلا لعيوب بنا وذنوب منا ثم لحكمة يريدها الله. ألم تسمعوا إلى قصة نوح عليه السلام مع قومه كم صبر على أذيتهم وعلى تكذيبهم وعلى صدهم ؛ صبر على ذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً، وقد استعجل قوم نوح عليه السلام عذابهم :{ قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ}(8).فأجابهم نوح عليه السلام إجابة الواثق بوعد ربه : {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}(8). فصدقه الله وعده وجاءه النصر وانتقم الله من القوم الكافرين بأن أغرقهم ونجى الله نوحاً ومن معه من المؤمنين : {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}(9). فرعون كم عاش من السنوات يبطش ببني إسرائيل يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، كم من السنوات أمضى يضطهد موسى ومن معه استكبر وعاث في الأرض فساداً لأنه لم يصدق بوعد الله أن إليه مرجعه : {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}(10) حتى جاءت تلك الساعة الحاسمة وتدخلت القدرة الإلهية وتحقق وعد الله بالنصر فأغرق الله فرعون وجنوده ونجى موسى والقوم المؤمنين:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}(10). نعم هكذا هي سنة الله فإن النصر للمؤمنين وهلاك القوم الكافرين لا يأتي على ما يشتهيه المرء منا وإنما يأتي وفقاً لتدبير
الله ولحكمة الله ولأمر الله فهذه عاد كذبوا وبطشوا وتحدوا واغتروا بقوتهم فمتى هلكوا يوم أن جاء أمر الله:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}(11). وهؤلاء ثمود كذبوا نبيهم صالحاً فصبر عليهم حتى جاء النصر بتدبير الله وبأمر الله:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ()وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}(11).وهؤلاء قوم لوط آذوا نبيهم وسنوا في البشرية فاحشة هي من أقذر الفواحش فصبر عليهم حتى جاء الفرج من الله وجاء النصر من الله وهلكوا بأمر الله : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ()مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}(11).وهذا شعيب مع قومه آذوه وكذبوه وهموا أن يرجموه بالحجارة فصبر حتى جاء النصر من الله وجاء الانتقام من الله :{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ(1/1387)
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ()كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}(11). وهاهو رب العالمين يوجه الحبيب المصطفى ويوجه الأمة من بعده لنفس المعنى :{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}(12). فكان هذا دأب رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم
الثقة بوعد الله بالنصر ففي صحيح البخاري عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ))(13). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(14).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، أحمده سبحانه وأشكره على ما أنعم من فضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وصحبه . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من أسباب الذل والهوان والخذلان وتخلف النصر على الأعداء الذنوب والمعاصي وقد نبه على هذا المعنى من بيده ملكوت السموات والأرض بقوله:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(19).وسار على نفس النهج القرآني الفاروق الملهم رضي الله عنه يوم أن أوصى قائداً لجنده وهو متوجهاً للقاء الأعداء فقال له:إياك والذنوب فإنكم إن عصيتم الله كنتم أنتم وهم سواء وهم أكثر منكم عدداً وعده فيهزموكم نعم أيها الأحبة في الله إن مفتاح النصر على الأعداء في أيدينا وفي مقدورنا ألا وهو تحسين الصلة بالمالك لهذا الكون المدبر له باتباع أوامره واجتناب نواهيه والثقة بوعده، وبإعداد من العدة ما نستطيعه ، فإذا حققنا ذلك حق لنا أن ننتظر تحقيق وعد الله لنا بالنصر،وقد بين ربنا جلت قدرته أنه لا يكون النصر من قبل أي قوة في الأرض ولا في السماء عداه بقوله:{إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}(15). ولكنه بين سبحانه أيضاً أن النصر لا ينزل على أمة لاهية غافلة وإنما له متطلباته وشروطه فقال سبحانه :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ(1/1388)
أَقْدَامَكُمْ} (16). وقال جل جلاله{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(18)الحج:40.ولينظر كل امرئ منا في نفسه وبيته وولده وأهله
وليتفكر هل هو من أسباب نصر الأمة باستقامته على الدين أم لا قدر الله من أسباب خذلانها بسبب غفلته وبعده عن ربه .
--------------------
([1])الطلاق:2،3.(2)الأنبياء:37.(3)الإسراء:11.(4)النساء:122.(5)يونس:55.(6)الإسراء:108.(7)الروم:6.(8)هود:32،33.(9)الفرقان:37. (10)القصص:39،40. (11)هود58،66،67،82،83،94،95.(12)الأحقاف:35.(13)البخاري،المناقب،ح(3343).(14)النور:55.(15)آل عمران:160.(17)محمد:7.(18)الحج:40.(19)آل عمران:165.
ــــــــــ
لايغُرَّنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد
ناصر بن يحيى الحنيني
الحمدلله العزيز الحميد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، الحمد لله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله مقدر الأقدار، ومسبب الأسباب، ومكور الليل على النهار ، الحمد لله الذي لا يخلف وعده ، ولا يهزم جنده ،الحكيم العزيز ، والصلاة والسلام على النبي الكريم ، والرسول العظيم ، خير من صبر وظفر ، ومن تمكن وحلم وغفر ، وعلى آله الأبرار ،لصابرين على الأذى ما تعاقب الليل والنهار،وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم تشخص فيه الأبصار أما بعد :
أيها المؤمنون : إن اشتداد المحن ، وتوالي الفتن ، في آخر الزمن ، تُحزن القلب ، وتُدمع العين ، وتذوب النفس لما يحدث حسرات ، فيا لعظم المصاب ، وقلة الحيلة والجواب ، أرواح تزهق ، وأعراض تنتهك ، ودين يشكك ، وكافر يمكَّن ، فالحمد لله على كل حال فاللهم ألهمنا الصبر على أقدارك ، واليقين بوعدك ولقاءك .
أيها المؤمنون : من تأمل في النور المبين بين أيدينا ، ذلكم القرآن العظيم ، خرج منه بأعظم العبر والدروس، وخاصة حين تظهر الأيام وجهها العبوس ، ويصطلي المؤمنون بحر الموت ويذوقون منه الكؤوس ، المؤمن عنده الدليل المرشد ،والهادي المُسْعِد، فيرجع إليه معظماً مصدقاً ،ومؤمناً موقناً ، فيطمئنَّ قلبه ، وينشرحَ صدره ،ويحمدَ ربَّه لعظيم النعمة التي بين يديه .
ولنا وقفة مع آية من كتاب ربنا تُزيل الغمة ،وتكشفُ الكربة عن الأمة ، ألا وهي قول الله عزوجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( لايغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)، ولها مثيلاتها في كتاب الله عزوجل وجل ،قال سبحانه : ( فلا يغررك تقلبهم في البلاد(1/1389)
) ، وقال أيضاً : (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ )،ومن هذه الوقفات مع هذه الآيات الكريمات:
الوقفة الأولى : في الآية تسليةٌ للمؤمنين ؛حين يشتد بهم الأذى، وتطول المعاناة ، تسليةٌ للقلوب المكلومة ، والنفوسِ الجريحةِ المحزونة ، تسليةٌ وأي تسلية .
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي عند تفسيره لهذه الآية : "وهذه الآية المقصود منها التسليةُ عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمِهم فيها ، وتقلبِهم في البلاد ، بأنواع التجارات والمكاسب واللذات ، وأنواعِ العزِّ والغلبةِ في بعض الأوقات ، فإن هذا كلَّه متاعٌ قليلٌ ليس له ثبوتٌ ولا بقاء ، بل يتمتعون به قليلاً ، ويعذبون عليه طويلاً هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر ، وقد رأيتَ ما تؤول إليه "أ.هـ
الوقفة الثانية : في الآية إزالةٌ للشكوك والتشكيك التي تصدر من الشيطان وجندِه، إزالةٌ لما قد يَحِيكُ في قلوب المؤمنين ، وهم يعانون الشظفَ والحرمان ، ويعانون الأذى والقهر والطغيان ، ويعانون المطاردةَ والجهادَ في وضح النهار وأمامَ العيان ، وكلُّها مشقاتٌ وأهوال ، بينما أصحابُ الباطلِ يَنْعمون ويستمتعون بظاهر من الحياة الدنيا ،وما كتب عليه الزوال، بل يحيك هذا الخاطر وذلكم الهاجس في قلوب الجماهير الغافلة ،وهي ترى ما يؤلِمُها من تسلط الأعداء ،بل يحيك في قلوب الكفرة المعتدين الظالمين فيزيدهم غياً وظلماً وطعياناً وإفساداً، وهنا..وهنا تأتي اللمسة الحانية ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )، فيا لله ما أعظمها من لمسة لامست القلوب المجروحة والنفوس المتألمة فهدأت القلوب بعد انزعاجها ، واطمأنت النفوس بعد غليانها ، تسلية بأن ما عندَ الكفار من متاع، هو قليلٌ زائل غير ثابت وماعند الله خير للأبرار، من الجنات والنعيم المقيم، والعزِّ والتمكين إن عاجلا أو آجلا ، ولا يدخل مؤمنٌ الشكَّ في أن ما عند الله خير وأبقى .
أيها المؤمنون: يا من تقرأون كتابَ ربكم ،يامن امتلاءت قلوبُكم بحبِّ الله وتعظيمِه والإيمانِ واليقينِ بوعده ، اعلموا أن من صفات المؤمنين الإيمانَ بالغيب، واليقينَ والتصديق بوعد الله ووعيده وأنه حق، فالمنافقون قالوا يوم الأحزاب (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)، والمؤمنون لما رأوا جموعَ الكفر وهيلمانه قالوا: (هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً)،المؤمنون أهلُ الحق ،والكافرون أهل الباطل، فاثبت أيها المؤمن على إيمانك ولا تضيعَ شيئاً من أجرك بكلمة تقولها وقت حزنٍ و غضب أو همٍّ ونصب ولتصبر وتتجلد وقل بخشوع وخضوع (إنا لله وإنا إليه راجعون ) ،قل (أمنت بالله وبوعد الله ) ،و(استعذ بالله من الشيطان الرجيم ).
الوقفة الثالثة : فيه توجيه للمؤمنين الصادقين بالتأني وتركِ العجلة ، وعدمِ التسرُّعِ في الحكم على الحال من واقعةٍ واحدة في زمنٍ محدود فالأيامُ دول، والدنيا لم تنتهي، والأقدارُ تُخَبِّأُ الكثير، وسنةُ الله(1/1390)
لو أخذ بها المؤمنون لوجدوا أن الأمور في صالِحِهم ، والميزانَ رجح بكفتِهم ، فأين نحن من غزوة أحد لما هزم المسلمون؟، وقتل بين يدي رسوله سبعون من أصحابه، هل ترك الجهاد؟، هل ترك الدين والعبادة؟، بل صبر وصابر وأخذ العبرة وجاءت بعدها غزوات حتى فتح الله على يديه، ومكنه من أعدائه وشانئيه، وإن لنا في التاريخ لعبرة فبغداد وما أدراك ما بغداد؟ مركزُ خلافة المسلمين ، ومنطلقُ جيوش المجاهدين ،ما ذا حصل لها سنة ستمائة وست وخمسين؟ لقد سقطت الخلافة الإسلامية وقتل أكثرَ من مليونِ مسلم ، وتحول نهرُ دجلةَ إلى اللون الأزرق ؛لكثرة ما ألقي فيه من كتب العلم ، وتحول ماؤه إلى اللون الأحمر لكثرة ما أريق من دماء المسلمين ، وتعفنت الجثث ،وانتشر الوباء وانتهكت أعراض النساء فهل انتهت الدنيا؟هل أفل نجم المسلمين؟ هل انقطعت انتصاراتهم ؟ بعدها بسنوات قليلةكانت الغلبة والتمكين للمؤمنين وهزم التتار شر هزيمة وطردوا من بلاد المسلمين فلا تنظروا إلى يومِكم ولكن استشرفوا المستقبل وتفاءلوا ،وهذه القدس السليبة وما أدراك ما القدس؟ ماذا حصل للمسلمين يوم أن استولى عليها النصارى في نهاية القرن الخامس وظلت تحت حكمهم أكثر من تسعين سنة ما يقارب مائة سنة وبعدها رجعت عزيزة بأيدي المؤمنين وأذل الله النصارى على يد القائد المجاهد صلاحِ الدين الأيوبي، فيا أيها المؤمنون أبشروا وأملوا فوالله أني لأرى بصيصَ النور في هذه الظلمة الحالكة، و عسى الله أن يأتيَ بالفتح أو أمر من عنده .
الوقفة الرابعة : فيه توجيه للمؤمنين أن يعبدوا الله ويجاهدوا ويبذلوا كل غال ونفيس في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وإعلاء كلمة الله ولا ينتظروا شيئاً من الدنيا حتى النصر والتمكين على العدو قد لايحصل لهم حتى تصفوا نياتهم وتصل إلى درجات عالية من الإخلاص والصدق والتجرد وهنا يأتي النصر ، (قال عبدالله بن رواحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة -ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه على الهجرة إليهم قال له : اشترط لربك ونفسك ما شئت ، فقال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : (الجنة) ، قالوا ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ) ، نعم الجنة فقط ولا شيء من حطام الدنيا ، لم يقل جزاؤكم النصرُ والتمكين وإقامةُ الدولة المسلمة ،ولكن ربَّاهم على الإخلاصِ والتجردِ في أبهى وأعلى وأجلى صوره حتى من الأمور الدنيوية التي فيها مصالح شرعية ،فلما صفت النفوس وخلصت قامت دولتهم ،ومكن الله لهم وثبتهم عند لقاء عدوهم.
الوقفة الخامسة : في الآية إشارة إلى قرب النصر (ألا إن نصر الله قريب ) ، فعندما تتدبر قوله ( لايغرنك ) أي لا تخدع ببهرجة كلامه ونصرهم الزائف المزيف فهو تقلب وليس بثابت ولا حقيقي ،و لكن العجلةَ سمةٌ من سمات البشر فجاءت الآيات لتعالج قلوب المؤمنين حتى يكونوا أكثرَ أناةً، وأعمقَ نظرة للأحداث ، وأن طريقَ النصر طويل، وليس بهذه السهولة، طريقٌ فيه أشلاء ودماء(1/1391)
،ولابد من معرفة هذه الحقيقة ، فبقدر التضحية وعظمِها يكون النصر، ولو كان النصرُ تمراً يؤكل لأعطيه أفضلُ الخلق وأحبُّهم إلى الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
الوقفة السادسة : أن ما قدمه المؤمنون من أعمال صالحة، وجهادٍ وبذل، ودعاء صادق ،فلن يذهب سدى ، والله لايضيع أجر من أحسن عملاً فقد قال سبحانه عقب هذه الآية (والله عنده حسن الثواب) فقد لا تحصِّل نصرا ولا عزا في الدنيا ،ولكن يُدَّخر لك أجرا ورفعةً ومنزلةً في جنة عرضها السموات والأرض .والدعاء له ثلاث مراتب فقد يمن الله عليك وتحوز أعلاها (فأدناها وأقلَّها أن يحقق الله لك ما تتطلبه ، وأوسطَها أن يدفع الله عنك من البلاء ماهو أعظم ، وأعلاها أن يدخرَه لك أجراً عنده في الآخرة ) فأنت لن تعدو هذه الخيرات والفضائل تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
الوقفة السابعة والأخيرة : في آخر الآيات يذكرنا الله بجامعِ الخير كله، وبقاعدةِ النصر التي لا تغيب ولا تتخلف ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).فالصبرُ على شهوات النفس وحظوظها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من طول الطريق وكثرة الأعباء ، الصبرُ على شهوات الناس ونقصهم وجهلهم وسوءِ تصورِهم ، وضيقِ أفقِهم ، وانحرافِ طباعهم ، وغرورِهم ، واستعجالِهم ،الصبر على انتفاخة الباطل ، ووقاحةِ الطغيان ، وانتفاشِ الشر ، وغلبةِ الشهوات ، وتصعيرِ الخدود، والغرور والخيلاء ، الصبرُ على قلةِ الناصر، وضعفِ اليقين، وطولِ الطريق، ووساوسِ الشيطان في ساعات الكرب والضيق ، الصبرُ على مرارةِ الجهاد لهذا كله ، الصبرُ بعد ذلك كلِّه على ضبطِ النفس في ساعة القدرة والانتصار، واستقبالِ الرخاء في تواضع وشكر ، والبقاءِ في الضراء على صلة بالله مع الصبر، ورد الأمر كله إليه في طمأنينة وخشوع.
وقوله (وصابروا) المصابرة : أي الاستمرار على الصبرِ وعدمِ الانقطاع ،فلا بد من مقابلةِ صبرِ العدو وجَلَدِهِ وتجلُّدِهِ بصبرٍ أقوى وأدوم ، فإذا كان الباطل يُصِرُّ ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشدَّ إصراراً وأعظمَ صبراً .
(واتقوا الله لعلكم تفلحون): فالتقوى تصاحب هذا كلَّه ، فهي الحارس اليقظ في الضمير ، يحرسه أن يضعف ، يحرسه أن يعتدي ، يحرسه أن يحيد عن الطريق ، ولا يدرك الحاجة إلى التقوى -ذلكم الحارس اليقظ- إلا من يعاني مشاقَّ هذا الطريق ، ويعالجُ الانفعالات المتناقضة والمتكاثرة مع تكاثر الأحداث وتكاثر الأعداء وتكاثر المغريات في كل لحظة وفي كل حركة.فاللهم ارزقنا الصبر واليقين ، والثبات على الإيمان والدين .
ــــــــــ
ألا إن نصر الله قريب
د.ناصر بن يحيى الحنيني(1/1392)
honini48@islamway.net
الحمد لله القائل : (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز)، الحمد لله الذي صدق وعده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، والصلاة والسلام على الذي بعث للناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله : مع كثرة المحن ، واشتداد الفتن ، قد يتسلل اليأس إلى بعض القلوب ، وقد يدخل الشك بعض النفوس بنصر الله وتمكينه لأولياءه ، وهذه الظنون والشكوك تفعل فعلها في القلوب التي لم تهتد بنور الوحي حق الاهتداء ، أو قل لم تتدبر كتابَ ربها حق التدبر ، كتابُ الله الذي فيه البشارةُ بالنصر والتمكين لعباد الله المؤمنين ولا نشك ولا نرتاب لحظةً واحدة في ذلك ، ولعلي أذكر نفسي وإياكم ببعض الآيات البينات التي أكدت وصرحت بما نعتقده وندين الله به والتي يجب على كل مسلم الإيمان بها فمن هذه الآيات :
قول ربنا جل وعلا : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) غافر [51]، ويقول سبحانه : (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) آل عمران[160، ويقول المولى جل شأنه:( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج [40]، ويقول سبحانه : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) ، ويقول جل وعلا: (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب ) الصف[13]،وقال سبحانه لنبيه الكريم : (وينصرك الله نصر عزيزاً) الفتح [3]، ويقول سبحانه مسلياً أنبياءه وأولياءه : (فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) الأنعام [34]، وقال سبحانه عن الحال التي قد تصل بالأنبياء من الشدة والبلاء : ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) يوسف [110]،ويقول سبحانه : (والله يؤيد بنصره من يشاء ) آل عمران[13]،ويقول سبحانه عن الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عن أذهاننا : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون،وإن جندنا لهم الغالبون ) الصافات[171-173]
ومن خلال هذه الآيات وما تقرره من حقائق ثابته ومعلومات مسلمة لا شك فيها ولا ريب أرسل بهذه الرسائل علها أن تجد في قلوب وعقول من أرسلت لهم مكاناً :
الرسالة الأولى : إلى عموم الأمة المسلمة : لاتيأسوا يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وأبشروا وأملوا فإنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، واعلموا أن هذه هي سنة الله لن تمكن الأمة حتى تبتلى وتمحص وحتى يُعلمَ الصادق من الكاذب والمؤمنُ من المنافق ، ولا يغيبن عن أذهانكم طرفة عين ما ذكر من آيات بأن هذه الأمة منصورة فلا تجزعوا لفترة قد تمر بالأمة عصيبة ولكن هي من مقدمات النصر فلا نصر بدون ابتلاء ، ولو وجد النصر بدون الابتلاء لكان أحق الناس به أحبُّ الخلق إلى الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم .(1/1393)
الرسالة الثانية : إليكم ياشباب الأمة يامن تعقد الأمة أملَها بعد الله عليكم فأنتم عدة المستقبل ، وأنتم الشوكة التي في حلوق الأعداء ، وإننا والله لنفرح بالأعداد الكثيرة في شرق الأرض وغربها من عودة الشباب إلى الإسلام الصحيح والتمسك بالعقيدة ومحبة العلم وتسارعهم للجهاد في سبيل الله ، ونقول إن هذه من بشائر النصر للأمة فإذا كان شبابها شباب علم ودعوة وجهاد فبمثل هؤلاء يحصل النصر ، إننا لما نرى صغار المسلمين وهم في حلق القرآن وفي حلق العلم ، نفرح ونقول هذا هو جيل النصر ، نفرح لما نرى صغار المسلمين وكبارهم وهم يتكلمون بكلمات تنم عن التربية التي سوف ينشأون عليها فنراهم يرددون البغض للأعداء ومحبة الصالحين والعلماء والمجاهدين فنقول هذا والله الذي نريد ، ولكن رسالتي ليس إلى هؤلاء فالذين ذكرت أقول لهم ثبتكم الله وزادكم هدىً وتقوى ولكن رسالتي إلى فئة من شباب الأمة تقف حائرةً متخبطةً فيها خير كثير ولكن يغلبهم الشيطان في بعض الأحيان وفي أحيان كثيرة تغلبهم الدنيا وزهرتُها أقول لهولاء (إن تنصروا الله ينصركم ) ياشباب الإسلام كيف ننصر ونحن لمن ننصر الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ياشباب الإسلام كيف ننصر وفينا من يقلد الأعداء في قصة أوفي ِلبسة أو يعيش بعيداً عن دينه وربه ، فلكم مني هذه الرسالة اقبلوا على ربكم وانصروا دينكم وسوف تعيشون عيش العزة والرفعة ولا يعرف قدرها إلا من جربها وتاب إلى الله وأقبل على دين الله .
الرسالة الثالثة : إليكم أيها الدعاة يا طلبة العلم يامن تبذلون من أوقاتكم وأموالكم وجهدكم نسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم ، لا تستعجلوا النصر وعليكم بالصبر فهو طريق الأنبياء ، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء في صحيح البخاري (عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)
تأملوا وتدبروا ( ولكنكم تستعجلون ) اعلموا أن الطريق طويل وفيه تضحيات بالمال والنفس والأهل ، يا دعاة الحق يا طلاب العلم ، لا تستعجلوا قطف الثمرة فتهدموا ما بنيتم ، فبعضكم تحالف مع الباطل وأهلِه وتنازل عن بعض أصول دينه طمعاً في النصر والتمكين ونسي أو غفل أن النصر بيد الله ومن عند الله وليس من عند أعداءه ، نسي بعض الدعاة أن الدين لن ينصر إلا إذا تجردنا من كل حظوظ الدنيا ، وهذا ربنا جل وعلا يحذرنا من هذا الطريق ويقول ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) ، ويقول لنبيه الكريم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا(1/1394)
نصيراً)الإسراء [74-75]،وتأمل في الآياتين كيف ربط النصر بعدم الركون إلى الذين ظلموا ثبتنا الله وإياكم على الحق والدين حتى نلقاه ، والشق الآخر من الدعاة وطلبة العلم الذي استعجل الثمرة والمواجهة مع أعداء الله في معركة غير متكافئة وفي مواطن ليست أرضاً للجهاد فقاتل في بلاد تقام فيها الصلاة ويدعى فيها إلى الله ودين الله ظاهر ، منزعه طيب وهدفه سام نبيل ، ولكنكم قوم تستعجلون ، ولايفهم من هذا أننا لا نعتقد الجهاد ولكن نقول به الجهاد له ميادينه وأماكنه ورجاله وليس في كل مكان وهو ماضٍ إلى يوم القيامة وسيأتي مزيد بسط لهذا في كلام قادم ، رسالتي إلى كل داعية وطالب علم وكل من يريد نصر الأمة لن تنصر الأمة وهي بعيدة عن منهج الله كيف تنصر وفيها المعاصي ظاهرة والشرك والبدع تضرب أطنابها في أقطار المسلمين كيف تنصر وقد اشترط ربنا لتمكينها ونصرها أن تعبده ولا تشرك به شيئاً، كيف تنصر وهي تحكم بغير شرع الله بالقوانين الوضعية فالصبر الصبر وعليكم بمجاهدة الباطل الذي استغل نفوذه وسلطانه في وسائل الإعلام فغرب المسلمين ويحاول أن يفسد عليهم دينهم وأخلاقهم فقابلوا الحرب الفكرية بمثلها
وانشروا دين الله واكشفوا زيف دعاويهم واعلنوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يعلم الناس ويتعلموا ويتربوا على معرفة المنكر وبغضه وبغض أهله ومحبة المعروف ومحبة أهله ، واستمروا في تربية الأمة وأجيالها حتى يخرج على أيديكم جيلَ النصر المنشود ولا تستعجلوا الثمرة فإن النصر يلوح في الأفق فلا تأخروا مسيرة الإصلاح بعجلة لاتخدم أهدافكم وإياكم والجبن والخور والخوف فالجبان لا ينصر مظلوماً ولا يرفع راية لدعوة ولا لعلم ، والعدوا لا يخاف إلا من المؤمنين الشجعان الأبطال الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم .
الرسالة الرابعة : إلى المتفرجين الذين يرون المعركة بين الحق والباطل بين الإسلام والكفر عبرميادين شتى دينيةً و عسكرية وثقافية وسياسية أين موقعكم من هذه المعركة؟ ، يامن جعلت اهتمامك وشغلك الشاغل تسلية نفسك والتنقل في البراري والوديان تتنسم عبير الأشجار وعلى ضفاف الأنهار ، يامن ذهب وقته في التفرج والنظر في الأحداث والتسمع في المجالس لما يكيده الأعداء ،ثم تقلب طرفك وتنظر في نفسك وتقول هذا ليس لي ولست بكفء للدعوة والجهاد ونصر دين الإسلام ، وتعلم حق العلم أنك في ذلك غير صادق بل أنت تريد التهرب من المسؤولية ، ألا فلتعلم أن الدين مسؤولية الجميع والدفاعَ عن دين الله والذبَّ عن شريعته وعن حرمات المسلمين ، والدعوةُ إلى الله وإلى دين الله مسؤوليتنا جميعاً مهما كنت مقصراً ، وأول طريق حتى تكسر هذه الأوهام استقم على دين الله وجاهد نفسك واضرب بسهم في نصر دين الله قبل أن يأخذ الناس أخذاتهم ، تصور كم هي حسرتك حين يقطف المسلمون الثمرة ويفرح من جاهد وبذل ونصح وأنت تقف متفرجاً لالدينك نصرتك ولا لنفسك نصحت فالله الله فالبدار البدار فنصر الدين أبوابه كثيرة بالنفس والمال والجاه(1/1395)
والعلم ، فياعبدالله لا تبخل في تقديم أي شيء لدينك ، وكن مبادراً ولا تنتظر من الآخرين أن يدفعوك فقد تجد وقد لا تجد من يدفعك للخير سر على بركة الله ووفقنا الله وإياك للطاعة .
الرسالة الخامسة : رسالة إلى الأبطال ، غرةِ الزمان ، وجندِ الإيمان ، إلى المرابطين في الثغور إلى الذين أثخنوا في أعداء الله ، إلى أحبابنا الذين رفعوا العار والذلة عن جبين الأمة ، يامن تركتم لذيذ العيش لنصرة دينكم والمسارعة لنيل الشهادة في سبيل الله ، إلى الأبطال المجاهدين في أرض الإسراء في فلسطين ، إلى المجاهدين في الشيشان إلى المجاهدين في أفغانستان ، إلى المجاهدين في كشمير والفلبين والسودان وفي العراق اثبتوا فهذا هو طريق النصر والله ثم والله لن تنصر الأمة إلا بالجهاد ،(وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) كم لكم من فضل علينا أحييتم قلوبنا وربيتم أبناءنا ونساءنا على الجهاد والبذل ، لا نستطيع أن نصف لكم شعورنا ونحن نتابع أخباركم ونطارد مواقعكم التي يحجبها أعداءكم من الأمريكان وغيرهم لنسمع صوتكم أو نعرف أخباركم ،ووالله إننا لفي شوق أن نشارككم في جهادكم ولكن نستغفر الله من تقصيرنا وعجزنا ، وإن كان لنا عذر فنقول أنتم في أعلى الثغور ونحن في بعض الثغور ، أيها المجاهدون سيروا فإنكم تعلمون كما نعلم أنكم تقطفون الآن ثمرة النصر في فلسطين فقد زلزلتم عرش اسرائيل وأمريكا من وراءها وما هذه الألوف التي جاءت إلى العراق إلا من أجلكم لكي تنقذ الدولة اللقيطة اللعينة اسرائيل ، لله دركم أيها الأبطال كم نفرح ونبكي لما نسمع عن عملياتكم الاستشهادية ونقول يا يهود إن أول الغيث قطرة ، كم فرحنا وسعدنا عن تطويركم لآلات الحرب فقد سمعت قلوبنا وان لم نتشرف بسماعها بآذاننا صوت دوي البتار والبنا والقسام التي دكت مغتصبات يهود ، استمروا فقد ضجت الصليبية واليهودية العالمية من حنكتكم السياسية ومقدرتكم القتالية سيروا واثبتوا ولا تتركوا هذا الخيار فهو الذي يُذل أعناق أعداءكم ، وأنتم يا أبطال أفغانستان يامن تركتم الديار والأهل لنصرة دين الله والإثخان في أعداء الله ، إننا نتابعُ أخبارَكم رغم التعتيم الإ علامي والحربِ
النفسية وتصلُ أخبارُ عملياتكم فما يمر يوم أو يومان إلا ويقتل من علوج الروم مايفرح قلب كل مسلم ونحن ننتظر المزيد نصركم الله وثبتكم على كل أعداءكم ، وأنتم يا أبطال الشيشان لقد شاهدنا وشاهد الناس كلُّهم عبر أشرطة الفيديو التي ولله الحمد والمنة تباع في كل مكان شاهدنا كيف تقتلون وتأسرون أعداء الله بالعشرات وليس الخبر كالمعاينة ، العالم يتعجب من قلة عددكم وكثرة قتلكم في الروس الذين يملكون الترسانةَ القويَّة من الأسلحة ولكنهم لا يفقهون قول الله ( وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ، إن ظهور الجهاد هو من بشائر النصر للأمة فلكم أجر إحياءه بين المسلمين نسأل الله أن يثبتكم وينصركم على عدوكم ويرزقنا وإياكم الشهادة في سبيل الله إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/1396)
الرسالة السادسة : أيها الإعلاميون ، إن من حق الأمة عليكم أن تبشروها بالنصر وترفعوا معنوياتها من خلال إظهاركم لانتصارات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لماذا لانسمع في وسائل إعلام المسلمين عن الانتصارات في فلسطين والشيشان وافغانستان والعراق لماذا تتعاونون مع أعداء الله في هزيمة المسلمين معنوياً ، لماذا تركزون في برامجكم وتغطياتكم الإعلامية على الهزائم وكل أمر يصيب المسلمين بالإحباط ، لماذا لا تبثون لنا ما يلحق بأعداء الله من التنكيل والقتل على أيدي المجاهدين إننا لن نعلِّمَكم حرفتكم فأنتم أقدر الناس على صياغة الأخبار وعرضها بطريقة تزيل الغمة عن المسلمين وترفع معنوية الأجيال القادمة ، إن أكبر جريمة تمارس أن يتربى أجيال الأمة على مشاهدة الهزائم المتوالية وتحجب عنهم مواقف النصر والتمكين على أعدائهم ، لما ذا لا تنشرون وتبشرون الأمة بدخول الآلاف بل مئات الآلاف من الناس في الإسلام في أفريقيا في الآونة الأخيرة ، لما ذا لا تبشرون الأمة بدخول عشرات الآلاف من النصارى في أمريكا وأوربا في الإسلام رغم التشويه والتعتيم الإعلامي على دين المسلمين ، أيها الإعلاميون : ألم تأخذكم الحمية وتفعلون كما فعلت أمريكا حينما تحجب أخبار هزائمهم وقتلاهم في أفغانستان والعراق ، فلا أقل من أن تفعلوا مثل ما فعلوا ، فأمريكا لم تنتصر إلا بالأكاذيب ونحن نطلب أن تنصروا المسلمين بالصدق والمصداقية في عرض الأخبار ، هدانا الله وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه.
الرسالة السابعة : إلى كل عدو لله ورسوله من الكفار والمنافقين والمندسين في صفوف المسلمين نقول لهم أبشروا بالذي يسوؤكم فبالرغم من المرحلة العصيبة التي تعيشها الأمة إلا أننا نرى ولله الحمد بشائر النصر تقترب فهاهي الأمة تنادي بالجهاد وبإعلان الجهاد في شرق الأرض وغربها بعد أن غيبت الأمة سنوات وسنوات عن مثل هذه المعاني ، يا أعداء الدين يامن استخدمتم كل الوسائل لإغراق الأمة في الشهوات والبعد عن الدين هاهي الأمة المنصورة تعود إلى الله بكل شرائحها فالعودة لم تشمل رواد المساجد ولا رواد المراكز الإسلامية فقط فالهداية والرجوع إلى الله شمل الرياضيين والفنانين والسياسيين وكبار المجرمين والتجار والرجال والنساء والمراهقين والمراهقات فالحمد الله أولا وآخرا فكفوا شركم واغتنموا الفرصة وتوبوا إلى ربكم وإلا سوف يحل بكم ما حل بأسلافكم من أعداء الدين ، كما فعل نبينا في بني قريظة بعد أن تمكن منهم ولنا في رسول الله أسوة حسنة .
ــــــــــ
تأخير نصر الدين لُطف بالمؤمنين ومُكر بالكافرين والمنافقين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد ..
أما بعد ..(1/1397)
فإن لله سبحانه وتعالى عادة لوْ تغيّر وتبدل كل شيء لم تتغير ولم تتبدل، نافذة في ممالكه بلا ممانع، قاهرة لخلقه بلا مدافع، مصدرها الحكمة والرحمة وشمول القدرة مع القيام بالقسط .
فمنها ما يظهر العلم به لكثير من الخلق، ومنها مالا يعلمه إلا القليل منهم، ومنها مالا يعلمه سواه سبحانه .
فمن أمثلة ما يخفى على كثير من الناس من عادة الرب وسنته لاسيما أهل النفاق تأخير نصر الدين وأهله وهو على الحقيقة بالرغم من شدة وَطْأته وثقل حمله نصر خفي مَوْصول بالنصر الجلي، فلابد من هذا للمؤمنين إذا قاموا بنصرة الدين، وهو لطف بهم كما حصل في غزوة أُحد .
وتأمل كلام الإله وتعرّف على سننه التي لا تتبدل، ترى أنها تشتد الحال ويعظم الكرب حتى يقول الرسول والمؤمنون معه : {متى نصر الله} . فيكون الجواب من الولي النصير : {ألا إن نصر الله قريب} ومثله : {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا} فيقول تعالى : {أتاهم نصرنا} .
وهُنا يَرِدُ سؤال يكون في جوابه كشف المستور المخبأ عن علم أكثر الخلق، والسؤال هو : هل الرب عز وجل كان خاذلاً لرسله وعباده المؤمنين في شدتهم ثم إنه بدالَهُ بعد أن ينصرهم حينما قال تعالى : {ألا إن نصر الله قريب} وحينما قال : {أتاهم نصرنا}.
الجواب : تعالى عن ذلك علواً كبيراً وإنما من أسرار الأقدار أن يكون الابتلاء خفياً والمحنة مستورة {ليميز الله الخبيث من الطيب} وإلا فالرب سبحانه لا يستجد له جديد كان خافٍ عليه قبل ولا يؤثر في قدرته مؤثّر من دونه كيف ومقاديره جارية على سنته، سابقة لخلقه .
وتمام جواب السؤال هو أن الرب سبحانه وتعالى لم يتخل عن رسله وعباده المؤمنين، ولم يخذلهم وقت شدتهم ووقت الغلبة التغريرية الاستدراجية لعدوهم والتي هي غير مستقرة ولا مستمرة وإنما ليظهر معلومة وآياته وعجائب قدرته، وحيث إن الكمائن تظهر عند المحن فمن أعظم ذلك ظهور كمائن المنافقين وظنهم السوء برب العالمين ألا ينصر من نصر دينه .
وحِكَمٌ غيرها عظيمة القدْر ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد) في كلامه على غزوة أحد أحببت نقلها هنا لما فيها من العبرة والعِظة ولِمشابهة الحال وإن لم يكن من كل وجه، {ليحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة} .
قال رحمه الله تحت عنوان : ( فصل في ذكر بعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أُحد ) :
(فمنها) تعريفهم بسوء عاقبة المعصية والفشل(1) والتنازع وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك كما قال تعالى : {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ماتحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم} .(1/1398)
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان، [ ولم تكن معصيتهم إلا مخالفة الرماة مَوْضعهم الذي أمرهم الرسول r بلزومه فبسبب تلك المخالفة جرت الأمور الكبيرة من إدالة العدو وغير ذلك من الأمور المحزنة، فكيف بمخالفاتنا التي لا تحصي ؟ ] .
(ومنها) أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جَرَتْ بأن يُدَالوا مرة ويُدال عليهم أخرى لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ولم يتميّز الصادق من غيره، ولوْ انْتُصِرَ عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميَّز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤا به ممن يتبعهم على الظهور والغَلبة خاصة .
(ومنها) أن هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان : هل قاتلتموه؟ قال : نعم ، قال : كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال : سجال، ندال عليه ويُدال علينا، قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة .
(ومنها) أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطارَ لهم الصّيت دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميّزت بين المؤمن والمنافق فأطلع المنافقون رؤسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه وظهرت مخبآتهم وعاد تلويحهم صريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دُورهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم، قال الله تعالى : {ماكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} . أي ماكان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق كما ميّزهم بالمحنة يوم أحد {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء فإنهم متميزون في علمه وغيبْه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة، وقوله : {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب كما قال : {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يُطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة [ ومن هذا الغيب أن يسْتيقن المؤمن أن الله ينصر دينه لا محالة ] .
(ومنها) استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السّراء والضراء وفيما يحبون وما يكرهون وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.(1/1399)
(ومنها) أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلّوا وانكسروا وخضعوا فاسْتوْجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع وَلاية الذل والإنكسار، قال تعالى : {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} وقال : {ويوم حنين إذْ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً} .
فهو سبحانه إذا أراد أن يُعز عبده ويجبره وينصره كَسَرَهُ أولاً، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره .
(ومنها) أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالِغيها إلا بالبلاء والمحنة فقيّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها .
(ومنها) أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولوْ تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه .
(ومنها) أن الشهادة عنده أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خوَاصّه والمقربون من عباده وليس بعد درجة الصّدّيقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيْل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو . [هذا فيه شَبَه من السور الذي باطنه فيه الرحمة وظاهرة من قِبَله العذاب، فتأمل حال المؤمن والمنافق هنا ] .
(ومنها) أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قَيّض لهم الأسباب التي يسْتوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم وطغيانهم مُبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسلّط عليه فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محْقهم وهلاكهم [ تأمل هذا وترقّب فعل رب العالمين بأعدائه، وقد ظهرت ولله الحمد علامات ذلك واضحة من قَوَارِعِه المتوالية عليهم ونحن نسأله المزيد، وتدبّر قوله سبحانه عن فرعون وقومه : {فلما آسفونا انتقمنا منهم} فالطغاة يتمادوْن بطغيانهم والرب يمهلهم ويظنون أنه مهملهم حتى إذا استكمل غضبه عليهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا معنى الآية .
وقد بيّنت في (جواب الأمريكيين) وغيرهم عظم فساد هؤلاء الكفرة في الأرض وأنه أعظم من إفسادهم بالمحاربة وتقتيل المسلمين فنحن نتربّص بهم سنن شديد المِحال] .(1/1400)
ثم إن ابن القيم رحمه الله ذكر كلاماً ثم قال في قُبح طاعة الكفار : وحذّرهم سبحانه من طاعة عدوهم وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أُحد، ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين وهو خير الناصرين، فمن وَالاه فهو المنصور، ثم أخبر أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم، فإنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على أعدائهم، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدْر الشرك يكون الرعب، فالمشرك بالله أشد شيء خوفاً ورعباً، والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء [ تأمل رعب أعداء الله] ، وذكر كلاماً ثم قال عن المنافقين أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية وقد فُسّر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وأنه يُسْلمه للقتل، وقد فُسّر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمة له فيه، فَفُسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يُتم أمر رسوله ويُظهره على الدين كله.
[ انظر قوله في معنى ظن السوء : (وأن أمره سيضمحل) واعلم أن هذا ظن أكثر الخلق اليوم وهو ظن المنافقين لأن طغيان الباطل وطوفانه الذي تفجّر في وقتنا قد طغى على العقول وزيّفها، ولما جاء الابتلاء بتكالب الكفار على المسلمين وحصول نوع هزيمة هي على الحقيقة ابتلاء للمنافقين ولطفاً بالمؤمنين ظهرت الكمائن الخبيثة ممن لم يقْدر الله قدره ولا يعرف حكمته فتكلم من تكلم وعمل من عمل وظنوا أن الدين لن تقوم له قائمة، وكانت قد امتلات أذهانهم الخاوية المظلمة أن الدين لا يصلح لهذا الزمان اللهم إلا دين مُلَقّح بمادة كفرية ونحْلة طاغوتية، فيبقى اسم ورسم في غاية الذلة والهوان قطع الله دابر كل من ظن هذا الظن وأراد هذه الإرادة من نوّاب إبليس ووكلائه من الكفرة والمنافقين الذين {نسوا الله فنسيهم} والذين (هانوا على الله فعصوْه ولوْ عَزّوا عليه لعصمهم).(1)
أيظن المنافق أن الله تخلى عن ملكه وَوَكل دينه وعباده إلى غيره وأنه يخذل من نصر دينه ؟ لا، وعزته، فتعْساً للظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء، والله غالب على أمره] ثم قال ابن القيم، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح حيث يقول : {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا} وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه ظَنُّ غير مايليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء بخلاف ما يليق بحكمته وحمْده وتفرده بالربوبية والإلهية ومايليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ولكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله ولا يُتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويُعْليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يُديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد(1/1401)
والحق اضمحلالاً لايقوم بعده أبداً فقد ظن بالله ظن السوء ونَسَبَهُ إلى خلاف مايليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمْده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك وتأبى أن يُذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به فمن ظن ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله .
[ تأمله فإنه كلام نفيس للغاية منطبق على مانحن فيه من وجوه عديدة حيث ظن أكثر الخلق برب العالمين سبحانه ظن السوء وظن الجاهلية حيث اعتقدوا أن الله يُضَيّع للأفغان والعرب الذين معهم سعْيهم بإقامة دينه وشرعه ومُنابذتهم أعدائه وجهادهم إياهم وأنه يخذلهم وينصر الكفار عليهم ] .
ثم قال رحمه الله : ثم أخبر سبحانه عن حكمة أخرى في هذا التقدير وهو ابتلاء مافي صدورهم وهو اختبار مافيها من الإيمان والنفاق، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً، والمنافق ومَن في قلبه مرض لابد أن يظهر مافي قلبه على جوارحه ولسانه .
[ لقد ظهر من كثيرين مكنونات سوء يصعب حصر ما ظهر منها وما خفي أكثر، ومن ذلك ماكتب بعض المعتوهين عن المجاهدين في بعض الجرائد من قوله في إجابته المعترضين عليه لما يظهر من بغضه للمجاهدين، يقول : (أحسن الله عزاءك في أُسامتك وطالبانك) ويقول أهلكه الله ساخراً : ( فلا طالبان ولا حالِمان ) .
وأهل الإيمان ولله الحمد على يقين لا يتزعزع أن الله سوف يُخلف ظنون المنافقين ومرضى القلوب الظانين بالله الظن الذي لا يليق به سبحانه كما أخلف ظنون إخوانهم مِن قبل بنصره للحق ولمن قام به وكبْته لأعدائه وخذلانهم وموتهم بغيظهم .
وقد ظهرت ولله الحمد بشائر النصر وتحقق قول الله عزل وجل في الكفار والمنافقين : { ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولوْ كثرت وأن الله مع المؤمنين } فما زالت ولله الحمد القوارع الإلهية والآيات الربانية تتابع على أعداء الله مثل الرعب وهو جند من جند الإله العظيم وغير ذلك من الخسران والخذلان والأمراض والجراد والطوفان والأعاصير والحرائق والزلازل واختلافهم فيما بينهم وغير ذلك مما يؤيّد الله به عباده المؤمنين ويخذل أعداءه الكافرين وما زلنا في انتظار المزيد من الولي الحميد، قال تعالى : {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} .
ثم قال ابن القيم قدّس الله روحه : ثم أخبر عن حكمة هذا التقدير وهي أن يعلم المؤمنين من المنافقين علم عيان ورؤية يتيمز فيه أحد الفريقين من الآخر تميّزاً ظاهراً، وكان من حكمة هذا التقدير تكلُّم المنافقين بما في نفوسهم فسمعه المؤمنون وسمعوا رَدّ الله عليهم وجوابه لهم وعرفوا مؤدّى النفاق وما يؤول إليه ، وكيف يحرم صاحبه سعادة الدنيا والآخرة فيعود عليه بفساد الدنيا والآخرة، فلله كم من حكمة في ضمن هذه القصة بالغة، ونعمه على المؤمنين سابغة وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه وتعريف بأسباب الخير والشر ومآلهما وعاقبتهما، انتهى باختصار .(1/1402)
وإن من عرف بعض حِكَم تأخير النصر للمؤمنين على أعدائهم لم يظن بربه ظن سوء ولم يقنط من رحمته ويعلم أن تأخيره سبحانه لنصره نصر لهم وإن رغمت أنوف أعداء الله من الكفرة والمنافقين.
وإن في هذا الكلام البليغ لابن القيم كفاية كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المنافق المطبوع على قلبه فلوْ تناطحت الجبال وكلمه الموتى فإنه لا يزداد إلا عتواً ونفوراً، فلْيمت بغيظه.
وتأمل قول ابن القيم : ( فلله كم من حكمة في هذه القصة بالغة، ونعمة سابغة ) مع أنه حصل في غزوة أحد ما حصل على النبي r وأصحابه فتأمل كيف جاءت المِنن عن طريق المِحن، واعلم أن رب الزمانين واحد وأنه رقيب على عباده شهيد عليهم .
فالحذر كل الحذر من عزل المالك الحق عن ملكه والتعوّض بالسياسات الطاغوتية المنتنة، فإن هذا بحر قد غرق فيه أكثر الخلق على اختلاف طبقاتهم في هذا الزمان المُوَطئ للدجال والأمور العظيمة {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} و { سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }.
والحمد لله وصلى الله على نبينا محمد ،،، .
كتبه
عبد الكريم بن صالح الحميد
أواخر ربيع الأول 1423هـ
ــــــــــ
خطوات على طريق الفلوجة
د.أسامة الأحمد
" الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا "..
تذكرت هذه الكلمة الرافعية التي خاطب بها الرافعي شباب الأمة ..
تذكرتها لما رأيت آلاف العرب المسلمين يبدؤون مسيرهم على الطريق الطويلة الممتدة من بغداد إلى الفلوجة ..
كانوا سائرين بعد الفجر يطلبون لأمتهم يوم النصر ..
كانوا غاضبين غضب الجمر .. ثائرين ثورة البحر .. عازمين على إنقاذ إخوانهم المحاصرين في الفلوجة على مرأى من العالم الكابي ..
كانوا يحملون لهم الغذاء والدواء ، ليقايضوهم ببضاعة أغلى هي عزم تجلى في سواعد الفلوجة المتوضئة ، ونور تبدّا في جبهتها الساجدة لربها ..
كانوا يسيرون وهم يكبّرون ، وكنت في نفسي أقول: " الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا " ..
كنت ألمح في وجوههم قبساً من أنوار الأنصار..(1/1403)
أنصار المدينة الذين استقبلوا المهاجرين على الثنيات ..
وهاجر أنصار بغداد لينصروا إخوانهم المهاجرين في فلوجة الثبات ..
وكنت في نفسي أقول : " لن تخلو أرض من مهاجرين ، ولن يخلو زمن من الأنصار " ..
كانت جنة الحضارة الإسلامية متلهفة تنتظر طلائع الركب الذي طال انتظاره ..
كانت أقدامهم تخطّ في الأرض ، ولكنّ آثارها كانت تُكتب في لوحة التاريخ هكذا: " الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا " ..
كانت خطواتهم المصمّمة تخط بين بغداد والفلوجة ، ولكني كنت أراها بين الأرض والسماء ..
يا روعة الإسلام !
إن خطوة حبٍّ على الأرض ، هي خطوة إيمان تصعد إلى السماء ..
الحب آية الإيمان الكبرى ، ووحده الإيمان الذي يشق للأمة دروب النصر في الدنيا ، والنجاة في الآخرة ..
ولكن الخطوة المتقدمة إلى الحب والإيمان تبدأ من هنا ..
فيا كل مسلمي في العالم
كونوا هناك مع إخوانكم بأي معنى من المعاني .. فقد أفلح من كان معهم ، أو من قال في نفسه : ( ياليتني كنتُ معهم فأفوزَ فوزاً عظيما ) ..
كونوا هناك .. فإن لم تكونوا هناك لم تكونوا هنا ..
كونوا هناك .. فإن لم تكونوا في إحدى جبهات المعركة كنتم أنتم وقودها ، ولا كرامة ! ..
وهوذا الإمام ابن القيم قد ترك لكل منكم وصية تقول : (( إذا لم تكن من أنصار الرسول في المعركة , فكنْ من حرّاس المتاع .. فإن لم تفعل فكن من نظّارةِ الحرب الذين يتمنّون النصر للمسلمين .. ولا تكن الرابعة فتهلك)) .
اللهم لا تحرمنا من شرف الانضمام إلى راية الأنصار..
اللهم إنا نعلم أنك من وراء هذه الأمة ، فردّها اللهم إلى كتابها ، وإلى درب نبيها ، وجمِّلها اللهم بأيام النصر وألوان الحضارة ..
اللهم إن لم تعنّا فإنا عاجزون عن تغيير ما بأنفسنا ، فاللهم عونك ونصرك الذي وعدت ..
اللهم ارحم الفلوجة .. وأبناء الفلوجة .. وأبناء أبناء الفلوجة ..
اللهم ومن سلك طريق بغداد إلى الفلوجة فسهل له طريقا إلى الجنة..
ــــــــــ
أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ
مبارك عامر بقنه(1/1404)
نحن مع صراعنا مع العدو في حاجة ماسة للتفاؤل والاستبشار بالنصر والبعد عن التشاؤم والتبرم، فالعدو إن نال من أجسادنا وممتلكاتنا فلا ندع له الفرصة أن ينال من عقيدتنا وآمالنا وطموحاتنا، فأكبر نصر يحققه العدو هو تحطيم أنفسنا، والشعور باليأس؛ لأننا بذلك نخضع ونذل ونستكين ويحقق العدو آماله فينا.
لنقلل من اللوم والعتب لأنفسنا فإن كثرة اللوم قد يؤدي إلى فقدان الثقة وازدراء الذات. فنحن نريد ان نعيد بناء امتنا كي تستعيد قيادتها ومكانتها التي منحها الله إياها ولن يتحقق البناء لأمة تزدري ذاتها وتحتقر بعضها وتهمش دورها. والبناء الحقيقي يبدأ بالشعور بالعزة والتقدير " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " فشعورنا بالعزة في وقت المحن والاستضعاف هو من بدايات النصر والخروج من المأزق. والداعية والمربي عليه أن يتغلب على مشاعر اليأس ويزرع في ذاته وفي الأمة التفاؤل وإشراقه الأمل، فلا نزيد الناس جرحا، بل نضمد جراحهم، ونحيي فيهم الأمل كي يستمروا في محاولة النهوض ومقاومة الاستضعاف.
ولو تأملنا لوجدنا أنه مع هذه الآلام التي تمر بها الأمة إن هناك انتصارات وإنجازات تجعلنا ننطلق في مسيرتنا الدعوية والتربوية النهضوية فوجود أمة تقاوم العدو وتكافح عن دينها يعتبر بذاته نصر؛ فكون هناك طائفة تأبى الخنوع والخضوع وتقاتل من أجل دينها هو بحد ذاته نصر يستحق الفخر، وخصوصا أن الأمة قد تعرضت لسنين طويلة لحرب عقدية وفكرية يراد منها تغيير المفاهيم وتحريف التصورات؛ إلا إنه مع كل محاولات التطبيع والتغريب تبقى طوائف من الأمة ممانعة ضد هذا المسخ فهذا نصر لنا يجعلنا نشعر بعزة وأننا انتصرنا على عدونا بعدم قدرة على تحقيق أهدافه على كافة أفراد الأمة.
وفي صراعنا مع اليهود وغيرهم من المهم أن لا يحدث لدينا انكسارا داخليا بسبب ما نراه من قتل ودمار في صفوفنا، فنحن وإن كنا نألم فهم كذلك يألمون "وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً" فنحن أسمى منهم فالله مولانا ولا مولى لهم، ونرجو من الله مالا يرجون؛ فنرجوا رضى الله والجنة وهم يرجون رضى شهواتهم وشياطينهم، " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" ويقول سبحانه :" فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ" فالخسارة في الأرواح والماديات في سبيل الله لا تزيد المؤمنين إلا عزاً وافتخاراً؛ وحسبنا عزاً أن الله مع المؤمنين. ومعرفة ذلك يجعلنا أن لا نصاب بالإحباط واليأس عند حدوث ضعف في الصف الإسلامي لن عقب هذا الضعف تكون القوة والانتصار. فنصر الله قريب كما قال الله تعالى :" ألا إن نصر الله قريب" ولا نشك في ذلك، فالعاقبة للمتقين.
وما هذه الصدمات التي تواجهها الأمة ما هي إلا تزكية للأمة وتربية لها وتنقية للصف الإسلامي من المخذلين والمثبطين ومن الطابور الخامس الذي ينخر في جسد الأمة ويمنع إنطلاقتها وعودة مجدها(1/1405)
وسؤددها. وقد تفقد الأمة ـ في طريقها لإعلاء كلمة الله وتحقيق كرامتها وإعادة عزتها ـ أنفساً عزيزة وأموالاً كثيرة ولكن هكذا مضت سنة الله تعالى أن لا يتحقق النصر إلا بالتضحية وبذل المهج قال الله تعالى:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ " ويقول سبحانه :" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " وتاريخنا الإسلامي يشهد على ذلك فمنذ فجر الإسلام والأمة في صراع مع الكفر وأهله وما حققت نجاحاتها وانتصاراتها إلا ببذل الغالي والنفيس من أجل انتصار عقيدتها ونشر دينها.
ونحن إن فقدان القوة والتمكين فعلينا أن نسعى إلى تحقيقها فنحن أحق بها، فقد أُخرجنا لإصلاح البشرية وتعبيدها لله تعالى ولن يكون هذا إلا بتحقق القوة المادية والمعنوية في الأمة. وما نراه من ممانعة ومقاومة هو في الحقيقة سعي قوي نحو تحقيق العزة والتمكين للأمة. فالعزة والرفعة لن تنال إلا بالقوة، فالأمم المسيطرة والمتجبرة لن ترضى بفقدان قوتها وسيطرتها ولن ترضى بقيام قوى أخرى تنازعها مكانتها فهي لن تمنح أحد العزة والكرامة. فالتمكين في الأرض لا يأتي إلا عن طريق مواجهة أعداء الله تعالى؛ ومن جهل ذلك وظن أن تمكينه في الأرض قد يأتي من موالاته لأعداء الله والانتصار بهم فقد جهل حقيقة العزة والنصر فالله يقول :" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" فالعزة لله هو الذي يهبها لمن يشاء ويحرمها من يشاء؛ ولكنها قطعاً لن تأتي من اعداء الله وموالاتهم واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين. ومن جهل هذا المفهوم فهو لن يسعى للمقاومة بل يسعى إلى الاستسلام والركون إلى العدو للحصول على مكاسب دنيوية صغيرة حقيرة "أيبتغون عندهم العزة"؛ وحتما لن ينالوا إلا الذلة والمهانة، فالعدو يحتقرهم ويستخدمه لتحقيق أهدافه ومآربه فإذا انتهى دورهم رماهم في مزبلة التاريخ. والله غالب على أمره.
للتواصل: mubarak200@hotmail.com
ــــــــــ
غزة تحت الحصار القرشي!!
مصعب بن عبدالعزيز المرشدي
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد :
غزة تحت الحصار القرشي.. هاهي الأيام تعيد نفسها .. وهاهي السنن الكونية تتكرر.. وهاهم أهل الحق في كل زمان ومكان .. يواجهون الحصار والتجويع .. لكن الغريب في أهل الإيمان أنهم هم الوحيدون الذين يتلذذون بتلك الحصارات .. فقد علمهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.. منذ أن أوحي إليه ..أن هذا الدين فيه بلاء ومشقة وأن المؤمن يبتلى على قدر دينه.. وعلمهم عليه الصلاة(1/1406)
والسلام كيفية التعامل مع ذلك الحصار .. فقد كان من الذين حوصروا في الشعب في مكة .. فقدم مع صحابته دروساً في التعامل مع ذلك الحصار يجب على الأمة وعلى اخواننا في غزة أن يلتفتوا لها لكي تكون عاقبة الحصار الإسرائيلي كما كانت عاقبة الحصار القرشي .. فحصار قريش استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقلبه في غضون سنوات إلى انتصار عظيم .. كان فتح فلسطين احد تلك الثمرات في عهد من عاش ذلك الحصار عمر بن الخطاب .. فهي كلمات من القلب لعلها تصل إلى القلب .. لعامة المسلمين ..ولأهلنا في غزة خاصة .. فيها سنعيش مع الحصارين حصار أهل الإيمان في غزة .. وحصار محمد صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب قبل ألف وأربعمئة سنة .. ولنا في هذين الموقفين المتشابهين رغم فارق الزمن وفارق الأشخاص العديد من العبر والدروس والوقفات التي سيستفيد منها كل عاقل أراد نصرة دينه .. وفيه تثبيت لكل مجاهد همه أن تكون كلمة الله هلي العليا .. وأن يرفع الظلم عن أهل لا إله إلا الله ..
1/ الوقفة الأولى :
قبل أن ندخل في الأحداث يجب أن يعلم المؤمنون .. أن هذا الحصار ابتلاء من الله .. وعجيب أمر المؤمن إن صبر كان خيراً له .. { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } نعم أحبتي.. فالله يريد أن يعلم الصابرين وهو أعلم بهم سبحانه .. ويريد أن يظهر للناس من هو المؤمن الصابر ومن هو المنافق الذي يعبد ماله وشهواته .. فالكل في زمن الرخاء مؤمنون .. لكن في زمن الشدة يتميز الخبيث من الطيب .. ويظهر الرجال الصادقون .. ويتبين عوار أهل النفاق والمصالح .. إنها الشدائد والمحن ميزان الرجال .. وفيها يتبين الأبطال ..فيها تمحيص لأهل الإيمان .. ومحق لأهل الكفر ولكل من تولاهم وعاونهم ونصرهم ..{وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين }..
أحبتي ..كلما عظمت المصيبة وزاد البلاء قرب الفرج والنصر .. قال تعالى :{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } نعم أحبتي حتى الرسول وهو المؤيد من الله ينتظر النصر قد طال به البلاء .. لكن الجواب الإلهي يأتي وفيه تباشير النصر والفرح القريبة بإذن الله ..{ ألا إن نصر الله قريب } .. نعم فنصر الله قريب .. والنصر قادم لامحالة .. كلما أظلم الليل اقترب الفجر من الظهور.. وكلما طال الدرب اقترب الوصول.. وكلما اشتدت الأزمة كانت تلك بشرى الإنفراج.. فالله الله ياأهل غزة ويا أهل الإسلام لم يبق إلا القليل .. إنما النصر صبر ساعة.. ونصر الله قريب وإن رآه الأعداء بعيداً ..
2/ قبل حصار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بأربعة أسابيع وقعت حوادث ضخمة هزت كبرياء قريش .. وزلزلت عرشها.. منها إسلام أسد الله حمزة .. ثم أسلم الفاروق رضي الله(1/1407)
عنهم أجمعين..حتى أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول :" مازلنا أعزة منذ أسلم عمر ".. وهاهي الانتفاضة أحبتي قد زلزلت الكيان الصهيوني ..وأرعبتهم كما أرعبهم إسلام عمر وحمزة.. وكما هي قوى الكفر تتخذ نفس الأساليب البائسة في مقاومة أهل الإيمان .. فقريش حاصرت محمد صلى الله عليه وسلم ومعه هؤلاء الأسود من الصحابة ومعه الشيوخ والنساء والأرامل.. والكيان الصهيوني يحاصر أسود الانتفاضة في غزة ومعهم الشيوخ والأرامل والنساء العزل .. فهو حصار قد أعاد نفسه .. وسيعيد أبطال غزة وأسود الانتفاضة صبر أسلافهم الأسود .. لأنهم خير خلف لخير سلف ..فهم أحفاد الأسود.. ولا يخلف الأسد إلا أشبالاً.. بقي أن نعلم أن حصار غزة لخوف في نفوس الصهاينة من أولئك الأسود .. وهي محاولة يائسة بائسة لكسر عزتهم وكبريائهم .. لكن هيهات أن يكسر القرود عزة الأسود.. وللأسود نقول أبشروا فالنصر القدم ويكفيهم قوله تعالى :{ ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنت الأعلون إن كنتم مؤمنين ..إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لايحب الظالمين }فالأيام دول .. فأبشروا واستمروا في المقاومة .. فمهما طال الألم وزادت الجراح فالنصر قادم ..{ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } لكن الفرق الشاسع .. والبون الواسع ..{ وترجون من الله مالا يرجون } .. نعم ولا نستوي في الصراع ..فالانتفاضة مولاها الله .. ولا مولى لهم .. وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار .. والله أعلى وأجل ..
3/ اجتمعت قريش وتحالفت لتحاصر بنو هاشم وبنو المطلب ..وهم في نفس الوقت منها .. فهي تحاصر نفسها إن صح التعبير .. وغزة تحاصر الآن من أهلها .. ممن أسلم نفسه للعدو .. وارتمى في أحضان الأعداء .. وتولى الصهاينة والأمريكان ونصرهم على إخوانهم في غزة ..{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم }.. حسبنا أنهم أذلاء لايعرفون للعزة معنى .. ولا للكرامة طريق .. همهم مايأكلون وقدرهم مايخرجون.. قد سقطوا من عين الله .. فليتق الله من أعان المحتل في حصاره .. من أهل فلسطين خاصة ومن كل البلاد الإسلامية عامة ..وليعلموا أنهم إن لم يتوبوا .. فهم في الدرك الأسفل من النار .. وفي الدنيا سيتلقفهم أسود الله ..ويقعدون لهم كل مرصد.. ويذبحون كما تذبح الأضاحي وسيشفي الله صدور المؤمنين منهم ويذهب غيظ قلوبهم ..وياأهل غزة اصبروا ولاتركنوا وأبشروا .. { ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لاتنصرون } نعم فاطلبوا النصر من الله .. فإن طلبتموه من غيره فلن يأتي..وتكونوا ضيعتم دينكم ودنياكم ..فقريش امتنعت عن مجالسة بنو عمها وتحالفوا على أن لايبايعوهم ولايناكحوهم .. وهاهم أهل الدناءة من بعض المنافقين الفلسطينيين يقولون لاحوار مع المجاهدين .. ولا حوار إلا الحصار ..يطبقون مافعل أسلافهم .. وينفذون أوامر أسيادهم من القردة والخنازير .. ومن كان أسياده هؤلاء فماذا سيكون العبيد..وياأهل فلسطين اصبروا وأبشروا فالنصر قادم..نعم قادم لامحالة ..(1/1408)
4/ أخيراً نقول لكل المسلمين أنه يجب علينا النصرة بجميع أشكالها ..بالتفس وبالمال وبالقلم وبكل شيء..فالله الله لاتخذلوا اخوانكم في غزة .. فإن لم تقدر على شيء فلا تبخل بالدعاء .. الله الله بالدعاء .. في جوف الليل وفي ساعات الإجابة ..وللمرة الأخيرة.. ياأهل غزة اصبروا وأبشروا فالنصر قادم .. ألا إن نصر الله قريب..عندها ستشرق الشمس بنور صبركم وتضحيتكم ..وستتفتح زهور التفاؤل التي رواها الشهداء بدمائهم الزكية الطاهرة ..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. اللهم فك حصارهم .. وتقبل شهيدهم .. وعجل بفرجهم ..وثبتهم عند اللقاء ..اللهم احفظهم من بين يديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم ..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين ..
ــــــــــ
ومتى فقناهم عددا أو عدة؟
بقلم: محمد حسن يوسف
يعتري الكثير من الناس حالة من الإحباط واليأس من جراء ما يحدث للمسلمين في كل مكان من العالم الآن، حيث ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان، أنه قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت [1].
ويتساءلون: هل بعد كل هذه النكبات من وثبة أخرى للمارد؟! هل يستطيع المسلمون الخروج من قمقم الهزائم التي مُنيت بهم وتوالت عليهم، حتى أصبحت صفة ملازمة لهم؟! ومتى سيكون ذلك؟! أم أن على المسلمين الاستسلام لتلك الضربات المتوالية التي تلحق بهم، وفي كل مكان من العالم، لكي تستأصل شأفتهم وتزيل دولهم، ومن ثم وجودهم من على خريطة العالم؟!!
وفي الواقع فإن المتبصر بأمر الدين لا يعتريه مثل هذا الشعور المحبط، بل على العكس تجده واثقا في قدرة الله. فكل ما يحدث للمسلم هو خير له. وحسبك تلك النازلة العظيمة التي حدثت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قيل في عرضه، وما اُتهمت به أعز زوجاته إليه وأحبهن إلى قلبه من حادثة الإفك. فإذا بالوحي يتنزل قائلا بأن كل ذلك إنما هو في حد ذاته خير للمسلمين وليس شرا، حيث قال تعالى: ? َلا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? ] النور: 11 [ .
إذن ما يحدث للمسلمين في جميع أنحاء العالم من حولنا إنما هو في حقيقة الأمر قَدَر رباني يجري وفقا لسنن الله الكونية التي يستحيل تغييرها إلا إذا تغير مضمونها. فإذا أردنا الخروج من الأزمة التي ألمت(1/1409)
بنا حاليا، فعلينا العمل من أجل تغيير الواقع من حولنا حتى نسمح لسنن الله التي تساند المسلمين من العمل مرة أخرى. ونوضح هذا الأمر فيما يلي:
مفاهيم ينبغي ترسيخها في النفس
هل يريد المسلمون حقا تحقيق النصر؟!! هذا سؤال هام لابد لكل منا أن يسأله لنفسه ويحدد إجابته عليه. إن نصر الله يتنزل وفقا لسنن ربانية لابد من تحققها. وحين يريد المسلمون أن يتحقق ذلك النصر في أرض الواقع فلابد من عدة أمور تستقر في عقيدتهم تكون محركا ودافعا لهم على الانطلاق، حتى يستفيدوا من " معية الله " في المعركة إلى جانبهم:
? التخلي عن المعاصي واللجوء إلى الله: فلن يتم النصر إلا بذلك، فالإيمان أقوى سلاح لتحقيق النصر. ولنستعرض في ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد حينما أرسله في أحد فتوح العراق: أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستَحْيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرٌ منا فلن يُسلَّط علينا وإن أسأنا، فرُبّ قوم سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كُفّارُ المجوس ? فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ? ] الإسراء: 5 [ . واسألوا الله العونَ على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. اسأل الله ذلك لنا ولكم [2]. وانظر إلى هذا القول الملهم: وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فهنا يتجلى سر نصر المؤمنين في معاركهم. فمتى تحقق هذا الشرط، جاء النصر بإذن الله ولا ريب. وإلا فقل لي بربك كيف ينصر الله قوما يخذلون نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويكرهون تطبيق سنته المطهرة، ولا يجدون في وقتهم متسعا لقراءة القرآن، ويبارزون الله بالمعاصي جهارا نهارا؟!! فالنصر لن يتحقق إلا بعد التمحيص، أي تنقية المسلمين وإفراز القلة المتمسكة بدين الله. قال
تعالى: ? وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? ] آل عمران: 141 [ . قال القرطبي في تفسيره: فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني: يطهر; أي من ذنوبهم ... والمعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا ... الثالث: يمحص: يخلص ... فالمعنى ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. " ويمحق الكافرين ": أي يستأصلهم بالهلاك. أ. هـ. فلابد للأمة من الإقلاع عن الذنوب التي(1/1410)
يرتكبها أفرادها ليل نهار، سرا وجهرا. والأمثلة كثيرة: الإقلاع عن التدخين، التخلي عن الكذب، عدم النميمة والغيبة، ترك النفاق ... الخ. فقد أصبحت تلك المعاصي متفشية كالسرطان الخبيث في جسد الأمة. ولابد أن تتيقن أنك أنت - بذنبك الذي تصر عليه - من يؤخر النصر عن الأمة. فابدأ بنفسك وأعلنها توبة شاملة لله لعل نصر الله يتنزل على الأمة بسببك.
? جهاد النفس في مرضاة الله: ذلك أن نصر يتحقق بعد العمل بتشريعه والكف عن مناهيه، قبل أن يتحقق الجهاد في ميدان القتال. قال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? ] العنكبوت: 69 [. قال القرطبي في تفسيره: أي جاهدوا الكفار في الله، أي في طلب مرضاة الله ... وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون ... وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا. ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأُورثنا علما لا تقوم به أبداننا. قال الله تعالى: ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ? ] البقرة: 282 [. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد علي المبطلين; وقمع الظالمين; وتعظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: " لنهدينهم ". والجهاد في عمل الطاعات يستلزم إرغام النفس على الاستيقاظ لأداء صلاة الفجر في جماعة، وقيام الليل، وقراءة جزء من القرآن على الأقل يوميا، وأداء جميع الصلوات في جماعة، وإخراج جزء من مالك للفقراء من حولك، ومساعدة المشردين من المسلمين في أنحاء العالم. كل هذه أمثلة على الجهاد في سبيل مرضاة الله.
? تحقيق التربية الإيمانية المطلوبة لأفراد الأمة: فلابد من سلوك طريق الأنبياء وهو تعبيد الناس لرب العالمين حتى يتحقق النصر من عند الله. إذن لابد من طريق الدعوة إلى الله عز وجل، والارتفاع بقلوب الناس وعقولهم إلى المستوى الإيماني المطلوب، وتبيين حقائق الإسلام، والدعوة إلى توحيد الملك العلام. قال تعالى: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? ] الروم: 47 [ . فلابد أن يكون الجميع متشوق لرؤية نواة المجتمع المسلم تتحقق على أرض الواقع. أما البيئة التي تطرد من كيانها امرأة لأنها ارتدت النقاب، أو تنظر بعين الشك إلى رجل أطلق لحيته فما زالت بعيدة عن نيل رضا الله بله نصره.
? انفراد الله تعالى وحده بالقدرة: وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته. فقال عز من قائل: ? قُلْ إِنَّ اْلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? ] آل عمران: 154 [ ، ? بَلْ لِلَّهِ اْلأَمْرُ جَمِيعًا ? ] الرعد: 31 [ ، ? لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ? ] الروم: 4 [. أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. أي هو المالك لجميع الأمور, الفاعل لما يشاء منها, فكل ما تلتمسونه إنما يكون بأمر الله. وهذا دحض للنظرية التي مفادها أن " 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا ". بل جميع مقدرات الأمر بيد الله، ولا تملك لا أمريكا ولا غيرها أياً من مقدرات الأمور، ولا حتى نصف بالمائة! فالله سبحانه ينصر من(1/1411)
يشاء، ويخذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويذل من يشاء. تلك العقيدة يجب أن تستقر في النفوس، وتكون هي الموجه الأول والأخير لنا في كل تحركاتنا.
? ترسيخ مفهوم الاستطاعة: وهو أن المطلوب منا إعداد ما في الطاقة، وليس كل شيء. قال تعالى: ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ? ] الأنفال: 60 [. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولم يقل كل القوة. إذن ما استطعتم أي ما في أيديكم. وقوله تعالى: " من قوة ": أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به معناها، وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها. فقد يكون تحقيقها بإعداد السلاح للجند، وتدريبهم على فنون القتال، وتربيتهم على معاني الإيمان التي تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله [3]. إذن توافر اليقين مع القوة المؤمنة هو المحك الأصلي للجهاد وليس العدة أو العدد. قال القرطبي في تفسيره: " وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. ولذلك فإن السيف الخشب الذي أخذه عكاشة بن محصن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قتل به الكفار، لأنه كان يضرب بإذن الله. فقد شهد عكاشة بن محصن بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا، وانكسر في يده سيف، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرْجُونا - أو عودا - فعاد في يده سيفا يومئذ شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يزل يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قُتل في الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن [4].
? إرجاع النصر لله: بمعنى أنه حتى مع تحقق العدة الكافية في أيدي الفئة المؤمنة، وحين يتحقق النصر لهذه الفئة، فإن هذه الفئة يجب أن تُرجع هذا النصر لله، وألا تنسب تحقيق هذا النصر لنفسها. وذلك مصداقا لقوله تعالى: ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ? ] الأنفال: 17 [. فما يتحقق من نصر فمرجعه الله وحده، وليس كثرة العدد أو تطور الإمكانيات.
? التخلص من حب الدنيا ونعيمها: انظر إلى سؤال الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. هذا هو الداء. أننا أصبحنا الآن نتعلق بالدنيا ونتمسك بها، وكأنها أصبحت هي دار القرار بالنسبة لنا. مع أن المسلمين على مدار تاريخهم كانوا ينظرون إلى الدنيا باستهانة، وأنها ليست إلا ممر لدار مقر. انظر إلى قول خالد بن الوليد، حينما سار إلى الحيرة بعد فراغه من أمر اليمامة، فخرج إليه أشرافهم مع أميرهم الذي عيّنه عليها كسرى. فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيكم بأقوام هم أحرص على الموت(1/1412)
منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا و بينكم [5]. فهذه هي ثقافة الإسلام، أو ثقافة الدار الآخرة التي يحملها الإسلام. الحرص فيها على الآخرة يكون مثل حرص غير المسلمين على دنياهم، التي هي جنتهم. إن أهم شيء في حياة المسلم هو نظرته إلى الدار الآخرة، حتى وإن كان ثمن ذلك حياته.
? تغيير ما بأنفسنا: فلابد أن يستشعر كل فرد منا بفداحة الوضع الذي أصبحنا عليه الآن. فالأمر ليس هزلا. ولابد لكل فرد أن يتغير، وأن يستشعر هذا التغيير في كل مفردات حياته. فما لم يحدث ذلك، فلن يُنزل الله نصره علينا. قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ َلا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ] الرعد: 11 [. إن نصر الله لا يتنزل على قوم إلا إذا كانوا قد اتخذوا منهج الله شريعة لهم تحكمهم ويتمسكون بتطبيقها مستقبلا بعد تحقق نصر الله لهم. فهل ينزل نصر الله علينا الآن، ونحن لم نتغير بعد، حتى إذا انتهت المعركة، عدنا لإدارة حياتنا بالطريقة التي كان أعداؤنا يديرون بها حياتهم؟! كلا! لن يحدث هذا. قال تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ? ] الحج: 41 [.
مواقف من السنة المطهرة
ومن أهم المواقف التي تثبت عدم سريان قانون الإمكانيات مع رسوخ عقيدة الإيمان والتوكل على الله في العهد النبوي، موقف الصحابة في غزوة مؤتة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة. وقال: إن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم. ثم مضوا حتى نزلوا مكانا قريبا من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل زعيم الروم، إحدى أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، قد نزل بالقرب منهم في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من القبائل القريبة مائة ألف آخرين. مائتي ألف في مواجهة ثلاثة آلاف!! وإمبراطورية عريقة ضالعة في الحروب في مواجهة دولة فتية ناشئة لم تثبت أركانها بعد!!
فلما بلغ ذلك المسلمين، أقاموا في مكانهم ليلتين يفكرون في أمرهم. وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فوقف عبد الله بن رواحة يشجع الناس، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس. وذهبوا للقاء عدوهم. أرأيت إلى قول عبد الله بن رواحة: وما نقاتل الناس بعدد ولا(1/1413)
قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. هذا هو سر الحرب لدى المسلمين. ولنتابع بقية القصة.
ثم بدأت المعركة. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى استشهد برماح القوم. فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب يقاتل تحت لوائها. وقد أخذ جعفر الراية بيمينه، فقطعت. فأخذها بشماله، فقطعت. فاحتضنها بعضديه، حتى قُتل رضي الله عنه. فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.
فلما استشهد جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها، وهو على فرسه. فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم حسم أمره وتقدم نحو العدو. فلما كان في طريقه نحو العدو، أتاه ابن عم له بعرق من لحم. فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس. فقال لنفسه: وأنت في الدنيا!! يريد أن المعركة حامية وهو مازال بأكله عرق اللحم هكذا يفكر في الدنيا! ثم ألقى عرق اللحم من يده، وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل.
ثم أخذ الراية أحد المسلمين، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاول تثبيت مواقع الجيش حتى نزول الظلام. فلما أصبح بدأ في إعادة ترتيب جيشه: فجعل مقدمة الجيش مكان ساقته، وساقة الجيش مكان مقدمته. وميمنة الجيش مكان ميسرته، وميسرة الجيش مكان ميمنته. فلما رأى الروم جيش المسلمين بهذه الهيئة، أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئاتهم. وقالوا: قد جاءهم مدد! وهم قد كانوا رأوا الأعاجيب من هذه القلة التي تقاتلهم، فما بالك بمدد يأتيهم ليشد أزرهم. فرُعبوا وانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. فأين كانت الإمكانيات التي قاتل بها المسلمون في هذه الموقعة؟!!
بل قد تكون الوفرة في العدد والعدة سببا في نزول الهزيمة بالمسلمين، إذا تمسكوا بأسبابها ولم يتجهوا إلى حول الله وقوته. وأكبر دليل على ذلك ما شهدته غزوة حنين في بادئ الأمر من هزيمة ماحقة للمسلمين حين اتكلوا على أنفسهم. فلما فاءوا إلى الله وتمسكوا بحبله، أنزل نصره وسكينته على المؤمنين. وقال تعالى: ? لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ? ] التوبة: 25 [ ، يُعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعِدد، وإنما النصر من عنده تعالى. كما قال تعالى: ? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? ] البقرة: 245 [ .
مواقف من جيل الصحابة
كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع. وأن الله لم ينصرنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ولا(1/1414)
بكثرة جنود. وقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فَرَسَان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل. وكنا يوم أُحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فرس واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه، وقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا [6].
ومما يروى في ذلك، قول خالد حين قال له رجل: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر ( اسم فرس خالد ) براء، وأنهم أضعفوا ( أي: زادوا ) في العدد [7].
وفي فتوح العراق، كان الفرس قد فروا بكمالهم إلى المدائن، وتحصنوا بها. وقد فروا إليها عن طريق نهر دجلة وأخذوا كل سفنهم معهم. فلما وصل سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في فتوح العراق إلى شاطئ دجلة لم يجد شيئا من السفن، ورأى دجلة قد زادت زيادة عظيمة وأسود ماؤها.
فوقف سعد يخطب في المسلمين على شاطئ دجلة. فأوضح للمسلمين أن عدوهم قد اعتصم منهم بهذا البحر ... فهم لا يستطيعون الوصول إلى هذا العدو بسببه، بينما هم يستطيعون الوصول إلى المسلمين متى شاءوا. وأنظر إلى تلك العبارة الرائعة التي قالها لهم في هذا الموقف: وليس وراءكم شيء تخافون أن تُؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم [8]. انظر إلى هذه الكلمات الرائعة التي يبثها القائد في جنوده. فالمسلمون لا يهمهم شيء أن يفوتهم إذا ما قورن بالجهاد. فالجهاد هو أفضل الأعمال في الإسلام. والشهادة في سبيل الله هي أسمى ما يتوق المسلم لنيله. والموت قادم لا محالة. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. فالنهاية محتومة. فلماذا لا تكون شهادة ومنزلة رفيعة في الآخرة، بدلا من حياة ذليلة يعقبها موت أيضا، ولكن في درجة متدنية من الجنة أو في النار نعوذ بالله منها! وقد عزم على خوض البحر إليهم بلا سفن يمتلكها! يمضي في البحر هكذا! بلا إمكانيات! يواجه جيش إمبراطورية فارس بعدتها وعتادها بلا سفن!! لا ... إنه يواجه ذلك بسلاح أقوى من أي سلاح آخر ... إنه سلاح الإيمان. ولذلك فقد طلب منهم إخلاص نياتهم لله، وقد كان.
ونعود للقصة. فقد وافق الجند على خوض البحر مع سعد رضي الله عنه. فانتدب لذلك كتيبة تسمى في كتب التاريخ بكتيبة الأهوال. وهي كذلك بالفعل. وكانت هذه الكتيبة تتكون من ستين فارس من ذوي البأس، وكان عاصم بن عمرو أميرا عليها. وكانت مهمة هذه الكتيبة عبور البحر إلى العدو وتأمين ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى حتى تستطيع بقية الجيش أن تعبر هذه المخاضة وهم آمنين. تأمل هذا الموقف ... العدو واقف على شاطئ النهر، يرصد تحركاتك، ويشهر سلاحه في وجهك، وأنت تقف على الشاطئ الآخر، تريد أن تعبر هذا النهر لكي تصل إلى العدو، وتشتبك معه،(1/1415)
وتتحصن في بقعة تكون بمثابة نقطة ارتكاز تُؤّمن من خلالها الطريق لبقية الجيش حتى يعبر ويستقر فيها وينطلق للبدء في عملياته منها. موقف في غاية الصعوبة!
وقد أحجم أفراد الكتيبة في بادئ الأمر عندما فكروا في هذا الأمر بهذه الطريقة المنطقية. إلى أن تقدم رجل من المسلمين وقال لهم: أتخافون من هذه النقطة؟ ثم تلا قوله تعالى: ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إَِّلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً ? ] آل عمران: 145 [ . ثم أقحم فرسه فيها ومضى. فلما رأى الناس ذلك اقتحموا معه. هنا زالت العقلانية المثبطة، وارتفعت سحائب الإيمان والثقة بالله وبوعده للمؤمنين، فبدأوا في اجتياز المخاضة.
فلما رآهم الفرس يقفون على وجه الماء، قالوا: مجانين! مجانين! ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا! وحاولوا منع هؤلاء المتقدمين نحوهم عن طريق الماء ليمنعوهم من الخروج منه. ولكن المسلمين شرعوا لهم الرماح وتوخوا الأعين، فقلعوا عيون الخيول. فرجعوا أدراجهم من حيث أتوا، وواصل المسلمون تقدمهم. حيلة بسيطة استخدمها المسلمون، وهداهم الله إليها لما رأى شدة تمسكهم به، فأدت إلى السيطرة على النقطة الحصينة التي ستكون محور تحرك الجيش بعد ذلك.
ثم نزلت الكتيبة الثانية فالثالثة. ثم أمر سعد بقية الجيش بالنزول في الماء، وذلك بعد تحصن الجانب الآخر بوجود نقاط الارتكاز الإسلامية فيه. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه. حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [9]. هذه هي مبادئ النصر في الحرب في الإسلام. تفويض مطلق للأمر لله، ثم تضرع وابتهال له بأن ينزل نصره وسكينته على المسلمين.
يقول المؤرخون: وسار الناس في النهر كأنما يسيرون على وجه الأرض، حتى ملؤوا ما بين الجانبين. فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة. وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده. فكان ذلك معجزة بكل المقاييس.
ثم أكمل المسلمون معاركهم انطلاقا من هذه النقطة وأكملوا بقية فتوحات العراق. فأين هي الإمكانيات التي كانت متاحة للمسلمين في ذلك الوقت. إنها لم تكن إلا بقدر الاستعانة المطلوبة، ولكن جيشان الإيمان في الصدور هو الذي يقف وراء هذه الانتصارات الباهرة.
وكان سعد يقول: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات [10]. وهكذا يحدد سعد بن أبي وقاص مفاتيح النصر في المعركة. عدم وجود بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.(1/1416)
والمتأمل في تاريخ المسلمين يجد الكثير والكثير من المواقف التي وقف فيها المسلمين يواجهون أعتى الظروف، من أسود وفيلة وغيرها، بمجرد إيمانهم القوي المتدفق من صدورهم، ليكتب الله لهم النصر في معاركهم التي خاضوها.
مواقف معاصرة
ومن الأمثلة الحديثة على هذه القضية، ما حدث في جهاد الشعب الأفغاني ضد روسيا. فقد كان هذا الجهاد هو الذي أعاد لأذهان المسلمين مفهوم الجهاد في الآونة الأخيرة. لقد واجه الشعب الأفغاني الدبابات الروسية أول أمره بالحجارة والصخور. لقد آمن الشعب الأفغاني بالحقيقة الإيمانية البديهية التي تمثلها المعادلة التالية: الله أقوى من روسيا. الله لا يُقهر ولا يُهزم! إذن ستُهزم روسيا وتُقهر بإذن الله.
ومن المواقف المثيرة التي واجهتها المقاومة الأفغانية في ذلك الوقت، أنها تعرضت على مدى سبعة أشهر تقريبا لقصف الطائرات الروسية كل يوم مرتين إلى خمس مرات، ولم يستشهد واحد من المجاهدين، وذلك لأنهم كانوا يدعون الله قائلين: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا تجاه الطائرات، فيحميهم الله.
ويقول أحد المجاهدين: ما هجمت الطائرات علينا مرة إلا ورأيت الطيور تحتها، فأقول للمجاهدين: جاء نصر الله! ولقد توقف ذات مرة مضاد الطائرات، فدعوت الله، فساق الله علينا الغمام تغطينا من الطائرات. ويقول: لقد هجمت علينا ستمائة دبابة وناقلة، وكنا مجموعة من المجاهدين ليس معنا سوى ( 14 ) بندقية مع العصي والسيوف، وهزمهم الله!
ويحكي أحد المجاهدين الأفغان: كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد للدبابات. فصلينا ودعونا الله أن تصيبهم هذه القذيفة، وكان مقابلنا مائتا دبابة وآلية. فضربنا القذيفة، فإذا بها تصيب السيارة التي تحمل الذخيرة والمتفجرات، فانفجرت ودمرت ( 85 ) دبابة وناقلة وآلية، وانهزم العدو، وغنمنا كثيرا [11].
كما أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية مؤخرا يعطي أكبر الدلالة كذلك على هذه القضية. فعلى الرغم من قلة إمكانيات المقاومة، وعلى الرغم من تطوير العدو الصهيوني لعرباته المدرعة ودباباته بحيث فشلت أسلحة المقاومة المتمثلة في قذائف الآر بي جي في وقف زحف الدبابة ميركافا من قبل، وخاصة بعد تطوير وتحديث هذه الدبابة لتكون الأحدث والأولى في العالم، حيث ترك هذا التطوير مآسٍ كبيرة في نفوس الأبطال عندما استعدوا لها في مخيم جنين، ولكن كانت طلقات الآر بي جي لا تفعل معها شيئا. وبالرغم من ذلك نجد المقاومة قادرة اليوم على تفجير هذه الدبابة بعد أن قامت المقاومة بتطوير أسلحتها هي أيضا، فأصبحت قادرة على النيل من هذه الدبابة وتدميرها.(1/1417)
فهذه إرادة التحدي التي يبثها الله في قلوب عباده المخلصين ليثبتهم وينصرهم على عدوهم هي التي جعلت المقاومة تستطيع إدخال التطوير على نوعية سلاحها، بحيث استطاعت تفجير هذه الدبابة حتى بعد تطويرها، لتصيب العدو بالصدمة والذهول. لقد نوّعت المقاومة الفلسطينية أسلحتها من الحجارة إلى صواريخ القسّام وهاون حماس والعمليات الاستشهادية.
ويقول أحد قادة لواء ( حبعاتي ) الذي سقط جنوده على أيدي عناصر المقاومة، في معرض تعليقه على ثبات وبسالة المقاومة: كان بإمكان الفلسطينيين أن يتركونا ننسحب متذرعين بتفوقنا الهائل عليهم. لكنهم تحدونا وتجاهلوا مظهر تفوقنا. إن المقاتل الفلسطيني لا يهاب أي شيء. وأضاف ضابط آخر في نفس اللواء: ماذا لو كان هؤلاء يملكون عشرة بالمائة من إمكاناتنا؟ بكل تأكيد لابد أن شكل هذه المنطقة كان قد تغير منذ زمن بعيد.
ونفس الشيء يحدث في الفلوجة. فئة قليلة لا تكاد تملك من حطام الدنيا وأسلحتها إلا الشيء اليسير تقف بالمرصاد في مواجهة أعتى ترسانة للسلاح في العالم اليوم، وتجبرها على التراجع والانسحاب مذعورة من المدينة.
إن الفلوجة هي الأكثر وضوحا والأعمق في هذا الإطار، لأنها مدينة صغيرة ( حوالي 200 ألف نسمة )، وهي تواجه أكبر قوة غاشمة في التاريخ، فليس بعد الولايات المتحدة قوة الآن. وبالتالي فإن درس الفلوجة هو الدرس الأوضح، الذي لا يمكن أن يكابر أحد أو يغالط أحد في أننا أمة قادرة على المواجهة والصمود. وأن أصغر قرية في العالم، وبالذات العالم العربي والإسلامي، لأسباب حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بالجهاد والاستشهاد، قادرة على مواجهة الولايات المتحدة والصمود أمامها، بل وإنزال أكبر الأذى بها.
إن ظهور المقاتلين في فلسطين والفلوجة يمسكون المصحف الشريف بيد، والبندقية أو أي سلاح آخر باليد الأخرى، هو دلالة هامة على تطور البعد الإسلامي والعقائدي في الصراع ضد العدو، وهو شرط ضروري للصمود والانتصار في معاركنا.
الخاتمة
يجب أن يسود بين المسلمين مفهوم الاستعلاء على قوى الكفر بديلا عن الانبطاح والتركيع. فالمسلمون الأوائل عند مجابهة حضارة الروم والفرس كانوا يشعرون أنهم هم الأعلون حتى وإن كان الروم والفرس متفوقون عليهم في التقدم العلمي وتقنيات الحياة. لكن كان إيمانهم يعطيهم دفعة كبيرة للاستعلاء على سائر من حولهم، وذلك تطبيقا لقوله تعالى: ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ اْلأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? ] آل عمران: 139 [ .
إن السُنة التي يتعامل بها الله سبحانه وتعالى معنا تتمثل في وجوب أن نتصف بعدة صفات: عدم معصية الله، وإعداد ما في الاستطاعة، واليقين في نصر الله، وصدق اللجوء إلى الله، وضرورة مراجعة(1/1418)
النفس وتغييرها إلى الأفضل. فمتى تقاعسنا عن تحقيق أحد هذه الشروط، تساوينا مع الأعداء عند الله، فعندئذ تسود سُنة ربانية أخرى، تتمثل في إحراز الفئة الأقوى للنصر.
إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث يجدها تتمثل في إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات، حتى تغدو كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولا تُنكر منكرا، بحيث تصبح شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية. وتنفق الولايات المتحدة وربيبتها دولة يهود الكثير والكثير على إضلال الشعوب، فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم.
قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير لزملائه من المبشرين في مؤتمر القدس عام 1935: إنكم أعددتم شبابا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار: لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل. ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز فللشهوات. ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء [12].
وهكذا تخمد جذوة الإيمان في الصدور، فتصاب حركة المسلمين بالشلل والتوقف التام. إن المحرك الأساسي للمسلمين هو الدافع العقدي. فلو تحولت حركة المسلمين لكي تصبح في سبيل تحقيق شهوات النفس، فهذا هو بداية طريق الانحراف عن جادة الصواب، والهزيمة في كل ميادين الحياة، وفي معركة القتال بالطبع. إن على المسلمين أن يسايروا التطور الحادث في جميع مناحي الحياة، ولكن بنظرة مختلفة لما ينظر إليها الآخرون. فهم يفعلون ذلك بدافع من إيمانهم بالله. فكل عمل يفعلونه فإنهم يبتغون من ورائه وجه الله. وهذا هو الفارق الجوهري بينهم وبين غيرهم. وما لم يحدث ذلك، أي ما لم يظهر الجيل الرباني الذي يحمل هم مرضاة الله سبحانه وتعالى من وراء جميع أفعاله، فلا تنتظر من المسلمين تحقيق أي تقدم أو انتصار، بغض النظر عن إمكانياتهم أو تقنياتهم.
12 من ربيع الثاني عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 30 مايو عام 2004 ).
-----------------------
[1] صحيح / صحيح سنن أبي داود للألباني، 4297
[2] العقد الفريد: 1/119.
[3] عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات، مؤسسة الرسالة، 2002. ص ص: 66-67.
[4] أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/65.
[5] تاريخ الأمم والملوك: 2/307.
[6] سعيد عبد العظيم، طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود، دار الإيمان، 2001. ص: 60.(1/1419)
[7] الكامل في التاريخ: 2/260.
[8] البداية والنهاية: 7/53.
[9] البداية والنهاية: 7/53.
[10] البداية والنهاية: 7/54.
[11] كل هذه الروايات مأخوذة من: عبد الله عزام، آيات الرحمن في جهاد الأفغان.
[12] عبد الله التل، جذور البلاء، المكتب الإسلامي، 1998. ص: 276.
ــــــــــ
غزة ألم وأمل
1/1/1430
أ.د. ناصر العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذه المآسي التي تعيشها الأمة في بلدان متفرقة، ولاسيما ما يحدث هذه الأيام في غزة، تضطرنا للوقوف معها فتلك أحداث لا ينبغي تجاوزها.
والحديث عن غزة ليس حديثاً عن مساحة أو رقعة صغيرة من الأرض وإنما هو حديث عن الأمة التي هي كمثل الجسد الواحد.
وأوجه كلمتي أولاً لأخوتي في غزة، فأقول: أحسن الله عزاءكم، وغفر لموتاكم، وتقبلهم شهداء، وداوى جرحاكم، وعظم أجوركم، واعلموا أن إخوانكم في بلاد الحرمين وغيرها يقفون معكم، وينصرون قضيتكم، ويقنتون لكم، ويبذلون ما في سعهم.
ثم أقول لإخوتي المسلمين ولاسيما المعنيين بالتحليل والمتابعة: إن قول الله ينبغي أن يكون نبراساً لنا في تحليلنا للأحداث، ومن أغفله أو زاغ عنه فقد أبعد، وإن القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية اليوم مليئة بالأراء والتحليلات، وكثير منها بعيد لإغفاله ما بينه الكتاب ودلت عليه السنة، وكل ما قرب التحليل من فقه الكتاب والسنة كان أصوب.
وغش اليهود وخيانتهم للمسلمين وعداوتهم لهم وتمنيهم السوء لهم مما تواردت عليه آيات الكتاب، قال الله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) [المائدة: 82]، وقوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) [البقرة: 105]، وقال عنهم: (لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) [آل عمران: 118]، ولن أتحدث في هذا فإن من قرأ القرآن عرفه، ولن أتحدث كذلك عن الواقع فقد رأيتم وسمعتم في الوكالات ما فيه كفاية، وحسبكم أن عدد القتلى قد بلغ نحواً من ثلاثمائة قتيل، والجرحى قد تجاوزوا الألف.(1/1420)
وعزاؤنا قول ربنا سبحانه: (وكأين من نبي قتل) كما قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، أو (قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) [آل عمران: 146-148]، وتأمل كيف ردوا الأمر إلى أنفسهم، ففزعوا إلى ربهم واستغفروه واستغاثوا به، فجاءهم الفرج، فعلى إخواننا أن يحاسبوا أنفسهم، كما أن علينا إخوة الإسلام أن نحاسب أنفسنا، وأن نتساءل ماذا قدمنا لهم؟
كم يستغيث بنا المستغيثون وهم *** قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم *** وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم *** أما على الحق أنصار وأعوان
إخوة الإسلام إن ما يحدث اليوم في غزة نتيجة مقدمات سابقة مهدت له، فتاريخ العرب مع فلسطين تاريخ مؤسف ممتلئ بالخيانات والمؤامرات ووضع الأيدي في أيدي الأعداء، وانظر وتأمل من الذي يحمي اليهود؟ إن للغرب ولاسيما أمريكا دور ظاهر لا ينكر، ولكن أليس من يحمي الحدود ويمنع المجاهدين من الوصول أو الخروج شريك في الجرم؟ ألا يعد خائناً من يلاحق المجاهدين الصادقين الذين يريدون تحرير أرض فلسطين؟ مع أن هؤلاء المجاهدين كانوا وما زالوا من أشد الناس انضباطاً وحرصاً على أن لا ينتقل الصراع ليكون مع دول الجوار، بخلاف شأن بعض المنظمات العلمانية، التي أساءت لفلسطين، بل باعوا قضيتها بأبخس الأثمان.
وفي الحقائق التي أُعلنت قريباً في برنامج الجزيرة: "بلا حدود" كفاية، خيانات وتجسس على الداخل والخارج وعلى البلدان العربية لصالح دولة اليهود، وانظروا من قمع الفلسطنيين في الضفة لمّا أظهروا التضامن مع إخوتهم في قطاع غزة!
أفبعد ذلك يقرب هؤلاء ويضيق على المجاهدين المخلصين الحادبين على قضيتهم وعلى أمتهم؟!
والمتأمل في شأن المتآمرين خلف الحدود يظهر له تآمر الرافضة ويبدو له كذبهم في دعواهم التضامن مع القضية الفلسطينة وهم يغلقون الحدود اللبنانية الفلسطينة ويشددون الحراسة عليها فلا يمكن أحداً النفوذ من جهة حرس إسرائل من الرافضة في جنوب لبنان، وصدق شيخ الإسلام لمّا قال: " إذا صار اليهود دولة بالعراق وغيره، تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائماً يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم"، وإن أظهروا خلاف ذلك، ولو كانوا صادقين لفتحوا الحدود من جهتهم، ونصيحتي لمن انخدع من إخواننا في فلسطين بالرافضة أن يتبصر، وأن يعلم أن القوم في العداء لأهل السنة سواء، والتاريخ والواقع يشهدان على ذلك.(1/1421)
ومع تواطؤ أمثال هؤلاء مصاب آخر متمثل في مسلسل السلام الذي اغتر به بعض الناس مع أن الفتاوى الشرعية قد صدرت بتحريم السلام الذليل الذي هو في حقيقته استسلام للعدو، وتسليم للأرض له، وفرق بين الهدنة الشرعية التي أقرها بعض أهل العلم وبين بيع فلسطين والاعتراف للعدو بأرض لا يملكها.
وعجباً ممن يدعون إلى التعايش السلمي مع قوم يرفعون السلاح ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، قد بدت البغضاء منهم، ودوا لو عنتنا، وقد علمنا بأنهم لن يرضوا عنا، فهل يتصور بعد ذلك من تفكر تعايشاً مرضياً مع هؤلاء بالاستجداء والاستخذاء؟ إن قوماً لم يتعايشوا مع أنبيائهم بل آذوا موسى وقتلوا الأنبياء بغير حق، لا سبيل لاستجداء تعايش عزيز معهم ما لم نتفاوض معهم فيه لننتزعه بمنطق القوة.
وقد قال الله تعالى: (ولا تجادوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم) [العنكبوت: 46]، فبالله عليكم هل ظلم هؤلاء اليهود ومن يدعمهم من الأمريكان أم لم يظلموا؟
ومع ذلك يحفل بعض الناس بهذه الدعوات، ومن أمعن النظر علم أنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!
إخوة الإسلام إن ثمة سنناً كونية وقواعد شرعية لابد أن نعيها من أجل أن نبصر الحقيقة، ومنها:
أولاً: أن الصراع بين الحق والباطل ماض أبداً من أجل العقيدة، (ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217]، فالصراع عقدي، شاء من شاء وأبى من أبى، وكل تحليل يقصي الجانب العقدي ويغفله أو يهمش من شأنه فهو تحليل باطل، بل الواجب أن ننظر في الصراع والعوامل المؤثرة على الأحداث دون تخطي لمقررات العقيدة، وأحكام الشريعة، وهل جر الويلات غير إخراج قضية فلسطين من نطاقها الإسلامي إلى الناطق العربي والقومي؟
ثانياً: لن يتحقق لنا النصر إن لم نحقق أسبابه، فتلك سنة الله، ومن أعظم أسبابه نصر دينه، كما قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) [محمد: 7]، ولن يتحقق المشروط إن لم يتحقق الشرط، فحققوا أسباب النصر يتحقق لكم النصر.
ثالثاً: من السنن الكونية أن الله يبتلي عباده ليمحصهم، ويميز الخبيث من الطيب، قبل أن يمكنهم، كما قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت: 2-3]، (أم حسبتم أن تدخول الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [البقرة: 214]، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) [آل عمران: 142]، (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) [آل عمران: 179]، (أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين(1/1422)
جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون) [التوبة: 16].
رابعاً: من البدهي أن يكون للانتصار ثمن، وإذا أريد لشجرة المبادئ والقيم أن تورق وتثمر فلتسقى بالدماء، كما قال سيد رحمه الله: "إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها، وغذينها من دمائنا؛ انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء"، وأجل من ذلك قول الله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) [محمد:4]، ولن تموت نفس قبل أن تستكمل أجلها، وانظر إلى عدد من يموتون في بلادنا بحوداث المرور كيف ذهبوا وفيم ذهبوا! (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) [محمد: 4-6]، فهل غبن من نال هذا مهما كان الثمن؟
خامساً: ليس الذليل من يذق الردى عزيزاً، بل الذليل من توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم" [رواه أبو داود (3462)]، أما من صدق مع الله فنال الشهادة فقد ربح البيع، وفاز ورب الكعبة!
سادساً: الفوز الحقيقي هو فوز المبادئ وظهور القيم، لا انتصار الأشخاص، واقرأوا سورة البروج.. قتل الرجال والنساء والأطفال، أبيد القوم عن بكرة أبيهم، فلم يبق منهم أحد، ومع ذلك لم يرد في القرآن الكريم وصف فوز بأنه كبير إلاّ عقيب ذكر خبرهم (ذلك الفوز الكبير) [البروج: 11].. أما المقاييس المادية المزدرية لمقاييس العقدية وموازين الشريعة فقد يرى أصحابها أن القوم خسروا..! أقعوا بأنفسهم الهزيمة، أما أهل النظر الشرعي فيعلمون أن انتصار المبادئ هو الفوز الحقيقي.. ولا يشك هؤلاء في أن الانتصار العسكري ضرب من أضرب الانتصار، وكما أن غلبة الحجة والبيان نوع آخر، ولكن الفوز الحقيقي الكبير هو في الثبات على الدين إلى يوم لقاء رب العالمين.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون في أرض العزة غزة ثبات قادتكم، فاثبتوا كما ثبتوا وأملوا في الفوز وارتقبوا، (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) [آل عمران: 120]، خذوا بالأسباب المعنوية والمادية واتحدوا مع إخوتكم، ولا تنازعوا فالقضية قضية إسلامية، وحذاري من أن تحول إلى قضية حزب أو حركة بل القضية قضية أمة مسلمة، ومما يحمد للمجاهدين في فلسطين تماسكهم، وصبرهم على استفزازات المنافقين والمرجفين، وقد كفاهم ذلك شر جبهة داخلية، (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) [الروم: 60].
ومما يجب أن يقال للمرجفين في الداخل أو الخارج الذين ما فتئوا يتحدثون عن أخطاء حماس، وأخطاء المجاهدين الذين يذبون عن ديارهم ومقدساتهم أيدي المعتدين: كفوا شركم، فتلك صدقة منكم على أنفسكم، واعلموا أن أشد الناس عدواة للمسلمين إن قدروا لن يعدموا ذريعة للنيل من(1/1423)
المسلمين، وقد قال الله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) [الممتحنة: 2]، فاليهود (لايرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) [التوبة: 10].
وخير لكم أن تتركوا لغة القوم القائلين: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
ويقال كذلك لمن أراد أن يقف موقف الحياد من الإعلاميين وغيرهم، اتقوا الله (وكونوا مع الصادقين)، كنوا حنفاء مائلين إلى الحق كما كان إبراهيم عليه السلام، حنيفاً مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، فالمائل إلى الحق محمود، والميل إليه واجب، والمذبذب المتحيد (بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) مذموم.
إخوة الإسلام .. وسط هذا الركام من الأحزان والآلام لا ينبغي أن نغفل البشائر الموجودة.. وهي بحمد الله كثيرة تدل على أن العاقبة للتقوى، فالنصر آت لا محالة كما ثبتت بذلك الآثار النبوية، المصدقة للوعود القرآنية، وقد اعترفت صحيفة معاريف بأن الحملة الإسرائلية فاشلة، ونحوها ذكرت صحيفة التايمز البريطانية، ومن بوادر فشل اليهود وقرب النصر ما نراه في هذه الأمة، وما نسمعه من نشيج شبابها وشيوخها ونسائها جراء ما أصاب إخوتهم، وهذا يدل على أن الأمة أمة حية .. توشك أن تجد من يستثمر طاقاتها، ويوجه مشاعرها وقواها، فكيف لا نرقب النصر وفي الأمة الجموع الغفيرة الحية المنفعلة بقضايا المسلمين؟ بل كيف لا نرقب النصر وفي أكناف بيت المقدس ثلة على الحق ظاهرين منصورين، وقد سقطت الشعارات والرايات غير راياتهم، وتوشك الصفوف أن تتمحص بمثل هذا البلاء، كيف لا نستبشر وقد بدأت مبادئ أهل الكفر تسقط بعد أن اغتر بها طوائف من المسلمين، فالحرية والديمقراطية التي طالما دعا إليها الغرب ها هم اليوم يحاولون إقصاءها.
ولئن كانت بشائر النصر تترى مصدقة الوعود الشرعية، فإن علينا أن نتفاعل معها، ببذل المزيد من الأسباب الشرعية والكونية، كالاستقامة على منهج الله، وتجنب أسباب سخطه، فالهزيمة قد يكون سببها ذنب، كما أن علينا الحذر من الفوضى ودعاتها، فإن لهم مآرب لن تعود على نصرة إخواننا في غزة بخير، فلا يخرجن أحداً الحماسُ عن الانضباط ففي غمرة الحماس والاندافع قد يُجر من لم يتفطن لأمور لا تحمد عقباها، وكم من مرة استثمر الضغط النفسي للشباب فنجمت عنه أحداث أخرت مسيرتهم، فإياكم أن تنجروا لفوضى، واسعوا إلى نصر إخوتكم بما تطيقون من البذل، والدعاء، والنصر بالكلمة، والاقتراح، والتوجيه، عبر المنابر الإعلامية امختلفة، وليكن لكل منّا مشروع ينصر به إخوته في فلسطين ويخدم به قضيتهم.
والمأمول من حكام المسلمين تفويت الفرصة على من يسعون لإثارة الفوضى، بالنظر في فتح الحدود، بل والدعم وفتح المجال للتبرعات، فذلك خير من أن تخرج بطريق غير منضبطة، مع مقاطعة اليهود(1/1424)
والمتعاملين مع اليهود وإن كانوا عرباً، وليعلموا أن مسؤوليتهم أعظم من مسؤولية من سواهم، وأن ما بوسعهم يتجاوز التنديد والشجب والإنكار، والوسائل كثيرة لن يعدمها من نظر وتأمل.
هذا وأكثروا إخوة الإسلام في كل مكان من الدعاء لإخوتكم، فذلك من حقهم عليكم، سواء بالقنوت لهذه النازلة، أو في السجود وغيره من المواطن التي تتحرى فيها الإجابة.
والله أسأل أن يرفع ما بهم، وأن يحقن دماءهم، وأن ينزل رجزه وعذابه على اليهود الظالمين، وأن ينجي إخواننا المستضعفين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــ
من يبلغ عني أهل الجهاد في العراق ؟!
محمد جلال القصاص
في ديننا الوسائل لها أحكام المقاصد، فواجبٌ ما يستلزمه الواجب، وحرامٌ كل ما أفضى إلى الحرام. فنحن إذا نتعبد الله بالوسائل كما نتعبده ـ جلَّ شأنه ـ بالغايات. وكل المسلمين دعاة إلى الله، قال تعالى " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " [ يوسف: 108 ].
فمن اتبع يدعو ـ بالمعنى العام للدعوة ـ. يدخل في هذا المجاهدون وغير المجاهدين. وأنتم أهل الجهاد في العراق قد عنيتُ.
قد كانت رسائل المجاهدين الأُول تنطق صراحة: (الله ابتعثنا، والله جاء بنا، ليخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان على عدل إلى عدل الإسلام...)
ويوم اليرموك تحدثت الروم: أن ما نرى من هؤلاء فوق ما نسمع عن حواري عيسى عليه السلام.
ويوم هبط المسلمون على الجزيرة الخضراء في الأندلس نادى القوط ــ سكان الأندلس ـــ قومهم: أدركونا فقد جاءنا قوم لا ندري أمن أهل الأرض هم أم من أهل السماء؟
ويوم بدرٍ قَدُرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من آذوه ورموه بكل قبيح وعذبوا صحابته الكرام، وما كان سبٌّ ولا تمثيل بل أُحسنت معاملتهم حتى حكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وغدرت (رعل) و (زكوان) بسبعين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم,بعد سبعين قتلوا في أحد فكانت بليّة أيُّ بلية، وحين قتل عمرو بن أمية الضمري ـ رضي الله عنه ــ رجلين منهم ـ وهو عائد لتوِّه من غدرتهم ـ يريد الثأر لإخوانه, اعتذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الغدر وفدى القتيلين.
وكشفت يهود سوءة المسلمة في السوق، فكان الحصار والطرد، وما كشف المسلمون عورة نسائهم.(1/1425)
وقطعت الفروج والآذان وبجرت البطون يوم أحد، وما فُعل شيء من هذا، بل جاء قول الحكيم الخبير " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذهم " "... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "
لذا أسلم المقاتلون..... ودخل الأعداء الألدون في دين الله أفواجا, وبعد أن كانوا قادة الكفر ورأسه ما هي إلا سنين، بل أيام وهم على جيوش الإسلام، دعاة قبل أن يكونوا غزاة.
أريد أن أضع إصبعي على شيء... هو ما أدندن حوله:
لابد أن يكون أول قصدنا هو هداية هؤلاء إلى الإسلام.كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يتتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع عدوه يتبين له أن أشد ما كان يحرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هداية عدوه إلى الإسلام. كما قال ــ صلى الله عليه وسلم ــ لعلي ــ رضي الله عنه ـــ وهو يحمل الراية للقتال.: "ادعوهم إلى الإسلام فلأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وقد قيل هذا الحديث يوم خيبر بعد ستة أيام من القتال.
وفيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة بن آثال، من ربطه في سارية المسجد ثلاثة أيام ليحضر الصلاة ويسمع القرآن.. يعرض عليه الإسلام بطريقته صلى الله عليه وسلم، وما فعله صلى الله عليه وسلم مع أسارى طيء حتى أسلموا، وما فعله مع بني المصطلق من الزواج منهم والمن على أسراهم فأسلموا، وما فعله مع قريش يوم الفتح... في هذا كله دليل على أن أشد ما كان يحرص عليه صلى الله عليه وسلم هو هداية عدوه إلى الإسلام.
والحرام ليس فقط ما حرمه الشرع ابتداءً، وإنما هناك نوع آخر من الحرام وهو (الحرام لغيره) كما يسميه أهل الأصول ــ أصول الفقه أعني ـــ.
يطرأ على الحلال أمر فيتغير وصفه إلى (حرام لغيره)، ويُخاف من أمر ما فيُترك الحلال من أجله ويصير حرام فعله، وهو ما يسميه أهل الأصول سد الذرائع أو اعتبار المآلات، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمدا ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ استعان بقوم فلما ظهر استدار عليهم وقتلهم، ومثل هذا كثير... كل هذا يُفعل... وكل هذا يُحرم من أجل غاية واحدة وهي هداية الناس إلى صراط الله المستقيم.
فالله الله أن تستأنسوا بكثرة الأصوات التي تؤيد في المنتديات والبالتوك من المتحمسين، وتنسوا أنكم دعاة إلى الله ـــ بالمعنى العام للدعوة، ويتحول الأمر إلى قتال لا جهاد.
ووالله لو رأى هؤلاء منكم ما رأى أجدادهم من الصحابة والتابعين لأسلموا ولعادوا دعاة إلى قومهم وإن قطعهم بوش إربابا ولقالوا له ما قال السحرة لفرعون " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر فالله خير وأبقى ".(1/1426)
أيها الكرام!
لا يوجد من يقول أنه يعصي الله أو من يقول أنه يتعمد فعل الخطأ، ولكن الكل يتأول والكل يدعي الإصلاح حتى بوش يزعم انه (قوة الخير) التي تحمل الرسالة السماوية لـ (قوى الشر) على وجه الأرض، وهو كذاب أشر، والعبرة ليست بحجج يستصيغها عوام الناس من المندفعين الحماسيين، وإنما العبرة أن توافق الشرع حقيقة.
أيها الكرام!
ونحن المسلمين ـــ كل المسلمين ـــ مأمورين برد الأمر إلى العلماء الربانيين العاملين قال تعالى " وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " وأولي الأمر هم العلماء والأمراء، وعند التحقيق يتبين لك أنهم هم العلماء لأنهم أهل الحل والعقد... بهم تنعقد بيعة الأمراء... ومنهم تعطى الشرعية لغيرهم للخروج عليهم. والذين يستنبطونه منا هم ــ أيضا ــ العلماء الربانيين الناصحين للأمة.
وإنا نأخذ عليكم استقلالكم برأيكم وعدم التواصل مع علماء الأمة، حتى تكونوا على بصيرة، ولا تكونوا ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ـــ عياذا بالله ـــ، والخير موجود في هذه الأمة لا ينقطع. ولكن أين من يطلبه؟!
فهلا حاورتم العلماء، وصدرتم عن رأيهم؟
والأمر سهل هين لمن أراد، فغرف البالتوك لا ترد أحدا، وأماكن الشات كثيرة لا يقف على بابها بواب.
وإن سكت القوم عن بعض الأمور علانية فلا أحسب أنهم في الحوار الهادئ الفردي أو شبه الفردي، أو الرسائل الخاصة التي تأخذ شكل الاستفتاء و لا تنشر على الملأ يسكتون.
أيها الكرام!
أقول من أسباب النصر، بل إن السبب الرئيس للنصر المبين.. المبارك الذي يؤتي أكله أضعافا مضاعفة بإذن الله هو طاعة الله عز وجل فيما أمر قال تعالى: " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز "، والمعصية من موانع النصر " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ".
فالمعصية تأخر النصر، وتصرف الملائكة من الصف وتجرئ عليكم عدوكم، فلا بد إذن من الاستمساك بهذا السبب الأكيد للنصر،وهو طاعة الله عز وجل ــ وهذا يستلزم ـــ فضلا عن التزام هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وتحيق أمر الله تعالى بالسير خلف العلماء الربانيين ـــ تنقية الصف من أهل البدع من العلمانيين والوطنيين وغيرهم، أقول هذا لأن أخشى ما أخشاه أن ينضم إلى الصفوف حين تبدوا بشائر انتهاء المعركة ثلة من المنافقين وتصير بأيدهم الأمور(1/1427)
كما حدث في ثورة الجزائر وفي مصر وغيرهما من قبل، فيقطفون ثمرة جهادكم، ويفتحون علينا دوامة أخرى من جديد.
أيها الكرام!
لا بد أن أمريكا سترحل يوما عن العراق، وعن غير العراق، فالأيام دول، والدول تزول، ولكن ليس هذا هو غاية المقصود من الجهاد، إنما شرع الجهاد لإزالة الطواغيت الذين يصدون الناس عن الإسلام وبالتالي وضع الناس في حالة خيار حقيقي ليختاروا الدين الصحيح.
والجهاد ما شرع إلا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وما شرع الجهاد إلا لدرء فتنة الكفر عن العباد والبلاد " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ". وهذا يستلزم الاستعلاء على الأغراض الدنيوية من تحرير الأرض والدفاع عن العرض. والثأر للأشخاص. وإنا نؤمل منكم أكثر من العراق، فهاهم اليهود كادوا ينتهون من إقامة الجدر ـــ الجدار الفاصل ليس جدارا واحدا في الحقيقة وإنما هو عدة جدران ـــ وقد أقامو القرى المحصنة ــ المستعمرات ـــ وأنتم شرقي نهر الأردن، وأركم أنتم أو من يأتي بعدكم المعنيون بقول الله تعالى " لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر "
ــــــــــ
دور العقيدة الإسلامية في صياغة الشخصية
نموذج توضيحي : خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ
محمد جلال القصاص
( خرجت قريش ـ يوم أحد ـ بحدِّها وجدِّها وحديدها وأحابيشها ، ومن تابعها من بني كنانة ، وأهل تهامة والظعينة )[1] موتورين بآبائهم وإخوانهم ، يُجعجع فرسانهم ، وتضرب بالدف نساءهم ، وينادي بالثارات جميعهم ؛ فيهم مائتي فارس على رأسهم خالد بن الوليد يواجهون سبعمائة رجلا رجالا حُسرا ، ولم يغنِ قريش أن بها خالدا بن الوليد ، ولم يستطع شيئا إلا على غرَّة ، وعلى غرَّةٍ والناس منهزمون قد انفضوا من مواقعهم واستدار بعضهم على بعض ما استطاع خالدٌ بثلاثة آلاف أن يقتل إلا سبعين ـ أو أقل ـ نفرا . !!
وفي يوم الحديبية خرجت قريش كخروجها يوم أحد أو أ شد ، ووقف خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش ، وما جرئ على قتال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته ، وهم حُرُمٌ لا يحملون إلا سيف الراحلة ، وقف يبحث عن وقت غفلة كي يأخذهم على غِرَّة ـ كما فعل يوم أحد ـ وما استطاع شيئا [2].
وفي سنة تسع من الهجرة عقدَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لواءً لخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بأربعمائة وعشرين فارسا إلى إحدى قرى الشام ( دومة الجندل ) كي يغير على ملكها(1/1428)
أُكَيْدِرِ ، فقال خالد : (( يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كَلْبٍ وإنما أنا في أناس يسير ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ستجده يصيد البقر فتأخذه ) ))[3]. فتشجع خالد وصار إليه فوجده على الحال التي وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذه.
وبعد عامين فقط تجمعت قبائل كلب ومن جاورها من بني تميم ومعهم أحياء قضاعة عند دومة الجندل فتحرك إليهم خالد في جيش أقل منهم بكثير جدا وذبحهم في الحصون وحولها .
وبعد عامين فقط ركب خالد بن الوليد في نفر يسير ـ بالنسبة لقوات العدو ـ لمن ارتد من العرب من غطفان وبني حنيفة ثم صار إلى أهل العراق والشام فأتى على قوى الكفر كلها من عرب وفرس وروم في هذه البلاد . وما تردد في معركة . وما انهزم .
ما الذي حدث ؟
خالد هو خالد . بل . كَبُرَ سنه ورقَّ ـ بعض الشيء ــ عظمه ، كيف يَهزم كل هذه الجيوش المتماسكة المجتمعة وكيف يقتل كل هذا العدد من البشر ؟[4]
حدث هناك نوع من التغيير في المفاهيم والتصورات الداخلية التي تُحرِّك خالدا بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ ومن معه ، نوع جديد من المفاهيم عن طبيعة المعركة وأسباب النصر والهزيمة ، جعلت خالدا يُحدث كل هذا الأثر في واقع الناس . وتدبر هذين الموقفين :
يوم اليرموك جاء أحدهم يخوفه من الروم وقد أقبلت كالسحابة السوداء تسد الأفق ، تموج بهم الأرض كما يموج البحر ، صوتهم كالرعد . كما يصف ابن كثير ـ رحمه الله ـ على لسان من حضر المعركة . والمسلمون قلة ، جاء يقول لخالد : ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر [ أي من الله ][5] ، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد.
وحين همَّ بعبور بادية الشام من العراق إلى اليرموك تخوف من معه واستداروا كأنهم يريدون مراجعته في أمر العبور إلى الشام فقام فيهم خطيبا بهذه الكلمات ( اعلموا أن المعونة على قدر النية ، والأجر على قدر الاحتساب ، فأروا الله من أنفسكم خيرا يمدكم بمدده ) .
خالد بالأمس القريب ، حين أُمِرَ بالتوجه لأُكيدر يحسب للعدد حساب وينادي : كيف ........ وإنما أنا في نفر يسير ، وهو اليوم يلغي عامل العدد من أسباب النصر والهزيمة .
وخالد يتمنى شفاء فرسه ليكون أنشط في القتال مقابل أن يزيد جيش الروم ضعفا كاملا . أهذا خالد يوم أحد والحديبية ؟!
وخالد يُقدم على عبور المفازة سالكا طريقا لا يقول عاقل أن جيشا يسير به وينجو ، معتمدا على أن ( المعونة ( من الله ) على قدر النية ) فهو يتكلم بأن السبب المطلوب بذله لعبور هذه المفازة هو صدق اللجوء إلى الله وحسن التوكل عليه . ويُذكِّر من معه بالاحتساب حتى لا يضيع الأجر .(1/1429)
إن العامل الأساسي هو العقيدة وليس شخص خالد رضي الله عنه ، فكما رأيت حدثت نقالات نوعية في شخصية خالد وما أنجزه بعد الإسلام وهذا الأثر ازداد تدريجيا بثبات الإسلام في صدر أبي سليمان ـ رضي الله عنه ـ ، كما علل هو رضي الله عنه وأرضاه .
يزداد هذا الأمر وضوحا في ذهنك أخي القارئ حين تتذكر أن الفتوحات الإسلامية لم تتأثر مطلقا برحيل خالد عن القيادة ، وإنما برحيل الجيل الأول من الصحابة ومجيء من كانوا أقل شأنا في أمر الدين .
ويزيد من هذه الفرضية أن النصر والهزيمة وطبيعة المعركة من حيث أطرافها له تصور خاص في الشريعة الإسلامية . فالشريعة تتكلم عن حضور الملائكة القتال تثبت الذين آمنوا وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا . { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12] . وحضور الملائكة الكرام متوقف على تقوى الله لا على عدد المسلمين وعتادهم ولا على كونهم منتسبين للإسلام فقط يقول الله { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }[ آل عمران : 125] . وفي التصور الإسلامي عن النصر والهزيمة العدد ليس من الأهمية بمكان فـ { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[ البقرة: من الآية 249] ، وفي التصور الإسلامي عن النصر والهزيمة أننا ستار لقدر الله سبحانه وتعالى ، فالله ينفذ من خلال عباده قدره ويظهر آثار صفاته ، فما علينا إلا أن نأخذ بالأسباب المتاحة للنصر والله ينصر من ينصره ،وفي الشريعة الإسلامية الهزيمة سببها الذنوب ـ ومنها التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة كما أمر الله ـ قال الله " { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ آل عمران: 165] .{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن
يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }[ آل عمران : 152]
والشاهد : أن هذه معارف يكتسبها أحدنا بقراءتها فقط إن صدَّق المخبر بها ، أما أن تستيقن منها وتصطبغ بها وتتعامل من خلالها فهذا لا تناله في يوم وليلة ، فالشهوات والشبهات تتصارع مع خطاب الوحي ولا يستقر الإيمان في القلب إلا بعد حين .. . وبين حين يجد من يناوشه ويريد زحزحته فإن لم ينتبه تزحزح[6] .
وحين استقرت هذه المعاني في قلب خالد ورفاقه تغيرت أسباب النصر ، لا من خالد ولكن من الصياغة الجديدة التي صاغتها العقيدة لخالد ورفاقه .(1/1430)
وفرض الصورة العكسية يبين لك الأمر أكثر ، لو اجتمع ثلاثين ألفا من مشركي العرب أمام ربع مليون أو يزيد من الروم والعرب هل كانوا ينتصرون ؟؟
لم يكونوا ليجتمعوا أولا ، وإن اجتمعوا ما كانوا ليفكروا في غزوهم وإن غزوهم ما ثبتت أقدامهم ساعة .
ولتستبين قولي ، ولتعلم أن العقيدة هي المحرك الأساسي وهي التي صاغت خالد وغير خالد من قادة الأمة راجع الآيات التي تتكلم عن المنافقين حين القتال مثل قول الله تعالى {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }[ الفتح : 11] { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[ الأنفال: 49 ] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }[ الأحزاب : 12]
من تكلموا في هذه الآيات من المنافقين كانوا من جنس المسلمين لا يختلفون عن بعضهم شيء في الصفات الخارجية ، ولكن خُلِعَ قلب هؤلاء حين جاء الخوف لأنهم لم يؤمنوا ، ولم تستقر حقائق الإسلام في قلوبهم . لم يستيقنوا الفرار لن ينفعهم ، وأنه لا عاصم من الله إن أراد بهم ضرا أو أراد بهم نفعا ، ولذا راحت جوارهم تبحث عن مخرج حين جاء الخوف .
أما الصادقون . . المستيقنون . . فأقدموا وصبروا واحتسبوا وعلموا أنه النصر وإن يدركوه هم فمَن بعدهم .
إشكال والجواب عليه :
يشكل على بعضهم أنه إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يتساوى الجميع أو يرتبوا على حسب إيمانهم ، هل برز خالد وأبو عبيدة وقتيبة الباهلي كونهم أكثرهم إيمانا ؟
نقول : ليس الأمر كذلك ، فالله سبحانه وتعالى خصَّ بعض الأفراد ببعض الصفات ، وفتح على بعضهم من أبواب دون أبواب ، فهذا حَبَّبَ إليه الجهاد ورزقه بنية قوية وقوة في قلبه ، وهذا حبب الله إليه طلب العلم وتعليمه ورزقه عقلا وعزيمة في الطلب ، وهذا حبب الله إليه الإنفاق وأمده بالمال ، وهكذا .
والعقيدة تصل بالمرء إلى أقصى مستوى ؛ بل تصيغه صياغة جديدة بحيث لا يقارن بمثله الذي لم يتأثر بالعقيدة بعد أو ما زال في المراحل الأولى من التفاعل مع مفاهيم الدين وتصوراته .
تتمة : العقيدة وقوة البدن
لا يقتصر الأمر فقط على صياغة الشخصية من جديد ، بل أستطيع أن أقرر أن التزام الشرع يعطي قوة بدنية ، ولهذا الأمر شواهد كثيرة منها هذا الحديث .(1/1431)
عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن فاطمة ـ رضي الله عنها ـ اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده ولقيت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري ثم قال " أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَنْ تُكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ "[7]
توجيه الدليل :
فاطمة ـ رضي الله عنها ـ تعمل بالرحى حتى أثرت في يدها ، ويشهد لهذا ما جاء في سنن الترمذي عن علي رضي الله عنه ( شكت فاطمة إليَّ مَجَلَ يديْها ) ، ويقال لليد مَجَلَتْ إذا ثخنَ جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البتر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة . ففاطمة رضي الله عنها تشتكي من الجهد المبذول في بيتها وتريد خادمة تحمل عنها ، ويكون الجواب وِرْدٌ من الأذكار ( يحصل لها بسبب هذه الأذكار قوةٌ على الخدمةِ أكثرَ مما يَقدرُ الخادم [8]. أو بعبارة أخرى ( أن الذي يلازم ذكر الله يُعطى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم ، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أٌموره أسهل من تعاطي الخادم لها ، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث )[9]
-----------------------
[1] من سيرة بن هشام في ذكر غزوة أحد .
[2] المغازي الجزء الثاني 582 ، وذكره النووي في شرح حديث صالح بن خوّات عن صلاة الخوف في البخاري باب المغازي / 3817 .
[3] ذكره الواقدي في المغازي الجزء الثالث / 1025
[4] يذكر أهل السير أن جملة من قتلوا على يد خالد في أول أربعين يوما من فتح العراق فقط أربعمائة ألف مقاتل . أي بمعدل عشرة آلاف لكل يوم ، وما كان يقاتل كل يوم .
[5] ما بين القوسين مني ، والنص من بن كثير رحمه الله في أحداث غزوة اليرموك .
[6] وهذا مفهوم من المثل المضروب في سورة الرعد {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }[ الرعد : 17] ، ولابن القيم في مدارك السالكين وفي الداء والدواء كلام طيب عن النفس المطمئنة والنفس الأمارة أو قوة الخير وقوة الشر وكيف الطريق لغلبة الخير على الشر لمن أراد المزيد .
[7] متفق عليه .(1/1432)
[8] تحفة الأحوذي لشرح سنن الترمذي في التعليق على الحديث / 3330ـ كتاب الدعوات . وهو قول العَيْنيُ نقله صاحب التحفة .
[9] فتح الباري /4942
ــــــــــ
كيف انتصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
20/11/1426هـ
د. فيصل بن سعود الحليبي
الحمد لله ، نصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
أما بعد : فيا عباد الله ، اتقوا الله واعبدوه ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
أحبتي الكرام : مع قلة عدد ، وضعف عتاد ، حقق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر على أعدائهم ، ومن عجب أن هذا النصر وذلك التأييد ما كان في ميدان دون ميدان ، أو في وقت دون وقت ، وإنما كان في كل الميادين وفي كل الأوقات !!
الله تعالى يختار للنصر جنودًا يستحقونه ، تغلبوا على نفوسهم ، ودحروا شياطينهم ، ولم تغرهم دنياهم ، ووضعوا الآخرة نصب أعينهم ، ألا يستحق نصرهم هذا أن نلتفت إلى أسبابه ، فنتأمل فيها ، لنقيمها في أنفسنا وننهض بها في أمتنا ، لنأخذ بيدها نحو نصر الله تعالى .
إن أول أسباب النصر في جيل الصحابة _ إخلاص الوجهة والعمل لله تعالى ، فإن الله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ) رواه مسلم .(1/1433)
وانتصر الصحابة _ باتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى خالطت السنة أمشاجهم ، وجرت في دمائهم ، هذا أبو بكر _ يصر بكل شدة أن يقاتل مانعي الزكاة ويقول : ( والذي نفسي بيده لأن أقع من السماء أحب إليّ من أترك شيئًا قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقاتل عليه )) فقاتل مانعي الزكاة حتى رجعوا إلى الإسلام .
أما عُمَر ابْنَ الْخَطَّابِ _ فقد التفت إلى الحجر الأسود وهو يطوف فقال له : أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ ـ وهو المشي بهرولة ـ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ ـ أي نظهر فيه قوتنا للمشركين ـ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ ) رواه البخاري .
هكذا تنتصر الأمة حينما تتبع هدي حبيبها محمد صلى الله عليه وسلم ، هكذا تظهر على كل الأمم حينما تسير على هداه ، ولا تتنكب عنه ، القوة مصدرها ، والنصر حليفها ، وما من أمة تعرض عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويأتيها يوم يزول عرشها ، وينهد بنيانها ، فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه ، قال : لما فتحت قبرس فرق بين أهلها ، فبكى بعضهم إلى بعض ، فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي ، فقلن أبا الدرداء : ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال : ويحك يا جبير : ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره ، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك ، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى .
قال أبو القاسم الجنيد : (( الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ، ولزم طريقه ، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه )) .
وانتصر الصحابة يا أحبة بتطهير النفوس ، فقد قرن الله تعالى الفلاح بتزكيتها فقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } .
كيف نسأل كيف انتصر النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نعلم أنه كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا ) رواه البخاري .
ويهذب نفسه بالصيام ، والصدقة ، ولا يفتأ عن الذكر ، ولا يغفل عن حسن التفكر في نعم الله وآلائه ، وعلى الطريق سار أصحابه الكرام _ يطهرون أنفسهم من متعلقات هذه الدنيا ليصنعونها نفسًا أبية تعشق النصر ولا ترضى بغيره .
قال الحسن : تزوج عثمان ابن أبي العاص امرأة من نساء عمر بن الخطاب بعد طلاقها منه ، فقال : والله ما نكحتها حين نكحتها رغبة في مال ولا ولد ، ولكن أحببت أن تخبرني عن ليل عمر ، فسألها : كيف كانت صلاة عمر بالليل ؟ قالت : كان يصلي العتمة ، ثم يأمر أن نضع عند رأسه تورًا ( إناء(1/1434)
) من ماء نغطيه ، ويتعار من الليل ، فيضع يده في الماء ، فيمسح وجهه ويديه ، ثم يذكر الله ما شاء الله أن يذكر ، ثم يتعارَّ مرارًا حتى يأتي على الساعة التي يقوم فيها لصلاته ) .
وعن الحسن _ قال : قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان _ : لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا ، وأني لأكره علي يوم لا أنظر في المصحف ، ما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه .
وقد تعجب كما عجبت .. فما علاقة النصر بمثل هذه الركعات وتلك الوقفات مع كتاب رب الأرض والسموات !!
فالجواب أيها الحبيب ما أوصى به عمر بن الخطاب _ سعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد حينما قال لهم : (( أما بعد ، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ، وأقوى المكيدة في الحرب ، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولو ذلك لم تكن لنا بهم قوة ، لأن عددنا ليس كعددهم ، ولا عدتنا كعدتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا )) .
وانتصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بزهدهم للدنيا ، حيث نظروا إليها بأنها دار اختبار وامتحان ، وأنها مزرعة الآخرة ، وتمثلوا قول الله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } .
فأبو بكر _ من أثرياء المهاجرين يدعى إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى وتجهيز الجيوش فيأتي بكل ماله ، وحين سأله النبي صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله )) .
وأما عثمان فإنه يجهز جيشًا بأكمله حتى قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ) رواه أحمد .
فحين تحرر الصحابة من سيطرة الدنيا بزخارفها وزينتها وأسلموا أنفسهم لله تعالى أعزهم اله وأيدهم بنصر منه ، فإنه هو القوي المتين ، إننا بحاجة اليوم إلى يقين تام بأننا غرباء في هذه الدنيا أو عابري سبيل ، وأن هذه الدنيا لا وزن لها عند الله إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا ، وأن نهاية الدنيا قريبة وإن بدت بعيدة ، { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } .
اللهم ألهمنا أسباب نصرك ، وانصرنا على أعدائنا ، واغفر لنا ذنوبنا فإنك أنت الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده يستحق الحمد كله ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .(1/1435)
أما بعد : فيا أيها الأكارم ، لعلكم تنتظرون مني أن أقول لكم أن من أهم أسباب نصر الصحابة هو اجتماع كلمتهم ، وإيمانهم بأن الوحدة سبيل إلى النصر ، وأن تنازع القلوب ، وتفكك الكلمة سبيل إلى الهزيمة ، إنها التربية الربانية التي انقادت لها تلك النفوس الطيبة ، ألم يقل الله تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } ، ألم يقل الله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } .
أي نفس نشأت على حب التنازع وعشق الفرقة فهي نفس مهزومة ولا شك ، أي نفس تسعى في تشتيت الشمل ، وتمزيق الاعتصام فهي نفس هابطة مهينة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ ) رواه الترمذي وصححه .
ألا تتفق معي ـ يا رعاك الله ـ أن الأمة اليوم تلاقي جبهة عدائية شرسة من الخارج ، لم تقف عند الاعتداء على حدودها أو أخلاقياتها بل تعدت إلى سوء الأدب على ربها وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم ، فما أقبح أن نكون فرقًا شتى ، يستغل العود فينا كل ثغرة أو ضعف فرقة ، وإن هذه الوحدة تبدأ من ألفة الزوجين إلى الأبناء إلى الجيران إلى المجتمع من حولنا إلى البلد بكامله إلى الأمة بأسرها ، هكذا كالبنيان المرصوص ، فإن الله يقول : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ، فما أروعها من نفس تتطهر الآن عن كل الأحقاد عن كل الضغائن ، لتعود من جديد نفسًا طاهرة لا تعرف إلى الحق طريقًا ولا إلى الحسد مسلكًا ، تتزاور في الله ولله ، وتعمر قلوبها بالمحبة الصادقة من دون غبش الدنيا ولا عتمتها ، تتناصح من أجلها سعادتها ، وتتحاور من أجل اجتماعها ، ويعذر بعضها بعضا ، ويصفح بعضها عن بعض .
وللحديث عن أسباب نصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية إن بقي في العمر بقية .
صلوا على القدوة العظمى ، والأسوة الحسنة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم احفظ هذه الأرض من شر الأشرار ، وكيد الفجار ، اللهم من أرادها وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده تدميرًا له ، اللهم رد كيده في نحره ، واجعله عبرة لمن يعتبر ، اللهم إنك أنت القوي فأمدنا بقوتك ، وإنك أنت الحليم فأسبغ علينا حلمك ، وإنك أنت الرحيم فأنزل علينا سكينتك ، وإنك أنت الرزاق فامنن علينا بكريم رزقك ، وإنك أنت العفو فاسترنا بعظيم عفوك ، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان ، وأمدهم بمدد من عندك وجند من جندك ،واحفظ ديارهم وأموالهم وأهليهم ، ورد عنهم بقوتك وجبروتك ، اللهم وفق أولياء أمورنا للعمل بما يرضيك ، واجعلهم هداة مهتدين ، سلمًا لأوليائك ، حربًا على أعدائك ، ووحد على الحق كلمتهم ،(1/1436)
ووفقهم لإصلاح رعاياهم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولأحبابنا ولجميع المسلمين ،وصلوا وسلموا على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــ
سقوط بغداد أم سقوط أخلاق؟!!!
يسري صابر فنجر
لما سقطت بغداد ودخلها العلوج أصاب كل مسلم إعصارٌ من الهم والغم والنكد والهزيمة والانحطاط والسقوط ؛ لفقد عزيز وأي عزيزٍ،وفقد قريبٍ وأي قريب،وكم لنا في العراق من آباءٍ،وأمهاتٍ،وأبناءٍ إنه ضياعٌ لمستقبل شعب، واحتلالٌ لأرقى دولة من دول الإسلام، وسألت نفسي سؤالاً ما هو حال من عاصر سقوط القدس؟ وهل الألم الذي أصاب كل مسلم من سقوط بغداد أم من الطريقة التي سقطت بها؟ إنها سهام متعددة،وطعنات موجعة:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالث
ولكن لا بد من الابتلاء، ويقابل الابتلاء بالصبر والرضا،حتى يفرز هذا الابتلاء جيلاً يأتي على يديه النصر،والأيام دول .
وسقوط بغداد -وقبلها القدس والخلافة الإسلامية- هو نتيجة حتمية لسقوط المبادئ والقيم والأخلاق،وضياع الدين بين فلسفات المتكلمين،وماديات الطبيعيين،فالقضية ليست سقوط دولة بل سقوط الشعوب الإسلامية في مستنقع من المادية الزائفة والشهوات الزائلة سواءٌ كانت تلك الشهوات قلبية(عاطفية) أو عقلية أو جسدية،وفي ظل ذلك فالحديث عن النصر وهم وسراب،والواقع يحس به كل مسلم ويكابده في ليله ونهاره.
أما أسباب التفاعل مع هذا الواقع،والارتقاء به إلى الفضيلة، وتكوين العدة الإيمانية التي تكون بها النصر،فذلك بأسبابٍ منها:
1ـ الرجوع إلى الدين بجميع جزئياته كما قال -صلى الله عليه وسلم-:" سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أبو داود(3462) وغيره وصححه الألباني فإذا تم الرجوع إلى الدين تمت العزة للمسلمين وأزيل الذل المسلط عليهم،ولا بد من لفظ كل الفوارق العرقية،والأهواء العقلية.
2ـ إن الإسلام أخذ في أحكامه بمبدأ الوقاية خير من العلاج،فلا بد من الوقاية قبل استئصال الداء،ولن يصَفَّى الصف المسلم من العملاء والخونة والمنافقين إلا بتربية الصف المسلم والارتقاء بمستواه إلى تطبيق مبادئ الإسلام،وقتها لن يجد العملاء والدخلاء مرتعاً خصباً في الصف المسلم يرتعون فيه، ولن تكون سمومهم ذات تأثير.(1/1437)
3ـ عدم التباغض والتحاسد بين الصف المسلم بسبب أمور الخلاف فيها واسع،قد وسع السلف الصالح خلافهم فيها، والعمل على تكوين الوحدة الإسلامية وإحياء مبدأ الولاء للمؤمنين وإلانة الجانب لهم وتآلف القلوب وإشاعة جو من هضم الذات،وظهور الأمثلة الحية من الإيثار" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" [الحشر:9].
4ـ عدم التكالب على الدنيا فهي حقيرة مهما عظمت،جيفة مهما تزينت،عفنة مهما تعطرت،فانية مهما بقيت،وطالبها في غفلة فإن أفاق قبل حلول الأجل وإلا ندم يوم لا ينفع الندم.
5ـ إعداد العدة والأخذ بأسباب القوة والأخذ بالأساليب العلمية الحديثة في أمور الدنيا بتكوين قوة إعلامية وحربية واقتصادية وطبية وغيرها تظهر عليها الروح الإيمانية والمظاهر الإسلامية.
6- العمل الجماعي والدولي يحتاج إلى مرجعية تفصل في الأمور وتتحدث بلسان الكل ويكون لديها من الإمكانيات ما يؤهلها لتحقيق ما قامت لأجله.
7ـ تنمية المؤهلات والقدرات التي تدفع الفتور أو اليأس في مسيرة العمل الإسلامي.
8ـ تربية الأجيال الصاعدة على تحمل المسؤولية، وإعداد الكوادر المستقبلية وإعطائها الفرصة لتحقيق الذات.
9ـ تربية الأفراد على الجلد والاجتهاد فالطريق شاق محفوفٌ بالأشواك وكلمة الجهاد ليست سهلة والمجاهد لا يعرف اليأس ولا القنوط بل يعيش بين الكر والفر وتتشعب لديه المسالك والضروب،وتكوين العقلية التي تملك القرار الصائب والمناسب لا يأتي من فراغ.
10ـ إقامة الاحترام المتبادل بين الكبير والصغير،والابن وأبيه،وحفظ حقوق العلماء وسماع نصحهم وإرشادهم والتأدب في الحديث معهم وعنهم.
وختاماً فإن النصر من عند الله ابتداءً وانتهاءً نسأل الله الصدق في القول والإخلاص في العمل والله المستعان وعليه التكلان ونصلي ونسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــ
دروس مستفادة مما حصل في العراق (*)
الدكتور الشيخ: علاء الدين زعتري
يقول الله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 156-157].
وقال تعالى: { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)} [آل عمران:140].(1/1438)
وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران:165].
وقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }[الشورى:30].
وقال تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
ليس المهم سرد الأحداث فقط، بل هي الدروس والعبر والاستفادة من الماضي لتجنب الأخطاء في المستقبل.
ولقد مرت بالأمة أحداث كبيرة؛ آخرها سقوط بغداد، وفيها عبر ودروس، أوجزها بما يأتي:
أول الدروس: هل فعلاً انتصرت أمريكا وحلفاؤها؟
يتحدث الناس عن انتصار أمريكا؛ وأنا أراه تفوقاً عسكرياً فحسب، وعلى الأقل حتى الآن، ولكن النصر الحقيقي لم يتحقق لأمريكا ولن يتحقق لها بإذن الله، ما دامت الأمة بوعيها.
وإذا كانت أمريكا قد دخلت العراق ، واستلمت بغداد، فهي قد سقطت أخلاقياً.
فأمريكا لم تلتزم بمواثيق الحروب التي نزلت في الكتب السماوية، ولا بمواثيق بشرية أقرتها القوانين الوضعية، ومَن سقط أخلاقياً فيكون سقوطه الكامل قريباً.
لقد سقطت أمريكا دولياً؛ لتحديها دول العالم، ولقد نُشرت أحصائية تبين استطلاعاً عن شعبية أمريكا داخل بعض الدول الصديقة لأمريكا؛ فقد وصلت شعبيتها في بعض تلك الدول إلى 25%، بل إلى 12%، وهي في نزول وانهيار بسبب حملتها الظالمة الجائرة، وتحديها العالم أجمع، فشعبية أمريكا خلال سنة فقط انهارت أكثر من 50%.
والأيام القادمة، والشهور القادمة، والسنوات القادمة تحمل مزيداً من العداء والكُره والبُغض لأمريكا، حتى من الشعب الأمريكي ذاته.
منذ عهد قريب كانت أمريكا تتهم المسلمين بالإرهاب، وليس الغريب أو العجيب أن تتهم أمريكا المسلمين بالإرهاب، فهذا ديدنها، وما هي إلا شهور فينكشف للعالم أن أكبر دولة إرهابية في العالم هي: أمريكا.
فقد ثبت باليقين أن أمريكا هي حاضنة الإرهاب، وداعمة الإرهاب، سواء في فلسطين وفي أقطار عدة من العالم.
وما حدث في بغداد، وفي العراق، وما تتوعد به الآن دليل على ذلك.
سئل وزير الدفاع الأمريكي بعد دخول بغداد: أين أسلحة الدمار الشامل؟
وبإجابة خبيثة تدل على ما تخفي الصدور، قال: إن أسلحة الدمار الشامل يبدو أنها هُرِّبت إلى سوريا!!(1/1439)
وأراد أن يكسب شيئين:
1- أن يقول للناس: نحن ما كذبنا أن في العراق أسلحة دمار شامل، لكن هرَّبها إلى سوريا.
2- حتى تكون ذريعة لمواجهة سوريا التي بدأت لها التهديدات الآن، وإذا دخلوا سوريا – ونسأل الله أن لا يحقق أمنيته – سيقول: هُرِّبت إلى بلد آخر، وهكذا دواليك.
لن تنعم أمريكا بالأمن ولا بالراحة ولا بالهدوء في العراق، ولن تستقر لا في داخلها، ولا في خارجها، بل ولن تستقر مصالحها لا في الداخل، و لا في الخارج، وهذا هزيمة نفسية وعاطفية كبرى لأمريكا بلا شك.
لقد انكشفت أمريكا على حقيقتها، وسقطت شعارات العدالة والحرية، والديمقراطية التي تغنَّت بها أمريكا طويلاً.
والبرهان على ذلك: ما حدث في العراق بعد سقوط بغداد، فلقد انتهى النظام الذي جاؤوا لإسقاطه، وإذ بالنهب والسلب قد بدأ تحت بصر وسمع ما سمي بقوات التحالف، وبمباركة أمريكية ورعاية بريطانية.
أين الحُرِّية التي جاءت بها أمريكا؟
لقد رأى العالم عامة والعراقيون بوجه خاص الفوضى والدمار والإخلال بالأمن والسرقات، فهل هذه هي حُرِّية العراق، كما تفهمها أمريكا.
الدرس الثاني: إن الجيوش والأمم إذا رُبيَّت على خدمة الأفراد وطاعتهم هُزِمت في لحظات، أما إذا رُبِّيت على طاعة الله – جل وعلا – انتصرت، وعاشت بين الأمم.
ومن آخر الأمثلة في ذلك: ما حدث في العراق، فلما هوى الصنم استسلم الجميع.
وبقراءة التاريخ يُلاحَظ أن الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد نَبَّه لهذا الأمر، الذي غاب عن أذهان القادة والحكام اليوم:
لما توفِّي صلى الله عليه وسلم وكان الموقف الذي وقفه بعض الصحابة من هول الصدمة والمفاجأة، حتى قال بعضهم، كما قال عمر: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يمت، وقد ذهب ليكلم ربه، قام أبو بكر فقال قولته الشهيرة:
( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
فليعمل المصلحون والقادة على جعل الناس يعبدون الله، ويكونوا مع الله في حبهم وفي بغضهم، قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163]، ولتكن محبة الأوطان وقيادات الأوطان بعد محبة الله الباقي الذي لا يحول ولا يزول.(1/1440)
الدرس الثالث: أثبت المسلمون أنهم عاطفيون، والعاطفة أمر مهم وجميل وجيد، لكن يجب أن تخضع تلك العواطف للعقل، والعقل يجب أن يخضع للشرع.
لاحظوا: بدأ سقوط بغداد بعد العصر! فما الذي حصل عشاءاً؟.
المسلمون في صلواتهم كانوا يقنتون في كل يوم، وفي كل صلاة، منذ بدء العدوان العسكري، فما أن حانت صلاة العشاء حتى أوقف القنوت! وكان الجواب الفعلي: انتهى الأمر!
وفي الحقيقة أن حاجة المسلمين للقنوت الآن أكثر من حاجتهم إلى القنوت من قبل؛ لأن العدو الذي جاء هو أعظم ظلماً وطغياناً وكبراً من الظالم الأول.
الدرس الرابع: عدم استعجال النصر، ودوام الثقة بوعد الله، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك.
ولعل من أسباب تأخر النصر: أن الأمَّة ليست أهلاً له الآن؛ وواقعها يشهد بذلك، وإلا فوعد الله لا يتخلف أبداً، ولكن مع تخلف أسبابه، ووجود موانعه؛ يتأخر، فإذا توافرت الأسباب، وزالت الموانع تحقَّق النصر بإذن الله، قال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم:6].
فلا تستعجلوا النصر، وأبشروا بالخير، وأمِّلوا بالجيل الحالي والقادم، واثبتوا على يقينكم، واصبروا بإسلامكم، وصابروا بإيمانكم، وسترون – بإذن الله – أو يرى أبناؤكم ما يسرُّهم ويسر هذه الأمة.
الدرس الخامس: أظهرت الأحداث مدى الحاجة إلى إصلاح الأمة في عامتها وخاصتها.
ففي الوقت الذي كان الطغاة البغاة يدخلون بغداد ويستبيحون هذه الدولة المسلمة بشعبها المسلم، فإذا مباراة تقام في الوقت نفسه يحضرها أكثر من (50) ألف متفرج!!!
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!
ألا نستحي من الله؟ ألا نخاف من الله؟ ما أحلم الله علينا! يقول تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر:45].
إن الأمة بحاجة إلى إصلاح في داخلها من أفرادها ومن عامتها وخاصتها، كلٌ منا يبدأ في بيته.
كثيراً ما تتوجه ألسنة الانتقاد، وأقلام التجريح للدول وللمؤسسات، لكن ما مدى تطبيق الإسلام على بيوتنا وعلى أنفسنا؟
ما مقدار قيام المسلم بأمر الله في صلاته، في عبادته، في إنابته، في أخذه بالحق، في ماله، في أكله، في شربه، في تربية أبنائه؟.
ألا ترى أنه ما زالت الاستراحات العامة تعج بروادها مع اختلاطهم؛ لهواً ولعباً، طعاماً وشراباً؛ تقليداً لأعمال الكافرين، ? إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ?[محمد:12]، ومقاهي الأنترنيت(1/1441)
مليئة بالشباب والشاباتمع سفاهة ما يرون وخسة ما يستخدمونه في الشبكة العالمية، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟!!، قَالَ: "فَمَنْ؟" رواه البخاري ومسلم وأحمد. ، والأسواق ما زالت مليئة بما لا يرضي الله؛ من الغش والكذب والتدليس والتعامل بالربا، الذي لم يذكر في القرآن حرب من الله إلا على آكله ومتعاطيه، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(278)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }[البقرة:278-279].
الدرس السادس: سذاجة الشعوب العربية والإسلامية وبساطتها.
شعوب ساذجة بسيطة، سواء المعجبون بصدام، أو المعجبون المرحِّبون بأمريكا.
كم ضاعت الأمة وهي تصفِّق للطغاة.
عشرون سنة أو ثلاثون سنة تصفِّق لصدَّام، وقبل صدَّام كانت تصفِّق لآخرين هووا وذهبوا، والآن يسقط صنم، فيرحبون بأمريكا ببساطة وسذاجة عجيبة جداً.
إذن هذا يحتاج إلى إصلاح الأمة، وإلى بث الوعي فيها أكثر من أي وقت مضى.
الدرس السابع: إن الأمة – في هذه الأحداث – ثبت أن فيها أخياراًَ وصلحاء، وعلماء ومجاهدين، رجال أثبتت الأحداث صدقهم، وفتحوا صفحات مشرقة بإيمانهم وحسن ظنهم بربهم، ذكَّرونا بعهد السلف – رضوان الله عليهم – من الرجال والنساء.
الأمة فيها علماء بررة، وصلحاء خيرة، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تسقط كانت هناك مجموعات من الأخيار ارتفعت أصواتهم، وجماعات من الشباب الصالحين، والفتيات المؤمنات؛ عبروا عن غيرتهم لدين الله، ولأرض من أراضي الإسلام، ولله الحمد.
فالخير موجود في الأمة، وقد ثبت في هذه الأحداث أن هناك رجالاً يتألَّمون ويتحسَّرون على واقع أمَّتهم.
الأمة فيها خير كثير، ولكنها تحتاج إلى جمع هذه الجهود وترتيبها، حتى لا تذهب هباء منثوراً، فهذه الطاقات، والقدرات الهائلة من الشباب المتحمس المندفع الغيور، أين العمل الجاد لتوظيف تلك الجهود في خدمة قضايا الأمة المصيرية المستقبلية؟.
الدرس الثامن: كانت هذه المحنة مفيدة للمسلمين الذين بدأوا يصحون من رقادهم، ويرتفعون في مستوى تفكيرهم، ويعودون إلى ربهم، ويتوبون إلى بارئهم، ويدركون ما يحل بهم، وبمَن حولهم.
الدرس التاسع: قوة الإعلام وأهميته في الحياة، قال تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة:32]، وقال تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].(1/1442)
فالإعلام هو الذي أدار المعركة أكثر من السلاح!
فلو تم إنفاق 50% على الإعلام، و50% على الاستعداد للجهاد من سلاح وغيره، لكان صواباً، وما ذاك إلا لأهمية الإعلام اليوم، والدعم أو الرعب الذي يبثه، فلا نقلل من شأن الإعلام، لأنه هو الذي يؤثِّر في الناس الآن.
الدكتور الشيخ: علاء الدين زعتري
سورية ـ حلب
E-Mail: alzatari@scs-net.org
(*) الموضوع اختصار لمحاضرة الشيخ ناصر العمر الله أكبر غلبت الروم
ــــــــــ ــــــــــ
الطاعة طريق العزة والتمكين
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله ولي المتقين وناصر ومعز عباده المؤمنين،أحمده سبحانه وأشكره جعل العاقبة للمتقين والنصر لعباده الطائعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يخرج عن تدبيره وقهره وسطوته خلق من العالمين وأشهد أن رسولنا وحبيبنا وأمامنا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالرسالة للثقلين الإنس والجان أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أما بعد:فأوصيكم عباد الله بتقوى الله فهي طريق العزة والتمكين يقول ربنا جل وعلا:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ}([1]).
دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه الذي قد زينه وبالغ في زينته حيث زين بالنمارق الذهبية وزرابي الحرير وأظهرت فيه اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة ، وجلس رستم على سرير من ذهب ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بأثمن الجواهر ، دخل عليه وهو بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة لم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، فهل احتقر نفسه ولبسه أمام أبهة العظمة والسلطان التي تذهب بالأبصار أمامه ؟ هل زاغت عينه يوم أن رأى الذهب والجواهر وبهر بها فصرفته عن مراده وغرضه ؟ لا . لأن في قلبه إيمان رفعه فوق الدنيا وزينتها وحلق به في السماء ، نظر إلى تلك البهرجة الدنيوية وتذكر جنات الخلد جنات عرضها السموات والأرض أعدها الله لعباده الصالحين وجعل الشهداء الذين سفكوا دماءهم في سبيله يتبوؤن أعلى المنازل بها ، وقارن مقارنة سريعة ما هذا الذهب وما هذه الجواهر وما هذه الزينة التي زين بها الإنسان دنيا زائلة إلى جوار جنة زينها بديع السموات والأرض فاحتقر تلك الزينة وأخذ يدلل لهم على احتقاره لها بغرسه لرمحه في تلك الفرش الحريرية وهو يتوكأ عليه ويمزقها به حتى وقف الذي شغل بإيمانه وجنة ربه أمام الذي شغل بدنياه وقوته وزينته ودار ذلك الحوار بين الفريقين واسمعوا لذلك الحوار ؟ يسأل رستم : ماجاء(1/1443)
بكم ؟ فلم يتلعثم ولم يفكر لأن الغاية واضحة في نفسه كالشمس فهم قوم ما خرجوا يقاتلوا من أجل تراب أو من أجل قبيلة أو عصبية أو من أجل أي شعارات من الشعارات الأرضية إنما خرجوا ليجعلوا كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، خرجوا من أجل نصرة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، خرجوا من أجل نشر لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فأجاب : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى
قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله ، قالوا : وما موعود الله ؟ قال الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي(2).الله أكبر ما أعظمها من كلمات لا تصدر إلا عن يقين عظيم وإيمان راسخ كالجبال الرواسي؛ كان ذلكم الرجل هو ربعي ابن عامر ولم يكن يمثل نفسه فقط بل كان يمثل أمة الإسلام بأكملها في ذلك الزمان التي عرفت أن طريق النصر والعزة والتمكين يبدأ بطاعة الله وينتهي بطاعة الله يبدأ بطاعة الله لأن القوي المقتدر يقول : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(3).تبدأ بطاعة الله لأن الله يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(4).وتنتهي بطاعة الله لن المليك المدبر يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(5). هذا المعنى كيف تغفل عنه أمة الإسلام اليوم وقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ : ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ..))(6). فكيف بأمة أغلبها من أولياء الله، للأمة آيات بينات في سيرة رسولها r تدلها على أن طاعة الله والاستقامة على منهجه هي طريق العزة والنصر والتمكين فهذا يوم بدر يوم أن أقبلت قريش بخيلها وخيلائها وحدها وحديدها تنوي استئصال الإسلام وإبادة أهله، فحشدت ذلك الجيش العظيم العدد والعدة، بينما كان جيش الإسلام قليل العدد والعدة ولكن كانوا قوماً أهل طاعة وإيمان كانوا قوماً تربوا على يدي رسول الله r فماذا حدث ؟ تعطلت القوانين المادية الأرضية وانتقلت قيادة المعركة من الأرض إلى
السماء:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(7).اشتركت جنود السماء مع جنود الأرض في المعركة وصدرت التوجيهات الربانية : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}(8).فكان النصر لأهل الطاعة والاستقامة وكان الذل والصغار على أهل المعصية والكفر ، وفي يوم الخندق الذي اجتمعت فيه العرب قاطبة وتمالأ معها اليهود من داخل المدينة على إبادة الإسلام وأهله ووقع المسلمون في شدة وضيق يصفها العليم الخبير بقوله:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ(1/1444)
وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ()هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}(9). لكنهم كانوا قوماً أهل طاعة أهل صلاح أهل استقامة أهل صلاة وقرآن ، وما كان الله ليخلف وعده لهم ويتخلى عنهم في تلك الظروف حاشاه سبحانه وبحمده فجاء النصر الإلهي والذي عبر عنه القوي العزيز بقوله : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}(10).فأذل الله وأخزى أهل المعصية والكفر والطغيان ونصر أهل الطاعة والاستقامة والإيمان وأخبرنا عن ذلك بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}(11).أيها الأحبة في
الله وقد يأتي الشيطان فيقول لأحدنا هذا رسول الله مع صحبه وذلك خاص بذلك الزمان ولا مكان له في غيره ، فنقول له لا والله بل هي قاعدة مضطردة خالدة إلى يوم القيامة وضعها رب العالمين بقوله : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}(12). فهذا أبو مسلم الخولاني يقتحم النار التي أو قدها له الأسود العنسي الكذاب فتستحي النار أن تحرق رجلاً ألقي فيها من أجل لا إله إلا الله فلا تحرق أبا مسلم بإذن الله ويخرج منها سليماً كما دخل، وهذا عقبة بن نافع لما افتتح القيروان جاء إلى غابة مليئة بالهوام والسباع فناداهم بأعلى صوته يا أيها الدواب إنا نازلون فاظعنوا وكررها ثلاث مرات فلم يبقى شجر ولا حجر إلا خرج من تحته دابة حتى شوهدت الوحوش وهي تحمل أولادها هاربة مطيعة لأمر ذلك القائد المسلم المطيع لربه(13)، وهذا الإمام أحمد يرسل إليه الخليفة العباسي بأن لدينا جارية تصرع فتعال لتقرأ عليها فيرسل الإمام أحد تلامذته بحذائه ويقول له خاطب الشيطان الذي فيها وقل له إن الإمام أحمد يخيرك بين أن تخرج وبين أن تضرب بهذا النعل فتأتي الإجابة من ذلك الشيطان بقوله:إن الإمام أحمد أطاع الله فأطاعه كل من في الأرض ولو أمرنا أن نخرج من العراق لخرجنا! الله أكبر فهل بعد هذا يشك أحد في أن طاعة الله هي مفتاح السعادة والنصر والعزة والتمكين في الأرض؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ}(14).
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله. فها نحن قد علمنا طريق السعادة والعزة فما نحن فاعلون ؟ ليعد كل منا وليتأمل في حاله وحال زوجه وبيته وأولاده هل هم من العباد المؤمنين الطائعين؟لينظر حاله مع الصلاة حاله مع القرآن حاله مع قيام الليل حاله مع بر الوالدين حاله مع صلة الرحم حاله(1/1445)
مع كل جوانب الطاعة، فإن كان مطيعاً فالحمد لله وإن وجد غير ذلك فليتب إلى الله وليعد لطريق الحق.ثم لينظر كل منا ماذا فعل ليكثر من عدد الصالحين في الأمة حتى يتنزل النصر على الأمة ؟ ماذا فعل مع أهل بيته،مع أقربائه،مع أهل حيه،مع زملائه في العمل؟معاشر المؤمنين إن أردنا لأمتنا نصراً وعزاً وتمكيناً وأمناً وغنى فلابد لنا من العمل على نشر الطاعة بين العباد وتحبيبهم فيها،وإلا والعياذ بالله فالتردي في الحال والمآل وقد قال الله في محكم التنزيل:{..إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..}(15).
---------------------
([1]) الأنبياء:105.(2)ابن كثير،البداية والنهاية،ج7،ص39.(3)محمد:7.(4)الأنفال:45.(5)الحج:41.(6)البخاري،الرقاق، ح(6021) .(7)الأنفال:17. (8)الأنفال:12.(9)الأحزاب10،11.(10)الأحزاب:9.(11)الأحزاب:25.(12)الروم:47.(13)عقيلان، أبطال ومواقف،ص188.(14)النور:55. (15)الرعد:11.
ــــــــــ
وتلك الأيام نداولها بين الناس
محمد بن شاكر الشريف
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد :
فإن جمهرة الناس ينظرون إلى قوى البغي والعدوان الممثلة اليوم في أمريكا وحلفائها على أنها قوى شريرة تمتلك المال والعتاد لإهلاك الحرث والنسل ، وأن لا أحد على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول قادر على أن يوقف إرهاب تلك القوة التي تمتلك إمكانات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية .
وينقسم الناس إزاء ذلك إلى فئات متعددة ؛ فمنهم الذي يبادر ويسارع في استرضاء أمريكا بتنفيذ سياساتها وإعطائها ما تريد ؛ على أمل أن تتفادى الانتقام الأمريكي أو الضربة القاتلة ، { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } ( المائدة : 52 ) ، ويجلس فريق آخر يائساً بائساً حزيناً كئيباً لا يرى في الخلاص من هذا المأزق أملاً ، فيجلس ينتظر متى يحين دوره كما تبقى الشياه تنتظر سكين الجزار ، ويبقى فريق ثالث يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً حقيقياً وصادقاً ، يؤمنون بما وعد الله ورسوله ، ويعلمون السنن التي يجريها الله تعالى في خلقه ، فهم يعملون بها ويتصرفون من خلالها ، ويغالبون قدراً بقدر حتى يأتي نصر الله الذي وعد عباده المتقين : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } ( المائدة : 52 ) .(1/1446)
إن علو أمريكا وحلفائها من قوى الشر والطغيان ؛ إنما هو دورة من دورات الزمن ، وإن الزمن لن يقف عند هذا الحد ، وإن التاريخ لن ينتهي بهذا المشهد بل ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) .
من كان يظن عندما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد الله العلي الكبير ، ونبذ الشرك وعبادة ما سوى الله تعالى ؛ بين ظهراني مشركي مكة وساداتها ، واشتداد أذى صناديد كفار قريش لمن آمن من المسلمين ؟!
من كان يظن أن بلال بن رباح ذلك العبد الأسود الحبشي الذي لا قيمة له في نظر المشركين ، والذي كان يُعذَّب في وقت الظهيرة في بطحاء مكة الملتهبة ، من كان يظن أنه سيرقى يوماً ما على ظهر الكعبة في وجود أشراف قريش وسادتها وهم ينظرون إليه ولا يملكون إلا النظر ، وهو يردد بصوته الجهوري الندي وهو آمن ما يكون : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ... ؟!
هذه صورة وقعت في الماضي وغيرها كثير لم يكن أحد يتخيل حدوثها في ظل موازين القوى المختلفة بين الفريقين ، ففريق قوي مسيطر يملك كل شيء ، وفريق آخر ضعيف مستعبد لا يملك شيئاً ، ومع ذلك فقد حدث الذي حدث ، وسيحدث من مثله ما شاء الله أن يكون ، يدرك ذلك المتقون المؤمنون ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة قبل الفتح ، عندما قال له بعضهم من شدة ما يلاقي من الأذى ولا يجد ما يكف به ذلك : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا ؟
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : « والله ! ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله ، أو الذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون » [1] .
فهذا الصحابي لما رأى من شدة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان الضعيف مادياً في ذلك الزمان ، وبين معسكر الكفر القوي مادياً ، ورأى من خلال المقاييس والحسابات المادية والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان المسلمين النصر على العدو ، ورأى أن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية ؛ طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستنصار ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى الإحباط وفقدان الأمل ؛ يتمثل في أمرين :
الأول : التبشير بالنصر والتمكين ؛ وبغلبة الحق وأهله ، واندحار الباطل وجنده : « والله ليتمن هذا الأمر » .
الثاني : دعوته لهم بعدم الاستعجال ، حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل والعمل والجد والاجتهاد والجهاد : « ولكنكم تستعجلون » .(1/1447)
وهذا ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبر الأعداء وطغيانهم ؛ أن نبشر قومنا بأن النصر حليفهم وإن طال الزمان ، وأن على الباغي تدور الدوائر ، وأن ندعوهم إلى الإيمان الصادق والعمل الصالح ، والجد والاجتهاد والجهاد ، { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة } ( الأنفال : 60 ) ، والرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه هذا ينطلق من السنّة القدرية المكنونة في قوله تعالى : { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) ؛ أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة للمؤمنين على الكافرين ، وتارة للكافرين على المؤمنين ، وكل ذلك يجري بأسبابه التي قدّرها الله تعالى في إطار المشيئة الربانية التي تحوي حِكَماً عديدة من وراء علو الكافرين أحياناً وتسلطهم على المسلمين .
* أسباب إدالة الكافرين على المسلمين :
تجتمع أسباب إدالة الكافرين على المسلمين - أي غلبة الكافرين للمسلمين - في كلمة واحدة ؛ وهي : ( معصية المسلمين ربهم ) ، فمتى عصى المسلمون ربهم ، وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم ، أو بنكير ليس فيه تغيير ؛ عاقب الله المسلمين بذلك ، وأظهر عليهم الكافرين جزاء ما فعلوا ، وقد تبين من النصوص الشرعية أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم مهما كانت قوة العدو وعدده وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار ؛ إذا كان المؤمنون صادقين عاملين بما يجب عليهم ، تاركين لما نُهوا عنه ، قد أخذوا من أسباب القوة ما كان في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها ، وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ( المجادلة : 21 ) ، وقال سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ } ( الصافات : 173 ) ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ( غافر : 51 ) ، والآيات في ذلك كثيرة .
وكان عمر - رضي الله عنه - يحذر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من الوقوع في المعاصي ، ويقول لهم : « إن أهم أمركم عندي الصلاة » [2] ، ويبين ابن رواحة - رضي الله عنه - أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله ، ومعصية الكافرين لله ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة : « لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة ، والرأيُ المسير إليهم » [3] .
وقد كانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف تقاتل الجيوش الكافرة التي تربو على مائتين وخمسين ألفاً ، ثم يكون النصر حليف المسلمين ، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } ( البقرة : 249 ) ، ثم يعقب الله على ذلك بقوله : { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، والصبر هنا ، وفي مثله من المواضع ، ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس اليوم بمعنى الإذعان للواقع والاستكانة للظلمة المتجبرين ، فإن من كان هذا حاله فإن الله لا يكون معه ، وإنما الصبر المراد هنا هو حبس النفس عن الجزع عند ملاقاة العدو ، والثبات على الحق ، وعدم التخلي عنه أو التحايل(1/1448)
عليه ، وتحمل المشاق في الدعوة إلى الله والعمل الصالح رجاء ما عند الله من المثوبة [4] ، وقد بيَّن أهل العلم أن النصر والظفر قرين الطاعة .
قال الزجاج : « ومعنى نداولها : أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون » [5] .
وقال القرطبي : « { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس } ( آل عمران : 140 ) ؛ قيل هذا في الحرب تكون مرة للمؤمنين لينصر الله دينه ، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ؛ ليبتليهم وليمحص ذنوبهم ، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون » [6] .
ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على الطاعات والبعد عن الوقوع في المعاصي ؛ مثل أو أكثر مما يحرص على امتلاك السلاح المتقدم ، فإن السلاح المتقدم بيد العاصي الخوار الجبان أقل غنى من السلاح العادي بيد الطائع القانت لربه ، { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً } ( الأنفال : 17 ) .
* الحكمة من إدالة الكافرين على المسلمين :
ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكم عظيمة ، ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات التي عالجت غزوة أحد ، والتي ظهر فيها الكفار على المسلمين بسبب معصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بسبب ضعفهم أو قلّتهم ، قال الله تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } ( آل عمران : 165 ) ، وقال سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } ( آل عمران : 152 ) ، فبين أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت بشائر النصر ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في كتابه ( زاد المعاد ) ، نذكرها مختصرة مع زيادات قليلة تناسب المقام ، فمن الحكم والغايات المحمودة في ذلك : تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم . ومنها : أن النصر لو كان للمسلمين في كل مرة دخل معهم الصادقون وغيرهم ولم يتميز المؤمن حقاً من غيره .
ومنها : أنه لو انتُصر عليهم دائماً وكانوا على مر الزمان مقهورين لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة ، وهو إظهار الحق وإقامة الحجة على الناس .
ومنها : فضح المنافقين وإظهارهم للناس حتى يحذروهم ، وحتى يستقيم الصف بخلوّه منهم ، وذلك أن المنافقين عند هزيمة المسلمين يظهرون ما كانوا يكتمون ويصرحون بما كانوا يلوحون ، ومن هنا يدرك المسلمون أن لهم عدواً من أنفسهم يعيش معهم وبين ظهرانيهم لا يفارقهم ، فيستعدون لهم ويحذرون منهم ، وهذا من سنة الله تعالى أنه لا يترك المؤمنين مختلطين بالمنافقين من غير أن يُقدِّر(1/1449)
امتحاناً أو بلاء تتميز به الصفوف ، قال الله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ( آل عمران : 179 ) .
ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في الضراء كما هي في السراء ، وفيما يكرهون كما فيما يحبون ، فإن المسلم إذا ثبت على الطاعة والعبودية في السراء والضراء وفيما يحب وفيما يكره ؛ كانت عبوديته حقة ، وليس كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية . ومنها : أن الله لو نصر المؤمنين في كل موقف وكل موقعة فلربما طغت نفوس أكثر الناس ، وبغوا في الأرض ، ووقع في نفوسهم أن النصر من عندهم وليس من عند الله . ومنها : أنه إذا امتحنهم بالهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا وابتهلوا إلى الله وتضرعوا ، فيستوجبون بذلك من الله النصر والعز . ومنها : أن بلوغ الدرجات العالية في الجنة لا تنال إلا بالأعمال العظيمة ، ومن الناس من لا تبلغ أعمالهم تلك المنازل فيقيض الله لهم من أسباب الابتلاء والامتحان ما يرفع به درجاتهم . ومنها : أن الله يبلغ بعضاً من عباده درجة الشهادة التي هي من أعلى مراتب الأولياء ، ولا تنال هذه الشهادة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها . ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ؛ قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها الهلاك والمحق ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم ، فيكون ذلك سبباً في تعجيل العذاب في الدنيا للكفار وهلاكهم ، كما قال تعالى في بيان الحكمة من غلبة الكفار : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ( آل عمران : 141 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - : « وقوله { وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ } ؛ أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم » [7] . ومنها : تنقية المؤمنين وتخليصهم من الذنوب وآفات النفوس التي قلّما ينفك منها الناس ، كما قال تعالى : { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } .. إلى غير ذلك من الحكم والغايات المحمودة [8] .
* وسائل دفع غلبة الكافرين :
من أول هذه الوسائل : الإيمان الصادق والاعتقاد السليم ، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ إيماناً لا تخالطه شائبة ، إيماناً مبرءاً من البدع والقصور ، إيماناً يبعث على العمل الذي تتحق به المنجزات . ومنها : الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية ، فإن هذا أولى ما تُوجه إليه الهمم بعد الإيمان ؛ بحيث يكون الغالب على جماعة المسلمين الطاعة ، وتكون المعصية منغمرة في جنب ذلك ليس لها ظهور ولا فشو ، فقد قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : « أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ! إذا كَثُر الخبث » [9] ، ولذلك فإن من أهم ما يستحق العناية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقوم بذلك الأفراد والهيئات والدول ، فإن طاعة الله تعالى من أهم ما يجلب للمؤمنين نصره ، وللكافرين الهزيمة والخذلان ؛ ومنها : إعداد العدة المستطاعة لمنازلة العدو ؛ إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، والإسلام لم يطلب منا أن نعد العدة الكاملة القادرة على مواجهة(1/1450)
الكفار ، ولكن طلب منا أن نبذل جهدنا واستطاعتنا ، فقال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة } ( الأنفال : 60 ) ، وذلك أن النصر من عند الله وليس من عند أنفسنا وليس من سلاحنا . ومنها : ترك الوهن والضعف والتخاذل الذي يقضي على كل همّة ، ويجلب الذل والهزيمة في ميادين الجهاد ، وترك الحزن الذي يستحكم في النفوس فيحيلها إلى نفوس هامدة قابعة ليس لها قدرة على المواجهة ، قال تعالى بعد هزمية المسلمين في أُحد مسلياً لهم ومحرضاً لهم على الثبات : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( آل عمران : 139 ) . ومنها : اليقين بأن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم ، وإنما هذا ابتلاء من الله ، وأن الأيام يداولها الله بين الناس ، وأن على المسلمين أن يأخذوا بأسباب التغيير التي تغير
الأوضاع التي بها تمكن الكفار منهم ، قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) . ومنها : اليقين بما وعد الله عباده المؤمنين ، ومن ثم العمل على تحقيق الوعد ، قال الله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } ( النور : 55 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » [10] .
وقال : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر » [11] .
نسأل الله من فضله أن يجعل ذلك قريباً ، وأن يوفقنا للعمل بالأسباب التي تجعل الدولة للمسلمين على الكافرين .
________________________
(1) رواه البخاري ، كتاب المناقب ، رقم 3343 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ ، 1/6 .
(3) سير أعلام النبلاء 1/240 .
(4) انظر تفسير ابن جرير الطبري ، 2/624 ، 10/38 .
(5) زاد المسير في علم التفسير ، لابن الجوزي ، 1/466 .
(6) تفسير القرطبي ، 4/ 218 .
(7) انظر : زاد المعاد ، لابن قيم الجوزية ، ففيه المزيد من الحكم في هذا الباب .
(8) تفسير ابن كثير ، 1/440 .(1/1451)
(9) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، رقم 3097 ، و مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة ، رقم 5128 .
(10) أخرجه مسلم ، كتاب الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم 5144 .
(11) أخرجه أحمد ، مسند الشاميين ، حديث رقم 16344 .
ــــــــــ
وقام صائحهم بأعلو هبل( العصر).. ألا نجيب..؟؟؟
د.بنت الرسالة
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبي الهدى وآله وصحبه
الله .. يا نطف النخل وقد أُخذ عليها العهد والميثاق بإتباع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعزم الرواسي وأن لا تحيد..
وشددت الوصايا من ربنا( لا تمنن تستكثر ولربك فاصبر)..
بصبرا جميلٍ ومصابره ومرابطة ..
وما في الأرض أقوى من تقي ..... ولا في الأرض أبأس من مريب.
يا حملة سيوف محمد من أمة التوحيد ..!!
إن عبّاد هبل العصر .. ينادون .. أعلو هبل ..ألا من يجيبهم .. بل الله أعلى وأجل ..
أما من يشخص لهم يبين بفصيح البيان أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
نعم ورب محمد ... إن العزة لله .. والعزة لرسوله . والعزة للمؤمنين .
ولا ينكر ذلك إلا منافق .. جاهل ..
قال تعالى .. ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )؟
إنهم الجهلة الذين أغتروا بسلطان كبرائهم .. و سلاطينهم ..
وقال تعالى ( وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون)
هذه العزة المحنة لمن استعانوا بعزة العبد الضعيف . العاجز من كل وجه ، فأغتر بما لديه من ملك وجند ..
غرتهم تلك الأبهة والجاه والسلطان . ولم تتجلى لهم حقائق الأمور ..
فجهروا بقسمٍ منهم بعزة هذا الطاغوت الذي أطاعوه وداروا في فلكه إنهم الغالبون على كل من يخالفوهم .. أو يعترضوا على طريقتهم ..
فكانت المدافعة بين جند الحق المعتزون بالله وبين جند الغرور وعسكر الشياطين المعتزون بقوة وجبروت كبراءهم وساداتهم ..(1/1452)
ومالك المالك .. جبار السماوات والأرض المطلع على أحوال الفريقين .المهيمن على مجريات الملاحم التي يتواجهون فيها بينهم .. ينادي المعتصمين به . ليثبتهم فيقول : ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله مالا يرجون )..
إنه الرحمن الرحيم يواسي عباده المكلومين ، أن خصومهم يصيبهم مثل ما أصابهم من الآلام والجروح .. لكنهم لا يرجون ولا ينالون من ثواب الله شيئا ..
بينما يجزي المؤمنين لصبرهم في سبيل الله على ما أصابهم بإحدى الحسنين، وهو موعودهم الحق من ربهم..
فليسوا سواء .. قتلى الكفار في النار، وشهداء عسكر الإيمان في الجنة ...
وعليه .. فإنه تعالى يأمرهم .بإلتزام عقيدة الإستعلاء .. قال تعالى : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ).
إنه النهي الجازم من أن يدب في أبدانهم الوهن والضعف ..أو الذله والمهانة والصغار ،
أو أن يحزنوا وتكتئب نفوسهم عند حلول المصائب....
لأن ذلك الحزن في القلوب والوهن في الأبدان عون للأعداء على عباد الرحمن ..
أمرهم أن يدافعوا الحزن والأسى ، وأنه غير لائق بإيمانهم وبحقيقة توكلهم على مولاهم، وهو نعم المولى ونعم النصير لهم ..
إنهم الأعلى في الإيمان والثواب ، ولهم وعد أكيد بالنصر والتمكين ، ولهم حسن الثواب في الدنيا والآخرة ومن أصدق من الله قيلا .
يا كتائباً أُردفت بجند من السماء..!!
يخاطبنا مولانا فيقول : ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
فالكفار يسامون العذاب والألم مثلكم ... والعليم الحكيم الخبير يداول الأيام بين المؤمنين والكافرين جولة لهؤلاء وجولة لهؤلاء ..
ليميز المؤمن من المنافق بهذه المداولات من الإبتلاءات .. كالهزيمة في الميادين ..
يقول الشيخ السعدي في تفسيره لهذه الآية : ( لأنه لو أستمر النصر للمؤمن في جميع الوقائع لدخل الإسلام من لا يريده ).
فمن الحكم أنه في حصول الإبتلاءات في بعض المواقع يتميز المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام في السراء والضراء واليسر والعسر ممن ليس كذلك .
وفي قوله عز وجل : ( ويتخذ منكم شهداء).(1/1453)
إنه لعلو منزلة الشهيد عند الله تعالى ، جعل سبحانه وتعالى أن لا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من عباده من تقديم لأثمانها ..
و من رحمة الله بعباده المؤمنين ، أن قيض لهم من الأسباب ما تكرهه نفوسهم لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم .
وفي قوله تعالى : ( وليمحص الله الذين آمنو) أي يمحّصهم ويجلوا عنهم ذنوبهم وعيوبهم بالشهادة والطعان والجراح التي يصابون بها في ميادين المعارك في سبيل الله...
وكلها قد جعلها الرحمن مكفرات للذنوب ، مزيلات للعيوب...
وبها أيضاً يمحص المؤمنين من غيرهم من المنافقين في المجتمع ، فيسقط المرجفون الذين لا يزيدون إلجسد المؤمن إلا خبالا..
هذه الوقائع والصوارف تجليهم فيعرفونهم.. ومتى عُرفوا سيقوم جند الرحمن بإزالتهم من مجتمعاتهم ويتخلصون منهم ، ويبتر العضو الفاسد من الجسد .
وأما قوله ( ويمحق الكافرين ).
فالحكم من الله أن قدر هذه المصائب والإبتلاءات ليمحق الكافرين .. بحيث تكون سبباً لمحقهم واستإصالهم ..
ذلك أن انتصاراتهم ستدفعهم بلا ريب إلى الإزدياد في الطغيان ، مما يجعلهم مستحقون لمعاجلتهم بالعقوبة رحمة من الله بعباده المؤمنين فلا يمكثوا بين أظهرهم طويلا ..
فبهذه الإنتصارات ينكشف طغيانهم وجبروتهم مما يؤذن بسرعة حسابهم .
ويخاطبنا جل وعلا : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ).
ففيه استفهام استنكاري :
أي لا تظنوا أنكم ستدخلون الجنة من دون مشقة واحتمال أذى ومكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته ...
فإن الجنة أعلى مطلوب وأفضل ما يتنافس المتنافسون عليها ..
وكلما عظم المطلوب عظمت أسباب ووسائل الحصول عليه... كما عظمت الأعمال الموصولة إليه ..
ولا يدرك النعيم إلا بترك نعيم .
وهذه المكاره الدنيوية تعمل على تدريب العبد على الابتعاد عما يبعده عن جنان ربه ، وتجعله عارفاً لما ستؤول إليه أمور العسر والشدة ، وما ستنقلب إليه .
عندها تتحول هذه المحن عند أرباب البصائر إلى منحاً يسرون ويستبشرون بها ولا يبالون بها ..(1/1454)
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ..
يا بن ديني في أرض الكنانة وتونس والمغرب، في بلاد الحرمين وشامنا ويمننا وعلى رؤوس كل الجبال وسفوح الأرض..
ليت شعري .. يا بن أمتي في كل مكان وتحت كل سماء.
متى ننصر الله لينصرنا؟ . أما علمنا أنه تعالى حي قيوم لا يموت..
متى نبدأ الصلح مع ربنا ليصلح لنا أحوالنا .؟
أما علمنا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
إن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقامٍ لو أقسم على الله لأبره. ..
وهي تقيم فيه داعي الرشد ، التي تنتهي به إلى العز والشرف عند الله وعند الناس.
يا سقى الله أياماً تجمعنا فيها طاعة ، ونسأله تعالى أن يختمها علينا بالشهادة ، لتجمعنا الآخرة في دار الرضوان، إخوانا على سرر متقابلين... فالعاقبة للمتقين.
يا أمة الإستجابة والنصر .. لن يخلف الله وعده لرسله.
فلنجبر الكسر، ونقيل عثرة كل كريم فينا ومنا..
فالإسلام الكامل لم يدخل المعركة بعد ..لم يدخل الإسلام الكامل بعد في معركتنا مع عبّاد هبل العصر..
لا غيب الله يقيناً في صدورنا أن مولانا يجيب المضطر ولو كان كافرا إذا أنطرح بين يديه..
فكيف بنا ونحن لحمة الإسلام نسل امة منصورة بسلاحها المسدد..
تنصر بدعاء واحد منها لو أقسم على الله لأبره .
أما والله إن الله أكرم من أن يخزي نبيه في أمته... لن يخزي أمته وقد وعدها بالنصر المبين لطائفتها المنصورة حتى قيام الساعة..
أما وقد رحمهم جميعهم بأن كل من شهد لا إله إلا الله محمدا رسول الله دخل الجنة .. ولا يخلّد في النار مع الكافرين ..وإن سرق وإن زنى ..
إنه قدر هذه الأمة ..أن تجتمع عليها أمم كافرة حاقدة تتدافع لتحطم البنيان المرصوص فيهم الذي يشد بعضه بعضا ..فبشروا وسددوا وقاربوا ... ثم واستيشروا .. إن الله لا يخلف الميعاد.
لنمسك بخطام أسلحتنا المعطلة ..نهز سهامنا في الثلث الأخير من الليل..
وسينصرنا الله عليهم .. فإن كانوا على الأرض حصدناهم وإن أرتقوا إلى الفضاء أصعدنا الله إليهم لنقتلهم ، ويأخذ الله لنا بثأرنا منهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين.
وانا لندعوا الله حتى كأنما ****** نرى بجميل الظن ما الله صانع.(1/1455)
علم يقين ومكاشفة بأنه متى دوى نداء التوحيد الخالص فثم الرابطة الإيمانية تشدها العروة الوثقى .. التي تجمع الجسد بكل أعضائه الرأس فيه مع الساق ..
ولإن كبا أحدنا هوى الجسد كله لينتشله ثم نمضي ..
فكل منا له مقامه ودوره المعلوم في صناعة النصر المبين لأمة خير المرسلين ..
فالله الله أن يكون أحدنا هو من سيؤتى الإسلام من قبله ...
ثقة بالله وتوكلا عليه إنا نحن الغالبون بحوله وقوته..
ولإن لاقينا من أعداء ربنا العسر، ففي يمنانا يسرين قد يسرهما الله لأمة حبيبه المجتباة .
اللهم وحد صفوف المسلمين ، وأعلى كلمتهم ، وقوي شوكتهم ، و لاتذهب ريحهم ، والقي الرعب في صدور أعدائهم ، وأجعل قلوبهم على قلب أتقى رجل من أمة نبيك خاتم المرسلين ..
اللهم واجعلهم ممن استغاثوا بك فأغثهم ، ودعوك فأجبتهم ، وتضرعوا إليك فرحمتهم ، وتوكلوا عليك فكفيتهم ، واستعصموا بك فعصمتهم ، ووثقوا بك فحميتهم ، وانقطعوا إليك فآويتهم ، واستنصروك فعجّلت بنصرهم ، وأناخوا عند بابك فرحمت عبرتهم وتقبلتهم في الصالحين .
اللهم أدخلهم جميعهم بعظيم جرمهم في وسيع رحمتك يا أرحم الراحمين ..
اللهم أنصر دينك وكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
وصلى اللهم على نبينا وآله وصحبه وسلم.
والله من وراء القصد ،،،،
ــــــــــ
تأملات قرآنية ( متى نصر الله ؟ )
عامر بن عيسى اللهو
هذا سؤال لم يصدر من إنسان متضجر أو شخص ضعيف الصلة بالله تعالى وإنما صدر من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله ومن المؤمنين الذين وثقوا بوعد الله ( أم حسِبتُم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثلُ الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) سورة البقرة . فلماذا هذا السؤال إذا ؟!
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : إن سؤالهم ( متى نصر الله ) ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب فتبعث منها ذلك السؤال ، وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذ تتم الكلمة ويجيء النصر من الله . إنه مدخر لمن يستحقونه ، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله ، وعندما يشاء الله ، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون(1/1456)
فحسب إلى ( نصر الله ) لا إلى أي حل آخر . بهذا يدخل المؤمنون الجنة بعد الجهاد والامتحان والصبر والثبات والتجرد لله وحده وإغفال كل ما سواه وكل من سواه أ.هـ
إن الصراع بين الحق والباطل قديم منذ أن خلق الأرض ومن عليها ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) سورة البقرة . لكن الله تعالى وعد عباده بالنصر والتمكين في الأرض قال تعالى ( والعاقبة للمتقين ) سورة الأعراف .وقال ( وإن جندنا لهم الغالبون ) سورة الصافات . وقال عز شأنه ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض .. ) سورة النور . والسؤال الذي قد يُطرح بداهة يا أخي المسلم متى يتحقق هذا النصر ؟؟
فنقول إن الإجابة واضحة لمن تأمل كلام الله تعالى فوعد الله حق لا يتخلف ونصر الله مؤكد . لكنا لا نجد في كتاب الله أبدا أن النصر يُبذل للمؤمنين من غير تضحيات وابتلآت وصبر على الأذى من أجل الله بل على العكس من ذلك تماماً قال تعالى ( ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) سورة الأنعام . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس ( واعلم أن النصر مع الصبر ) رواه الإمام أحمد .
تريدين لقيان المعالي رخيصة *** ولا بُد قبل الشهد من إبر النحل
ووجدنا في كتاب الله تعالى أن الله ينصر من ينصره ( ولينصرنّ الله من ينصره ) سورة الحج . ( إن تنصروا الله ينصركم ويُثبت أقدامكم ) سورة محمد . ونصر الله يكون على مستوى الأفراد بأن يلتزم المسلم منهج ربه في كل صغيرة وكبيرة في حياته ، وعلى مستوى الأمة بإقامة دين الله في الأرض وتحكيم شرعه واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) سورة الحج . فنصر الله لا يتحقق إذا رُفعت شعارات جاهلية أو قومية بل لا بد من أن تكون إسلامية ونصر الله لا يتم إذا عُطل شرعه وكانت الحاكمية لغيره .
فإذا استقرت هذه الحقيقة في الأذهان والقلوب يأتي الجواب الإلهي الصريح ( ألا إن نصر الله قريب ) .
ــــــــــ
آداب الجهاد بعد انتهاء المعركة
أولا: إظهار التجلد للعدو، ولو أحرز انتصاراً على المجاهدين المسلمين.
المسلم عزيز على عدوه الكافر في كل وقت من الأوقات، حتى ولو بدا ذلك العدو منتصراً في بعض الأحيان، فإن عاقبته الذلة والمهانة، لأنه من أولياء الطاغوت والمسلم من أولياء الله، والله عز وجل يقول: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء(1/1457)
الشيطان إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً} [النساء: 76]. {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}{المنافقون 8}
والكافر يألم كما يألم المؤمن، ولكن ألم المؤمن يخف، لأنه يرجو من ربه النصر في الدنيا والثواب في الآخرة، ولذلك لا ينبغي للمؤمن أن يظهر الضعف لعدوه، بل عليه أن يتجلد ويريه من نفسه القوة: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، وكان الله عليماً حكيماً} [النساء: 104].
وقد سبق الحديث المتفق عليه أن المشركين لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة لعمرة القضاء، قالوا: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم [راجع ما سبق في الخيلاء في الحرب].
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يظهروا للمشركين أنهم أقوياء، بالإسراع في الطواف في الأشواط الثلاثة التي كان الععدو يرونهم فيها، وفي الشوط الرابع الذي لا يرونهم فيه راعى ضعفهم، فلم يكلفهم الإسراع فيه، كل ذلك من أجل أن يرى المشركون من جند الله قوة وجلداً.
ولقد نهى الله عباده المؤمنين عن الاستسلام وإظهار الضعف والحزن، وذكَّرهم بأنهم هم الأعلون على عدوهم، حتى في حالة نيله منهم وانتصاره عليهم، كما قال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139].
قال ابن جرير رحمه الله: "وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابهم من الجراح والقتل بأحد، قال ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأُحد، من القتل والقروح عن جهاد عدوكم وحربهم.. ولا تحزنوا ولا تأسوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم أنتم الأعلون، يعني الظاهرون عليهم، ولكم العقبى في الظفر والنصرة إن كنتم مؤمنين) [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/102)].
ويذكر الله المؤمنين بأن ما أصابهم يوم أحد، قد أصاب أعداءهم يوم بدر، وأصابهم شيء منه كذلك يوم أحد، وأن أيام الله التي يلتقي فيها أولياؤه وأعداؤه دول بين المسلمين وبين المشركين، إذا أخذ المسلمون بأسباب النصر أدالهم على عدوهم كما حصل يوم بدر، وإذا فرطوا فيها أدال عليهم أعداءه، كما حصل يوم أحد، ليميز الله صادق الإيمان من غيره، وليختار من المؤمنين - الذين انتهت آجالهم - شهداء تكريماً لهم، كما قال تعالى: {وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} [آل عمران: 140، وانظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/103) وكذلك الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/216-217)].(1/1458)
ويصغي جند الله لهذه الآيات التي تثير فيهم عزة الإيمان، فينسون ما أصابهم من قتل وجراح، ويدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم والدماء تسيل من أجسادهم، لملاحقة المشركين بعد انتهاء معركة أحد، فيستجيبون له ويخرجون في أثر العدو حتى بلغوا حمراء الأسد، ليرى الناس أن به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه قوة: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} [آل عمران: 172، وانظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن (4/176)].
ويوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس، أن يبثوا إشاعات كاذبة في صفوف المؤمنين لتخويفهم من أعاد الله، فيأتيهم من يقول لهم: إن المشركين قد جمعوا لكم جموعاً لا طاقة لكم بها، فيثبتهم الله ويزدادون إيماناً على إيمانهم، فلا يخافون إلا الله، بل يعتمدون عليه ويتوكلون عليه وحده: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
قال ابن جرير رحمه الله: (والناس الأوّل، هم قوم فيما ذكر لنا كان أبوسفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين، خرجوا في طلبه بعد منصرفه من أحد إلى حمرراء الأسد، والناس الثاني، هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد...) [جامع البيان (4/178)].
وعن عائشة رضي الله عنها: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم} قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال: (من يذهب في أثرهم؟) فانتدب منهم سبعون رجلاً، قال كان فيهم أبو بكر والزبير [صحيح البخاري رقم: 4077، فتح الباري (7/373)].
وبعد: فقد رأيتَ من هذه النصوص من الكتاب والسنة أن المؤمنين مهما أصابهم من البلاء، ومهما بدا أن عدوهم انتصر عليهم، حتى لو أصاب نبيهم بالجروح وقتل عمه حمزة وغيره من صناديد الصحابة، فإنهم هم الأعلون لا يضعفون ولا يستكينون، بل يظهرون لعدوهم القوة من أنفسهم بمطاردته وإظهاره بمظهر المهزوم في النهاية، فأين المنتسبون إلى الإسلام اليوم من هذه المعاني العالية التي سطرها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفيهم أسوة حسنة؟ إن المنتسبين إلى الإسلام اليوم ليروع غالب قادَتِهم شعوبَهم، ويدخلون عليهم الرعب من قوة أعداء الله، ويدعونهم إلى الاستسلام للكافرين ويركع غالب أولئك القادة لأولئك الأعداء ويذلون لهم، ناسين هذه المعاني الرفيعة وتلك الصفات الحميدة، في الأجداد الأوائل الذين لا يزالون يعيشون على فتات موائد جهادهم وتضحياتهم فلا حول ولا قوة إلى بالله.
(89)(1/1459)
الإقامة في أرض المعركة ثلاثة أيام بعد الانتصار على الأعداء
قد ينتصر في أول المعركة أحد الخصمين، وقد يستمر له النصر إلى النهاية، وقد لا يستمر بل قد يدال عليه خصمه، وليس النصر هو أن يصاب العدو بالقتل والجروح وأخذ الأموال والغنائم فقط، بل ذلك ومعه شعور العدو بالهزيمة الساحقة التي ييأس معها من العودة إلى المحاربة، وشعور الغالب بأنه الأعلى الذي أصبح مسيطراً وبيده زمام أمر المعركة السابقة، ويأمل أن يكون له النصر كذلك في معركة لاحقة.
ومن علامة الشعور بالهزيمة الساحقة أن يولي العدو هارباً لا يدري ما خلفه، بل لا يهمه إلا أن ينجو بنفسه، وهذا ما حصل في معركة بدر بالنسبة للمشركين فإنهم ولوا فارين مدبرين لا يلوون على شيء.
لا بل إن المشركين في أحد، وكانت الغلبة في ظاهرها لهم على المسلمين، ولكنهم لم يحافظوا على ذلك الغَلَب وذلك الانتصار عندما ولوا مدبرين، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تسيل أجسادهم دماً من جروح المعركة يتابعونهم، فكان ذلك ضرباً من الهزيمة، بخلاف المسلمين فإنهم –وإن بدا أنهم هزموا في المعركة فكان منهم سبعون قتيلاً وجرح الكثير منهم حتى نبيهم صلى الله عليه وسلم- مع ذلك أخذوا زمام مبادرة النصر بمتابعة المشركين، وهم على تلك الحال وفر المشركون عندما علموا بخروجهم إلى حمراء الأسد، وقد مضى ذلك قريباً في المبحث السابق.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حافظوا على انتصارهم في غزوة بدر، فأقام صلى الله عليه وسلم بها ثلاثاً، وكانت تلك عادته إذا غلب عدوه أقام بمكان المعركة ثلاثاً.
كما في حديث أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقُذِفوا في طُوى من أطواء بدر، خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحله... الحديث [البخاري رقم الحديث: 3976، فتح الباري (7/300) ومسلم (4/2203)].
وقال الحافظ في الفتح: "وقال ابن الجوزي: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة، وتنفيذ الأحكام، وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كان فيه قوة منكم فليرجه إلينا) [فتح الباري (6/181)].
وقال ابن القيم رحمه الله: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرصتهم ثلاثاً، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً، ثم ارتحل مؤيَّداً منصوراً قرير العين بنصر الله له...) [زاد المعاد في هدي خير العباد (2/100) وراجع البداية والنهاية لابن كثير (3/303)].
(90)
مواصلة التدريب القتالي وعدم القعود عنه(1/1460)
الجهاد في سبيل الله باق ما بقي في الأرض مسلم وكافر، فإذا أعد المسلمون العدة لمعركة مع عدو وانتصروا عليه، فعليهم أن يواصلوا الإعداد لمعركة أخرى مع عدو آخر – وسيأتي الكلام على إعداد العدة في فصل أنواع الجهاد إنشاء الله – والمقصود هنا التنبيه على أنه لا يجوز للمسلمين أن يكسلوا عن التدريب والتمرين على أساليب القتال وأنواع السلاح ركوناً إلى معركة انتصروا فيها.
وقد ظن بعض المسلمين بعد أن حققوا انتصاراً على الكافرين أن أمر القتال انتهى، وأنه لا حاجة بعد ذلك إلى اقتناء السلاح وإعداد العدة، بل جاء وقت الراحة والرخاء – هذا الظن كان بعد تحقيق النصر على العدو، فكيف حال من يزعم ذلك وهو مهزوم والعدو منتصر عليه – فكذب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الظن، وأمر بالاستمرار في إعداد العدة والتدريب، كما في حديث سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل – أي أهانوها واحتقروها ولم يُعْنَوا بها كما كانوا من قبل يهتمون بها استعداداً للحرب – ووضعوا السلاح، قالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: (كذبوا! الآن جاء القتال ولا تزال في أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى يأتي وعد الله، الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحَى إليّ أني غير مُلَبَّثٍ، وأنتم تتبعوني، ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام) [النسائي في كتاب الخيل (6/178) مطبعة الحلبي، وهو في جامع الأصول (2/570) رقم: 1049، قال المحشي: وإسناده صحيح].
وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى) [صحيح مسلم (3/1523) رقم الحديث: 1919].
(91)
دفن قتلى المسلمين في مصارعهم
والسنة أن يدفن قتلى المسلمين في مصارعهم – أي في مكان المعركة – ولا ينقلوا إلى المقبرة المعتادة، ولو كانت قريبة.
وقد ظن نساء الصحابة اللاتي قمن بالخدمة – من سقي وتمريض وغيرهما – في معركة أحد أن نقل الموتى إلى المقبرة – اعتباراً بالأصل – سنة فنقلن بعض الموتى مع الجرحى إلى المدينة، كما ثبت في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة [صحيح البخاري رقم: 2883، فتح الباري (2/80)].
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَهم أن يردوا القتلى إلى مصارعهم، كما في حديث جابر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة(1/1461)
[المصنَّف (5/278) رقم: 9604، أبو داود (3/514) رقم: 3165، النسائي (4/65) الترمذي (5/279) رقم:1771، وانظر نيل الأوطار (4/27) وكذا بدائع الصنائع (2/808) في الفقه الحنفي، والكافي في الفقه الحنبلي (1/356)].
ولعل من حِكَم أمره صلى الله عليه وسلم بردهم إلى مضاجعهم كون ذلك عبرة للمسلمين الذين يجيئون بعدهم، ويزورون ساحة المعركة فيتذكرون أعلام الجهاد في سبيل الله الذين حملوا على أكتافهم دعوة الإسلام، وضحوا في سبيل الله تعالى من أجل رفع راية هذا الدين، وهداية الناس له بكل ما يملكون حتى نفوسهم وروَّوا بدمائهم تلك الأرض التي مازالت شاهد صدق على البذل والتضحية.
وكذلك عندما يقف المسلم متأملاً أحداث الغزوة ومواقع حزب الله المجاهدين، وحزب الشيطان المحاربين، يأخذ في الدعاء لهؤلاء الذين اختارهم الله شهداء عنده.
وكذلك إرشاد للمسلم بأن يدفن في أي أرض يموت، ولا داعي لنقله من مكان إلى آخر فالأرض كلها أرض الله {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34] وإذا كانت الأرض تشهد لأهل الطاعة بطاعتهم، وعلى أهل المعاصي بعصيانهم فإن خير عمل يقدمه المؤمن – بعد الإيمان بالله – الموت في سبيله، ومضجعه الذي فاضت روحه فيه، وهو يجاهد في سبيل الله أولى به من غيره من بقاع الأرض، كما أن مرقده في ذلك الجزء الذي بلله دمه خير لهه من بقعة أخرى، وفي تفسير ابن كثير: عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يومئذ تحدث أخبارها} [الزلزلة: 4] قال: (أتدرون ما أخبارها) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب اهـ [تفسير القرآن العظيم (4/539)].
أما حكم نقل الميت من مكان موته إلى مكان آخر، فالذي يظهر في الشهيد عدم مشروعية نقله من مضجعه إلا لضرورة، كأن يقتل وهو في البحر، ولا توجد جزيرة قريبة بمكان دفنه فيها، أو لا يتمكن المسلمون المجاهدون من دفنه في مكانه لتغلب الأعداء الكافرين عليه، ونحو ذلك، لأن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بردهم إلى مضاجعهم وقد نقلوا إلى المدينة ظاهر في الوجوب فنقل الشهيد غير مشروع، بخلاف الأموات غير الشهداء، فقد رأى بعض العلماء مشروعية ذلك، ففي تحفة الأحوذي: "والظاهر أن نهي النقل مختص بالشهداء، لأنه نقل ابن أبي وقاص من قصره إلى المدينة بحضور جماعة من الصحابة، ولم ينكروا" [تحفة الأحوذي، بشرج جامع الترمذي (5/380)]، وقال الحافظ في فتح الباري: "واختلف في جواز نقل الميت من بلد إلى بلد" [فتح الباري (3/307)].
فقيل يكره، لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته، وقيل يستحب.(1/1462)
والأولى تنزيل ذلك على حالتين: فالمنع حيث لم يكن هناك غرض راجح، كالدفن في البقاع الفاضلة، وتختلف الكراهة في ذلك فقد تبلغ التحريم.
والاستحباب حيث يكون ذلك بقرب مكان فاضل كما نص الشافعي على استحباب نقل الميت إلى الأرض الفاضلة، لملة وغيرها والله أعلم" اهـ
ولكن ما جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفن الميت في مكان موته – في الأغلب – فالأولى عدم النقل.
(92)
التبشير بالنصر والفتح
الطائفة من الناس التي تشترك في بعض الأمور، كالعقيدة – أي عقيدة – أو التجارة، أو الأرض، يُسَرُّ أفرادُها إذا انتصروا على عدو لهم ينافسهم في شيء أو يحاول القضاء عليهم، ويحزنون إذا انهزموا وانتصر عدوهم.
وإذا أفرز جيش منهم لمحاربة ذلك العدو، فإنهم يتطلعون لأخباره ويتابعونها، ويودون أن تأتيهم تباعاً وأولاً بأول، لما في نتائج ذلك من السرور أو الحزن، والبقاء أو الفناء.
بل إنهم ليودون أن ينتصر من هو أقرب إليهم في العقيدة أو الفكر أو غير ذلك على من هو أبعد، ويتطلعون لأخباره كما يتطلعون لأخبار جيشهم.
وكان هذا واضحاً في أول الإسلام بمكة عندما انتصرت فارس، وهم وثنيون على الروم، وهم أهل كتاب، ففرح المشركون بذلك، وأخذوا يفخرون به على المسلمين، لأن أهل فارس والمشركين من العرب أهل أوثان، والروم أهل كتاب، كالمسلمين – في الجملة – وكان المسلمون يحبون أن تنتصر الروم على فارس، لما في ذلك من الإغاظة للمشركين وإنذارهم بأن الغلبة ستكون للمسلمين عليهم من باب أولى، لأنهم أهل الكتاب الحق، فذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنهم سيهزمون، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين.. فقالوا: أفنجعل بيننا وبينكم أجلاً، فإن غَلَبُوا كان لك كذا، وإن غَلَبْنا كان لنا كذا، فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين.
قال فمضت فلم يَغْلِبوا-أي الروم- فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أفلا جعلته دون العشر... والبضع ما دون العشر... فَغُلِبَ الروم، ثم غَلَبَت، فذلك قوله: {ألم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله... } [الروم: 1-5].
فقد بشر الله المؤمنين بأمرين:
الأمر الأول: غَلَب الروم على فارس كما مضى.(1/1463)
والأمر الثاني: نصر الله تعالى إياهم الذي سيفرحون به، ولذلك قال سفيان الثوري الذي روى القصة – بسنده إلى ابن عباس – بعد ذكر قوله تعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} قال: فبلغني أنهم غَلَبُوا يوم بدر.
لذلك كان من السنة أن يبعث المنتصرون بشيراً يبشر المسلمين بالنصر.
وقد بوب البخاري في صحيحه لحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه في قصة هدمه صنم خثعم – ذا الخَلَصة – فقال: "باب البشارة في الفتوح"
وأورد الحديث عن جرير قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تريحني من ذي الخلصة؟ وكان بيتاً فيه خثعم، يسمي كعبة اليمانية فانطلقتُ في خمسين ومائة فارس من أحمس-إلى أن قال-: فأتاها، فحرقها بالنار وكسرها، ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب قال: فبَرَّك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات [الحديث رقم 3076، 4357، فتح الباري (6/189، 8/70)].
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "وقد بعث عليه السلام – أي بعد بدر – بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح والنصر والظفر على من أشرك بالله وجحده وبه كفر: أحدهما عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة، والثاني زيد بن حارثة إلى السافلة... قال أسامة: فلما قدم أبي زيد بن حارثة جئته وهو واقف بالمصلى، وقد غشيه الناس، وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاصي بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، قال قلت: أبه أحق هذا؟ قال: أي والله يا بُنَي [البداية والنهاية (3/3033-304)].
وكانت البشارة بما يسر من الأمور التي يسارع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، بل ويكافئ من بُشِّر بما يسره المُبَشِّرَ على بشارته، وقد بوب البخاري رحمه الله لذلك فقال: "باب ما يعطى البشير" وأشار إلى قصة كعب بن مالك رحمه الله، فقال: "وأعطى كعب بن مالك ثوبين حين بُشِّرَ بالتوبة"
وقصة كعب في الصحيحين وفيها: (فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي، وضاقت بي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفَى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فقال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج – إلى أن قال: - فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما) [البخاري رقم: 4418،فتح الباري (8/113) ومسلم (4/2120)].(1/1464)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالبشارة من حيث هي، كما في الصحيحين عن أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن فقال: (يسرا ولا تعسرا وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا) [صحيح البخاري رقم: 3083، فتح الباري (6/191)].
(93)
استقبال المجاهدين والترحيب بهم
ومن حق المجاهدين في سبيل الله على من بقي من المسلمين في البلد أن يستقبلوهم ويرحبوا بهم ويشعروهم بالاحترام والتقدير، لما نالوه من مشقة في سبيل الله تعالى وما واجهوا من التعب والمشقة في الحروب، من الجوع والعطش ومفارقة المضاجع والظلال، ولكونهم أدوا الفرض وأسقطوه عن غيرهم، وهكذا كان السلف يعملون وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله فقال: "باب استقبال الغزاة" وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث السائب بن زيد رضي الله عنه، قال: (ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع) [صحيح البخاري رقم: 3083، فتح الباري (6/191)].
وبينت رواية الترمذي لنفس الحديث أن ذلك كان عند قدومه من غزوة تبوك، وفيه توضيح أكثر للمتلقين (الناس) وهو يدل على كثرتهم وهذا نصه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام) [الترمذي رقم الحديث: 2772، تحفة الأحوذي (5/281)].
وقال ابن القيم رحمه الله: فلمادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولدان يقلن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وبعض الرواة يَهِمُ في هذا، ويقول: إنما كان عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام... [زاد المعاد (3/12)].
هكذا كان السلف الصالح يعاملون المجاهدين في سبيل الله، يودعونهم عند سفرهم داعين لهم بالنصر والشهادة، ويكرمونهم عند قدومهم بالاستقبال والترحيب، لأن المقياس عندهم هو سبيل الله.
وكانوا إذا فرت طائفة من الجيش الإسلامي وتركته ورجعت إلى المدينة، بسبب ما رأت تلك الطائفة من كثرة العدو وغلبة ضعفها البشري عن التحمل والثبات، كانوا يستقبلون تلك الطائفة بالتأنيب(1/1465)
ويَحثُون التراب عليهم، ويعيرونهم بقولهم لهم: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله [السيرة النبوية لابن هشام (2/18) والبداية والنهاية لابن كثير (4/248)].
فهل بقي هذا المقياس للتكريم أو التأنيب عند المسلمين؟
لقد انعكست الأمور وانقلبت الموازين واختلت المقاييس وأصبح الخونة الجبناء الذين يبيعون الدين والأرض والشعوب للأعداء الكافرين، هم موضع التكريم وإذا خضع أحدهم لعدو المسلمين فركع له واستسلم وتآمر على شعبه ودينه وأرضه، ثم رجع إلي ذلك الشعب، رأيت غوغاء الناس وهم يركضون لاستقبال الزعيم والتصفيق له كأنهم قطعان من الحيوان، يهتفون بحياته ويثنون على خطواته، ويلقبونه بألقاب الفاتحين الأبطال، وقليل هم الذين يدركون الخيانة ويعرفون الخونة، فتراهم ينظرون إلى تلك الجموع الضائعة متعجبين مشفقين، يدعون لها بالهداية والإنابة إلى الله.
وهؤلاء القليل مغلبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، محاصرون من كل جانب لا يملكون أن يوصلوا إلى تلك الجموع الضائعة الخاسرة كلمة الحق عن طريق أقل وسيلة للإعلام، وإذا تجرءوا فقالوا كلمة حق بأي وسيلة اتهموا بالشذوذ والتآمر على مصالح الشعب والخروج عن الصف، وقيل فيهم ما قال أعداء الله من قبل في ذوي الصلاح والهدى والدعوة إلى الله بأنهم خارجون على النظام مفسدون، يريدون القضاء على مكاسب الشعب التي حققها له القادة الأبطال: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبان بطريقتكم المُثْلى} [طه:63].
وبمقدار ما تُسلط أجهزة الإعلام على أولئك الصالحين لتصفهم بكل أوصاف الذم حتى يظهروا أمام الجموع الضائعة بمظهر الشذاذ المفسدين الذين يجب نبذهم وعدم الإصغاء إلى آرائهم، بمقدار ذلك أو أكثر تكيل تلك الأجهزة المديح والثناء للأبطال المتآمرين حتى يصبحوا هم الملائكة الأبرار، الذين لا يريدون إلا الحق ولا يسلكون إلا سبيل الهداية والرشد، فيرتسم في أذهان الغوغاء أن هؤلاء الضالين المفسدين هم الهداة المهتدون، وأن أولئك المجاهدين – فعلاً – الأبرار، هم أهل الغواية والضلال.
وقد سبق هؤلاء الذين يقلبون الحقائق، فيظهرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، سبقهم إخوانهم الذين سجل التاريخ عليهم كل تصرفاتهم، فلحقتهم لعائن الله في الأرض وتنتظرهم نقمته في الآخرة.
{وقال فرعون ذروني أقتلْ موسى ولْيَدْعُ ربَّه، إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26].
قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد} [غافر: 29]
وليت الأمر يفق عند هذا الحد فقط، ولا يتعداه إلى التعذيب والإهانة والقتل والتشريد، وسيأتي مزيد بيان لهذا في الباب الثالث إنشاء الله عند الكلام على الابتلاء وأنواعه.(1/1466)
وممن ينالون التكريم والتعظيم أولئك العجول البشرية، الذين لا يذكرون الله إلا قليلا، بل ربما لو سألت الكثير منهم عن جهة القبلة ما دلك عليها، لعدم اتجاهه إليها، أولئك هم نجوم الرياضة وأبطالها الذين أصبحوا شغل الناس الشاغل قبل المباراة بالإعلانات عنها في جميع أجهزة الإعلام، وفي وقت المباراة بمراقبتها وتحمس كل طائفة لفريق منها، وبعد المباراة بالحديث عن البطولة والنصر، ورفع بيارق النصر والرقص في الشوارع والتصفيق وإزعاج الناس بأبواق السيارات وترديد علم المنتصر الذي يعرف به.
ومما يؤسف له أن يطلق على تلك الفرق أسماء غزوات كانت غرة في جبين التاريخ حقق المسلمون فيها انتصارات رائعة على أعدائهم، والآن تطلق على فرق عمد إلى إلهائها باللعب وتلهية الناس بها، حتى أصبحت مثل ثيران أسبانيا تتصارع ليتلهى بها الجمهور [راجع على سبيل المثال جريدة المدينة المنورة، عدد (4620) الصادرة بتاريخ 23 رجب سنة 1399هـ وعدد (4258) بتاريخ 11 رجب سنة 1399هـ وعدد (4615) بتاريخ 17 رجب سنة 1399 هـ].
وهكذا تجد التكريم والتعظيم للراقصات والمومسات اللاتي تتألق أسماؤهن وأشباههن من الرجال، ويلقبون بالألقاب الرفيعة: النجوم، الرواد العظماء، المبتكرون... وتفتح لهم أبواب الظهور، حتى يصبحوا أئمة الشعوب وقادتها في تحطيم الأخلاق والمعنويات والقضاء على الرجولة الشرف، وهكذا.
والسبب في ذلك أن المقياس عند عامة الناس انقلب من سبيل الله إلى سبيل الشيطان، فكان السلف يكرم أهل سبيل الله لأنه المقياس عندهم، وأصبح المنتسبون إلى الإسلام الآن يكرمون أهل سبيل الشيطان لأنه المقياس عندهم.
(94)
إشعار قادة البلاد المفتوحة بالتكريم
تأليفاً لقلوبهم
وينبغي أن يشعر المجاهدون في سبيل الله، أهلَ البلاد التي يتغلبون عليها ويفتحونها، بأنهم لم يفتحوا بلادهم ليذلوهم ويهينوهم، وإنما جاهدوهم لإعلاء كلمة الله تعال،ى وفي ذلك بركة وخير لهم، ومظهر ذلك تكريم بعض قادة البلاد، بأي نوع من أنواع التكريم التي تجعلهم يطمئنون للفاتحين ويألفونهم ويرحبون بهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة، فإنه أشعر أهلها بأنه لم يأت للقضاء عليهم وتدمير بيوتهم، على رغم ما مما عملوه معه صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه قبل الهجرة، من الإيذاء والفتنة والتآمر، لذلك أمر صلى الله عليه وسلم أن ينادى في القوم أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن [مسلم (3/1480) رقم الحديث: 1780].(1/1467)
وفي رواية: فقال أبو سفيان: أَدارِي؟ فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (نعم) [المصنف (5/376) رقم الحديث: 9739].
وفي أخرى، فقال له - أي للرسول صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن أبا سفيان رحل يحب هذا الفخر، فلو جعلت له شيئاً قال: (نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق على نفسه الباب فهو آمن) [أبو داود (3/416) رقم الحديث: 3021، وانظر المبسوط للسرخسي (10/38)].
وأنت ترى أن هذا الأمر الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، لا يختلف عن أي دار في مكة، لأن من دخل داره أو دار غيره وأغلق الباب مشيراً بذلك إلى عدم مقاومة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو آمن، ولكن ذكر أبي سفيان باسمه في ذلك الموقف طيَّب نفسَه، وجعله يتعجب ويستفهم: أداري، أداري؟ ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطه هذا الحق إلا بعد أن أسلم، كما في رواية أبي داود: (فأسلم بمر الظهران، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر...) الخ.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عزم على قتل بعض المشركين وعدم تأمينهم والعفو عنهم، وخشي أن يدخلوا في لفظه العام في قوله: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن...) استثناهم وأمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة وهم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خطل، فأُدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فقتل، وأما مقيس بن صبابة فأدركوه وهو في السوق فقتلوه أيضاً، وأما عكرمة فقد فر في سفينة في البحر، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، وأما عبد الله بن أبي السرح، فقد اختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه النبي أن يبايعه وهو ينظر إليه ولم يبايعه ثلاث مرات، وفي الرابعة بايعه وهو غير راض عنه، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: (ما كان منكم رجل شديد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله) قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: (إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين) [انظر مضمون هذه القصة في صحيح البخاري رقم: 4286، فتح الباري (8/15)، وصحيح مسلم (2/989) رقم: 1357، وسنن أبي داود (3/134) رقم: 2685، وجامع الأصول (8/373) وما بعدها رقم: 6148، 6149، والمبسوط (10/38-39)].
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
ــــــــــ(1/1468)
من أسباب نصر ونجاة الأمة
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
فإن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به ، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو ...
نصراً يعيد لها مجدها السابق ، وحماها المستباح ....
ولاشك أن الناصر هو الله تعالى وحده .... فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها ... ولا يشكون فيها ... عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس ....
ولكن الله تبارك وتعالى قد جعل لذلك النصر أسباباً وأمر بتحصيلها والاعتناء بها حتى تؤتي الشجرة ثمرتها ....
وقبل أن أذكر جملة من أسباب النصر المادية والمعنوية لابد من بيان سنة ربانية يترتب على فهمها حقيقة عقدية تؤهلنا إلى معرفة أسباب نصر ونجاة هذه الأمة المسلمة المستضعفة.... وهذه السنة هى :
* سنة الله في القرى:
* أولا : أنباء القرى :
قال تعالى: "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ "(100) هود.
** أى: قال قتادة: القائم ما كان خاويا على عروشه, والحصيد ما لا أثر له. وقيل: القائم العامر, والحصيد الخراب; قاله ابن عباس:
وقال مجاهد: قائم خاوية على عروشها, وحصيد مستأصل; يعني محصودا كالزرع إذا حُصد.
* مصير القرى المؤمنة:...
قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96) الأعراف.
** مصير القرى الفاسقة الظالمة:
قال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) هود.
أي كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود يأخذ جميع القرى الظالمة , فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم المهلكة إذ أخذهم.
وقال تعالى: "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا"(59) الكهف.
* وقوله :" وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم " وجعلنا لمهلكهم موعدا " أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذر.(1/1469)
وقال تعالى: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11) الأنبياء.
* وقوله: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة " هذه صيغة تكثير كما قال " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " وقال تعالى ": وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها " الآية. وقوله " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " أي أمة أخرى بعدهم.
وقال تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ(48) الحج.
وقال تعالى:" وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ(31) العنكبوت.
وقال تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8) الطلاق.
يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه ومخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: "وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله" أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله "فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا" أي منكرا فظيعا.
* * وفى السنة المطهرة:
* أخرج البخارى فى كتاب الفتن: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".
* وأخرجه مسلم أيضا فى كتاب الفتن..وقال النووى فى شرح مسلم:
قوله صلى الله عليه وسلم : ( أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : إذا كثر الخبث ) هو بفتح الخاء والباء , وفسره الجمهور بالفسوق والفجور , وقيل : المراد الزنا خاصة , وقيل : أولاد الزنا , والظاهر أنه المعاصي مطلقا . و ( نهلك ) بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة , وحكى فتحها . وهو ضعيف أو فاسد . ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام , وإن كان هناك صالحون ...
* وأخرج البخارى فى كتاب تفسير القرآن: عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ".
قوله :( إن الله ليملي للظالم )وفى رواية " إن الله يملي " وربما قال " يمهل "(1/1470)
قوله : ( حتى إذا أخذه لم يفلته ) بضم أوله أي لم يخلصه , أي إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه , وإن فسر بما هو أعم فيحمل كل على ما يليق به , والله أعلم .
* كيف يأخذ الله القرى وبما يهلكها:
قال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) الاسراء.
وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)الأنعام.
* والمعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية. "مجرميها" والأكابر جمع الأكبر.وهم الرؤساء والعظماء. وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد. والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة, قال مجاهد: كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم; كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم. ......
وقال تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) النحل.
وهذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت أمنة مطمئنة مستقره يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف , "يأتيها رزقها رغدا" أي هنيئا سهلا "من كل مكان فكفرت بأنعم الله" أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار"
ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه
وقوله:" والخوف" وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه.
* والله لايهلك القرى الا بعد الانذار:.
قال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ"(59) القصص.
وقال تعالى: "ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131) الأنعام.
أى: لم يرسل إليهم رسول يبين لهم؟(1/1471)
* وما من قرية الا سترى ذلك أو نحوا منه كله مقدر عند الله فى كتاب:
قال تعالى: " وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ(4) الحجر.
أى: أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ.
وقال تعالى: " وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا "(58) الاسراء.
* أى: هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم "عذابا شديدا" إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم" وقال تعالى "فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا".
* وأخذه لايُعلم وقته وهو غيرُ مأمون:..... قال تعالى: " وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ "(4) الأعراف.
** أى: ليلا... أو نائمون بالظهيرة والقيلولة إستراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم, أي مرة جاءها ليلا ومرة جاءها نهارا..
الأعراف.
وقال تعالى: " أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ "(97) الأعراف.
* * أى: ليلا... وهم غافلون عنه...
وقال تعالى: " أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ "(98) الأعراف.
* * أى: أي وهم فيما لا يجدي عليهم; يقال لكل من كان فيما يضره ولا يجدي عليه لاعب,
وقال تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ "(94)
ومن العجيب أن مثل ذلك لم يحدث الا قليلا جدا مثل ما حدث فى قوم يونس كما فى قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}.
وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا؛ فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة. وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ وعن ابن(1/1472)
عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم. وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب. وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم
العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.
قال القرطبى: قول الزجاج حسن؛ فان المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا. والله أعلم.
* والنجاة من ذلك أن يكون أهل القرى مصلحين:
قال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117) هود.
أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق; أي لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد, كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان, وقوم لوط باللواط; ودل هذا على أن المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك, وإن كان عذاب الشرك في الآخرة أصعب. وفي صحيح الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده).[صحيح الجامع برقم:1973].
وقيل: المعنى وما كان الله ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون; أي مخلصون في الإيمان. فالظلم هنا المعاصي على هذا المعنى.
* ولذلك أمرنا أمرا جامعا لعل فيه النجاة:
فقال تعالى: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75) النساء.
أى: يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها ولهذا قال تعالى "الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية" يعني مكة كقوله تعالى "وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك" ثم وصفها بقوله "الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا أي سخر لنا من عندك وليا ناصرا.
* خلاصة:(1/1473)
مما سبق بيانه نفهم عدة حقائق:
1- أن القرى – الدول – منها ما يبقى ومنها ما يحصد.
2- أن البقاء والحصاد أمر رباني لا يحكمه ويقدره الا الله وحده لأن الملك ملكه والكون له وحده.
3- أن أعظم أسباب إهلاك القرى الظلم والطغيان حتى لو كان فيها إيمان.
4- أن أعظم أسباب البقاء والنجاة هو الإيمان والتقوى لتكون القرى طائعة عادلة.
5- أن هلاك القرى يبدأ بتسليط مترفيها ومجرميها عليها.
6- أن الهلاك لايتحقق الا بعد الإنذار من الله لعل القرى ترجع.
7- ما من قرية الا وسيأتيها هذا الإنذار والبلاء والعذاب...سنة الله سبحانه فى القرى...وحكمته إرجاع القرى قبل هلاكها...لعلهم يتضرعون.
8- ذلك الأخذ والإنذار لايعلم وقته لكل قرية الا الله وحده , ويأتى فجأة بلا مقدمات...وهو أمر مسطور.
9- من أعظم أسباب نجاة أهل القرى أن يكونوا مصلحين...ولذلك علينا بالصلاح والاصلاح والتمسك بأسباب النجاة والنصر.
* * أسباب النجاة والنصر:
أولا لابد هنا من معرفة أن النصر نوعان:
الأول: نصر العبد في نفسه منفرداً بالثبات على الحق حتى الممات:
فمن مات على الحق فقد نصره الله نصرأ فرديا مؤزراً.وهذا النوع من النصر جاء فيه مثل قول الله تعالى:" إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40 التوبة).
وهو بين فى أيات كثيرة من كتاب ربنا العلى حيث قال:
قال تعالى:" وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ"(40 الحج).
وقال تعالى:" إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51 غافر).
ويقول تعالى:" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ"(27 إبراهيم).
وقال تعالى:" وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(48 البقرة).
وقال تعالى:" أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ(86 البقرة).(1/1474)
وهذا النصر هو أعظم النصر للعبد ولايملكه له الا الله وحده قال تعالى:
" وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(197 الأعراف).
وقال تعالى:" وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (10 الأنفال).
وقال تعال:" وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"(47 الروم).
وقال تعالى:" وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62 الأنفال).
وقال فى حق من حرم هذا النوع من النصر:
قال تعالى:" فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ(81 القصص).
وقال تعالى:" وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(34 الجاثية).
* * والنوع الثاني من النصر:
هو المعلوم المعروف ....وهو نصر جماعة المؤمنين الذين رضى الله عنهم , على عصابات الكافرين الضالين الهالكين وهو الذى تبحث عنه الأمم جميعا حتى الكافرة التى ترفع رايات الكفر وتقول إن الله – بزعمهم وضلالهم – سينصرهم ,فأنت ترى قوى الكفر ترفع الصليب والعلمانية والصهيونية والإلحاد , وتقول الله ينصرنا ...والله سيهلكهم بكفرهم وطغيانهم كما علمنا سبحانه , لكن الأمة المسلمة الباحثة عن هذا النوع من النصر , لابد للأمة أن تقف على أسبابه وتعرف مقوماته , وهو ما سأذكر منه نبذة أو أذكر ببعضه....لكن من الأهمية بمكان أن تعرف أن النوع الأول من النصر هو من أعظم أسباب النوع الثانى فهو كالأساس بالنسبة له...ثم من الأسباب:
1- الإيمان بالله تعالى [ باطناً و ظاهراً ]:
قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )
قال تعالى : (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )
ولاشك أن من أسباب الهزيمة المعاصي .... ومن أسباب النصر الطاعات.
2- الصبر..[على الطاعة وعلى ترك المعصية والإبتلاء]:
قال تعالى : (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125آل عمران ) .
قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46 الأنفال) .(1/1475)
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200 آل عمران).
* وهنا أذكر أن المعاصى تمنع النصر وتورث الحرمان لمن عصى من الموحدين يدل على ذلك موقف يوم أحد حيث قال الله تعالى:" وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152 آل عمران)....وانظر الى قوله تعالى " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ"...
أخرج البخاري في كتاب المغازى عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقِينَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنْ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ (ابن جبير) وَقَالَ لَا تَبْرَحُوا إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا... في رواية " وإن رأيتمونا تخطفنا الطير "... فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَبْرَحُوا فَأَبَوْا فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا.. وفي حديث ابن عباس " فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون , وقد التفت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا - وشبك بين أصابعه - فلما أخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على الصحابة , فضرب بعضهم بعضا والتبسوا , وقتل من المسلمين ناس كثير...... ووقع عند الطبري من طريق السدي قال : " تفرق الصحابة : فدخل بعضهم المدينة , وانطلق بعضهم فوق الجبل , وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله , فرماه ابن قمئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته , وشجه في وجه فأثقله , فتراجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون رجلا فجعلوا يذبون عنه . فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف , فرمى طلحة بسهم ويبست يده . وقال بعض من فر إلى الجبل : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان , فقال أنس بن النضر : يا قوم إن كان محمد قتل
فرب محمد لم يقتل . فقاتلوا على ما قاتل عليه "..... وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ فَقَالَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ قَالَ لَا تُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ اعْلُ هُبَلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِيبُوهُ قَالُوا مَا نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِيبُوهُ قَالُوا مَا(1/1476)
نَقُولُ قَالَ قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي"..
* أرأيت أخي كيف تمنع المعاصي النصر....نسأل الله العافية
3- الإخلاص لله تعالى . [ أن يكون القصد نصرالنفس بالإيمان ونصر دين الله وإقامة شرعه ]:
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7 محمد) .
قال تعالى : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40 الحج) .
وعلامة الإخلاص ... في قوله تعالى:"الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41 الحج).
4- الإعداد المادي [ وأعدوا لهم].
قال تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ...(60 الأنفال).
فلما تركنا هذا التوجيه الرباني الكريم هنا على أنفسنا وصرنا مطمع لكل طاغية وكافر.
5- الائتلاف وعدم الاختلاف:
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46 الأنفال) .
فلما اختلفنا زرع الأعداء بيننا من ليس منا ... ليزيد الفرقة والتمزق ...وقسمونا عبادا وأرضا وأقليم..وقادونا بسياسة فرق تسد.... حتى صرنا قطعاناً تتناهشها الكلاب ....
6- التوكل على الله والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع بالدعاء إليه والإستغاثة به وحده:
قال تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159 آل عمران).
قال تعالى : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160 آل عمران)
قال تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250 البقرة).
وقال تعالى : ( ... أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286 البقرة).
7- الإقدام وفداء الدين بالنفس والنفيس:
قال تعالى : ( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23 المائدة)
ولذلك كان الانغماس في العدو من أفضل الجهاد لما ينتج عنه من علو في الهمم ، ورفع للمعنويات ، وبه تقوى عزائم أهل الإيمان ، وبه تتحطم معنويات أهل الظلم والطغيان ...وفي المقابل حُرم التولي(1/1477)
يوم الزحف وصار من السبع الموبقات لما يسببه من الهزيمة .... والتثبيط ...وتخبيل صفوف المسلمين.... ورفع معنويات العدو ....
8- الشورى والمشورة:
وذلك بمشاورة القائد [ حاكماً أو قائداً ] لأصحابه وبطانته [ من أصحاب الرأي والمشورة من أهل الحل والعقد وغيرهم ] وإشراكهم في صناعة القرار.... [ فتطيب النفوس وتقوى العزائم ...ويسدد القول والرأى]
قال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... (159 آل عمران).
قال تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (38 الشورى)
وهذا يشمل الجهاد وغيره من أمور سياسية واقتصادية وتعليم ومجتمع ...ألخ... فهو قاعدة عامة الحكم والقيادة.
9- طاعة أمراء الحق والدين و التصرف بإذنهم وعدم الخروج عليهم:
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ (59 النساء)}
وقوله : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ (62 النور)}.
10- تقريب الخيار وإبعاد الفجار وإتخاذ بطانة خير وبر لا بطانة سوء [كالخبراء والمستشارين]:
يقول تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72 الأنفال).
وقال تعالى:" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71 التوبة).
وحذر من بطانة السوء فقال سبحانه: " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ(113 هود)
ويقول تعالى:" لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28 آل عمران).
وقال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(144 النساء).
وقال تعالى:" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51 المائدة).(1/1478)
11- التصرف على وفق الشرع فى الشدائد والحروب وعند الملاقاة:
وهذا باب واسع يحتاج الى فقه عظيم وعلم دقيق للمسائل المتعلقة بذلك لكن أذكر منها على سبيل الإجمال:
أ- وحدة صفوف المقاتلين و تراصها:
لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4 الصف)}
ب- الثبات عند اللقاء:
لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45 الأنفال) }
ج- الإكثار من ذكر الله:
لقوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ(45 الأنفال) }.
د- الإستغاثة بالله سبحانه:
لقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9 الأنفال)}.
ر- إتخاذ الحيطة والحذر مع الأعداء:
لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (71 النساء)}.
" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ"(149 آل عمران).
س- السرية في القول و العمل ورد الأخبار إلى ولاة الأمور:
لقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83 النساء)}.
ع- الرفق بالمؤمنين و تحريضهم على القتال:
لقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ (54 المائدة)}.
لقوله تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47 التوبة)}.
ق- منع المتخلفين من القتال:
{ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ(83 التوبة) }.
ك- إرهاب الأعداء والغلظة عليهم:(1/1479)
لقوله تعالى : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ (60 الأنفال)}
وقوله :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً (123 التوبة)}.
هـ- دعوة من طلب الأمان من الأعداء إلى الإسلام قبل أي أمر أخر:
لقوله تعالى:" وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ(6 التوبة).
* ومن المبشرات:
" سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ"(151 آل عمران)
" وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ "(178 آل عمران)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196 آل عمران).
* وبعد أخي الباحث عن النصر فهذه نبذة فيها القليل مما ينبغى على الأمة ولعله ينفع مع قلته ..... اللهم أنصر الإسلام وأعز المسلمين واهلك الكفرة اعداءك أعداء الدين ...وأخرجنا منها منصورين بالإيمان غير خزايا ولا مفتونين , ولا مغيرين ولا مبدلين...أمين...اللهم ارحم الأمة واكشف الغمة...وأعد عليها أسباب نصرها وعزتها...أمين...أمين ...أمين .
هذا والحمد لله رب العالمين ولاعدوان الا على الظالمين وصلى اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين...سبحانك اللهم وبحمدك , أشهد الا إله إلا أنت , أستغفرك وأتوب إليك....
جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربى بن كمال
ــــــــــ
دور العلماء ورجال الحسبة في الانتصار العسكري والسياسي والحضاري
خالد بن عبدالله الغليقة
كلما ابتعد المجتمع الإسلامي عن الإيمان كلما بعد عن الأخلاق المنبثقة منه كالإنصاف وإنصاف الآخرين، وكلما بعد عن الإنصاف وإنصاف الآخرين، قرب من الانحطاط، وكلما قرب من الانحطاط ضربت عليه الذلة والمسكنة وارتفع عليه أعداؤه، وهذه صفة المجتمع اليهودي، لكن قد يحذو المجتمع المسلم حذو المجتمع اليهودي، كما قال I: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ من قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِراعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَن ْلتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جُحر ضبٍ لدخلتموه] (1) .(1/1480)
فقد وصف الله المجتمع اليهودي بالذل، وسبب ذلهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الذي يبعث على الإنصاف، فلم ينصفوا الأنبياء واعتدوا على اختصاصهم بالوحي، فقد قال الله عنهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].
وبما أن العلماء ورثة الأنبياء فعدم إنصاف المجتمع المسلم لهم، والاعتداء على تخصصهم، والتضييق عليهم بهذا يكون المجتمع المسلم تشبه بالمجتمع اليهودي، وحذا حذوه، فمصيره كمصيره الذلة والمسكنة والتشتت، كما هو واقع المسلمين اليوم.
ومما يدل على أن للمجتمع المسلم نصيباً من هذه الآية إ ذا فعلوا بورثة الأنبياء ما فعلته اليهود مع الأنبياء أن الله ذكر قبل هذه الآية (الخيرية) التي هي عكس (الذل والمسكنة والتشتت)، وشرط لتحقيقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المعلوم أن هذه من أكبر وظائف العلماء، كما أنها من أعظم مهام الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - .
قد يقول شخص لديه نقص يقين في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]،
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 14] إنَّ اليهود في هذا العصر مجتمعون غير مشتتين، وأعزاء غير ذليلين، ومنتصرون غير منهزمين، فكيف الجمع بين هذا الواقع وتلك الآيات؟
** الجواب:
أولاً: يجب اليقين بهذه الآية، واتهام البصر بعدم رؤية الحقائق كما ينبغي، وتوجيه التهمة للعقل بعدم الإدراك، فلا تناقض بين الآيات والواقع، ولا ينقض الواقع الآيات، إنما التناقض في عقل الشخص، وذلك دليل على نقص في اليقين، وبرهان على يقين ناقص، لذلك قال الشوكاني - رحمه الله -: قد وجدنا ما وعدنا - سبحانه - حقًّا، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر، ولا اجتمع لهم جيش إلا ويغلب بعد نزول هذه الآية: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]. فهي معجزة النبوءة ا هـ.
ولو عاش الشوكاني إلى هذا العصر - عصر احتلال اليهود القدس لم يغير رأيه، ولو أدرك الحروبَ بين اليهود والمسلمين لم يبدل حكمَه ؛لأن صفاتهم في القرآن ما زالت فيهم لم تتغير ولم تتبدل،(1/1481)
فالتشتت لم يتغير إلى تجمع إلا في أعين بعض المسلمين بسبب نقص يقينهم وذلة في قلوبهم، والمسكنة ما زالت مسكنة لم تتبدل إلى غنى إلا في تصور بعض المسلمين بسبب نقص يقينهم وفقرهم. والانهزام وعدم النصر عادة اليهود في الحروب ما بقيت السماوات والأرض، إلا أمام جيش مسلم شعاره الخوف، ورايته عدم اليقين بقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، والتشتت والتفرق خلق له، والخيانة من سلوكياته، فجيش يحمل صفات اليهود وشعارهم، وخلقهم، وسلوكهم، كيف ينتصر على جيش يهودي الأصل ؟ فاليهود في هذا العصر لم ينتصروا على جيش مسلم الإسلام الموصوف بالنصر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
ولم يهزموا جيشاً مؤمناً إيماناً مبشَّراً وموعوداً بالاستخلاف في الأرض، والتمكين في العالم، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
فإن قلنا: هذا هو الجيش الموصوف بالنصر، لكن الواقع تغير، وإن ادعينا بأن هذا هو الجيش المؤمن الموعود بالاستخلاف والتمكين، لكن اليهود ليسوا هم اليهود، فهذا إثبات للتعارض بين الواقع والآيات، وتثبيت للتناقض بين الآيات والواقع، فهذا دليل على نقص اليقين، وبرهان على اليقين الناقص لدى بعض المسلمين، فالعيب ليس في اليهود، والواقع ليس هو السبب، بل:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
فعيب الجيش المسلم شعاره(الخوف)، وذنبه رايته(عدم اليقين)، وسر هزيمته خلقه (الخيانة)، وخطؤه سلوكه (التشتت والتفرق).
فأي جيش يتصف بهذه الصفات عاقبته الهزيمة، وأي جيش هذه شعاراته وهذه أخلاقه وسلوكياته نهايته عدم النصر والتمكين.
وسبب تخلق هذه الصفات المانعة من النصر، وعلة تكوُّن هذه الشعارات والأخلاقيات والسلوكيات الجالبة للهزيمة: هو عدم التناهي عن هذه الصفات بين أفراد المجتمع المنبثق منه الجيش، وعدم إنكار هذه الأخلاق وتلك السلوكيات بين أعضاء الجيش، وسبب عدم التناهي وعدم الإنكار هو التضييق على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.(1/1482)
وأولى من يقوم بهذه الوظيفة هم العلماء، والعلماء هم أولى الناس بها، فالتضييق عليهم توسيع لدائرة المنكر، وتقويضهم فسح المجال لارتكاب المنهيات. فإذا اتسعت دائرة المنكر انتشر في المجتمع صفات اليهود الجالبة للذل والمسكنة، والجيش من المجتمع، وإذا فسح المجال للمنهيات حذا المجتمع حذو المجتمع اليهودي الجالب للهلاك،كما قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79].
وقال الرسول I: [إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: يا هذا! اتق الله و دع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض - ثم قرأ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، ثم قال -: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطراً (2)].
----------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري (3456)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد.
(2) أخرجه أبو داود (4336) من رو اية ابن مسعود.
ــــــــــ
جهاد فلسطين . . أمال عظيمة رغم الألام الجسيمة
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
عد أربعين عاماً على ضياع القدس وأسر الأقصى، وما يقرب من ستين عاماً على اغتصاب اليهود لفلسطين، ونحو تسعين عاماً من احتلال الإنجليز لها، وما يزيد عن قرنٍ ونصف من بداية التآمر عليها، بالتخطيط لما صار يسمى بـ (أزمة الشرق الأوسط)، وبعد تضحيات ضخمة في حروب كبرى فاشلة، وتنازلات فادحة في عمليات (سلام) خاسرة..، بعد كل ذلك؛ هانحن نرى تلك الأزمة تقف بأطرافها عند طريق مغلق وأفق مسدود، وأمل لا رجاء به إلا في رحمة الله اللطيف بعباده.
حصار متواصل يُشارك فيه القاصي والداني، وتآمر جديد يتحالف فيه القريب مع البعيد، وأعداء جُدد في الداخل لا يقلون شراسة عن أعداء الخارج، وأعباء حياتية إلى جانب التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، وتلاعب ومكر ونفاق على أعلى مستوياته الرسمية، وابتزاز وانتهازية من الفرق البدعية.. قتل وأسر، هرج ومرج، ونار وتضييق ودمار، دون قدرة على نصرة من قريب أو بعيد! ولم يعد هناك مخرج إلا الهروب.. نعم.. الهروب إلى الله، بل الفرار إليه، فهذا هو المخرج أيها المجاهدون والمرابطون: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50].
إنَّ الفرار إلى الله في هذه المرحلة ليس سيراً إلى مجهول، أو ذهاب إلى عدم؛ بل إنه انطلاق جديد مطلوب، وفق خطٍّ إلهي محسوب؛ أظهرته الآيات، وفصَّلته الأحاديث، وبيَّنتْه مجريات السنن الإلهية في(1/1483)
القديم والحديث. إنه طريق لا يمكن أن تكون له نهاية إلا النصر بإذن الله، بل النصر القريب؛ لأنه طريق طائفة اقترن اسمها بالنصر؛ هي الطائفة المنصورة التي أخبر النبي أنها ـ وإن تفرقت بعض الأزمان في بعض الأمصار ـ ستتركز مع مرور الزمن في بلادكم وحول بلادكم.. يا أهل فلسطين!
لن أخوض في هذه المقالة في تحاليل السياسة وتشعباتها وتقلباتها، وبخاصة في الآونة الأخيرة؛ فقد أصبح الأمر أكبر من حِيَل الساسة وأعقد من دهاليز السياسة التي لم تعد توصل إلا إلى طريق التيه، ومع تلك الورطات والارتباكات فإن الأمر يتجه بقوة نحو الوضوح العقدي الصارخ على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، بحيث صارت المواقف واضحة وضوح الشمس: قوم معتدون مغتصبون كافرون؛ هم اليهود وحلفاؤهم من النصارى، يتواطأ معهم ويدخل في حلفهم ظاهراً أو باطناً أقوام زائغون منافقون، في خطة فساد وعناد، تهدف في النهاية إلى إسكات صوت الإسلام في فلسطين، ولكن.. هيهات!
سأخصص هذه المقالة في تلك العجالة للتذكير بأمور، أعلم أن الكثير منها ليس بجديد، ولكن متى كانت الذكرى تحتاج لجديد؟! فأعظم الذكرى التي تنفع المؤمنين إنما تكون بالأمر العتيد الذي كثيراً ما نغفل عنه في زحمة الأحداث وتقلبات المراحل وتلبيسات الشياطين.
معانٍ عظيمة في النصر والهزيمة:
لا ريب أن كل جهود واجتهادات المجاهدين في فلسطين وغيرها إنما تروم في النهاية إلى تحقيق النصر أو بعض النصر، بالتغلب على المشكلات سياسية كانت أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، ولكن البُعد شبه الغائب عند بعضنا؛ هو إدراك أن أي نجاحات ـ بالمنظور الإسلامي ـ لا بد أن تستند أو تنطلق من رؤى شرعية واضحة تُبنى عليها السياسات وتُتخذ على وفقها المواقف؛ فلسنا مخيرين ـ ما دمنا مسلمين ـ في أن نخالف بين الموازين، أو نغير في المعايير التي نفصل بها بين الأعداء والأولياء، والتي تُحدد على أساسها المنطلقات والسياسات.
طريق الانتصار ـ إخوتنا ـ ليس مجرد بذلٍ وتضحيات، أو رسم مخططات وسياسات؛ فكل ذلك إن لم يستند إلى: (قال الله وسَنّ رسول الله) فإنه لا يُوصل إلا إلى المزيد من إطالة زمن الأزمة، وزيادة أمد المحنة.
لا شك ـ أيها المجاهدون ـ أنَّ النصر مطلب المؤمنين جميعاً في كل عصر ومِصْر؛ إذ به يحق الله الحقّ ويبطل الباطل؛ وتتحقق العزة ويزول الذل، وتدول دولة الباطل؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
لذلك فهو الأمنية الباقية في القلوب، والأمل الشاخص أمام الأعين؛ ينتظره الصادقون، ويتشوق إلى قربه الشرفاء، ضعفاء كانوا أو أقوياء؛ فالنصر قد يكون قريباً وقد يطول طريقه فيكون بعيداً، لكنَّ النفوس تتوق إلى النصر القريب: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(1/1484)
[الصف: 13]. صحيح أن العاقبة للمتقين، ولو بعد عشرات السنين، ولكنْ للنصر القريب أسباب تطوِي بُعدَه وتُقدِّم وقته، كما أن هناك من الأسباب ما يؤخرِّه، بل ما يرفعهُ ويمنعه.
إنَّ قول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]، يقدِّم بدهيةً عقدية، وحقيقةً رسالية، وسنةً إلهية، إذا نُسيت أو أُهملت فإنها تتسبب في فصل صفة القرب عن وصف النصر، مع أن قُرْبَ النصر نعمة لا تقل عن نعمة النصر نفسه. والنصر القريب يزداد قرباً كلما اختصر طريقه، ولا سبيل إلى اختصار طريق الانتصار إلا بتحقيق أسبابه (الشرعية)، ونُكرر: (الشرعية!)؛ فإذا كان النصر من عند الله فلا بد أن تُستمد أسبابه من شريعة الله، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، أي: ينصر مَنْ نصر دينه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - .
بوسعنا إذن أن نقترب من النصر ـ بإذن الله ـ أو نبتعد عنه ـ عياذاً بالله ـ ولهذا دعانا الله للأخذ بأسباب الاقتراب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
قال الطبري في تفسيرها: «إن تنصروا الله؛ بنصركم رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه من أهل الكفر به، وجهادكم إياهم لتكون كلمته العليا؛ ينصركم عليهم ويظفركم بهم؛ فإنه ناصر دينه وأوليائه»(1).
حقيقة النصر:
نعلم أن المجاهدين في فلسطين يجتهدون ـ زادهم الله توفيقاً ـ في الاقتراب من تلك المعاني، و لذلك فإن الكلام هنا عام، لا نخص به الفصائل المعروفة الآن فقط، بل هي وغيرها ممن سينضم إليها أو يلتحق بها، فلا يزال الطريق طويلاً، وستظل الحاجة ماسةً للتأسيس على معانٍ صحيحة.
جوهر الانتصار في الإسلام هو ما أشارت إليه غايات القتال والجهاد في سبيل الله، وأهمها ألا تكون فتنة بسبب علو الشرك والكفر، وأن تكون الدينونة لله، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وعندما تتحقق هاتان الغايتان فإن طرق الخير تنفتح، وأعظمها: باب الهداية والاستقامة على الدين، وبذلك يكون النصر لدين الله، ويكون مفتاحاً للطريق إليه وعودة الناس له عز وجل. وقد حَوَتْ (سورة النصر) إشارة باهرة إلى هذا المعنى، في قول الله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1 - 3].
ففتح الطريق إلى الله وتيسير السير إليه هو المعنى الأساس لأنْ يكون الجهاد (في سبيل الله)، ولهذا اقترنت آيات الجهاد والقتال في نصوص الوحي بِذكر (سبيل الله). وسبيل الله ـ كما قال المفسرون ـ هو: «طاعة الله». وعلى هذا؛ فكل جهاد لا يكون في طاعة الله ووفق دين الله فإنه لا يكون في سبيل الله.(1/1485)
وقد سُئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على ميقاتها»، فقال السائل ـ وهو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ـ: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»(2).
ولما سُئل: أيُّ الناس أفضل؟ قال: «مؤمنٌ يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»(3).
وقد سُئل النبي عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُرى مكانه؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو في سبيل الله»(4).
والقتال في غير سبيل الله لا يوصل إلى نصر الله، ولا يُبلِّغ الناس رضى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بل يؤدي إلى السخط والحبوط وميتة السوء، قال رسول الله: «من قاتل تحت راية عمية، يغضبُ لعَصَبَة أو يدعو إلى عَصَبَة أو ينصرُ عَصَبَة، فقُتِل فقِتلة جاهلية»(5).
وفي رواية: «من قُتِل تحت راية عمية، يدعو عصبية أو ينصر عصبية، فقتلته جاهلية»(6). والراية العمية ـ بضم العين وكسر الميم وتشديدها ـ هي عكس الراية الواضحة؛ فهي الاجتماع على أمر مجهول، لا يُعرف إذا كان حقاً أو باطلاً، قال النووي ـ رحمه الله ـ: «هي الأمر الأعمى لا يتبين وجهه، كذا قال الإمام أحمد. وقال: «هي أن يُقاتل لشهوة نفسه وغضبه لها، ويُؤيد هذا الحديث المذكور: (يغضب للعصبة، ويُقاتل للعصبة)، ومعناه: إنما يُقاتل عصبيةً لقومه وهواه». وإذا كان هذا يقال فيمن يقاتل على أمر مجهول، أو على عصبية جاهلية قبلية أو عنصرية أو حزبية غير شرعية؛ فما الحال فيمن يقاتل مع الكفار، أو يقاتل نيابة عنهم؟! هل يُعدُّ هذا أخاً، أو شريكاً، أو رفيق سلاح؟!
إن غياب هذه المعاني الشرعية (البدهية) وإحلال الشعارات الدنيوية اللادينية الدخيلة محلها عند بعض الناس، هو ما يهوِّن قضايانا، ويفضّ الصادقين عنها، وهذا ما حدث للقضية الفلسطينية طوال العقود التي رُفعت فيها الرايات العمية العلمانية، وغابت فيها الرايات الإسلامية.
ولما بدأ ظهور الأُطروحات الإسلامية، بظهور الفصائل الجهادية على أرض فلسطين في أواخر عقد الثمانينيات الميلادي، أي بعد أربعين عاماً من احتلال اليهود لها، مسَّت الحاجة إلى ترشيد هذا الجهاد وتقويمه ودعمه؛ حيث إن النُقلة من القاع إلى القمة لم تكن بالمهمة السهلة، والمجاهدون دائماً يحتاجون إلى التسديد والتقويم والتناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا عصمة لشخص أو فصيل أو جماعة بحيث لا تحتاج إلى نصح أو تذكير أو تقويم.
إن الجهاد عندما يكون في سبيل الله حقاً فإن الانتصار هنا يكون للمنهج المنَزَّل من السماء، قبل أن يكون للجنود المرصوصين على الأرض؛ ولذلك فإن انتصار المنهج ـ ولو كُسِرت الجيوش واستُشْهِد الجنود ـ لا يُسمى هزيمة؛ فالمنهج الحق لا يهزم، ولذلك لم يُهزم رسولٌ قط، وإنما يُبتلى أو يُصاب.(1/1486)
أما الأتباع فإن حاملي الحق منهم لا يُهزمون أيضاً هزيمة تطول أو تعم في الأرض، وحتى لو ارتفعت أرواحهم إلى السماء مع الشهداء؛ فإن قضيتهم تبقى الأساس في هداية الناس؛ فأصحاب الأخدود لم يُهزموا، وغلام الأخدود لم يُهزم، وأصحاب النبي لم يُهزموا هزيمة عامة، وإنما تلقوا درساً في طريق الانتصار كان سبباً في انتصارات أعظم، وكذلك فإن الشهداء المشهود لهم بالصدق في عصرنا لم يُهزموا، وإنما ابتلوا أو أُصيبوا؛ لأن المناهج التي حملوها وحموها بدمائهم وأشلائهم لم تسقط ولم تُهزم. {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ}[آل عمران: 146 - 150].
إن الهزيمة بمعناها الثقيل الصريح لم تنسب للمؤمنين أبداً في القرآن، ولكنها نُسبت للكافرين، كما جاء في قول الله ـ تعالى ـ عن هزيمة العماليق الوثنيين في فلسطين أمام داود ـ عليه السلام ـ وجنوده: {فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251].
لقد بدت أمامي من خلال استعراض الآيات التي ذُكر فيها النصر في القرآن ملاحظة عجيبة! حيث وجدتُ أن النصر لم يُنسب بلفظه قط إلى الكفار! قصارى ما يُمكن أن يُنسب إليهم هو (الغَلَبة)، والغلبة قهر قوة مادية لقوة مادية. صحيح أن بعض الكفار قد ينتصر بعضهم على بعض، لكن نصوص الوحي تُعبِّر عن ذلك بالغلبة أو الظهور فقط؛ لأن الأمر كما قال الله: {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، ولذلك لم يقل الله ـ تعالى ـ: انتصر الفرس، أو انتصر الروم، وإنما قال ـ سبحانه ـ: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} [الروم: 2 - 4]، وقد لاحظت أيضاً أن النصر يقترن دائماً باسم الله ويسند إليه سبحانه، مما يُفهم منه أن نصره ـ عز وجل ـ لا يُمنحُ لمن حاد عن منهجه؛ فهو سبحانه (النَّاصر) و (النَّصير)، ولعل هذا هو السبب في أن كثيراً من المفسرين ذهبوا إلى أن قول الله ـ تعالى ـ في آية الروم: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4 - 5]، إنما المقصود به نصر الله للمؤمنين المسلمين في غزوة بدر على مشركي قريش؛ حيث كان هذا النصر متزامناً مع ما وقع من غلبة الروم على الفرس(7).
ومع أنَّ الكفار قد ينتصر بعضهم على بعض انتصاراً مادياً محسوساً، غير أنهم لا ينتصرون على المؤمنين أبداً وإن غلبوهم أو نالوا منهم في الميادين في بعض الأحايين، وهذه الغلبة أو المصيبة التي تصيب المؤمنين أحياناً لا تكون أيضاً إلا بنوع من التفريط في أسباب النصر الشرعية؛ كما قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ(1/1487)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 165 - 166].
ويلاحظ هنا أيضاً أن لفظ الهزيمة لم ينسب لهم، وإنما سُمي ما حدث مصيبة.
للنصر أقوام:
هناك من يهيئهم الله ـ تعالى ـ لتَنَزُّل النصر الإلهي عليهم، وهؤلاء هم أصلحُ الناس أعمالاً وأقربهم امتثالاً للحق وأخذاً به، ثم الأمثل فالأمثل، وهؤلاء يكرم الله الأمة بهم من أجل إخلاصهم. ولذلك كان أبو الدرداء يقول لأصحابه قبل المعركة: «عملٌ صالحٌ قبل القتال؛ فإنما تقاتلون بأعمالكم»(8). وقد بوَّب البخاري ـ رحمه الله ـ في كتاب الجهاد باباً بعنوان: «عملٌ صالحٌ قبل القتال»(9). فالنجاة من فتنة الأعداء والانتصار عليهم إنما يكون بكثرة الصلاح وقلة الخَبَث، ليس في صفوف المجاهدين فحسب، ولكن في عموم الأمة التي تُمنَح النصر عن استحقاق، أو تخضع لسنن الابتلاء والتمحيص والتطهير.
وليس من قبيل الصدف أن يستقر وصفُ خلاصة الفرقة الناجية من هذه الأمة بـ (الطائفة المنصورة)، والوارد ذكرها في الحديث المتواتر: «لا تزال عصابةٌ من أمتي يُقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم كذلك»(10).
وحتى لا يقول قائلٌ: إن الحق هو كل ما يمكن أن يكون دفاعاً عن قضيةٍ عادلة، ولو كانت قوميةً أو وطنيةً أو تحت أي راية عمية علمانية؛ فإن الرواية الأُخرى من الحديث تُبين أن هذا (الحق) ـ الذي ينصر الله المتمسكين به والقائمين عليه ـ هو دين الإسلام نفسه؛ ففي رواية أبي أُمامة من ذلك الحديث جاء قول الرسول: «لا تزال طائفة من أُمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأْواء، فهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»(11). ونلاحظ هنا ـ أيضاً ـ أن الهزيمة لم تلحق بهم كوصف، وإنما جاء وصف اللأواء، وهو المصيبة أو البلاء الناجم عن شدة التربص بهم.
ووصفهم بالظهور هو وصف بالانتصار؛ فوصف (الطائفة المنصورة) مأخوذ من ذاك الظهور «على الحق ظاهرين»، «على الدين ظاهرين»، وهذا معناه أنهم لا يُهزمون هزيمة كاسرة قاهرة أبداً، وإنما يبتلون بقدر ما يُصلحهم. وقد كان من دعاء وثناء النبي على ربه ـ عز وجل ـ أن يقول: «اللهم لا يُخلف وعدك، ولا يُهزم جندك»(12).
انتصار الطائفة المنصورة لا يكون إلا بالحق وللحق؛ فالحق مقترن بمنهجهم وبغايتهم وبرايتهم، لهذا وُصفوا في الحديث بأنهم «على الحق ظاهرين»، وأنهم «يُقاتلون على الحق».
وهذا الحق ليس شيئاً آخر غير ما كان عليه النبي وأصحابه، ولذلك فإنه عندما أخبر عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، بعد افتراق اليهود ثم النصارى على إحدى وسبعين ثم اثنتين وسبعين(1/1488)
فرقة، سُئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن تلك الفرقة الناجية؛ فقال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»(13).
إن رابطة المنهج الحق هي الرابطة الوحيدة للطائفة المنصورة والفرقة الناجية من أهل السنة؛ وإن اختلفت لغاتُهم، وتفرقت أوطانهم، وتعددت قضاياهم، ولهذا لا يمكن القول بأن شعباً بعينه، أو جماعة بخصوصها، أو بقعةً بذاتها، هي موضع أو موطن الحق في كل الأحوال، وقد قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عن تلك الطائفة: «ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض»(14)، وإن كان هذا لا يمنع من تجمُّعهم بحسب ظروف وصروف الزمان من مكان إلى مكان؛ حيث يكثرون في أزمان في أمكنة، ويكثرون في غيرها في بقاع أخرى.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «دلَّ الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع ما عُلِم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتداءً من مكة أم القرى؛ فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي التي جعلها الله قياماً للناس: إليها يُصلون ويَحجُّون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم؛ فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة أن ملك النبوة بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان أظهر بالشام»(15)، وقال أيضاً وهو يعدد فضائل الشام كما دلت عليه النصوص: «وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسرى نبينا ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه، وطائفة منصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد كما أن مكة المبدأ؛ فمكة أم القرى، من تحتها دُحيت الأرض والشام إليها تُحشر الناس، كما في قوله: {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] نبه على الحشر الثاني، فمكة مبدأ وإيليا ميعاد في الخلق وكذلك في الأمر؛ فإنه أُسريَ بالرسول من مكة إلى إيليا، ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه حتى مملكة المهدي بالشام؛ فمكة هي الأول والشام هي آخر في الخلق والأمر في الكلمات الكونية والدينية». ا. هـ.
لواء الإسلام.. ومسؤولية أهل الشام:
كثيراً ما يراودني سؤال؛ فحواه: «هل الأمور القدرية الغيبية كلها مجرد غيب ينتظر، أم أن منها ما هو شرع يُمتثل وواجب يُستحضر؟».
إن سلفنا الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا لا يتعاملون مع أمور الغيب كلها على أنها أمور مستورة وينبغي أن تظل مستورة حتى تُظهرها الأقدار، بل إن منها ما كان عندهم يُستدعى ويُتسابق إليه. فلما علموا مثلاً أن الله ـ تعالى ـ سيورِّثهم خزائن كسرى وقصور قيصر، ولما سمعوا بأخبار فتح مصر، ودخول العراق، وانضمام الشام، وخضوع اليمن؛ تسارعت طلائعهم بُعيد وفاته - صلى الله عليه وسلم - إلى استخراج ذلك الغيب الصادق إلى عالم الشهادة الواقع، وعندما نُقلت إليهم(1/1489)
أخبار فتح القسطنطينية، والمناقب العظيمة المذكورة لفاتحيها؛ سارعوا وسارع من بعدهم إلى اقتناص الفرصة لنيل ذلك الشرف، وتسابقوا جيلاً بعد جيل، غير مبالين بالإخفاقات أو المعوقات لتحقيق وتطبيق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
«لتفتحن القسطنطينية؛ فلَنِعْم الأمير أميرها، ولَنِعْم الجيش ذلك الجيش!»(16).
وقد كان هذا الحديث دافعاً ووازعاً لأمراء المسلمين في التسابق إلى فتح القسطنطينية؛ للفوز بتلك المنقبة المذكورة للجيش الذي سيفتحها.
قال بشير الخثعمي ـ راوي الحديث ـ: «فدعاني مَسْلَمة بن عبدالملك، فحدثته؛ فغزا القسطنطينية»، وكان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قد وجَّه حملة بحرية إلى القسطنطينية عام 49 هـ، الموافق للعام 669 ميلادية، وقد شارك فيها جَمْعٌ من كبار الصحابة وقت ذاك، منهم عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ ولكنَّ تلك الحملة لم تُحقق أهدافها، واستُشهِد أبو أيوب الأنصاري فيها، فبعث معاوية حملةً أُخرى عام (54هـ ـ 674م)؛ ففتح المسلمون عدداً من المدن المحيطة بالقسطنطينية.
وحملات معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى القسطنطينية هي التي استشهدت فيها الصحابية الجليلة (أم حرام بنت ملحان)؛ حيث إنها كانت قد حدَّثت عن النبي أنه قال: «رأيت قوماً من أُمتي يركبون ثَبَجَ البحر كالملوك على الأسِّرة»، فقالت: يا رسول الله! اُدع الله أن يجعلني منهم! قال: «أنتِ منهم»(17)؛ فأرادت أن تتحقق هذه البُشرى، فخرجت مع جيش معاوية ـ رضي الله عنه ـ لغزو القسطنطينية، فماتت هناك ودُفنت بالقرب منها.
ثم وجّه الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك حملةً أُخرى في جيشٍ قُوامه نحو مائة ألف جندي، على رأسهم أخوه مَسلمة بن عبدالملك، وكان ذلك عام (98هـ، 717م)، غير أن حصار القسطنطينية لم يُفلح في فتحها هذه المرة أيضاً، رغم استمرار الحصار عاماً كاملاً. ولما جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وجد أن دولة الخلافة الإسلامية في عصره أحوج إلى جيوشها من فتح القسطنطينية؛ فأمر باستقدام القوات المرابطة حول القسطنطينية لِيُقوي بها دولة الخلافة، تاركاً هذا الفتح لجيلٍ قادم. وقد تحقق ذلك الأمر القدري في شكله الشرعي على يد السلطان العثماني (محمد الفاتح) عام (857 هـ ـ 1453م).
هذا مثالٌ تفصيليٌّ واحد يدل على كيفية تعامل المسلمين مع أخبار الغيب من الأمور القدرية التي تتعلق بها تكاليف شرعية، وأمثلة التسابق في هذا المضمار كثيرة، ومع كل ما حدث من تسابق لفتح القسطنطينية في الأزمنة السابقة فإنها تظل تنتظر فتحاً آخر سيكون في آخر الزمان، وهو ما أخبر عنه النبي في قوله: «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر»(18).(1/1490)
الشواهد كثيرة ـ لمن أراد أن يستقصيها ـ عن تطلُّع الصحابة الأخيار إلى تحقيق ما فيه خيرٌ مما صحت به الأخبار، والمقصود هنا: أن إخبار الرسول باتجاه رايات الحق وانتصابها في أرض (إيلياء) أو بيت المقدس، في زمان علو اليهود، لَهُو من البواعث الجاذبة للفوز بهذه المنقبة، ممن يستطيعُ ذلك من المؤمنين الأطهار، القادرين على خرق حاجز الانتظار؛ الذي يحْجرُ الكثيرين عن المشاركة في هذا الفضل بدعوى ترك القضية لأهلها، أو بزعم أن أهل مكة أدرى بشعابها!
إننا في زمان أعتقد ـ غير جازم ـ بأنه الزمان الممتد إلى وقت الصدام الأخير مع اليهود في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بل في سائر الأرض، عندما يتحقق (العلو الكبير) الذي أخبر الله ـ تعالى ـ عنه في أوائل سورة الإسراء في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} [الإسراء: 4].
حيث إن معالم ذلك العلو يتضاعف ظهورها مع الأيام، وبخاصة مع ركوب اليهود للأمريكان، وتحالفهم مع غيرهم من أطراف القوى الكبرى، وهو ما يقود حتماً ـ والله أعلم ـ إلى علو كبير ربما يفوق علوهم الشاخص اليوم على كل ما حولهم من قوى إقليمية. وليس من الممتنع ـ قبل دحر اليهود الأخير ـ من أن تكون الحرب معهم سجالاً؛ فيتقلب شأنهم ما بين خفض وارتفاع، لكن الطائفة التي سترغم آنافهم دائماً هي الطائفة المنصورة من هذه الأمة، التي حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقتهم في قوله: «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»(19).
لا ينبغي أن ننسى هنا ـ بالمناسبة ـ أن (دولة الدجال العالمية) التي أخبر النبي عن ظهورها هي دولة يهود، وفيها صولة اليهود؛ فهي إمبراطورية يهودية؛ لأن الدجال قائدَها هو نفسه يهودي وأمه يهودية، ويخرج من بلدة تدعى (اليهودية) في إيران، وذلك في قوله عن الدجال: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان»(20).
وأما أن هذه الدولة ستكون عالمية؛ فيدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور، ومسجد الرسول»(21).
إن وصف (بني إسرائيل) يشمل، من حيث الأصل، الضالين من النصارى إلى جانب المغضوب عليهم من اليهود؛ لأن موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ أرسلا إلى بني إسرائيل، ولكن التسمية غلبت على اليهود وعلى من كان على ضلالتهم في التدين بالتوراة المحرفة. ولذلك فإن العلو المذكور في سورة (الإسراء) المسماة أيضاً بسورة (بني إسرائيل) هو علو للطائفتين معاً ـ والله أعلم ـ وهو مايؤكد أن صداماً حتمياً سيقع بين الأمم الثلاث التي اختلفت في شأن المسيح الحق ومسيح الضلالة على أرض فلسطين وما حولها.
طلائع الدجال وطلائع الطائفة المنصورة:(1/1491)
أعود لما ذكرته من أن بعض أخبار الغيب ليست قدراً ينتظر بقدر ما هي شرع يُمتثل ويُستحضر، لأُذكِّر أيضاً بأن الأحاديث الدالة على بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، والمستوجبة لفرضية السعي لتكوينها أو تطويرها أو الالتحاق بها ـ هي نفسها الأحاديث التي يدل بعضها على أن وجود هذه الطائفة سيتركز ـ كلما تقارب الزمان ـ في بيت المقدس وما حوله، كما أخبر النبي في إحدى روايات ذلك الحديث؛ حيث سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مكان وجود هذه الطائفة فقال: «هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»(22).
إن هناك دلائل وقرائن كثيرة تدل على أن الفصائل المجاهدة في فلسطين اليوم وما حولها هي طلائع ومقدمات هذه الطائفة المنصورة المذكورة في الأحاديث، كما أن هناك دلائل وقرائن على أن عصابات اليهود الموجودة الآن في فلسطين وما حولها هي طلائع دولة الدجال العالمية التي لا يعلم إلا الله متى ستقع فتنتها، والتي لن تعمر كثيراً ـ بإذن الله ـ كما دلت الأحاديث. لكن مقصودنا في هذا المقال ليس في الجدال حول تفاصيل هذا النزال المستقبلي والحتمي، ولكن النقاش في مقدماته وإرهاصاته التي يأتي على رأسها: الجواب على سؤال: كيف يستجمع المجاهدون في بيت المقدس وما حوله أوصاف تلك الطائفة المنصورة؟
لتلك الطائفة خصائص وصفات لا بد أن يتمثلها اليومَ كل المجاهدين، وبخاصة في فلسطين التي تأخر النصر فيها كثيراً بسبب اختلاف الرايات والزعامات والمناهج. ومع أن كثيراً من صفات وخصائص الطائفة المنصورة بدأ يتجمع ويتوزع على فصائل المجاهدين بمجموعها، غير أننا نرى أن من المهم تكرار استحضار هذه الصفات؛ ليتعلم متعلم، ويتذكر متذكر، ويعود عائد، علماً بأن تلك الخصائص قابلة للتحقق في أي طائفة تقوى على استجماعها في نفسها؛ لأنها في الأصل تكاليف شرعية موجهة إلى عموم الأمة الخيرية في صورة فروض تُؤدى، وواجبات تُقام، وأخلاق تُلتزم، يفوز بفضلها من استقام عليها. وأهم هذه الخصائص والصفات:
1 ـ الاستمساك بالحق: لوصف النبي أهل هذه الطائفة بأنهم «على الحق ظاهرين»، أو «ظاهرين على الحق». ومعنى ظهورهم على الحق: التزامهم الظاهر بالدين كتاباً وسنة، على أُسس النهج القويم المبني على الدليل الشرعي الصحيح، والتوجه القلبي السليم؛ إخلاصاً لله، واتباعاً لرسول الله؛ فالاتباع والإخلاص هما ركنا قبول الأعمال، كما قال الله ـ عزَّ وجلّ ـ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وهنا لا يمكن أن نتصور أن يتنزَّل النصر والتمكين على غير المنتسبين للحق من أصحاب الرايات الضالة؛ قوميةً كانت أو بعثيةً أو يساريةً أو ليبرالية، أو على أي صيغة علمانية لا دينية، وكذلك لن ينتصر الدين القويم أو يتمكن بطائفة ضالة خارجة في مُعتقدها عن منهاج الفرقة الناجية المتبِّعة لمنهاج الصحابة؛ إذ إن الوصف الرئيس لطائفة الحق المنصورة هو ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/1492)
في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»، أما الذين يُكفرون الصحابة بدلاً من تعظيمهم والتزام هديهم، مع الادعاء بتحريفهم للوحي كِتاباً وسنة؛ فإنهم ـ وإن أحرزوا الغلبة في بعض الجولات ـ فإن هذا لا يُعدُّ نصراً للدين، وإن ادعى أصحابه أنهم (حزبُ الله)، أو تلقب زعيمهم بـ (نصر الله).
2 ـ القيام بالحق : فالطائفة المنصورة لا تلتزم بالحق فقط اعتقاداً أو تصديقاً، بل تقوم به تنفيذاً وتطبيقاً، ولهذا جاء وصفُ هذه الطائفة بأنها «قائمة على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»(23). ومعنى ذلك أنهم أهل استقامة ظاهرة كما أنهم أهل سلامة باطنة، وأن دينهم دعوة يحملونها ويدعون الناس إليها؛ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، لا يخشون في الله لومةَ لائم، وهم على هذا يجتمعون، وحوله يتحزبون.
{أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. فالقيام بأمر الدين، هو المهمة العظمى للرسل وأتباع الرسل، قال ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
3 ـ الدفاع عن الحق : فالطائفة المنصورة لا تعتقد الحق نظرياً فقط ولا تمتثل له عملياً فحسب، وإنما تُدافع عنه وتبذل دونهُ المُهَج والنفس والنفيس؛ فمن أبرز خصائص أهلها المذكورة في الحديث أنهم: «يُقاتلون على الحق»(24)، وفي رواية: «يُقاتلون على أمر الله»(25). وهو قتال في الميادين، وليس فقط على صفحات الكتب والدواوين: «يُقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها»(26) فهي طائفة علم وعمل، جدالاً بالحق وقتالاً على الحق، وسيظل هذا شأنهم حتى تضع الحرب أوزارها في آخر الزمان، كما دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(27).
4 ـ الظهور بالحق: فوصفُ النبي لهم بأنهم «على الحق ظاهرين»، يفيد معاني زائدة عن معنى الاستمساك بالحق، وهذه الصفة تحتمل ثلاثة معانٍ:
أولها: أنهم بارزون للناس، معروفون بهويتهم المنهجية الثابتة على الحق والمقاتلة عليه، دون مهادنة عاجزة أو مداهنة فاجرة.
وثانيها: ظهور حجتهم على الناس؛ فهم منصورون بالحجة والبيان، قبل نصرهم بالسيف والسنان.
وثالثها: أنهم في موقع الغلبة والعلو والتمكين بهذا الحق ومن أجله.
والواضح أن الظهور بالمعنى الثالث هو ثمرة الظهور في المعنيين الأولين. والثابت في ذلك أن الطائفة المنصورة، وإن اختلفت درجات ظهورها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، غير أنها تستعصي على القهر والزوال والاختفاء علمياً وعملياً.
5 ـ المصابرة على الحق: فالصفات السابق ذكرها تُبيِّن كلها أن أهل الطائفة المنصورة يأخذون أنفسهم بالعزيمة ويتواصون فيما بينهم بالثبات، وهذا ما لا يستطيعه المخذولون المُخذِّلون، الذين لا(1/1493)
يلقى المجاهدون منهم إلا التحبيط والتثبيط، بل الوشاية والتشويه، أما شأن المنصورين حيال ذلك فإنهم ـ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ «ولا يُبالون من يخالفهم»(28)، «ولا يضرهم من خذلهم»(29)، ويستمرون على نهج المصابرة والمرابطة، امتثالاً لقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
6 ـ البقاء على الحق : فالطائفة المنصورة قديمة الوجود، لم ينقطع وجودها عبر مراحل رسالات السماء، ولن ينقطع حتى تقوم الساعة؛ ففي كل الأجيال والقرون الإنسانية كانت هناك دائماً بقية تمثلها هذه الطائفة النقية، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } [هود: 116]، وهي امتداد للفرقة الناجية في كل ملة، كما دل على ذلك حديث افتراق الأمم الثلاث إلى أكثر من سبعين فرقة من كل ملة، ليس في كل منها إلا فرقة واحدة ناجية. وأول أجيال الفرقة الناجية في هذه الأمة هم أصحاب النبي الذين يُمثلون ذروة الخيرية في الأمة الخيرية، والمخبرون بأنهم خير القرون.
وقد استلزم هذا أن يكون شرط تعظيم الصحابة والاقتداء بهم أبرز شروط الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، التي سيظل أهلها يتعاقبون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(30) و«حتى تقوم الساعة وهم على ذلك».
إن المهام الجسام الملقاة على عاتق جيل النصر، القادم قريباً، ليست خاصةً بحماس وحدها أو غيرها من المنظمات الجهادية الفلسطينية، بل ليست خاصةً بالفلسطينيين وحدهم، ولا بالعرب دون غيرهم، بل إنها مهام كل إنسان رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً وسولاً؛ فمجموع هؤلاء ـ وإن كانوا متفرقين في أنحاء العالم ـ هم الذين اليوم، وغداً، سيُمثلون تمكين تلك الطائفة واقعاً محسوساً، بعد أن كان أملاً .
ويظل البقاء القدري للطائفة المنصورة مُسهِّلاً عملية بعثها ولمَّ شعثها وتوحيد صفها.
ولهذا نقول: إن إعداد أو استعداد أي طائفة مسلمة في أي عصر من العصور، وفي أي مكان من الأمكنة، لأَنْ تكون مستوفية لخصائص الطائفة المنصورة ـ لَهو أمرٌ مقدور شرعاً ومشروع قدراً، كيف لا وكل خصائص الطائفة المنصورة ما هي إلا تكاليف شرعية وواجبات دينية، يُعرِض عنها الأكثرون، ويَتَشبث بها الأقلون، الذين يتعوض ضعفهم العددي والعتادي بقوتهم العملية والعلمية؛ كما حدثت بذلك السنة الإلهية التي جاء الإخبار عنها في قول الله ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]؟!
إن الطائفة الصابرة المنصورة التي سيُقاتل آخرها المسيح الدجال تواجه اليوم مسؤولية الوقوف أمام دجاجلة العصر الذين يمهدون الطريق للدجال الأكبر، وليست مواجهة الدجال على أبواب بيت المقدس غداً بأولى من مواجهة طلائعه من الكفار والمنافقين داخل بيت المقدس اليوم.(1/1494)
[] اختصار خطوات الانتصار:
لديَّ يقين يتأكد على مر الأيام والسنين، وهو أن الاستقامة على منهاج الله تختصر المسافات وتطوي المراحل وتوفر وقت التجارب أمام المؤمنين، في أي نوعٍ من أنواع المواجهات والصراعات التي يخوضونها؛ فالتخبط المنهجي، والدَّخَنُ العقدي، والاضطراب القيمي والسلوكي..، كل ذلك يُؤخر النصر ويُعقد القضايا ويُطيل من عمر الأزمات، ولنا في هذه القضية بالذات ـ قضية فلسطين ـ أعظم العظة والعبرة؛ فليس أكثر من الحق فيها وضوحاً، وليس أشد من الأعداء فيها ظهوراً، وليس أعظم من المتعاطفين والأنصار لها حماساً وعدداً، ومع هذا وعبر أكثر من مائة عام ـ هي عُمر القضية ـ منذ وُضِع كتاب (الدولة اليهودية)(31).
فإن ما سُمي بـ (أزمة الشرق الأوسط)، كانت ولا تزال، أعقد وأطول وأكثر أزمات العصر استعصاءً على الحل والحسم، في حين أن أزمات احتلال غيرها بدأت وانتهت، وأخرى كادت تنتهي في سنوات معدودة وأزمنة محدودة، وآخر ذلك ما حدث في العراق، الذي لم يمر على احتلاله إلا أربع سنوات ونيف، ومع ذلك فإن الطريق إلى قهر العدو المحتل فيه قد اختصر اختصاراً؛ مع ضخامة العدو، وضآلة العون، وضحالة الإمكانات لدى المجاهدين، إلا من مدد النصر الإلهي المبين!
الأمة في حاجة إلى استحقاق العون الإلهي لطلائع الطائفة المنصورة على أرض بيت المقدس، كما رأينا ذلك العون لطلائعه على أرض العراق: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
------------------------
نقله لصيد الفوائد محمد جلال القصاص
ــــــــــ
القيادات الانهزامية في ضوء القرآن
طارق حميدة - رام الله
كثيراً ما تبتلى الأمم والشعوب بالهزائم وترك الديار وخسارة الأوطان والتشتت ومفارقة الأهل والولد والأحبة، ولا ريب في أن تلك الهزائم والنكبات لا تأتي من فراغ وإنما من خلال الأمراض الاجتماعية التي تعشش في النفوس والتي أوجدت القابلية للهزيمة مصداقاً لقوله تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، وفي القرآن الكريم لقطة خاطفة عن مجتمع لديه الأسباب المادية للنصر وكان بإمكانه أن يصمد أمام الغزاة ولكن النفسية الخائرة المهزومة لأبنائه جعلته يترك دياره للغاصبين لقمة سائغة فاستحق الموت المعنوي والحقيقي في البلاد التي هاجر إليها عقوبة من الله على سوء فعلته ، يقول سبحانه " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم(1/1495)
أحياهم " نلاحظ الاستهجان والاستغراب في فعلتهم من السؤال الإنكاري في قوله تعالى " ألم تر ؟" ..
والغرابة من وجوه : أولها أنهم خرجوا بإرادتهم واختيارهم ودون إجبار أو إكراه ، وثانيها أنهم خرجوا من ديارهم والأصل أن الديار والأوطان غالية عزيزة لا يغادرها أهلها بهذه السهولة ، ثم هم في ديارهم متحصنون بها أمام الغزاة ويعرفون مداخلها ومخارجها وأزقتها ، بينما عدوهم الذي يحذرون هجومه جاهل بكل ذلك ، ثم هم يخرجون من ديارهم الفسيحة المريحة التي لا يزاحمهم فيها أحد ولا يزاحمون فيها أحدا ، يعيشون فيها بكرامتهم . ولكنهم يتركونها إلى ديار مجهولة لا يعرفون ما ينتظرهم فيها وربما يضطرون إلى أن تجتمع عدة أسر قي بيت واحد أو خيمة واحدة أو مغارة أو تحت السماء ، ثم هم يزاحمون أهل الديار الجديدة في أرزاقهم فيصبحون محل نقمتهم واحتقارهم .
وثالثها أنهم خرجوا وهم ألوف فلو كانوا عشرات أو مئات لكان لهم بعض العذر ولكنهم آلاف لا بل ألوف وهي جمع كثرة حيث غادروا ديارهم وهم بعشرات الألوف أو بمئاتها . ومهما كان تعداد الجيوش الغازية فإنها تضيع في خضم أهل الديار فكيف يهربون وهم بهذا العدد الهائل ؟؟
والرابعة أنهم يخرجون حذر الموت فلم يكن خطر الموت والقتل ماثلاً أو واقعاً بهم ولا حتى متوقعاً بل هو الحذر والاحتياط من خطر قد يحل بهم ، فما بالهم يغلبّون الاحتمال الضعيف ويتجاهلون الاحتمال القوي وهو النصر ورد الغزاة خائبين إن هم واجهوهم ؟!
إن مجتمعاً تنحط فيه النفسيات والتفكير إلى هذا الحضيض لا يستحق الحياة ولا الكرامة ولا العزة ولذلك كانت العقوبة أن يموتوا ، لقد هربوا من الموت فلاقاهم ، ولو طلبوه لوهبهم الله الحياة ، هذا الموت قد يشمل الكوارث الطبيعية ومذابح أهل البلاد المضيفة وملاحقة الغزاة الغاصبين في البلاد الجديدة التي هاجروا إليها ، ويشمل الموت المعنوي بالذلة والاحتقار والاستهانة والاستهزاء بهم حيثما حلوا أو ارتحلوا جزاءاً وفاقاً ، وما ربك بظلام للعبيد . ولكن رحمة الله واسعة وفضله عظيم فهو سبحانه يعيدهم إلى رشدهم ، ويهديهم سبيل النصر والعودة ، ويدلهم إلى طريق الحياة .. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة فهذه الشعوب تكون مبتلاة بقيادات وزعامات تقودها إلى الضلال والهزائم والنكبات وتستمر في الزعامة على الرغم مما سببته من هزائم ، وفي أجواء الهزيمة تنشأ قيادات أخرى تستفيد من الوضع الجديد ، ويرعاها العدو المنتصر ويمكن لها أسباب القبول لدى أبناء شعبها .
ثلاثة مطالب
وفي سورة البقرة وبعد آيات قلائل من الآية التي تتحدث عن مشهد الخروج نرى نموذجاً لزعامات نشأت وقادت وتزعمت في الظلام وفي غفلة من الشعب حتى كان ذات يوم جاء نفر من هؤلاء القادة إلى نبي لهم يتقدمون بطلبات ثلاثة : قال تعالى : "ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا(1/1496)
قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وابنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " .
في هذه الآية يأتي الملأ _ وهم القيادات والأشراف _وسموا بالملأ لأنهم يملأون عيون الناس لمكانتهم ومالهم _ يأتي هؤلاء إلى النبي طالبين منه أن يعين لهم ملكاً يجمع شملهم ويوحد شتاتهم ذلك لأن الشعوب المهزومة يكون لها قيادات كثيرة ، والطلب الثاني أن يقودهم هذا الملك للقتال ، وحددوا نوع القتال في طلبهم الثالث بأنه في" سبيل الله" .
وجه الغرابة
والحق أن صدور هذه المطالب الثلاثة من مثل هذه الزعامات أمر مستغرب بل مستهجن ويدعو إلى الشك والريبة ، فلقد عهد الناس في زعماء الهزيمة انهم لا يحبون الوحدة لأنها تكلفهم التنازل عن كراسيهم .. ولا يحبون القتال لأنه يكلفهم حياتهم وبالتالي فهم دعاة الصلح والسلام ، وابغض شئ لديهم رفع راية " في سبيل الله " ولذلك فهم يفضلون عليها كل الرايات الوضيعة من شرقية وغربية .. إضافة إلى أنهم يريدون أن يكونوا أصناماً معبودة لا أناساً عاديين . وهنا يثور التساؤل مرة أخرى : لماذا توجهوا إلى النبي يطلبون هذه المطالب وهم كاذبون ؟! بدليل انهم بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ، وبمجرد أن عين طالوت ملكاً عليهم وقائداً عاماً للجيش رفضوا إمرته واعترضوا عليه مما يعني أن يرفضون الوحدة التي جاءوا يطالبون بها ، وكذلك فإن رفضهم لطالوت الذي اختاره الله واصطفاه عليهم يدل على انهم غير صادقين في رفعهم راية " في سبيل الله " وقد بين لهم نبيهم ذلك " إن الله قد بعث لكم طالوت " فهو اختيار الله ، فما حقيقة الأمر يا ترى ؟
الوحدة
إن الشعوب لا تظل مستغفلة عمياء ابد الدهر ولكنها تصحو من نومها وتفيق من سباتها وتدرك أن سببا رئيسياً من أسباب الهزيمة هو التفرق والتمزق ولذلك تسعى للوحدة ، ولكن هذه الشعوب تحس بأن القيادات المتسلطة هي سبب تفرقها فتتمنى الجماهير لو تزيلهم أو يتحدوا ، وها هنا يخشى الزعماء على أنفسهم فيجتمعون ويشكلون هياكل ومنظمات وحدوية هشة ليضحكوا بها على ذقون الشعوب وتكون بمثابة " اللهاية" التي تسكتهم عن المطالبة بالوحدة الحقيقية .. ولدينا العديد من الأمثلة والنماذج كالجامعة العربية ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي ... وربما سارع هؤلاء الزعماء أنفسهم إلى تقويض الوحدة الهشة التي صنعوها بأيديهم كي تيأس الجماهير ولا تعود تطالب بالوحدة ، ثم تسري في الناس مقالة " اتفق العرب على ألا يتفقوا " .
لماذا القتال ؟
هذا عن الوحدة ولماذا يطالبون بها .. فلماذا يا ترى يطالبون بالقتال ؟؟(1/1497)
إن الشعوب التي بدأت تفيق وتصحو من سباتها تدرك أن هزيمتها كانت لأنها لم تدخل معارك حقيقية أو أنها حاربت بدون تخطيط واستكمال للعدة ، ونتيجة لتآمر زعمائها عليها ، وبالتالي فالقيادات تطالب بأن تخوض ميدان الوغى مدفوعة بحماس الجماهير حتى لا تتهم بالجبن والخيانة ، وربما كانوا يظنون بأن القتال لن يحصل فلا بأس من المزايدة .
أو فليخوضوا الحروب ليكبروا في أعين الناس لأن الذي يقاتل يكسب احترامهم وثقتهم وتصبح له مكانة في قلوبهم .. مع أن هذه القيادات لم تشترك فعلياً في القتال بل زجوا الشعوب بها ، وبالتالي تظل القيادات على كراسيها .
وهم حين يخوضون الحروب فإنهم يخوضونها دون إعداد ولا تخطيط ، بل هم يتآمرون على مزيد من بيع الأوطان وجعل جنودهم وجيوشهم بين قتيل وأسير وجريح أمام الأعداء الذين يتسلمون اغلب الأسلحة والمعدات غنيمة باردة ، وتتحطم معنويات الشعوب وتصاب باليأس والإحباط فيقنعها الزعماء عن طريق وسائل إعلامهم بأن لا طاقة لهم بقتال الأعداء حتى يجدوا سبيلاً للتفاوض والاستسلام .
وبرغم ذلك فإن الشعوب لا تموت _ وبخاصة إذا كانت مؤمنة _ وبالتالي فهي لا تتوقف عن المطالبة بقتال الغاصبين ، وهنا يخوض الحكام بالشعوب المتحمسة المعبأة حروباً جديدة ، يحققون فيها انتصارات تكتيكية صغيرة ليكبروا في أعين الجماهير وتكون هذه الانتصارات الوهمية جسراً ومعبراً لمفاوضة الأعداء ووقف القتال وإسكات الجماهير عن المطالبة بكامل الحقوق المسلوبة والأوطان المضيعة ... وينادي واحدهم فيقول انه بطل العبور .. وهو اليوم أيضاً بطل السلام .
لقد خاض بنا زعماؤنا معارك 48 و 67 ، كي تزرع اليأس في النفوس وتتحطم معنويات الشعوب ، ولكن إيمان هذه الأمة لا يزال يدفعها إلى ميدان الوغى دفعاً ، فاضطر الحكام إلى خوض مسرحية 73 ، وحققوا فيها نصراً تافهاً للتنفيس عن الغيظ المكبوت والجمر المتقد في النفوس والقلوب ليعبروا من هذا النصر التكتيكي الصغير إلى التفاوض مع الغاصب والتنازل له عما اغتصبه .. وإلا فهل يمكن مقارنة معركة الكرامة ونصر 73 بهزيمة 48 و 67 ؟؟
التستر بالدين.. ورفع راية " في سبيل الله "
وتدرك الشعوب من جملة ما تدرك وهي تصحو من سباتها أن أهم أسباب هزائمها المتلاحقة هو بعدها عن منهج الله .. حيث أنها قد جربت كل الرايات الوضعية فلم تحصد إلا الهزائم وانكبات ... وتتذكر زماناً رفعت فيه راية الإسلام فسادت وملكت وحققت اعظم الانتصارات ... كل هذا وغيره تسمعه الجماهير من القيادات المؤمنة والدعاة إلى الله فتستجيب لهم وتبدأ بهجر الرايات الأرضية والقادة الذين يدعون إليها ... وهنا يخشى الزعماء وقادة الهزيمة أن تتركهم الشعوب وتسير خلف القيادات المؤمنة الصادقة ... فيلجأوا إلى التستر بالدين ، وربما خاضوا حربهم في رمضان ، وربما(1/1498)
اظهروا التودد للعلماء وزاروهم في بيوتهم كما حدث مع " الملأ " إذ أتوا إلى النبي ، ربما وضع المناضلون على رأس مجلسهم "جبة وعمامة" ، وربما تسموا باسم مقتبس من القرآن ، كل ذلك حتى ينخدع الشعب بهم ويظن انهم على الإيمان فلا ينبذهم ويتبع القيادات المؤمنة .
إن التاريخ يذكر انه خلال ثورة ال 36 اجتمعت وتوحدت عدة أحزاب وتنظيمات وأظهرت تأييدها للثورة ثم كان لها دور ، بالتنسيق مع بعض العرب والغربيين في احتوائها وتحويل مسارها وإيقاف الإضراب العام بعد ستة اشهر .
عِبَرْ طالوتية
ونعود إلى قصة طالوت نستلهم منها مزيداً من العبر والدروس .. فالمتوقع انه بمجرد أن نكص الزعماء عن القتال أن يتولى معهم جنودهم وأنصارهم ، وحتى الذين لم يتولوا فليسوا جميعاً صادقين حيث انهم اعترضوا على قيادة طالوت قائلين " أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالمُلك منه ولم يؤت سعة من المال " ... وهنا يظهر هدفهم سافراً واضحاً وهو أن يكون القائد الأعلى واحداً منهم ويكون الكيان الوحدوي هشاً ... ويظل كل واحد منهم على كرسيه ويبقى التمزق على حاله ... انهم يرفضون زعامة طالوت لأنهم _ في تصورهم _ أحق بالملك منه ... فهم الذين ورثوا الزعامة كابراً عن كابر ... وهم أصحاب الغنى والثراء ... وهم الذين شاركوا في الحروب السابقة وبالتالي هم الممثلون الشرعيون للشعب .
لقد ذهب زعماء القوم إلي النبي ليفوتوا الفرصة على طالوت وأمثاله من القيادات المؤمنة الصاعدة وحرصوا على أن يكون التعيين صادراً من القيادة الروحية_ النبي _ ولكن النبي الفطين الحكيم المؤيد بوحي الله ، يعيّن القائد الذي لا يصلح سواه لهذه المرحلة وليس ذلك فحسب بل انه قبل ذلك يكشفهم أمام جماهيرهم حين يعلمهم بان الله قد فرض عليهم القتال فيكون منهم النكوص .
ويشاء الله تعالى أن يجعل لطالوت كرامة يزيد فيها من رصيده في القلوب وقبوله في النفوس وليطوع له الرقاب ، فتكون آية ملكه وعلامة اصطفاء الله إياه أن يأتي التابوت إلى قومه بني إسرائيل تحمله الملائكة _ وهو صندوق فيه بعض آثار لما تركه آل موسى وآل هارون يبدو أن بني إسرائيل فقدوه في إحدى معاركهم التي هزموا فيها .
وكأن رب العزة يجعل في هذا الزمان آيات وكرامات للناس في ارض الإسراء لتكون دليلاً وآية على ملك الفئة المؤمنة واصطفائها لقيادة المسيرة الجهادية ، ومن اظهر هذه الآيات ما يحققه تعالى على أيدي الصادقين من إثخان في العدو ، إضافة إلى استمرارهم في الجهاد وتوقف غيرهم .. فإن ما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل .
اختبار وتمحيص(1/1499)
ويدرك طالوت أن في جيشه من التحق به خجلاً أو بدون إيمان واقتناع ، وان فيهم المنافقين ومرضى القلوب وضعاف النفوس الذين إذا كانوا في الجيش زادوهم خبالاً ... فكان لا مناص من استثنائهم ... ويقف طالوت خطيباً بالجند فيعلمهم أن الله مختبرهم بنهر فمن شرب منه فليس من طالوت وليفارق الجيش وأما من يصبر ولم يشرب أو شرب غرفة بيده فهو فقط الذي يسمح له بالاستمرار .
إن من لا يصبر على الماء لا يرجى منه أن يصبر إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق ... والذي لا يطيع قائده في الأمر الصغير فلن يطيعه في الأمر الكبير ... ومن هنا تلجأ الحركات الجهادية إلى طلب بعض التكليفات للجماهير أمراً أو نهياً لقياس مدى استجابة الجماهير لها ولقياس طاقة وإمكانيات وقدرات تحمل الشعب في الخطوات القادمة كما في الإضرابات وأيام المواجهة والصيام وغيره ...
وتحكي الآيات نكوص أكثرية الجند وقعودهم إذ شربوا من النهر ... ولا يبقى مع طالوت إلا اقل القليل وينظرون إلى أنفسهم فيستصغرونها أمام جحافل جالوت بعددهم وعُددهم ويقولون " لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " ... فلو تأخر القتال كي نزيد عددنا وعتادنا ، فيرد عليهم الذين يظنون انهم ملاقو الله " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " فيذكرونهم بالقانون الرباني بأن النصر ليس بكثرة العدد والعتاد ، وإذا أذن الله لفئة بالنصر فإنها تغلب الفئة الكثيرة والله مع الصابرين ... إن موازين الدنيا كلها ليست هي التي تحدد المنتصر من المنهزم ، ولكن مشيئة الله هي التي تقرر ذلك وبالتالي فلا نصر لمن لم يرد الله نصره ولو كان معه كل القوى العظمى في العالم ، ولا هزيمة لمن أراد الله نصره ولو اجتمعت ضده كل القوى الباغية .
وحين يلتقي الجيشان يتوجه المؤمنون إلى الله أن يفرغ عليهم صبراً ويثبت أقدامهم وينصرهم " على القوم الكافرين " فهم لم ينسوا حتى في اشد حالات الهول أنهم يقاتلون لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفار هي السفلى .. إن القضية إذاً ليست إزالة كافر أجنبي عن حكم الأوطان ثم استبداله بكافر وطني ... وإنما إزالة نظام الكفر وظلمه ليحكم شرع الله وعدله .
وحين تكون الراية واضحة يستحق الجنود النصر وتحق على أعدائهم الهزيمة بمشيئة الله " فهزموهم بإذن الله " ... إنه ما إن يدخل الإيمان ساحة الصراع مع الكفر حتى تحل بالكفر وأهله الهزيمة الماحقة سواء كان ذلك الصراع في حلبة القتال والنزال أو في ميدان العقل والفكر " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق " .. ويبرز من بين المجاهدين جندي شاب يقتل قائد الأعداء _ جالوت_ فتتضاعف هزيمة الأعداء وتتأكد ويؤتى الله داود الملك ... ذلك أنه لا يصلح للملك والقيادة إلا من كان جندياً ممتازاً ... وإذا أراد الله لعبد التمكين هيأ له أسبابه وجعل له من الآيات والكرامات ما يرسخ مكانته في القلوب ليكون هذا الحدث جسراً ربانياً يعبر به داود لقيادة شعبه .. إن الاثخان في الأعداء ، وزعاماتهم بالذات هو السبيل إلى القيادة والنصر ... وهو الأمر الذي أخفقنا فيه حتى الآن بينما نجح فيه الأعداء .(1/1500)
ويأتي التعقيب القرآني " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " فلولا انه سبحانه يدفع الكافرين بالمؤمنين ويسلطهم عليهم لتمادي الكفار في غيهم وفسادهم ... وإذن فلا خوف على العباد والبلاد من مدافعة الكافرين وقتالهم ، وإنما الخوف من ترك الكافرين يعيثون فساداً .
ــــــــــ
لا لليأس والإحباط
غربتنا شديدة لا يعلمها إلا الله ينظر المسلم حوله فلا يرى إلا كفرا مسيطرا وشرا مستطيرا وعدوا متجبرا .الأعداء كثير والتخطيط محكم سلاحهم قوي حاملات وطائرات وصواريخ وقنابل وأقمار ترصد وعدو يترقّب حملات يهودية وأخرى صليبية حصار على إخوتنا ومحاسبة لنا والقادم أعظم أحاطوا بالأمة إحاطة السوار بالمعصم يتلفّت المسلم فيرى حوله في ديار المسلمين خرابا ودمارا أيتاما وأيامى. أرامل و مفجوعين . بيوت تهدّم وأعراض تنتهك وحمى يستباح وثروات تنهب وخيرات تسرق وهكذا يرى المسلم هذه الأهوال فيصيبه الحزن واليأس والإحباط ولسان الحال يقول (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص) ولكن الأمر ليس بهذا السوء أيها الإخوة فالأمل باق في هذه الأمة والخير فيها إلى يوم القيامة وما ينبغي أن يصيبنا اليأس والإحباط والقنوط الذي يدفعنا إلى الحزن المقعد عن العمل . وهذه الكلمات ليست للتخدير ولا لمحاولة التغاضي عن الواقع المرّ وإنما هي للنهوض بالنفوس لئلا تقع فريسة لليأس القاتل .
إن من الواجب على الدعاة إلى الله أن يشيعوا روح الأمل ويخبروا الناس بحقيقة الفجر الساطع الذي لا يأتي إلا بعد اشتداد الظلام في آخر الليل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول((بشروا ولا تنفروا))
والمسلمون مهما حلّ بهم من الضيم فإنهم يبقون المخاطبين بقول الله تعالى( ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) ومن الخطأ الفادح أن يظن بعض الناس أن هذه الأمة قد ماتت وأنها تحتضر وأنها تنتظر رصاصة الرحمة وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفكر التحبيطي الميئس فقال صلى الله عليه وسلم ((إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم"بالرفع" أو فهو أهلكهم"بالنصب")) رواه مسلم على الرفع أي أكثرهم هلاكا وعلى النصب فمعناه هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة .
إن النصر لهذه الأمة وإن التمكين لهذا الدين لا نشكّ في ذلك ولا نرتاب ما الدليل على هذا الإدعاء ؟ هناك أدلّة كثيرة من القرآن ومن السنة ومن التاريخ ومن الواقع .
أولا الدليل من القرآن الكريم قال تعالى( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وقد وعد الله المؤمنين بالنصر والنجاة والدفاع والولاية على وجه العموم قال(1/1501)
تعالى(وكان حقا علينا نصر المؤمنين) وقال تعالى(ثم ننجّي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين) وقال تعالى( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) وقال تعالى(الله وليّ الذين آمنوا) ويتاكّد هذا المعنى عند نزول البلاء بساحة المؤمنين وتشتد المحنة هناك يكون النصر أقرب مايكون من المسلمين قال تعالى(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلو من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ***** ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ***** فرجت وكنت أظنّها لا تفرج
- وفي السنّة النبوية الشريفة أدلة كثيرة على أن النصر للإسلام روى الإمام أحمد عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهر ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذلّ الله به الكفر)) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال"بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل أيّ المدينتين تفتح أولا قسطنطينية أم رومية ؟ " فقال صلى الله عليه وسلم ((مدينة هرقل تفتح أولا)) ورومية هي روما والقسطنطينية هي مدينة هرقل وهي الآن اسطنبول وقد فتحت على يد محمد بن مراد المعروف في التاريخ بمحمد الفاتح رحمه الله تعالى إذن فقد تحقّق الشطر الأول من الوعد الصادق وبقي الشطر الثاني وهو فتح روما ونظن أن هذا الفتح سيكون بالدعوة والقلم واللسان وليس بالسلاح والقتال .
والبشارات في هذا المجال كثيرة جدا والناس في الغرب الآن يدخلون في دين الله أفواجا .
في عام ألف وتسعمائة وسبعون كان عدد المسلمين في أمريكا خمسمائة ألف مسلم الآن عددهم يزيد على تسعة ملايين وهم في زيادة كبيرة وهم يفوقون عدد اليهود الأمريكيين وتقول الإحصائيات الأمريكية أن نسبة الدخول في الإسلام في صفوف الأمريكيين الأصليين قد تضاعفت أربعة أضعاف بعد أحداث أيلول .
في عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين كان في بوسطن مسجد واحد فقط الآن يوجد ثلاثون مسجدا كلّها يقام فيها الجمعة وتوجد المصليات هناك في كثير من الجامعات والثانويات والمستشفيات .
اضطرت هيلاري كلنتون للإعتراف بان الإسلام هو الدين الأسرع إنتشارا في أمريكا.
ازداد الإقبال على الكتب التي تتحدث عن الإسلام بشكل هائل حتى فقد الكتب من المكتبات وتضاعفت أسعارها عدة أضعاف .
صارت الكتب الإسلامية المترجمة تحتل مرتبة ضمن الكتب العشرة الأكثر مبيعا لدى شركة amazon.com على الأنترنت وهناك دراسات في جامعات الغرب عن الحكم العظيمة من أحكام وتشريعات الإسلام حتى أن غوستاف لوبون يقول"إن مبدأ تعدّد الزوجات في الإسلام نظام جيد(1/1502)
ويرفع المستوى الأخلاقي للأمم" اعترفوا أن لحم الخنزير ضار ويكثر فيه حمض البوليك بشكل مكثّف وأنه عسير الهضم وأن خمسين بالمائة من لحم الخنزير دهون بينما لا تتعدى هذه النسبة في الضأن سبعة عشر بالمائة وخمسة بالمائة في البقر.
اعترفوا بمنافع السواك اعترفوا أن الإستنشاق في الوضوء يعالج إلتهاب الجيوب الأنفية وأن الوضوء يقي من الأمراض الجلدية وأن الصوم فيه صحة للبدن وهكذا الأمور تسير لصالح الدعوة إلى الله وتهيئة الجو لفتح تلك البلاد بالإسلام .
- إن اتساع الدولة الإسلامية في المشارق والمغارب والرخاء والأمن وفيض المال وعودة الخلافة على منهاج النبوة والإنتصار على اليهود وبقاء الطائفة المنصورة وظهور المجدّدين في كل قرن وظهور المهدي ونزول المسيح كل هذه الأمور مبشّرات بانتصار الإسلام وهي بشائر حقيقية ثبتت بالنصوص النبوية الصحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم . والقوة البشرية والمادية والروحية والإقتصادية والجغرافية كلها مقومات للنصر وأسباب كفيلة بان تجعل النصر في صالح المسلمين . وهناك أمر مهم وصفة عجيبة تتصف بها هذه الأمة وهي "قوّتها عند الشدائد" إنها المخزون النفسي والروحي الكبير الذي تدّخره الأمة ولا يبرز إلا في المحن والخطوب إنها القوة المذخورة في الأمة وقد رأينا ذلك في غزوة بدر وفي حروب المرتدّين يوم قاتل عدد قليل من الصحابة آلافا مؤلفة من المشركين المرتدّين وانتهت المعارك بانتصار المسلمين ولم تمض إلا سنتان حتى كانت جيوش أبي بكر تضرب قيصر وكسرى ورأينا هذه القوة المذخورة في الحروب الصليبية يوم زحفت أوربة كلها إلينا يقودهم الرهبان وكانت جيوشهم أولها في القدس وآخرها في روما وبقي المسجد الأقصى بأيديهم مائة سنة إلا قليلا ثم تحركت القوة المذخورة وجاءت القيادات الربانية الشجاعة جاء عماد الدين زنكي ونور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي وانتصر المسلمون في حطين ومعركة بيت المقدس التي تساقط فيها الشهداء مثل أزهار حديقة غنّاء لوّحتها ريح الشمال وتساقط الصليبيون في تلك المعركة كالحشرات مثل ذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهّر صاعق مبيد وكانت بعد ذلك معارك في مصر انتهت بأسر ملكهم لويس التاسع في دار ابن لقمان بالمنصورة . ورأينا ذلك في حرب التتار الذين احتلوا البلاد بلدا بلدا وزحفوا إلى بغداد عروس الشرق وكعبة العلماء ودرة المسلمين فقتلوا الخليفة وسالت الدماء حتى بلغت الركب وقتل فيها من المسلمين مليون مسلم واسود ماء دجلة لكثرة
ما ألقي فيه من كتب الحضارة الإنسانية حتى يقول أحد المؤرّخين ياليتني متّ قبل ذلك اليوم, تماما هذا ما فعلته أمريكا اليوم "التتار الجدد وهولاكو العصر جورج بوش" يوم جاؤا بالهمج واللصوص من الصرب والبلغار والمجرمين من السجون وأطلقوهم في متاع الناس يسرقونها ويسرقون المتاحف والتراث والحضارة حتى نهبت من متحف بغداد سبعون ألف تحفة أثرية لا تقدّر بآلاف المليارات(1/1503)
وشاهد العالم بأثره جنود المارينز وهم يحملون هذه التحف ويضعونها في سياراتهم هذه هي حضارتهم حضارة القرد والخنزير حضارة الحصار والقتل والتجويع حضارة القنابل النووية .
ملكنا فكان العدل فينا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحلّلتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نمنّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** فكلّ إناء بالذي فيه ينضح
لقد كتب علينا أن نعيش المحنة ذاتها وأن نشاهد بغداد تهوي تحت سنابك خيل الصليبيين وأن نردّد مع الشاعر الأبيات التي قيلت في بغداد يوم سقطت للمرة الأولى
قف في ديار الظاعنين ونادها ***** يا دار ما فعلت بك الأيام
يا دار أين الساكنون وأين ذيّاك ***** البهاء وذلك الإعظام
من كان مثلي للحبيب مفارقا ***** لا تعذلوه فالكلام كلام
ويذيب روحي نوح كل حمامة ***** فكأنما نوح الحمام حمام
يا غائبين وفي الفؤاد لبعدهم ***** نار لها بين الضلوع ضرام
والله ما اخترت الفراق وإنما ***** حكمت عليّ بذلك الأيام
في ذلك الوقت حل اليأس بالناس وصار المثل السائد إذا قيل لك إن التتار قد انهزموا فلا تصدّق، إنها أسطورة الجيش الذي لا يقهر يعيدها اليهود على اسماعنا اليوم لتحطيم المعنويات .عندئذ تحرّكت القوة المذخورة في الأمة وكان الذي حرّكها في مصر سلطان العلماء العز بن عبد السلام والأمير المملوكي قطز والذي حرّكها في دمشق الإمام العظيم العامل المجاهد شيخ الإسلام ابن تيميّة عليه رحمة الله فانتصر المسلمون في عين جالوت وعند دمشق . انتصر المسلمون مرتين مرة بالقتال ومرة بنبل الفعال حين احتضن الإسلام هذا الشعب الهائج الأهوج من المغول والتتار فاستوعبهم الإسلام ولأول مرة في التاريخ يدخل الغالب في دين المغلوب ولمعرفة التفاصيل يراجع في ذلك البداية والنهاية لابن كثير ورجال الفكر والدعوة لأبي الحسن الندوي في الجزء الثاني . ورأينا هذه القوة المذخورة في العصر الحديث رأينا الجهاد البطولي ضد الغزاة المستعمرين في سائر ديار الإسلام رأينا جهاد الشيخ الأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر رأينا جهاد الشيخ عبد الكريم الخطابي في المغرب ضد الأسبان رأينا جهاد الشيخ عمر المختار ضد الطليان في ليبيا والشيخ عز الدين القسام ضد اليهود والإنكليز في فلسطين واعترف بذلك مؤرّخوهم حتى يقول برنارد لويس في كتابه الغرب والشرق الأوسط" إن الحركات الدينية كانت قائدة معارك التحرير في سائر البلاد الإسلامية ضد الإستعمار حتى حركة كمال أتاتورك نفسه" ولكن للأسف فإن المجاهدين يعملون والفاسقين يلأخذون المشايخ يزرعون والعلمانيون يحصدون إنهم لصوص مدرّبون على سرقة ثمار الجهاد وثورات المجاهدين . وهكذا نجد أن(1/1504)
الإسلام على مرّ العصور قد قصر قيصر وكسر كسرى وصلب الصليبيين وفرّق التتار واستعمر المستدمرين وصدق تعالى إذ يقول (إنا لننصر رسلنا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)
-إن الإسلام قادم وهو قادم بقوة وسيبقى الإسلام ما بقيت الحياة على هذه الأرض يقول رابين اللعين"إن وقتا طويلا سيمرّ قبل أن يترك الإسلام سيفه" ونحن نقول للعالم أجمع الإسلام لن يترك سيفه ولتعلم أمريكا وأذنابها وحلفاؤها أنهم مهزومون مهزومون مهزومون وأننا بحول الله وقوته سنقتّل فيهم تقتيلا وسنقتل فيهم ماشاء الله وهاهم أسود المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان يذيقونهم كل يوم ألوان العذاب وصنوف القهر إنهم أحفاد ابي عبيدة وسعد والمثنى "ثوري يا أرض الرشيد في وجه الغرب . ثوري يا أطلال مساجد وصبايا يا أفقا من كرب . ثوري يا حقلا فقد النوار. وفي عينيه استشرى شجر الرعب. ثوري يا أحفاد سعد جمرا وشظايا. ثوري عاصفة من أنّات حرّى تنزع أقنعة الكذب .أبيني أن سلاح الحقد المغروز بشريان القلب له نصلان نصل الحقد ونصل الغرب" وهاهي الفتاة العظيمة هنادي جردات حفيدة سميّة والخنساء صاحبة عملية حيفا التي أطلقت عليها لقب "سوبر ستار العرب" هذه الفتاة الحرة الماجدة أخت الرجال وبنت الأبطال أدمت حبّات قلوب الكافرين وملأت صدورهم غيظا وقهرا رحمك الله ياهنادي يا خيرا من ألف ألف من رجال العرب الأشاوس نعم بيّضي وجوه العرب لقد رفعت رأس كل العرب ، فكيف لو كنت رجلا ذا شنب؟ سنكسر الصمت أيها الناس وسنعمل بقوة وسنصنع الرجال والنساء وسنربّي الأجيال لنقاتل بهم أعداء الله
سأروي حكاية موت الضمير *** وأكتب قصة درب المقابر
سأعلن أني قبضت وأني *** سحقت كل حقير وغادر
سأكسر قيد صمت الشعوب *** وألعن صمت جميع السماسر
سأشهر سيفي لسند اليراع *** وأنسى كيف تكون الحناجر
سأبرأ من كل طاغ حقير *** خان الشباب وهان الحرائر
سأنزع عني ردائي الثمين *** وأسرج خيلي فإني مهاجر
سأوري عدوي بأسي وعزمي *** وشدة ضربي ورهج الحوافر
وأخرج أهتف في العالمين *** أخيّ رفيقي إلى الموت بادر
فمالي أراك تعيش هنيئا *** كأن لم ينغّص عيشك بائر
فهذا وضيع ربيب جهنم *** وذاك رضيع حليب العواهر
وهذي مجالس كسرى وقيصر *** تروح وتغدو لنصرة كافر (*)
ونقول للغربين نقول للمحتلين نقول للذين قتلوا شعبنا ونهبوا مالنا وشتموا نبينا وداسوا مصحفنا ويريدون الآن أن يحاسبونا نقول لهم إننا لا ننسى ثأرنا ولن ننسى ما فعلتموه بنا ، يا من تبحثون(1/1505)
بالمجهر عن الخلايا الإرهابية في اليمن والصومال والسودان والبلاد التي قتلتم أهلها جوعا إن الإرهاب عندكم وفي بلادكم وهو أنتم ولا أحد سواكم وتأكدوا أنه لا يوجد مسلم على وجه الأرض يحبّكم وإن تبرّعوا لكم بالدماء وإن ادانوا العمليات ضدكم فهم يفعلون ذلك نفاقا لكم وخوفا منكم وتأكدوا أيضا أن المسلمين جميعا مع المجاهدين ومع المقاومين ومع الإستشهاديين يفدون المجاهدين بأرواحهم ودمائهم ولسان حال كل مسلم يقول
إن كان يرضيك أن تهوي جماج *** منا فهذا الفعل يرضينا
ماتخجل الشمس إلا من مواقعنا *** ولا تهاب العدا إلا مواضينا
ونقول للشيطان بوش ... لا تظنّن أيها السطحي الغبي يا صاحب العينين الغائرتين كعيني ذئب غادر والذئب أشرف منك ومن أهلك وإدارتك .لا تظنن أن أصغر مسلم في العالم سوف يعدّل دينه طبقا لفتاواك الخسيسة وستظل العمليات الإستشهادية عمليات بطولية فدائية وسيظل من قام بها أعظم رجالات الأمة وسنرفع رؤوسنا بهم وسنسمي ابناءنا بأسمائهم وسنتقرّب إلى الله بحبهم رغم أنفك وأنف أبيك المجرم وسيظل الإرهاب والإجرام راية لا يحملها إلا أنت وقومك وسيظل أصغر مسلم في بقاع الأرض لا ينظر إليك نظرة الإنسان إلى ذئب غادر أو ثور كاسر بل نظرة إنسان نظيف إلى خنزير نجس لوّث الدنيا كلها بقذارته والله لكم بالمرصاد وهو نعم المولى ونعم النصير .
محمود الدالاتي /سوريا
mahmooddalati@hotmail.com
المشرف العام على موقع البصائر الإسلامي
-------------------
* الأبيات للشاعر ماهر علوش
ــــــــــ
لماذا لا ننتصر؟!
خباب بن مروان الحمد
khabab00@hotmail.com
أحمدك ربي حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك ، وأصلي وأسلم على الهادي البشير، والسراج المنير المبعوث رحمة للعالمين .
صلى عليك الله ما جن الدجى وما جرت في فلك شمس الضحى
ورضوان الله على الصحابة الأخيار، والهداة الأبرار،الذين جاهدوا مع رسول الله حق جهاده،فما وهنوا لما أصابوهم في سبيل الله وما ضعفوا،وما استكانوا والله يجب الصابرين .(1/1506)
اللهم فاطر السموات والأرض ،عالم الغيب والشهادة،أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم،وبعد،،
فإن من سنن الله الجارية،أنه إذا عصى الناس أمره،واستباحوا محارمه، وبغوا وظلموا، وابتعدوا عن صراطه المستقيم،ومنهجه القويم،أن يجازيهم بسوء أعمالهم،وينتقم من كل جبار عنيد،((وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر:43)
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، من الانحراف عن المنهج، وسلوك الطريق الخاطئ، وتضييع الأمانة .
((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال:53)
إلى الله نشكو :
في هذه الأيام تجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية المنكوبة،ومآسيها،ونكباتها،وما أُصيبت به من الهوان والذل خاصة بعد أن رأوا وسمعوا في وسائل الإعلام المتعددة ،صوراً لمآسي المسلمين تفت الفؤاد،وتجرح الخاطر، وتقلق القلب، وتهز البدن.
إنها صور ليست في قطر واحد من أقطار المسلمين ، بل هي صور تتعدد وتتكرر كرات ومرات ، ففي فلسطين وأفغانستان ؛ صور ومآسي ، وفي العراق والشيشان ؛ صور ومآسي، وفي الفلبين وكشمير وبورما والسودان والصومال وأندونيسيا مجازر وجزائر .
في كل جزء من بلادي قصة تروي ضياع كرامة الإنسان
فصورة لرجل كبير السن في فلسطين وقد خط الشيب لحيته فلا تراها إلا بيضاء وهو يرفع يديه يناجي رب الأرض والسماء بأن يهلك الأعداء ويصب عليهم القوارع والفواجع، وأن يدمرهم تدميراً.
وصورة لطفلة صغيرة في أفغانستان تبكي وتشهق من البكاء بحثاً عن والديها اللذين كانا تحت أنقاض البيت الذي هدم عليهما ففاضت روحهما وهما تحت الأنقاض،والطفلة المسكينة تصيح وتصرخ بحثاً عن والديها! وصورة ثالثة لطفل صغير قد أمسك خمسة من اليهود به فأحدهم يكاد أن يخنقه،وأحدهم قد شد شعره بكل ما أوتي من قوة وعنجهية، وآخر يركله بقدمه يريد أن يمشي على قدمه بكل سرعة، فهذا الطفل مجرم وإرهابي!والطفل يبكي ويصيح ولكن أين المغيث ؟!
وصورة أخرى لأم تريد أن تدافع عن ابنها،وفلذة كبدها، بعد أن أمسك اليهود بتلابيب ثيابه ، وهي تترجاهم بأن يفلتوه ويطلقوا سراحه،فما كان من أحد هؤلاء القردة إلا أن فقد صوابه وطار لبه فأمسك بهذه المسكينة بيديه الغليظتين ودفعها على الأرض بقوة فسقطت وهوت على رأسها ثم أطلق(1/1507)
عليها عياراً نارياً من سلاحه فجندلها بالدم ثم قهقه ضاحكاً بسخرية قائلاً لها بكل خبث " ابنك لن تراه عينك " .
وصورة أخيرة لرجل شاب قد بلغ الثلاثين من عمره في إندونيسيا قد أسره أعداء الله النصارى فربطوه يديه مع رجليه،وشدوا الحبال الموثوقة على جسمه، ثم أهووا به إلى الأرض لتبدأ المجزرة حيث أنهم جاءوا بالدبابة تمشي رويداً والشاب يصرخ ثم أمَّرُوا الدبابة على جسده الموثوق ببطء لكي يموت ألف مرة إلى أن وصلت الدبابة لرأسه فلم يبق له رسماً ولا أثراً، فقد اختلطت دماؤه بعروقه بلحمه فأصبح كتلة لحم، بل لا أثر له،إنه جسم أصبح لا يرى بعد أن هشمته جنازير الدبابة التي لا ترحم .
لا أريد أخي القارئ أن أستطرد فكأني بك قد استبشعت تلك الصور،ووقف الدم في جسمك،ولم تطق أن تسمع الباقي .
وبعد أن يرى القوم في مجالسهم مثل هذه الصور المبكية، فلن تسمع إلا أنين الزفرات،ولن تبصر إلا سكب العبرات وكثرة التأوهات .
حقاً إنها تبعث القشعريرة في الجسد، فالعين تفيض دمعاً،والقلب يشكو لوعة وهماً،واللسان يتحوقل ويسترجع،بل تخنقه العبرة فيخرس عن الكلام ألماً وغماً .
أين الخلل ؟
لا شك أننا في زمن كثرت فيه النكبات،وحلت به المصائب، والمدلهمات وانتشرت فيه المعاصي والموبقات،وكثرت الأمراض والآفات .
تلك قضية لا يناقش فيها إلا جاهل بواقع أمته،أو رجل مكابر!
إنه سيقرع سمعنا في مثل المجلس الذي ذكرته آنفاً أنه ما حل البلاء علينا إلا لتخاذل الحكام،وضعف الشعوب،وتقاعس العلماء .
وإني أقر وأجزم أن هذا الذي قيل هو جزء، بل سبب من الأسباب الهامة التي جعلت الأمة الإسلامية أمة ضعيفة ووصمت بهذا المثل .
ولكن هل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا مهانين في الأرض وأصبحت أمتنا توصف بأنها أمة المصائب،أم أن هناك شيئاً آخر قد ضيعناه ونسيناه ؟
هل سألنا أنفسنا أين يكمن الخلل،ومن أين انتشرت هذه الأزمات؟
* ثمت أمور يجب علينا أن نسألها أنفسنا ونجيب عنها بصدق وواقعية، لماذا تراجع المسلمون وهزموا ، وتقدم غيرهم وانتصروا ؟
لماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون،وأعداء الله يرصون الصفوف، ويجمعون الجموع ؟(1/1508)
لماذا حورب الإسلام وأهل السنة والجماعة، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم ؟
هل من الصحيح إذا سمعنا مثل تلك المآسي آنفة الذكر أن نصرخ قائلين :
وامصيبتاه؟ أو يرفع أحدنا صوته قائلاً:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وبيد شعب كامل مسألة فيها نظر
إنني لا أحقر من تلك الصرخات، ولكن هل هي الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء، والرد على الكفار أعداء الله ؟
ـ لا شكَّ أن الوقاية خير من العلاج،والسلامة لا يعدلها شيء،لكنَّ من المهم أن يعلم أنه ليست المشكلة بأن تجد المرض يدب في جسم إنسان،فإن الجسم معرض للآفات والأمراض،ولكن المشكلة،أن تجد ذلك المرض يدب في جسم الإنسان ويفتك بأعضائه، وينتهب منها السلامة،ومع ذلك فإنَّ الإنسان لا يشعر بذلك المرض، وإن شعرلا يقاومه، بل يندب حظه،ويرثي حاله، ويزعج الناس بأناته، ويوقظ أهله بآهاته،وزفراته.
مثلاً لمثل هذا حال كثير من المسلمين، فهم في الحقيقة لم يكتشفوا المرض الداخلي في أمتهم ولم يعالجوه، ومع ذلك فما تراهم إلا وهم يندبون تلك المصائب، ويبكون هاتيك الفواجع.
دع النياحة وابدأ بالعمل
إذا علمَ ذلك وأن الداء منا فلا بد أن نبحث عن الدواء، ورسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أخبرنا أنه(ما أنزل الله داء وإلا وأنزل له دواء) أخرجه البخاري،وزاد ابن ماجة بسند صحيح:(علمه من علمه وجهله من جهله) ومن الجدير بنا أن نعقل هذه المصائب،ونحاول أن نعالجها .
وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال:هل ظلمنا الله – عز وجل – عند ما أنزل علينا المصائب؟
والجواب؛لا،وحاشا ربنا، فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (يونس:44) وقال تعالى:(( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) (فصلت: 46)
وأخبرـ سبحانه ـ أنه حرَّم الظلم على نفسه،فقال:( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) أخرجه مسلم .
وقال تعالى : (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ)) (آل عمران: 108) وقال تعالى (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)) (غافر: 31)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث،فيقيننا بالله أنه صاحب العدل المطلق والبعيد كل البعد عن الظلم والجور.(1/1509)
ولكن الله عز وجل أنزل علينا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وقد بيَّن فيه أنه ما من مصيبة تحل بالمسلمين إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم وتضييعهم حرمات ربهم وأوامره ونواهيه،فقال تعالى:((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى:30)
وقال تعالى:(( فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)) (لأنفال:54)
وقال تعالى:((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) (النساء: 79)
فهذا أول العلاج الذي يجب علينا أن نعرفه حتى نعالج به واقعنا كي نعلم أنه ما من مصيبة وقعت علينا وحلت بديارنا إلا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، ومستحيل أن ننتصر ونحن قد ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا ربنا((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) (الحشر:19) ((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)) التوبة:67)
إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل فالله عز وجل وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ولكن إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته،وربينا أنفسنا على طاعته، والفرار من معصيته،قال تعالى:((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد:7)،وأخبر تعالى أنه لن ينصر إلا أهل الطاعة والإيمان لا أهل الفجور والخذلان فقال تعالى:((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) (غافر:51)
وبين لنا سبحانه أنه إن تولينا عن نصرة دينه ورفع رايته،فإنه يستبدل قوماً يقومون بحق الله وبنصرة دينه((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) (محمد: 38)
قال سيد قطب – رحمه الله -:(لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته،ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم،وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله،وسنة الله لا تحابي أحداً،فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن، وإبطال النواميس ، فإنما هم مسلمون،لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك ، ولا يضيع هباءً فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه، من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف ، وتؤهل للنصر الموعود، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته،بل تمدهم بزاد الطريق،مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق.(1/1510)
وبهذا الوضوح والصراحة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة،وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع،ويكشف عن السبب القريب من أفعالها ((أوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) (آل عمران:165)
فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع،وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ)) (آل عمران: 152)
فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون:كيف هذا؟هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل حين عرضتم أنفسكم لها )ا.هـ(في ظلال القرآن)
ولهذا ورد في الأثر عن العباس بن عبد المطلب:(ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ) فلنندب ذنوبنا قبل أن نندب مآسينا ولنحارب أنفسنا الأمارة بالسوء وننهاها عن المنكر عندئذ سيحصل النصر وينجلي الغبار والله لا يخلف وعده ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:55)
أي أُخي: تأمل وانظر إلى بلاد المسلمين:
كم يوجد فيها من ضريح يعبد من دون الله و يطاف عليه ويستغاث بصاحبه ؟
كم هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله بل يتحاكمون إلى الطاغوت؟
كم من بدعة تقام في ديار المسلمين صباح مساء ؟
كم من فاحشة تنتهك في ظلام الليل الدامس،وفي الصباح المتفتح الزاهر؟
كم من إنسان يبخس الكيل والميزان ولا يصدق في المعاملة مع ربه ومع الناس ؟
كم من صَرْحٍ لبنوك الربا التي جاهرت الله بالمحاربة والمعصية ؟
كم هم الناس المعرضون عن دين الله وحكمه وأقبلوا على الملاهي والخمور والأغاني والمسلسلات ؟
كم هم الناس الذين لا يصلون ويدعون بأنهم مسلمون ؟
أنظر للشوارع والأسواق فلا ترى – ويا للأسف ـ إلا تخنث للرجال ، وترجل النساء، والغيبة،والكذب، والنميمة ، والغش ، والظلم ، وخفر العهود ، وإخلاف المواعيد ، وأكل حقوق الناس، والعصبية القبلية والعرقية المنتنة، والزنا،واللواط، والنفاق، وسوء الأخلاق ـ إلا قليلاً ممن رحم ربك ـ
ثم مع هذا كله نريد نصر الله ، وأن يهزم عدونا ويكف شره ويكبت أمره !!(1/1511)
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال كنت عاشر عشرة من المهاجرين،عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأقبل علينا بوجهه،وقال : ( يا معشر المهاجرين – خمس خصال إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن:ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة ، وجور السلطان ، ولا منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم ) أخرجه البيهقي والحاكم بسند صحيح .
جزاءً بجزاءِ ، ومثلاً بمثل ، إذا نحن عصينا الله وخالفنا أمره سلط علينا الأعداء والوباء،والضراء((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (النور:63)
إن الله عز وجل- لما ذكر الأمم الكافرة التي عصت رسله،وخالفت أمره قال عنهم بعد ذلك:(( فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (العنكبوت:40)
فنفسك لم ولا تلم المطايا :
أخي القاري الكريم:قد ورد في الأثر( إذا عصاني من لا يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) وقد قال نبي من أنبياء بني إسرائيل لما رأى ما يفعل بختنصر بقومه:(بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفنا ولا يرحمنا) .
وورد في المسند ( 2/362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح (حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها أربعين صباحاً) .
وقد علق الإمام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله:(وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو،كما يدل عليه الكتاب والسنة،فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله،و نقصت معصية الله حصل الرزق والنصر)
وعليه فالنحيب على بلاد للمسلمين ضاعت دون عمل وتوبة صادقة،لا تحقق نصراً ولا تعيد أثراً!
وقد قيل في المثل(إيقاد شعلة خير من لعن الظلام) فلنبدأ في التغيير والعمل ولنترك لوم الزمان والدهر،فهو فعل الفاشلين العاجزين لا فعل الطموحين الناجحين وقد قال الشاعر الإسلامي عدنان النحوي – في أبيات له جميلة قائلاً :
ما لي ألوم زماني كلما نزلت *** بي المصائب أو أرميه بالتهم
أو أدعى أبداً أني البريء وما *** حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله *** وليس يحمله غيري من الأمم(1/1512)
فإذا أردنا أن نغير فلنغير من حالنا ومن فساد قلوبنا وأنفسنا يغير الله حالنا، ويرفع ما بنا من مصائب أرقتنا أو بلايا أقلقتنا .
قال تعالى:(( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11)
وقال تعالى:((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (لأنفال:53)
ومن أول الأمور التي نغير بها حال أنفسنا التوبة النصوح، فهي وظيفة العمر، وطريق الفلاح، والتي تفتح كل عمل خير وبر وصلاح .
ومن ثمَّ الأعمال الصالحة،التي تقرب من رضوان الله عز وجل وجنته، وتبعد عن سخطه وأليم عقابه، ورحم الله أبا الدر داء حيث كان يقول للغزاة (يا أيها الناس:عمل الصالح قبل الغزو،فإنما تقاتلون بأعمالكم) ولله در الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم:
(عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف)
فابذل الجهد واستحث المطايا *** إن صنع النجاح ليس مزاجاً
ليس من يعمر البلاد بزيف *** مثل من يعمر البلاد نجاحاً
أي أخي : هذا هو الطريق الذي أراه يصلح حالنا ويسمو بكرامتنا،ويعيد عزتنا،ويرفع شأننا.
وإن التوبة والعمل الصالح ومحاسبة النفس ومراجعة الذات،وإعداد هذه النفس إعداداً إيمانياً وبدنياً،والارتباط بالله والتعلق به، كل هذا مفتاح للطريق الذي يعيد لنا المجد بنصاعته.
ومن المتوجب علينا معرفته أن إقامة النصر في الأرض،وإعادة الخلافة الراشدة،لا يقدم ذلك لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب،والوصب والنصَّب،حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب،والصلاح في الأعمال،والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
عقد مقارنة :
من المعلوم قطعاً أن الكفار أعداء الله – ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية لهم من الإيمان بالله وبرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنهم أبدعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية.
ونحن نعلم كذلك كما قدمت سابقاً أن المسلمين ـ ويا للأسف ـ قد نسوا الله فأنساهم أنفسهم وزاغوا عن الصراط المستقيم ـ إلا قليلاً - وابتعدوا عن طاعة الله والقرب منه وعن أسباب النصرة المعنوية التي تكفل الله لمن فعلها من المسلمين بالنصرة والتأييد ولو كانت قوتهم العسكرية وأسبابهم المادية أضعف من الكفار .(1/1513)
وكذلك فإن المسلمين ضيعوا أسباب نصرتهم المادية فأين هي القنابل الذرية والمتفجرات النووية،وأين الأسلحة والعتاد والقوة والرجال، فلم نسمع لها صفيراً ولا همساً، بل علاها الغبار ولم تستخدم في قتال أعداء الله.
ولهذا فإن منطق العقل السليم أن يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية ولو كان مضيعاً للأسباب المعنوية على الذي ضيع أسبابه المادية والمعنوية التي تحق النصر والتأييد؛ ولذلك انتصر الكفار أعداء الله على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنساهم سبحانه وضيعهم وقد روت لنا كتب التاريخ أنه في أعقاب معركة اليرموك الشهيرة ،وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم ، والمرارة تعتصر في قلبه ، والغيظ يملأ صدره ، والكآبة بادية على محياه( ويلكم أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم ، أليسوا بشراً مثلكم ؟ ! قالوا : بلى أيها الملك ، قال : فأنتم أكثر أم هم ؟! قالوا:نحن أكثر منهم في كل موطن، قال : فما بالكم إذا تنهزمون ؟!
فأجابه شيخ من عظمائهم:إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار،ويوفون بالعهد،ويتناصفون بينهم) البداية والنهاية ( 7/15)
تلك هي صفات المسلمين؛ولذلك نصرهم الله ولاحت أمام أعينهم أقواس العزة والرفعة في سماء المجد .
فقم بالله أخي لنصرة دينك وأصلح ذاتك فصلاح الذات قبل صلاح الذوات، ومن قاد نفسه قادم العالم، وردِّد:
قم نعد عدل الهداة الراشدين *** قم نصل مجد الأباة الفاتحين
قم نفك القيد قد آن الأوان *** شقي الناس بدنيا دون دين
فلنعدها رحمة للعالمين *** لا تقل كيف ؟ فإنا مسلمون
يا أخا الإسلام في كل مكان *** اصعد الربوة واهتف بالآذان
وارفع المصحف دستور الزمان *** واملأ الآفاق إنا مسلمون
مسلمون مسلمون مسلمون *** حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون *** في سبيل الله ما أحلى المنون
هذا هو الدواء لمن وقع في فخ الداء :
والذي أراه يحقق لنا النصر ويعز به هذا الدين بعد التوبة إلى الله أمور ثمانية وهي :
1ـ الاعتصام بكتاب الله تعالى وقراءته وتدبره والعمل بما فيه ، والاعتصام بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأن نقدم كلامهما على كلام أي إنسان، ونبتعد عن كل هوى خالف القرآن والسنة .
2ـ الاهتمام والالتفاف على عقيدة أهل السنة والجماعة،وتطبيقها في أرض الواقع،واحذر أخي ممن يثبط عن تعلم العقيدة،أو يجعل تعلمها في مراحل متأخرة فإنه رجل سوء فلا تجالسه.(1/1514)
3ـ الإعداد البدني والإيماني،والجهاد في سبيل الله،فإن الجهاد ينبوع العزة،ومعين الكرامة،وهوالمجد لمن أراد المجد،والعزَّ لمن أراد العز، و(من مات ولم يغز ولم يحدث بها نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) كما أخبر الصادق المصدوق ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال الإمام ابن تيمية(فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه) مجموع الفتاوى (10/193)
4ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لدين الله – عز وجل – وهذا أمر فرضه الله عز وجل علينا فقال:((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)) (آل عمران: من الآية110)
5ـ الدعوة إلى الله عز وجل وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (النحل:125) وقال تعالى : ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي))(يوسف: 108)
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ (فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد) (مفتاح دار السعادة 1/153) ورحم الله من قال:
إن نفساً ترتضي الإسلام ديناً
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهيناً
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
(المنطلق للراشد ص 227)
6ـ الالتفاف على جماعة المسلمين الصادقة ولزوم غرزهم، وعلى رأسهم العلماء الربانيون والمجاهدون الصادقون،والدعاة المخلصون، فيجب الحذر من التكلم في أعراضهم أو سبهم وليعلم أن من تكلم فيهم فإنه قد شق الصف ولم يوحده وفرق الجماعة والقلوب .
وقد أورد مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد حديث ثوبان رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وكذا حديث عقبة بن عامرـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)
فصفة عصابة المسلمين وجماعتهم أنها قائمة بنصرة دين بالحجة والبيان، والسيف والسنان ، وسيأتي أناس يخالفونها الرأي بتلك النصرة البيانية أو الجهادية،فأخبر عليه السلام أن تلك المخالفة وذلك التخذيل لن يضرهم لأنهم على هدى مستقيم ، ومنهج قويم ،ولذا ستبقى هذه الطائفة منصورة إلى(1/1515)
قيام الساعة، وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه حديث جابر بن سمرة مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ( لن يبرح هذا الذين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) فعلى الثابت على هذا المبدأ،ألَّا يضره كلام مخالفيه وخاذليه،بل ينطق بكل علو وصمود:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماض فلو كنت وحدي والدنا صرخت *** بي قف لسرت فلم أبطء ولم أقف
أنا الحسام بريق الشمس في طرفي *** مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا محن *** على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
7ـ محاسبة النفس ، والنظر مرَّة بعد مرَّة إلى عيوبها،حتى لو تابت ورجعت إلى الصراط المستقيم،فإن (كل بني آدم خطاء،وخير الخطائين التوابون) رواه أحمد والترمذي عن أنس وحسنه الألباني ( صحيح الجامع 2/831) وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخفف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)
8- رسم المنهج والتخطيط لنصرة دين الله،على تعاون بين المسلمين فلا يصح عمل بدون خطة،والتنظيم والتخطيط قانون النجاح ومن أجمل ما قرأت في ذلك ما كتبه الدكتور:عدنان النحوي في كتابه(حتى نغير ما بأنفسنا) صـ10(إذا غاب النهج والتخطيط على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الرباني في واقع أي أمة، فلا يبقى لديها إلا الشعارات التي تضج بها ولا تجد لها رصيداً في الواقع إلا مرارة الهزائم وتناقض الجهود واضطراب الخطا، ثم الشقاق والصراع وتنافس الدنيا في الميدان، ثم الخدر يسري في العروق،ثم الشلل،ثم الاستسلام!)
هذه نقاط ثمانية كاملة،أًرى إن تحققت في واقع المسلمين، فإنهم سيجنون بعدها الفلاح والعز والسؤود في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز .
((مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال:10)
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما فيه صلاح أنفسنا وأمتنا وآخرتنا،وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً،إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت،أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
ــــــــــ
خطوات مهمة لكشف الغمة(1/1516)
الحمد لله مزيل الكربات .. وفارج الملمات .. ومنفس الشدائد و المصيبات .. وقاضي الحاجات .. والصلاة والسلام على هادي البرية ..وأزكى البشرية ..والذي حذرها من أسباب العقوبات ..وبين لها موجبات السلامة و الرحمات ..أما بعد :
فإن الناظر في مجريات الأحداث .. والمطلع على وقائع الأمور .. والمتابع لما يدور في الساحة اليوم .. يجد أن الأمر جلل .. والخطب جسيم .. وقد يؤدي إلى واقع أليم .. فالعدو قد كشر عن أنيابه .. وأظهر ما كان يخفيه من أحقاده .. وقد يتساءل المرء في ظل الظروف الصعبة .. والمواقف الحرجة .. ماذا يفعل ؟ وماذا يصنع ؟ وهل بمقدوره أن يدفع البلاء.. أما أن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد .. أو يكون دوره هو التفرج على مسرح الأحداث .. دون أن يكون للإنسان أي أثر فاعل .. أو أن يحيل الأمر إلى غيره .. وينسب التقصير إلى من حوله .. ويقول .. الناس فعلوا .. والناس تركوا .. ويخرج هو كالشعرة من العجين .. كل هذه التساؤلات وغيرها يجيبنا عنها .. من يتأمل نصوص القرآن والسنة .. فإنها تذكر الدور المطلوب .. والعمل المرغوب .. الذي يجب فعله على كل مسلم ومسلمة .. ليسلموا من العذاب .. ويندفع عنهم غضب الملك الوهاب .. فأرعني سمعك يا رعاك الله .. واستحضر القلب يرحمك الله ..
لابد أن تعلم يا رعاك الله ..أن كل واحد منا قادر على أن يعمل شيئا .. وأن يقدم لأمته عملا .. ولن أذكر لك .. ما لا تستطيع فعله .. أو تعجز عن عمله .. بل ما سأذكره من خطوات .. وما سأضعه بين يديك من وسائل .. هي بمقدور الجميع .. وكل واحد معني بها .. الصغير والكبير .. الأمير والوزير .. الغني والفقير .. والذكر والأنثى .. ولا تتصور أن المخاطب بها غيرك .. بل إني أعنك أنت بالذات .. فلا تلتفت إلى غيرك .. ولا تشر بأصبعك إلى من سواك .. فأنا أقصد نفسي أولاً .. ثم أقصدك ثانياً .. ثم أقصد غيرك ثالثاً .. وهذه الخطوات .. إلم نبادر إلى فعلها .. ونسارع إلى عملها .. فإني أخشى من عقوبة التهاون والتساهل فإن الله يمهل ولا يهمل ..
أحبتي في الله ..
أولى هذه الخطوات .. تحقيق الإيمان والابتعاد عما يخدشه وينقصه : لقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنجاة من العذاب ..فقال سبحانه :{ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين } [يونس:103] والله تعالى تكفل بالدفاع عن المؤمنين فقال سبحانه :{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } فلماذا يتأخر أقوام عن الإيمان بالله حق الإيمان .. والله جل جلاله .. وعد إن آمنوا حق الإيمان أن يدافع عنهم ..فمن يغالب قوم يدافع عنهم القوي القهار .. العزيز الجبار .. وأي قوة في الأرض توازي قوة القهار .. وما يعلم جنود ربك إلا هو .. يقول الله تعالى :{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } هذا كلام الله .. ووعد الله .. فنصره لمن ؟ للمؤمنين .. نعم للمؤمنين ..فأين أهل الإيمان ..أين المخبتين للرحمن .. إن النصر والسلامة من الردى مقرونة بقوة الإيمان بالله تعالى ..(1/1517)
فالواجب على العباد .. أن يسعوا لزيادة الإيمان لأن الله كتب العاقبة للمتقين ..والأرض لله تعالى يرثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
ثانياً التوبة والرجوع إلى الله تعالى : يقول بعض السلف : ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة .. يقول الله تعالى { وقوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس :98 ] يقول قتادة رحمه الله في هذه الآية .. يقول .. لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وألهوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ) فهل من توبة صادقة ..ورجعة إلى الكريم الوهاب .. الرحيم التواب .. ليدفع عنا العذاب .. ونسلم من غضب رب الأرباب .. فيتوب أصحاب الربا من الربا .. وأصحاب الغناء من الغناء .. ومن فرطوا في صلاتهم إلى صلاتهم .. والمرأة تتوب من تقصيرها في تفريطها في جنب الله .. وكلنا يتوب من ذنبه .. صغيرا كان أو كبيرا .. عزيزا كان أو ذليلاً ..فالكل لابد أن يتوب إلى ربه .. ويعود إلى رشده .. ويكثر من الاستغفار : كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فقد كان يستغفر الله تعالى في المجلس الواحد مائة مرة .. و لأن الاستغفار سبب عظيم في تحصيل الخيرات .. ودفع المصائب والملمات .. يقول الله تعالى :{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} ويقول الله تعالى : { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسنا إلى أجل مسمى } [هود :3] بل إن من أسباب القوة ومضاعفتها كثرة الاستغفار كما قال الله تعالى :{ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين } [هود:52] فالاستغفار يزيد العبد قوة في جسده ، فيتمتع بجوارحه وحواسه وعقله ، وكذلك هو قوة له في طاعة ربه ، فهو قوة
على كل خير في العاجلة والآجلة .
ثالثاً: كثرة الأعمال الصالحة : يقول الله تعالى :{ واستعينوا بالصبر والصلاة } وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى " رواه أحمد ، ويقول صلى الله عليه وسلم :" العبادة في الهرج ـ أي في الفتن ـ كهجرة إلي " لأن الناس كثيراً ما ينشغلون في وقت الأحداث بمتابعة القنوات الفضائية والإذاعات العالمية ويكون هم الواحد منهم ماذا حدث ؟ وماذا جرى ؟ وينصرف تماماً عن الذكر والصلاة وقراءة القرآن فيتنبه لذلك .. كما أن العبادة .. والأعمال الصالحة لها أثر في طمأنينة القلب .. وسكينة النفس .. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت الملمات يفزع إلى الصلاة .. حتى تهدأ نفسه ويطمئن قلبه .(1/1518)
رابعاً : الإكثار من الصدقة : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء " رواه الترمذي .. وقال صلى الله عليه وسلم :" أكثروا الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا " رواه ابن ماجه وغيره .. فأين المتصدقين في الأسحار .. أين المنفقين في الليل والنهار .. يقول صلى الله عليه وسلم :" صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تُطفئ غضب الرب .." [رواه الطبراني : صحيح الجامع 3797] . قال ابن أبي الجعد : ( إن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء ).. فلا تتردد في البذل والعطاء .. خاصة لإخوانك المجاهدين .. الذين يواجهون أمم الكفر .. ويصدون ظلمها وجبروتها .. فالوقوف معهم من أوجب الواجبات .. وأهم المهمات .. لأنه بدعمنا لهم يكفون عنا وعن الأمة شرورا كثيرة .. فأنفق ينفق الله عليك .. وما نقص مال من صدقة .. ذكر الأديب الكبير علي الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته (7/48ـ49 ).. قائلاً : ذهبت سنة ست وأربعين إلى مصر ، وكان الطريق على فلسطين ، فأقمت فيها عشرة أيام ، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين فلمتهم على قعودهم وقيام اليهود ، وعلى تقصيرهم بجمع المال وشراء السلاح ، فقالوا : إن الأيدي منقبضة ، والنفوس شحيحة ، قلت : لا بل أنتم المقصرون ، قالوا : هذا تاجر من أغنى التجار ، فهلم بنا إليه ننظر ماذا نأخذ منه ؟
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين ، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالا ، وكلمناه .. وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين ، وأدلة المنطق ، مثيرات الشعور ، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية ، ما أحست بها ، فضلا عن أن ترتج منها .
وقال : أنا لا أقصر .. أعرف واجبي .. وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه .
قلت : وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود ؟ قال : وهل تمثلني باليهود ؟ قلت : وهل أعطيت مرة مالك كله ؟ فشده وفتح عينيه ، وظن أن الذي يخاطبه مجنون ، وقال : ما لي كله ؟ ولماذا أعطي مالي كله ؟ قلت : إن أبا بكر لما سئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله .. قال : ذاك أبو بكر وهل أنا مثل أبي بكر ؟ قلت : عمر أعطى نصف ماله ، وعثمان جهز ألفاً .. فلم يدعني أكمل وقال : يا أخي أولئك صحابة رسول الله ، الله يرضى عنهم ، أين نحن منهم ؟ قلت : ألا ترى البلاد في خطر ؟ وإننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثير ؟ قال : يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي .. أنا رجل بياع شراء .. لا أفهم في السياسة ، وليس لي بها صلة ، وهذا مالي حصلته بعرق جبيني ، وكد يميني ، ما سرقته سرقة ، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء ؟ قلت : ما نطلب مالك كله ، ولكن نطلب عشره .. قال : دفعت ما عليّ .. ما قصرت .. وأعرض عنا وأقبل على عمله ، يا سادة هذه حادثة أرويها لكم كما وقعت .... ومرت سبع سنوات ، وذهبت من سنتين ـ أي سنة 1953ـ إلى المؤتمر الإسلامي في القدس ، ومررنا في الطريق بمخيم اللاجئين ،(1/1519)
وأقبل الناس يسلمون علينا ، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية ، محني الظهر ، غائر الصدغين ، رث الثياب ، أحسست لما التقت العينان ، كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة ، وكاد يفتح فمه بالتحية ، ثم تماسك وأغضى .. وارتبك كأنه يريد الفرار .. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس .. ولبثت أفكر فيه من هو ؟ وأين قابلته ؟ فما لبثت أن ذكرته .. وتكشف لي المنسي فجأة ، كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور .. إنه هو .. هو يا سادة .. وكلمته فتجاهلني ، فلما ألححت عليه اعترف ، ولم أشمت به ، ومعاذ الله ، أن يراني أنحدر إلى هذا الدرك ، ولم أزعجه بلوم ، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام ، لذلك استبقني فقال :
ـ لا تقل شيئا ، هذا هو المقدر ..[ وليت أن الله وفقني ، ووفق ] إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك .. قلت : أولم يبق لك شيء .. فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع ، وقال : بلى بقي الكثير بقيت الصحة والثقة بالله ، وبقي هؤلاء وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير . قلت : لا تيأس من رحمة الله ، قال : الحمد لله أن جعلنا عبرة ، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا ..)
فهل يعتبر أهل المال والثراء .. فيتصدقوا وينفقوا ويجودوا بالعطاء للمجاهدين الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله يحاربون الكفار .. ويقاتلون الفجار .. فإن السعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ غيره به !!
خامساً: الدعاء : وقد نجى الله تعالى أقواماً بسبب دعاءهم .. فلولا الدعاء لهلك أقوام .. يقول الله تعالى :{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ } [الفرقان :77] أي لولا دعاؤكم إياه .. أيها المخاطبون له وحده عند الشدائد والكروب لهلكتم ، فالله تعالى يستجيب لمن دعاه مخلصاً ولو كان كافرا كما قال تعالى :{ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [العنكبوت : 65] والله تعالى يبتلي عباده حتى يرجعوا إليه ويدعوه سبحانه { وما أرسلنا من قبلك في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون } [الأعراف :94] ويقول الله تعالى :{ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر لم يقل أنا رسول الله ..وأنا منصور ..كلا ..بل قام ليلته تلك رافعاً يديه .. يدعو ربه ويناجيه .. ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض .. اللهم أنجز لي ما وعدتني .. حتى سقط رداءه من على كتفيه .. فأخذه أبو بكر الصديق .. وقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي .. كفاك مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك .. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في وقت الكرب بهذا الدعاء :" لا إله إلا الله الحليم العظيم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم " رواه البيهقي ..فألحوا على الله بالدعاء ..خاصة في وقت الأسحار ..فإن الله تعالى ينزل في الثلث(1/1520)
الأخير من الليل ويقول ..هل من داعي فاستجيب له ..هل من سائل فأعطيه ..وأمة الإسلام ..تعدادها ..أكثر من مليار مسلم .. ومن ظن أن الله لا يستجيب دعاء هذه الأمة .. فقد أساء الظن بربه ..وهو القائل : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فلماذا لا ترفع الأيدي بالدعاء ..
ولماذا لا تسبل الأدمع الغزار في رجاء الملك الغفار ..ليهلك الظالمين .. وينتقم من النصارى واليهود الحاقدين .. ويدمر أعداء الدين وينصر أهل الإسلام المستضعفين فهل من دعاء لهذه الأمة ؟ وهل من مناجي لرفع الغمة ؟
ولهذا كان السلف يدركون أثر الدعاء .. لما صافَّ قتيبة بن مسلم الترك ، وهاله أمرهم .. سأل عن محمد بن واسع فقيل : هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه ..يشير بأصبعه نحو السماء يدعو ..فقال : تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير ..فأكثروا من الدعاء ..ولا تستهينوا به ..وصدق القائل :
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد أنقضاء
سادساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : لقوله تعالى :{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } ولم يقل صالحون .. فهم يدعون الناس إلى الهدى .. وينهون عن الفساد والردى .. فحصل من نفعهم سلامة القرى .. من الهلاك والردى .. ويقول صلى الله عليه وسلم : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده " [صحيح الجامع1970] والقيام بهذه الشعيرة والإتيان بها سبب للسلامة من العقوبات يقول الله تعالى :{ وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } إلى قوله :{ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين }[الأعراف :163ـ 166] ففي هذه الآيات نبأ عظيم لمن أنار الله بصيرته ..فقد أخبر لله عن سنته الماضية ..وهي أن العقوبة إذا نزلت نجا منها الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما : قسم الله هذه الأمة ـ أي بني إسرائيل ـ إلى ثلاثة أقسام : قسم : عملوا المنكر ، وهو الصيد في السبت ، وقسم : خذلوا الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، والذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، فلما نزل العذاب أهلك القوم الأولين ، ونجى الله القسم الثالث من المسخ إلى القردة والخنازير ، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر )
فالواجب علينا أن نعزز هذا الواجب ، وأن نساند من قام به ، ونؤيده معنويا وحسياً .
سابعاً: اجتناب الظلم : وهو التعدي على الناس في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم بغير حق ..يقول الله تعالى :{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } [الكهف:59] روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/1521)
" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " قال ثم قرأ :{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102] فلا يتجرأ العبد على ظلم العباد وهذا الظلم له صور عديده فمن تلك الصور :
ـ ظلم العمالة وعدم تسليم الرواتب لهم أو تحميلهم ما لا يستطيعون .
ـ ظلم الناس في الغيبة والنميمة والبهتان .
ـ ظلم الناس في أكل أموالهم من رشوة وغصب وغش ونحوها .
ـ ظلم الناس في قطيعة الرحم
ـ ظلم الأولاد وعدم النصح لهم بإحضار أجهزة الفساد لهم .
ـ ظلم الناس لزوجاتهم .
ثامناً : الالتفاف حول العلماء الربانيين ، والأئمة المهديين ، الأتقياء الصالحين .. فإن الالتفاف حولهم يعد سبيلا مهما من سبل الوقاية والنجاة من الفتن على مختلف أنواعها وأشكالها ، كما يعين على الأمن من الزيغ والضلال ، فكم أنجى الله بالعلماء .. الأمة الإسلامية .. من محن عصيبة ، وفتن رهيبة ، كإعزاز الله لدينه بالصديق رضي الله عنه ، يوم الردة ، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة ، فكم ثبت الله المسلمين في تلك الفتن بعلمائهم .. فلابد إذا من لزومهم ، والعيش في أكنافهم ، والالتفاف حولهم لا سيما وقت الفتن .
ثم أوصي العلماء بأن يتقوا الله تعالى في أمتهم ..وأن يقولوا كلمة الحق..ظاهرة بلا خفاء .. بينة بلا غموض .. فالوضوح وتخصيص الدلالات هو ضمانة ضد الفتن أكيدة .. أما الكلمات الفضفاضة .. والعبارات العائمة فإنها لا تزيد النار إلا اضطراما .
تاسعاً: السير في ركب جماعة المسلمين وإمامهم : عن حذيفة قال : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني : فقلت يا رسول الله : إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، قلت وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال نعم وفيه دخن ( أي فيه كدر) قلت وما دخنه ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم اليها قذفوه فيها ، قلت يارسول الله صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت فما تأمرني أن أدركني ذلك ؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ))رواه البخاري وغيره.
أ- انظروا إلى صفات الحالة الأخيرة التي خشي الصحابي الجليل حذيفة أن يدركها :-
1- دعاة على أبواب جهنم من أجابهم اليها قذفوه فيها .(1/1522)
2- أن هؤلاء الدعاة إلى الباطل ليسوا يهوداً أو نصارى ولا أعاجم وأنماهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا )
ب- فما المخرج - الرسول أوصى حذيفة : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )
عاشراً : لابد من الاهتمام بالعلم الشرعي ..خاصة في وقت الفتن ، لأن كثيرين يخوضون بغير علم .. فيؤدي خوضهم الى أنواع من البلاء .. والتفرق والتصرفات الطائشة .. ومما يلاحظ :- انتشار القصص والروايات الواهية الضعيفة وقت الفتنه ، فيكثر القصّاص الذين يوردون الحكايات والقصص التي لا أصل لها . انظر الى قول ابن عمر - كما رواه ابن حبان - ( لم يكن يُقصّ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان إنما كان القصص زمن الفتنة ).
أيها الأخوة الأكارم : إن التأصيل العلمي الشرعي لا بدّ منه .. لأن الوصول الى الحق والصواب لا يتم الا بالرجوع إلى الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة .. ولأنه يحمي من الاجتهادات التي تمليها الظروف والأهواء ، ويرجع الأمور الى أصولها الصحيحة . ومن خلال العلم يعرف المرء كيف يتصرف .. وماذا يفعل ؟ فهل من اهتمام بالعلم وطلبه وتأصيله على منهج شرعي ..
الحادي عشر : الاستعداد : وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يهيأ أصحابه للأحداث القادمة .. ويسألهم ماذا سيصنع لو حدث كذا .. وماذا سيفعل لو جرى كذا ؟ يقول صلى الله عليه وسلم :" احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " رواه مسلم .. ومن نماذج هدي الرسول لتهيأة أصحابه .. ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان : كما عند ابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه يقول ذلك ثلاث مرات .. قال هذا قبل موته صلى الله عليه وسلم وعثمان تولى الخلافة بعد أكثر من فترة طويلة .. ولم تأتي مناسبة هذا الكلام إلا في آخر خلافته رضي الله عنه .. فالرسول صلى الله عليه وسلم يهيأ عثمان نفسياً للحدث الذي يصيبه..ولذا عندما تولى الخلافة أراد المنافقون خلعه ولكنه رفض بناء على توجيه النبي صلى الله عليه وسلم له .
ـ و روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ..قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك .. قال .. كيف أنت إذا أصاب الناس جوع .. تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك ..وتأتي فراشك فلا تستطيع أن تنهض إلى مسجدك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم .. قال :" عليك بالعفة " ثم قال : يا أبا ذر .. قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ..قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم ..قلت الله ورسوله أعلم .. قال :" تلحق بمن أنت منه أو قال : عليك بمن أنت منه " قلت : أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي .. قال : شاركت إذاً .. قلت ..فما تأمرني يا رسول الله ؟..قال الزم بيتك ..قلت: أرأيت إن دخل على بيتي ؟ قال : " فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق رداءك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك "(1/1523)
والنصوص في هذا كثيرة في حث النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه للاستعداد والتهيأ لأحداث المستقبل ، وهذا الذي يجب فعله في الأيام القادمة أن نستعد ..وأن نتهيأ لما سيحدث والله المستعان : والاستعداد على قسمين :
أولاً : الإعداد النفسي من خلال :
ـ تهيئة الأسرة نفسياً من الآن تحسباً لأي طارئ يطرأ في المستقبل ..وتحدثيهم بالغزو والجهاد يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " رواه أبو داود .
ـ التوكل على الله تعالى .. لأن الله تعالى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي كافيه وناصره .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاًَ ـ أي جائعة ـ وتروح بطانا ـ أي شباعا " رواه أحمد .
ـ أن يتيقن العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ..وأن يستقين الإنسان بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " رواه الترمذي وصححه .
ـ أن يعلم الإنسان أن نصر الله قريب .. وأن الله ينصر من نصره .. وأن هذا الدين منصور ..وما على الأمة إلا أن تطبق وتعمل بأسباب النصر والتمكين التي ذكرها الله في كتابه .. فإذا عملت وطبقت فإن النصر لا محالة قريب .
ـ أن يبشر الإنسان غيره ويتفائل .. خاصة في وقت الأزمات والملمات .. لأن النفوس بأمس الحاجة إلى التفائل الذي يدفعها إلى العمل .. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل .. فعندما أراد الأحزاب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق ..وبينا أصحاب رسول الله يحفرون الخندق إذ واجهتم صخرة شقت عليهم .. وكلت أيديهم منها فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .. فأخذ رسول الله المعول من سلمان .. فضرب الصخرة ضربة صدعها .. وبرقت منها برقة أضاء ما بين لابتيها ـ يعني لابتي المدينة ـ حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم .. فكبر رسول الله تكبير فتح .. وكبر المسلمون .. ثم ضربها رسول الله الثانية فصدعها وبرق منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ..فكبر رسول الله تكبير فتح ..وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها ..وبرق منها برقة أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ..فكبر رسول الله تكبير فتح .. وكبر المسلمون .. ثم أخذ بيد سلمان فرقي .. فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله .. لقد رأيت شيئا ما رأيته قط .. فالتفت رسول الله إلى القوم ..فقال : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله(1/1524)
بأبينا أنت وأمنا .. قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج .. فرأيناك تكبر فنكبر .. ولا نرى شيئا غير ذلك ..قال : صدقتم .. ضربت ضربتي الأولى .. فبرق الذي رأيتم .. أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها .. ثم ضربت ضربتي الثانية .. فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم .. كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ..ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق منها الذي رأيتم ..أضاءت لي منها قصور صنعاء .. كأنها أنياب الكلاب .. فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ..
فأبشروا يبلغهم النصر .. وأبشروا يبلغهم النصر.. وأبشروا يبلغهم النصر.. فاستبشر المسلمون .. وقالوا : الحمد لله موعد صادق بار وعدنا النصر بعد الحصر .. فطلعت الأحزاب .. فقال المؤمنون : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ..فهكذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الأزمات .
ثانياً : الإعداد البدني : ويتم ذلك من خلال :
1 ـ ممارسة المشي والجري وحمل الأمتعة الثقيلة والتقلل من الطعام والشراب ونحو ذلك ..لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .." رواه مسلم .
2 ـ أن يتعلم الرماية ..لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا " رواه البخاري .
3 ـ أن يتعلم الإنسان الإسعافات الأولية .
4 ـ أن يعود الإنسان نفسه على ترك ما ألفه من حياة الترف والكماليات ، لقول عمر رضي الله عنه : اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم .
وأخيرا .. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. فإذا غيرنا ما بأنفسنا .. من المعاصي والذنوب .. وانتقلنا إلى فعل الطاعات ..والمسابقات إلى الخيرات ..غير الله علينا .. ما كان فينا من الشقاء ..إلى الخير والهناء .. إنها دعوة صادقة .. من محب لأحبابه .. ومن صديق لأصدقائه .. ومن قريب لأقربائه .. ومن أخ في الله لإخوانه .. أناشدهم فيها إلى المسارعة إلى التغيير .. والمبادرة إلى تحسين الأوضاع .. قبل أن تسكب العبرات .. وترتفع الآهات .. وتحل الأحزان .. وتكثر الأشجان .. ويفرح الأعداء .. ويحزن الأصدقاء .. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
محمد بن عبدالله الهبدان
1/1/1424هـ
ــــــــــ(1/1525)
التمحيص طريق التمكين
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله ذي العزة والجبروت والكبرياء،تفرد جل جلاله بالدوام والبقاء وكتب على من سواه الفناء،أحمده سبحانه وأشكره جعل طريق النصر مسبوقاً بالتمحيص والابتلاء،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يكشف سواه الضراء ولا يأتي غيره بالسراء،وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وقدوة المؤمنين الأتقياء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما لاح بعد الظلمة ضياء ، وما تحقق للأمة نصر بعد ذل وعناء. ....وبعد:فاتقوا الله عباد الله فالتقوى سبيل النصر والتمكين ودفع الأذى إذا ما خالطها الصبر أخبر بذلك اللطيف الخبير بقوله:}وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{([1])معاشر من آمن بالله واليوم الآخر لو أن شركة من الشركات أرادت أن تولي شخصاً منصباً قيادياً بها فتقدم لها عدد من الناس وكل يدعي أهليته لهذا المنصب فماذا ستفعل تلك الشركة؟ لا شك أنها ستجري امتحاناً وتمحيصاً للمتقدمين حتى يتبين للجميع أن فلاناً هو الأحق والأجدر بهذا المنصب، هذا فيما يتعلق بمنصب قيادي في شركة فما بالكم بأمة يعدها ربها لقيادة العالم؟ وأدعياء التقوى والعلم والإيمان فيها كثير فلابد لهم من التمحيص والاختبار حتى يتميز الصادق من الكاذب وقد نص الله سبحانه على ذلك في كتابه بقوله جل شأنه : }الم()أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ()وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ (2).، وقد يقول قائل لماذا الامتحان والتمحيص والله يعلم السرائر والبواطن؟ فنرد عليه بقول رب العالمين:} لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ{ (3) ؛ وهذا التمحيص والابتلاء الذي ينزل بالأمة أيه الأحبة في الله
نتيجته أحد أمرين أما نجاحاً وفوزاً وتمكيناً وإما إخفاقاً وذلاً مهيناً ، وفي قمة الامتحان والابتلاء يأتي الفرج والتمكين كما أخبر بذلك رب العالمين بقوله : }أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ{(4) ؛ تعالوا معي أحبتي نأخذ أمثلة لامتحان بعده نصر وتمكين : فهذا موسى عليه السلام ومن آمن معه أشتد أذى فرعون لهم حتى بلغ طغيان فرعون أن قرر قتلهم وإبادتهم ليقضي على دعوة الإيمان ويصفو له الجو وحشر لعملية قتل تلك الفئة القليلة المستضعفة كل قواته وإمكانياته واستمع للعليم الخبير ينبئك عن ذلك بقوله :} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ()إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ()وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ()وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ{(5) . فماذا كانت النتيجة ؟ استمع لها ممن له القوة جميعاً : }فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ()وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ(1/1526)
رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ{(6) . أرأيتم أيها الأحبة في الله بينما كان أهل الكفر الأقوياء يتوعدون أهل الإيمان الضعفاء بالقتل والإبادة تدخلت القدرة الإلهية التي لا يقف لها شئ فقتل أهل الكفر وبقي أهل الإيمان وأبيد أهل الكفر وكان التمكين لأهل الإيمان ، وهذا لوط عليه السلام ابتلي بقومه أهل الفاحشة
النكراء وقرروا طرد لوط من بلاده وليس له ذنب إلا الطهارة من رجسهم ونتنهم : }فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ{(7) . وبلغ الابتلاء والتمحيص قمته يوم أن أرادوا فعل تلك الفاحشة القذرة بضيوفه الكرام حتى ضاق الأمر بلوط عليه السلام وقال تلك المقولة التي تعبر عن قمة الحالة التي وصل إليها :} قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ{ (8) . فجاءته البشرى : }قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ{(9) .وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم تتفق قريش على قتله فداه نفسي وأبي وأمي والناس أجمعين ويشرعون في تنفيذ الخطة ويحيط الرجال الأقوياء بمنزله استعداداً للفتك به فيخرجه الله من بينهم كما تخرج الشعرة من العجين ، وتكون الهجرة التي عاد بعدها صلوات ربي وسلامه عليه فاتحاً معززاً مكرماً، ويتكرر مشهد الابتلاء والتمحيص فكم عذب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وكم لقوا من الأذى ، وكان من مواقف التمحيص الشديدة يوم الأحزاب حيث اجتمعت قوى الكفر لإبادة الإسلام وأهله وبلغ البلاء من أهل الإيمان مبلغه حتى يصفه الله بقوله : }إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ()هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا{(10) .فماذا كانت النتيجة؟ أرسل الله عليهم تلك الريح الباردة التي أقضت مضاجعهم وأجبرتهم على الانسحاب ولم يستطيعوا العودة بعدها لغزو المدينة، ثم
كان الفتح والتمكين لأهل الإيمان، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أصيبت الأمة الإسلامية بزلزال عنيف وتمحيص عظيم إلا وهو قضية الردة فثبت الله الأمة بالصديق رضي الله عنه ثم أعقب تلك المحنة وذلك التمحيص فتح أكبر دولتين في ذاك الزمان الروم وفارس وإخضاعها لشريعة الإسلام ، وحينما تخفق الأمة في الامتحان والتمحيص تشتد المصيبة وتحل العقوبة من الجبار وإليكم مثالاً واحداً لذلك بنوا إسرائيل اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة واستمعوا للقصة يخبركم بها رب العالمين بقوله : }وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ()يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ()قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{(11) . وتمادوا في عصيانهم أوامر ربهم التي(1/1527)
أخبرهم بها نبيهم بقولهم : }قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{(12) . فماذا كانت النتيجة؟ استمع لها من رب العالمين : }قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{(13) .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :}وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ{(14) .
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وحبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن النصر والتمكين لا يكون لأمة غافلة لاهية عن ربها وأن وقت التمحيص والابتلاء هو وقت الرجوع إلى من بيده مقاليد السموات والأرض ، فاحرص أخي أن تكون ممن ينجحون عند التمحيص والابتلاء ولا تكن من الفريق الآخر ، وقوي صلتك بقيوم السموات والأرض تفلح ، ألا وإن من الطرق لذلك الصيام وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الصادق المصدوق قوله : ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ))(15) .وقد حبب إليكم خير الورى صلى الله عليه وسلم صيام يوم عاشوراء فقد سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ.
-----------------
([1] ) آل عمران: 120.(2)العنكبوت:1-3.(3)الأنفال:42.(4)البقرة: 214.(5)الشعراء:53-56.(6)الأعراف:136،137.(7)النمل:56.(8)هود:80.(9)هود:81.(10)الأحزاب:9-10(11)المائدة:20-22.(12)المائدة:24.(13)المائدة:2
ــــــــــ
أثر الدعاء في نصرة المجاهدين
بقلم الأستاذ/ خباب بن مروان الحمد
khabab00@hotmail.com
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً، وبعد:
منذ أن انبثق فجر التاريخ الإسلامي ، بدأت دواعي النفوس الشريرة ، والتي أكلها الحسد، وقتلتها الغيرة، بتصويب أسلحتهم وسهامهم إلى صدور الموحدين، راجين أن يمحقوا دين الإسلام ، وحركته(1/1528)
الحضارية، ونمو الإيمان المتجذر في النفوس الصادقة... لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويفلق هامات الخواجة أولي الكفر والفجور، ويعز دينه وأولياءه ولو كره المجرمون.
واليوم ونحن على درجة كبيرة من درجات التحدي العالمي لقوى الصهيونية العالمية، والإمبريالية الأمريكية الطاغية، والتي حاكت الشر للمسلمين، ودفعت بجنودها إلى اقتحام بلاد الإسلام، ونهب خيراتها، وسلب أموال أصحابها، وتركيعهم ـ زعموا ـ لقوى التحالف النصرانية!!
وقد شاهد المسلمون فصولاً من ذلك التآمر المتواطئ من بني الكفر والنفاق ضد أبناء الإسلام وهوياتهم ومقدساتهم، ففي فلسطين الصامدة روايات وحكايات ، وفي العراق مآسي ومذكرات، وفي أفغانستان حكايات وتضحيات، وفي الشيشان تاريخ وملمات، وفي غيرها من بلاد الإسلام أنَّات وزفرات، وهكذا... تمضي رايات الكفر والنفاق لتصطفَّ تجاه رايات الإيمان في كل فرصة سانحة بوثبة جامحة كاشحة.
وفي قلب تلك الأحداث التي تكرر نفسها، وتعيد دورتها ، يحسن بجنود الرحمن ومن يرفع رايات الجهاد الصادقة؛ أن يزداد فرارهم إلى الله ، وتنعطف أفئدتهم إلى الرحمن ، ويتعلقوا بحبال العرفان للرب المنان ، ويطالعوا سير أسلافهم المجاهدين وتعلقهم بالله رب العالمين ، حين تأتي قوافل الكفر الغاشمة لتدك بلاد الإسلام، فيتطاير فرسان الجهاد، وأبطال الملاحم لمنازلة النوازل، ومقارعة الخطوب، ومكافحة الإرهاب الكافر حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وسأعرض في هذه المقالة شيئاً من سير المجاهدين السابقين، لنرى أنهم ما كانوا يقدموا على أرض المعركة،إلا ويتوجهوا للحي القيوم بالدعاء، والرجاء، والاستغاثة والتضرع إليه بأن ينصرهم،ويخذل عدوهم،وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً، لتعلم النفس المؤمنة، بأنَّ النصر لا يكون بالأسباب المادية فقط، بل إنَّ ركيزته الكبرى، وقاعدته الأسمى،التعلق بالله رب العالمين وانطراح العبد على عتبات الربوبية بالدعاء للمسلمين.
وثمَّة أمر أحببت أن ألوِّح به، وهو: أنَّ من دواعي انقداح الكتابة في هذا الموضوع ، ما نجده في قلوب بعض المسلمين ـ ويا للأسف ـ من تقليل الاهتمام والاعتناء بهذا الأمر، وكأنَّ الدعاء صار لا يجدي ولا ينفع خصوصاً مع كثرة النوازل والمصائب التي تصيب المسلمين، وقد ينظر البعض لمن يتحدث بهذا الأمر، ويصيح به في آذان الناس، نظرة المتشائم، والذي يظنُّ أنَّ الدعاء سبب بسيط ولا تأثير له كبير في أرض الواقع، ومن هنا أحببت أنْ أسطِّر بعض المواقف العملية الجهادية،والتي دعا فيها المسلمون ربهم بإخلاص ومثابرة،فأكرمهم الله بالنصر المبين، والظهور على أعداء الدين.
ولعلَّه بعد ذلك وحين تقرأ النفوس وكأنها تشاهد أثر الدعاء في نصرة المسلمين والمجاهدين؛ فترفع أكفَّ الضراعة إلى الحي الذي لا يموت، بأن ينصر الله دينه ويخذل أعدائه، ويكون من بين تلك(1/1529)
النفوس رجل صادق لو أقسم على الله لأبرَّه، يستحي الله حين يراه قد شرع في الدعاء، ومدَّ كفيَّ الرجاء،أن يرد الله يديه صفراً خائبتين.
إلاّ أنّه من الأهمية أن يُعْلَمَ أنَّ أولئك السابقين ما كانوا يدعون الله فقط بأن ينصرهم على عدوهم،وهم لم يهيئوا أسباب النصرة المادية، من الجهاد بالنفس والمال والكلمة الصادقة، وما تحتاجه تلك المعركة الدائرة بين الإسلام والكفر من تحفيز ونصرة.
لقد كانوا _رضوان الله عليهم_ يدعون الله وهم متوجهون للقتال، أويتضرعوا إلى الله ولهم مشاريع قد أعدت لنصرة دين الله، والتي منها الدعاء، ولهذا أنبه قبل عرض سيرهم بأنَّ من أسباب النصر العظمى الدعاء، والذي يعقبه الكفاح والعمل والبناء،أمَّا أن يدعو الإنسان ربه وليس لديه برامج عملية لنصرة هذا الدين، فإنَّ هذا كطالب مخفق أخرق في دراسته، ثمَّ يسأل الله النجاح ولم يعد لذلك النجاح،فهل ينال حينئذٍ النجاح...هيهات! فليعلم أنَّ هذا الدين يحتاج لرجال أكفاء يقومون بنصرته في جميع ميادين النصر، وصدق من قال:
إسلامنا لا يستقيم عموده *** بدعاء شيخ في زوايا المسجد
إسلامنا نور يضيء طريقنا *** إسلامنا نار على من يقتدي
فليس النصر الدعاء، وليس هوالقوة المادية فحسب، وليس كذلك بالكثرة العددية، إنَّ النصر مجتمع في ذلك كلِّه لا ينفصل جزء من شمول، ولا ينبتر بعض من كل.
ولعلِّي أبدأ هذه الأكتوبة، وأطرِّز المسيرة وأُتَوِّجَ السيرة، برسول الأمة المختارة، محمد بن عبدالله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنَّ: تاريخنا من رسول الله مبدؤه وما عداه فلا ذكر ولا شان، فقد نام صحابته الأكارم ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ ليلة بدر، إلا هو ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد بات تلك الليلة يصلي إلى جذع شجرة ، ويكثر في سجوده أن يقول:"يا حيُّ يا قيوم" يكرر ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويسأل الله النصر(البداية والنهاية5/82)، وحين رأى رسول الله جند قريش قال:" اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة" (السيرة النبوية لابن هشام3/168).
وقد روى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا كان يوم بدر نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القبلة، وعليه رداؤه وإزاره ، ثمَّ قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" قال عمر بن الخطاب: فما زال يستغيث ربَّه ويدعوه، حتَّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردَّاه، ثمَّ التزمه من ورائه ثمَّ قال: يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك، فإنَّه منجز لك ما وعدك" أخرجه أحمد(1/30ـ31)(1/1530)
برقم(208)، وقال الشيخ/أحمد شاكر:سنده صحيح، ورواه مسلم (1763)، وأصله في البخاري، وانظر جامع الأصول(8/183).
ولهذا فإن الله _سبحانه_ وصف حال رسوله العظيم وصحابته الكرام في غزوة بدر بأنهم كثيري الاستغاثة به، ومكثري رجائه ودعاءه فقال:"إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"(الأنفال: 9) فأين نحن من الاقتداء برسول الله وصحابته بالدعاء للمجاهدين بالنصر، وخذلان عدوهم!
وعليه فإنَّ مما نستفيده من ذلك أنَّه في حالة نشوب الحرب، وقيام المعركة، واضطرام القتال،أن نرفع أكف الضراعة والاستغاثة بالله ، فلعله ـ سبحانه ـ أن يستجيب لنا فيقهر عدونا ، ويخذل محاربنا، ويمدنا بمددٍ من عنده كما أمد رسول الله وصحابته بجند من عنده من الملائكة المرسلين حين دعوه في غزوة بدر، فانخلعت قلوب الكافرين، وفروا خاسرين ، وتم بفضله ـ تعالى ـ النصر المبين.
لهذا كان الدعاء في الغزو مرتبط ارتباطاً وثيقاً مع المجاهدين في أرض المعركة،وقد بوَّب الإمام الترمذي في جامعه(باب في الدعاء إذا غزا) وأورد تحته ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إذا غزا قال:اللهم أنت عضدي وأنت نصيري وبك أقاتل" أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات برقم(3584) وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي برقم(2836).
وهنا وقفة لابد منها قبل أن نأتي على سير المجاهدين وتعلقهم بربهم بالدعاء قبيل المعركة وفي أثنائها، وهي أن من مآسي واقعنا المعاصر، وحين تدك بلاد الإسلام بالراجمات ، وتقذف بالقنابل، يهرع الكثير من المسلمين إلى شاشات التلفاز، ليروا أثر المعركة، ويستمعوا الأخبار، حتى يعلموا ماذا حلَّ في تلك البلاد.
وفي نظري أنَّ هذا الأمر وإن كان هامَّاً؛ لأنَّ فيه الاهتمام بأخبار المسلمين، إلاّ أن المداومة على ذلك ، لا يفيد إلاّ كثرة الهم والغم والحزن، والذي لا ينفع ولا يصنع شيئاً، والرأي الوجيه لمن قعد عن الجهاد للظروف المحيطة به، أن يوظِّف المسلم ذلك الحدث توظيفاً إيجابياً ، ومن أولى الأمور لتفعيل تلك القضية بين المؤمنين، اللجوء إلى محراب العبودية، والانكسار بين يدي ربِّ البرية ، والتضرع والبكاء ، والرجاء والدعاء لرب الأرباب ، ومسبب الأسباب، بأن يكف الله شرَّ الكافرين، وأن ينصر عباده المجاهدين، وأن يخذل المنافقين وعملاء الصليبيين.
تلك والله سمة المؤمن ، وشيمة الموحد ، وهو أكبر دليل على صدق ما في قلبه من الحب لإخوانه المؤمنين وحمل همِّهم، وخاصَّة أنَّ الدعاء يستجاب وقت اشتداد المعركة،وشدَّة التحارب بين المؤمنين والكافرين، فقد قال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:" ثنتان لا تردان أو قلَّما تردَّان:الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يُلْحِمُ بعضهم بعضاً" أي: حين تشتبك الحرب بينهم، أخرجه أبو داود، وقال(1/1531)
الحافظ في النتائج(1/378):حديث حسن صحيح،وصححه النووي في (الأذكار/ صـ57ـ267) ، وقال الألباني في (الكلم الطيب): حسن صحيح(صـ76).
ولقد عاب الله أقواماً نزلت بهم المصائب والبأساء ، فأعرضوا عن ربهم،ولم يدعوه لكشف ضرهم ، فلم يرفع عنهم تلك النازلة ، قال _تعالى_: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام:42، 43) وقال في آية أخرى: "وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ" (المؤمنون:76) فصار المصير إلى أن نعلم علم اليقين، أنَّ من أوجب الواجبات في زمن الكوارث والملمات، رفع اليدين بالدعاء لله رب العالمين، فلعل ذلك الدعاء من أكف بيضاء نقية، وقلوب صادقة وفيَّة، وأعين باكية تقيَّة تخفف من تلك المآسي التي أقلقت المسلمين وأقضَّت مضاجعهم، وقد علَّمنا رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه"لا يردَّ القضاء إلاّ الدعاء" أخرجه الترمذي(139)، وقال: حسن غريب، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع برقم(7687)، وأخبرنا بأنَّه"لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما قد نزل ومما لم ينزل، وإنَّ البلاء ينزل فيتلقاه الدعاء، فيتعالجان إلى يوم القيامة" أخرجه الترمذي وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2813) زاد الحاكم بسندٍ لا بأس به، فعليكم عباد الله بالدعاء، ولهذا كان الدعاء من أسباب النصر على الأعداء، وخاصَّة إذا كان ذلك من عباد الله الضعفاء، وقد دلَّ على ذلك حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ "إنما ينصر الله هذه الأمَّة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) أخرجه النسائي وصححه الألباني في صحيح النسائي(2978).
فأين نحن يا أخا الإسلام عن ذلك السلاح العظيم والمنجي لنا من بطش الأعداء؟! وأين الإلحاح على الله بأن يكشف الضر عن المسلمين؟! وأين الانطراح بين يديه؟! وأين الانكباب عليه؟! وأين التوجه إليه؟!
أين ذلك كلَّه ونحن نستمع صرخات المكلومين، وأنات الجرحى والمظلومين، وصراخ المضطهدين في سجون الكفرة الملاعين في كوبا وأبي غريب وسجون إسرائيل؟ وصدق من قال:
وإنِّي لأدعو الله والأمر ضيِّق *** عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
وربَّ فتى ضاقت عليه همومه *** أصاب له في دعوة الله مخرجا
يا للأسف حين يظن الكثير بأنَّ المهم أن يستمعوا الأخبار عمَّا حصل في الفلوجة،أو الرمادي، أوبغداد،أو الموصل،أو نابلس،أو جباليا،أو جنين،أو غزة،أو رفح،أو كابل،أو مزار شريف،أوجروزني،أو....ثمَّ لا يفعل شيئاً ينصر به دينه ولو بالدعاء وهو أقل ما يستطيع!!
يا للمأساة حين يظن البعض أنًّه إذا تحدث مع زميل له عن مآسي المسلمين وهو يشرب الشاي! ثمَّ تكلَّم عن ظلم الاحتلال الصليبي أنَّه أدَّى دوره، وانقضت مهمته!!(1/1532)
عجباً ـ وربي ـ من تلك القلوب المعمورة بحب الدعة والراحة، والكسل والنقاهة _نسأل الله العفو والمغفرة_.
ودعني الآن ـ أخي ـ أقلب لك شيئاً من صفحات التاريخ ، وطوايا الأحداث لترى العجب من قوم جاهدوا في سبيل الله، ولم يثنهم فعلهم ذاك من الفرار إلى الله ، واللجوء إلى كنفه؛ بالدعاء، والابتهالات الشرعية، والاستغاثات الربانية، سائلينه _تعالى_ أن ينصرهم وأن يكف بأس أعدائهم عنهم؛ وذلك لأنَّ الغازي في سبيل الله يستجيب الله له الدعاء ، كما قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: "الغازي في سبيل الله ، والحاج والمعتمر؛ وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم"أخرجه ابن ماجة برقم(2893) في كتاب المناسك، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم(4171).
فمتِّع ناظريك،وتشبه بسلفك، وبهداهم اقتده، لتعلم أنَّ الدعاء ركيزة كبرى من ركائز النصر، وقاعدة عظمى من قواعد معركة الإسلام مع الكفر، وإياي وإياك أن يكون ما قرأناه وكتبناه حجة علينا لا لنا ـ نسأله تعالى ألطافاً من عنده، ومغفرة من لدنه ـ
1- فهاهو طالوت وجنده قبل بداية المعركة يقول _تعالى_ عنهم: "ولمَّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" (البقرة: 250) وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله"فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت" وكان النصر حليفهم حين دعوا الله وتوكلوا عليه.
2- وهاهو الغلام المؤمن صاحب الملك الكافر حين اكتشف أمره، وعلم أنه موحد،أراد أن يفتنه عن دينه ، ويخيفه بجنده ولكن هيهات فإنَّ مع الغلام سلاحاً لا ينفد، وكنزاً لن يفقد؛ إنَّه الدعاء فحين أراد جنود هذا الطاغية،أن يلقوه من فوق الجبل إلى هاويته، نطق الغلام بكل مسكنة وافتقار للملك القهار"اللهم اكفنيهم بما شئت"، فسقط الجنود من فوق الجبل وكانوا في الهاوية، بل في القاع ، ويمضي ذلك الغلام شامخاً ًبإيمانه إلى الملك الكافر، ليعلمه دروساً في التوحيد من التوكل على الله، والاستعانة به، وعدم الخوف إلا منه إلى غير ذلك، لكن الطغاة متكبرون، ولا يسمعون داعي الإيمان‘ فما كان من ذلك الملك إلاّ أن أمر جنده بأن يذهبوا بذلك الغلام في إحدى السفن فإذا توسطت السفينة في البحر، ألقى الجنود ذلك الغلام ليتخلصوا منه ، وحين أرادوا أن يفعلوا ذلك بعد أن توسطت بهم السفينة في البحر،إلاّ ويطلق الغلام سلاحه على أعدائه"اللهم اكفنيهم بما شئت"، واستجاب الله الدعاء، وقلب السفينة بمن فيها من جند الطاغوت ونجا ذلك الغلام المؤمن من مكر الكافرين، والقصَّة معروفة، ومن أراد المزيد فليقرأ تفاسير العلماء لسورة البروج.
3- وهذا المثنَّى بن حارثة الشيباني في وقعة البويب في السنة الثالثة عشرة من الهجرة يدعون له المسلمون، والجند المقاتلون، بأن ينصره الله على أعدائه، ويكفيه شرهم، وكان النصر له في آخر المطاف.(انظر:معارك المسلمين في رمضان للدكتور:عبدالعزيز العبيدي/صـ34ـ38).(1/1533)
4- وتأمل قصة النعمان بن مقرن في سنة إحدى وعشرين، فبعد أن تحصن الفرس بخنادقهم ، وطال حصار المسلمين لهم،استشار النعمان قادته، فأشاروا عليه باستدراج الفرس والتظاهر بالهروب حتَّى إذا ابتعد الجند عن حصونهم وخنادقهم نشبت المعركة، ووافق النعمان على الخطة، وقال لهم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كان الثالثة فابدؤوا بالقتال، وهنا لم ينس النعمان الاتصال الروحي مع الله ، فقد ذهب النعمان إلى أحد الأمكنة ودعا الله قائلاً: "اللهم اعزز دينك، وانصرعبادك،اللهم إني أسألك أن تقر عيني بفتح يكون فيه عز الإسلام، واقبضني شهيداً"، وبكى الناس مع النعمان وابتهلوا إلى الله وتضرعوا، واستجاب الله دعاءهم فنصرهم على عدوهم نصراً عظيماً، واستجاب الله دعاء النعمان بن مقرن، فكان أول قتيل من المسلمين على أرض المعركة ـ رضي الله عنه ـ(البداية والنهاية7/89) (إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء للخضري/صـ95ـ96)، ورضي عن جميع صحابة رسول الله ، الذي رباهم بروضته الشريفة ، وبمسيرته المباركة فكان نتاجه عظيماً، وتربيته قديرة، فصلى الله على محمد صلاة دائمة تتعاقب بتعاقب الليل والنهار:
خلَّفت جيلاً من الأصحاب سيرتهم *** تصوغ بين الورى روحاً وريحاناً
كانت فتوحاتهم براً ومرحمة *** كانت سياستهم عدلاً وإحساناً
لم يعرفوا الدين أوراداً ومسبحة *** بل أشبعوا الدين محراباً وميداناً
5- واقرأ ما فعله حبيب بن مسلمة ـ رضي الله عنه ـ حين أمِّر على جيش،فلمَّا أتى العدو قال: سمعت رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يقول: "لا يجتمع قوم فيدعو بعضهم ويؤمِّن بعضهم إلا أجابهم الله _تعالى_" ثمَّ إنَّه حمد الله وأثنى عليه، وقال:"اللهم احقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء" فبينما هم كذلك إذ نزل أمير العدو، فدخل على حبيب بن مسلمة سُرَادقَه، وسلَّم إليه بدون حرب" أخرجه البيهقي والطبراني، وللمزيد انظر)التحفة المستطابة لرشيد الراشد/ صـ 77ـ78).
6- وأنعم النظر في قصَّة قتيبة بن مسلم مع محمد بن واسع ، فقد ذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة 2/136) أنَّه كان مع قتيبة بن مسلم في معركته الإمام محمد بن واسع، وقد كان قتيبة بن مسلم صاحب خراسان وكانت الترك قد خرجت إليهم فبعث قتيبة إلى المسجد لينظر من فيه، فقيل له: ليس فيه إلا محمد بن واسع رافعاً إصبعه، فقال قتيبة: إصبعه تلك أحبُّ إلي من ثلاثين ألف شاب طرير". وفي (سير أعلام النبلاء 6/121) قال قتيبة بن مسلم: تلك الإصبع أحب إلي من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير" فتأمل دعاء الإمام محمد بن واسع وقت المعركة، وحب القائد قتيبة بن مسلم لدعائه ذاك، بل تفضيله لدعائه على وجود ألف شاب مقاتل!
إليك وإلاّ لا تشد الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمل غائب
وفيك وإلا فالرجاء مضيع *** وعنك وإلا فالمحدث كاذب(1/1534)
7- ومما يدلًّ على أنَّ النصر يستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبدالله القسري أمير خراسان في قتاله للفرس:"إنَّه بلغني أنَّ العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإنِّي نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله، واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثمَّ رفعوا رؤوسهم، وهم لا يشكُّون في الفتح" (تاريخ الطبري 7/119).
8- وهكذا كان عقبة بن نافع فقد كان مستجاب الدعوة، وكان يتوجه إلى الله بالدعاء عند الشروع في معاركه، ويصادم العدو في شجاعة مذهلة، كما ذكره عنه أهل السير، ثمَّ يكتب الله له النصر المبين(أبطال ومواقف/صـ187).
9- وهكذا يمضي جنود الإسلام ، وتسير قوافل المجاهدين إلى الله رب العالمين، فهذا الإمام الفقيه أبو نصر محمد بن عبدالملك الحنفي يقول لألب أرسلان في موقعة(ملاذكرد) بعد أن رأى كثرة جيش الروم والتي قُدِّرت بمئتي ألف مقاتل: إنَّك تقاتل عن دين الله وقد وعد الله بنصره، وأرجو أن يكون الله قد كتبه لك بجيشك القليل شرف النصر، فسر إلى العدو الكافر يوم الجمعة، بعد الزوال، والأئمة على منازلهم يدعون لجيشك بالنصر والله غالب على أمره، وتمَّ ذلك عند ظهيرة يوم الجمعة من صيف أربعمئة وثلاث وستين للهجرة، فقد صلَّى وبكى فبكى الناس لبكائه ، ودعا الله فدعا الناس بدعائه، وعفَّر وجهه بالتراب ثمَّ ركب وقال للناس: ليس عليكم الآن أمير وكلكم أمير نفسه ، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله، ولبس البياض وتحنَّط ، وحمل بجيشه حملة صادقة، فوقعوا في وسط العدو يقتلون ما يشاؤون، وثبت العسكر، ونزل النصر،وولت الروم، واستحر بهم القتل،وقتل طاغيتهم أرمانوس،بعد أن أسره مملوك وسار به ذليلاً ليقتل رغم أنفه" انظر السير (18/414ـ416) والبداية والنهاية(12/91) أليس ذلك من بركات الدعاء يا عبدالله؟!
10- وانظرـ أخي الموفق ـ في حال نور الدين محمود في فتح حارم سنة559هـ وقد انفرد تحت تل حينما التقى الجمعان وسجد لربه ـ عزَّ وجل ـ ومرَّغ وجهه وتضرع، وقال: "هؤلاء يا رب عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك وهم أعدائك ، فانصر أوليائك على أعدائك"(ما فضول محمود في الوسط) ـ يشير إلى أنَّك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود يعني نفسه إن كان غير متحقق النصر) ثمَّ بعد ذلك فتح الله على يديه فتحاً عظيماً )(معارك المسلمين في رمضان للدكتور:عبدالعزيز العبيدي صـ65).
11- ومتِّع عينيك بقصَّة البطل العظيم صلاح الدين محرر القدس من الصليبيين" فقد جمع صلاح الدين الجموع ، ونظَّم الجيوش ثمَّ عقد مجلس شوراه للتشاور في منازلة العدو، وتوقيت المعركة فاتفقوا على الخروج في 17/ ربيع الآخر عام 583هـ بعد صلاة الجمعة، وبين تكبير المسلمين وابتهالهم وتضرعهم بالدعاء". (صلاح الدين الأيوبي للدكتور:عبدالله ناصح علوان صـ67).(1/1535)
ويقول القاضي ابن شدَّاد: " وكان صلاح الدين إذا سمع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجداً لله، داعياً بهذا الدعاء:اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك،ولم يبق إلا الإخلاد إليك ، والاعتصام بحبلك،والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل" ويقول: " ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثمَّ على سجَّادته ، ولا أسمع ما يقول ، ولم ينقض ذلك اليوم إلاّ ويأتيه أخبار النصر على الأعداء، وكان أبداً يقصد بوقفاته الجمع ، سيما أوقات صلاة الجمعة تبركاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربما كانت أقرب إلى الاستجابة" (سيرة صلاح الدين الأيوبي للقاضي ابن شدَّاد _رحمهما الله_ صـ8 وما بعده).
12- وانظر ماذا كان يفعل المظفر قطز في معركة عين جالوت سنة(658)هـ وهو يحمِّس المجاهدين ويصيح واإسلاماه ، واإسلاماه، ويسجد ويعفِّر وجهه في التراب ويقول: يا الله انصر عبدك قطز(معارك المسلمين في رمضان للعبيدي/صـ71). وقال ابن كثير في البداية والنهاية(13/188) عن قطز: " ولمَّا رأى عصائب التتار، قال للأمراء والجيوش: لا تقاتلوهم حتَّى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح، ويدعو لنا الخطباء في صلاتهم". واستجاب الله دعاءه وهزم المغول ووقعوا بين يديه ما بين قتيل وجريح وأسير، بل وقع بين يديه قائد المغول فقتله تنكيلاً به، وجزاء إجرامه في قتل المسلمين.
13- أمَّا محمد الفاتح فقد دخل المسجد في صباح يوم التاسع والعشرين من مايو عام 1453م فوجد شيخه ومعلمه ومربيه آق شمس الدين منطرحاً بين يدي ربه مستغرقاً بالدعاء فاستبشر خيراً بالنصر، وحين كان المجاهدون يهيئون للمعركة عدتها كان هتافهم: ياالله ، يالله، ولمَّا فتحت القسطنطينية رآه الناس وهو يمرِّغ وجهه في التراب تواضعاً لله والمؤمنون يهنئونه بالنصر وهو لا يزيد على أن يقول النصر من عند الله، النصر من عند الله. (أبطال ومواقف/ صـ450ـ451) هكذا يا ـ أخا العقيدة ـ عرف هؤلاء البواسل دربهم ، فساروا إلى ساح الجهاد، وفتحوا الفتوحات، وغيروا مجرى التأريخ لصالح أمة الإسلام الخالدة، وأكثروا الدعاء لربهم، والاستغاثة بمعبودهم، حتى خطَّ الله لهم طريق النصر المبين، والعز والتمكين.
فأين نحن عن هذا الأمر العظيم ، بل أين نداءاتنا لله، ودعاءنا له؟وأين قنوتنا في المساجد على الصليبيين والصهاينة؟هل حققنا شيئاً من ذلك أم نبقى على فتورنا الآثم؟ أم ذلك استهانة بحق الدعاء، و تكاسلاً عن تأدية تلك العبادة!!
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء(1/1536)
إنَّ العجب كل العجب حين تجد أناساً يستثقلون بالدعاء لإخوانهم المجاهدين، وحاملي رايات المقاومة الإسلامية، والأغرب من ذلك أن يقول البعض: لقد دعونا الله ولم يستجب، أو أن يقول البعض: إنَّ ما يكتبه الله سيقدره سواء دعوناه أو لم ندعه فكل مقدر ومكتوب!!!
وإلى هؤلاء أخاطبهم راحماً حالهم، ومشفقا عليهم، فأقول:
يا من قلتم: إننا دعونا الله ولم يستجب لنا ، هل ابتعدتم عن جميع الموبقات والفواحش والظلم وموانع إجابة الدعاء؟ وهل دعوتم الله بقلب صادق، وضمير حيٍّ حاضر؟
إن من أهم ما يجب عليكم معرفته أنَّ الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل، فقد روى أبو هريرة أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه" أخرجه الترمذي(3479) وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي(2766).
ثمَّ ألا تعلموا أن رسولكم قد نهاكم عن استعجال إجابة الدعاء، فقد روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل،يقول: دعوت فلم يستجب لي" متفق عليه ، وفي جزء من رواية مسلم قيل : يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دعوت ، وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك،ويدع الدعاء".
ثمَّ ما أدراكم أيها الفاترون عن الدعاء أن يكون الله قد خفف عنَّا وعن إخواننا المسلمين كثيراً من البلاء الذي كتب أن يحل بنا، وما أدراكم أن يكون من فوائد هذا الدعاء أن يكون دعاؤنا واستغاثاتنا بالله سبباً من أسباب صد المكروه عن بلادنا وعن كثير من بلاد المسلمين، والتي يتمنى عدو الله أن يحتلها ويجدها لقمة سائغة؟! وما أدراكم أن يكون دعاؤنا لإخواننا في ثغور الجهاد، ومواطن الكفاح، حفظاً لهم من أعدائهم، وردءاً لهم من تربصات المحتلين بهم، أو تخفيفاً لما يلاقيه إخواننا في أراضي الجهاد،أو سجون التحالف الكفري"وقد ذكر بعض الأسرى أنَّ العذاب ربما كان يهدأ أحياناً داخل السجن بلا سبب ظاهر، ولا وضع مألوف ، فلا يجدوا له تفسيراً إلا دعوات إخوانهم"(من مقال لأخينا/ عبدالحكيم محمد بلال بعنوان: واجبنا تجاه الأسرى في فلسطين، في مجلة البيان عدد205/ صـ71) ووالله لو لم يكن من ذلك الدعاء ورفع الكفين لرب السماء إلا لذة مناجاة الله ، وجمعية القلب عليه لكفى!
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "والدعاء من أنفع الأدوية،وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرقعه، أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن، وله مع الدعاء ثلاث مقامات:
1ـ أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
2ـ أن يكون أخفَّ من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد ولكن يخففه ، وإن كان ضعيفاً.(1/1537)
3ـ أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم صـ13).
وأما الجواب على ما ذكره البعض بأنَّنا لو دعونا الله فأجاب الدعاء، فإنَّ ذلك من باب تحصيل الحاصل، ولو دعوناه ولم يقدِّر لنا ما نريد ، فإنَّ دعاءنا لم ينفع، ولم نجنِ منه فائدة!
فيجاب عن ذلك بأنَّ هذه الشبهة خطيرة جداً بل إنَّ أول من قالها الجهم بن صفوان، والذي رماه العلماء المحققين بالكفر والمروق عن الدين لعدة أقوال كفرية صدرت عنه،فليخشَ العبد على نفسه من أن ينطق بعبارات أهل البدع والضلال لئلا ينزلق في مهاوي الردى، ومجانح الضَّلال.
وممن أجاب على تلك الشبهة الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث قال:(الدعاء والتوكل والعمل الصالح، سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، والحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب" ـ ثمَّ قال بعد مناقشة عقدية لتلك الشبهةـ(وقد أجيب بجواب آخر وهو أنَّ الله _تعالى_ إذا قدَّر أمراً فإنَّه،يقدر أسبابه ، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنَّه لمَّا قدَّر النصر يوم بدر وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ ودعاؤه، وكذلك ما وعده به ربُّه من الوسيلة، وقد قضى بها له ، وقد أمر أمَّته بطلبها له ، وهو _سبحانه_ قدَّرها بأسباب منها ما سيكون من الدعاء)(مجموع الفتاوى14/143ـ148).
وبعد أما بعد:
فهل نريد ـ أخي ـ أن نكون ممن تنكب طريق الدعاء، وأقبل على الأحاديث السمرية مع الخلَّان والأصدقاء، ثمَّ نطلب نصراً من الملك العلام، ونحن مفرطين بحقوقه، مضيعين لدعائه؟ فحينها لا بأس أن نقول كما قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ: "عجباً من جلد الفاجر وعجز المؤمن"!!!
وإذا كان الكفار يتعرفون على ربهم وقت الحروب والمعارك، ويطلب منهم رؤسائهم بالدعاء لأجل أن ينصروا على المسلمين، فألا يليق بنا أن يكون ذلك منَّا أشدُّ ، والحقيقة المخجلة أنََّ كثيراً من المسلمين نائمون، وقد نشرت مفكرة الإسلام في موقعها بتاريخ27/1/1424هـ، بأنَّ الرئيس جورج بوش طلب من جنوده الدعاء له بأن ينتصر على المسلمين ، ووزعت على الآلاف من رجال مشاة البحرية الأمريكية كتيبات بعنوان(الواجب المسيحي)، وتحتوي تلك الكتيبات على أدعية ، وعلى جزء يتمُّ نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض ، ليثبت أنَّ الجندي الذي أرسله كان يصلي من أجل بوش!!
وهكذا هو الصراع الدائم بين قوى الإسلام العظيم، وقوى التحالف الصليبي اليهودي، وكل يسير لمبتغاه، ويعمل لتحقيق هدفه، ولكن...هيهات هيهات فإنَّ العزة والغلبة للمؤمنين ولو طال الطريق، وامتدت الحروب، فإنَّ دين الإسلام هو الدين الحق، وهو دين الله ، وقد تكفَّل الله بحفظه، وأن يكون(1/1538)
له العلو المطلق على سائر الأديان، وحينئذٍ فلا يأس، ولا قنوط، ولا تأخر، ولا تراجع، فإنَّ الغلبة لله ورسوله وجنده المؤمنين، وقد قال _تعالى_: "إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد*يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" (غافر:51) وصدق الله، وكذب الصليبيون.
لكنه النصر القريب
بإذن علَّام الغيوب
مهما تواترت الخطوب
والنصر آت فوق أشلاء الكماة المخلصين
النصر آت خلف إمداد الكرام الباذلين
والنصر آت بالدعاء وبالبيان
آت بإذن الله رغم غواية الغاوي وهذرمة الجبان
لكنَّ دورك يا أخي أن تقوم بنصرة دين الله ما استطعت، وبما تقدر، وبكامل وسعك الذي فطرك الله عليه،وكن مع ذلك داعياً، لدينك بأن ينصره الله، ويخذل الكفر وأوليائه، وسبح ربك كثيراً، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وأختم هامساً في أذن كلِّ رجلٍ من رجال الثغور المقدسة بكل حب، وإكبار:
ارفع أكفك يا مجاهد سائلاً *** ما خاب من يرجو الكريم ويطلب
ما خاب من يرجو الإله *** وعوده فالله حقٌ وعده لا يكذب
اسأله ذلَّا للذين تجبروا *** فالله يقصم من يشاء ويعطب
اسأله نصراً كي يعزَّ مجاهد *** واسأله بالتثبيت فهو المطلب
ارفع أكفك يا مجاهد إننا *** بهوى الصبابة في الملاهي نلعب
لا يستوي عند الإله دعاؤنا *** ودعاء من للكرب دوماً يطلب
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت ،أستغفرك وأتوب إليك، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين ، والحمد لله رب العالمين،،،
المصدر / موقع المسلم
ــــــــــ
{ وإن جندنا لهم الغالبون }
د.ناصر بن يحيى الحنيني
الحمدلله القدوس السلام ، ذي العزة والجبروت الذي لا يضام ، الحي القيوم الذي لاينام ، لايعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الملك العلام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له(1/1539)
شهادةً يقبل بها الإسلام ، وتنال بها العزة والرفعة على كل الأنام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الجهاد وإحياء ذروة سنام الإسلام ، وعلى آله وأصحابه الأبطال أولي النهى والأحلام ، ومن تبعهم بإحسان وجهاد وإقدام ،إلى يوم يحكم الله فيه بين الأنام أما بعد : أيها المسلمون : الوجوه شاحبة والعيون شاخصة ،والقسمات والملامح مجهدة ، تسمع صراخ النساء وبكاء الأطفال ، وأزيز الطائرات وأصوات القنابل والانفجارات ، الكل يهرع ، الكل يجري ، وكأنك في مشهد من مشاهد يوم القيامة ، في الشوارع ترى الدماء تسيل ، والأشلاء ممزقة ، ورغم كل هذا تسمع صرخات التكبير مدوية ،وسط كل هذه المناظر المؤلمة نرى ضوء الفجر قد بزغ وإذا بالتاريخ يسجل والقنوات تصور وتعرض أعظم البطولات ، وأسمى معاني الفداء والتضحيات، ورغم كل هذا نسمع صوت الأذان مرتفعا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ،وصدق الله إذ يقول :{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } التوبة[32]، { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} الصف[8]،لا إله الله وحده، نصر عبده و صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده . سبحانك لا رب غيرك ولا إله سواك ، حكمك نافذ، وأمرك مطاع ولا راد لقضائك، لك الحمد والنعمة والفضل ، أيها المسلمون: رغم ألم المشاهد، وصعوبة المرحلة التي نعيشها ، ولكن والله إن البشائر قد طغت على الخسائر ، والتفاؤل هزم التشاؤم ، وصدق الله إذ يقول ولا أصدق ولا أجل ولا أحكم منه سبحانه :{ وإن جندنا لهم الغالبون } اسمعها
يامؤمن ياعبدالله وتأملها وخذها بشارة من ربك، بشارة من الذي يدبر الكون ،ويصرف الأمور من الذي إذا قال للشيء كن فيكون { وإن جندنا لهم الغالبون } ولنا مع الأحداث وقفات وعبر ودروس وبشائر ، ولنقف نحن وإياكم ولنتنعم بهذه الهبات والعطايا الربانية، ونستبشر وإياكم بهذه البشائر الإلهية، فإياك إياك أن يتسلل اليأس إلى نفسك ،أو يتملك الحزن والقنوط قلبك ،وثق بربك وأحسن الظن به فهو عند حسن ظن عبده به ونحن يارب لا نظن فيك إلا خيراً، إسمع إلى ما يبشرك به ربك ومولاك نعم أنت أريد يامن هويتك الإسلام وشعارك القرآن وقدوتك محمد خير الأنام :
البشارة الأولى : الحقيقة التي لا تتبدل، والحق الذي لا يتغير والبشارة التي لاتزول ما أخبر الله به في كتابه في غير موضع حيث : يقول ربنا جل وعلا : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) غافر [51]، ويقول سبحانه : (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) آل عمران[160، ويقول المولى جل شأنه:( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج [40]، ويقول سبحانه : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) ، ويقول جل وعلا: (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب ) الصف[13]،وقال سبحانه لنبيه الكريم : (وينصرك الله نصراً عزيزاً) الفتح(1/1540)
[3]، ويقول سبحانه مسلياً أنبياءه وأولياءه : (فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) الأنعام [34]، وقال سبحانه عن الحال التي قد تصل بالأنبياء من الشدة والبلاء : ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) يوسف [110]،ويقول سبحانه : (والله يؤيد بنصره من يشاء ) آل عمران[13]،ويقول سبحانه عن الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عن أذهاننا : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون،وإن جندنا لهم الغالبون ) الصافات[171-173]
أبعد هذا يمكن أن يداخلك شك، فاستعد فإن النصر قد قرب والفجر قد بزغ { إن رحمت الله قريب من المحسنين }
البشارة الثانية : ما شاهدناه وشاهده كل العالم من بطولات أحفاد سعد والمثنى الذين أعادوا لنا ربى حطين والقادسية واليرموك ، لكم الله يا أبطال الفلوجة ياغرة الزمان وياشامة الإسلام ، يامن رفعتم جبين الأمة ، إننا نكاد أن نذوب خجلا وحياء من هذه البطولات التي فاقت كل التصورات وكل تحليلات المحللين وتوقعات المنظرين والمخططين ، هذه البطولات التي أخرست الألسنة اليائسة والنفوسَ المريضة ، والقلوب الضعيفة ، كم هي فرحتنا وأنتم تنتقمون لنا ممن ظلمنا ،ممن هتك الأعراض وخرب الديار وسرق الخيرات وجعل الأرض كلها بوار ، لقد ثأرتم لكل أب مظلوم لكل حر أبي مكلوم، ثأرتم ورب الكعبة فأطفئتم الحسرة والحرقة في الفتاة التي هتك عرضها ونيل من كرامتها ،لقد مرغتم كرامة أمريكا وأذهبتم هيبة أمريكا، وكسرتم حاجز الخوف من حامية الصليب، أنكم أعطيتم الدرس واضحا للجيوش النظامية التي لم تحرك ساكنا ولم تحم وطنا ولم ترع ذمما ، بكم ياغرة الزمان تصنع الأمجاد وعلى أيديكم تتعلم الشعوب معنى العزة والكرامة، لقد أعطيتمونا الدرس العظيم الذي لن ننساه بأن حياة العز والشرف خير من حياة الذل مع الترف ، يا أبطال الفلوجة إن بطولاتكم فضحت وعرت الممارسات الرخيصة والقذرة في إعلامنا العربي عذرا أيها الأبطال أنتم تصنعون التاريخ ونحن نقدم البرامج التي تجعلنا في زبالة التاريخ ، عذراً أيها الأبطال كاد اليأس والإحباط أن يذهب بحشاشات القلوب ونحن نشاهد العبث الذي أجمعت عليه القنوات الفضائية في زمن قل فيه الإجماع فإذا بكم تبعثون الأمل وترسلون الرسالة بالأفعال لا بالأقوال ،إن في الأمة رجال، إن في الأمة أبطال يدافعون عن الدين والعرض والأرض والمقدسات ،.
يا أبطال الفلوجة ياأبطال العراق الأباة لقد أعطيتمونا درساً في معنى الإيمان الصحيح الإيمان الحق :{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذي آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً }
يا أبطال العراق : لئن فاتكم شيء من الدنيا ولم تتمعتوا بها، لئن لم تحوزوا على أوسمة الخيانة والذل التي أعطاها المحتل للخونة من بني جلدتكم فلن يفوتكم الوسام الذي أعطاكموه ربكم إذ يقول مبينا منزلتكم ودرجتكم :{ لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله(1/1541)
بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً }
البشارة الثالثة : كم من نعمة يسديها العدو لكم وهو لا يشعر ، لو قيل لأمريكا نريدكم أن تدربوا أبناء العراق على الجهاد والقتال والصبر وتحمل الأعباء لمدة طويلة حتى يستطيعوا أن يقاوموا المحتل ، هل تتصورون أن يتجاوبوا معكم ، إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث هو إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات حتى تغدوا كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولاتنكر منكرا ، تغدوا شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية كم تنفق أمريكا وربيبتها دولة يهود على إضلال الشعوب فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم ، فنحن إلى الآن مازلنا نتابع البرامج التي تعرض الرذيلة في أقبح صورها وتهدم الفضيلة بأحط الأساليب وأرذلها ، وصدق الله إذ يقول :{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيم} النساء[27]، فيا أبطال العراق لقد أعطاكم عدوكم دورة تدريبية مكثفة على شظف العيش فخرجتم أبطال الميادين ، وصناع النصر، لقد حاصركم العدو ومنع منكم الغذاء والدواء فتربيتم على عين الله فخرجتم أقسى ما تكونون على عدوكم ، وأصبر ما يتصوره منكم عباد الصليب وأحفاد القردة والخنازير ، لقد حاصركم فأصبح الموت أسمى أمانيكم ، والجنة أغلى مطالبكم، فلله كما هي تلك الأحداث في ظاهرها نقم ومحن، وفي حقيقتها نعم لا تقدر بثمن { ويمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين }.
البشارة الرابعة : لقد عجزت وسائلنا الإعلامية بل تعاجزت عن فضح أمريكا وإبداء وجهها الكالح ، عجزنا عن تعريتهم وبيان حقيقة حضارتهم التي يزعمون ،وأنهم في حقيقة الأمر برابرة همج لا يراعون طفلا صغيرا ،ولا شيخا كبيرا ،ولا امرأة ضعيفة، لقد نُزعت الرحمة من قلوبهم، فالمساكن تدك على رؤوس العزل من أصحابها ،والمساجد تهدم على الآمنين المطمئنين في جوار ربهم ، أي حضارة التي تبشر بها أمريكا ؟وهي تستخدم الأسلحة والقنابل المحرمة دولياً ، أي نظام تحترم ؟وأي شعوب تقدر؟ وأي عدالة تدعوا لها؟ وأي حقوق تريد؟ ، يا أبطال العراق : لقد غيرتم وسائل الإعلام رغماً عنها فجعلتموها تفضح الحضارة الأمريكية وتعريها للعالم عبر عدسات المصورين وهم يشاهدون همج المبشرين بالدين المحرف المكذوب على المسيح عليه السلام ، فإذا بالعالم يزداد قناعة بفشل المشروع الأمريكي التي تبشر به حامية الصليب وعباد الشهوات، ليس بمستغرب من عدونا أن يفعل هذا فهذا هو الأصل فيهم كما أخبرنا جل وعلا بقوله :{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } ، إن عجبنا لا ينقضي من المنافقين المندسين بين صفوفنا الذين يتكلمون بألستنا ويحملون أسماء المسلمين ، ويعيشون بيننا فهذا أحدهم يقول إنه : (يستبشر بقدوم أمريكا للمنطقة لانها سوف تحرك عجلة التغيير والتقدم في المنطقة ) فنقول له أبشر ما يحدث في العراق هو التقدم والتغيير الذي تريدون؟ تباً لهذه العقول وتباً(1/1542)
لهذه الوقاحة وتباً لهذه الزندقة والنفاق وصدق الله إذ يقول { ولتعرفنهم في لحن القول } وصدق الله إذ يقول :{ قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر }.
البشارة الخامسة : لقد أفشلتم مخططات عدونا في المنطقة وأخرتم مشاريعها التغريبية والتوسعية ، إنه يعيش تخبطاً وارتباكاً لم تعشها أمريكا ولا حتى في حربها مع فيتنام التي هزمت فيها فالهزيمة التي تعيشها الآن لها نكهة أخرى يتلذذ بها الأحرار المؤمنون ولا يشعر بها إلا من كان قلبه معظما لربه ومولاه محبا للمؤمنين مبغضا لأعداء الملة والدين ، يا أبطال العراق : إن النصر الحقيقي هو في ثباتكم على مبادئكم وليس في نصر يكون بالتنازل عن الدين والمبادئ،إن حقيقة النصر أن لا يستطيع العدو أن يحقق أهدافه ويرجع خائباً خاسراً على عقبيه ، فهاهو لم يستطع أن يتنعم النفظ الذي كان يحلم به ، ولا بالاستثمارات التي كان يتمناها ، ولا بالتوسع الذي كان ينشده ، يا أبطال العراق تذكروا قول ربكم فهو تسلية لكم وتطييباً لنفوسكم { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ، وتذكروا قول ربكم ومولاكم { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم المهتدون } أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
ــــــــــ
أمة لن تموت
الدكتور / راغب السر جاني
www.islamstory.com
مقدمة الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهدي الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فإن الناظر إلي بلاد المسلمين يجد أن كثيراً من أبناء المسلمين قد أصابهم الإحباط من واقع المسلمين ، ويأسوا من أن تقوم لأمة الإسلام قائمة من جديد. كثير من أبناء المسلمين يعتقدون أن سيادة المسلمين للعالم كانت تاريخاً مضى ، وأن المستقبل قد يكون للشرق أو للغرب، ولكن حتما - أو غالبا - ليس للمسلمين ، وأكثر هذه الطائفة تفاؤلاً يعتقد أنه لو كان الإسلام سيعود من جديد لصدارة الأمم ، فإن هذا لن يكون إلا بعد عمر مديد، وأجل بعيد ، لا نراه نحن ولا أبناؤنا ، ولا حتى أحفادنا.(1/1543)
في هذا الجو من الإحباط واليأس ، يستحيل علي المسلمين أن يفكروا في قضية فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو العراق أو أفغانستان أو غيرها ، فضلا عن أن يسهموا في حلها ، ومن ثم فإن حديثنا في هذا الكتاب سيتناول وسيلة هامة من وسائل بناء هذه الأمة، ألا وهي زرع الأمل في نفوس المسلمين ، ومحو الإحباط الذي سيطر على طوائف شتى من الأمة الإسلامية، وبالذات الشباب منهم..
وقد قسمت الكتاب إلى بابين رئيسيين. أما الباب الأول فهو بعنوان: "لماذا أحبط المسلمون؟" ، وأتحدث فيه عن الأسباب التي أدت إلى إحباط المسلمين. وأما الباب الثاني فهو بعنوان: "أمة لن تموت" وأتحدث فيه عن عشر حقائق هامة، تشير جميعها إلى أن هذه الأمة فعلاً لن تموت!
والكتاب في مجموعه دعوة للأمل...
الأمل في قيام جديد... الأمل في سيادة و تمكين... الأمل في نصر و صدارة...
الأمل في أن تستعيد هذه الأمة مكانتها الطبيعية بين الأمم... تلك المكانة التي أرادها الله لها ، وما ذلك على الله بعزيز......
وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي و حسناتكم أجمعين..
والآن مع صفحات الكتاب...
الباب الأول
لماذا أحبط المسلمون؟
إنه لمن العجب حقاً أن تحبط أمة تملك كتاباً مثل القرآن ، وحديثاً مثل حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم.. وإنه لمن العجب حقاً أن بيأس شعب له تاريخ مثل تاريخ المسلمين ، وله رجال أمثال رجال المسلمين.. وإنه لمن العجب حقاً أن يقنط قوم يملكون مقدرات كمقدرات المسلمين ، وكنوزاً مثل كنوز المسلمين. عجيب حقا أن تقنط هذه الأمة وقد قال ربها في كتابه: "قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون".. لكنها حقيقة مشاهدة ، وواقع لا ينكر. والواقع أن غياب الأمل ، وضياع الحلم، وانحطاط الهدف ، كارثة مروعة حلت على المسلمين ، ومصيبة مهولة لا يرجى في وجودها نجاة. لابد أن الذي زرع اليأس في قلوب بعض المسلمين أمر تعاظم في النفوس الواهنة ، وحدث أكبرته القلوب الضعيفة ، فخضعت خضوعاً مذلاً حين كان يرجى لها الانتفاض ، وركعت ركوعاً مخزياً حين كان يرجى لها القيام.
لابد أن نقف وقفات ووقفات ، لنحلل وندرس ونفقه:
لماذا صرنا إلى ما صرنا إليه؟!! وكيف السبيل لقيام وسيادة وصدارة ومجد؟
أما لماذا صرنا إلى هذا الوضع فهذا يرجع إلى عوامل عديدة ، وتراكمات مختلفة ، نستطيع أن نقسمها إلى قسمين كبيرين: القسم الأول هو واقع صنعه المسلمون بأيديهم لما فرطوا في دين الله ، وابتعدوا(1/1544)
عن منهج الله ، واستهانوا – وأحياناُ تحالفوا !!- بأعداء الله. أما القسم الثاني فهو مؤامرة بشعة ، نسجت خيوطها على مدار أعوام طويلة ، وتعاون على التخطيط لها طوائف مختلفة من أعداء الأمة.
أولاً الواقع الذي يعيشه المسلمون:
(1)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من هزائم متكررة بدءاً من سقوط الخلافة العثمانية ومن سقوط فلسطين وإعلان إسرائيل في1948 ومن هزيمة مرة في 1956- لولا الرئيس الأمريكي أيزنهاور الذي جعل المسلمين يصورون الحدث وكأنه نصر، بل ويحتفل به بعد ذلك! - ومروراً بنكسة 1967 وتدمير الجيش المصري والسوري وضرب كل المطارات - حتى المطارات الداخلية جدا مثل المنيا والأقصر والغردقة وأبو صوير - في هزيمة كبيرة منكرة. حتى نصر أكتوبر 1973 - والذي كان نصراً مجيدا حقا - أتبع بثغرة مرة ، وبوقف لإطلاق النار ، وبخسارة سريعة لمكاسب هائلة.
(2)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من خيانات مستمرة في أطراف كثيرة متفرقة من العالم الإسلامي ، أدت إلى ضياع البلاد والعباد ، وأدت إلى غياب القدوة ، وفقد الثقة في كل من يقود.
(3)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من إباحية في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية ، ومجاهرة بكل فسق ومجون وانحلال ، وافتخار بكثير من الموبقات ، وإهمال لمشاعر أمة كاملة عاشت قروناً وهي تحترم كل قانون إسلامي ، وكل أدب إسلامي ، وكل عرف إسلامي.
(4)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من سرقات وإحتيالات ، ورشوة وفساد ، و هروب بمليارات من أموال المسلمين ، بينما يتضور بعضهم – أو كثير منهم – جوعاً.
(5)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من انهيار للإقتصاد، وديون متراكمة، وإفلاسات مشهرة ، وسيطرة هائلة للإقتصاد الأجنبي على معظم مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية ، واتساع مهول للفجوة بين طائفة الأغنياء القليلة جداً وبين طائفة الفقراء - أو المعدمين – عظيمة الاتساع.
(6)ـ الواقع الذي يعيشه المسلمون من فرقة وتناحر وتشاحن بين المسلمين ، حتى قل أن تجد قطرين متجاورين لا يتنازعان على الحدود والأفكار و أحياناً على العقائد. بل وقد يمتد الصراع أحياناً – أو كثيراً - بين المتمسكين بهذا الدين من أبناء المسلمين.
هذا الواقع يورث في نفوس بعض المسلمين - أو في نفوس كثير من المسلمين - إحباطاً ويأساً يشعرون معه أن القيام من جديد - إن لم يكن صعباً - فهو من ضروب المستحيل.
ثانياً: المؤامرة الفكرية على الإسلام:ـ
والمؤامرة على الإسلام قديمة جداً وطويلة جداً وذات أبعاد كثيرة ، وليس المجال متسعاُ لشرح أبعاد المؤامرة بالكامل ، ولكن ما يهمنا في هذا المقام هو الحديث – بإيجاز - عن أحد أبعاد هذه المؤامرة وهو البعد الفكري منها.(1/1545)
لقد دأبت طوائف شتى من أعداء الأمة على العمل على انحراف أفكار الأمة عن الفكر الإسلامي الصحيح ، ومن ثم تفقد الأمة المقياس السليم للحكم على الأمور. وكان أحد الأهداف الواضحة والمحددة لهذه المؤامرة هو زرع بذور اليأس في قلوب المسلمين ، وإقناعهم باستحالة النهوض من هذه الكبوة التي وقعوا فيها.
لكن بداية ، من هم هؤلاء المتآمرون على الإسلام؟!
لقد اشترك في هذه المؤامرة الكثيرون:
(1)ـ المستشرقون: وهم طائفة من العلماء الأوربيين، أكل الغل قلوب معظمهم، وحرق الحقد صدور غالبيتهم، وأعمي الحسد بصائر جلهم، فجاءوا يتعلمون الإسلام، ويدرسون تاريخه ورجاله ومنهجه، لا ليهتدوا بهداه، ولكن ليطعنوا فيه، وليلبسوا على المسلمين دينهم.. انتشرت كتبهم، وعمت أفكارهم، وطغى تحليلهم، وباتوا شوكة حامية في حلق المسلمين.
(2)ـ المستغربون: لقد تبع هؤلاء المستشرقين طائفة أخرى يحلو لي أن أسميها طائفة المستغربين. وهم من أبناء المسلمين الذين فتنوا بالغرب، وتاقت نفوسهم إليه، واستغل الغرب الفرصة، ومدوا إليهم أيديهم بالسوء ، وصنعوهم على أعينهم ، ودسوا في عقولهم أفكارهم، ثم أعادوهم إلى أوطانهم.. يحبطون أبناء جلدتهم، ويشككونهم في دينهم، ويقنطونهم من القيام إلا بإتباع الغرب، حتى إن بعضهم كان يقول إن بلادنا لن تتقدم إلا إذا نقلت ما في لندن وباريس، بحلوه ومره، وبحسنه وسيئه، وبمعروفه ومنكره!!..لقد ذهب أحدهم - وهو من أبناء الأزهر الحافظين للقرآن - إلى فرنسا فتعلم هناك، ثم عاد إلى بلاد المسلمين، يعلم تلامذته أن ينقدوا القرآن الكريم.. فهذه آية قوية، وهذه آية ضعيفة.."كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، إن يقولون إلا كذباً" وكان يقول لتلامذته ليس معنى أن القرآن ذكر وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن هذا أمر حقيقي!!.. لابد من برهان مادي.. وكان يقول لتلامذته إن الآيات المدنية أكثر نضجاً من المكية!!، وكأن هذا من تراكم الخبرة "تعالى الله عما يصفون".. وكان يكتب كتباً عن الصحابة - وبالذات في زمن الفتنة - فيطعن في كل من استطاع بلا خجل ولا مواربة، ثم إذا به يترقى في المناصب حتى يصبح وزيراًُ للتعليم!، يربي ويعلم ملايين التلاميذ.. وهكذا أصبح الشيخ الأزهري من دعاة العلمانية والإحباط، والأزهر منهم براء..
(3)ـ المستعمرون: اشترك أيضا في مؤامرة الإحباط المستعمرون الذين جثموا على صدور الأمة عشرات السنين، أذاقوها من العذاب ألواناً.. في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان وليبيا والجزائر وتونس والمغرب واليمن والسودان والعراق والكويت و في كل بلاد المسلمين.
(4)ـ بعض الحكام: اشترك في المؤامرة أيضاً بعض الحكام المسلمين الذين أقنعوا شعوبهم أنهم لا طاقة لهم اليوم بجالوت وجنوده..ولا سبيل لحرب الدول " الكبرى" ..وأنهم إن لم يكونوا تبعاً لهذا فليكونوا تبعاً لذاك..وأن الفجوة بيننا وبينهم لا تعد بالسنين بل بالقرون..(1/1546)
(5)ـ السلبيون من المسلمين: وهي طائفة كبيرة قد تدرك الحق لكنها لا تعمل له، وقد تعرف المعروف ولكنها لا تأمر به، وقد ترى المنكر ولكنها لا تنهى عنه..إنهم ينتظرون إما حلاً من السماء ، أو من غيرهم من أهل الأرض!!..ليس لهم عمل إلا الانتقاص من غيرهم ، ونقد العاملين الحاملين للواء هذا الدين..
ماذا فعلت هذه الطوائف الهمجية؟!
لقد فعلوا جرائم عدة ، فعلى سبيل المثال:
(1)ـ جريمة تزوير التاريخ: وهي جريمة بشعة لا يتسع المجال للخوض في تفصيلاتها الآن ، وقد أفردت لها محاضرة خاصة..لقد كذبوا وزورا، والتقطوا الضعيف والموضوع، وأعرضوا عن الصحيح والحسن، ونقبوا عن المصائب ـ ولابد أن في تاريخ كل أمة مصائب ـ وتركوا الأمجاد والفضائل.. ركزوا على الجوانب السياسية بمشكلاتها، وأغفلوا الجوانب الأخلاقية والعلمية والمعمارية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والأدبية وغيرها من جوانب الحضارة.. أساءوا التأويل عن عمد، وطعنوا في الشرفاء عن قصد، فخرج التاريخ إلينا مسخاً مشوهاً، يستحي منه الكثير، ويتناساه الأكثر، واقتنع المعظم بأنه إذا كان السابقون الأولون علي هذه الشاكلة، فكيف يرجى خير ممن لحق!!..لقد كانت حقاً جريمة كبرى!!!
(2)ـ جريمة تشويه الواقع: فهم طمسوا تاريخ المسلمين المشرق، فليطمسوا واقعهم وحاضرهم.. فليشترك المربون والإعلاميون من المستغربين في تغييب الأمة ، وزرع اليأس في القلوب ، وليساعد الإعلام الغربي في هذه المهمة ، فتسمى الأشياء بغير أسمائها ، فليكن الالتزام بالإسلام مرادفاً للإرهاب!!، وليكن الحجاب مرادفاً للتزمت!!، وليكن تطبيق الشرع مرادفاً للرجعية والجمود والتخلف.. إذا أجرم مسلم في الغرب قالوا أجرم مسلم ، وكذلك إذا أجرم مسلم ملتزم بإسلامه في بلاد المسلمين ذكروه بصفته الإسلامية..أما إذا أجرم نصراني فإنهم يذكرونه باسمه لا بدينه!.. كما في حادث تفجير "أكلاهوما" المشهور في أمريكا سنة 1995 حيث قالوا فعلها المسلمون، فلما تبين أن الذي فعلها نصراني قالوا فعلها "مكفاي" باسمه لا بديانته!! .. إذا أساء مسلم قالوا أساء مسلم، وإذا نبغ مسلم في علمه قالوا نبغ مصري أو سوري أو باكستاني، وصفوه بقوميته .. وآه من تصوير الملتزمين بالإسلام في وسائل الإعلام!!..كم من المرات يأتون بالشيخ أو المأذون في صورة هزلية مضحكة!!.. كم من المرات يأتون بالمسلمين في الأفلام التي يطلقون عليها إسلامية وهم في صوره عجيبة!!.. ينظرون نظرات حالمة، وأبصارهم معلقه بالسماء، ويبتسمون في بلاهة، ويتحركون ببطيء شديد، وكأن الإنسان إذا أسلم لابد أن يتخلف عقليا بهذه الصورة!!.. كم من المرات يأتون بمن التزم طريق الإسلام ينقلب من الحديث بالعامية إلى الحديث بالعربية الفصحى، وليتها الفصحى الرائعة التي أنزل الله بها القرآن ، والتي تحدث بها خير البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم يأتون(1/1547)
بالمسلمين يتحدثون العربية في تنطع وتقعر شديدين، والذين حوله من الناس لا يفهمون، وينظرون إليه مستنكرين.. سبحان الله!!.. مع أن اللغة العربية من أرقي - بل هي أرقى - لغات العالم أجمع.
(3) جريمة تعظيم الغرب: فبعد أن حطموا النماذج الإسلامية في التاريخ والواقع رفعوا لك جدا من قيمة الغرب، حتى لا يبقي أمامك خيار إلا الإتباع الذليل، والتقليد الأعمى.. عظموا سلاح الغرب، ومدنية الغرب، وأخلاق الغرب، وعقل الغرب، وأدب الغرب، وفن الغرب، بل وعظموا لغة الغرب.. حتى افتتن المسلمون.. وأصبح الرجل يحرص على تعليم الإنجليزية لابنه أكثر من حرصه على العربية، وحتى تدرج الأمر بنا إلى أن ابتلينا بما أطلقوا عليه مدارس إسلامية "للغات"!!!، بحجة أننا يجب أن نعلم أبناءنا لغة الغرب لندعوهم إلى الإسلام!! أتتعلمها علي حساب لغتك؟ وبحجة أن الأعمال المرموقة لابد لها من لغة أجنبية جيدة.. هل على حساب لغة القرآن؟!.. وحتى لو أتيت لابنك بمعلم للعربية في البيت ، سيظل الطفل معظماً للغته الأولى في مدرسته..أنا لست ضد تعليم الأطفال لغة أجنبية "ثانية" ، ولكن بشرط أن تكون فعلاً لغة "ثانية"!!..لا أن ندرس للأطفال العلوم والرياضيات والجغرافيا والتاريخ باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو أي لغة أخرى إلا العربية!!.. هل هذا منطق مقبول؟!.. معظم البلاد التي ترجو صدارة تعظم من لغتها، وتقدمها على غيرها.. في فرنسا لو خاطبت رجلاً بالإنجليزية ما رد عليك إلا متأففاً لاعتزازه بلغته.. في ألمانيا كذلك إذا أردت أن تعيش هناك، فلا حديث إلا بالألمانية..بل أكثر من ذلك.. لقد ذهبت إلى المركز الثقافي الأسباني أبحث عن بعض الصور الخاصة بتاريخ المسلمين في الأندلس..والله ما وجدت عندهم كتاباً واحداً بالإنجليزية فضلاً عن العربية..لم أجد إلا كتباً باللغة الأسبانية فقط!!.. وعندما قلت لهم إن اللغة الأسبانية محدودة جدا في مصر، وعليهم أن يأتوا بكتب مترجمة حتى نفهمها، قالوا من أراد أن يعرف عنا شيئا فليتعلم لغتنا!!.. هكذا يعتزون بلغتهم المحدودة!!..لقد أدت جريمة تعظيم الغرب إلى فقد الطموح عند الشباب، وضعف الهمم، وهوان العزم، فيصبح
أمل الشاب المسلم في الحياة أن يلقي بوطنه وأهله وراء ظهره، وينطلق إلي بلاد الغرب.. إلى أمريكا وأوروبا، ليعيش في جنة الله في أرضه كما يزعمون!!..
وهكذا نتيجة هذه الجرائم والمؤامرات وغيرها أحبط كثير من المسلمين إحباطاً شديداً، ورضخوا للواقع، وقنعوا بالسير في ذيل الحضارة الغربية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
الباب الثاني
أمة لن تموت
ومع كآبة الواقع ، وضخامة المؤامرة ، وبشاعة الكيد ، فإني أعود من جديد وأتعجب.. كيف يمكن أن تحبط أمة تمسك في يديها بكتاب القرآن ، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(1/1548)
لقد حفل القرآن العظيم والحديث الشريف بالعشرات – بل المئات - من الحقائق المبشرة التي تؤكد حتمية عودة هذه الأمة لصدارة العالمين.. هذا أمر لا ينكره من يدرك طبيعة هذا الدين ، وطبيعة هذه الأمة.. كل ما نرجوه أن يعود المسلمون لدينهم ، وأن يأخذوه من مصادره الصحيحة لا من مصادر المستشرقين أو المستغربين.. وأن يستمعوا وينصتوا لكلام ربهم ونبيهم ، ولكلام من يثقون بدينهم ويعرفون إسلامهم وأخلاقهم لا لدعاة العلمانية والتحرر من قيود الدين كما يدعون!!
ولقد اخترت لكم عشر حقائق فقط من الحقائق المبشرة ، ومن أراد الزيادة فليعد إلى الكتاب والسنة ، فإن عجائبهما لا تنتهي ، وكنوزهما لا تنقطع!!.. "صنع الله الذي أتقن كل شئ"..
الحقيقة الأولى
سنة التداول
إن هؤلاء الذين قنطوا لم يدركوا طبيعة سنن الله في الأرض ، فالله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل الأيام دولاً بين الناس. قال تعالى: " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس". فكما تعاني أمة المسلمين من القرح اليوم ، فقد كان هناك أيام عانى فيها الآخرون من القرح، بينما كانت أمة المسلمين في سلامة وعافية. كل الأمم تسود فترة وتتبع غيرها فترات... كل الأمم تقود زمنا وتنقاد لغيرها أزماناً... بل إن كل الأمم تعيش مرة وتموت وتندثر وتختفي مرات، إلا أمة واحدة ، قد تنقاد لغيرها فتره من الفترات ، وقد تتبع غيرها زماناً من الأزمان ، لكنها لا تموت أبدا.... تلك هي أمة الإسلام!!
أين حضارة الرومان؟!
لم يبقي منها إلا أطلال وأبنية..
أين حضارة الإغريق؟!
لم يبقي منها إلا فلسفة فارغة ، ومعابد وثنية
أين حضارة الفرس؟!
ماتت ولم تترك ميراثا..
أين حضارة الفراعنة؟!
بقيت منها جمادات وديار كديار عاد وثمود، وبقيت جثث محنطة وأوراق بالية ، لكن أين الفراعنة؟ إما في بطون القبور ، أو في جوف البحر، حيث ينتظر جنود فرعون الساعة!!
أين التتار وجيوشهم؟!
لم يبق لهم أثر واحد..
أين إنجلترا الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟!
إنها تابع ذليل...(1/1549)
أين الإمبراطورية الروسية القيصرية ثم الشيوعية؟!
سقطت سقوطاً مروعا...
وسيأخذ غيرهم دورات ودورات ثم يسقطون، وسيعلو نجمهم فترة ثم يهبطون، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين..
ومن ثم فلا عجب أن ترى أمة ظالمة قد ارتفعت وتكبرت وتجبرت.. إنها في دورة ارتفاع ، ولكنها حتماً لن تخرج عن سنة الله في أرضه وخلقه.. إن مصيرها إلى زوال.. حتماً إلى زوال.. فلن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً...
الحقيقة الثانية
أمة الإسلام أمة باقية
وإذا كان من سنة الله أن كل الأمم تموت وتندثر ، فإن من سننه كذلك أن أمة الإسلام لها طبيعة مغايرة.. إنها ما سقطت إلا وكان لها بعد السقوط قيام، وما ضعفت إلا وكان لها بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان لها بعد الذل عزة!!.
لماذا؟!
لأن طبيعة أمة الإسلام أنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً".. حتى الأمم الغابرة - قبل أمة الإسلام - نشهد عليها بما جاء في كتابنا القرآن ، والأمم المعاصرة نشهد عليها بما رأيناه بأعيننا، وقومناه بمنهجنا وأحكامنا وشرعنا، وسنظل نشهد على الأمم إلى يوم القيامة، فنحن باقون ما دامت الحياة ، وغيرنا لا شك مندثر وذاهب.
طبيعة هذه الأمة أنها تحمل الرسالة الخاتمة، والكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه، وليس هناك رسول بعد رسولنا صلي الله عليه وسلم ، وليست هناك رسالة بعد الإسلام، فلابد وأن يحفظ الله المسلمين لأجل أهل الأرض جميعاً.
طبيعة هذه الأمة أنها الأمة الوحيدة التي كان من همها أن تعلم غيرها دون ثمن ولا أجر، بل قد يدفع المعلمون المسلمون مالاً، ويبذلون جهدا وعرقاً ووقتاً بل ونفساً حتى يعلموا غيرهم. َمن ِمن الأمم يفعل ذلك غير أمة الإسلام؟! ألم تكن الشعوب تغير علي الشعوب لتأخذ خيرها، وتنهب أرضها، وتقتل أهلها، بينما كان المسلمون يضحون بأرواحهم ليستنقذوا الناس من جحيم الكفر والضلال إلى جنة الإيمان والهدي؟ ألم يقل ربعي بن عامر رضي الله عنه قولاً ما تكرر في التاريخ على ألسنة المتحضرين من الأمم غير أمة الإسلام يوضح فيه الرسالة الإسلامية بإيجاز فيقول" لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".. هكذا..لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً..(1/1550)
هذه هي طبيعة الأمة الإسلامية.. بقاؤها هو خير الأرض، وذهابها فناء الأرض "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"..
إذا كانت هذه هي طبيعة الأمة الإسلامية ، فلماذا الإحباط واليأس ؟..
الحقيقة الثالثة
حقيقة المعركة
يقول الله سبحانه وتعالى "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"..
آية عظيمة مبهرة!!
يا أخواني وأحبابي: إن كل ما ذكرناه من جرائم ومكائد ومؤامرات وتزوير وتشويه وخيانات وعمالات ونفاق وكذب - كل هذا - يدخل تحت كلمة "ويمكرون".. لكن انظر إلى الجانب الآخر من المقابلة: "ويمكر الله والله خير الماكرين"
فالله عز وجل يقابل مكرهم بمكره.. "وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون"
أيها المسلمون:
إن كان أصابكم شئ من الإحباط فلكونكم لم تفهموا المعركة على حقيقتها، ولم تدركوا الصدام بكامل أبعاده.. إنها ليست حرباً بين المسلمين والكافرين، وإن كان ظاهرها كذلك.. إنما هي في حقيقتها حرب بين الله وبين من مرق عن طريقه، وكفر بعبادته، وارتضى غيره حكماً ، وقبل غير كتابه شرعاً.. هي حرب بين الله، وبين طرف صغير حقير من مخلوقاته سبحانه.. لكن الله من رحمته بالمؤمنين، ومن كرمه عليهم، منّ عليهم بأن جعلهم جنده وحزبه وأولياءه.. فالمؤمنون يقفون أمام الكافرين، ملتزمين بمنهج ربهم في وقوفهم، كما أمرهم يفعلون، لا يترددون ولا يفرون، واثقين بوعده، راغبين في جنته، راهبين لناره، مخلصين له، معتمدين عليه، لاجئين إليه.. إن فعلوا ذلك كان هو ـ سبحانه جلت قدرته وتعاظمت أسماءه ـ كان المدافع عنهم، الحامي لهم، المؤيد لقوتهم، الناصر لجيشهم، الناشر لفكرتهم، المنتقم من عدوهم.. واسمعوا وأنصتوا أيها المسلمون لقوله سبحانه وتعالى حتى تفهموا حقيقة المعركة:
" فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"
"إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً"..
" ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون، فأنظر كيف كان عاقبة مكرهم، أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين"..
أيها المسلمون المعتزون بإسلامهم:
هل تعلمون لمن تعملون؟! وإلى أي ركن تأوون؟!(1/1551)
إنكم تعملون لله وتأوون إلي ركن شديد سبحانه!!..
هل إذا جلس المتآمرون في جنح الظلام يدبرون ويخططون ، أهم بعيدون عن عينه سبحانه؟ " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة أو في السماوات أو الأرض ، يأتي بها الله ، إن الله لطيف خبير"
هل إذا أطلق المتآمرون صاروخاً أو رصاصة ، أتسقط بغير علمه سبحانه؟!.. إذا كان يعلم بسقوط أوراق الشجر عبر الزمان والمكان، فكيف بسقوط الصواريخ؟!.. اقرأ هذه الآيات وتدبرها بعناية: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى، ثم إليه مرجعكم، ثم ينبأكم بما كنتم تعملون، وهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون، ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق، ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ، قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية، لئن أنجانا من هذه لنكو نن من الشاكرين، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ، ثم أنتم تشركون، قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون، وكذب به قومك وهو الحق، قل لست عليكم بوكيل ، لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون"..
الحقيقة الرابعة
حقيقة البشرى في الكتاب والسنة
أيها المسلمون المعتزون بربهم:
هذا الإله العظيم الجليل الكبير، هذا الإله الرحيم الكريم الودود ، يبشركم في كتابه.. يقول صاحب العزة والجبروت: " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين".. هكذا بهذه الصياغة العجيبة المعجزة!! والله لو تنزل من آيات البشرى غيرها لكفت!!.. هذا الإله القادر المقتدر يتعهد بنصر المؤمنين، ويجعله حقاً عليه سبحانه.. ليس هذا نصراً في الآخرة فقط بدخول الجنة، ولكنه نصر في الدنيا كذلك.. قال سبحانه "إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد".. هكذا الوعد: نصر في الدارين، في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.. إن كان هناك مؤمنون ، فلابد لهم من نصر، هكذا وعد، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.. استمعوا إلى قوله تعالى" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك ، فأولئك هم الفاسقون".. فإذا توفر الإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة دون الشرك به سبحانه، كان(1/1552)
الاستخلاف في الأرض، وكان التمكين للدين، وكان الأمن بعد الخوف.. من الذي وعد بذلك؟ إنه جبار السماوات والأرض، مالك الملك ذو الجلال والإكرام..
أيها المسلمون:
انظروا إلى هذه الصورة الرائعة الجليلة في غزوة بني النضير يقول سبحانه وتعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا..( أنتم أيها المؤمنون المقاتلون المجاهدون لما رأيتم مناعة الحصون وبأسها ظننتم أن اليهود لن يهزموا) " وظنوا(أي اليهود) أنهم مانعتهم حصونهم من الله ( ماذا حدث؟) فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين (ثم ما هو التعليق على الحدث؟) فاعتبروا يا أولي الأبصار".. الغاية من القصة أن نعتبر.. القرآن ليس تأريخاً لما سبق لمجرد التأريخ.. القرآن كتاب عظيم، ينبض بالحياة، ويهدي إلي صراط مستقيم..
أيها المسلمون المعتزون برسولهم صلي الله عليه وسلم:
ألم تسمعوا إلى قول رسولكم وحبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها".. نعم يا إخواني، سيبلغ ملك المسلمين مشارق الأرض ومغاربها ، بكل ما تحمله الكلمة من معاني...
ألم تسمعوا إلي قول مرشدكم وقدوتكم محمد صلي الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان وصححه الألباني عن تميم الداري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه سلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر (يعني الإسلام) ما بلغ الليل والنهار (أي كل الأرض) ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين (المدر هو الحجر أي بيوت المدن ، والوبر هو الشعر أي بيوت البادية أي كل بيوت الأرض: بيوت المدن وبيوت البادية سيدخلها الإسلام) بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر".. وعد من الصادق المصدوق صلى الله عليه سلم.. "وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى"..
بل اسمع وتأمل إلى ما رواه الإمام أحمد وصححه الألباني عن أبي قبيل رحمه الله قال: "كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله نكتب إذ سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال مدينة هرقل (أي القسطنطينية) تفتح أولاً".. والقسطنطينية هي عاصمة الدولة الرومانية الشرقية آنذاك وهي إستانبول الآن، ورومية هي روما، وكانت عاصمة الدولة الرومانية الغربية، وكانتا معاقل النصرانية في العالم، ويفهم من الحديث أن الصحابة كانوا يعلمون منه صلى الله عليه سلم أن هاتين المدينتين(1/1553)
ستفتحان، لكن يسألون أي المدينتين تفتح أولاً فبشر رسول الله صلى الله عليه سلم بفتح القسطنطينية أولاً ، وقد كان، وتحققت البشارة النبوية بعد أكثر من ثمانمائة سنة!!.. وبالضبط في 20 جماد الأولى سنة 857 هجرية ، على يد الفتى العثماني المجاهد محمد الفاتح رحمه الله، وستحدث البشارة الثانية لا محالة، وسيدخل الإسلام روما عاصمة إيطاليا إن شاء الله تعالى. ولي على هذا الحديث تعليقان:
التعليق الأول: هو أن بعض العلماء يعتقدون أن فتح رومية (أو روما) سيكون بالدعوة إلى الإسلام وبإنشاء المراكز الإسلامية والمساجد فقط، ويستبعدون الفتح عن طريق الجهاد ، والحق أن الحديث لم يشر إلى ذلك، بل أرى أن قصر تفسير فتح رومية على الدعوة دون الجهاد هو نوع من الهزيمة النفسية، فالذي يقول ذلك لا يتخيل أنه بالإمكان أن يحرك المسلمون جيشاً لإيطاليا، فلتكن الدعوة إذن هي التفسير للحديث!.. لكن على العكس من ذلك..فإن سياق الحديث يوحي بأن الفتح سيكون جهاداً.. وسياق الواقع كذلك، فقد فتحت القسطنطينية بعد حلقات متتالية من الجهاد المضني المستمر، وقد تفتح رومية بطريق متشابهة، ولذلك جمعت مع القسطنطينية في حديث واحد، ولتعلمن نبأه بعد حين!!..
التعليق الثاني: هو أن محمد الفاتح رحمه الله كان يعد العدة، ويجهز الجيوش فعلاً لفتح رومية وذلك لاستكمال تحقيق البشارة النبوية، لكنه لم يوفق لذلك، والحق قد تعجبون من قولي هذا: أنني قد سعدت بل وحمدت الله على أنه لم يتم له فتح رومية!!.. لماذا؟! ذلك حتى تبقى بشارة رسول الله صلى الله عليه سلم تبعث الأمل في نفوسنا ، وحتى يبقى لنا شئ نفتحه، وإلا فأين دورنا؟! أليس لنا من دور غير التصفيق لأجدادنا الفاتحين؟!.. أبداً.. نحن إن شاء الله على دربك يا رسول الله سائرون، ولما بقي منك يا محمد الفاتح - إن شاء الله – فاتحون.
الحقيقة الخامسة
حقيقة التاريخ
ليس وعد رسول الله صلى الله عليه سلم بمدينتين فقط: القسطنطينية ورومية، فقد وعد كما ذكرنا بفتح الأرض جميعاً ، ووعد ربنا بنصر المؤمنين، ولقد رأينا ذلك كثيراً في صفحات تاريخنا، لا أقول أياماً أو شهوراً أو سنوات، بل رأيناه قروناً عديدة.
لقد كان المسلمون ينتصرون دائماً وهم أقل عدداً وعدة:
* انتصر المسلمون علي عدوهم في بدر، مع فارق العدد والعدة، انظروا إلى وصفه سبحانه: " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون"
* انتصر المسلمون في موقعة اليمامة باثني عشر ألفاً من المجاهدين على أربعين ألفاً (على الأقل) من المرتدين..(1/1554)
* فتح خالد بن الوليد رضي الله عنه العراق بثمانية عشر ألفاً من الرجال الأبطال ، فدك حصون الفرس في خمس عشرة موقعة متتالية دون هزيمة ، وكان أقل جيوش الفرس تبلغ ستين ألفاً ، ووصلت إلى مائة وعشرين ألفاً في موقعة الفراض.
* انتصر المسلمون المجاهدون في موقعة القادسية باثنين وثلاثين ألفاً من الرجال الأفذاذ على مائتين وأربعين ألفاً من الفرس ، وكانت موقعة فاصلة كسرت فيها شوكة الفرس ، وقتل فيها معظم قادة الجيش الفارسي.
* انتصر المسلمون المؤمنون في موقعة نهاوند بثلاثين ألفاً على مائة وخمسين ألفاً من الفرس..
* انتصر المسلمون الصابرون في حصار تستر بثلاثين ألفاً على مائة وخمسين ألفاً من الفرس،وقد تكرر القتال أثناء ذلك الحصار ثمانين مرة ، وانتصر فيها المسلمون جميعاً دون هزيمة واحدة!!!..
* انتصر المسلمون في اليرموك بتسعة وثلاثين ألفاً على مائتي ألفاً من الرومان..
* انتصر المسلمون في معركة وادي برباط في فتح الأندلس باثني عشر ألف رجل على مائة ألف قوطي أسباني..
لقد رأينا ذلك وأمثاله مئات - بل آلاف - من المرات.. وما هذا الذي ذكرته إلا مقتطفات يسيرة من سفر الإسلام الضخم!!.. اقرءوا التاريخ يا إخواني.. فوالله الذي لا إله إلا هو ، لا يوجد تاريخ في الأرض مثل تاريخ المسلمين، ولا يوجد دين مثل دين المسلمين، ولا يوجد رجال مثل رجال المسلمين..
وحتى السقطات التي كانت في تاريخ المسلمين اتبعت بقيام أقوى وأشد، وتعالوا نقلب صفحات قلائل:
* بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت الجزيرة العربية بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: المدينة ومكة والطائف وقرية هجر بالبحرين، ولم تكن الردة - كما يعتقد البعض - بمنع الزكاة فقط، بل ارتد كثير عن الإسلام بالكلية، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم، ومنهم من قتل المسلمين، بل إن منهم من ادعى النبوة، وليسوا بالقليلين، وعمّ الكفر جزيرة العرب، ويأس بعض الصحابة!! فكان الموقف أشد مما نحن فيه الآن ألف مرة، حتى قال بعضهم يا خليفة رسول الله لا طاقة لنا بحرب العرب جميعاً، الزم بيتك وأغلق عليك بابك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، وهكذا ظنوا أنه لا أمل في القيام، لكن الله عز وجل منّ على المسلمين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قام كالأسد الهصور، يردد قولة لو قالها المسلمون لسادوا الدنيا جميعاً.. قال: "أينقص الدين وأنا حي؟" كلمة عظيمة جداً.. "أينقص الدين وأنا حي؟.. أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي" (حتى تقطع رقبتي).. وقام الصديق رضي الله عنه وقام معه المسلمون، فما هو إلا عام من الجهاد والقتال والنزال، حتى أشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وأسلمت الجزيرة العربية بكاملها، بل وأخذ أبو بكر الصديق قراراً أحسب أنه(1/1555)
أعجب قرار في التاريخ!! وهو إخراج جيشين من جزيرة العرب: جيش لفتح بلاد فارس، وجيش لفتح بلاد الروم ... !! عجبا لك أيها الجبل!!.. دولة صغيرة خارجة من حرب أهلية مدمرة تواجه دولتين تقتسمان العالم فارس والروم!! لكنه موعود.." وكان حقا علينا نصر المؤمنين"، ويفتح الله عليه الدولتين، وتكون انتصارات بلا هزائم، وتمكين بلا ضعف، وأمن بلا خوف!!...
* أسمعتم يا إخواني عن ملوك الطوائف في بلاد الأندلس؟ أرأيتم كيف قسمت بلاد الأندلس في عهدهم إلى أكثر من عشرين دويلة صغيرة متناحرة؟!، أرأيتم العمالة والخيانة والخزي والعار؟! أرأيتم السفه والمجون والخلاعة والانحلال؟ ثم أرأيتم ما شابه ذلك في بلاد المغرب والجزائر والسنغال وموريتانيا في قبائل البربر آنذاك؟ أرأيتم الزنا كيف فشا؟! والخمور كيف انتشرت؟ أرأيتم السلب والنهب كيف طغى على الأرض؟ ثم ماذا حدث؟ لقد تغير الوضع تماماً في سنوات معدودات فيما يشبه المعجزة!! كيف؟! لقد جاء رجل!! رجل واحد!! هو الشيخ عبد الله بن يس رحمه الله ، جاء يدعو إلى الله على بصيرة، جاء يربي ويعلم ويجاهد و يصابر، فإذا الرجل رجلين ، والرجلان أربعة، والأربعة ألف وألفين وعشرة آلاف، وإذا البلاد تفتح، والإسلام ينتشر، وإذا بدولة المرابطين تقوم، وإذا برجال وكأنهم ملائكة يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر رحمهما الله يعلمان ويربيان ويجاهدان ويصابران، فإذا بالدولة تتسع، والخير يعم، ويدخل في الإسلام ثلث أفريقيا!!.. ويصبح الجيش مائة ألف فارس في الشمال، وخمسمائة ألف جندي في الجنوب، وإذا بالجيوش تعبر إلى الأندلس، فتعيد البسمة إلى شفاه المسلمين، وتشفي صدور قوم مؤمنين، وتذهب غيظ قلوبهم، وتذل الشرك وأهله، وتعز الإسلام وحزبه، وينصرها الله في "موقعة الزلاقة" بثلاثين ألفاً من الأبطال يهلكون ستين ألفاً من القوط الأسبان!.. أرأيتم كيف تكون طاقة الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون رجال الإسلام؟ أرأيتم كيف يكون شرع الإسلام؟
* ولماذا نذهب بعيدا؟ هل آتاكم نبأ فلسطين؟! لماذا الجزع من احتلال دام خمسين سنة؟ ألم تسمعوا عن حملات الصليبين التسعة البشعة؟ ألم تعلموا أنهم مكثوا في أرض فلسطين محتلين مائتين من السنين؟ وفي بيت المقدس اثنين وتسعين سنة؟ ألم تقرءوا أنهم قتلوا في بيت المقدس سبعين ألفاً من المسلمين في يوم واحد؟! وكانوا يسيرون في دماء المسلمين إلى ركبهم؟
ثم ألم ترى كيف فعل ربك بالصليبين؟!.. دارت دورتهم في التاريخ ، وانتهت دولتهم البشعة القذرة، وقام رجال متوضئون متطهرون، قارئون لكتابهم، خاشعون في صلاتهم، حاملون لسيوفهم، معتمدون على ربهم، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، قام رجال أمثال عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعاً... قاموا يحرصون على الموت فوهبت لهم الحياة، قاموا يتزينون للجنة فتزينت الجنة لهم، قاموا مع الله فكان الله معهم، صدقهم الله وعده،(1/1556)
ونصر عباده، وأعز جنوده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا هو سبحانه، فكانت حطين، وكان ما بعد حطين، وكانت أيام تشرف التاريخ بتدوينها...وحق للتاريخ أن يتشرف بتسجيل أيام المسلمين..
الحقيقة السادسة
حقيقة الواقع
ولماذا نقلب في التاريخ فقط؟ أليس في واقعنا ما يشهد لوعد ربنا بالتحقيق؟!
نعم والله رأينا وسمعنا، ونحن على ذلك من الشاهدين، واعقدوا معي مقارنة بين واقعنا الآن وواقعنا منذ أربعين سنة، وهي ليست في عمر الأمم بشيء..
* انظروا إلى الصلاة في المساجد.. أرأيتم زوار المساجد وعمارها؟ من هم؟ وكيف أعدادهم؟ كنا في القديم لا نشاهد إلا أرباب المعاشات، وقليل ما هم، أما الآن فالمساجد أكثر من أن تحصى، وعمارها كذلك، وكلهم من الشباب والأطفال، ألا ينبئ ذلك بمستقبل لهذا الدين؟
* انظروا إلى الحج والعمرة.. ملايين من المسلمين في كل عام، من كل حدب وصوب.. أعلمتم أنه أصبح من المستحيل أن تجد الكعبة خالية من الزوار والطواف؟ أرأيتم اشتياق الرجال والنساء والشيوخ والشباب إلى الحج والعمرة؟
* انظروا إلى الحجاب وانتشاره في الستينات.. لم يكن في الجامعة المصرية – على سبيل المثال - إلا فتاة محجبة واحدة فقط على مستوى الجامعة ، ثم دارت الأيام، فإذا دخلتم الجامعة الآن، ونظرتم إلى النصف المملوء من الكوب بروح التفاؤل، وجدتم آلافاً من الفتيات مسلمات مؤمنات قانتات تائبات، أما إذا نظرتم إلى نصف الكوب الفارغ فسيدخل في روعكم ما نحن بصدد دفعه..
* انظروا إلى الانتخابات في النقابات والاتحادات وغيرها.. ألم تلمسوا تعاطفاً وحباً وتضامناً مع مَن رفع الإسلام شعاراً، واتخذه منهجاً وإمامًا؟ ألم تشاهدوا بأعينكم كيف يختار المسلمون المسلمين دون أن يعرفوا أشخاصهم، لا لشيء إلا لأنهم فقط يعتزون بإسلامهم؟
* انظروا إلى معارض الكتاب.. ألم تلحظوا أن أكثر الكتب مبيعاً هي الكتب الإسلامية؟ وأن أشد الأجنحة زحاماً هي الأجنحة الإسلامية؟ وأن أكثر الدور إنتاجاً هي الدور الإسلامية؟
* بل أرأيتم كيف إن كل الفئات على اختلاف توجهاتها تحاول الآن أن تلعب بورقة الإسلام، حتى وإن كانوا لا يرغبون فيه، وذلك لعلمهم بأن هوى الناس وميلهم أصبح للشرع والإسلام:
o رأينا أحزاباً علمانية تعلن في برامجها أطروحات إسلامية!!..
o رأينا بنوكاً ربوية تفتح فروعاً للمعاملات الإسلامية!!..
o رأينا محلات لتصفيف الشعر للنساء تفتح أقساماً للمحجبات!!..
o رأينا برامج تلفزيونية ما كانت تحادث إلا فنانين وفنانات وراقصين وراقصات، بدأت تروج لبرامجها باستضافة علماء المسلمين..(1/1557)
رأينا كل ذلك وغيره، وسوف تحمل الأيام المزيد ثم تعالى يا أخي ندقق النظر، ونوسع المدارك، ونخرج للساحة العالمية:
* ألم تسمع إلى نصر الأفغان على الروس في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. إياك إياك أن تظن أن الروس هزموا لجبال أفغانستان الوعرة، بل هزموا لأن الله هزمهم، وردوا لأن الله ردهم ، وذلك لما رأى من أهلها رجالاً أمثال الجبال أو أقوى من الجبال..
* ألم تشاهدوا جنود إسرائيل يرقصون طرباً، ويهللون فرحاً، لأنهم فروا كالجرذان، وهربوا كالقطيع، بمقاومة شعبية قادها حزب الله ، في بلد فقير كلبنان، خرج من حروب أهلية إلى أزمات اقتصادية..
* ألم تشاهدوا كيف احتلت جمهوريات إسلامية بقيصرية روسية، ثم بشيوعية بلشفية، ما يزيد على ثلاثمائة عام.. قهر وتعذيب وتشريد وتذبيح ..حمل المصحف كان جريمة يعاقب عليها القانون، الإيمان بالله ينكرونه، والإيمان برسوله يحاربونه.. ثم تمر السنوات، ويولي الليل، وتشرق الشمس، فإذا بشعوب مازالت مسلمة، وبقلوب مازالت مؤمنة، وبأيد مازالت متوضئة، وبرؤوس مازالت ساجدة.. فعل من هذا فعله؟! إنه فعل الله الذي وعد.. وكان حقا علينا نصر المؤمنين..
ثم تعالى معي يا أخي أبعد من ذلك:
* انظر إلى أمريكا كيف كان بها بضعة آلاف مسلم فقط في الستينات، فإذا بهم الآن ثمانية ملايين!!.. لقد رأيت شقة في مدينة أمريكية كانت تستخدم مسجداً في السبعينات.. وكانت هذه الشقة هي المسجد الوحيد بالمدينة.. فإذا بالأيام تمر، وفي ذات المدينة رأيت عشرة مساجد!!..
* انظروا إلى الجاليات الإسلامية في الغرب.. أسمعتم عن مدارسها عن مساجدها، عن مراكزها، عن جرائدها، عن مؤتمراتها، عن شركاتها؟
* أعلمت يا أخي أن دين الإسلام هو أسرع الأديان نمواً في العالم الآن؟
* أعلمت أن موقعاً إسلامياً على الإنترنت يدخله يوميا مليونان من الزائرين؟! منهم مليون في أمريكا وحدها؟!
أليس هذا – يا أحبابي - فتحاً و نصراً وعزاً وأملاً؟
الحقيقة السابعة
حقيقة الأعداء
يا إخواني ويا أحبابي:
من تقاتلون؟ وأي الأقوام تحاربون؟
أليسوا اليهود ومن عاونهم؟!
أليسوا الذين قال عنهم ربنا: " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا"؟(1/1558)
أليسوا الذين قال عنهم ربنا: " لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر"؟
أليسوا الذين قال عنهم ربنا: "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا"؟
هؤلاء هم اليهود!!..
"أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء، والله عليم حكيم"
إن كان اليهود أو كانت الأرض جميعاً معهم:
* أتخشون كثرتهم وأحزابهم وتجمعهم؟ ألم يخاطبهم الله وأمثالهم بقوله: "ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين"؟
* أتخشون عدتهم؟ ألم يقل ربنا: " قل الذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"؟
* أتخشون أموالهم؟ ألم يقل ربنا: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون"؟
* أتخشون عقولهم وجوارحهم؟ ألم يصفهم ربنا بقوله: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها،أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون"
ثم هل تظنون أيها المسلمون أن حياة هؤلاء نصر بلا هزيمة، وعز بلا ذل؟
* شاهدنا أمريكا المتكبرة تخرج مهرولة ومولولة من فيتنام التي لا ترى على الخريطة بتسعة وخمسين ألف قتيل!!.. وشاهدناها مره أخرى ومره ثالثة تخرج بنفس الهرولة والولولة من الصومال ولبنان!!
* شاهدنا مفاعل "تشرنوبل" الروسي المحكم ينفجر ويلوث آلاف الأفدنة..
* شاهدنا صاروخ " تشالنجر" أو المتحدي الذي قالوا عنه إنهم بلغوا فيه حد الكمال "تعالى الله عما يشركون" "وظن أهلها أنهم قادرون عليه آتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ، فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس".. لقد انفجر الصاروخ الكامل بعد ثوان معدودات من إطلاقه، وأمام أعينهم ليزيد من حسرتهم!!..
ثم ألم تشاهدوا قدرة الله عليهم ، وهم يقفون أمامها مكتوفي الأيدي تماماً:
* شاهدنا فيضاناً يغرق مدينة في ساعتين!!.. حدث ذلك في مدينة "نيو أورليانز" في أمريكا في مايو سنة 1995.. "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيوناً، فالتقى الماء على أمر قد قدر"..
* شاهدنا عاصفة ثلجية تدفن السيارات تماماً، وتغلق الشوارع، وتوقف الحياة ثلاثة أيام متصلة في "نيويورك" المدينة العصرية الحديثة!!..
* شاهدنا إعصاراً يحمل سيارات النقل الضخمة ويقذف بها فوق المنازل!!..(1/1559)
* شاهدنا ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، تقتلع الشجر في الغابات، وتمحو الحياة في لحظات، شاهدنا ذلك ولكن يا للحسرة لم نشاهد هناك مدكر!!..
وهل رأيتم هذا المجتمع من داخله؟!
لقد شاهدنا مجتمعاً مهللاً مفككاً منحطاً ، يعيش على الرذيلة، ولا يهتم بالفضيحة.. أهواءه تسيره، ورغباته تحركه، وشهواته تسيطر عليه وتدمره..
انظروا معي إلى هذه الأرقام تصف حال المراهقين الأمريكان الذين لم يبلغوا بعد ثمانية عشر عام من العمر، والذين سيحكمون بلدهم بعد عشر سنوات:
* 55? من هؤلاء الشباب ارتكبوا جريمة الزنا، وترتفع النسبة إلى 80? في المدن الكبرى وتنخفض إلى 33? في المناطق الريفية.. أي أن أشرف مناطق أمريكا يرتكب فيها الزنا بنسبة 33?!! ..هذا تحت الثامنة عشرة من العمر، فإذا صعدنا فوق ذلك قاربت النسبة 90?!!..
* ثلاثمائة وخمسون ألف حالة حمل بدون زواج كل عام في البنات الأصغر من 18 سنة، وهذا عدد أقل بكثير من الحقيقي، وذلك لكثرة الإجهاض!!
* 24? من العائلات الأمريكية ليس فيها أب، إما لأن الأم لا تعرف الأب لأنها ارتكبت الزنا مع أكثر من رجل، وإما بسبب الطلاق!!..
* 40 ? من الشباب المراهق يجربون المخدرات!!.. أما الخمور فحدث ولا حرج فالرقم أكبر من أن يحصى..
* الجرائم زادت في مدينة دالاس الأمريكية بنسبة 70? في عام واحد!! (من سنة 1998 إلى سنة 1999)
* السبب الثالث للوفاة في المراهقين هو الانتحار! أي أن الانتحار هو السبب الثالث في الوفاة في المراهقين الذين سيحكمون أمريكا بعد ذلك.. أمريكا وحدها تسجل 32000 حالة انتحار كل عام!!..
* عدد المرضى بالقمار الإجباري ( أي إدمان القمار) واحد من كل سبعة من المراهقين..
هذه هي أمريكا من الداخل!!.. هذا هو مجتمع أمريكا المهلهل الذي نخشاه!!..
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله:
أتشك في نصر على قوم كهؤلاء؟
أتشك في نصر على جيش غالبيته من الزناة والشواذ؟
أتشك في نصر على جيش أشرب في قلبه حب الخمور والمنكرات؟
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله:
" لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل، ثم مأواهم جهنم، وبئس المهاد"(1/1560)
"ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون"
الحقيقة الثامنة
النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة
أخي يا من تظن أن النصر قد تأخر:
اعلم أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة.. ألم تسمع إلى قوله تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين".. في هذه اللحظة التي ظن فيها الجميع - الرسول وقومه - أن الأمر قد وصل إلى نهايته في التكذيب والظلم والإعراض والشك، في هذه اللحظة التي وصل فيها الأذى للدعاة إلى مداه، وقد ثبت الدعاة على مبادئهم.. هنا في هذه اللحظة فقط " جاءهم نصرنا"..
اسمع أيضا إلى قوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، متى نصر الله".. في هذه اللحظة التي بلغ فيها السيل الربا، والصبر إلى نهايته، في هذه اللحظة المجيدة يقول سبحانه: "ألا إن نصر الله قريب"..
ألم تلاحظ في السيرة النبوية أن أشد لحظات الابتلاء للمؤمنين كانت في غزوة الأحزاب، حيث وصفها ربنا في كتابه فقال: "وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً".. ألم تلحظ أنه بعد غزوة الأحزاب كان المسلمون في فتح يتلوه فتح؟.. بعد أشد لحظات المجاهدة، جاءت الحديبية، ثم مكة، ثم الطائف، ثم جزيرة العرب بكاملها.. أمجاد تعقبها أمجاد، وأيام نصر وفرح وتمكين..
الحقيقة التاسعة
الله لا يعجل بعجلة عباده
أخي يا من تظن أن النصر قد تأخر:
اعلم أن الأدب مع الله يقتضي عدم استعجاله، وأن حكمة الله البالغة اقتضت أن يختبر أحبابه وأصفياءه، وأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خير المؤمنين أصبح في النصر، وليس في انتظار النصر..
يروي البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعوا الله لنا؟.. ألم شديد، وإيذاء عظيم.. جلد وحرق وخنق وشنق.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان الرجل في من قبلكم ، يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن(1/1561)
دينه، والله ليتمن هذا الأمر (أي ليتمن الله هذا الأمر) حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"
سبحان الله.. تستعجلون؟!! بعد كل هذا التعذيب في مكة كان خباب بن الأرت يستعجل؟!
نعم.. مازال هناك أشياء أخرى..
مازال هناك ترك للمال وترك للأهل، وترك للديار..
مازال هناك صراع ونزال..
مازال هناك جهاد وشهادة..
ثم..... يأتي النصر!!
في الميعاد الذي حدده الخالق.. لا في الميعاد الذي حدده المخلوق!!
الحقيقة العاشرة
الأجر لا يرتبط بالنصر ولكن بالعمل
أخي يا من تظن أن النصر قد تأخر:
اعلم أن الأجر غير مرتبط بالنصر، ولكن بالعمل.. "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"..
واعلم أنه كلما حسن عملك، كلما عظم أجرك..
وكلما زاد جهدك، كلما كمل ثوابك..
وأنك إن لم ترى النصر بعينيك، فسيراه أبناؤك وأحبابك..
واعلم أن الأجر يضيع إذا فقدت اليقين في النصر..
وأن النصر لا يأتي إلا بيقين فيه.. يقين لا يساوره شك.. ولا تخالطه ريبة.."من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع فلينظر، هل يذهبن كيده ما يغيظ"
أرأيت صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف كانوا في الأحزاب لا يأمنون على شئ؟ كيف كانوا محاصرين ومهددين.. ثم هم يستمعون إلى بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور تفوق الخيال، فإذا هم مصدقون، وبالبشرى موقنون.. انظروا كيف يحكي البراء رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه سلم كان يضرب الحجر ويقول: "بسم الله، ثم ضرب ضربة وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصوره الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني".. والصحابة في هذا الحصار يستمعون إلى بشرى فتح الشام وفارس واليمن، فيصدقون عن يقين، وكأنهم يرونه رأي العين مع رسول الله صلي الله عليه وسلم..(1/1562)
ولهذا جاء النصر!!
أيها المؤمنون!!
أنتم الأعلون
إخواني وأحباب:
أحمل لكم آية عجيبة، وكل آيات الله عجيب.. آية هي كنز من كنوز المنان، وعطية من عطايا الرحمن:
"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"..
أتعلمون أيها المسلمون: متى نزلت هذه الآية؟
لقد نزلت بعد غزوة أحد!!.. بعد الهزيمة!!..
وذلك ليعلم الله المؤمنين أن العزة والعلو لا يتأثران بهزيمة مرحلية، ولا يرتبطان بنصر مرئي، ولا يعتمدان على تمكين مشاهد.. وليعلم الله المؤمنين أن الأيام دول، وأن للتاريخ دورات، فلهذا دورة، ولهذا دورة، أما الدورة الأخيرة فللمؤمنين إن شاء الله..
أيها المؤمنون.. " عباد الله ":
* أنتم الأعلون لأن إلهكم الله الذي لا إله إلا هو سبحانه، وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً..
* أنتم الأعلون لأنكم أتباع النبي الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم، خير الخلق، وسيد الرسل والماحي الذي يمحو الله به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، والعاقب الذي ليس بعده نبي صلى الله عليه وسلم..
* أنتم الأعلون لأن كتابكم القرآن فيه نبأ من قبلكم، ونبأ ما يأتي بعدكم، وحكم ما بينكم، من خالفه من الجبابرة قسمه الله عز وجل، ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، وشفاؤه النافع عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستقيم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلقه كثرة الترديد..
* أنتم الأعلون لأن شريعتكم الإسلام، دين ودنياً جسد وروح، عقل وقلب، ما ترك الله في شريعته من شئ إلا وضحه وبينه: " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً"..
* أنتم الأعلون لأنكم الأكمل أخلاقاً.. "إنما بعثت لأتتم مكارم الأخلاق"..
* أنتم الأعلون لأنكم الأقوى رابطة "لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم"..
* أنتم الأعلون لأن الملائكة تثبتكم.. " إذ يوحي ربك للملائكة أني معكم، فثبتوا الذين آمنوا"..(1/1563)
* أنتم الأعلون لأن الطمأنينة في قلوبكم "وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم"..
* أنتم الأعلون لأن الجنة موعدكم.. "إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخرياً، حتى أنسوكم ذكري، وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون"..
أنتم أيها المؤمنون الصابرون - إن شاء الله - الفائزون..
وختاماً
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله:
يا مسلم يا عبد الله..
يا من سيناديك الحجر والشجر بلسان الحال أو بلسان المقال: - بكليهما نؤمن ونصدق - يا مسلم يا عبد الله..
جفف دمعك، واجبر كسرك، وارفع رأسك..
وأعلم أن الأيام القادمة لك لا عليك..
وأن المستقبل لدينك لا لدين غيرك..
وأن العاقبة للمتقين..
وأعلم أيضا أن مع الصبر نصراً..
وأن مع العسر يسراً..
وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل..
وأن الله ناصرك ما دمت ناصره..
ومعك ما دمت معه..
وهاديك إلى سبيله، ما دمت مجاهداً في سبيله..
" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين"..
"فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد"
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
وجزاكم الله خيراً كثيراً .
ــــــــــ
{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } [*]
أ.د. عبدالكريم بكار(1/1564)
تشعر أمة الإسلام اليوم بغربة حقيقية بين الأمم المعاصرة ، وتجد نفسها فريدة ومتميزة على مستوى المبادئ والمفاهيم والأهداف ؛ وهذا التميز والتأبي على السير في ركاب القوى العظمى جرّ عليها ضغوطاً أدبية ومادية ، هي أكبر مما نظن بكثير .
إن أدبياتنا تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته لايكمن في التشاغل بالرد عليها ؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة ، وإنما يتمثل في الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على النفس ؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه ، ويجعل من ذاته الحجر والنحّات في آن واحد !
والآية الكريمة التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء ، ولعلنا نقتبس من الدوران في فلكها الأنوار التالية :
1- إن كثيراً من النصوص يوجهنا نحو الانكفاء على الداخل في مواجهة الخارج بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين ، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصِّه أحوال الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها واندثار حضاراتها لا يعود أبداً إلى قصور عمراني ، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها ؛ وإنما يعود إلى قصور داخلي ، يتمثل في الإعراض عن منهج الله (جلّ وعلا) واستدبار رسالات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم السابقة ؛ حتى يتأصل في حسِّ القارئ للكتاب العزيز إعطاء الأولوية لصواب المنهج قبل أي شيء آخر .
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد ، وقال بعض الصحابة (رضوان الله عليهم ) : كيف نُهزَم ونحن جند الله ؟ ! جاء الجواب : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } [آل عمران : 165] فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي ، وليس بسبب شراسة الأعداء ، وكثرة عددهم وعتادهم ؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً بعيداً ؛ فالعدو بَشَر له أحاسيسه ، وله موازناته ومشكلاته ، وبالتالي إمكاناته أيضاً ، وفي هذا يقول (سبحانه) : { إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء : 104] .
2- ترمي الآية الكريمة إلى تدعيم (الذاتي) في مقابل (الموضوعي) ؛ إذ تعلِّم المسلم أنه إذا ساءت الظروف فإن عليه أن يُحسِّن من ذاته ؛ لأن من المعروف أنه حين تسوء الظروف ، فإن الغالب أن يسوء الإنسان نفسه ، ولذلك : فإنه يحدث في حالات الفقر الشديد نوع من التحلل الخلقي من نحو : السرقة ، والرشوة ، وسؤال الناس ، والذل ، والتحايل ، والغش ، والبخل ، وقطيعة الرحم ... والمطلوب من المسلم آنذاك : أن يقف (وقفة رجل) فيضغط على نفسه ، ويضبط سلوكه ويُلغي أو
يؤجل بعض رغائبه ، ويقتصد في نفقاته ، حتى تمر العاصفة ، وينتهي الظرف الاستثنائي .
ومن النصوص الواضحة في تدعيم الشخصية عند صعوبة الظروف قوله :(1/1565)
(يا معشر الشباب : من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [1] .
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة ، فبدل أن نلجأ إلى التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم ، واكتساب عادات جديدة ، واقتلاع المشكلات من جذورها .. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي والانحراف السلوكي بأمرين : القوة ، ومزيد من القوانين ، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً ، وأقلها تكلفة حسب ما يبدو وقد عبّر عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عن هذه الحقيقة حيث قال : (يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور) .
ونحن نقول : إن شيئاً من التوسع في الأنظمة والتشريعات الرادعة يحدث عند جميع الأمم ، حين يقع تهديد خطير لأمن الناس وحقوقهم ، لكن الجزاءات والعقوبات هي أشبه شيء بالتدخل الجراحي في العلاج الطبي ، فهو آخر الحلول ، وعند اللجوء إليه ينبغي أن يتم في أضيق الحدود ! .
إن العقوبات الرادعة إنما وجدت لمن فاتتهم التنشئة الاجتماعية القويمة ؛ والعقوبات لا تنشيء مجتمعاً لكنها تحميه . وهذه رؤية إسلامية جلية ، فآيات الأحكام والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم ، أما الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل . إن التجربة علمتنا أن كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء ، وتزيد في قيود الضعفاء ! ، وأن البطش لا يحل المشكلات ، لكن يؤجلها ، فيكون حال المجتمع كمن يأكل عن طريق الدّين ، فهو ينتقل من سيء إلى أسوأ ! ! .
إن الدولة الفاضلة هي التي تدير مجتمعها بأقل قدر ممكن من العنف واستخدام القوة ؛ لأنها ترتكز أساساً على استخدام الأساليب والأدوات السلمية في الضبط والإدارة .
إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى : أن النصر الخاص يسبق النصر العام ، وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً ، وحقق كل واحد من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك .
3- لا ينبغي لنا أن نفهم نصّاً من النصوص بمعزل عن المنظومة التي ينتمي إليها ، ويعالج معها مشكلة واحدة ؛ والنص الكريم هنا يوجهنا إلى أمرين : الصبر ، والتقوى .
ويعني الصبر : احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف الربانية ، مهما كانت الظروف قاسية ؛ لأن ذلك نصف النصر ، إذ إن نصف الفوز يأتي من جهودنا ، وقبله من توفيق الله (تعالى) لنا ، والنصف الثاني يأتي من أخطاء أعدائنا .
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة كما هو مفهوم العوام لكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة ، وقد جرت العادة أن الناس حين يرون إنساناً متفوقاً : يطلبون منه حلولاً سريعة لمشكلاتهم(1/1566)
المتخمرة والمتأسنة ؛ والحلول السريعة تفضي في كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط ، أو إلى الاندفاع والتهور ؛ مما يعقِّد المشكلة أكثر مما يحلها ! .
إن من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعاً كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئاً ، لكن إذا قلنا : ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها خلال عشرين عاماً ، فسوف نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدّاً ، فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها .
حقيقةُ ضرورة اقتران الصبر بالعمل والحركة للخلاص من الأوضاع الصعبة حقيقة قرآنية لامعة ، نطقت بها الكثير من الآيات القرآنية ، مثل قوله (سبحانه) : { ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 110] ، وقوله (سبحانه) : { يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153] ، وقوله (تعالى) : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان : 24] .
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس والاستسلام ، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق ... وهذا ما لا يرضى الله (جل وعلا) لعباده المؤمنين منه شيئاً .
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية : نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة ؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية .. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والأخلاق والنفوس والسلوك ، بل إنها تصلّب روح المقاومة ، وتُكسب الخبرة ، وتكشف عن الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي ، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس .
وقد مرّت أمم كثيرة بأقصى مما نمر به ، لكنها استطاعت عن طريق الانتفاضة النفسية والشعورية ، أن تتجاوز المحن ، وتنبعث من جديد ! .
4- إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو : تهذيب الذات وتحسينها ، وتدعيمها ، والرقي بها ؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة ، منها : المزيد من الالتزام الصارم ، ومقاومة الشهوات ، والتعاون ، والمفاتحة ، والمراجعة ، والتضحية ، والمواساة لبعضنا بعضاً ، والحفاظ على رأس المال الوطني ، والاقتصاد في الاستهلاك .. إنه يعني اكتساب عادات جديدة ، من نحو تكثيف القراءة الجيدة ، والنظر دائماً إلى المستقبل بعقل مفتوح ، وتحسين العلاقات مع الآخرين ، والإكثار من المعروف والنوافل ، إلى جانب التخلص من أكبر قدر ممكن من العادات السيئة ، مثل عدم الدقة وخلف الوعد ، وتأجيل أعمال اليوم إلى أوقات أخرى ...
5- يركز الخطاب الإسلامي بصورة عامة على تدعيم الذاتي في كل الأحوال ، وقلما يتطرق إلى علاج الظروف العامة التي يعيش فيها المسلم ، ومن ثم : فإننا نجده يؤكد على الصلاح واستقامة السلوك والانتهاء عن المناهي ...(1/1567)
أما تناول الشروط الموضوعية الضرورية لاستجابة المسلم للدعوة فإنه ضعيف ، وعلى بعض الأصعدة معدوم ، وهو على كل حال فقير ، وتنقصه الخبرة والدربة .
إن بين الإنسان والظروف والأوضاع الحياتية العامة التي يعيشها علاقة جدلية فهو يؤثر فيها ويتأثر بها ، ولا بد للدعاة من أن يدركوا أن الفرد المسلم لا يستطيع أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع ، وذلك التباعد مرهق ومكلف ؛ فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق محرمة أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء (اللقمة الحلال) سيكونون قلة ، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم ، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب الناس إليهم .
ولهذا : فكما أن محاولات تحسين المستوى الشخصي للمسلم يظل ضروريًّا وحيويّاً ، فإن تحسين المناخ العام ينبغي أن يظل موضع عناية واهتمام ؛ إذ ليس المطلوب تحقيق شروط الدعوة الجيدة ، وإنما تحقيق شروط الاستجابة الناجحة أيضاً .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .
________________________
(*) الآية : 120 من سورة آل عمران .
(1) أخرجه البخاري ، كتاب النكاح .
ــــــــــ
كيف نغير ما بأنفسنا ؟
تأليف: د/ مجدي الهلالي
القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط:1، 1425هـ، 120 ص.
عرض وتحليل
محمد حسن يوسف
يناقش هذا الكتاب مفهوم إحدى سنن الله التي تحدث في القرآن، وهي ضرورة تغيير أي قوم لأنفسهم من الداخل، وذلك إذا ما أرادوا تغيير واقعهم من حولهم. وهي قضية هامة وحرجة بالنسبة للأمة الإسلامية في الوقت الراهن. فإذا كانت الأمة تعاني من التدهور الحاد في جميع مناحي الحياة من حولها، فلابد لها - إذا ما أرادت بصدق الخروج من ذلك - من التغيير الداخلي لنفس كل مواطن فيها حتى ينعم الله علينا بتغيير هذا الواقع الأليم. فكيف يحدث هذا التغيير الداخلي داخل نفوسنا؟ يحاول هذا الكتاب أن يضع المنهجية الخاصة بذلك على ما يلي:
يقول المؤلف: ما من عام يمر على أمتنا الإسلامية في وقتنا الحاضر إلا ويحمل معه جرحا جديدا في جسدها يضاف إلى جراحاتها السابقة ... فعام لأفغانستان، وعام للشيشان، وآخر للعراق، أما(1/1568)
فلسطين فجرحها يتجدد باستمرار، ويزداد عمقا بمرور الأيام. ورغم الدعاء والتضرع والاستغاثة بالله عز وجل، فإن الوضع مستمر على ما هو عليه، بل ويزداد سوءا في بعض الأماكن. فلماذا إذن لا ينصرنا الله عز وجل وقد بُحت أصواتنا بدعائه؟ لماذا تأخر المدد الإلهي ونحن في مسيس الحاجة إليه اليوم قبل الغد؟ فإن قيل: إن هذا المدد لا يتنزل إلا على من يستحقه ... كان السؤال: فما المطلوب منا أن نفعله لنكون أهلا له؟ أين نضع نقطة البداية لطريق النصر والتغيير؟ وكيف نبدأ؟
القادر المقتدر
لا يستطيع أحد أن يقيم نفسه بنفسه، أو يتولى تصريف أموره ولو لطرفة عين. فالقلب مثلا يحتاج إلى إمداد منه سبحانه بالقدرة على ضخ الدم للجسم سبعين مرة في الدقيقة الواحدة، ولو توقف المدد لتوقف القلب وانتهت الحياة. وهكذا كل أجهزة الجسم، لا تستطيع أداء وظائفها إلا به سبحانه. ولو تخلى عن عباده طرفة عين لهلكوا جميعا، يستوي في ذلك المؤمن والكافر.
ومن البديهي أن قيوميته سبحانه على عباده تستدعي اقترانها بعلمه، وإحاطته التامة بهم. ومع علمه التام بعباده وإحاطته بهم جميعا، فهو سبحانه وتعالى رقيب عليهم. إذن فكل ما يحدث لنا من ذل وهوان وهزائم ونكسات فبعلم الله وإذنه: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام: 112 ] .
ومع قيومية الله وإحاطته بجميع خلقه، فهو سبحانه مقتدر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ... يفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره. وهو سبحانه لا يخاف من شيء - حاشاه - ولا يخشى عقبى شيء من أمره، كيف وهو صاحب هذا الكون والقائم عليه.
ومع هذه القدرة المطلقة والمشيئة النافذة التي لا تستطيع أي قوة في الأرض مهما كان حجمها أن تقف أمامها، فإنها لا تتنزل إلا على من يستحقها: لا تتنزل على الكافرين بالهلاك إلا بعد أن يستنفذوا فترة إمهال الله لهم، ويستقبلوا النعمة بالكفر، ويظلموا الناس، ويستدعوا بأفعالهم غضب الله عليهم. كما لا تتنزل بالمدد والنصر على الفئة المؤمنة إلا إذا استوفت الشروط المؤهلة لذلك، بأن يتغير حالها إلى الحال الذي يُرضي الله عز وجل، وتترك ما يبغضه.
الأمل في الله وحده
من ينظر ويتفحص ما عند أعدائنا من إمكانات مادية، وتكنولوجيا متطورة، وأسلحة دمار شامل، ثم يقارن ذلك كله بما نملكه، فقد يصيبه الإحباط، أو يتسرب إلى نفسه اليأس، فلا وجه للمقارنة بيننا وبينهم. ومن ناحية أخرى، فواقع الأمر يخبرنا بأنه لا أمل حقيقيا لدينا للحاق بهم لأنهم لن يسمحوا لنا بامتلاك سباب القوة. فالمساحة التي أتاحوا لنا التحرك فيها محدودة، ومهما اجتهدنا فيها فسنكون دوما في ركب التخلف وأذيال الأمم. إذن فلا أمل حقيقيا لنا إلا باستدعاء القوة الإلهية التي لا تقهر، والتي لا تقف أمامها أي أسباب مهما عظمت.(1/1569)
وليس معنى القول بأن أملنا في الله وحده أن نترك الأسباب المادية بدعوى عدم جدواها، بل المطلوب هو العكس. علينا أن نملأ كل فراغ يتاح أمامنا، ونتغلغل في كل القطاعات، ونجتهد غاية الاجتهاد في امتلاك أسباب القوة. على أن نأخذ في الاعتبار دائما أن الأسباب بعينها لن تحقق لنا النصر. واجتهادنا في تحصيلها يأتي امتثالا لأمر الله، وتنفيذا لمقتضى سننه التي ربطت الأسباب بمسبباتها.
ما المقصود بالتغيير؟
إن الوظيفة الأساسية لكل فرد يخرج إلى الأرض هي ممارسة العبودية لله عز وجل في فترة وجوده في الدنيا، بداية من بلوغه الحلم وحتى موته. على أن وجودنا على الأرض بما تحتويه من زينة يتطلب منا جهادا لأنفسنا ونصرة لله عليها، إن أردنا أن نرتدي رداء العبودية وننجح في الامتحان. إن كرامة العبد عند الله مرتبطة بمدى عبوديته له، ولا علاقة لذلك بالنسب أو الماضي ... الخ. فالولاية والكرامة على قدر الاستقامة، واستمرارها مرتبط ببقاء حالة تلك الاستقامة.
فإذا ما أسقطنا هذه القاعدة على الواقع الذي تحياه أمتنا الآن، نجد أن ما يحدث لنا من ذل وهوان وبؤس وعذاب لم يأتِ من فراغ، بل بسبب ما اقترفته أيدينا. فبأفعالنا استدعينا غضب الله علينا. لقد ملأ حب الدنيا قلوبنا، فأصبحت تصوراتنا وأحلامنا منبثقة منها ... اتجهت أعيننا إلى الأرض، وتصارعنا على ما فيها. ودخلنا بذلك كأمة إسلامية في دائرة الغضب والعقوبة الإلهية، وإن اختلف شكلها من مكان لآخر.
فإن قلت: ولكن أنا لا أفعل هذه الموبقات، وأعمل جاهدا على إصلاح نفسي، والاستقامة على أمر الله. فلماذا أُعاقب بما يُعاقب به العاصون؟ والجواب هو أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، يشكل مجموع المسلمين جسدها. فإذا حدث لعضو في هذا الجسد مكروه، فعلى الجميع أن يعملوا على عودته لصحته مرة أخرى. إذن فكون البعض منا صالحا في نفسه، مبتعدا عما يغضب ربه، فهذا لا يعفيه من مسئوليته عن الأمة وما يحدث لها.
إن الغمة لن تنكشف عنا بالدعاء فقط، بل لابد أن يسبق هذا الدعاء ويصاحبه تحول حقيقي عن كل ما يغضب الله، وانتقال إلى ما يرضيه. لابد من روح جديدة تسري في كيان الأمة، فتوقظها من سباتها، وتعمل على تغييرها تغييرا جذريا يشمل المفاهيم والتصورات، والسر والعلانية، والأقوال والأفعال.
عوائق التغيير
وهو من أهم فصول هذا الكتاب. وفيه يبدأ المؤلف: قد يقول قائل: إن كل ما قيل قد سمعناه مرات ومرات، ولا يوجد من يختلف حوله، ولكن النقطة التي نقف عندها ولا نستطيع تجاوزها هي كيفية التغيير. كيف نحوّل الكلام النظري إلى واقع عملي؟ كيف يصبح الله عز وجل أحب إلينا وأعز علينا من كل شيء؟ إن هناك انفصال بين القول والفعل ... بين الواجب والواقع ... فما السبب في ذلك؟(1/1570)
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم معرفة الدوافع التي تدفع الإنسان للسلوك بصفة عامة، والمراحل التي يمر بها، قبل أن يظهر للواقع.
لكي يظهر سلوك اختياري ما إلى الوجود، فإن هناك ثلاث مراحل لابد أن تتم داخل الإنسان:
أولا: القناعة العقلية بالفعل المراد القيام به.
ثانيا: إصغاء قلبي لصوت العقل ورضاه بما يشير إليه.
ثالثا: صدور أمر من القلب إلى الجوارح بالتنفيذ.
فإذا أردنا أن نُشخّص أسباب السلوك غير السوي، والذي نشكو من وجوده ونريد تغييره إلى ما يحبه الله ويرضاه، فلابد أن يتناول البحث محاور ثلاثة:
المحور الأول: يتعلق بعقل الإنسان وفكره وقناعاته التي تشكل المنطلق الأول للسلوك.
المحور الثاني: يتعلق بقلب الإنسان وما يحول بينه وبين تنفيذ ما يمليه عليه العقل.
المحور الثالث: يتعلق بالنفس التي تشكل العائق الأساسي الذي يقف أمام إخلاص هذا الفعل لله عز وجل.
فإذا كان المطلوب أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير الله عز وجل ما بنا، فإن هذا التغيير لابد أن يشمل:
1- الاهتمامات والتصورات والأفكار، وهذا يستدعي تغيير اليقين الخاطئ في العقل الباطن.
2- زيادة الإيمان وتمكنه التام من القلب وطرد الهوى منه.
3- جهاد النفس وترويضها وإلزامها الصدق والإخلاص لله عز وجل.
من أين نبدأ؟
مما لا شك فيه أن هناك دواءً أنزله الله عز وجل نداوي به ما نعاني منه، وأن رحمته التي يغمرنا بها تستلزم وجود هذا الدواء الذي يعيدنا إلى حظيرة العبودية له ... فما هو يا تُرى هذا الدواء؟ باستقراء تاريخ الأمة الإسلامية نجد فيها صفحات مشرقة لجيل من الأجيال كانوا قبل إسلامهم غاية في الغرابة والجاهلية، ثم تبدل حالهم وتغير تغييرا جذريا، ليصبحوا عبيدا لله عز وجل، ويعملون من أجله ويضحون في سبيل مرضاته بالغالي والنفيس ... ذلكم جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
لقد حدثت معجزة عظيمة لهؤلاء نقلتهم هذه النقلة البعيدة، وأعادت صياغتهم وتشكيلهم من جديد. فما هو سر هذه المعجزة؟ كان القرآن هو الدواء الذي تناوله هؤلاء فتغيروا هذا التغيير. إنه السر الأعظم والمعجزة الكبرى التي اختص الله بها هذه الأمة. ومع القرآن وقدرته الفذة والعجيبة في التأثير والتغيير، كان المربي العظيم صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف بنفسه على عملية التغيير ويتابعها ويوجهها.
إذن فالحل الذي نريده ينطلق من محورين: المنهج وهو القرآن، والمربي وهو الذي يتعهد عملية التغيير.
هذا القرآن(1/1571)
إن القرآن هو القادر - بإذن الله – على تغييرنا وإعادة صياغتنا من جديد، ولِمَ لا وهو يمكنه تغيير طبيعة الجبال الصلبة القاسية: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر: 21 ] . والقرآن كذلك هو الطريق للاستقامة الدائمة على أمر الله، كما قال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء: 9 ] . فبالقرآن توحد المسلمون الأوائل على هدف واحد، وبه ارتفعوا إلى السماء وتخلصوا من جواذب الأرض. ولقد أكد على هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تُهلكوا ولن تضلوا بعده أبدا ". [ صحيح / رواه الطبراني في الكبير عن جبير، وأورده الألباني في صحيح الجامع، ح: (34) ].
من هنا يتضح لنا أن نقطة البداية التي ينبغي أن نبدأ بها ليتم التغيير الداخلي المنشود هي العودة إلى القرآن. ونعني بالعودة: الدخول إلى دائرة تأثيره، والتعرض الحقيقي لمعجزاته، وتشغيل مصنعه وماكيناته، ليتم من خلاله التغيير المنشود، فنكون من بعده عبيدا لله عز وجل.
كيفية التغيير القرآني
استعرضنا فيما سبق الأسباب التي تحول بيننا وبين أن نكون عبيدا مخلصين لله عز وجل، والتي تنطلق من محاور ثلاثة: العقل والقلب والنفس. ومن ثم فإن التغيير الحقيقي في ذات الإنسان ينبغي أن يشمل هذه المحاور الثلاث:
o فبالنسبة للعقل: يقوم القرآن بإعادة تشكيل العقل وبناء اليقين الصحيح فيه، فتتغير تبعا لذلك تصورات صاحبه واهتماماته، ومن ثم تلقائية أفعاله.
o وبالنسبة للقلب: تعني لحظات الانفعال والتجاوب القلبي مع قراءة القرآن، تعني دخول نور هذه الآيات إلى القلب وتأثيره على المشاعر، مما يؤدي إلى زيادة الإيمان. وكلما ازداد الإيمان في القلب، انعكس ذلك على الجوارح بأعمال صالحة لم يكن من السهل قبل ذلك القيام بها.
o وبالنسبة للنفس: تكمن طريقة القرآن الفريدة في التعامل مع النفس من خلال محورين رئيسيين، هما: معرفة الله، ومعرفة النفس، مع ممارسة مقتضى تلك المعارف. فمعرفة الله لها دور كبير في إخلاص العمل لله عز وجل، وعلى قدر تمكنها من القلب وتعمقها فيه يكون صدق معاملة العبد لربه. أما تعريف القرآن للمرء بحقيقة نفسه وطبيعتها، وحبها للشهوات، وميلها للفجور، وأنها لو تُركت لما أمرت بخير ... كل ذلك ليشتد حذر الإنسان منها، فلا يركن إليها ولا يرضى أو يفرح بها.
كيف ننتفع بالقرآن؟
إذا كان القرآن هو المخرج من الفتن التي تعصف بنا، فلابد – إذن – أن نعود جميعا إلى القرآن. فالعودة إليه تمثل طوق النجاة ومشروع النهضة للأمة جمعاء. إن الدخول إلى عالم القرآن ودائرة تأثيره(1/1572)
يحتاج منا إلى جهد ومثابرة، وبخاصة في البداية، حتى نستطيع تجاوز الطريقة التي اعتدنا عليها في تعاملنا مع هذا الكتاب، والتي تهتم باللفظ أكثر من المعنى.
وأكبر عامل يساعدنا على تجاوز طريقتنا الشكلية مع القرآن، ويُدخلنا إلى دائرة تأثيره، ويُذيقنا حلاوة الإيمان الناتج عنه: الاستعانة الصادقة بالله عز وجل، والإلحاح عليه بالدعاء ... أن ينفعنا بمعجزة القرآن، وينور قلوبنا بنور آياته، ويحييها بمعرفته. ومع الاستمرار في الدعاء والإلحاح على الله عز وجل، فإن هناك بعض الوسائل المعينة على العودة الهادئة والمتدرجة إلى القرآن، علينا أن نجتهد في الأخذ بها جميعا. وهي:
1- الانشغال بالقرآن والتجرد له
2- التهيئة الذهنية والقلبية
3- سلامة النطق والقراءة الهادفة
4- التركيز في القراءة وعدم السرحان
5- التجاوب مع القراءة
6- أن نجعل المعنى الإجمالي هو المقصود
7- ترديد الآية التي تؤثر في القلب
8- دراسة الآيات والعمل بمقتضاها
المربي
أهم دور يضطلع به المربي هو الإشراف على عملية التغيير ومتابعته، ليكون النتاج صالحا، فلا يحدث تضخم في جانب وضمور في جانب آخر. لذلك فمن طبيعة وظيفته:
أولا: تربية من معه على التوازن والاعتدال
ثانيا: ضبط الفهم الصحيح عند الأفراد لمراتب الأحكام وفقه الأولويات مع النظرة الشاملة للإسلام
ثالثا: حسن توجيه الطاقات المتولدة لدى الأفراد نتيجة تعاملهم مع القرآن ومنابع الإيمان، وذلك بفتح مجالات العمل أمامهم، وتنظيم حركتهم بين الناس
رابعا: شحذ همم الأفراد
خامسا: المحافظة على الأفراد
سادسا: التذكير الدائم بحقيقة الدنيا
ومما لا شك فيه أن طبيعة دور المربي تستدعي منه تواجدا مستمرا مع الأفراد ليتسنى له متابعتهم وحسن توجيههم. ولكن ذلك لا يعني المتابعة الدقيقة واللصيقة لكل منهم، والتأكد من تنفيذ توجيهاته بدقة. ولكن يترك المربي الإيمان في قلوب الأفراد يحركهم، فالإيمان هو أكبر ضامن يضمن(1/1573)
تنفيذ الخطط والتوجيهات، مع عدم إغفال دور المتابعة العامة التي تتعرف على الواقع فتبني عليه توجيهات المستقبل.
المحاضن التربوية
قد لا نجد مثل هؤلاء المربين الدالّين على الله وعلى كتابه، ولكن مع وجود المنهج – ألا وهو القرآن – ومع فهم طبيعة دور المربي، يمكننا أن نستعيض عن دوره – ولو بصفة مؤقتة – من خلال تعاهد بعضنا البعض بالنصح والإرشاد، وتبادل الخبرات، وتبني الأدوار التي يقوم بها المربي. وحبذا لو كان بيننا من سبقنا إلى الدخول لمأدبة القرآن ليوفر علينا الوقت والجهد. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه " المحاضن التربوية ".
والمقصد من ذلك هو إرشاد الأفراد إلى كيفية الانتفاع بالقرآن وتذوق حلاوته. مع العلم أنه بالمداومة على استخدام وسائل العودة إلى القرآن سيبدأ الأفراد في تذوق حلاوة الإيمان، لتكون هذه المحاضن وسيلة لتبادل هذه الأذواق وشحذ الهمم وفتح آفاق أوسع للتعامل مع الآيات. وفي المحاضن التربوية يتم تدارس بعض كتب العلم النافع التي تعين الفرد على تعميق فهمه للقرآن، وتضبط له عملية التغيير. على أن يتم ربط هذه الكتب بالقرآن قدر المستطاع، وألا تطغى عليه.
هذا الشكل المقترح للمحاضن التربوية، والتي يمكن أن تتم في البيت بين الأب وأبنائه، أو بين الأصدقاء بعضهم مع بعض، لها امتداد عبر تاريخ الأمة، فقد بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان القرآن هو المنهج الذي يتدارسونه ويعيشون معه. أما توجيهاته صلى الله عليه وسلم فكانت بمثابة الشرح والبيان لآيات القرآن، مع ضبط الفهم، وتنظيم حركة الأفراد، وشرح كيفية التعامل مع مستجدات الحياة.
ومع أهمية وجود المحاضن التربوية للإشراف على عملية التغيير القرآني للأفراد، إلا أنه ينبغي أن يكون لها دور آخر في توجيههم لدعوة الناس. فمن الضروري تبليغ الناس بذلك، والأخذ بأيديهم إلى مأدبته، فينصلح حالهم، ويعودون إلى ربهم، ويمارسون الوظيفة التي خلقوا من أجلها، فيتحقق بذلك الوعد الذي وعدنا الله به بالاستخلاف والتمكين.
هيا إلى العمل
إذا كان القرآن هو مشروع الأمة الإسلامية القومي للنهضة، وهو السبيل لعودة مجدها وعزها، فلابد أن ينتفض كل غيور ويبدأ بنفسه ويعود إلى القرآن، ويقبل عليه بكيانه كله.
لابد أن نعمل على تبليغ هذه الدعوة في كل مكان، وأن نرشد الناس إلى كيفية العودة إلى القرآن، والانتفاع الحقيقي به، وأن نلح عليهم بذلك. وشيئا فشيئا ستسري هذه الدعوة في أعماق الأمة، وستجد لها – بمشيئة الله – آذانا صاغية.(1/1574)
فلنبدأ من الآن، ولنعد إلى القرآن، فكفى ما مضى من أعمارنا ونحن بعيدون عن هذا الكنز العظيم. ولنسبتشر جميعا، فما هي إلا سنوات قليلة حتى نجد نور القرآن يسري في النفوس، ليبدأ التغيير في جنبات الأمة، ويصطلح الناس مع ربهم، ويعودوا إليه.
1 من صفر عام 1427 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 1 من مارس عام 2006 ).
ــــــــــ
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فإن أنباء تجَدُّد العدوان الصهيوني الآثم على فلسطين ولبنان تطغى على كل الأخبار، وتشغل المساحة الأكبر في وسائل الإعلام المختلفة، فعلى مرأى ومسمع من العالم كله قام الكيان الصهيوني بأبشع جرائم القتل التي كان ضحاياها من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، كما مارس التدمير الآثم على خدمات الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والجسور والطرقات، في جريمة كبرى قلَّ مثيلها في وضوحها وبشاعتها، وفي خضم المناورات والحسابات السياسية تختلط كثير من الحقائق والرؤى الصائبة، وهذه نظرات مستلهمة من القرآن والسنة حول المفاهيم والمواقف :
أولاً: مفاهيم الصراع المبدئية:
1- الصراع مع اليهود الصهاينة - ومركزه أرض الإسراء - صراع عقدي حضاري ، وأسبابه لها جذور تاريخية في عداء اليهود للإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، و من هنا يأتي فهم سياق الأحداث الجارية من مثل قوله تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة: 64]،أي "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها،وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم" [ ابن كثير ص 634 ] "وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد" [ الألوسي 6/183] ، ومزيد من البيان نجده في قوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [ المائدة:82 ] ،" وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنُوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ودَرَبُوا العتوَّ والمعاصي، ومَرَدُوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحَجَتْ عداوتهم، وكثُرَ حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين" [ ابن عطية ص 568]، وطبيعة الإجرام والعدوان اللإنساني الغاشم الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل نراه جلياً بكل قسوته وفظاعته في قوله تعالى: { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا(1/1575)
عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ التوبة:8 _10] .
2- الغايات التي يريدها الصهاينة،وأمريكا الداعمة لهم ، والغرب المتواطئ معهم معرفتها سهلة لظهورها في الواقع مصداقاً لقول الله تعالى: ? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ التوبة:32-33)
] ، فالغايات الكبرى هي مناوأة الإسلام، ومحاربة عقائده ومبادئه، ومن ثم استهداف معتنقيه وحملته بالقتل بصفة دائمة كما ورد في قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة:217].
3- سنة الكون لا تتبدل ولا تتغير فالتمكين في الأرض ممزوج ومسبوق بسنة الابتلاء ، قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: 214]
4- نهاية الصراع وعاقبة المواجهة والجهاد واضحة عند المسلمين، وهي دائرة بين اثنتين: (النصر أو الشهادة) وفي الأولى عز الدنيا، وفي الثانية فوز الآخرة { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ } [ التوبة:52]، والبيان التوضيحي لذلك نجده في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ) رواه البخاري.
ثانياً: مفاهيم المقاومة والانتصار:
1- إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 - 14]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه(1/1576)
فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ]، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد ؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
2- إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم وهم على بصيرة،فهم على يقين أن النصر من الله وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة: 249] { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران: 126]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها - التقدم لا التراجع وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء:104]، ويجددون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب:23 ].
3- إن المقاومة دليل حياة الشعوب، ومؤشر على كرامة وحرية الرافضين للاحتلال ، ولا يرضى بالذل ويستسلم للعدوان إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته، ،ولا بد من تثبيت معاني كرامة وعزة المسلم وأنه يجب أن لا يذل إلا لخالقه استجابة لنداء الحق جل وعلا: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران:139]، وحين يكثر الظلم وتتوالى الضربات والإهانات تضمر هذه المعاني ، وللأسف فإننا نجد أن وسائل الإعلام تسهم في تكريس ذلك من خلال تزييف معاني العزة والكرامة والاستهزاء بها، وبالتالي تنسى هذه المعاني مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، مما يستدعي التأكيد على ذلك سيما في مثل هذه الأزمنة التي مرت فيها الأمة الإسلامية بحالات من الضعف الشديد، ولعل من سبل مواجهة ذلك إبراز أثر المقاومة في العزة والاستعلاء الإيماني.
4- إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها رغم قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ(1/1577)
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقل أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل حكومات عربية لا هم لها سوى الحفاظ على كراسي حكمها، وبالتالي فإن اقل القليل هو دعم المقاومة الشعبية التي تنهك هذا العدو وتزلزل كيانه وتقلق راحته .
ثالثاً: مفاهيم المواجهة الحالية:
1- إن أساس المواجهات الحالية وأصلها يتمثل في الاحتلال، ووجود الصهاينة المحتلين على أرض فلسطين ولبنان هو السبب لكل ما يجري، ولذا يجب أن تتجه الأنظار إلى لب المشكلة لا إلى آثارها، ولا يغيب عن ذهن أي عاقل ما سبق هذه الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان من أعمال إجرامية مليئة بالغطرسة والعدوان من قتل وهدم وتجريف واعتقال وهو ما يعتبر سمة أساسية في هذا الكيان الغاصب، الذي يضرب عرض الحائط بكل القوانين والقرارات الدولية،فلا يصح بحال قطع ما يحصل الآن من قصف لفلسطين ولبنان عن تاريخ هذا الكيان المليء بالانتهاكات والعدوان والظلم الشنيع ، ومن ثم فإن كل فعل ضد هذا الإجرام الفظيع أقل درجاته أنه من باب الدفاع عن النفس، واسترداد الحق، ومعاقبة المجرم المعتدي، { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة:194 ]، { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشورى:39 ] .
2- ينبغي الانتباه إلى أنه - في هذه الأحداث الدامية العصيبة - يوجد عدو مشترك وهو العدو الصهيوني الذي استقوى بأمريكا وغيرها من قوى الاستكبار ، ومارس القتل والتشريد للمستضعفين من المسلمين بكافة أجناسهم وطوائفهم وهذا عدو للجميع، وينبغي التوحد في مواجهته ، حتى وإن اختلفنا في المذاهب والتوجهات، وإن كل ما يضر العدو الصهيوني ويؤذيه ويوقع فيه النكاية فالموقف منه التأييد بعض النظر عن مصدره ومعتقده أو مذهب فاعله، ولذلك أصل في أول سورة الروم { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [ الروم: 5].
3- إن المعارك والمواجهات الحالية إنما هي جزء من مرحلة طويلة في مضمار الصراع ، ولا زالت هناك مراحل مليئة بالمواجهات فلا ينبغي أن تختصر القضية في هذه الأحداث الجارية حالياً، ولا ينبغي أن نؤخذ بالأحداث الآنية فالأيام دول، { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا(1/1578)
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [ آل عمران: 140]، وفي يوم أحد : " قال أبو سفيان يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُسَاء ويوم نُسَر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) ، وإن الأحداث الراهنة - بما فيها من شدة و عسر - تكشف صدق الصادقين وزيف المدعين الذين وجدوا في ظاهر الأحداث فرصة للتشفي من أمتهم ومبادئها، وتأكيداً لخنوعهم ودعوتهم المخذلة للارتماء في أحضان الخصوم والأعداء { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران:179].
4- إن العقيدة الصهيونية قائمة على استغلال أي فرصة لضرب أي جهة تقاومها أو تفكر في مقاومتها مستقبلاً ، ويخطئ من يظن أن المقاومة في فلسطين لها قدرة على تجنب القتال لأنه مفروض عليهم بحكم النظرية العدوانية الصهيونية ومن خلال التفوق في القوة والآلة العسكرية التي تتظافر على وجوب إرغام الجميع لسيادتها سواء تحت تهديد القوة أو الاستسلام المسمى بأسماء السلام أو التطبيع .
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة:
1- إن موقف الدول الكبرى تراوح بين التأييد الظالم والسكوت المظلم، والمسارعة للضغط على الطرف المظلوم وتحميله المسئولية، ومطالبته بتنفيذ شروط المعتدي والرضوخ لإرادته دون قيد أو شرط، وإضفاء الشرعية على عدوانه وصبغه بالدفاع عن النفس ، وهذا هو موقف أمريكا المعلن، وموقف أوروبا المبطن، وموقفهم جميعاً - قبل الأحداث الأخيرة - كان متفقاً على محاربة الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومحاصرتها هي والشعب الفلسطيني بكامله رغم المأساة والمعاناة، وكل ذلك دليل على زيف دعاوى تحقيق الديموقراطية، وعدم مصداقية الحفاظ على حقوق الإنسان، واختلال ميزان العدل، وغياب المساواة، وترسيخ مبادئ الظلم والعدوان ، كما أنه دليل على أن تلك الدول تتبنى الإضرار بالعرب والمسلمين وتفرح بأذاهم وتساعد على ذلك وتؤيده ، بل إن أمريكا تمنع مجرد إدانة المعتدي وذلك من خلال استخدام حق النقض الفيتو الذي يمثل شريعة الغاب، ويلغي الحق والعدل بالقوة والهوى، { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [ البقرة:120]
2- تعودت الشعوب المضطهدة في فلسطين ولبنان وغيرها أن تسمع من الدول العربية كلمات الشجب والاستنكار التي لا تدفع ولا تنفع، وقبل هذه الأحداث كانت مجازر شاطئ غزة وجرائم وحشية يهودية متكررة، فضلاً عن وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم من النساء والأطفال وكل ذلك قابله السكوت المطبق طوال الأشهر السابقة في فلسطين ، وموقف الدول العربية من الأحداث الحالية يكشف عن ضعف وعجز وتخاذل وانكسار، وليت الأمر توقف عند هذا الحد على ما فيه من خزي وعار ومهانة، إلا أننا نرى بعض تلك الحكومات نزلت إلى درجة لم تكن متوقعة من(1/1579)
التخلي التام عن المقاومة المشروعة بل وإدانتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يتضمن إعطاء العدو الصهيوني مشروعية التدمير والعدوان ، وهذا ما تذكره وتستشهد به أمريكا، وأين هذه المواقف من قوله تعالى: { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الأنفال:72 ]،وهذا كله بخلاف ما عليه شعوب البلدان العربية والإسلامية التي تؤيد في معظمها المقاومة وتتلهف لمعاونتها والوقوف في صفها .
خامساً: الموقف من حزب الله:
1- إن اتخاذ المواقف - في مثل هذه الأحداث - يؤسس على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك يرجع إلى اجتهاد أهل الشأن حسب تقديرهم المستهدي بأصول الشريعة ومحكماتها، والمستند إلى معرفة وخبرة واقعية بمجريات الأحداث، وهو اجتهاد قد يعتريه الخطأ ويتغير بحسب ظروف الزمان والمكان .
2- لا يخفى على أي مطلع أن الحزب شيعي المذهب، وله ارتباطاته الواضحة بإيران، وصلاته المعروفة بسوريا،وذلك له أثره الواضح على توجهاته وأعماله، ولكن هذا ليس هو المقياس الوحيد في هذه المعركة التي نحن بصددها .
3- إن للحزب وحلفائه أهدافاً تخصهم وتصب في مصالحهم الذاتية، وأهدافاً يشتركون فيها - من خلال العمل الميداني على الأقل - مع المقاومة في فلسطين ومع مصالح بقية الأمة، وذلك في إلحاق الضرر بالعدو الصهيوني، وكل أذى ونكاية في هذا العدو مطلوبة ومرغوبة.
4- الوقت الحالي - مع استمرار هذا العدوان - ليس وقتاً مناسباً للمحاسبات المذهبية أو الطائفية بل هو وقت ينبغي فيه التركيز على العدو الأكبر الذي يهلك الحرث والنسل ويهدد البلاد والعباد .
5- إن النظرة الكلية للصراع تقتضي رد الجزئيات إلى الكليات وربط الفروع بالأصول والنظرة الشاملة هي المطلب الذي يساعد على صواب الرأي ووضع الأمور في نصابها من خلال رؤية خطورة وشمولية المعركة، والأطراف المشاركة والمؤيدة للعدوان، بحيث يكون التأييد أو التحفظ في إطار محدد ومتوازن، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.
6- إن العدوان الصهيوني الحالي في لبنان ليس وليد وقته وليس ردة فعل لحدث معين - كما يبدو للناظر لأول وهلة - بل إن الوقائع تدل على غير ذلك، حيث لا يمكن أن يكون تحديد الأهداف الكثيرة، والعمليات المتواصلة مع تحديد مدد ومطالب معينة، كل ذلك لا يُمكن إلا بتخطيط مسبق وإعداد مبيت، ومثل هذا تماماً يُقال في الأحداث الأخيرة في فلسطين بعد عملية (الوهم المتبدد) وما تلاها من عمليات عسكرية وخطف للوزراء والنواب، وهذا يتوافق مع إستراتيجية العدوان الصهيوني الذي يسعى إلى إنهاء كل قوة محتملة يمكن أن تشكل مقاومة له أو حجر عثرة في طريق مخططاته.
سادساً: المواقف والأعمال المطلوبة:(1/1580)
إنه لابد لنا إزاء هذه الأحداث أن نغير في مسيرة حياتنا فكراً وشعوراً وسلوكاً بما يلزم من الاستمساك بالدين والاعتصام بالكتاب والسنة وهذه بعض الخطوات المطلوبة :
1- تجديد التوبة، وصدق الالتجاء إلى الله، والاجتهاد في الاستقامة على شرع الله، واجتناب المعاصي والابتعاد عما حرم الله.
2- تحقيق الأخوة الإيمانية وتوكيد الرابطة الإسلامية بنصرة إخواننا المجاهدين في فلسطين ببذل المال وتقديم الإغاثة لهم بكل الوسائل والإمكانات المتاحة ومشاركتهم شعورياً وعاطفياً باستشعار مصابهم وآلامهم، علماً بأن إخواننا من أهل السنة في لبنان أصابهم بلاء كثير وحصل لهم تهجير كبير وهم موجودون في مزارع شبعا الحدودية وبعض قرى الجنوب و مدينتا صيدا وصور هما عمق سني لشمال لبنان.
3- التوعية بالحقائق الإيمانية والمبادئ الإسلامية في مواجهة الأعداء ومجابهة الخطوب وتوضيح المعاني الشرعية الصحيحة للمفاهيم الإسلامية المهمة كالجهاد والولاء والبراء، وتعزيزها في ضوء النصوص الشرعية والأحداث الواقعية وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع التحذير من التخذيل واختلاط المفاهيم .
4- التخفف من الدنيا وتجنب الركون إليها والبعد عن الاستكثار من المباحات والانشغال بالكماليات ، والاعتبار بما جرى لإخواننا من الدمار والعدوان، وتهيئة النفوس لحياة الجد والعزم، واستنهاض الهمم لعيش العزة والكرامة، وتحديث النفس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين وصد عدوان المعتدين .
5- العمل على إحياء المقاطعة الاقتصادية للبضائع والخدمات والمصالح التجارية للكيان الصهيوني وأمريكا الداعمة له، والتنبيه على أهمية ذلك وجدواه كسلاح من أسلحة المقاومة ضد العدو.
6- استحضار ضراوة المعركة وخطورة المؤامرة التي يجتمع فيها العدو الصهيوني، مع دعم مطلق من أمريكا، وتآزر مباشر وغير مباشر من بعض دول أوروبا، وأهمية إدراك استهداف مكامن القوة والعزة عند المسلمين، والعمل على تفريق صفهم وتفتيت وحدتهم والاستفراد بهم كلاً على حده على مستوى الدول والشعوب، وضرورة تفويت الفرصة على الأعداء بالوحدة والنصرة حتى لا يأتي يوم يقال فيه أكلت يوم أكل الثور الأبيض .
7- الابتهال إلى الله تعالى، والقنوت في الصلوات، والتضرع في الخلوات، وتحري أوقات الإجابة في جوف الليل والأسحار بأن يعز الله الإسلام والمسلمين ويحبط كيد الأعداء المجرمين .
8- قيام علماء الإسلام ودعاته ومفكريه بواجبهم في إيقاظ الأمة وتنبيهها للمخاطر، وتقوية عزيمتها، وحفظ إراداتها من أسباب الوهن والإحباط والاستسلام، وكشف طرائق ومخاطر الذين يسعون في جعلها تابعة ذليلة خانعة، ومن أوجب واجباتهم وضع التصورات والخطط وبرامج الأعمال التي(1/1581)
تستهدف نهضة الأمة ووحدتها ورفع معنوياتها وزيادة فاعليتها ورسم مستقبلها وحفظ حقوق أجيالها وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة في ذلك على الحكومات.
والله نسأل أن يلم شمل المسلمين ويوحد صفهم ويزيد قوتهم، وأن يدحر أعداءهم من اليهود وحلفائهم ، وأن يكتب العاقبة للمؤمنين، ويجعل الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : islameiat.com
ــــــــــ
فن استجلاب معية الله
طارق حسن السقا
المواهب والقدرات مع القوة والمهارات إضافة إلي الذكاء والخبرات أمور لا غنى عنها في حياة كل منا. وهي أمور لا غنى عنها لكل من يبحث عن التميز أو التفوق أو الكسب في دنيا الناس . ولكن : هل مواهبنا وقدراتنا ومهاراتنا وحدها تكفينا لكي نتميز أو نفوز أو نحقق ربحا كبيرا أو فوزا عريضا ؟
ولا شك أن هذه المواهب وهذه القدرات المميزة لكل منا , ما هي إلا نعم أنعم الله بها علينا . وكل من أراد منا التميز أو التفوق في هذه الحياة فعليه الاهتمام البالغ بهذه المنح الربانية . كما ويجب علينا التحديث الدائم لهذه المواهب وهذه القدرات . بل وعليه أن يسعى إلي تطويرها وتنميتها وتجديدها من حين لحين . فهي لا غنى عنها لكل من يسير في معترك هذه الحياة التي أصبحت لا تعترف بخامل أو كسول, ولا بمصر على السير سير الهوينى أو السير على أنغام المارشات الجنائزية .
إن الإنسان الايجابي في هذه الحياة هو ذلك الذي يملك موهبة أو مهارة أو حتى سمعة حسنة يشتهر بها في دنيا الناس . هو من يفعل هذه المواهب والقدرات في المحيط الذي يعيش فيه . ينفع بها ويصلح فيه . هو الذي له دور في هذه الحياة . وهو الذي يشارك في صنع الإحداث من حوله . هو من لا يكتفي بالوقوف متفرجا على هذه الأحداث وهي تمر أمامه . ولا بد من أن يعمل كل منا و يسعي ويجد- بل ويكد - في تطوير مواهبه وقدراته وإتقانها إلي الحد الذي تجعله يتخطى حدود الدائرة التي يعيش فيها . ليعمل مع العاملين على تغيير وجه التاريخ . فكما يقول الفيلسوف الفرنسي المشهور جان جاك روسو :
نحن في حاجة إلى المزيد من فئة صانعي الأحداث
لأنهم وحدهم دون غيرهم الذين يستطيعون إن يغيروا وجه التاريخ .
وكل من أراد أن يكون من هذه الفئة لابد أن يكون من أصحاب المواهب والقدرات والمهارات المتميزة .(1/1582)
وعند النزول إلى معترك الحياة والعمل يجب ألا نعتمد على مواهبنا ولا على قدراتنا اعتمادا كليا .كما و يجب ألا نركن إليها مهما تعاظمت أو تكاملت . بل يجب علينا أن نتعلم كيف نمزج هذه القدرات وهذه المواهب بمعية الله الواهب . يجب علي كل باحث عن التميز أن يتقن فن استجلاب معية الله له في كل أعماله . يجب على كل من أراد الكسب أو السبق أو الفوز أو النصر أن يتعلم كيف يستجلب تلك المعية الإلهية له في كل أعماله صغرت تلك الإعمال أو كبرت . فلا حول ولا طول ولا نصر ولا كسب ولا نجاح ولا فلاح إلا بالله العلي العظيم .
وكان هذا هو هدي رسولنا صلي الله عليه وسلم وديدنه في الأمور كلها . فكان صلي الله عليه وسلم يتقن هذا الآمر أيما إتقان . فكان إذا ما انتهي من مرحلة استغلال الإمكانات المتاحة أمامه و المواهب والقدرات المتوافرة تحت يديه , حتى يبدأ في مرحلة استجلاب معية الله .
ففي يوم بدر بذل المصطفى صلي الله عليه وسلم الوسع في الإعداد : فصف الجيش , وعبأ الجند ,ورسم الخطط ,و افترض الافتراضات , واحتمل الاحتمالات, حاور, وتشاور وغير وبدل . وما أن انتهى من الاستفادة من كل هذه الإمكانات والقدرات المتاحة حتى انتحى صلي الله عليه وسلم يناجي ربه في دعاء عميق , ومناجاة حارة , وإلحاح شديد يستجلب بها معية الله . ابتهل صلي الله عليه وسلم " وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه , فرده عليه الصديق - رضي الله عنه - وقال :
حسبك يا رسول الله , ألححت على ربك" .
يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك .
ولكن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان خير من يعلم انه إذا ما امتزجت معية الله القادر بمواهب العباد وقدراتهم - مهما كانت محدودة - فحتما سينتج عن ذلك مخرجات تفوق قدراتهم على استيعاب أثارها الايجابية اللامحدودة .
وقد كان جاء مدد السماء بطريقة فاقت عقول أهل الأرض وامتزج المدد الروحي بالمدد المادي . وجاء النصر وتحقق الفوز لفئة لم تتكل على قدراتها ولا على مواهبها دون الاتكال على الله . ولم تتكل على الله دون الاستفادة القصوى من قدراتها ومواهبها وخبراتها .( أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ; وأن تصبح دولة ; وأن يصبح لها قوة وسلطان 000 وأراد لها أن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة وليس بالمال والخيل والزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.) كما يقول صاحب الظلال .
إن مرحلة استجلاب معية الله هي الحلقة الأضعف في حياتنا . فكثيرا ما تنسينا القدرات والخبرات والمواهب الخاصة مرحلة استجلاب معية الله . كثيرا ما نعتمد على مواهبنا وننسي الواهب . كثيرا ما نعتمد على قدراتنا وننسى القادر . كثيرا ما نعتمد على قوتنا وننسى القوي . وهنا نخسر الكثير .(1/1583)
ففي يوم حنين بذل المسلمون الجهد في إعداد المدد المادي الهائل : العتاد , العدد ,العدة , الكثرة في عدد الجند حتى اكتمل الهيكل العام للجيش على صورته المبهرة . حتى دخل العجب لقلوب البعض فقالوا :
"لن نهزم اليوم من قلة " .
أنستهم القوة والعدة مرحلة استجلاب معية الله. أنساهم العدد والعتاد الاتكال علي الله . أنستهم قدراتهم البشرية استجلاب معية الله والاتكال عليه وحده لا على تلك الأسباب . لقد أتقن المسلمون يوم حنين مرحلة الإعداد ولم يتقنوا مرحلة الاستجلاب فكانت الانكسارة . كانت الانكسارة التي كان لابد منها لتعي الأمة أن مرحلة استجلاب معية الله من المراحل التي لا غنى عنها في حياة الأمم والإفراد والجماعات . كما وأنها سند كل إنسان في هذا الوجود مهما كانت قدراته ومواهبه .
و رسولنا صلي الله عليه وسلم وهو صاحب المواهب والقدرات التي لا تحصى ولا تعد إضافة إلى كونه المؤيد بالمعجزات , والمزود بالكاملات, والمحلى بالمدد الرباني كان دائما ما يردد : "
اللهم لا تكلني إلي نفسي طرفة عين ولا ادني من ذلك " .
فالخذلان أن يكلك الله إلي نفسك ويخلي بينك وبينها . والتوفيق ألا يكلك الله إلي نفسك ولا يخلي بينك وبينها . كما يقول ابن القيم رحمه الله .
وإذا كانت مرحلة استجلاب معية الله هي الحلقة الأضعف في حياتنا كما قلنا . فيجب على علماء الأمة ودعاتها وأهل الخير فيها أن يسعوا جميعا - كل في مجاله - إلي معالجة هذا الداء وتضميده وترميمه عند أبناء المسلمين . وليبذل كل غيور من أبناء هذه الأمة الجهد إلى أن تبصير الأمة بكيفية إتقان فن استجلاب معية الله حتي لا نندم . حتي لا نندم على أمر عظيم كندم يوم حنين . ولا على أمر صغير كندم جحا الذي قرر ذات يوم شراء حمار. واخذ يخبر كل من يقابله عن نيته في الذهاب إلي السوق غدا في الصباح الباكر لشراء حمار . فنصحه احدهم: بان يا جحا قل إن شاء الله . قل إن شاء الله غدا سأشتري حمارا . فرد عليه جحا بثقة الواثق من قدراته والمعتمد على مواهبه :
ولماذا أقول إن شاء الله ؟!
دنانيري في جيبي وما أكثر الحمير في الأسواق .
وفي اليوم التالي ذهب جحا وعاد من السوق مطأطئ الرأس , خالي الوفاض بدون حمار. فسألوه :
أين حمارك يا جحا ؟
فقال : إن شاء الله سرقت كل دنانيري .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com
ــــــــــ(1/1584)
فلنعد قبل أن تأتينا الطامات وتحل علينا العقوبات!
وليكن شعارنا عودة ودعوة
كنا نتكلم قبل فترة وجيزة عن مآسي ومذابح إخواننا العديدة الرهيبة, والتي وقفت أمة المليار مسلم عاجزة عن إيقاف ما يحدث لهم!!!...,ونادى المصلحون بضرورة عودة الأمة عودة جادة كاملة إلى دينها لأنها هي الحل الأساس الذي يعيد للأمة عزها ومجدها وقوتها وفقا للسنة الربانية المقتضية أن نصر الله لنا مرتبط بتمسكنا بأوامر الله والتزامنا بشرعه, وعندها ستكون الأمة في موقف القوة والعزة والتمكين, وسيظهر وقتها الجهاد القوي الهادر من أمة نصرت ربها بالتزامها بأوامره فيتحقق لها النصر وتوقف هذه المذابح والمآسي المتكررة على أبناء أمتنا . بل وبها يحمي المسلمون الذين لم يصلهم بعد بطش الأعداء أنفسهم!! من شرور الأعداء وكيدهم, فعندما تستعيد الأمة هيبتها لا يتجرأ أعداؤها عليها.
قال عز من قائل ( إن تنصروا الله ينصركم ) الآية (محمد-7)
وقال سبحانه ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )الآية (الرعد-11) .
والآن.... بعد أن قربت منا الأخطار واتضحت بشكل أكبر أمام أعيننا وظهر شر الأعداء وتحاملهم وتحالفهم وكيدهم, وظهر بوضوح أكبر شدة ضعف الأمة وهوانها وضياعها فإن الحاجة للعودة إلى الله والاستيقاظ من غفلتنا أصبحت أكبر وأكبر..
قال صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها, قالوا قلنا يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) الحديث (صححه الألباني) .
ولا يليق بنا كمسلمين مؤمنين بكلام ربنا العظيم أن نتغافل ونتعامى وننسى كيد الأعداء الكبير للمسلمين وخطرهم علينا وعدم رضاهم عنا. وليتنا نقرأ بتمعن تفسير العديد من الآيات القرآنية المتحدثة عن ذلك ومنها قوله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) (التوبة-10) .
وأعداء الإسلام اليوم متمكنون ومتجهزون ونحن في ضعف شديد ولا مقارنة بيننا وبينهم فيما يملكونه من قوة وعتاد , ولو أرادوا ذبحنا كما ذبحوا إخوة لنا قريبا فالأمر متاح لهم - إلا أن يمنعهم الله- ومن سيحمينا في وقتنا الحاضر..!! .
وسواء فعلوا ما يبيتونه للمسلمين الآن أو فيما بعد فإن الشاهد هو أن الأخطار تتزايد وتتعاظم. وتقترب منا أكثر وأكثر.......(1/1585)
فإلى متى الرقاد والنوم يا أبناء الإسلام عما يحاك لكم..!!, وإلى متى تستمر غفلتنا ويستمر لهونا وسط ألمنا.. !!, وإلى متى يستمر ابتعادنا عن طريق نصرنا..!! الذي لا شك أنه السبيل الوحيد لانقاذنا وحمايتنا من المخاطر.
إلى متى ونحن نرى المعاصي ظاهرة في كل مكان في مجتمعاتنا..!! في المنازل والشوارع, في الأسواق, في الجرائد والمجلات, في الشاشات والإذاعات, في المؤسسات ,في المعاملات, في القوانين وفي ...وفي ...وفي.... بل قل في شتى إن لم يكن في كل جوانب حياتنا.
ألم ندرك بعد ونتيقن أن ذلك هو أساس ذلنا وضغفنا وهواننا !.
إلى متى ونحن نبارز جبار السماوات والأرض بالمعاصي..!! أما نخاف ونخشى ..!! أما نخاف ونخشى من وعيده وعقابه ...!!
أما آن أن نصحو...!!, أما آن أن نصحو...!!, أم أننا لن نصحو إلا عندما تأتي علينا الطامات والعقوبات التي بدأت نذرها تلوح في السماء ونكون وقتها استحققناها بإعراضنا وقسوة قلوبنا.....
قال تعالى ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون . فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وهم لا يشعرون )( الأنعام43-44).
وإن على الذين يستهينون بالمنكرات والأوامر الشرعية صغيرة كانت أو كبيرة وسط هذا الواقع المؤلم الخطير الذي تعيشه الأمة أن ينتبهوا إلى أن تقصيرهم لا يعود بالضرر على أنفسهم هم فقط ,بل يعود على الأمة بأكملها, فيكونوا من أسباب انهزامها وتأخر نصرها وبعد فرجها من كربها العظيم الذي تعيشه !!.... وأجزم أنهم لحبهم لدينهم وأمتهم لا يرضون ذلك ولكن هل بدؤوا بالعمل والتغيير!!؟.
ومن المؤلم أنه وعلى الرغم من الأحداث الأخيرة الخطيرة التي نعيشها فإن الكثير من المسلمين أفرادا ومجتمعات لا زالوا في بعد عن التطبيق الحقيقي الكامل لأحكام الشرع . والإصرار على المعاصي والمجاهرة بها لا زال قائما وواضحا...
قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) (سورة الأنفال-27).
وإن على كل مقصر في أمتنا سواء قصر في تطبيق أوامر الشرع والتزامه بدينه, أو قصر في الدعوة إلى الله والجد فيها أن يخجل ويخاف من كونه سبباً في تأخر نصر الأمة وبالتالي يكون من أسباب استمرار استئساد أعداء الدين على إخواننا وعلينا واستمرار تعرضهم وتعرضنا لشتى أشكال البلايا والنكايات.
وعليه وعلى كل مسلم أن يتذكر ذلك الموقف العظيم, يوم يقف أمام الله ويكلمه سبحانه كما ورد في الحديث الصحيح.......فماذا سيجيب إذا سئل عن ما قام به تجاه الواجبات الكثيرة الكبيرة المتعلقة(1/1586)
بواقع أمته المؤلم, وهل نصرها بقوة أم كان سببا في هزيمتها وذلها. خاصة أن إيذاء المسلمين وقتلهم من أعظم الأمور التي تغضب الجبار سبحانه, ونحن من أسباب استمرار ذلك بتقصيرنا.
وطريق النصر وقت المخاطر يستلزم صحوة سريعة قوية يبدأ بها كل فرد في الأمة بأن يعمل على تغيير نفسه ثم يهب مباشرة مسارعا للواجب الكبير الذي نسيه أكثر المسلمين الآن وكأنه ليس واجبا عليهم ألا هو واجب الدعوة إلى الله وإصلاح الغير ( عودة ودعوة ) ...
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) الآية(الأنفال-24)
وقال تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ( آل عمران-104).
ومن هنا أبعث نداء حارا أرسله إلى كل مسلم في أرجاء الأرض خاصة الدعاة والمفكرين والكتاب والشعراء بأن يركزوا على تبيين طريق النصر لأمتنا بخطابات قوية مؤثرة, دقيقة مفصلة, تصف الداء والدواء, علَّ أمتنا تصحو من غفلتها وتنتبه للداء الأساسي الذي أصابها ونتجت عنه كل الأعراض والأمراض والبلايا الأخرى , وعلَّها تلتفت لمسؤولياتها وتبدأ العمل.
وتبيين كيد الأعداء مهم , والحديث عن آلامنا مهم, ولكن الأهم هو إيضاح طريق النجاة والخلاص والنصر ,.... والسعي لتحقيقه.
وليت أمتنا تحمل بقلوبها وُتذكِّر بألسنتها وتطبق بأعمالها هذا الشعار العظيم الذي يرمز للطريق الحقيقي للخلاص والنصر لأمتنا... (عودة ودعوة) ...أي عودة إلى الله ودعوة إلى سبيله.
قال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) (النور-55)
وقال سبحانه ووعده الحق (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين) (الأنبياء 105-106).
ما أروع هذه الكلمات عن العودة الى الله للكاتب:نور اليقين (هذا من التفعيل الذي نحتاجه)
(ان مثل هذه القضايا لن يحييها القاء من خطيب ولا موعظة من داعيه بقدر ما سيحييها اثارة الموضوع للنقاش في كل مجلس واشباعه بالنقاش حتى يصبح الهم نابع من نفوس بدل نفس ومن قلوب بدل قلب ..
ان ما نريده ان يصبح هم الامه وهم رجوعها الى الله متأصل في كل نفس.. الفاجر قبل التقي والصغير قبل الكبير..
وهي دعوة مني في نهاية مقالي هذا الى ان يطرح الموضوع ولو لثوان في كل مجلس وسنرى ان الجميع سيتكلم بلا حدود مما يثير فطرته الى الرجوع الى الله عز وجل .....)(1/1587)
ملاحظة أرجو الإنتباه لها:
العودة لاتعني عدم الأخذ بالأسباب المادية..... بل هو جزء منها ؛
* أرجو ألا يفهم العديد من الاخوة اننا عندما نذكر بالعودة والدعوة بأن ذلك يعني اننا لا ننادي بأهمية الأخذ بأسباب القوة المادية ؛ وهل يعني كلام وتذكير انسان بموضوع نظرا لأهمبته وأولويته في جانب معين انه ألغى ونفى أهمية المواضيع الأخرى ,
ثم أيها الأحباب ان مفهوم العودة يشمل جانب العودة لكل ما أمر به الدين من أوامره ومنها الأخذ بأسباب العز المادية لأمتنا والإستعداد ماديا للأعداء ,
* ثم الأهم والأهم اننا حتى لو تقدمنا ماديا بدون تمسك بأوامر بديننا فإننا لن ننتصر ولن نتقدم التقدم الحقيقي المبارك لأننا مسلمين فذنوبنا تؤخر نصرنا وتقدمنا واما الكافرين فقد ينصرون وهم على كامل كفرهم عندما يتمكنون من المسلمين بحبل من المسلمين أنفسهم عندما يتركون اوامر ربهم وتعاليم دينهم,
وعلينا الا ننسى ان صدقنا مع الله يبارك في جهودنا المادية.
*- أعود واذكر وؤأكد لكل احبابنا الغيورين ولكل مسلم يؤرقه واقع أمته بأننا لن ننتصر لن ننتصر لن ننتصر إنتصارا حقيقيا شافيا لآلامنا ولو عملنا ما عملنا ولو عملنا ما عملنا من وسائل ضد أعدائنا اذا لم إذا لم يصاحب ذلك تقوى لله والتزام بأوامره. لأن ذنوبنا هي التي ستهزمنا.
حتى موضوع وحدة المسلمين التي يكثر الحديث عنها كثيرا فإنها وان حصلت !! فلن ننتصر فلن ننتصر طالما ان الأمة لم تحترم أوامر ربها وتصر على المعاصي وتجاهر بها في مجتمعاتها سواء كانت صغيرة او كبيرة.
تعصون ربي جهارا ----- فكيف ترجون نصرا
*- من كان يظن أن الأمة ليست في لهو وبعد ورقص على جراحنا---مع اقرارنا الواثق بالخير في السواد الأعظم من المسلمين وحبهم وغيرتهم على دينهم--- فليتذكر فقط وعلى الأقل ما يعرض في القنوات,
وليتذكر أن السواد الأعظم من المسلمين هم ممن يشاهدون هذه القنوات بما فيها من الطامات ,
وأصبح النظر الى النساء المتبرجات(مذيعات كن أو ممثلات) بإستمرار وإصرار أمرا عاديا وكانه ليس منكراً يغضب رب السماوات, وأصبح الكثير من الأمور التي لا شك في حرمتها وقباحتها وإفسادها لمجتمعاتنا وإغضابها لمالك الكون العظيم.... تعرض وترى في بيوت الكثير من المسلمين.
د مهدي قاضي
ــــــــــ
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا !!(1/1588)
محمد حسن يوسف
سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عيه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن. [ صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 4811 ]. قال المناوي في فيض القدير: أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى ع! نه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.
وروى مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي. قال: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين. ] صحيح مسلم، 817(269) [. قال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: ( قال عمر ): تقريرا لاستحقاقه الاستخلاف. وقوله ( بهذا الكتاب ): أي بقراءته، أي بالعمل به. وقوله ( أقواما ): أي: منهم مولاك. ( ويضع به ): أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه.
وهكذا كان توقير الرعيل الأول لكتاب ربهم في صدورهم. وكان السلف ينشئون أطفالهم على حفظ القرآن، ثم يحفظونهم الكتب الستة ( أي صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه ). وبعد أن يتمون ذلك يقومون بتحفيظهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم. وبذلك يشب الطفل المسلم على وعي بكتاب ربه وسنة نبيه صلوات ربي وسلامه عليه. وهكذا حقق الإسلام تقدمه وتفرده، وازدهرت حضارة الإسلام على جميع الحضارات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وتفوقت عليها؛ وذلك بحفظ كتابها والعمل بمقتضاه.
ثم خلف من بعد ذلك خلف أضاعوا هذه القيم، ولم يهتموا بكتاب ربهم. هان الله في نفوسهم، فأهانهم الله بما اقترفوه من ذنوب. وقد ضرب لنا القرآن المثل على الأمة التي تضيع العمل بكتابها، فقال تعالى مخبرا عن بني إسرائيل، والخطاب للتذكرة والتحذير: ? فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اْلأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ َلا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إَِّلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ اْلآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفََلا تَعْقِلُونَ ? ] الأعراف: 169 [. قال الشيخ أبو بكر الجزائري في تفسيره لهذه الآية: يحكي الله تعالى عن اليهود أنه قد خلفهم خلف سوء، ورثوا التوراة عن أسلافهم، ولم يلتزموا بما أُخذ عليهم فيها من عهود، على الرغم من قراءتهم لها. فقد آثروا الدنيا على الآخرة، فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدّعون أنهم سيغفر لهم. وكلما أتاهم مال حرام أخذوه، ومنوا أنفسهم بالمغفرة(1/1589)
كذبا على الله تعالى. وقد قرأوا في كتابهم ألا يقولوا على الله إلا الحق وفهموه، ومع ! هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم.
وقال القرطبي في تفسيره: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. فقد روى الدارمي في سننه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيتهافت, يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة, يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب, أعمالهم طمع لا يخالطه خوف, إن قصروا قالوا سنبلغ, وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا, إنا لا نشرك بالله شيئا.
واستمر خط الابتعاد عن كتاب الله يمضي قدما، بطيئا وبشكل يخفى عن العامة في أول الأمر، ثم بخطى متسارعة وبصورة سافرة بعد ذلك. فبعد أن كانت الأمة مجمعة الكلمة على العمل بكتاب ربها، وتستمد تشريعاتها من أحكامه، بدأت في التخلي عنه شيئا فشيئا، فعاقبها الله بأن سلبه من يدها، إلى أن أصبحت لا تعمل به. وبالطبع كان هناك دورا رئيسيا لأعداء الأمة في الوصول إلى هذه الحالة التي أصبحنا عليها.
فقد جاء الاحتلال الفرنسي فتعامل بقسوة مع الأمة، وحاول إجبار الأمة على التخلي عن تعاليم الدين بالحديد والنار. وبسبب إتباع هذا المنهج السافر، فلم تزدد الأمة إلا تمسكا بدينها وبتعاليم كتاب ربها. ورغم أنه لم يكن قد بقي من الإسلام إلا طلاسم وذكريات إلا أن الأمة وقفت صفا واحدا في وجه من حاولوا تشويه صورة دستورها. ولذلك تعامل الإنجليز الذين أعقبوا الفرنسيين بصورة أكثر دهاء ومكرا ولكن بنفس المنطق والحزم في زحزحة الأمة عن دينها.
فيقف جلادستون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق في مجلس العموم البريطاني يحث قومه على زعزعة الأمة عن دينها فيقول: " مادام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة علي الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ". ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر: " إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم ".
ويسير المنصرون الذين رافقوا هذه الحملات على نفس الخط. فيقول المنصر وليم جيفورد بالكراف، في كتاب جذور البلاء: " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداُ عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتابه ". ويقول المنصر تاكلي، في كتاب التبشير والاستعمار: " يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تماماً. يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداُ، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً ". ويقول المنصر ذاته " تاكلي "، في كتاب الغارة على العالم الإسلامي: " يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين(1/1590)
قد تزعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية ".
واستدعى ذلك الأمر العمل على عدة محاور وفي نفس الوقت. فتم إلغاء الكتاتيب والحد من تأثيرها وإضعاف مكانتها في النفوس. وبالطبع لا يختلف أحد في أن الكتاتيب كان قد أصابها شيء من القصور، ولكن كان يجب العمل على علاج تلك الأخطاء الناجمة والتي تراكمت عبر الزمن وليس إلغائها تماما. وتزامن هذا مع الإبقاء على الأزهر - كمؤسسة دينية - قائما مع إضعاف مكانته وزعزعة ثقة الناس فيه بإنشاء المدارس الأجنبية اللادينية إلى جانبه، والمسارعة إلى تعيين خريجي هذه المدارس في مختلف الوظائف المرموقة وبأجور مرتفعة للغاية، مع عدم توفير فرص عمل لخريجي الأزهر ( وبالأخص حملة القرآن منهم )، وإن وجدت فهي ضعيفة الأجر.
وهكذا بدأت النظرة إلى القرآن واللغة العربية تتغير في نفوس الناس! ومع رثاثة حال حملة القرآن وخريجي المدارس الدينية، ووجاهة خريجي المدارس اللادينية، بدأت هذه النظرة الجديدة تتغلغل في النفوس، ليتجه المجتمع بأكمله نحو هجران القرآن!! ولم يعد فخرا للأسر أن ترتبط بمن يحمل مؤهل ديني، لضعف منزلته الاجتماعية في المجتمع. مع ما تركه هذا من آثار عميقة في نفوس هؤلاء الأفراد، الذين شعروا أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب اتجاههم للدين، فكان أن مقتوه في داخل نفوسهم، وسعوا بكل الطرق إلى عدم تكرار تجاربهم. وصار طموح أي فرد في المجتمع أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو ضابطا. ولم تعد تجد من يحلم أو تحلم له أسرته بأن يكون " عالم دين " أو " دارس فقه " أو حامل للقرآن ". وتواكب مع هذا صناعة نجوم في المجتمع يشار إليها بالبنان تبتعد تماما عن الإسلام وقيمه. وغُيبت عن عمد نماذج رجال الدين أو رموزنا الدينية من صفحات ! الجرائد أو المجلات أو وسائل الإعلام الأخرى حتى يستقر هذا الاتجاه في النفوس.
وبدأ المخطط بتحويل كتاب الله من قوة حاكمة دافعة للمجتمع إلى مجرد كتاب يحمل ذكريات. تُغير عليه قوى الشر ولا يتحرك المسلمون للدفاع عنه. وتنتشر من حوله الخرافات. وهكذا يصبح القرآن الذي هو حياة الأمة، رمزا للموت فيها، فلا يقرأ إلا في سرادقات العزاء، ولا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
وصدق فيهم قول ربي عز وجل: ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ? ] الفرقان: 30 [. قال ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد ": وهجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به. والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته(1/1591)
لفظية لا تحصل العلم. والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به ... وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وجميع هذه الأنواع من هجر القرآن واقعة بيننا ومتفشية فينا الآن. ومن صور هذا الهجران ما يلي:
- عدم قراءته. فمن منا يقرأ القرآن يوميا؟! إن القرآن مقسم إلى ثلاثين جزء، ومتوسط كل جزء عشرون صفحة. فهل من الصعب قراءة عشرين صفحة يوميا؟ إنه أمر لا يستغرق منك سوى نصف ساعة. إن قراءة الصحف اليومية تستغرق من المرء أكثر من ساعة يوميا، فهل قراءة تلك الصحف أهم من قراءة القرآن؟!!
- وسماع القرآن ... لقد استبدلناه بسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام والتمثيليات ومتابعة المباريات.
- وأخلاقنا الآن في وادٍ وما ينادي به القرآن من التحلي بقويم الأخلاق في وادٍ آخر.
- ونعرف حلاله وحرامه ولا نقف عندهما، بل نتفاخر بالتملص منهما، ونصم من يلتزم بهما بالسذاجة وقلة الخبرة.
- وتعلمنا كيف نجادل لا لإثبات تعاليم ربنا ولكن لكي نتفلت منها، ونعمل بغيرها. ظننا أن التقدم الخادع الذي أحدثته الأمم من حولنا إنما مرجعه للتخلي عن الدين، فلما تخلينا عن ديننا انحرفنا وزغنا عن طريق التمكين.
- التخلي عن التحاكم إليه في حياتنا وفي معاملاتنا.
- تركنا فهم معانيه ومن ثم تدبر آياته، وأصبح معظم ما نعرفه عنه عكس المراد به.
- تركنا تعلم لغته ولجأنا إلى لغات المستعمر، وأصبح تجنب الحديث باللغة العربية والرطانة بهذه اللغات مصدر فخر وإعزاز بيننا.
- تركنا التداوي به ولجأنا إلى الاعتماد على الأسباب المادية فقط.
إني لأعجب من أمة تهجر كتاب ربها وتُعرض عن سنة نبيها، ثم بعد ذلك تتوقع أن ينصرها ربها؟ إن هذا مخالف لسنن الله في الأرض. إن التمكين الذي وعد به الله، والذي تحقق من قبل لهذه الأمة، كان بفضل التمسك بكتاب الله عز وجل، الدستور الرباني الذي فيه النجاة مما أصابنا الآن. إن الذين يحلمون بنزول النصر من الله لمجرد أننا مسلمون لواهمين. ذلك أن تحقق النصر له شروط. قال تعالى: ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي اْلأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُ! دُونَنِي َلا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ? ] النور: 55 [. كما أن ما بعد النصر له شروط. قال الله تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَو! ْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا(1/1592)
عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ اْلأُمُورِ ? ] الحج: 41 [. فعودوا إلى كتاب ربكم تنالوا نصره في الدنيا وتدخلوا جنته في الآخرة.
27 من صفر عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 17 ابريل عام 2004 ).
ــــــــــ
بين المقاومة والمهادنة
د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
إن العدوان على المقومات الأساسية للأمة « الدين، اللغة، التاريخ » أشد وأعظم من نهب ثروتها واحتلال أرضها، لأن المال يسترد، والأرض تستعاد، لكن العدوان على الدين و اللغة والتاريخ، أخطر وأفظع لأنه يأتي البناء من قواعده، ويمسخ هوية الأمة ، ويلغي ذاكرتها، وينسخ ثقافتها، فالمقاومة للحفاظ على المقومات هي مقاومة للحفاظ على العراقة والأصالة التي تعد أساسية للأمة، وهي تجديد وتقوية للعزة والكرامة التي هي صبغة الأمة ومزيتها.
وتتأكد المقاومة إذا كان العدوان شاملاً أي حسياً ومعنوياً، وبالتالي ينبغي أن تستنفر المقاومة كل القوى، وتستنفد كل الإمكانات، للحفاظ على المقومات والمقدسات ولا يدخر لتحقيق ذلك مال ولا جهد بل تبذل لأجله الأرواح، وهذا من الناحية الإنسانية مقرر ومسلَّمٌ به، فضلاً عن النهج الإسلامي والمبدأ الإيماني.
وإذا خصصنا الحديث عن مقاومة المحتل الذي يسلب الأرض وينتهك العرض ويسفك الدم، وهو محارب للدين، ومدنِّسٌ للمقدسات فالأمر أشد وضوحاً في أهمية المقاومة، وإذا وضحنا التخصيص وجعلنا الحديث عن مقاومة الصهاينة اليهود الذين احتلوا بلاد المسلمين فالأمر أظهر واظهر، وإليك بعض التفصيل بعد الإجمال:
1- مشروعية المقاومة:
إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع ، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة:12 - 14 ]، وفي سنة سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه(1/1593)
فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ] ، فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد؟
وينبغي التنبيه أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال:كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال: ( كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) رواه النسائي.
2- موازين المقاومة:
إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم وهم على بصيرة،فهم على يقين أن النصر من الله وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة: 249 ] { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ آل عمران: 126 ]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها- التقدم لا التراجع وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء:104]، ويجددون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [ الأحزاب:23 ] .
3- تاريخ المقاومة:
إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها رغم قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقل أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب(1/1594)
أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل أوضاع الاستسلام والسلام والتطبيع التي لا تخفى على أحد.
4- نموذج المقاومة:
المقاومة الجهادية في فلسطين هي النموذج الأظهر لأصالة المقاومة وبسالتها، ولقد تحملت المقاومة الفلسطينية أشد وأبشع صور العدوان الصهيوني الغاشم خلال عدة عقود، وقدمت التضحيات الكبيرة، ولكنها مع ذلك _ وخلال الانتفاضات المتعاقبة _ ألحقت بالعدو الصهيوني أضراراً جسيمة في الأرواح والممتلكات، وأضرت باقتصاده وسياحته، وأقلقت أمنه واستقراره، وهي صاحبة الدور الأبرز في مواجهة اليهود الصهاينة ومن ثم ينبغي إعطاءها حقها من الإشادة بها، وتسليط الأضواء الإعلامية عليها بما يتناسب مع خطورة وأهمية دورها، وبما يبرز منجزاتها وبطولاتها- بأكثر بكثير مما هو واقع الآن - حتى تستطيع مواصلة مسيرتها والقدرة على زيادة فعاليتها.
5- جهادية المقاومة:
المقاومة التي نتحدث عنها للعدو الغاصب هي أحد نوعي الجهاد في الإسلام وهو جهاد الدفع، وهو النوع الذي لا خلاف في حكمه ووجوبه عند علماء المسلمين فالجصاص من الحنفية يقول:"ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذررايهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذرا ريهم" [ أحكام القرآن للجصاص 3/114] ، والقرطبي من المالكية يقول: "إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً شباباً وشيوخاً كل على قدر طاقتهن من كان له أب بغير إذنه .. ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعته، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم" [ تفسير القرطبي 1/1422] ، ومن الشافعية يقول النووي: " الضرب الثاني: الجهاد الذي هو فرض عين، فإذا وطئ الكفار بلدة للمسلمين، أو أطلوا عليها، ونزلوا بها قاصدين، ولو لم يدخلوا صار الجهاد فرض عين"( الروضة10/214)، ويقول ابن قدامة الحنبلي:"ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: .. الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم" [ المغني 9/179]، وكلام الفقهاء في ذلك كثير مشهور.
6- شبهات وردود:(1/1595)
تكلّم بعض الساسة، وكتب بعض الإعلاميين نقداً للمقاومة باعتبارها تعرّض البلاد والعباد للخطر والضرر، وانضم للركب بعض أهل العلم فرأى أن عدم التكافؤ في القوة مسقط للمقاومة وموجب للمهادنة وكان الاستشهاد بآيات الأنفال التي فيها ذكر العدد المكافئ للمسلمين من أعدائهم، ومن هنا أقول: ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال:65-66 ]، لا يصلح للاستدلال على منع جهاد ومقاومة العدو المحتل بحجة أن عدد المجاهدين المقاومين أقل من نصف عدد الأعداء، وذلك لأمرين أساسيين :
الأول: وهو الأكثر أهمية، وهو أن النص عن عموم المسلمين وليس عن المسلمين في بلد بعينه، أي يكون عموم المسلمين أقل من عدوهم، وقد مر بنا حكم وجوب الجهاد إذا نزل العدو بلاد المسلمين ووجوب نصرة المسلمين لإخوانهم الأقرب فالأقرب، وإذا نزَّلْنَا الأمر على الواقع فالمسلمون في فلسطين وما جاورها أكثر عدداً من عدوهم، وعندهم من أسباب وأدوات القتال ما لا يصح معه أن يُقال إنه لا يجوز لهم القتال، وهذا أمر مهم فليس الأمر يخص أهل بلد ولا هو متعلق بمجرد ما يقع بالعدوان من القتل والإتلاف بل هو حكم شرعي، فلو رضي أهل فلسطين – على سبيل المثال – بالاحتلال وامتنعوا عن مقاومته فلا يتغير الحكم بوجوب الجهاد لاستخلاص ديار المسلمين ومقدساتهم من العدو الغاصب، وما جد البوم من تسمية الدول وحدودها فضلاً عن أوضاع المعاهدات والاتفاقات بين بعض الدول وأعداء الإسلام من اليهود لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً.
الثاني: أنه ورد في كلام المفسرين معان أخرى جديرة بالاعتبار ولها قوة في الاستدلال ، فقد روى الطبري في تفسير الآية عن ابن عباس رواية يقول فيها:" فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [سورة البقرة: 207]، وقال الله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [سورة النساء: 84]، فهو التحريض الذي أنزل الله عليهم في الأنفال، فلا تعجزن، قاتلْ، قد سقطت بين ظهري أناس كما شاء الله أن يكونوا"(تفسير الطبري 14/54،53).وغاية ما نُقل في ذلك هو أن المسلمين إذا كانوا أقل من النصف من عدوهم لم يجب عليهم القتال، وعدم وجوبه لا يعني حرمته، فقد روى الطبري عن ابن عباس قوله:" وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا(1/1596)
منهم ,عن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يُقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم" [ تفسير الطبري 8/52 ].
وقد مال الرازي إلى ترجيح القول بعدم النسخ فقال:" والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله { الآن خفف الله عنكم} ناسخ للآية المتقدمة، , وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ،وتقرير قوله أن يقال : إنه تعالى قال في الآية الأولى : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين ، وقوله : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء ، فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص ، وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة ، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم ، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة .
فإن قالوا : قوله : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } معناه : ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين ، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم .
قلنا : لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين ، فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر ، أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره ، وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ... "وختم بقول:" إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليهن فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول: قول أبي مسلم صحيح حسن " [ تفسير الرازي 8/202،201 ] .
كما أن الرازي لفت النظر إلى المعاني والحقائق الإيمانية التي تحرر المسلم من الرضوخ لضغط الواقع عند ضعف إيمانه فقال رحمه الله: "واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى : { حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه".
وفي علة نصر المؤمنين على الكافرين بأنهم لا يفقهون قال قولاً نفيساً جاء فيه:" أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة، وهو قوله: { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } وتقرير هذا الكلام من وجوه :
الوجه الأول : أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد ، فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية . ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال ، أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً ، فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول .(1/1597)
الوجه الثاني : أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم ، والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى " [ تفسير الرازي 8/199].
د. علي عمر بادحدح
إمام وخطيب جامع سعيد بن جبير
والمشرف العام لموقع إسلاميات
http://islameiat.com/main/
ــــــــــ
الهزيمة في معركة أحد
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
-----------------------
ماجد بن عبد الرحمن الفريان
الرياض
سليمان بن مقيرن
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- وصف بعض ما أصاب المسلمين يوم أحد. 2- شؤم المعصية وأثرها في الهزيمة. 3- نصر الله لا يتخلف لمن يستحقه. 4- أهمية العمل الصالح في الإعداد. 5- مقارنة ما حل بالمسلمين اليوم في أفغانستان مع ظروف غزوة أحد. 6- الفائزون هم المجاهدون.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: اتقو الله حق التقوى.
معاشر المسلمين، لقد كانت أمتكم هذه قبل ألف وأربعمائة سنة في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها الله بالابتلاء بالشدة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالرخاء في معركة بدر.
وابتلاها بالهزيمة المريرة في معركة أحد بعد أن ابتلاها بالنصر العجيب في معركة بدر.
لقد أصاب المسلمين القرحُ في معركة أحد وأصابهم القتل والهزيمة.(1/1598)
أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير، قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب، وفر من فر من المسلمين، وأصيب النبي بغم عظيم أسفاً على فرار بعض أصحابه، وأصاب المسلمين غمٌ ملأ نفوسهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه، وهو ثابت دونهم، وهم عنه فارون.
وسمع النبي لأهل المدينة نحيباً وبكاء على قتلاهم، فقال: ((ولكن حمزة لا بواكي له)) وحزن النبي على أصحابه، وتمنى أن يكون استشهد معهم وقال: ((أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي نحص الجبل أي في سفحه)) رواه أحمد بسند حسن.
وكانت صورة المقاتلين الشجعان تمر بمخيلته كثيراً فيثني عليهم، ولما أعطى علي سيفه لفاطمة رضي الله عنها قائلاً: (هاك السيف فإنها قد شفتني) قال رسول الله : ((لئن كنت أجدت الضرب بسيفك فلقد أجاد سحل بن حنيف وأبو دجانة وثابت بن عاصم الأقلح، والحارث بن الصمة)) أخرجه الحاكم.
بل لقد بقي النبي يتذكر قتلى أحد ويحن إليهم طيلة عمره، فعن عقبة بن عامر قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: ((إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا)) قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه البخاري ومسلم.
وعند ابن أبي شيبة قال: (خرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم).
معاشر المسلمين، لقد كانت آثار معركة أحد عظيمة على النبي حتى كان يتذكرها ويتذكر رجالها طيلة عمره، بل وفي آخر أيام حياته.
وكانت الآثار أبلغ ما تكون على صحابته الكرام الذين اهتزت نفوسهم وصدمت قلوبهم لهذا الحدث العظيم الذي لم يكن متوقعاً بعد النصر العجيب في معركة بدر، حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم (أنَّى هذا) وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟؟؟.
لقد كانوا يعلمون أن الله قد كتب على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته فكيف يصيبهم ما أصابهم؟؟؟
فأنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران، آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته،وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.(1/1599)
فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم ـ وهم المسلمون ـ ومن ثم يوقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة؛ وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم!..
أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
إن سبب ما أصابكم هوالمعصية والمخالفة التي حدثت من بعض الجيش لأمر الرسول .
وكان شؤم المعصية شاملاً للجميع حتى النبي كسرت رباعيته وشج وجهه الكريم مما يدل على أهمية التحرز من المعاصي في انتصار المسلمين على أعدائهم.
أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ.
إن المسلمين الذين أصيبوا في أحدٍ بما أصيبوا؛ والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير؛ والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم، وهم المسلمون، وهم يجاهدون في سبيل الله، وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله.. المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة، كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها:أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش. وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة، حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم. وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين!.
ويذكرهم الله هذا كُلَّه، وهو يرد على دهشتهم المتسائلة، فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله ، وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة، فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم، بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرقُ محاباة ًله.
معاشر المسلمين، ولم يقف تعقيب القرآن على هذه المعركة العظيمة عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن القرآن كان يعالج المسلمين على أثر معركة لم تكن معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في القلوب أيضاً ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.(1/1600)
كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات.
عرج على كل هذه الأعمال الصالحة لأن العمل يعتبر مادة مهمة لإعداد الإيمان في نفوس المسلمين، ولم تكن هذه التوجيهات الشاملة بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، حين تنتصر على نفسها ومعاصيها، فإذا تطهرت الأمة من الذنوب والتصقت بالله ورجعت إلى كنفه كان ذلك من عدَّتها في المعركة ولم ينعزل ذلك عن الميدان.
معاشر المسلمين، وإذا كانت معصيةً واحدة هي المخالفة الجزئية لخطة المعركة ـ كما وقع من الرماة في معركة أحد ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس ـ نذائرَ شؤم وأسبابَ هزيمة وخسارة لذلك الجيل الطاهر، جيل النبي وصحابته الكرام، فكيف تنتصر أمة الإسلام اليوم وهي تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط حتى لو أُخذت مقدساتها وأخذت أراضيها واستنصرها إخوانها، وتستحل الربا والغلول، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها.
إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هزمت في معركة أحد وجعلت الهزيمة بسبب معصيتها ومخالفتها لرسولها توحي بأن الأمة اليوم لم تكمل أسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله تعالى وإنما هي في غفلة معرضة، لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها وأهوالها.
نتذكر هزيمة المسلمين في معركة أحد في شهر شوال، ونبصر اليوم في نفس الشهر هزائم الأمة المنكرة هزائمها في ميدان النفوس والعقائد عندما استنفرت فلم تنفر، واستنصرت فلم تنصر، ودعيت إلى الله فلم تلق بالاً وشغلت بالدرهم والدينار وتقليد الكافرين وموالاتهم، وهذه والله هي الهزيمة المنكرة.
أما المجاهدون الذين نذروا للدين أنفسم فلم ينهزموا والذين قتلوا منهم لم يموتوا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169، 171]، لقد حرق أصحاب الأخدود في الأخاديد فكان ذلك فوزاً كبيراً لأنه نتيجة جهاد وصبر على الثبات على دينهم الحق، فقال الله عنهم: إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11].(1/1601)
نعم يا إخوة الإسلام، إن المنهزم هو الذي هزم في دينه وعقيدته وولائه وبرائه، أما الذي انتصر في دينه وعقيدته وولائه وبرائه فهو الفائز فوزاً كبيراً ولو قتل وسحق ومحق، لأن الفوز هو فوز الآخرة, لا فوز الدنيا والله المستعان.
اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
ـــــــــــــــ
لا يأس مع الهزيمة
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
21/6/1423
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هزيمة المسلمين في أحد. 2- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 3- صدق اللجوء والتوكل على الله وحده. 4- لا ملجأ لنا إلا الله. 5- مطالبة اليهود بترحيل الفلسطينيين من فلسطين. 6- تدخل سلطات اليهود في إعمار الأقصى وترميماته.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:173، 175]. صدق الله العظيم.(1/1602)
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، أيها المرابطون، لقد ذكرت كتب التفسير والسيرة النبوية أنه بعد أن وقعت غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل، انسحب أبو سفيان زعيم المشركين فرحاً، ونادى بأعلى صوته: يا محمد موعدنا موسم بدر القادم إن شئت. فأجابه عليه الصلاة والسلام مباشرة " نعم إن شاء الله تعالى.
رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وأصبح حذراً ومتخوفاً من رجوع المشركين إلى المدينة ليتمموا غلبتهم، فنادى عليه الصلاة والسلام في أصحابه بالخروج فوراً خلف العدو وأمر أن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعدما أصابهم القرح وضمدوا الجراح وساروا حتى وصلوا إلى موقع يعرف "بحمراء الأسد".
وكان ما توقعه الرسول عليه الصلاة والسلام قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم للتوجه إلى المدينة المنورة، ولكن لما علموا بخروج النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة باتجاه مكة، ظنوا أنه قد حضر معه من لم يحضر بالأمس، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوب المشركين وأسرعوا بالتوجه إلى مكة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، بينما كان الرسول عليه الصلاة والسلام في موقع حمراء الأسد ألقي القبض على أبي عزة الشاعر، وهذا الشاعر كان يهجو الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يحرض المشركين على المسلمين بشعره، وقد سبق أن وقع أسيراً في غزوة بدر الكبرى ومنّ عليه الرسول وقتئذ بعد أن تعهد أن لا يلفظ شعراً يحرض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبي عزة الشاعر لم يلتزم بتعهده، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتل أبي عزة الشاعر فأخذ أبو عزة يتوسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليمُنّ عليه مرة أخرى فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا والله لا تمسح عارضيك بالكعبة، وتقول: خدعت محمداً مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين))(1)[1]. وتعتبر غزوة حمراء الأسد رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أُحد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هذا درس واضح للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بأعمال المنافقين والمشركين وأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن ينبغي أن لا يلدغ من جحر واحد مرتين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد تمكن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عسكر المسلمون في مكان بدر في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان الذين سبق لأبي سفيان أن حددهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إرجاء المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل.(1/1603)
وكان المسلمون وهم متوجهون إلى بدر يرددون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:172] وازداد المؤمنون إيماناً، فعلينا أن نردد: حسبنا الله ونعم الوكيل، وبخاصة ونحن الآن في أمر عظيم ومأزق عصيب، فالله كافينا، وهو حسبنا، وهو ناصرنا وراعينا، وهو نعم المولى ونعم النصير، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف: ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ))(2)[2] وقد سبق أن ردد سيدنا إبراهيم عليه السلام هذه العبارة حين أُلقي في النار.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد خرج المسلمون فعلاً، وأقاموا في موقع بدر ثلاثة أيام، وأقاموا أعمال تجارية بأمن وأمان، وعادوا غانمين سالمين، ويشير الله سبحانه وتعالى إلى ذلك الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:172] فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة وتدعو إلى التوكل على الله وإلى اللجوء إليه وإلى الخشية منه، فإنه لا ملجأ له إلا هو سبحانه وتعالى، فإن المؤمن الذي يلتصق بخشية الله، فإن الله عز وجل يسخر له المخلوقات كلها.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لم ييأس المسلمون رغم ما حل بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، لم يستكينوا، لم يتهربوا من المسؤولية، ولم يتخاصموا على الكراسي والعروش، لم يطعن بعضهم بعضاً من الخلف، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا مؤتمرات سياسية ولا مقررات أممية، كما يحصل الآن لدى حكام العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي، لم يستسلموا للتمنيات والأوهام:
وما نيل المطالب بالتمني ... ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال ... ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
أيها المسلمون، لقد مرت محن ومصائب على المسلمون في الماضي أيام حرب التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يتجاوزون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية، لأنهم كانوا يتقون الله ويخافونه ويخشونه، فقد ورد أنه سئل الإمام الحسن البصري: كيف تكون خشيتك لله؟ فأجاب السائل: إذا كنت في سفينة وتحطمت هذه السفينة، وبقي منها لوح واحد وعلقت بهذا اللوح، وأنت في الأمواج الهائجة فكيف يكون شعورك ؟ فأجاب: أكون في رعب شديد، فقال الحسن البصري رضي الله عنه: كذا تكون خشيتي لله في الليل والنهار.
أيها المسلمون، ابتليت أمتنا في القرن الماضي وفي مطلع هذا القرن بمحن ومصائب كُثُر، غير أن ذلك لن يفقدنا الثقة بالله عز وجل القائل: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].
أيها المسلمون، إنما نمر به الآن يحفزنا بالرجوع إلى الله العلي القدير قولاً وعملاً، ويدفعنا للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، ومن يحمينا؟ الله، ومن يحررنا؟ الله، ومن يغيثنا ويحيينا؟ الله، لا(1/1604)
إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [الذاريات:50]، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله))(3)[3].
ادعوا الله وأنتم موقنون في الإجابة، فيا فوز المستغفرين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله نستعينه ونحمده حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صيت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، هناك ثلاثة أمور قائمة ساخنة أتعرض لها بإيجاز:
أولاً: الحصارات العسكرية اللعينة المفروضة على مدننا وقرانا ومخيماتنا، هذه الحصارات التي تمثل عقوبات جماعية للشعب بأكمله، بقصد أن نستسلم، ونقول: إن الأسلحة الأمريكية لن تقود هذا الشعب إلى الاستسلام، ثم إن فرض منع التجول يتعارض مع حرية العبادة وحرية التنقل، وإن سلطات الاحتلال تتعمد فرض منع التجول أيام الجمع، مما يحرم مئات الآلاف من المصلين من إقامة صلاة الجمعة، ومن أبسط الحقوق أن يمارس المسلم عبادته بحرية وامن وأمان، وهذه الإجراءات التعسفية الصهيونية والعدوانية هي فساد وإفساد وعلو في الأرض.
ثانياً: طالب أحد الحاخميين مؤخراً السلطات المحتلة بطرد العرب من فلسطين، وهذه المطالبة ليست الأولى، فقد سبق لهم أن صرحوا بتصريحات عنصرية معادية ضد أهل فلسطين، وكان المفروض بالحاخامين أن يكونوا قدوة لعمل الخير والإصلاح، ولكن كل إناء بما فيه ينضح، ثم نسأل من يطالب بتسفير الفلسطينيين عن أرض آبائهم وأجدادهم، نسألهم من أي بلاد أتيتم أنتم؟ فالأولى أن تعودوا إلى البلاد التي أتيتم منها، أما نحن، فنحن متجذرون هنا منذ آلاف السنين.
أيها المسلمون، ثالثاً: التصريحات الأخيرة التي صدرت عما يسمى رئيس بلدية القدس بشأن السور الجنوبي لسور المسجد الأقصى المبارك، ونقول باسم المسلمين بأرض الإسراء والمعراج نقول: إن هذه التصريحات هي عبارة عن حلقة جديدة تنُمّ عن نوايا المحتلين للتدخل في شؤون المسجد الأقصى المبارك، بحجة أعمال الترميم والصيانة التي تقوم بها لجنة إعمار الأقصى الإسلامية، وهي صاحبة الاختصاص، ولها الحق الوحيد في القيام بأعمال الصيانة والترميم وكل ما يتعلق بالمسجد الأقصى من أساساته إلى جدرانه من الجهات الأربعة وكل مناطقه وساحاته.(1/1605)
وإن الترميم الذي قامت به الأوقاف في المصلى المرواني لا صلة له ولا علاقة له بالتصدع الذي لحق الجدار الجنوبي، إنما هذه التصدعات أتت نتيجة الحفريات الإسرائيلية في محيط الأقصى وأسفله، فمِن على منبر المسجد الأقصى المبارك نؤكد على موقفنا الإيماني بأن وجودنا في أرض الإسراء والمعراج ليس بقرار من هيئة الأمم، إنما بقرار إلهي رباني، غير خاضع للمفاوضات ولا للتنازلات، وإن المسجد الأقصى هو جزء من إيماننا وعقيدتنا، ولن نسمح بالمس من حرمته، ونؤكد أنه لا علاقة لليهود بالأقصى، ولا نعترف لهم بأي حق فيه، ولن يكون هذا المسجد - بإذن الله وعونه - إلا للمسلمين وحدهم، وقد وعدنا الله به، ووعده الحق، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزِنة عرشه ومداد كلماته...
__________
(1) الخبر رواه ابن إسحاق في سيرته، ولم يدكر له سنداً، سيرة ابن هشام (4/55)، وقد رواه مسندا إلى ابن مسعود البيهقي في سننه (9/65).
(2) لم أجده.
(3) صحيح، سنن الترمذي ح (1639) وقال: حديث حسن غريب.
ـــــــــــــــ
فقه الهزيمة والنصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
-----------------------
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
9/2/1424
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- الثقة بنصر الله تعالى. 2- المستقبل لهذا الدين. 3- ضرورة الأخذ بأسباب النصر. 4- حقيقة النصر وصوره. 5- سنة الله تعالى في النصر. 6- أساس النصر. 7- أسباب الهزيمة. 8- حِكم الابتلاء بالهزيمة.(1/1606)
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إخوة الإسلام، حين تكثر الأزماتُ على الأمّة وتشتدّ عليها وطأة الحوادث فإنَّها تتلمّس طريقَ النصر، والذي ينبغي أن نعيشَ به دائماً مهما اشتدَّت المحن هو الثقةُ بنصر الله، وأنَّه آتٍ لا شكَّ فيه، قال : ((والله، ليتِمّنّ هذا الأمر)) أخرجه البخاري(1)[1]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]. وفي مكّة حيث الشدائد والأهوالُ ترى الرسولَ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، وفي نفس الوقتِ يطمئِنهم إلى المستقبل الزاهر للإسلام، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم، وأنَّ دينَهم سيُنير الدنيا من مشرقها إلى مغربِها؛ لتستقرَّ في الأعماق روح التفاؤل والاستبشار والأمَل، وأنَّ المجتمعات لا تسعَد إلا في ظلِّ هذه المعاني. ذلك أنَّ الهزيمة النفسيةَ مِن أنكى وأمرّ وأشدّ الهزائم خطراً على مستقبل الأمّة، وإنَّ واقع الذلّ والهوان هذا لا ينبغي أن يكونَ مسوِّغًا لليأس والقنوط.
إنَّ الثقةَ بنصر الله تولِّد السكينةَ في المحن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار، واقترَب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى شاهرِين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أنَّ أحدَهم رفع قدمَه رآنا، فردّ عليه رسولنا بكل ثقة: ((ما ظنّك باثنَين اللهُ ثالثُهما)) أخرجه البخاري(2)[2]. ثقةٌ بالله ونصرِه، يقينٌ برفع البلاء، شعورٌ بمعيَّة الله تعالى.
ومن قبلُ يقِف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إنَّ فرعونَ مِن ورائنا، والبحر من أمامِنا، فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيردّ نبي الله موسى عليه السلام في ثقة كاملةٍ بموعود الله: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدها النصرُ والتمكين.
حينَ ينظر الإنسان إلى المكر الكُبَّار الذي يُكاد للإسلام والمسلمين في عهودٍ متطاولة، قتلٌ وتشريدٌ وتعذيبٌ، ومع ذلك يبقى الإسلام صامدًا والإيمان قويًّا، حين ينظرُ المسلم إلى هذا الواقع لا يساوِره شكّ في تحقُّق نصر الله، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ولو بعدَ حين، والمبشِّرات لهذا الدّين شرعًا وواقعًا أكثر من أن تُحصَى، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأَذَلّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
عبادَ الله، إنَّ الدين محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلا تخشَ على الإسلام، ولكن اخشَ على نفسك وإيمانِك وثباتك، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم [محمد:23].(1/1607)
إنَّ المبشِّرات بنصر الله لا تَعني تركَ العمَل والتواكُل والخلودَ إلى الدَّعة والكسَل، فنصرُ الله لا يتنزَّل على نفوسٍ لُوِّثت بالمعاصي، وقلوبٍ مستعبَدَة للشهوات، مدنَّسةٍ بالحِقد والغلِّ والحسَد، وأُخوَّةٍ دبّ فيها داء الفرقة والتنازع والتناحر والتمزّق، هذه سنّة الله التي يجِب أن نفقهَها ونتعامل معها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم كانوا موقنِين بالنصر، وكان وعد الله وَقودًا لمزيد عملٍ وعطاء، عبادةٌ وبَذل في سبيل الله وتضحية، يبذل أحدُهم مالَه كلَّه في سبيل الله قائلاً: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله(3)[3]، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
قد يحصل أصحابُ الباطل على انتصارٍ مؤقَّت، لكن البناء الذي أُسِّس على قواعدَ فاسدةٍ لا بدَّ أن ينهار، ثمَّ تكون العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، قال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وعندما هاجر رسول الله وعده الله بقوله: إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، فعاد إلى مكّة سالمًا غانمًا منتصرًا، وتحقّق وعد الله.
عبادَ الله، يُخطئ من يحصُر معنَى النصر في صورةٍ واحدة، ذلك أنَّ للنّصر مفهومًا أوسَع وصوَرًا أشمَل، فالذي يلتزم بالإسلام ويتغلّب على لذَّاتِه المحرَّمة ونفسِه الأمّارة بالسّوء يغدو منتصِراً. ومِن معاني النصرِ أن يلقى المسلم ربَّه وهو راضٍ عنه. ومن معاني النّصر الثباتُ على الدّين في المِحن والعزّة بالإيمان في المِحن، فإبراهيم عليه السلام ألقي في النّار بعدَ أن كشف زيفَ الباطل وثبَت على عقيدتِه، وكان هذا أنصارًا، قال تعالى: قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ [الأنبياء:69، 70].
سحرةُ فرعون هدّدهم بالقتل هدَّدهم بالتعذيب، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ [آل عمران:146]، وكان هذا نصرًا للعقيدة والدّين، قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:50، 51].
الغلامُ المؤمن في قومِه ماتَ منتصرًا، فقد أحيى الله بموتِه أمّةً مِن النّاس حين آمنوا بالله ربِّ الغلام، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
يقول المفسِّرون: إنَّ الله سبحانه ينصُر رسلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا وإن اختلفت صورُ النصر، فمنهم من يمكِّنهم الله سبحانه حتى يظهَروا على عدوّه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومِنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامِهم المكذّبين لهم، ومنهم من يسلّط الله عليه القتل، ومِنهم مَن يسلَّط عليهم بعد قتلهم أنبياءَهم من ينتقِم للأنبياءِ وينتصرُ لهم.(1/1608)
ويقول المفسِّرون: ولهذا أهلك الله عزَّ وجلّ قومَ نوح وعادٍ وثمود وأصحابَ الرسّ وقومَ لوط وأهلَ مدين وأشباههم وأحزابَهم ممّن كذّب الرسلَ وخالف الحقَّ، وأنجى الله تعالى مِن بينهم المؤمنين، فلم يُهلك منهم أحداً.
ويقول المفسِّرون: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتَلون، فيذهب ذلك القَرن حتّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصُرهم، فيطلب بدمائهم ممَّن فعَل ذلك في الدنيا، فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتَلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. انتهى.
لقد كان الله سبحانه قادرًا أن يمنَح النصرَ لنبيِّه ولدعوته ولدينه منذ اللحظةِ الأولى مِن غزوة أحُد بلا كللٍ ولا ملل، بلا كلل من المؤمنين ولا عناء، ولكن المسألة ليسَت هي النصر فحَسب، إنّما هي التربية على الثبات، إنّما هي الصّبر على البلاء والشدّة، إنّما هي تزكية النّفوس وإصلاحها.
إنَّ إيمانَنا بأنَّ المستقبَل لهذا الدين يمنحُنا الأمَل الذي يدفعنا إلى العِلم والعمَل للوصول إلى النصر بترسيخ العقيدةِ والإخلاص في العبادة، وتصحيح معاملاتِنا، وسموّ أخلاقِنا، مع إعداد العدّة، وإذا ظلّ الإيمان ـ عبادَ الله ـ لم يتحقَّق في القلب ولم ترسَخ العقيدة في النّفوس فإنَّ الطغيان يغلِب والباطلَ ينتفش؛ لأنهما يملِكان قوَّة ماديّة.
إذا أراد المسلمون نصرَ الله فسبيل ذلك أن ينصُروا اللهَ أولاً في أنفسِهم، أن ينصروا اللهَ في أُسرِهم وبيوتِهم، أن ينصُروا لله في مجتمَعهم وفي معاملاتِهم، فيحكِّموا شرعَه ويطبِّقوا شريعتَه. إنَّك بهذا تهزِم عدوَّك نفسيًّا من داخِله باعتزازِك بدينك وثباتِك على منهجك والدعوةِ إلى الله، إنّه يريدك أن تكون من حزبِه، قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ [النساء:89]، وقال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف:43].
إخوةَ الإسلام، إنَّ أساسَ النّصر الحقيقيّ تحقيقُ العبوديّة في القلب والانتصار على النفس، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، ولكنَّنا نُغلب حين نختلِف ونتنازَع فنفشل وتذهَب ريحنا، ونُهزَم حين تفسد النيات والمقاصِد، وتحلّ الدنيا في قلوبنا محلَّ الآخرة، قال تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
لقد تحوّل نصرُ المؤمنين إلى هزيمةٍ في أحُد لمخالفةِ نفَرٍ من أصحاب رسول الله لأمرٍ من أوامِره دونَ قصدٍ منهم أو فسادٍ منهم، وكان الدّرس أليماً والعقاب قاسياً، ولذا لا تعجَب لِما حلّ بالمسلمين في هذه الأيّام العصيبَة من تمزيقِ الشّمل وذهابِ الشوكة، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].(1/1609)
لهذا كان عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه يقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لمّا أمَّره على أحدِ الجيوش الإسلامية: (أمّا بعد: فإنِّي آمرُك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله في كلِّ حال، فإنّ تقوى الله أفضلُ العدّة على العدوّ وأقوى المكيدَة على الحرب، وآمرُك ومن مَعك أن تكونوا أشدّ احتراساً منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوبَ الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنّما ينتصِر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوّة؛ لأنَّ عددَنا ليس كعددِهم، وعدّتنا ليست كعدَّتهم، فإن استوينَا في المعصيَة كان لهم الفضل علينا في القوّة، وإن لم نُنْصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوَّتنا، واعلموا أنَّ عليكم في سيركم حفظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا عدوّنا شرٌّ منّا فلن يسلَّط علينا، فربّ مسلَّط عليهم من هو شرّ منهم)(4)[4]، ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً للجُند: (إنّكم لن تنتصِروا على عدوِّكم إلا بعدَ تقرّبكم من الله وبُعدِهم عنه، فإذا تساويتم ـ أي: في المعاصي ـ كانت الغلبَة لأكثرِكم عدّةً وعتادًا) انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعَمه التي لا تعدّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الذي لا ينطِق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
قد تهتزّ بعض النفوس فتستبطئ نصرَ الله وتساوِرها شبهةٌ في خضَمّ الأحداث، يظنّون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية، لماذا يُصابُ الحقّ وينجو الباطِل؟ لماذا لا ينتصِر المسلمون؟! أسئلةٌ تتردَّد في أذهان من لا يفقهون سنّةَ الله تعالى في النّصر والهزيمة، ولا يفقَهون سنتَه في الابتلاء والمِحن، وأنَّ الأمورَ تجري بحِكمةٍ ولحكمة.
منها: أنَّ الله يُملي للباطل والظالم لينال أشدَّ العذاب بالاستحقاق، قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ومِن الحِكَم أنَّ الله يميز الخبيث من الطيِّب، ويعظم الأجرَ لمَن ابتُلي فصبَر كما قال تعالى: مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ [آل عمران:179].(1/1610)
ومِن الحِكم أن تتجرّد النفوس ويصفوَ الإيمان ويتميّزَ الصّفّ ويتماسَك المؤمنون، ويتماسك البنيان بين المؤمنين.
ومنها: أن يتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الأذى والصبرَ على المِحن، ويتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الهزيمة والصبرَ على النّصر، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَ صلِّ وسلَم على عبدك ورسولك محمَّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب (6312) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في التفسير (4663) من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وهو أيضا عند مسلم في فضائل الصحابة (2381).
(3) ممن قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الزكاة (1678)، والترمذي في المناقب (3675) من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1510)، وأعله ابن حزم في المحلى (8/15) بهشام بن سعد، وقال الحافظ في الفتح (3/295): "تفرد به هشام بن سعد عن زيد، وهشام صدوق فيه مقال من جهة حفظه"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1472).
(4) أخرج نحوه أبو نعيم في الحلية (5/302-303) عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
ـــــــــــــــ
سنة الهزيمة والنصر
-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
17/6/1424
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية(1/1611)
-------------------------
ملخص الخطبة
1- وعد الله المؤمنين بالنصر والظفر. 2- تحقيق هذا الوعد في تاريخ المسلمين. 3- أسباب هزائم المسلمين في هذا العصر. 4- حول معاناة المسلمين في القدس. 5- المؤامرة على الأقصى.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة محمد: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:7-9]. ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان توضح صورة لنا، لا لبس فيها ولا غموض، أن الله عز وجل قد ربط الأسباب بالمسببات، فهو سبحانه يعطي وعدًا على نفسه بأن ينصر المؤمنين، لأن النصر من عنده وحده، ولن يخلف الله وعده، ولكن يا مسلمون متى يتحقق وعد الله؟ والجواب: إذا نصرنا الله، وكيف يكون نصر المؤمنين لله؟
أيها المسلمون، أقرأ على مسامعكم بعض فقرات من رسالة قيمة وجّهها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الصحابي الجيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان قائدًا للجيوش الإسلامية في العراق، يقول عمر في هذه الرسالة التي كتبت قبل أربعة عشر قرنًا: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب).
أيها المسلمون، إن أمير المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يركز في رسالته أول ما يركز على تقوى الله رب العالمين، فإن أول عامل من عوامل نصر المؤمنين لله هو الاتصاف بتقوى الله في جميع الأحوال، وتقوى الله هي أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب.
أيها المسلمون، ويقول عمر في رسالته أيضًا: (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم)، فمن عوامل النصر ـ يا مسلمون ـ الابتعاد عن المعاصي، لأن المعاصي والآثام إذا اقترفها المسلمون تكون أشد خطرًا عليهم من أعدائهم.
والأشد خطرًا وإثمًا هو المجاهرة بالمعاصي، وهذا ما نشهده في أيامنا هذه، فإن ارتكاب المعاصي والآثام والموبقات والمجاهرة بها من أسباب إلحاق الهزائم المتكررة بالأمة.(1/1612)
أيها المسلمون، ويتابع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالته القيمة فيقول: (وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة)، أي أن من أسباب نصر الله للمؤمنين معاصي أعدائهم، ولولا ذلك لم تكن للمسلمين غلبة على أعدائهم، لأن عدد المسلمين أقل عددًا من الأعداء، ولأن عدة المسلمين لم تكن كعدتهم، وإن استوى الطرفان، أي المسلمون والأعداء في المعصية، كانت الغلبة للأعداء كما نلحظ في أيامنا هذه.
أيها المسلمون، من المعلوم أن المسلمين عبر التاريخ لم يسبق لهم أن انتصروا على أعدائهم بسبب زيادة في العدد أو العدة، فما من معركة انتصر بها المسلمون إلا وكان الأعداء أكثر منهم عددًا وعدة، إنما انتصر المسلمون على الأعداء بتقوى الله والتزام الشريعة الإسلامية والابتعاد عن المعاصي، والله رب العالمين يقول في معركة بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي وأنتم ضعاف، وعددكم قليل، وهذا يؤكد بأن نصر المسلمين لم يكن في يوم من الأيام مرتبطًا بالقوة المادية، ولا يعني هذا إهمال القوة المادية، ولكن ليست هي العامل الأساس في النصر، والدليل على ذلك ما حصل قبيل معركة اليرموك، فقد قال أحد الجند من المسلمين: ما أكثر الروم وما أقل العرب! لأن الروم عددهم كثير، فأجابه قائدهم: لا بل قل: ما أكثر العرب وما أقل الروم، فالعبرة يا مسلمون ليست بالعدد، بل بالكيف والنوع، وانتصر المسلمون على الروم رغم التفاوت في العدد.
أيها المسلمون، إن انتشار المعاصي بين المسلمين في هذا الوقت لمؤشر على الهزيمة المستمرة، فلا بد من العودة إلى الله رب العالمين، وبالدعاء والتضرع له مع إعداد العدة، ليحقق الله وعده، وليُجري النصر للمؤمنين، فالنصر من الله رب العالمين لمن يستحق النصر، وأي شك في ذلك هو شك بالإيمان، وهو عين الهزيمة.
أيها المسلمون، والسؤال بالمقابل: كيف يكون نصر الله للمؤمنين؟
إن الله العلي القدير العزيز الجبار لا يعوزه أي أسلوب من الأساليب، ولا أي شكل من أشكال النصر للمؤمنين، فيقول الله عز وجل في سورة المدثر: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ويتمثل جند الله أحيانًا بالملائكة كما حصل في معركة بدر، لقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا في سورة الأنفال: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].
أيها المسلمون، قد يقول قائل: نحن الآن في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية والبوارج البحرية، وهذه الأساليب الحديثة المتطورة هي التي تقرر النتائج وتحسم الموضوع، فما علاقة نصر الله وقدرته في(1/1613)
هذا المجال؟ والجواب على هذا الطرح التشكيكي، أقول: إن قدرة الله رب العالمين أزلية دائمة، وهي قائمة، سواء كان ذلك في عصر الجِمال أم في عصر الصواريخ، وإن حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين للميلاد لتؤكد ذلك، حين انطلق الجند المؤمنون بهتاف: الله أكبر، كانوا يشاهدون القتلى من الأعداء قبل أن يصلوا إليهم، وكاد هؤلاء الجند أن يقلبوا الموازين لولا الأوامر بالتوقف.
ثم إن هزيمة العراق مؤخرًا جاءت نتيجة للخيانات أولاً، وثانيًا لأن المسئولين في العراق وقتئذ لم يطلبوا النصر من الله، ولم يكون متصلين بالله، ولم يتقوا الله أصلاً، فكيف سيأتيهم النصر، والله سبحانه وتعالى يقول: إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، جاء في الحديث الشريف: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))(1)[1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء المعراج، هناك ثلاث نقاط تهم المؤمنين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وهي:
أولاً: الأسرى المعتقلون السياسيون في السجون الإسرائيلية، لقد قام قبل أيام أهالي الأسرى المعتقلين السياسيين بمسيرات عدة يطالبون فيها بالإفراج عن أبنائهم، ويشرحون الأوضاع السيئة التي يعيشها أبناؤهم خلف القضبان، ونحن نضم صوتنا إلى مطالبهم العادلة، فالحرية والكرامة هما حق شرعي لكل إنسان، وما بعد الضيق إلا الفرج إن شاء الله.
ثانيًا: مكتب الداخلية في مدينة القدس مرة أخرى، وسبق أن أشرنا إلى الشكاوى من قِبل المواطنين الذين يعانون ما يعانونه أمام مكتب وزارة الداخلية في القدس، واليوم نشرت الصحف المحلية عن اعتقال قائد حرس مكتب الداخلية وعن اعتقال عدد من اللذين يعملون في مكتب الداخلية بتهمة الرشاوى وتهمة التحرش الجنسي، ونحن نقول: ليس هذا الاعتقال هو العلاج الكافي، نحن نقول: لا(1/1614)
بد من تسهيل المعاملات لدى المواطنين ورفع المعاناة والتعقيد والابتزاز وحماية الناس من المستغلين، فإن تسهيل المعاملات أصلاً يمنع أي ابتزاز وأي رشاوى.
ونشكر الشباب الذين حاولوا فرض النظام والهدوء ومنع الفوضى والرشاوى من أهل القدس، هذا هو جهدهم، وبارك الله فيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، ثالثًا: المسجد الأقصى المبارك، ويوم الخميس القادم تصادف ذكرى إحراقه، وفي هذه الأجواء وقبل أيام، يصرح ما يسمى بوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أنه سيسمح للزوار من غير المسلمين بزيارة باحات المسجد الأقصى المبارك اعتبارًا من الأسبوع القادم، سواء وافقت الأوقاف أم لم توافق، حسب قوله.
وينطبق على هذا الوزير المثل القائل: "سكت دهرًا، ونطق كفرًا" فهل من صلاحياته أن يقرر إعادة برامج السياحة للمسجد الأقصى المبارك؟ ونؤكد له ولغيره بأن الأوقاف الإسلامية هي صاحبة الصلاحية والاختصاص في الإشراف على المسجد الأقصى المبارك، وأن استئناف برامج السياحة هو بيد الأوقاف الإسلامية في الوقت الذي تراه مناسبًا، وإن الأوقاف الإسلامية ترفض التهديد، كما ترفض التدخل في شؤونها، فلا يجوز شرعًا أن يتدخل غير المسلم في شئون المسلمين عامة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، ويقول عز وجل: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وسيبقى المسلمون والمرابطون ـ بإذن الله ـ السدنة والحراس الأوفياء لمسجدهم المبارك، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288.
ـــــــــــــــ
المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية
تأليف : عبد الله أحمد الشبانة
عرض : أحمد أبو عامر
من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم هو ما سيطر عليهم من روح الانهزام أمام أعداء الإسلام ، وضعف الهمة من بعث روح المقاومة والمغالبة ، والعجز عن مجرد التفكير في ذلك ، حتى بلغت أمتنا في ذلك مبلغاً من الانحطاط والتقهقر والتخلف لا نريد عليه... ونحن اليوم في أشد الحاجة إلى تعرية هذا المرض الخبيث الذي يقلب الموازين ويعكس المفاهيم حتى أصبحنا نظن العدو صديقاً ، والأبيض أسود ، والغاش ناصحاً ، والناصح غاشاً ، وهذا ما حدا بالمؤلف إلى علاج هذه الظاهرة المرضية في(1/1615)
واقعنا ، وقبل أن يحدد معنى الهزيمة النفسية تطرق إلى مدخل لبيان أهمية معرفة هذه الظاهرة كبداية لعلاجها ثم عن مظاهر الهزيمة النفسية في ثلاثة أبواب:
أولاً: في مجال الفكر ، وتطرق فيه للفكر التربوي ثم الفكر الإعلامي.
ثانياً: في مجال النظم ، وتطرق فيه للنظامين الاقتصادي والسياسي.
ثالثاً: في مجال السلوك ، وتطرق فيه للسلوك الفردي والسلوك الاجتماعي.
ثم بين خطر هذه الظاهرة في محيط الفرد، ثم في محيط الأسرة ثم في محيط الجماعة والأمة . ثم تطرق المؤلف إلى أسباب هذه الظاهرة وعوامل تكوينها ، وأرجعها إلى أسباب وعوامل ذاتية ، ثم أسباب وعوامل خارجية. ثم تطرق المؤلف إلى طريق علاج هذه الظاهرة ووسائل القضاء عليها.
ومما يجدر ذكره أن المؤلف استعرض الجهود العلمية والفكرية والتي سبقته لعلاج وبحث هذه الظاهرة في النفس والمجتمع ، ومن سبق إلى البحث فيها أمثال (شكيب أرسلان) في كتابه (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) وكذلك أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ومالك بن نبي في (شروط النهضة) وأبو الأعلى المودودي في كتابه (واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم) و د.ناصر العقل في كتابه (التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية) وهو لم يطبع بعد طبعته الأولى ، وهذه فرصة للدعوة لإعادة طبع الكتاب لأهمتيه في هذا الباب... وغيرها من الأبحاث الهامة في هذا الباب.
وقد وضح طرق علاج هذه الظاهرة ووسائل القضاء عليها في بابين :
1 - طريق التربية والتعليم .
2 - طريق التوجيه والإرشاد (الإعلام).
وفي خاتمة الكتاب جمع المؤلف خلاصة ما تضمنه البحث من أبواب وفصول ، وأكد أنه كبير الأمل وعظيم الثقة في أن نجاحاً كبيراً سيتحقق من جراء الأثر الإيجابي للعلاج ، وأن شفاء الأمة من هذا المرض سيتم بإذن الله من هذا الداء الخطير ، وستمضي بحول الله تعيد سيرة سلفها الصالح ، وأمجادها الغابرة ، ونبه إلى أن واجب كل مسلم واع مدرك للخطر منتبه لما يراد بالأمة وما تساق إليه بل ما سيقت له منذ أزمان أن يعمل بكل ما أوتي من قوة وبكل وسيلة ممكنة لتبصير الأمة بالأخطار التي هددتها وتهدد كل فرد من أفرادها..
وأن واجب المسئولين في كل دولة واجب مضاعف ، وخاصة مسئولو ذينك المجالين المهمين : (التربية والإعلام) ثم نبه إلى نوع من الانهزامية لم يتطرق له لعدم دخوله في منهج البحث وهو ما تتعرض له الأمة في مجال الأدب ومناهج النقد عن طريق ما يسمى بالحداثة والتي انكشفت كل أوراق أدعيائها بما ظهر من دراسات علمية وموضوعية حول ذلك.(1/1616)
والكتاب دراسة يلمس فيها القارئ حسن القصد وحسن البحث ولن يعدم كل قارئ للكتاب من أصول ومعلومات علمية قيمة تزيد ثقافته وتناقش كثيرًا من الشبهات المطروحة في الساحة بمنهج علمي جدير بالتقدير والاحترام .
ـــــــــــــــ
مَعْرِض الهزيمة
شعر: عبد الله بن عبد الكريم الخميس
سئمتُ وقد شابهَ اليومُ أمسا طِبتُ لدى الجُرحِ بالموتِ نفسا
وما بي قُنُوطٌ ولكنّ عصري يُسَامُ به الشتّمّ خنقاً ودهسا
ألم يأنِ أن نحتوي عِزّةَ الدينِ نُحْيي لإسلامِنا الحُرّ عُرسا
شرِبنا من الذّلِ حتى ارتوينا كَرَعنا على الكُرهِ كأساً فكأسا
كِنانتُنا أُتخِمَتْ بالسهامِ ولم نَحْتَمِلْ طيلةَ الحَربِ قوسا
تناحُرُ فُرسانِنَا مَنْبَعُ الذّلّ في الخَالِياتِ لنا كان درسا
شتَاتٌ عِصَابتُنا واختِلافٌ وشرٌ يَدِبّ إذا الليلُ أمسى
وغَابٌ تمن الشوكِ تُدمي الحيارى ثِمَارٌ خبيثٌ لما كان غرسا
وبين جوانِحِنا خَافِقَاتٌ قُلُوبٌ هي الصّخرُ بل هي أقسى
فهلاّ نُجَدّدُ عَهْدَ التّآخي ونقتُلُ (ذُبْيَان) فينا و(عبسَا)
ونتركُ ما فيه كُنّا افترقنا ونخلِطُ بـ(الخَزْرَجِيّةِ) (أوسَا)
و(داحِسَ) ما حازتِ السّبقَ حازتهُ (غبراءُ) والحَادِثُ الشُؤمُ يُنْسَى
لِنُصبِحَ للعِز أهلاً وكُفْئاً ونبعَث للنُورِ والدفءِ شمسا
وننعَم بالحُبّ حتى كأنّا لنسمع للحُبّ قرعاً وجرسا
إذا ما افترقنا كأفلاكِ بَحرٍ فإنّ العقيدة يا قومُ مَرسَى
ـــــــــــــــ
الهزيمة عقوبة
للسيد حسين التهامي
قال السيد حسن التهامي مستشار الرئيس أنور السادات ورئيس بعثة الحج المصرية لهذا العام: إن جميع القوى العالمية -بلا استثناء- تجتمع اليوم ضد المسلمين وتتكتل لتقويض صرح الإسلام.
ويقول مراسل وكالة الأنباء السعودية: بأن السيد التهامي تحدث عما أسماه عار يونيو (1967)م؛ فقال: إنه كان نتيجة طبيعية للتخلي عن الإسلام وللزيف والزيغ العقائدي الذي اجتاح عالمنا العربي عشرين سنة.(1/1617)
ودعا السيد حسن التهامي إلى التمسك بالدعوة الإسلامية وإلى أن ينهض القادة جميعاً بهذا العبء وأن ينحازوا كلياً إلى الإسلام. فبغير الإسلام لن يستعيد العرب الأراضي وبغير الإسلام لن تقوم لهم قائمة.
وقال: إن التخطيط للجهاد ثم الجهاد هو طريقنا وإن كل ما سوى ذلك ليس إلاّ ألاعيب وأباطيل. وأكّد على أنه ليس يكفي المسلمين المؤتمرات الإسلامية ولا الأمانة الإسلامية. حتى ولا الحج إلى بيت الله الحرام ..
ـــــــــــــــ
أسباب الهزيمة الموجودة في الأمة
التغيير والنصر يأتي متأخراً، وحديثنا كان يقدم الهزائم على الانتصارات؛ لأننا إلى حد ما في ظلال الهزائم، والانتصارات هي الأمل المفتقد بإذن الله عز وجل، وقد بدت بشائره وتبدو هنا وهناك في عودة الأمة إلى دينها، ورجوعها إلى ربها، واعتزازها بشخصيتها وإسلامها وإيمانها وولائها لله، وبراءتها من أعداء الله سبحانه وتعالى، وأخذها بأسباب الوحدة والألفة والاجتماع، ونبذها لأسباب الفرقة، وإن كانت هذه الصور ما تزال جزئياً هنا وهناك باقية، ويسعى أعداء الله عز وجل إلى إطالة أمدها، وإلى تعميق آثارها، وإلى توسعة دائرتها حتى لا تقوم للمسلمين قائمة؛ ولذلك أكثر ما يبتلى به المسلمون الشقاق والنزاع، وأكثر ما يسلط عليهم ليفتنوا هو الفساد والانحراف؛ ولذلك أريد أن أوجز الحديث لأختم هذا اللقاء فيما يتعلق بتكريس أسباب الهزيمة في الأمة .
أسباب الهزيمة في مجال السياسة
هناك أوضاع ومجالات تكرس أسباب الهزيمة في الأمة، والحديث عنها الأصل فيه أن يطول، لكن الإشارة إن شاء الله تغني عن الإفاضة والتوسع، وهي مجالات كثيرة سلط أعداء الله عليها الجهود؛ لتبقى في الأمة أسباب الهزيمة والضعف، وذلك في مجالات ثلاثة رئيسة ومهمة، ربما تكون هي أبرز وأظهر هذه المجالات.
أولها: في المجال السياسي، وذلك بزرع الفرقة بين المسلمين على مستوى دولهم، وتقطيع أوصالهم، وإثارة النزاعات العرقية، والخلافات الحدودية، وغير ذلك من هذه الأسباب.
ثانياً: تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، وتغييبه عن واقع الحياة.
ثالثاًًً: الموالاة لأعداء الله عز وجل، والسير في فلكهم، والتحقيق لأطماعهم في بلاد المسلمين، والموافقة لهم في مخططاتهم، والسير وراءهم فيما يخططون ويدبرون من كيد وتدمير وهدم لبلاد المسلمين، وكذلك أيضاً في صور أخرى متعددة يطول ذكرها.
أسباب الهزيمة في مجال التعليم(1/1618)
المجال الثاني: مجال التعليم الذي يصبغ الأمة بصبغات شتى، بحسب ما يوجه ويصب في أذهان أبناء الأمة المسلمة في شرق الأرض وغربها، فإذا بنا نجد مظاهر منها: الفصل بين التعليم الديني والمدني كما يسمى.
التضييق على التعليم الإسلامي.
تغيير المناهج وإبعادها عن الروح الإسلامية، وربط الأمة بدينها وبتاريخها، وذلك ظاهر في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين، حتى إن كل توجه يصبغ أول ما يصبغ الأمة عبر مناهج التعليم؛ ولذلك نجد هذه الصورة واضحة حتى أن بعض البلاد اختزلت تاريخ الأمة المسلمة اختزالاً مشيناً، فنجد أن حظ تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتجاوز سبعة أسطر، وحظ تاريخ عثمان رضي الله عنه الطويل المديد لم يتجاوز خمسة أسطر في مناهج بعض البلاد العربية الإسلامية، وهكذا يسلط على الأمة في هذا المجال والميدان كثير من الأدواء والانحرافات التي تعمق هذا الجانب، وتغير الأفكار، وتشتت الأذهان، وتقطع الأمة عن تاريخها، والمجالات في ذلك كثيرة، حتى إن التعليم الإسلامي يجعل له منزلة أدنى من غيره، كما يعلم الجميع أن بعض البلاد لا تدخل المواد الدينية في النجاح والرسوب، يرسب الطالب أو ينجح في المواد الدينية فليست هناك مشكلة، أو لا تدخل في معدلات النسب والتقديرات من الامتياز وغيره، إضافة إلى اغتيال وإضعاف منابر التعليم الإسلامي ذات الأثر والتاريخ العريق، وتفريغها من مضمونها ومحتواها، وتحويرها وتحويلها إلى صور لا حقيقة لها أو إلى مظاهر لا باطن لها.
أسباب الهزيمة في مجال الإعلام
أخيراً المجال الخطير: وهو مجال الإعلام الذي يغير في الأمة، ويرسخ فيها كثيراً من مجالات الانحراف والأخطاء العقدية والسلوكية والفكرية، ويظهر ذلك من صور شتى كثيرة، أبرزها وأهمها: وجود التناقض بين الحكم والواقع، فبينما يأتي البرنامج الذي يسمى برنامجاً دينياً وينشر فيه أن حكم الغناء الحرمة، وحكم الرقص الحرمة، ثم بعده يأتي هذا الغناء وهذا الرقص! فيشعر الناس بالتناقض أو أن يقبلوا هذين، على أن كلاً منهما له حكمه كما يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو أن يضطرب الناس فيظنون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، إضافة إلى ما يسلط على الأفكار والمعتقدات من انحرافات، فضلاً عما يفتك بالمسلمين من قضايا الانحراف السلوكي عبر الخلاعة والمجون وغير ذلك.
ثم أمر مهم وخطير وهو: تعظيم الأجنبي غير المسلم، وإعطاؤه صورة من الحضارة والعلو والرفعة، حتى إنه لا يظهر إلا بصورة الممجد المعظم، بينما غيره من المسلمين لا يعطى مثل هذه الصورة.
وأيضاً: تسليط الأضواء في مجتمعات المسلمين ليس على الأخيار، ولا على الأبرار، ولا على الدعاة العاملين، ولا على العلماء المخلصين، وإنما تسلط الأضواء على من تاريخهم يشهد بخيانتهم للأمة،(1/1619)
وانحرافهم عن نهج الله عز وجل، وإن كانوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا )، فهذه المجالات كلها تكرس أسباب الهزيمة وصورها في واقع المجتمعات؛ ولذلك البشائر التي تبدو في الأفق من هذه الصحوة الإسلامية ينبغي أن تعلم أن البداية هي في علاج هذه الانحرافات والأخطاء، وفي وقف سير الأضرار التي تجرف المجتمعات المسلمة من جراء هذه الميادين والمجالات، وأيضاً أن تعلو بإذن الله عز وجل راية الحق والجهاد.
وقد ظهر للمسلمين عياناً أن الأمة إذا ارتبطت بدينها، ورفعت شعار التوحيد، وأرادت أن تقاتل وتحارب، وأن تواجه أعداءها باسم الله، راجية من الله عز وجل أن يحقق لها النصر كما ظهرت صور ذلك أيضاً في كثير من المواطن والبلاد الإسلامية هنا وهناك.
ـــــــــــــــ
النفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى أن وفقنا بالإسلام إلى الطاعة، وهدانا بالإيمان إلى الاستقامة، وأمدنا من اليقين بالقوة، ووفقنا بالإسلام إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية.
له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب:70-71].(1/1620)
أما بعد:
أين الخلل
أيها الإخوة المؤمنون! في مثل هذه الأيام من كل عام يدور بالخواطر والعقول، ويجيش في المشاعر والنفوس، ويتغير إلى حد ما في واقع الأحوال والأعمال شيء في واقعنا العام، وفي حال كل فرد منا، فنحن مع هذا الموسم العظيم، والفريضة الجليلة، والأيام المباركة، والعبادات الصالحة، نعزم عزائم وننوي نوايا ونجدد عهوداً، ونحدث في عقولنا ونفوسنا صوراً مشرقة وضيئة لصفحات قادمة جديدة، ولا أظن أحداً منا لن يمر به مثل ذلك، سواء من حج وعظم أمله في مغفرة ذنوبه، وبداية صفحة جديدة، أو من لمن يحج واغتنم ذلك الموسم العظيم، والعشر الفاضلة، بصيام وقيام وذكر وإنفاق وطاعة وأضحية وتقرب إلى الله عز وجل.
لكن السؤال هنا: كم من همة علت ثم سفلت؟ وكم من عزيمة أبرمت ثم نقضت؟ وكم من صحيفة جديدة فتحت ثم أغلقت؟ ما القصة إذاً؟! هل نحن نكذب؟! وعلى من نكذب؟! هل نكذب على أنفسنا؟! فمثل هذا غباء، أم نكذب على الخلق؟! فإن هذا هو عين الرياء، أم نكذب -عياذاً بالله- على الله؟! فإن هذا هو محض الافتراء.
ما القصة إذاً؟! لا أظن أحداً عندما عزم تلك العزائم ونوى تلك النوايا كان كاذباً، بل كان في أعظم لحظات صدقه، وأصفى لحظات تجرده، وأصدق لحظات إخلاصه، ما الأمر إذاً؟! هل نحن جاهلون لا نعرف وجوب الفرائض أو لا نعرف حرمة المنكرات؟! هل نحن لا نعرف فضيلة الأعمال في الصفوف الأولى أو في الصلوات أو في الإنفاق والزكوات! هل منا أحد يجهل هذه الأصول العامة التي تحرك إيمان القلوب، وتبعث همم النفوس، وتمضي الأعمال في واقع الحياة؟ أظن أن أكثرنا -إن لم يكن كلنا- لا يجهل مثل ذلك، فأين المكمن والخطر؟ وأين الداء والمرض؟ وما بالنا نمضي ثم نتوقف؟ ونتقدم ثم نقهقر؟ سؤال أعتقد أنه الآن وضح في أذهانكم، وتشوقنا جميعاً إلى أن نبحث عن إجابته، وإلى أن نعرف العلة، وهنا سنعرف الأمر، والفرق بين العزائم والهزائم.
كيف تمضي العزائم إلى آفاقها السامية، وإلى ذراها العالية، ولا تعود هزائم تضعف بها الهمم، ويتضعضع بها اليقين، وتزوي بها شمعة الإيمان في القلوب.
هنا أمر مهم، وهنا مكمن خطر عظيم، أحسب أنه بالنسبة لنا هو الداء الدوي، ومكمن والخطر الخفي، إنه ضعف العزيمة والإرادة، إنه الكسل والخور والعجز، إنه الاستسلام للضعف والراحة والدعة، إنه الركون إلى الدنيا والاغترار والانشغال بها، إنه قطعاً ليس جهلاً؛ فنحن بحمد الله نعرف الأحكام الأساسية، من واجبات ومحرمات ومن فضائل الأعمال وما يقابلها من رذائل المنكرات، إذن فهنا وقفتنا المهمة بين العزائم والهزائم.
كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يهديه(1/1621)
يقول ابن القيم رحمه الله: كمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: 1- همة ترقيه.
2- وعلم يبصره ويهديه.
علم تقع به البصيرة، وتتضح به طريق الهداية، لكن ذلك لا يكفي، فإن الطريق واضحة، وإن المعالم ظاهرة، لكن العزائم ضعيفة خائرة، والهمم باردة فاترة، فلا تبعث حينئذٍ قوة للحركة ولا عزيمة للمضي، ومن هنا لابد من همة ترقي بعد علم يهدي.
وهنا كذلك يبين ابن القيم رحمه الله: أن الهمة مبدأ الإرادة، وأن أعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف على مراده الديني الأمري، فمن فعل ذلك فإنه يريد الله ويريد مراده، وحينئذٍ تحصل الفائدة الأولى وهي التوجه الصحيح إلى الغاية المنشودة.
ومبدأ كل طريق تسلكه أن تعرف الغاية التي تنتهي إليها، والطريق الموصل إلى هذه الغاية، ومن هنا فإنه لابد لنا أن ننتبه إلى ذلك، ونحن ندرك تماماً أن إيجاز القول في هذا جاء في كتاب الله في آيات كثيرة، من أظهرها قول الحق سبحانه وتعالى في بيان حقيقة هذه الحياة كلها: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163].
إذاً لابد أن نوجه الغاية، ونحدد المسار الواضح في قول الله جل وعلا: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران:31]، تلك هي الغاية: محبة الله وطلب رضوانه، وتلك هي الطريق التي رسمها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فنحن نترسم خطاه، ونتبع سنته، ونعرف طريقته، ونترسم منهجه، وندرك كيف عالج أدواء القلوب، وأمراض النفوس، وضلال وزيغ العقول، وانحراف المشاعر والعواطف، واختلال العلائق والروابط.
ثم أمضي مرة أخرى لنرى المكمن الذي نتحدث عنه، وهو ضعف الهمة والعزيمة، ذلك أنّا إذا بدأنا شيئاً لم نمش فيه خطوات حتى نتوقف أو نتراجع، إن هذه المسألة متعلقة أولاً بالبواعث النفسية القلبية، بالإيمان واليقين، بالمحركات والعواطف الإيمانية شوقاً إلى الله، وصدقاً في التعامل معه، وقوة في الثقة به والاعتماد عليه والتوكل عليه، تلك هي المشاعر الأولى.
مدى أثر النية في استنهاض الهمة
يقول الغزالي رحمه الله: (النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحداً، وهي حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة، لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلابد وأن يعلم، ولا يعلم ما لم يرد، فلابد له من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال وإما في المآل).(1/1622)
ذلك فهم دقيق، إن خفايا النفوس والقلوب تكمن في هذا الأمر، فإن صدق الإيمان، ورسخ اليقين، وخلصت النية، وجدت الهمة والعزيمة المرتبطة بالغاية الصحيحة، وهي رضوان الله عز وجل، والمؤسسة على العلم الصحيح من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ اكتملت أسباب المسيرة الصحيحة بهمتها العالية، وعزيمتها الماضية، ومنهجيتها الواضحة، كما كان على ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
نحن نرى في سيرهم، وفي سير كل المؤمنين إلى عصرنا هذا فكيف نرى الشوق إلى طاعة الله، كيف نرى الصبر والثبات على دين الله، كيف نرى الهمة والعزيمة في طاعة الله، أين وقود ذلك؟ إنه هذه المشاعر الإيمانية التي مبعثها القلب، بدءاًً من همة تتوجه نحو الله عز وجل ورضوانه، وإرادة تريد الإقدام في إنفاذ الأمر واجتناب النهي، حتى يكون لنا ذلك السمت الذي يتقدم ولا يتأخر ولا ينقص، ونسأل الله أن يعيننا عليه، والإنسان قد يصاب بالعجز إذا ضعف يقينه، ولكنه إذا تعلقت نفسه وأيقنت بمقابلة ربها في الآخرة اختلف الأمر.
كيف تنفق المال وتتخلى عنه إذا عظم يقينك بأنك تلقاه يوم القيامة أضعافاً مضاعفة؟! كيف تترك راحتك وتقوم ليلك وتضني جسدك إذا علمت أن ذلك يكون لك خيراً في دنياك وأخراك؟! إذا عرفت الأجور والثواب، إذا عرفت البركة والتوفيق، إذا عرفت الهدى والتسديد، إذا عرفت كل هذه الثمرات تحركت همتك وانبعثت، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق القلوب بالآخرة حتى نصل إلى مرتبة الإيمان كما كان الصحابة، لقد جادوا بأنفسهم وأرواحهم طلباً لحياة خالدة لا تنقطع، تركوا نعيم الدنيا لنعيم لا ينفذ.
وكان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يبيت اليوم واليومين والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، وكان لو شاء لدعا أن يحيل الله له الصفا والمروة ذهباً، ولكنه قال: آكل يوماً وأجوع يوماً؛ لأن ما عند الله أعظم، { مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )[النحل:96]، يوم نحرر هذه المعادلة تحريراً علمياً ونترجمها إلى شعور نفسي يستولي على القلب والنفس، فحينئذٍ يكون انطلاق عظيم بإذن الله سبحانه وتعالى.
ثم ننظر كذلك إلى أمر الدعاء والاستعانة بالله عز وجل، فإن الإنسان ليس له من أمر يحققه إلا بعون الله عز وجل: إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
عوائق في الطريق
ولنعرف العوائق في آخر كلمة في هذا المقام، إنها كما أوجزها ابن الجوزي رحمه الله بقوله: (رؤية الهوى العاجل، والتسويف بالتوبة، ورجاء الرحمة).
ورجاء الرحمة ليس فيه شيء، لكنه دون معرفة العقوبة، رؤية الهوى العاجل، أي: رؤية الشهوة واللذة بمشاعر الهوى والمحبة، فإنها تعمي البصر والبصيرة عن الأخطار والأضرار في تلك المعاصي.(1/1623)
إن الشهوة تدعو إلى ممارسة الفاحشة بالزنا عند من ينظر إليها بالهوى، فلا يراها إلا جمالاً مشرقاً، ولذة جميلة، وهوى ومحبة رائعة، لكنه ينسى حينئذٍ -وقد غشي على بصره- الأضرار النفسية والقلبية والشرعية والعقوبات، وكأنه لا يعرفها مع أنه يعرفها.
لذلك فإن رؤية الهوى العاجل خطر، فانظر في كل شهوة ولذة إلى ما وراءها، وإلى صورتها الحقيقية في دين الله عز وجل، بل وفي واقع حياة الإنسان وفطرته السوية.
ثم كذلك تسويف التوبة وتأخيرها، فإنه لو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت قبل التوبة.
وأخيراً بالنسبة لرجاء الرحمة فالمقصود به مع نسيان العقاب، والله جل وعلا قد بين أنه هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، فالله الله ونحن في هذه الأيام المباركة، وبعد هذه الفريضة العظيمة، وهذا الموسم الجليل، وقرب انتهاء عام وابتداء عام أن نجدد النية والعزيمة، ونصدق الله عز وجل في أن نغير أحوالنا إلى الأفضل والأحسن، وأن نقوي عزائمنا وهممنا، وأن نعزم على ألا نستسلم لضعفنا وكسلنا، وأن نحيط أنفسنا وإيماننا بسياج منيع مباعدةً للمعاصي والمنكرات، والترفع والتورع عن الشبهات، بل وكثير من المباحات.
أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يحفظ إيماننا ويزيده ويعظمه، وأن يرسخ يقيننا ويثبته، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يوفقنا للطاعات، وأن يصرف عنا الشرور والسيئات.
اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا اللهم من الظلمات إلى النور.
اللهم اجعل لنا من نور الإيمان ما يكشف الشبهات، واجعل لنا من محبة الطاعات ما يقوي العزائم والهمم، واجعل لنا اللهم من معرفة مغبة وأثر الذنوب ما يصرفنا ويبعدنا عنها يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وأمح أوزارنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم رحمتك(1/1624)
ولطفك بعبادك المؤمنين، اجعل لهم اللهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم استر بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد :الله صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام أصحاب الحضوة الرفيعة والمقام الجلي أبي بكر و عمر و عثمان و علي وعلى سائر الصحابة والتابعين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ـــــــــــــــ
صفاً! لهزيمة التطبيع.. لا تطبيع الهزيمة
د. عبد العزيز كامل
على الرغم من مضي أكثر من مائة عام على انطلاق المشروع الصهيوني في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م، واقتراب ما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) من إكمال الستين عاماً، بعد حرب النكبة عام 1948م؛ فإن مواقف الكثير من زعماء العرب ونخبهم السياسية والثقافية لا تزال تتخبط في فهم أبعاد هذا الصراع وإدراك أسراره، فضلاً عن الثبات في مواجهته للتغلب على أخطاره، وقد فضحت التطورات الأخيرة ـ وآخرها قمة شرم الشيخ بمصر، والقمة العربية في الجزائر ـ جوانب من هذا التخبط؛ حيث ظهر بعد كل ما مضى من عمر المواجهة، أنها لم تكن يوماً واضحة المعالم أو معروفة الغايات عند غالبية من تصدوا لها وتحدثوا باسمها؛ فالثوابت عندهم تتحول إلى متغيرات، والمقدسات تُجَرَّد من الحِمى والحرمات، وما كان ضاراً صار ضرورياً، وما كان محرماً مجرَّماً أضحى حلالاً أو واجباً في مسلسل جراءة وتهور لا يُعرف منتهاه.
ü لاءاتهم.. ولاءاتنا:
فبعد أن عشنا دهراً نسمع عن (الإجماع) العربي بلاءاته المشهورة «لا اعتراف.. لا تفاوض.. لا صلح مع الكيان الصهيوني» و... «لا تفريط في شبر... في بوصة... في حبة رمل من الأرض»، و... «لا تنازل عن: عودة اللاجئين... عن إعادة القدس... عن الانسحاب إلي حدود 1967م ... عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة....»، بعد كل هذا أصبحنا نسمع باسم الواقعية والعقلانية(1/1625)
والمصلحة الوطنية والإقليمية عن طروحات وشعارات في شكل لاءات من قبيل: «لا بديل عن السلام كخيار استراتيجي»... «لا جدوى من المقاومة»... «لا سبيل إلا مائدة التفاوض»... «لا حل عن طريق الحرب»... «لا أوراق إلا بيد أمريكا»... «لا لعسكرة الانتفاضة»... «لا فرار من حتمية التطبيع»... «لا أمل في عمل عربي مشترك»... «لا مجال أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على جهدهم الذاتي»... «لا مشروعية إلا للشرعية الدولية»!
وفي المقابل... نتحدى العلمانيين العرب، أن يكون (العلمانيون) أو المتدينون في دولة اليهود، قد تنازلوا عن (لا) واحدة من لاءاتهم الثابتة منذ قامت تلك الدولة؛ فالإسرائيليون يرفعون لاءاتهم ـ في السر والعلن، وبلسان الحال أو المقال ـ فيقولون: «لا عودة لحدود 1967م»، «لا تفاوض حول القدس بقسميها عاصمة موحدة وأبدية للدولة الإسرائيلية»، «لا تفكيك للمستوطنات»، «لا رجوع عن يهودية يهودا والسامرة» أي الضفة الغربية. «لا مجال لإعادة اللاجئين»، «لا جلوس ولا تفاوض مع مَنْ يحمل السلاح»، «لا ترسيم للحدود»، «لا تنازل عن بقاء الدولة خالصة لليهود»، «لا وزن لما يسمى بالشرعية الدولية إذا تهددت مصالح الدولة اليهودية»، «لا سماح بدولة فلسطينية إلا منزوعة السلاح مقطعة الأجزاء»، «لا صلح... لا تفاوض.... لا تطبيع... لا اعتراف متبادل، بل لا أمان لزعيم أو نظام إلا بعد التخلي (نهائياً) عن الدخول كطرف في الصراع ضد دولة (إسرائيل)»!
ومع أن اليهود لم يتنازلوا يوماً عن شيء من تلك اللاءات، قولاً أو عملاً، بل حشدوا لأجل حمايتها قواههم الذاتية والمتعدية؛ فإن العرب ـ في ظل العلمانية المتخاذلة ـ ساهموا في حفظ لاءات اليهود من أن يمسها ضعف أو انتقاص؛ حيث عطلوا جُل عوامل القوة في الأمة، وأبطلوا كل سلاح كان يمكن لها أن تستعمله للدفاع عن حقوقها المشروعة ديناً وعرفاً وقانوناً؛ فلا الحروب في نظرهم مجدية... ولا المقاطعة أو المقاومة مغنية... ولا الدفاع المشترك أصبح صالحاً.. ولا النفط عاد سلاحاً... ولا دعم المجاهدين صار مباحاً... لا سماح بفتح الحدود، بما يهدد أمن اليهود!
لا، بل إن الأمر لم يعد تبرعاً بشل قوى الأمة وفلّ أسلحتها، بل تجاوز ذلك إلى (دعم) ... نعم! دعم العدو، في كل مجال يمكن أن يُدعم فيه... كالتسابق في دعوتهم لحضور المؤتمرات... وفتح السفارات والقنصليات، ومكاتب تبادل «المصالح» والاستشارات وتعاون الاستخبارات.
ووصل الاستهتار بأمر القضية إلى أن تصبح مثاراً للهزء والضحك في اجتماع قمة الدول العربية؛ حيث استمع العرب والعالم معهم إلى «فيلسوف العرب» في حديث هراء مخرَّف يدين فيه أمجاد الجهاد في فلسطين، ويصف أصحابه السابقين واللاحقين بالغباء مرة، وبالإرهارب أخرى، ويتهم من لا يزالون يخلصون للقضية بالجمود وعدم الواقعية التي أصبحت تفرض القبول بدولة (إسراطين) كجماهيرية شعبية اشتراكية ديمقراطية فلسطينية إسرائيلية يهودية عربية عبرية... عظمى...!(1/1626)
ذلك ما كان في مؤتمر قمة عربية (عادية) في ظروف غير عادية، لم يتسع الوقت فيها ليستمع العرب إلى ما اتُّخذ من قرارات وتحركات لمواجهة الاستمرار في بناء الجدار الذي وصل إلى عزل مدينة القدس عن محيطها، ليستفرد بها اليهود، ولم يكف وقت المؤتمرين لمناقشة ما سوف يفعلون إذا نفذ المتطرفون اليهود خطتهم المعلنة باقتحام المسجد الأقصى في وقت قريب. ولم تسنح الفرصة لمناقشة كيفية التوحد في المواقف قبل اجتياح سوريا أو استباحة لبنان، وكذا لم يكن هناك وقت لاستصدار قرار بالوقوف مع السودان ضد محنة التقسيم، ولا كانت هناك فرصة لمناقشة استحلال (الفرس) في إيران للعراق، بعد احتلاله من الأمريكان، إنما كان الهاجس الكبير الذي سيطر على الأجواء قبل وبعد الانعقاد هو التوجه نحو التطبيع (الجماعي) بإجماع طبيعي، يتفق عليه الكل، مع فارق (بسيط) في «الاجتهاد» بين من يرون الدخول فيه قبل حل القضية الفلسطينية، ومن يرون عدم إضاعة الوقت، وانتهاز الفرصة عاجلاً، ولو لم تحل القضية.
يراد الآن بكل ما هو شاذ و (غير طبيعي) من الوقائع والمتغيرات الحادثة بسبب العدوان اليهودي على العرب والمسلمين، أن يتحول إلى شيء (طبيعي جداً) في ظل هرولة عجلى طائشة، وراء سراب التطبيع المخادع، وليت الأمر سيقتصر على المستويات الرسمية، ولكن المقصود به في الأساس هو الإحاطة بالمحيط الشعبي ليدخل التطبيع بكل سوءاته في جملة مسلَّماته.
- فالعَلَم الإسرائيلي الذي لا يزال يحمل بخطيه الأزرقين حدود التوسع الإسرائيلي ـ من النيل إلى الفرات ـ سيكون متعيناً على الأجيال بين النهرين أن تراه مرفرفاً على البلدان والمدن الممتدة بينهما، بل ترى بأعينها رمز قبلة اليهود (النجمة الدالة على الهيكل) تتراقص بينهما فوق بنايات السفارات، ووسط الأعلام والرايات (الشقيقة والصديقة).
- وسوف يتعين على الأجيال أن يكون شيئاً اعتيادياً لديها، أن تسمع معزوفات التحية العسكرية في الاستقبالات الرسمية، تتخللها الانحناءات والتحيات لذلك العلم وما يحمله، وللشخصيات التي تمثله.
- وستُطالب الأجيال ـ في ظل ذلك التطبيع ـ ألا تتحرج من وضع كلمة (إسرائيل) بدلاً من (فلسطين) على الخرائط في الكتب والصحف والمجلات وشاشات الفضائيات (1) وغيرها، وسيكون مطلوباً من تلك الأجيال ألا ترى غضاضة وهي تشاهد على الشاشة بعض الساسة وهم يلقون الكلمات الودية تحت قبة الكنيست الإسرائيلية، وهي لا تزال تحمل على واجهتها العبارة التوراتية (لنسلِك أعطي هذه الأرض، من نهر الفرات الكبير إلى نهر النيل).
- وفي ظل التطبيع سيُنكَر على من ينكرون فتح أبواب الفتن الأخلاقية والتحرشات الأمنية والتشوهات المنهجية والتضييق على الأحرار وبخاصة الإسلاميين بقصد خنق الصحوة وتحويلها إلى غفوة بل كبوة، بعدما تبين أن تلك الصحوة هي الشيء الوحيد الباقي في عالم العرب والمسلمين، الذي يملك (الفعل) ولا يكتفي برد الفعل.(1/1627)
ليس المطروح في مشاريع التطبيع، أن يكون مجرد (مرحلة) من هدنة يقبل بها العرب والمسلمون اضطراراً بسبب ضعفهم (المؤقت) كما يفهم بعض من يُفتون بجواز التطبيع بعد الصلح مع من يجنح إلى السلم، ولكن المطروح أن يكون هذا التطبيع ذا أثر جذري في تغيير العقليات والنفسيات، حتى تقتنع بعد عجزها وكسرها؛ بتفوق العدو واستحالة قهره مع حسن الظن في «تحسن» خلقه واستمالة قلبه من أجل سلام (دائم وشامل).
وهنا أمر هام ينبغي التنبه له عند النظر في الفتاوى والأحكام المتعلقة بمعاهدات الصلح واتفاقيات التطبيع، وهو أن هناك فرقاً جوهرياً، بين أحكام الهدنة والصلح التي تحدَّث عنها الفقهاء والتي يمكن أن يضطر إليها المسلمون مع بقاء الأعداء أعداء، والأولياء أولياء، ومع احتفاظ المسلمين بحقهم في الأخذ بأسباب القوة وحرية الاختيار، والاحتفاظ بالخصائص والثوابت والحقوق؛ وبين هذا المصطلح الغريب الجريء الشاذ البشع الذي لم يقره شرع ولم يعرفه عُرف طوال تاريخ هذه الأمة، وهو مصطلح (التطبيع) مع العدو المغتصب مع بقاء عداوته واستمرار اغتصابه.
إن تسويغ ذلك التوجه باسم الدين أو حتى المصلحة، أمر لا يقول به إلا أخرق أحمق أعمى البصيرة، متفلت العقل والعقال؛ فإذا كان التطبيع المطروح تعميمه يرمي في جملته إلى نزع العداء (من جانب واحد)؛ فإنه يستلزم بداهة نزع السلاح قبل نزع العداء، وخسئ من ادعى أن الله يرضى لنا أن نكون أمة منزوعة السلاح.
من بدهيات الإيمان والأحكام أن تطبيع العلاقة (بمعنى الموالاة والمودة والمحبة وتبادل النصح والنصرة) لا تكون إلا بين المؤمنين؛ فالتطبيع بهذا المعنى مع المؤمنين إيمان، ومع المنافقين نفاق، ومع الظالمين ظلم، ومع الفجار فجور، ومع الكفار كفر... والتطبيع بالمعنى الذي سترد تفاصيله، والذي يجري تفعيله هو في حقيقته ولاية، والولاية لا تجوز إلا لمسلم. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 1 - 2] .
ü عندما يغلب الطبع التطبع... والتطبيع:
باعتبار أن اليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ فإن العلاقة معهم ـ كأعداء ـ لا يمكن أن تستوي مع بقية الأعداء، وبخاصة أنهم يجمعون بين طباع الضباع والسباع في خستها ودناءتها، وقسوتها، وهو ما يجعل استقامتهم مستحيلة في التعامل مع البشر؛ فهكذا خُلقوا، وهكذا وُصفوا، وهكذا سيظلون إلى يوم القيامة: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ(1/1628)
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [المائدة: 13] ، {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 60 - 64] ؛ فهذه أخلاقهم وبخاصة مع المسلمين كما قال ـ تعالى ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
لماذا يطبّعون إذن ما دامت هذه طباعهم..؟ يمكن إرجاع ذلك إلى ما يلي:
- الاستراتيجية اليهودية تقوم على التوسع والسيطرة، بالسلم أو بالحرب، ولما كانت الحرب غير قابلة للاستمرار على الدوام {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] ، فكان لا بد من صور أخرى لحرب صامتة وساكنة إلى جانب نمط الحرب الصارخة والساخنة، بحيث يظلون في حالة استنفار دائم، يمكِّنهم من إرباك وإنهاك الخصوم، مرة بالقتال في الساحات، ومرات بالمراوغة وإضاعة الأوقات في المباحثات والمفاوضات.
- أن الأفعى اليهودية التي تقضم في غضون كل عقد زمني (منذ حرب 1948م) قضمة من أراضي المسلمين، تحتاج إلى هضمها بعد قضمها، في فترة من الهدنة أو (الاستراحة) التي تكفي لارتخاء القبضة، وترهل القوة عند (الأغيار) وما يسمح بوقت كافٍ للتجهيز لمرحلة جديدة، يفاجئون بها العرب من جديد، ويقلبون في وجوههم طاولات المفاوضات ـ كما حدث عام 2000م ـ وينكثون ما سبق أن أبرموا من عهود وعقود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] .
- نظرية (الحدود الآمنة) التي طرحها (شيمون بيريز) الزعيم الإسرائيلي المبشر بالسلام النووي، في خطته «السلمية» التي عرفت بـ (الشرق أوسطية) تتلخص فكرتها في ضرورة صهر شعوب المنطقة في هوية جديدة، هي الانتماء إلى الشرق الأوسط بدلاً من الإسلام أو العروبة، فلا يكون الانتماء فيها للديانة أو العرق، بل للمنطقة، حتى يصبح اليهود جزءاً من نسيجها الظاهر، مع احتفاظهم الباطن(1/1629)
بكل خصوصياتهم، وحرصهم في الوقت نفسه على تمييع خصوصيات من حولهم، حيث يكون هذا التمييع هو جوهر التطبيع.
- إذا كانت الحروب الساخنة هي أقصر الطرق للسيطرة على الأرض؛ فإن الحروب الساكنة هي أضمن الطرق للهيمنة والاستحواذ على ما فوق هذه الأرض، والتطبيع ـ على النمط الإسرائيلي ـ هو الوسيلة المثلى في ذلك؛ لأنه يقرِّب من القدرة على الاختراق في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية والأمنية.
- اليهود رغم شدة بطشهم عند القدرة، هم قوم جبناء، يسكنهم الرعب الدائم والذعر المزمن الذي ينتاب السرَّاق والمجرمين المطاردين، والتطبيع هو طريقهم الوحيد للتخلص من هذا الكابوس، عندما يوقِّع لهم زعماء المنطقة تباعاً أنهم لن يحاربوهم وإنما سيحاربون من يحاربهم، ولهذا فإن البنود الأمنية هي أهم بنود كل الاتفاقيات السابقة للتطبيع، وأهم موضوعات المفاوضة والمقايضة في السنوات الأخيرة حتى كادت القضية كلها أن تكون قضية أمنية، لا تتباحث بشأنها إلا أجهزة المخابرات.
- مجموعة المفاهيم الإسلامية التي تدفع إلى استمرار روح المدافعة لدى العرب والمسلمين، مثل حب الجهاد والرغبة في الاستشهاد، وافتداء الدين والأرض والعرض.. كل ذلك يؤرق أحلام اليهود، ولا بديل عندهم من محاولة خلخلة تلك المفاهيم، مع السعي لإزالة ما ترسخ في الوجدان العربي والإسلامي من اعتبار اليهود أشد الأعداء، الذين يهددون أقدس المقدسات ويتجاوزون كل المحرمات.
- والعدو دائماً يحتاج إلى آلية، لتوظيف قطار المنافقين بين صفوف المسلمين، واستثمار نشاط المفسدين والجواسيس والخونة، على أيدي عناصر الاختراق التابعة له أو المتعاونة معه، ولا آلية أنسب لذلك من التطبيع.
- وإذا كان تقسيم البلدان العربية المحيطة بإسرائيل هدفاً يطول وقت الوصول إليه، فلا أقل من التعجيل بتقسيم مواقف تلك البلدان، وتجزئة جبهاتها، بحيث ينفرد العدو بكل طرف في مسار منفرد، ودهاليز خاصة، محجوب بعضها عن بعض بأسوار من الجدار العازل للثقة، والحاجب للبصيرة، ولهذا تكررت مهازل (الصلح المنفرد) فانفردت السياسة المصرية بعد كامب ديفيد، ثم انفردت منظمة التحرير للوصول إلى أوسلو، وانفردت الأردن لإبرام (وادي عربة)، ثم اشترط الإسرائيليون على السوريين واللبنانيين أن يدخلوا في مسارات منفردة.
- ولعل من أخطر أهداف التطبيع ـ إضافة إلى ما سبق ـ حرص اليهود على إلجاء العناصر الفاعلة في الأمة ـ وعلى رأسهم الإسلاميون ـ إلى التسليم بالعجز، والاقتناع بالانصراف إلى معارك أخرى غير المعركة الكبرى، التي شرع الجميع ـ إلا من رحم الله ـ يتسللون عنها لِواذاً.(1/1630)
لكل هذا وغيره كان التنويع بين الحرب والتطبيع لدى اليهود حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً، وقد تنوعت أشكال هذا التطبيع، وتعددت من ثَمَّ مخاطره، وأخذت ألواناً سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية وتعليمية وإعلامية وأيضاً... أمنية.
ü وأخطرها: التطبيع السياسي والدبلوماسي:
وهو أخطرها لأنه البوابة الرئيسة التي تلج منها بقية الأنواع؛ فعندما يمارس الكبراء والزعماء التطبيع تحت سمع الميكروفونات وبصر الكاميرات، فإنهم بذلك يقصون شريط الافتتاح أو يطلقون رصاصة البدء، وعندها تغدو العقول مشدودة مشدوهة لفهم ما يجري، ثم يتتابع انفراط العقد المنظوم؛ حيث لا تكتفي الحكومات بأن يقتصر التطبيع عليها، فينحصر العار فيها، بل هي تستخدم كل قواها لتصوير التطبيع على أنه (إرادة الأمة) و (مطلب الشعب) و (مصير الجماهير)! وأن معارضيه مجرد «زمرة» غير مسؤولة، أو «شرذمة» ذات عقلية غير ناضجة، وتبدأ حملات التعاون الإعلامي والأمني لإثبات أن القرار التاريخي ـ للزعيم ـ هو الخيار الاستراتيجي للأمة، وأن هذا القرار هو رأس الحكمة، وعين الصواب، والفراسة التي سبقت عصرها!
إزالة الحواجز ـ بالتطبيع ـ تبدأ أولاً على مستوى السياسيين والدبلوماسيين؛ فالتطبيع السياسي يبدأ باتصالات سرية، ثم مصافحات خجولة علنية، ثم لقاءات وجلسات تعقبها مباحثات لإبرام المعاهدات الشاملة لبقية أنواع التطبيع، والبداية دائماً على يد وسطاء مشبوهين، يجمعون بين رأسين في (الحرام السياسي).
تفيض مذكرات واعترافات من شاركوا في مثل هذه المفاوضات، أن البداية المتعمدة دائماً في اللقاءات، كانت تقصد إلى ما يسمى: (إزالة الحواجز النفسية) أو قل رفع الحياء بين المسؤولين من الطرفين، حيث يجلسون سوياً على «مائدة عمل» يتبادلون خلالها الطعام، والكلام والابتسام، وربما النكات و (القفشات)، وسط أنخاب (الصداقة) الجديدة الجريئة التي تزيح الرواسب و (العقد) وتريح النفوس من هواجس العداوات (المصطنعة) والأحقاد (التاريخية) التي عفى عليها الزمن! ولا بأس بعد ذلك من مسامرات وسهرات وزيارات وجلسات ـ ربما تكون عائلية ـ مع شيء من المباريات الرياضية، والحفلات الفنية... حتى يتروض المتفاوضون السياسيون (نفسياً) على وضع طبيعي، أو تطبيعي، يجعل كلاً منهما (يتفهم) الآخر، ويكون أكثر (ليناً) وأكبر (عقلاً) وأقدر على (العطاء!) (1) .
ولا غرابة بعد هذا أن تجد هذا السياسي العربي «المكافح والمناضل»، وقد تذلل لسانه بعبارات من قبيل (حق اليهود في الوجود)، (إسرائيل وُجدت لتبقى)، (حتمية الخيار السلمي)، (عقلانية القبول بالواقع) و (ضرورة الاعتراف بالآخر) ... مع أن هذا «المهذب» سرعان ما يتحول إلى مخلوق آخر،(1/1631)
إذا كان هذا (الآخر) المطلوب الاعتراف به هو الشعب نفسه الذي يعلن معارضته، أو يكون هذا (الواقع) المراد القبول به هو الضرر الذي يتأكد حصوله.
ü التطبيع الاقتصادي... استراتيجية التسميم:
يعتمدون على دعوى أن العرب استنزفوا مواردهم الاقتصادية في النفقات العسكرية خلال حروبهم (الخاسرة) ضد «إسرائيل»، ولو أنهم استخدموا هذه الطاقات في بناء مجتمعاتهم، لوفروا للشعوب الرفاه والاستقرار والأمن، ودعم المنظمات الدولية السياسية الاقتصادية!
كلام يقال لاستثارة غرائز الجشع والأنانية، التي تُجبَل عليها النفس الإنسانية عند ضعف الإيمان، حيث يلهج الأفراد والمجتمعات بعد الفتنة بهذا الدجل، بشعار من وحي الشيطان يقول: (أنا... ومن بعدي الطوفان)!
ومع خسة هذا الشعار ودناءته؛ فإن مردديه (الواقعيين) يتعامون عن عدم واقعيتهم؛ فمصر ـ مثلاً ـ التي تخلت عن نهج المواجهة وتكاليف (المجهود الحربي) منذ ربع قرن؛ لم يتحسن أداؤها الاقتصادي ولا مستواها المعيشي، بل الجميع يعرف أن الشريحة الأوسع من الشعب المصري، وهي الطبقة المتوسطة اقتصادياً، كادت تختفي ليبرز في الصورة شريحتان هما: الطبقة الفقيرة المعدمة، والطبقة الغنية المتخمة، وهو ما يعكس واقع الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي أوصلت معدل البطالة إلى 10.5% وإجمالي الديون الخارجية إلى حوالي 30 مليار دولار، والديون الداخلية إلى نحو 300 مليار جنيه، حتى أصبح نصيب كل فرد من الشعب في الديون 6600 جنيه بما أوصل نسبة الفقر إلى 55%، بحسب التقديرات الدولية لحد الفقر، و25% بحسب التقديرات المصرية بعد أن كان مبرمو اتفاقية كامب ديفيد قد وعدوا الشعب بالرفاه والرخاء طبقاً لمشروع (مارشال) الذي وعدت به أمريكا، وظروف كل من الأردن وفلسطين ـ في ظل اتفاقات السلام، ليست أفضل من هذا؛ فالشعب الفلسطيني في ظل (أوسلو) لم يزدد إلا معاناة وعوزاً، بالرغم من أن الوعود كانت تأتيه بتحويل أراضي السلطة إلى سويسرا الشرق!
ولقناعة الأمريكيين بأن سياسات التطبيع الاقتصادي ـ في ظل الجشع الإسرائيلي ـ ستؤدي إلى نتائج محرجة؛ فقد تعهدوا مبكراً بتقديم «مساعدات»، مالية، هي في حقيقتها مقايضات سياسية، لتجميل قبح المقايضة من ناحية، ولتطويل عمر الصفقة من جهة أخرى، حيث إن قبح المقايضة مخيف، وثمنها فادح، فعلى المصريين في مقابل تقاضي 2 مليار دولار سنوياً، أن يظلوا «متمسكين» بالتخلي عن فلسطين وما قد يلحق بها، فلا يمدون يداً للمساعدة إلا على المستوى الدبلوماسي والسياسي و... الأمني!
إضافة إلى أن ما يأخذه المصريون باليد اليمنى، تسرقه (إسرائيل) باليد اليسرى، على شكل تسهيلات وضمانات واحتكارات اقتصادية، لعل أخطرها وأقذرها احتكار بترول سيناء؛ حيث تحتكر (إسرائيل)(1/1632)
بمقتضى كامب ديفيد 80% من وارداته ولمدة 50 سنة منها، وبثلث السعر العالمي، وهو المادة التي لا يمكن بدونها تشغيل الطائرات ولا الدبابات ولا الغواصات، بل ولا المحطات النووية الإسرائيلية.
ومن جانب آخر فإن ما يتقاضاه المصريون مقابل الالتزام بأن تكون حرب أكتوبر 1973م هي آخر الحروب مع إسرائيل، تتقاضى (إسرائيل) أكثر منه دون أن تلتزم بأن تكون أي حرب هي آخر الحروب مع العرب؛ فهي تتقاضى أيضاً 3 مليارات دولار سنوياً، مكافأة على «التزامها» بعدم العدوان العسكري على مصر (فقط). في حين أنها تتقاضى لتوسيع العدوان على بقية جيرانها وجيران جيرانها ما لا يقل عن عشرات المليارات، فبين عامي 1976م وحتى عام 2000م بلغت المنح الأمريكية للدولة اليهودية أكثر من 90 مليار دولار، هذا بخلاف القروض المسهلة والمؤجلة والملغاة السداد.
وبمناسبة اتفاقية كامب ديفيد (السياسية) المنعقدة عام 1979م، فهناك «كامب ديفيد» أخرى اقتصادية، أبرمت بين مصر وإسرائيل في (عام الذبح) الفلسطيني 2004م، وهي اتفاقية (الكويز) التي تعني اختصاراً: (المناطق الاقتصادية المؤهلة)، وهذه الاتفاقية تعد اختراقاً إسرائيلياً جديداً، للاقتصاد العربي ـ بإخراج أمريكي ـ عبر البوابة المصرية، وهي تهدف إلى تحقيق الغاية التي عجزت عنها سياسات التطبيع في معاهدات السنوات الماضية، وهي: إدماج (إسرائيل) في المحيط العربي الشعبي الرافض لها.
وتعد هذه الاتفاقية هي باكورة إنتاج مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) الذي أطلقه جورج بوش، وهي تطبيق لبعض أفكار شيمون بيريز في مشروعه (الشرق الأوسط الجديد) الذي صدر في كتاب له بنفس الاسم عندما كان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، وهنا تلاقت أفكار الهيمنة والصهينة الأمريكية الإسرائيلية، الهادفة في النهاية إلى تفكيك المنطقة العربية ثم إعادة تركيبها وفقاً للمصالح اليهودية والصليبية، وقد وقع الاختيار على مصر في (كامب ديفيد الاقتصادية) كما وقع الاختيار عليها في كامب ديفيد السياسية لتكون البداية منها باعتبارها (الشقيقة الكبرى) التي «تقلدها» أخواتها الأخريات ولو بعد فترة من المعاكسات والمشاكسات.
الاتفاقية ظاهرها تأهيل الصناعات المصرية (وبخاصة صناعة النسيج) لتكون قادرة على المنافسة مع السوق الأمريكي، ولكن هذا التأهيل ـ ولاحظ الخبث ـ يحتاج إلى أن يكون داخل هذه الصناعة مكوِّن إسرائيلي بنسبة 11.7% ومكوّن أمريكي بنسبة 15%، وهو ما يعني أن تكون لهم شراكة مباشرة في صناعة النسيج المصري كبداية، حيث ستكون تلك الاتفاقية بداية لاتفاقيات شبيهة في صناعات أخرى؛ ووفقاً لهذه الاتفاقية ستدخل (إسرائيل) كعنصر أساس من عناصر تشغيل العديد من المصانع المصرية حيث سيستجيب الكثيرون بدوافع مختلفة؛ فأي دعوة مهما كانت شيطانية وإجرامية، ستجد من يستجيب لها، ثم يبحث عن مسوغاتها، وقد كشف رئيس اتحاد الصناعات الإسرائيلي في(1/1633)
بداية شهر مارس 2005م، أن أكثر من 400 مصنع مصري في مجالات الأنسجة والمعادن والجلود والأغذية قدمت طلبات لإقامة خطوط إنتاج مشتركة مع مصانع إسرائيلية في منطقة التجارة المصرية الإسرائيلية المشتركة، وقال المسؤول الإسرائيلي إنه من المتوقع أن ينمو حجم التصدير الإسرائيلي إلى مصر ليبلغ 100 مليون دولار سنوياً، وأنه سوف يتضاعف ليصل إلي مبلغ 200 مليون بعد أربع سنوات، وكثير من الدول العربية مرشحة للحاق بهذا الركب، وهو أمر لم يعد غريباً بعد أن بلغت قيمة التعامل الاقتصادي السري والعلني بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية ما قيمته 194 مليون دولار، رغم قرارات المقاطعة العربية، وهو ما يعني أن هذه الاتفاقية ستكون بداية للقضاء على ما كان يسمى بـ (استراتيجية المقاطعة العربية) مثلما قضت اتفاقية كامب ديفيد على ما كان يسمى بـ (استراتيجية الدفاع العربي المشترك)، وهو ما يقدم خدمة مجانية لدولة اليهود، ترفع عن كاهلها كابوس المقاطعة التي كبدتها بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مائة مليار دولار. والخدمة الأكبر التي تقدمها هذه الاتفاقية لـ (إسرائيل) هي أنها ستدعو بقية الدول إلى الاستعلان بالتطبيع بعد أن كانت
تستخفي به، وهو ما أعلنه (إيهود ألمرت) وزير التجارة الإسرائيلي بعد توقيع الاتفاقية. ومن الطبيعي أن تستهدف (إسرائيل) إضافة إلى ترويج سلعها في السوق العربية بهذه الاتفاقية؛ تحطيم البدائل الوطنية، حتى لا يجد المنادون بتلك البدائل عن المنتجات الأمريكية والإسرائيلية ما يشجعهم على الاستمرار في دعوات المقاطعة، إضافة إلى ما ينتظر من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية لـ (إسرائيل)، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر، ويذكر هنا أن اتفاقية الكويز أو (الكامبويز) لا تقتصر على التطبيع الاقتصادي، بل تتوسع إلى ما تبقى من مساحات لم يملأها التطبيع السياسي والثقافي.
والعجيب أنها جاءت بعد أربع سنوات من الإذلال السياسي للعرب جميعاً مشخصاً في الفلسطينيين؛ حيث لم يستطع العرب أن يفعلوا شيئاً لشعب ظل هدفاً للرماية المسعورة في عملية اجتياح مجنونة، ختمت بقتل ثلاثة من الرموز التي بقيت غصة في حلوق الإسرائيليين وهم: الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والرئيس ياسر عرفات، وجاءت بعد ثلاثة استباحات لساحات عربية وإسلامية، وهي فلسطين وأفغانستان والعراق، وجاءت بالتزامن مع برهنة (إسرائيل) على «احترامها» لكامب ديفيد السياسية، بإطلاق نيران دبابة إسرائيلية عمداً لقتل ثلاثة جنود مصريين في رفح داخل الحدود المصرية.
ü التطبيع الثقافي واقتحام المحرمات:
قد يقلل بعضهم من خطر التطبيع الثقافي وعدم جدواه في المنظور القريب، نظراً لمستوى الطموح الجامح الذي يتطلع إليه الإسرائيليون من خلال تطبيق أفكار ذلك التطبيع، وهذا صحيح إذا نظرنا(1/1634)
لفردية التحرك الإسرائيلي في هذا الجانب، ولكن الهجمة الأمريكية الأخيرة التي أصبحت رديفاً للمخططات الإسرائيلية في كل مجالاتها، أعطت هذا الأمر بُعداً أخطر؛ حيث أفصحت تفاصيل تلك الهجمة عن استهداف صريح للخصوصيات الثقافية للأمة باسم الحرب علي الإرهاب، وهي الحرب التي تتضمن في جانب كبير منها ما أسموه (التصدي لثقافة الإرهاب)! وهذه الثقافة (الإرهابية) كما يزعمون، لا تعني في الحقيقة إلا التوجهات الداعية للرجوع بالأمة إلى ثوابتها المأخوذة من منهج السلف، ولهذا فإن (التوجه المنهجي السلفي) يأتي الآن في مقدمة التوجهات التي تستهدفها الحملة الأمريكية، مرة بذريعة (التشدد الحنبلي) وتارة تحت وصف (التطرف الوهابي) ومرات أخرى باسم (الأصولية الإسلامية). فالحملة ليست قاصرة على محاربة العنف فقط، ولهذا فإن المتوقع هو أن تركز حملات التطبيع الثقافي في الحاضر والمستقبل القريب على محاربة مرتكزات التوجه المنهجي السلفي، بوجه عام لأنه يعكس هوية الأمة، إضافة إلى أنه أصبح خط الدفاع الأول عن ثوابتها، والرافد الأساس لما يمكن أن يسمى بـ (ثقافة المقاومة) في كل المجالات والساحات المستباحة في العالم الإسلامي، حيث أصبح (أهل السنة)، هم الفصيل الوحيد الفاعل في مواجهة الهجمة الصهيونية المشتركة بين أمريكا وإسرائيل وحلفائهما.
يدل على ذلك دلالة لا تقبل الشك، ما تضمنه مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي) الهادف في جوهره إلى إلجاء المنهج السني السلفي إلى أضيق الطرق، لإفساح المجال للبديل (الروحي) للشعوب، ممثلاً في التصوف والتشيع و (الاستنارة)!
والعجيب هنا، أن الأمريكيين الذين لا أصل لهم ولا تاريخ، يطالبوننا ـ لصالح اليهود ـ بالتخلي عن أصولنا الأصيلة اللاصقة بهويتنا وحضارتنا، والأعجب منه: أنهم يتجاوزون في الوقت نفسه عن تنامي المد (الأصولي) اليهودي في (إسرائيل)؛ حيث تقوم دعائم هذا الكيان على منهجية ثقافية عقائدية عنصرية تعود إلى ما قبل ألفي عام، ولا تجد من يطالبها بتغيير المناهج ولا تعديل الأفكار ولا الاقتراب من قيم التسامح والعدالة وقبول الآخر، ثم إنك تعجب ـ مرة ثالثة ـ من التطبيعيين العرب الذين لا يستحي أجلافهم من المطالبة بـ (نسيان الماضي) في تراثنا، ويلمزون هذا التراث بجملته بـ (الماضوية) و (الظلامية) في حين أنهم يتعامون عن تشبث أصدقائهم الطبيعيين من الإسرائيليين بإحياء مورثاتهم الثقافية المثبتة لدعواهم التي يطلقون عليها: (الحق التاريخي)، وهذا (الإحياء) يتضمن إعادة الاعتبار لكل ما هو عبري يهودي، ونزعه من كل ما هو عربي إسلامي، كنزع اسم فلسطين ليوضع مكانها (إسرائيل) ونزع اسم (القدس) ليوضع (أورشليم) ووضع اسم (يهودا والسامرة) بدلاً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وإعادة تسمية المدن والقرى والآثار بأسماء عبرية. وحتى المساجد والمعابد التاريخية يجري التغيير في اسمها ورسمها لمحو رمزيتها الثقافية والحضارية، فيتحول (المسجد الأقصى) إلى (جبل الهيكل) بكل ما يعنيه ذلك من توجهات خطيرة تهدف إلى تنفيذ أكبر عملية سطو حضاري(1/1635)
يتطلع إليه الإسرائيليون، لتغيب هذه الرمزية الثقافية والدينية الأكبر التي تربط العرب والمسلمين بفلسطين، وذلك من خلال ذلك المشروع الشيطاني المعاند لمسيرة التاريخ، والمتعلق بمخطط هدم المسجد الأقصى لبناء (الهيكل الثالث) مكانه؛ حيث يراد أن يقام هذا البناء العبري ليزيل التاريخ العربي الإسلامي بأكمله عن فلسطين، حتى تنشأ أجيال تقول: كان هنا فلسطين... كانت هنا القدس! كان هنا الأقصى، مثلما نقول نحن الآن ونحن ننظر إلى
خريطة جنوب غرب أوروبا ونقول: كانت هنا الأندلس.. كانت هنا إشبيلية.. كانت هنا غرناطة... كانت هناك دولة خلافة أموية... قبل الخلافة العثمانية، التي (كانت) في جنوب شرق أوروبا!
كل يوم يمر، يثبت لأعداء الأمة أن الإسلام هو سر ما تبقى من قوتها، بما تبقى من التمسك به؛ ولهذا فإن المعركة بمرور الأيام تتمحض مع ما يمثله هذا الإسلام من منهاج وثقافة ورموز وأتباع. يقول الكاتب الإسرائيلي (ألوف هارايفين): «هناك عقبات صعبة أمام التطبيع، وأهمها الموقف الثقافي والعقائدي للإسلام والعروبة تجاه (إسرائيل) واليهود، والحل يستدعي الاعتماد والارتكاز على ضرورة وجود برامج مركزة في المجال التعليمي والثقافي، بهدف تفتيت الملامح السلبية للموقف تجاه الآخر، وأحد الأسس الحيوية لبرنامج كهذا هو الرصد الشامل والتغيير العميق لبرامج ومناهج التعليم».
إن هذه المهمات التي يراها أعداؤنا (عقبات صعبة) يتبرع التطبيعيون بتسهيلها وتذليلها في معاهدات رسمية، تتحول مع الوقت إلى جزء من النظام العربي و (الشرعية الدولية).
ومثلما نصت معاهدة كامب ديفيد على رعاية الجانب الثقافي في التطبيع؛ فقد جاءت اتفاقية (وادي عربة) على الطبيعة نفسها، بل زادت في التفصيل، حيث نصت في المادة العاشرة على أوجه من التطبيع الثقافي، فقالت:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منها.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبادرات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
ج - أن يمتنعا عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية.(1/1636)
ü التطبيع الاجتماعي... قاع الضياع:
فالضياع في هذا المجال من التطبيع، هو هدف بحد ذاته؛ حيث لا يطمع الإسرائيليون ـ وقد لا يريدون ـ أن تذوب الحواجز الاجتماعية بينهم وبين (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) ـ يعني الأغيار الكفار ـ ولكن لما كان من دأب اليهود على مر التاريخ أن يستخدموا سلاح (الفساد الأخلاقي) ضد (الغرباء)؛ فقد كان متوقعاً منهم ـ إذا فتحت لهم الأبواب ـ أن يسارعوا إلى إغراق الأجواء العربية الاجتماعية بكل ألوان الإفساد، وبخاصة الإفساد الموجه لشريحة الشباب، وتشهد المناطق التي فتحت السياحة فيها للإسرائيليين كيف أن اليهود استغلوا هذا الجانب في دفع الشباب إلى أوجه متعددة من الانحراف الذي قد يصل إلى حد التجنيد للعمالة أو الجاسوسية أو القوادة، وقد سهلت تشريعات التطبيع هذه المهمة بالسماح باقتران اليهوديات المشبوهات من شباب العرب والمسلمين؛ حيث وصل عدد الزيجات المختلطة ـ على الجانب المصري في ظل كامب ديفيد ـ إلى واحد وعشرين ألف حالة..! هذا عدا عما يمكن أن يقام من علاقات ـ خارج القانون ـ بسبب الانفتاح السياحي الإباحي في المنتجعات والشواطئ والملاهي.
- ولم يخلُ الأمر من إفساد الأجواء الصحية إلى جانب إفساد الأجواء الأخلاقية؛ فهناك موجة من انتشار الأمراض الناشئة عن الانحلال الخلفي والممارسات المحرمة، إلى جانب إغراق الأسواق بأشكال وأنواع من المخدرات التي أصبحت في متناول الفقراء قبل الأغنياء، في ظاهرة لم يعرفها الشعب في مصر إلا بعد تمكين اليهود من ممارسة مهمتهم (الطبيعية) في إفساد الأجيال، كما دلت عليها بروتوكولاتهم المعاصرة التي تبرمج لتطبيق معتقداتهم وتصوراتهم القديمة في طرق إخضاع الأعداء.
ومن ضمن ما يستهدفه اليهود من وراء التطبيع الاجتماعي، أن يجدوا مدخلاً إلى وضع حد لظاهرة (الانفجار السكاني) كما تطلق عليه وسائل الإعلام العربية نفسها؛ حيث يعتقد الإسرائيليون أن هذا التوسع السكاني هو القنبلة الموقوتة التي تهدد وجودهم برمته ـ وبخاصة في فلسطين ـ التي بارك الله في نسلها كما بارك في أرضها، فيعمد الإسرائيليون إلى فعل ما يستطيعون لتقليل هذا النسل، إما بالترويج لوسائل تحديد النسل ـ من خلال عملائهم التطبيعيين ـ أو من خلال وسائل نشر أمراض التناسل، أو إيقافه بوسائل من التعقيم المباشر ـ بإشراف أوساط طبية مشبوهة، أو أدوية مانعة مغشوشة. وقد وصل الأمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة ـ كما يقول (عبد العزيز شاهين) وزير الصحة الفلسطيني السابق، إلى حد ترويج أنواع من علكة اللبان، التي تؤدي إلى العقم، حيث اكتشفتها السلطات الفلسطينية وصادرت منها ـ كما يقول الوزير ـ نحو عشرين طناً!
ü هراوات لا تخيف الأمة... وهرولات لا تُلزمها:
من مفارقات زمن الوهن الذي نعيشه، أن الهرولة العربية كانت تسوقها دائماً هراوة أمريكية في كل مرة تسارع فيها الأنظمة صوب عدوها، وقد اقترن التطبيع باسم أمريكا في كل مراحله السابقة بدءاً(1/1637)
من كامب ديفيد الأولى وحتى شرم الشيخ الأخيرة، فقد درجت الولايات المتحدة على أنها كلما صُفع العرب صفعة حرب، أتبعتها بصفقة سلام حقيقته استسلام، هكذا فعلت بعد حرب أكتوبر والثغرة وفك الارتباط (كامب ديفيد) وبعد حرب لبنان (اتفاق 17 مايو) وبعد حرب الخليج الثانية (مؤتمر مدريد ثم أوسلو ثم وادي عربة). وها هي بعد حرب الخليج الثالثة تطمع بالتنسيق مع (إسرائيل)، في حشد بقية الدول العربية وحشرها في سلك السلام... سلام (إسرائيل).
وقد اتضح بعد غزو العراق أن أمن (إسرائيل) كان يشغل أكبر هواجس أمريكا؛ حيث شرعت بعده مباشرة في الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى جعل إسرائيل جزءاً من المنطقة، ليتطابق ذلك مع مشروع الشرق أوسطية لبيريز، ولتتحول هذه المنطقة الشاسعة المحيطة بـ (إسرائيل) بعد تطويقها وتطبيعها، إلى فِناء فارغ لفضاء آمن، ولهذا سارعت أمريكا بشكل متسرع إلى الدعوة إلى برامج جديدة للتغيير» و «الإصلاح» الأمريكي الذي يستهدف إضعاف ما تبقى من مناعة الأمة ضد أي اختراق ثقافي أو حضاري أو سياسي أو اقتصادي.
لا نبالغ إن قلنا إن الوجه المدني من الحرب الأمريكية على ما تسميه بـ (الإرهاب) هو في حقيقتة نوع من تطبيع الهزيمة، وفرض التعايش السلمي معها، لا بحسابات السنين والأعوام، ولكن بحسابات الأحقاب والأجيال، ولهذا سارع شارون ببسط يده الحمراء ليضعها في يد بوش الغبراء، مبايعاً إياه على النصرة والشراكة في تلك الحرب المصيرية الشاملة.
أما الشعوب العربية والإسلامية في وسط كل هذا؛ فهي غير معنية ـ إذا خُيِّرت ـ بذلك التطبيع، ولو أجريت استفتاءات محايدة لتبين أن جُل الأمة تلعن كل سياسة تقرب من اليهود باعاً أو ذراعاً، في أي مجال من المجالات، وهنا ندرك عمق الهوة بين هوية الأمة وأهواء كثير من حكامها. ولكن نستطيع أن نقول: إن تلك الأهواء مهما كان وراءها من دوافع ترغيب أو ترهيب، فإنها لا تلزم الشعوب؛ حيث إنه من الممكن أن تصمد تلك الشعوب أمام الترهيب وترغب عن الترغيب، لأنها تملك مساحة أوسع للتحرك، وحرية أكبر في القبول أو الرفض؛ ولذلك فإن استراتيجية المقاطعة التي تقاطعها الأنظمة الآن تباعاً، يمكن أن تُبقي عليها الشعوب وتفعِّلها في جميع أوجهها الثقافية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية لتهزم التطبيع وتحول دون تطبيع الهزيمة، وبخاصة إذا كان في طليعة مقاومة الهزيمة ومقاطعة التطبيع وجهاءُ الأمة وعلماؤها ورموز الدعوة والحركة فيها على أن تكون لهم منطلقاتهم وبرامجهم ووسائلهم الواضحة، ونقترح منها ما يلي:
- نفض اليد من قيام الجهات الرسمية العربية بدور فاعل في مناهضة التطبيع، والاعتماد ـ بعد الله تعالى ـ على استنهاض أخص خصائص الأمة الخيرية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للوقوف في وجه هذا المنكر المتعدد الوجوه: التطبيع.(1/1638)
- تأصيل أبعاد التصدي للتطبيع على أسس شرعية، مستخرجة من محكمات الكتاب والسنة، واستحداث الدراسات والفتاوى في ذلك، حتى لا تبقى الأمور المتعلقة بالتطبيع مجرد «حريات شخصية» أو «أذواق فردية».
- استخدام ذلك في إيجاد جبهة ـ وليس لجنة ـ لمقاومة التطبيع، تضع أسساً لمدافعته، كما يضع أصحاب التطبيع في المقابل الاستراتيجيات لنشره وتقويته.
- إبراز الآثار الوخيمة العاجلة والآجلة للتطبيع، من خلال لجان لرصدها، والتعاون مع المنظمات والهيئات الشعبية في ذلك، لإظهار آفات التطبيع ونتائجها الملموسة والمحسوسة في البلدان التي بليت بها.
- استغلال وسائل الإعلام الأوسع انتشاراً، والأقوى أثراً ـ وعلى رأسها المساجد ـ للتذكير بهذا البُعد المهمل من المعركة مع اليهود في حربهم الصامتة ضدنا، وإبقاء جرائمهم التاريخية ـ القديمة والمعاصرة ـ حاضرة في الذاكرة وبارزة في الأذهان.
- من الأسلحة الأمضى في مقاومة مشاريع التطبيع دعم مشاريع المقاومة؛ فهناك ارتباط وثيق بين ضعف المقاومة وزيادة الإقبال على التطبيع ـ رسمياً أو شعبياً ـ والعكس صحيح.
- إذا كانت المقاطعة سلاحاً قوياً في وجه أصحاب مشاريع التطبيع، فإنها ينبغي أن تكون السلاح الأقوى في مقاطعة الداعين والداعمين له، باعتبارهم مناصرين للعدو، ومؤيدين لتطبيع الهزيمة أمامه.
وأخيراً.. فلعل السؤال الذي يتكرر كثيراً عند طرح الكلام عن الأخطار والمؤامرات، مجسداً في عبارة: (ما دورنا نحن)؟ يجد الإجابة أو شيئاً من الإجابة في ثنايا هذه المقترحات وغيرها، لعلنا حقاً نكون معاً.. لهزيمة التطبيع.. لا لتطبيع الهزيمة.
ـــــــــــــــ
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق
(1 - 2)
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
مرت بالأمة الإسلامية في فترة من الفترات هزائم وانكسارات متعددة الجوانب، سواء أكان ذلك على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي أم على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي، إلى(1/1639)
نحو ذلك من ألوان الهزيمة التي حصلت بعد سقوط الدولة العثمانية، ودخول الاستعمار إلى البلاد الإسلامية. ثم بدأ الناس يتطلعون إلى النهضة العربية، أو النهضة الإسلامية، وبرزت في تلك الفترة ـ وخاصة في البلاد العربية ـ مجموعة من التيارات الفكرية، ابتداءً بالاتجاهات الشيوعية واليسارية، ومروراً بالشعارات العروبية والقومية والوطنية وغيرها من الشعارات التي ضجت بها الساحة العربية، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي. ومع قوة هذه الشعارات الثورية حصلت الهزائم والانكسارات أيضاً مرة أخرى، ووجد الناس أن تلك الشعارات، وتلك الأحزاب العروبية، والقومية لم تخرجهم من مأزق إلا أدخلتهم في مأزق أشد منه، وفي هذه الأجواء تنامت الصحوة الإسلامية، وكان لها أثر كبير جداً في إعادة العزة للناس من جديد، وإعادة الثقة بالدين، وبجذور الأمة العقدية والفكرية.
وأنجزت الصحوة الإسلامية، على الرغم من المضايقات الكثيرة التي مرت بها، إنجازات متعددة الجوانب، حتى أصبحت ملء السمع والبصر.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صار هناك حضور أقوى للصوت الإسلامي، وأخذت الهجمة الغربية طوراً جديداً في الهجوم على المسلمين، وجعلت الخصم الأساس للغرب هو الإسلام، وعلى وجه التحديد تيار الصحوة الإسلامية بمدارسه المختلفة. وفي هذه الأثناء أيضاً حصل شيء من الانهزام النسبي عند بعض الإسلاميين على المستوى العقدي والثقافي، وحصلت اجتهادات ومراجعات، قد يسميها أناس هزيمة، وقد يسميها آخرون إعادة بناء للفكر الإسلامي، وإعادة نظر في المسلّمات الإسلامية، وظهرت أطروحات متعددة ومتباينة تحاول قدر الإمكان أن تتقاطع أو تتعايش أو تتقارب مع بعض الأطروحات الغربية.
وبدأ بعض الإسلاميين يقدم الفكر الإسلامي بصورة المدافع، وليس بصورة الإنسان المعتز بالدين والمعتز بالقيم، وبالثوابت الشرعية، وبدأ بعض الناس يتساءلون: هل هناك حقيقة هزيمة نفسية في جيل الصحوة أم أن هذه الأطاريح ما هي إلا بناء من جديد لطريقة التفكير ولطريقة التعايش مع الواقع الذي تمر به الأمة الإسلامية؟ وهل وصلت هذه الهزيمة إلى مستوى الظاهرة في أوساط الإسلاميين، وما ملامح هذه الهزيمة؟! وكيف نستطيع إعادة التوازن من جديد لبناء الصحوة الإسلامية؟!
هذا هو مجال حديثنا في هذه الندوة المباركة:
ونبدأ بالسؤال المباشر: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة..؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أن العنوان هذا ـ الهزيمة النفسية ـ يحدث اهتزازاً لدى الإنسان، أنا سأبني حديثي عن هذه النقطة على تصوري للهزيمة النفسية، حاولت أن أوجد مسارات تتمثل بها الهزيمة النفسية إذا أخذناها بمفهومها هزيمة نفسية.(1/1640)
الهزيمة النفسية: هي شعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل، وإذا كان لا يستطيع أن يفعل فهو شعور خاطئ.
الهزيمة النفسية: هي يأس من إمكانية أي عمل إيجابي.
الهزيمة النفسية: هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما تبني ما يقابلها.
الهزيمة النفسية: هي انكفاء على الذات، وتخوف من الآخر.
الهزيمة النفسية: هي حالة ذل، حالة استكانة، تجعل الإنسان لا يرفع رأسه، ولا يطيق أحياناً حتى نفسه، يعني حالة إحباط يتولد من خجل، من كسل، وأحياناً من شعور بالجرم إزاء وضع يحيط به.
كما نعلم أن أبرز صورة راجت في الاتجاه الثقافي عند المسلمين في العصر الحاضر عن الهزيمة النفسية هي التي التصقت بالمدرسة التي سميت العقلانية، أو المدرسة العصرانية، ونحوها من التسميات، والتي كانت هي أول حركات التفاعل الفكري مع الغرب، والتي هي نتاج مجموعة من الناس، أبناء لأمة وعت نفسها على أمة أخرى: أمة ضعيفة متخلفة فوضوية، التقت بأمة حضارية متقدمة مدنية متطلعة استعمارياً؛ فحصل عندهم هذا الاهتزاز.
اهتزار نفسي ولّد مواقف هي مظاهر الهزيمة النفسية التي كان من أبرزها انعكاس في القضية لديهم؛ فالأصل أن الإسلام (القرآن والسنة) ابتداءً هو الذي يوجه الفكر ليحكم الأشياء، فصارت القضية معكوسة؛ وصارت الرؤية الغربية والحضارة الغربية هي التي توجه فكره ليأتي بعد ذلك بالقرآن والسنة، فيحاول حلحلتها، وجعلها تتفق معها.
طبعاً ما زالت الهزيمة النفسية موجودة، لكن الهزيمة التي أقصد أنها موجودة هي الهزيمة النفسية لدى بقايا فلول مَنْ يُسمَّوْن بمفكري التغريب ونحوهم، ولهم صور ربما نشير إليهم بعد ذلك كمحيط موجود الآن يلابس الصحوة، ويحاول أن يوجه مسارها بقدر الاستطاعة. هذه الهزيمة النفسية بهذه الصورة التي يمكن أن نقول: إنها تمثل حالة إحباط، أو حالة اجتلاب للآخر، أو قابلية الاستعمار، أو نحوها من التسميات.
البيان : عفواً د. عبد الرحمن! إذن أنت تؤكد أن هذه الهزيمة النفسية موجودة في أوساط الصحوة الإسلامية، كما أنها موجودة في أوساط العامة.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لا، لم آتِ بعدُ على ذلك؛ لم أُجب عن السؤال، أردت أن أنظّر للقضية لأجيب بناءً على تنظيرها.
جوابي: هو أن الهزيمة النفسية بالمفهوم الذي ذكرته، وبصوره التي سردتها غير موجودة إطلاقاً في أوساط الصحوة، لا لدى القادة، ولا لدى الأفراد، هناك موقف شامل في أوساط الصحوة الإسلامية إيماناً بالإسلام بصفته منجياً عند الله ـ سبحانه ـ ومحققاً للنهوض، ويقيناً بهزيمة ما سواه، وقناعة بالأدلة، فضلاً عن الدليل الإيماني الأصل الذي يأخذ الإنسان منه دليله، دليل واقع يشهد بهذا، وهو(1/1641)
هزيمة جميع الأطروحات التي قدمت في العالم الإسلامي كله مستبعدةً الإسلام. فهناك إيمان بأن الإسلام مشروع إصلاح، وهناك إحساس في أوساط الصحوة الإسلامية بأن المسلمين الآن رغم العوائق والعثرات يتجهون للإسلام. هناك شعور أن هذه العقبات دليل على إدراك هذه الحقائق من قِبَل الأعداء. يعني أن الأعداء الذين يضعون العقبات في وجه أوساط الصحوة يدركون أنها صحوة حضارية مستهدفة، وحركة أو اتجاه استقلالي، ومن ثم بروز حضاري، ونحو ذلك.
ومثل هذه الوضعيات النفسية لا يمكن أن توجِد نفسية مهزومة. يمكن أن أقول ـ حتى لا تكون القضية مصادرة ابتداء ـ: إن هناك حالة أخرى ليست هزيمة لا اصطلاحاً ولا مضموناً، يمكن أن أسميها: حالة ارتباك فكري في الصحوة الإسلامية، وبالذات لدى بعض الرواد ـ رواد الصحوة الإسلامية ـ هذا الارتباك الفكري نتيجة حالة عامة يعيشيها هؤلاء الرواد، هناك شعور بضخامة المسؤولية في ظل الظروف التي يعيشونها، والتي لم تعد مسؤولية تربوية كما كانت في السابق، بل أصبحت مسؤولية سياسية، بل مسؤولية عالمية. هناك انفتاح على العالم في دائرة الصحوة الإسلامية، وانتقال من طور الانكفاء على الذات إلى طور المداخلة في الحياة: مداخلة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومداخلة حتى العالم بمؤسساته، وبوضعه العالمي كله.
هناك إقبال من الناس على التدين، ومن ثم إلحاح من هؤلاء على طلب برمجة حياتهم.
هؤلاء الناس المتدينون المقبلون على الدين الذين يدخلون فيه أفواجاً من السهل أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، هذه أمور سهلة وواضحة لديهم، لكنهم يريدون برمجة حياتهم على الإسلام. يقول بعضهم: أنا دخلت في الدين، أنا عدت إلى الله سبحانه، أنا الآن رجل أعمال، أنا الحمد لله أصبحت أصلي، تركت الفواحش، أصبحت أعتمر... لكن لديَّ مئات الملايين من الأموال أريد أن تجري على نمط إسلامي، ومع ذلك يكون عصرياً، لا أريد أن تردني إلى معاملات فردية كانت سائغة في السابق. الناس يطالبون هؤلاء الرواد بأن توضَع مسالك حياتية في الاقتصاد، في السياسة، في الإدارة، في الفنون، في الآداب... في جميع شؤون الحياة، بأن توضع برامج حياتية تكون إسلامية، وتكون عصرية في الوقت نفسه.
هناك ما أستطيع أن أسميه: تساؤلات من الأتباع، ونقد من الآخر تجاه الصحوة الإسلامية. الأتباع كانوا فيما سبق أتباعاً بالمعنى اللفظي؛ بمعنى مجرد: متلقين من روادهم، من مشايخهم، من علمائهم، من دعاتهم، الآن يشعرون أنهم يريدون الانفتاح، ويريدون أن يناقشوا الآخر خارج الدائرة الصحوية، يثيرون نقداً حاداً، مثلاً: محاضرة تلقى، أو كلمة تكتب في موقع، أو صحيفة من داعية، وغير ذلك تخرج لها ردود من هؤلاء، وهذا يحرج ـ الآن ـ رواد الصحوة الدعاة؛ لأنهم لم يتعوَّدوا على هذه الصفة، ومن ثم هم بحاجة إلى أن يكونوا على مستوى التأقلم مع هذه القضية.(1/1642)
الانتقال من العاطفية إلى العقلانية: في السابق كانت حركة الدعوة ـ في فترة طويلة ـ تركز على الجانب العاطفي، خاصة حينما كانت الأمة في عموم العالم الإسلامي في حالة شرود عن الدين وفي حالة غفلة؛ فكانت الدعوة: عودوا إلى الله، عودوا إلى دينكم؛ فالخير في دينكم، منطلقات وشعارات عامة، وكانت مجدية في ذلك الوقت، لكن الناس الآن رجعوا إلى دينهم، والآن يريدون حركة منطقية عملية تجسد حياتهم عملياً في واقع الحياة، هذه الحالات ونحوها، وغيرها من أمثالها انفتحت على الصحوة الإسلامية: على روادها، ثم على أتباعهم ثانياً وبشكل متسارع، وبشكل ملحّ لا يحتمل بطئاً لتحديد المواقف، ورسم المسالك. والصحوة بدعاتها وعلمائها هي حركة ثقافية بالدرجه الأولى، والحركة الثقافية لا يتم تفاعلها بشكل سريع كما هو الشأن السياسي؛ الذي يتخذ موقفاً ثم ينتهي؛ فطبيعة الدعاة والمفكرين والمثقفين أنهم يحتاجون لموازنات لرسم المواقف، يحتاجون إلى تفكير هادئ، حتى يضعوا الأمور في أنصبتها الصحيحة، وحتى لا يزيغ الناس بالمهاوي؛ خاصة أنهم يتعاملون بدين يدينون الله به، وليس الأمر مجرد مصالح مادية لو فاتت فسوف تأتي بعد ذلك مصالح بديلة.
لا شك أن الصحوة الإسلامية سعت للمواكبة؛ يعني سعت للاستجابة الإيجابية في حدود الإمكانات، لكن الذي لا ريب فيه أن الملحوظ بشأنها هو ما ذكرته، وهو أن هناك حالة ارتباك، أو إن أردت أن أخفف هذه اللفظة فأستطيع أن أقول: إن الصحوة الآن تعيش لحظة تأمل، لحظة استبصار، لحظة محاولة إعادة نظرات، تأهيل الذات بالقدر الكافي من أجل التفاعل الحيوي مع هذه التغيرات المحيطة بها.
الصحوة كان لها ضجيج من داخلها، وضجيج من الآخرين بشأنها، وفي الأونة الأخيرة بدأ يخفت هذا الصوت، لكن خفوت هذا الصوت لا يعني الغياب حقيقة. أنا أعتقد أن خفوت هذا الصوت يعكس شعوراً بالثقة بالنفس، ويعكس عقلاً في التعاطي مع الحياة، ربما بأرشد وأكثر سداداً مما كان قبل ذلك، لكنه بكل حال لا يعني أيضاً التراجع في أوساط الصحوة.
البيان : إذن أنت ترى يا فضيلة الدكتور أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة، وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري؛ فهل المشايخ يوافقون على هذا الطرح؟
- د. ناصر العمر: الكلام الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن جميلٌ جداً، وأوافقه في جملة ما قال، لكن ما دمنا في التعريف؛ فالذي فهمته من التعريف أن قول: (الهزيمة في جيل الصحوة) أنه ليس عنواناً تقريرياً بل هو دراسة؛ بمعنى أن هناك شيئين مختلفين: هناك شيء اسمه الهزيمة النفسية، وشيء آخر اسمه جيل الصحوة. وهذا ما لاحظته من قول الدكتور عبد الرحمن من أن الهزيمة شيء والصحوة شيء آخر، ولا ارتباط بينهما. والحقيقة أن البيان سبقت في معالجة المشكلة قبل أن تقع؛ لأن مشكلتنا في كثير من الأحيان أن ننتظر حتى تقع المشكلة، ثم نذهب نبحث عن حلولها.(1/1643)
والذي أراه أن الهزيمة لم تعد ظاهرة، وإن اختُلف في بعض تشخيص الحالات الفردية التي قد أشير إليها.
وإضافة لما ذكر في الموضوع حتى أشخّص ماذا نريد من معنى الهزيمة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالهزيمة في اللغة تدور في أصلها اللغوي على معنى واحد: وهو الغمز والكسر، ومنها الهزيمة في المعركة، والهزيمة النفسية وغيرها.
الهزيمة: هي انكسار إرادة النفس أمام حدث معين، أو واقع معين، أو فكر معين، أو ظاهرة معينة؛ بحيث لا تقوى على مجابهته، فهي تستسلم أو تسلم بدون تفكير في التخلص منه أو مواجهته؛ لذلك انكسار الإرادة يعني: لا قدرة ولا استطاعة.
أعطي أمثلة من ألوان الانكسار في واقع الأمة. مثلاً: الانبهار بكل خُلُق دخيل خالف أخلاق الإسلام، وأعراف أهله؛ فهذا ضرب من الهزيمة.
الخجل من القيام بأمر الله تجاه الأفراد والمجتمع ضرب من الهزيمة النفسية أيضاً. التبرؤ من بعض العقائد الإسلامية كعقيدة الولاء والبراء، كما يحدث من بعض المسلمين أيضاً هزيمة نفسية.
محاولةُ لَيِّ الشريعة لتوافق أهواء العصر وأهل الشرق والغرب هزيمة نفسية. التبعية الغربية أو الشرقية هي أيضاً من جوانب الهزيمة النفسية. الافتتان بالحضارة الغربية جانب من جوانب الهزيمة النفسية.
وإن كان في هذا الكلام نوع من التداخل، لكن يفسر نوعاً من الهزيمة النفسية؛ بهذا المنظور وبالمنظور، الذي قدمه د. عبد الرحمن فأرى أنه لا توجد في الصحوة هزيمة نفسية، وأرى أنها لا توجد بصفتها ظاهرة عامة، لكن توجد حالات فردية قد تزيد أحياناً، وتنقص أحياناً أخرى، وبعض المواقف قد يفهمها بعض المتابعين على أنها هزيمة، ويفهمها آخرون على أنها اجتهاد في استثمار فرص متاحة، وقد يوافقون عليها وقد يخالفون؛ فالدعاة وأهل العلم ومن عرفوا بسلامة المنهج وعرفوا بالخير، ولهم أثر في هذه الصحوة، وإن نشأت بعض الاجتهادات ـ بغض النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليها ـ فهي ليست نابعة ـ غالباً ـ من الهزيمة، وإنما نابعة من أسباب أخرى: استثمار فرص أو غيرها. والصحوة الإسلامية الآن في هذه المرحلة لا تعاني من هزيمة نفسية، والدليل على ذلك الأجيال التي تتطلع إلى الجهاد وتمارسه، بل وقع بعضها في الغلو المنهي عنه، اعتداداً بنفسها وثقة بما عندها.
لعلك تقابل شباباً يعملون أعمالاً أكبر من طاقتهم؛ فبعضها أعمال مشروعة، مثل ما نرى في فلسطين، وما نرى في العراق، وغيرهما من مواطن الجهاد.
شباب يقفون أمام أعتى قوة؛ هل يوصفون بالهزيمة؟ مستحيل، ونجد آخرين في بعض بلاد المسلمين يعملون مثل أعمال التفجيرات وغيرها، وهذا غلو وخروج عن المنهج، وليس من الإصلاح، ولكن لا يمكن أن يكون هذا نابعاً من الهزيمة، بل نابعاً من الاعتداد المفرط بالذات؛ لذلك أقول: إن الهزيمة غير(1/1644)
موجودة بصفتها ظاهرة عامة، لكن يوجد حالات فردية في كل عمل، وفي كل جيل يحدث ذلك. بقيت نقطة أشار إليها د. عبد الرحمن، وهي أن الصحوة الآن تمر بمراحل ـ مثل مرحلة العمر ـ هل تسمى مرحلة فتور؟
توجد مظاهر أوافق أنها مظاهر فتور، وقد تحدثت عنه قبل سنوات في كتاب (الفتور). والفتور غير الهزيمة هذا أولاً.
ثانياً: القادة والذين لهم السبق في نشأة الصحوة ـ كما أشار الدكتور ـ هم أناس كانوا يوجهون، أما الآن فانتقلوا من التنظير إلى العمل وإلى المشاريع؛ فهم الآن انشغلوا ببرامج عملية علمية.
ولو نظرنا قبل عقدين مثلاً فسنجد أنه لم تكن القنوات الموجودة الآن، ولم تكن المواقع موجودة في المنهج العلمي والدورات وغيرها من الانشغال بالعمل الذي يوازن التنظير، بعضهم يتصور أنه نوع من الهزيمة، هذا غير صحيح، أيضاً عدم التجاوب مع الاستفزاز الذي يحدث الآن فهذا رشد وعقل وفكر.
بقيت نقطة أخيرة هي أنه لا شك أن الصحوة عندها إشكالات معينة، ولا شك أن عمرها قصير بالنسبة لما تحقق لها من إيجابيات ناجحة، وهناك إشكاليات عالقة، سواء سميناه الارتباك كما تحدث د. عبد الرحمن، أو نوعاً من التأمل، أو عدم الوضوح والضبابية، أو هزيمة فردية محدودة عند بعض الأشخاص، ولا شك أن هذه مرحلة طبيعية، وهذه تفسر بعض الأحداث الموجودة، والله أعلم.
- د. عبد الله الصبيح: كلمة جميلة قالها الدكتور عبد الرحمن في تعريفه الهزيمة: هي الشعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل. وهذا التعريف يشرح جانباً من جوانب الهزيمة، وهناك جانب آخر يوضحه تعريف آخر أورده الدكتور عبد الرحمن وهو الهزيمة النفسية هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما ما يقابلها. وهذان التعريفان يوضحان صورتين للهزيمة سوف أتطرق إليهما حينما أتحدث عن مفهوم الهزيمة.
وقبل الإجابة عن السؤال: «هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة؟».
أحب أن أشير إلى أن أول من تحدث عن الهزيمة النفسية فيما أعلم هو ابن خلدون ـ رحمه الله ـ في مقدمته؛ حيث عقد فصلاً خاصاً بذلك، وسماه (تقليد المغلوب للغالب) يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في زيه وشعاره، وعوائده، وشأنه كله».
وذكر ابن خلدون صوراً من هزيمة المسلمين النفسية في الأندلس، أو تقليد المغلوب للغالب - كما سماها - ومنها وضعهم الصلبان في البيوت ومجاراتهم للنصارى في سلوكهم ولباسهم ومأكلهم ومشربهم، ويعلل ابن خلدون ذلك بأنه لظن المغلوبين أن تقليد الغالب في عوائده يمنحهم القوة التي انتزعها منهم عدوهم.(1/1645)
وما ذكره ابن خلدون عن تقليد المغلوب للغالب ليس قاعدة مطردة؛ فهناك من غلب واستولى عدوه على أرضه، ومع ذلك بقي معتزاً بدينه وقيمه ونفسه، ولم يقلد من غلبه؛ فالمسلمون لما هزمهم التتار، وجدنا الغالب هو الذي قلد المغلوب ودخل في دينه. وفي العصر الحاضر نرى إخواننا في فلسطين معتزين بإيمانهم محافظين على عقيدتهم، يشعرون بتميزهم عن عدوهم الغالب الجاثم على أرضهم.
بعد هذه المقدمة أقول: يظهر لي أن للهزيمة النفسية صورتين:
1 - هزيمة الذات أمام المبدأ؛ حيث لا يستطيع الفرد تحمُّل تبعة المبدأ ودفع ثمنه فيتخلى عنه، إما للحصول على مكسب دنيوي، أو الخلاص من أذى يلحقه بسبب مبدئه.
2 - هزيمة المبدأ أمام الواقع؛ حيث يكتشف الشخص أن المبادئ التي يحملها عاجزة عن إحداث تغيير أو إصلاح في الواقع، فيتخلى عنها بحثاً عن مبدأ آخر، وقد لا يكون في هذا الجانب هزيمة نفسية واضحة؛ لأن منه ما هو هزيمة، ومنه ما ليس كذلك. وينبغي ملاحظة أن مصطلح الهزيمة مصطلح فضفاض كمصطلح الصحوة الذي سأتحدث عنه؛ فهناك فتور يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك انشقاق في الصف يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك الاجتهاد في التأول، وفي تطويع المبدأ للواقع الذي يتداخل أحياناً مع الهزيمة النفسية وأحياناً مع الاجتهاد.
وسواء قلنا إن الصحوة تعاني من الهزيمة النفسية أم لا تعاني منها، فلا بد من تحديد المراد بالصحوة الإسلامية.
تيار الصحوة الإسلامية في نظري لم يعد محدوداً بمجتمع معين، أو أفراد محدودين، أو جماعة أو تنظيم أو حزب، بل أصبح تياراً واسعاً، ودخل تحت هذا التيار كل من رفع الإسلام شعاراً للحياة، ونحن نعلم أن ممن رفع الإسلام شعاراً للحياة من كان على سنن صحيحة، وطريقة سديدة، ومن رفعه وهو ليس كذلك، بل هناك من رفعه نتيجة انهزام في مبدأ سابق، مثل: بعض القوميين، وبعض العلمانيين الذين انهزمت أفكارهم فرفعوا الشعار الإسلامي، ولكنهم يريدون الإسلام الذي في أذهانهم، وليس الإسلام المنزل على محمد.
وهؤلاء في نظري يعيشون حالة من الهزيمة النفسية، وفيما رفعوه يحدث خللاً داخل الصف الإسلامي، والصحوة الإسلامية.
إذن تيار الصحوة الإسلامية تيار واسع، ويمكن أن نقول: إن الصحوة بمجملها لا تعاني من هزيمة نفسية، لكن يمكن أن نلاحظ عند بعض قطاعاتها وعند بعض الأفراد ـ وهم ليسوا قليلين ـ هزيمة نفسية بناءً على ما ذكرته عن صور الهزيمة. وهذه ليست ظاهرة عامة شاملة، بل ظاهرة جزئية، ولا يمكن تعميمها على تيار الصحوة بكامله. ولعل مما يساعد في انتشار الهزيمة النفسية أو مما يفضي إليها ما ذكره الدكتور عبد الرحمن مما سماه بـ (الارتباك الفكري). الصحوة الإسلامية كانت في وقت من الأوقات تعيش مرحلة العاطفة، ومخاطبة الفرد في صلاح نفسه، ثم انتقلت إلى مواجهة الواقع بتقديم(1/1646)
حلول عملية. وبعض هذه الحلول العملية تداخلت مع بعض أطروحات المشروع العصراني الذي ظهر في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، وهو يقوم على تطويع النص ومقاصد الشرع للواقع.
وربما كان ظهور المشروع العصراني بسبب ضعف البناء الثقافي، والإعداد العلمي عند الصحوة في المرحلة السابقة، مرحلة البناء العاطفي أو مرحلة تربية الفرد. وعودة المشروع العصراني للظهور مرة ثانية، سواء على مستوى النخب أو مستوى الأفراد والأتباع صورة من صور الهزيمة النفسية التي نتحدث عنها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لي تعليقات مباشرة على ما سبق، أذكرها باختصار:
أولاً: ما ذكرته هنا حالة من الارتباك والتأمل البطيء لدى بعض رواد الصحوة من مفكرين أو عاملين، وهذه ألمح إليها الدكتور ناصر العمر، هذا قد يُحدث حالة من الهزيمة النفسية مستقبلاً إذا لم يستطع هؤلاء أن يطوروا صُعُداً ما يقدمونه؛ بمعنى إذا تباطؤوا عن تقديم هذه البرمجة العملية لمساوقة الحياة بصبغها بالحلال والحرام؛ بحيث يعيشها الناس حياة إسلامية؛ فإذا تباطؤوا وتلكؤوا فقد يملّون من قِبَل من لديهم انفتاح عليهم، أو قبول لهم من حكام وغيرهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيبدأ الناس يطلعون بعمومهم على الطرح الآخر الذي يمكن أن يطرحه العصرانيون، وخاصة أن العصرانيين الآن ليسوا على النمط السابق الذي يعلنون فيه قطيعتهم مع الإسلام؛ فقد صاروا الآن يقدمون رؤاهم العصرانية، ويلبسونها لباساً إسلامياً.
وهنا نقطة ثانية وهي تعليق على كلمة الدكتور عبد الله في قضية ولع المغلوب بالتقليد للغالب فهو حقيقة، ولكن انهزام النفس أمام الغالب له درجات وليس درجة واحدة، هو أحياناً يكون انهزاماً مبدئياً؛ بمعنى يمسخ فيه الإنسان ويذوب حضارياً، وقد يكون الانهزام ليس مبدئياً، فلا نقول هذا انهزام، وإن كان قد تأثر في الغالب ببعض مجرياتها العملية، وانفعل ببعض معطياتها الفكرية والثقافية... إلخ؛ فهي انهزمت عملياً، لكنها ما انهزمت حقيقة؛ لأن الهزيمة النفسية في الحقيقة هزيمة قاصمة؛ لأن النفس هي آخر شيء عند الإنسان. وحتى لا يكون الكلام فكرياً بحتاً أضرب مثالاً: الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي، فاستعمر الغربيون بلاد المسلمين، وكانت مكيدتهم، خاصة في الجانب الثقافي أكثر من غيره؛ والغربيون استعمروا أيضاً أمريكا اللاتينية كما هو معروف ورحل المستعمرون من البلاد الإسلامية، ورحلوا من أمريكا اللاتينية؛ فما الذي حدث؟ الذي حدث هو اختلاف واضح بين الجهتين: أمريكا اللاتينية مُسخت نهائياً؛ فلا أديانها التي كانت بقيت بها، ولا تقاليدها التي كانت بقيت لها، ولا لغاتها أيضاً التي كانت بقيت؛ وهكذا؛ فهناك هزيمة نفسية ساحقة؛ بمعنى أن الشخصية الحضارية التي كانت هناك ذابت أمام حضارة الغازي وصارت الآن تابعة لها. لكن بالنسبة للأمة الإسلامية فلا.(1/1647)
نعم! انفعلوا وتأثروا، لكن بقيت لديهم الخميرة الداخلية، وبقي لديهم أن ما يحملون من هذا الكتاب ـ وهو القرآن ـ يمثل الأعلى، ومهما ضعف التزام الإنسان في عمله إلا أنه يشعر أن هذا هو الحق، ومن ثم أي فكرة وأي نظرية تخالفه فإنها باطلة. تلقائياً يعرف هذا الشيء، قد ينجر أحياناً نتيجة شهوة، أو مؤثرات إغرائية، قد ينجر وراء هذا الشيء الجديد، لكن يبقى في قرارة نفسه الأساس الديني؛ فالحقيقة أن الهزيمة النفسية ليست صورة واحدة، وإنما تأخذ أشكالاً مختلفة. هناك نقطة أخيرة هي ـ وقد أشار إليها الدكتور عبد الله ـ قضية أن الصحوة مفهومها واسع، صحيح أن مفهومها ليس مفهوماً مصطلحياً؛ بمعنى: أن له تعريفاً جامعاً مانعاً، لكن لا أعتقد أن من أدخلهم الدكتور عبد الله في الصحوة، أنهم من الصحوة، ومن سماهم وهم المنهزمون نفسياً أو العصرانيون ونحوهم؛ فهؤلاء ليسوا من الصحوة، ولا يعتبرون هم أنفسهم من الصحوة، حتى وإن كتبوا في الإسلاميات وإن فسروا الإسلام؛ فلا أعتقد أنهم يُعَدُّون من الصحوة؛ فلا محمد أركون، ولا شحرور، والقمني ولا سعيد عشماوي.... ولا نحوهم من الفئة التي كانت دراستهم تتجه للإسلام وتفسير القرآن، وتحاول أن تقدم صورة بديلة أو مقابلة للصورة التي تقدمها الصحوة، لكنها ليست للصحوة؛ فهؤلاء هم خارج سور الصحوة الإسلامية.
- د. عبد الله الصبيح: يعتمد على هؤلاء بعض أبناء الصحوة يقرؤون لهم، ويتأثرون بفكرهم.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: القراءة نعم! أما التأثر فقضية ثانية، وهي إذا كان التأثر بفكرهم تأثراً منهجياً، تأثرهم بحيث أن لديهم قدرات على أن يستوعبوا المنهج لنقدهم، ولتقديم رؤاهم داخل دائرة الصحوة من خلال المنهجية الجديدة إذا تلبَّسوا بها بمنهجهم أصبحوا منهم، لا أعتقد أن في دائرة الصحوة من يتفاعل مع هؤلاء بهذه الصيغة التي ذكرها الدكتور عبد الله.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة الأسماء التي ذكرتها، لكن هناك من قطاع الصحوة من تأثر ببعض الكتابات، وحصل عنده نوع من الهزيمة؛ فإذا كنت تريد أنت أن تُخرج هؤلاء من قطاع الصحوة فحينئذ أنت تنفي الهزيمة النفسية عن الصحوة بإخراج كل من انهزم منها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: نحن من خلال حديثنا عن الصحوة والهزيمة. أنا أقول: إذا تلبَّس وأصبح هو صورة لهذا الإنسان الذي حكمت محكمة علمانية بردته؛ فكيف ندخله في الصحوة؟ هذه رؤيتي.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة أن ندخلهم.
البيان : ربما كان ذكر الأسماء هو الذي أوجد فارقاً كبيراً في الحكم، لكن ألا ترى أن هناك مجموعة ممن ينسبون للفكر الإسلامي قد تكون عندهم طروحات عصرانية تميل أحياناً إلى الغلو الذي لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، لكنهم أيضاً تأثروا بشكل أو بآخر ببعض الأطروحات العصرانية؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أما أن تكون أفكار أفراد فهذا صحيح، وأما أن تكون ظاهرة فلا أعتقد، ونحن نتحدث عن الهزيمة بصفتها ظاهرة.(1/1648)
النقطة الأخيرة وهي أن الدكتور عبد الله ذكر مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والحقيقة أنا لا اعتبر أن هناك مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والعصرانيون أنفسهم يعترفون؛ فمشروعهم الآن مواجهة الصحوة، ومحاولة إفساد أعمدة هذه الصحوة، وتبديد طاقاتها، وهذا هو الجهد ذكرته. مَنْ هذه الأسماء، وما هو دورها؟ دورها هو هدم قدسية القرآن؛ لأن متعلق الصحوة الإسلامية الأكثر الآن الرجوع للكتاب والسنة، والرجوع بصفته العاصم الأساس لحركة المسلم، ولهذا هم يجدون حالة مفارقة عجيبة يعترف بعضهم مثل (هشام جعيط) في كتابه «الشخصية الإسلامية والمصير العربي» يقول: مشكلة العلمانيين العرب مع النص المقدس ـ القرآن ـ أنه واضح وحاسم، وأنه أصل لدى المسلم لا مجال للارتياب فيه، هذا يجعل الإنسان الآخر ـ يعني العلماني ـ مُحْرَجاً عندما يصادم القرآن مباشرة، وهناك سيكون منهزماً.
(فؤاد زكريا) في محاضرة ألقاها وطبعت عنوانها «العلمانية ضرورة»، قال وهو يتحدث عن العلمانيين والإسلاميين: العلمانيون ثلاثة أقسام: اشتراكيون، قوميون، ناصريون، والحقيقة أنهم يعرفون ما لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون؛ يعرفون ما يريدون في تطبيق الشريعة التي كانت صيحة الصحوة قبل 10 سنوات أو نحوها، ويقفون هم في وجهها، ويعرفون أن هذه هي القضية التي يريدون الوقوف في وجهها، لكنهم لا يعرفون ما يريدون، ليس لديهم مشروع بديل يقدمونه، سقطت مشاريعهم، فبقيت لديهم عملية هدم وتفتيت إلا إذا كانت مشروعات هدمية ناقدة كمشروع الجابري، ونحوه الذي هو نقد للثقافة الإسلامية، ومثل منهج (أركون) الذي لا يقدم مشروعاً بقدر ما ينقد الدين، ويفتت قدسية هذا النص، ومثل ما يطرحه الآن الدكتور (طيب تيزيني) في قضية تعدد القراءات في النص المقدس، أو الاعتماد على نظرية موت المؤلف في قراءة القرآن، ونحو ذلك.
- د. ناصر العمر: حول نقطة أشار إليها الدكتور عبد الله وعقب عليها الدكتور عبد الرحمن في موضوع وجود أشخاص داخل الصحوة أصبحت لديهم مواقف تتقارب مع المدرسة العصرانية. أنا أوافق أنه توجد أسماء تطرح طروحات تتوافق مع هؤلاء، وهذا نوع من الهزيمة النفسية كما اتفقنا، لكن حتى الآن لم يظهر لي من خلال الحديث أن هذه العناصر مؤثرة؛ فلم تكن أصلاً من قيادات أو رواد الصحوة، وإنما كانوا أفراداً أو شاركوا في بعض المشاريع المحدودة عملياً. وينبغي أن ننظر إلى القضية بنظرة متزنة لا ننفي الموجود، وهو كما اتفق الجميع ليست ظاهرة، والحمد لله.
البيان : ليست ظاهرة، لكن هناك ممارسات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع قد تزداد في بعض الأوساط؛ بحيث تتسع دائرته وممارساته عند آخرين... ونخشى أن تكون ظاهرة في المستقبل.
- د. ناصر العمر: إن لم تعالج؛ وهذه الندوة حلقة من حلقات التوعية، حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها.(1/1649)
البيان : نتحدث الآن عن مظاهر هذا الارتباك الذي أشار إليه الدكتور عبد الرحمن، أو ما قد يسمى عند آخرين بأنه هزيمة على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع من ذلك؛ لأن هذا سوف يزيد أيضاً من توضيح تحديد المسار الذي نتحاور فيه.
- د. عبد الله الصبيح: أعود إلى إشكالية مصطلح الهزيمة النفسية. في نظري أننا حينما نتحدث عن الهزيمة النفسية فنحن نتحدث عن منحنى متدرج له طرفان ووسط، والصور في الأطراف تكون واضحة تماماً لا يختلف الباحثون في تصنيفها، ولكن في الوسط سوف نجد صوراً ربما احتاروا في الحكم عليها، فربما عدها بعض الباحثين من صور الهزيمة النفسية بينما ينازعهم آخرون في ذلك. ومن تلك الصور ما ذكرته من قبل: كالفتور، والاجتهاد في تأويل النصوص، وتطويعها للواقع، أو التخلي عن بعض المبادئ استجابة لضغط الواقع. وما كان من هذه من صور الهزيمة النفسية قد يختلف الباحثون في اعتباره ظاهرة بناء على مقدار شيوعه في المجال الذي حدده الباحث.
البيان : ولهذا ربما يكون تحديد الصورة هو الذي يضبط المسار؛ فربما يوجد تباين في تحديد مفهوم الهزيمة، لكن عندما ننزل هذا المفهوم على الأمثلة الواقعية تنضبط الفكرة ويظهر المقصود، وعندما نتحدث عن موضوع الصحوة لا نقصد بلداً بعينه أو فصيلاً بعينه من فصائل الصحوة الإسلامية، وإنما نتحدث بشكل عام.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أنا أشرت إلى بعض المظاهر فيما سبق، ومنها الشعور بضخامة المسؤولية، والارتباك في الانفتاح على المجتمع، يعني مثلاً: قضية التفاعل مع المجتمع كيف تتم؟
هل من خلال المسار التربوي الذي كان منتشراً على نطاق الصحوة الإسلامية فيما سبق، أو من خلال قفزة إلى المستوى الحزبي؟ في مصر مثلاً: أراد مجموعة من الإخوان أن ينشئوا حزباً سياسياً، واعترضت عليهم الجماعة، ثم عادت الجماعة من خلال مرشدها لتقول: نحن مستعدون أن نشكل من أنفسنا حزباً إذا كانت الحكومة ستقبل. فعلاً هذا يعكس حالة ارتباك في القضية، حالة ارتباك تتضح أحياناً أمام بعض المفاجآت التي تحدث في المجتمع. يحدث مثلاً حركة مفاجئة، أو تغيير مثلاً نتيجة ضغوط داخلية، أو ضغوط خارجية فيحدث تغيير، وقد حدث هذا مثلاً في بلاد كثيرة في قضية مناهج التعليم، أو في قضايا أخرى. أمام مثل هذا لو كانت الوضعية كما كانت فيما سبق لكانت الخُطَب والتصريحات النارية، ونحو ذلك هي الإجابة مباشرة، لكن في ظل الوضعية التي ذكرتها صار هناك حالة تساؤلات.
مثلاً قضية التفاعل مع الآخر، أي تفاعل الصحويين مع من هم خارج دائرة الصحوة، مع المثقفين من خارج دائرة الصحوة، من الليبراليين ونحوهم؛ وتعرفون أنه جرى أحياناً تفاعل، وأحياناً لقاءات، وأحياناً بيانات مشتركة ونحو ذلك، وهذا النمط كان جديداً على الصحوة الإسلامية؛ فالصحوة الإسلامية كانت تعيش دائرتها الخاصة، وأولئك يعيشون أيضاً دائرتهم الخاصة، وإن كانوا يزعمون(1/1650)
الإقصاء، أي أن الصحوة الإسلامية تقصيهم، كانوا هم يُقصون أهل التدين من وسائل الإعلام، وغير ذلك؛ فكلٌ يسير وحده.
بدأت قضية اللقاءات كحركة شخصية، ثم بدأ التساؤل: ما هي الأساسيات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا اللقاء بين أناس تبنوا المشروع الإسلامي إن شئنا تضخيم الأمور، وبين أناس يتبنون مشروعاً آخر، لكن قد يلتقون في خطوط عريضة، أو مسارات تتقاطع؛ فما هي الأسس الشرعية، والأسباب المصلحية، والمحظورات المتوقعة؟ جرت تساؤلات، كُتب في بعض المجلات والمواقع الإسلامية ملفات في قضية التعاون بين الإسلامي وغير الإسلامي ونحو ذلك، هذه صورة من الصور التي تمثل ارتباكاً.
مثلاً التفاعل بين الفئات داخل الصحوة الإسلامية، ونحن نعلم أن الصحوة الإسلامية أجنحة وليست جناحاً واحداً. هناك الذين يمكن أن نسميهم الجناح السلفي مثلاً، وهناك الجناح التحرري الذي له سمات معينة في دراساته منها التوسع في عملية المقاصد الشرعية. وكلٌ يسير في طريقه مستقلاً عن الآخر ونحو ذلك، ثم لما بدأت الصحوة الإسلامية تدخل في الواقع وتتحرك فيه رأت أنها بحاجة فعلاً أن ترتكز على المقاصد الشرعية، وأن تتحرك في ضوء المصالح والمفاسد، وأن ذلك الخط لم يكن على خطأ في كل مساراته التي كان يسير فيها، وأن لديه حقاً في جوانب ينبغي أن تؤخذ ويستفاد منها، لكن كيف يتم التفاعل مع هذه الفئة؟
هذه أيضاً حالة أو صورة من صور الارتباك الفكري.
أيضاً من صور الارتباك المشكلة بين موقف الرائد الداعية القائد وبين الأتباع. الداعية القائد بحكم قدراته الفكرية، وبحكم نضجه، وبحكم عمره عنده القدرة أن يتحول، أن يتفاعل، أن يتغير، أن يتجدد، أن يترقى. المشكلة هي قضية الأتباع؛ فإن سار في طريقه غير عابئ بهم فقد يُحدِث لهم انتكاسات، قد يعتبرون أنه ضل، وأن تجديده هذا ضلال، وخروج عن نسق كان يسير عليه معهم ومن ثم خرج عليهم. إن أراد أن يتحرك بهم معه، فهذا صعب؛ لأن طبيعة الأتباع وطبيعة البسطاء أن حركة تحولهم بطيئة؛ فهناك حالة ارتباك في الحركة لدى هذا القائد في حركته، وفي عمله.
البيان : عفواً دكتور! ولكن تبقى هذه الصور في مجال الممارسة العملية، ولم نتحدث عن الارتباك على المستوى الفكري؛ لأن الممارسة العملية أقل خطورة، فقد يخطئ الناس في وقت من الأوقات ويستدركون الخطأ، لكن الارتباك أو الهزيمة على المستوى الفكري، ربما تكون أكثر خطراً، ولها انعكاسات عميقة ومتجذرة!
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أنا تصوري أن هذه تتداخل فيها القضايا الفكرية مع القضايا العملية، يعني ليست هي قضية عملية بالمعنى المباشر، لكن دعني أذكر مثالاً فكرياً آخر: لدينا نحن في المملكة مثلاً: الدعوة تعتز بأنها في أصل عمقها، وخلفيتها التاريخية، سلفية إسلامية ـ أنا أعتبر أن الصحوة الإسلامية كلها سلفية منهجية على الأقل؛ لأن شعارها الرجوع للكتاب والسنة، وهذا هو(1/1651)
شعار السلفية ـ لكن لدينا نحن الصحوة الإسلامية تعتز بأن خلفيتها التاريخية التي ورثتها عن الآباء والاجداد، خلفية سلفية ذات عمق علمي شرعي؛ إلا أن الصحوة الإسلامية لدينا استنامت أو تخدرت بفعل هذه الخلفية التي أعطتها راحة، ولو رجعنا إلى هذه الخلفية التي ركنت إليها لوجدنا أنها تتمثل في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي خرج قبل ثلاثة قرون في جزيرة العرب في بيئة نجد بالتحديد بدعوة سلفية؛ بمعنى أنها دعوة تريد أن تعود بالناس إلى الكتاب والسنة، إلى الصورة النموذجية التي كان عليها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقتبل الإسلام. وكانت الوضعية الاجتماعية التي خرج منها مشكلتها الكبرى هي في توحيد العبادة، ومن ثم ركز جهده في علاج هذا الواقع؛ فهذا هو منهج التجديد الذي ركز جهده فيه، فجاء كتابه الذي يمثل دستور حركة الشيخ ـ محمد بن عبد الوهاب ـ وهو (كتاب التوحيد)، وأثمرت هذه الحركة في التجديد، وصاغت حياة الناس صياغة جديدة؛ صياغة عقلية نفسية، وصياغة حركية عملية، وأدت دورها بأتم ما يكون، ثم صارت تتحول مع التاريخ، وبعثها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعثاً قوياً
جديداً، وأراد أن ينقلها حتى خارج دائرة الدولة السعودية إلى العالم الإسلامي، وتواصل مع علماء آخرين.
المشكلة تأتي هنا في هذه الآونة بعد منتصف القرن الرابع عشر أن المجتمع السعودي بدأ يتغير، بدأ ينفتح على العالم من حوله، بدأت الوافدات الفكرية والتطبيقية في الحياة، بدأت دولته تتفاعل مع العالم في منظمات ودول، وأفراده بدؤوا أيضاً يتفاعلون مع أفكار الآخرين، سواء كانت أفكاراً إسلامية، أو حتى أفكار الآخرين غير الإسلامية، هنا كان المنطق الطبيعي هو أن تكون هناك حركة تجديد لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حركة تجديد تصوغ المنهجية للحياة، ابتداء بالجانب العقدي وما بعده لتصوغ حياة الناس في ظل الظرفية التشكلية الجديدة، في أفكارهم، في نمطهم الحضاري، في نمطهم المادي الذي تغير تغيراً جذرياً، في كل هذه الجوانب، وهو أن يكون حركة تجديدية تتفاعل فيها هذه الدعوة السلفية الموروثة مع هذا الواقع الجديد المتغير. للأسف لم يحدث هذا بدرجة كافية، فبقيت القضية على هذا الموروث. أعتقد أن هناك في الآونة الأخيرة بدأ تنبه إلى أنه ينبغي أن يكون هناك تجديد. السلفية تبقي الكتاب والسنة هما المصدر، والنموذج المثالي لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المَعْلَم، دعوة الإمام ابن تيمية هي نموذج صياغة العقل بعد تأثير الوافدات الفكرية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الرصيد الذي نرتكز عليه. لكن نتحدث عن صياغة نموذجية تعطينا منهجاً جديداً: في البناء العقدي، في الاجتهاد التشريعي، في التفاعل الحضاري، في الصيغ المطلوبة آنياً، هناك تنبه لهذا، وهناك محاولة استباق من فئات لا يعتبرها الصحويون من الصحوة، وهناك استباق من أناس من الصحوة، وربما الدكتور عبد الله كان يلمح إليهم في قضية الانهزام(1/1652)
النفسي وهي من هذا، وإن كنت لا أعتبره هزيمة، أقصد أنهم أناس ينقدون الاتجاه السلفي من داخله، والآخرون الذين يمثلون تياراً محافظاً في دائرة السلفية بدأت بعض
حركتهم ترتبك، هم يرون أنه لا بد من حركة تجديد، أن يستجيبوا لهذا النقد الذي يكون أحياناً صارخاً في أدائه وفي قوة لذعاته. أيضاً هذه مشكلة، هذه حالة ارتباك فكري حاد، وأنا اعتبره في هذا الموضوع.
البيان : نعود مرة أخرى إلى مظاهر هذا الارتباك الفكري سواء على مستوى الممارسة أو على المستوى الفكري والثقافي.
- د. ناصر العمر: يمكن أن نتفق على وجود هذه الأمور التي سماها الدكتور ارتباكاً، أو يمكن تسميتها مشكلات أو نوعاً من الضبابية، أو نحوها. التسمية ليست مهمة في رأيي، سأذكر بعض المشكلات على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من أجل فتح هذا الموضوع وطرحه للنقاش.
أنا أعتقد أن من المشكلات الموجودة أصلاً عدم وضوح البرنامج العملي في ذهن بعض قادة الساحة؛ حيث كان تركيزهم على جانب معين، وعدم التكافؤ ـ فيما أرى ـ بين الوعود والمكتسبات العملية أحدث مشكلات؛ عدم واقعية الناس أيضاً في مطالبهم تجاه ما ينبغي تحقيقه، الناس بطبعهم يتمنون ويتخيلون عندما يتحدث المتحدث، وقد يكون القائد في ذهنه شيء محدد، الناس يأخذون من الخيال، فلما يرون ما يحدث ما يتوقعون أنه هو الأمر، ومن هنا نشأت مشكلة. أيضاً توجد نقطة اعتبرها رئيسة وكانت جديدة على الصحوة، وهي أن الصحوة فى أول أمرها كانت كالذي يسير على الأرض السهلة، ثم بدأت العقبات التي أخبر الله بها بقوله ـ تعالى ـ: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، فبدأت الفتن والابتلاءات بشتى أنواعها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، ونشأ اختلاف في وجهات النظر في مواجهة التحديات، وخاصة من القوى الضاغطة؛ فحدث تراجع أو هزيمة. أيضاً هنا إشكال معين وهو الاختلاف بين النقد فقط وتقديم البرنامج؛ لا يلزم أن من ينقد الواقع أنه لا بد أن يقدم برنامجاً، قد يكون عنده قدرة على نقد الواقع، كما يقال في محيط الأدب أنه لا يلزم في ناقد الشعر أن يكون شاعراً، قد تكون قدرة الناقد على النقد أسهل، ربما كان في الماضي التركيز على النقد فقط، وهذا طبيعي، بل هو منهج وله أصل، حتى يبين للناس الواقع الذي يعيشونه ليتخلصوا من سلبياته. ثم بدأ بعضهم يطالب بالخطوة التالية، لكنها لم تكن جاهزة فكان بطء فقه الحركة من قادة الصحوة، وضعف القدرة على
استثمار الفرص المتاحة. أما ما يتعلق بالجانب الفكري، فأعتقد أن عدم تحديد بعض المصطلحات والرؤى السابقة مشكلة ظاهرة. كانت تطلق رؤى لم تحرر، ثم أُخِذت على أنها مسلَّمات وهي ليست(1/1653)
كذلك؛ فلما جاء صاحبها بعد حين لأجل أن يحررها ويبينها ترى أنه تراجع، تغير، اختلف. ومنها أيضاً الخلط بين الوسيلة والمبدأ، فكان الناس ـ أنا أتكلم عما كان سابقاً من قادة الصحوة على أنها تكون مبادئ، قد تكون وسائل ومراحل في هذا الجانب؛ فهم لا يفرقون بين الوسيلة والمبدأ، في ما كان مرحلياً أو مبدئياً، المرحلة تتغير؛ فما كان قبل 10 سنوات نجد أنه يختلف عما هو عليه الآن، أما المبدأ فهو الذي لا يختلف الناس عليه. وحدث إشكال في الجانب الفكري.
- د. عبد الله الصبيح: إذا أردت أن أتحدث عن الارتباك الفكري فالمجال فيه واسع جداً، والارتباك الفكري ربما يكون بسبب مواجهة المواقف الجديدة التي تتطلب اجتهاداً غير معهود، وربما لم ينجح المجتهد في الوصول إلى اجتهاد سليم؛ بسبب عدم إدراك الواقع إدراكاً صحيحاً، أو بسبب البقاء على نوع من المطلقات الفكرية العامة جداً التي يصعب تنزيلها على الواقع وتحويلها إلى صيغ عملية. ومن معوقات الاجتهاد التي تساهم في إحداث الارتباك الفكري أنه قد يستقر عند بعض الناس أنماط فكرية، وصيغ عملية، وحينما يواجهون ما استجد من الحياة يظهر عجز تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية التي استقروا عليها عن مواجهة الواقع، وربما ظن بعضهم أن تلك الصيغ العملية، والأنماط جزء من الدين، بينما هي اجتهاد أو رأي، أو ربما مجرد عادات لا علاقة لها بأمر الدين. ويقع الارتباك الفكري حينما يعجز العالم عن الاجتهاد بما يفي بحاجة الناس أو حينما يجتهد فيختار غير ما ألفه الناس من تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية، وربما فسر بعض الأتباع هذا بأنه نوع من التراجع، أو أنه نوع من الارتباك الفكري.
وبعض صور الارتباك الفكري ليست من الهزيمة النفسية في شيء، وينبغي تمييزها عنها. أما الهزيمة النفسية، فكما قلت من قبل لها عدد من المظاهر، وأوضح هذه المظاهر وفقاً للمنحنى المتدرج الذي أشرت إليه آنفاً أقصى صور المنحنى، وهي التخلي عن المبدأ والقبول بمبدأ الخصم. هذه صورة فاقعة تماماً لا يستطيع أحد ألا يدركها.
البيان : لكن هل هذه الصورة موجودة في الصحوة؟
- د. عبد الله الصبيح: هذه ليست موجودة بهذه الحدية، لكن هذه أقصى صورة من صور الهزيمة النفسية وهي موجودة عند بعض أبناء الأمة.
ومن مظاهر الهزيمة أيضاً: الانطواء والعزلة، وهذه أزعم أنها موجودة عند أفراد من الصحوة الإسلامية، بل إن بعض قطاعات الصحوة لما عجزت عن مواجهة الواقع آثرت الانطواء والعزلة، وتمسكت بما هي عليه من فكر، وهذه أعدها صورة من صور الهزيمة النفسية. وهناك صورة أخرى ربما يختلف فيها القول، ويثور حولها الجدل وهي تطويع النص وتأويله. أحياناً يكون ذلك ناتجاً عن اجتهاد سائغ، وأحياناً يكون عن هزيمة نفسية؛ لأن القضية التي تشغل الذهن هنا هي: ما حدود ذلك التطويع وذلك التأويل؟(1/1654)
أحياناً يكون التأويل السائغ للنص نوعاً من الاجتهاد المطلوب الذي يثاب عليه صاحبه، وفي أحيان أخرى لا يكون كذلك؛ لأنه يتجاوز ثابتاً من ثوابت الشريعة وقطعياً من قطعياتها، فيكون عبارة عن هزيمة وتخلٍّ عن ثابت من ثوابت الشريعة، وواضح فيه مسايرة الطرف الآخر صاحب القوة وصاحب الغلبة؛ فهذه صورة من صور الهزيمة النفسية، وهذا الذي عنيته حينما قلت: عودة المشروع العصراني إلى البروز حينما بدأت الصحوة الإسلامية تواجه الواقع، وأنا أرى أنه لا يوجد مشروع عصراني مستقل، ولكن هناك طريقة في التفكير تحاول أن تتخلى عن بعض ثوابت الشريعة، و تطوع بعض ما في الشريعة استجابة لضغط الواقع. نعم! هناك أشياء لا بد للفقيه أن يراعي فيها حاجات الناس وأوضاعهم، وليس هذا من الهزيمة النفسية أو الولاء المذموم، لكنَّ هناك صوراً فيها نوع من الطبعة العصرانية التي كانت في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، بدأت تعود إلى البروز مرة أخرى. وهذه أرى أنها هزيمة نفسية لكن أرجو ألا تكون واسعة الانتشار.
وهناك مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية، وهو تقليد الغالب في اللباس، وفي الزي، وفي أمور سلوكية أخرى؛ هذه ظاهرة من ظواهر الهزيمة النفسية في المجتمع المسلم، ولكنها ليست ظاهرة في الصحوة الإسلامية، أو أرجو ألا تكون كذلك. هذه بعض ظواهر الهزيمة التي تبدو لي، وقد لا يخلو واحد منها من جدل وخلاف؛ لأن المصطلح فضفاض.
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق
(2 - 2)
التحرير
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
في العدد الماضي دارت الأسئلة والأجوبة حول: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة، وهل هي موجودة في أوساط العامة؟ وقد بين المشاركون أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري. وتطرقت الندوة إلى أمور عدة منها الأطروحات العصرانية. - البيان -
البيان : نعود لقضية تطويع النص على اعتبار أنها من الممارسات التي بدأت تظهر بشكل أوسع، ومن نتائجها محاولة التأقلم مع المتغيرات الحضارية والمتغيرات الثقافية والتأثر بطوفان العولمة؛ فهل أصبحت(1/1655)
قضية تطويع النص ظاهرة؟ وهل تمثل هذه القضية مشكلة في واقع الصحوة أم أنها مجرد ممارسات فردية يمكن تجاوزها بيسر وسهولة؟ مثلاً أصبح الآن عدد من المفكرين والمثقفين يحاول أن يبحث عن اجتهادات فقهية سابقة، ويحاول أن يعيد الحياة إليها من جديد؛ ليس لأن الدليل الشرعي يقويها، وليس لأن المصلحة الشرعية تقتضيها، ولكن لأن الواقع السياسي أو الواقع الثقافي والاجتماعي ربما يتجاوب معها؛ فبدأت تظهر بعض الاجتهادات الفقهية التي قد يعدها بعضهم جزءاً من الهزيمة.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حتى يكون في الأمور شيء من الوضوح أريد أن أبين أن حديثي هنا يتناول تيارين مختلفين:
1 - تيار تحريف النصوص.
2 - تيار منهج التيسير أو ما يسمى الآن: منهج أصحاب التيسير؛ وهما خطان مختلفان.
بالنسبة لمنهج تحريف النصوص؛ فهذا لا يوجد في دائرة الصحوة، بل هو خارج دائرة الصحوة، وهذا له مقتضى ظرفي؛ فهو ما ظهر إلا لبروز الصحوة. ومشكلة أعداء الإسلام قديماً وحديثاً هي قضية قدسية النص القرآني لديهم؛ هذه هي أعمق مشكلة لدى أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، وقد صرحوا بهذا كما تعلمون في فرنسا؛ حيث حاول المستشرقون جهدهم عبر قرون أن يسقطوا قدسية النص، واستبشروا حينما رأوا الالتزام بالقوانين الوضعية بعد دخول الاستعمار، إلا أن المشكلة التي فاجأتهم هي عودة الصحوة الإسلامية لتجعل شعارها العودة إلى القرآن والسنة، يعني أن الأمر انعكس عليهم، وكما يقولون: انقلب السحر على الساحر، وهنا أصبحت الصحوة الإسلامية مزعجة لهم، وقامت دراسات ومراكز دراسات متخصصة في الغرب، وعقدت مؤتمرات في الغرب لدراسة واقع الصحوة وفكرها.
ومن هنا برزت جهود متعددة منها الجهد المتمثل بدراسات مفكرين عرب والذي يمكن تسميته بالاستشراق العربي، وهو قيام أناس بالتعامل مع النصوص الشرعية، وهم في الأصل غير إسلاميين، وقد يكون أصلاً بعضهم غير مسلمين بالمعنى الفكري، يعني أنهم يتبنون الماركسية المخالفة للإسلام تماماً، لكنهم جاؤوا ليدرسوا النص الشرعي، وليقدموا للمسلمين صورة منه تنتهي بهم في مجملها بنظرة استشراقية، والمقصود بالنهاية هو هدم قدسية هذا النص، وقد ذكرت النماذج من خلال الأسماء مثل: (حامد نصر أبو زيد)، وكل كتبه تتعلق بهذه القضية، ومثله (الدكتور محمد شحرور) في كتابه (القرآن والكتاب.. قراءة معاصرة)، ومثله (محمد أركون) الذي يقرأ القرآن من خلال المنهج الألسني.
البيان : لا شك أن هذا الكلام مهم جداً، لكنه استطراد في محور آخر، وكلامنا هنا عن تطويع النصوص في دائرة الصحوة، وهؤلاء ليسوا من أوساط الصحوة؟(1/1656)
- د. عبد الرحمن الزنيدي: هذا الذي ذكرته موجود خارج دائرة الصحوة، وكما قلت هم لا يعدون أنفسهم من الصحوة، بل يعدون أنفسهم من أعدائها، والصحوة لا تعدهم منها، ولا غيرهم أيضاً من المحايدين يعدهم من الصحوة.
أما المسار الثاني فهو مسار ما يسمى (منهج التيسير)، وهو الذي ذكر فضيلتكم أنه ظهر نتيجة تفاعلهم مع الواقع المعاصر. ربما يقول بعض الناقدين إنه نتيجة ضغط الواقع عليهم، ويمكن أن نعبر تعبيراً آخر فنقول: نتيجة تفاعلهم المباشر مع الواقع. والحقيقة أن الواقع له ضغطه بلا شك، ونتيجة لهذا حاولوا أن يبحثوا فيما يعتبرونه هم الدائرة الإسلامية التي تشمل النصوص المباشرة وقطعيتها.
ثم في مجال الاجتهادات فإن هذه الاجتهادات الموجودة منها اجتهادات راجحة، واجتهادات مرجوحة. المذاهب المشهورة عندنا أربعة؛ لكن هناك اجتهادات خارج هذه المذاهب، فيقولون: لماذا لا نأخذ بها؟ عندهم عدة مناهج في قضية منهج التيسير أو بناء أحكام جديدة غير ما توافَق عليه المسلمون في عصور سابقة، وإن كانت هي موجودة ولكنها مطمورة في هذا. حقيقة أنا لا أُدخل هذا فيما يسمى بـ (الهزيمة النفسية)، أنا أُدخله في (قضية التفاعل مع الواقع) الذي كان لهذا الواقع فيه ضغط عليه، وأن هذا وضع طبيعي. أقول: إن هذا وضع طبيعي لمن يلابس الواقع، ولا بد لمن يلابس الواقع ألا يبقى في دائرة صورة مثالية؛ فما كان نظرياً مثالياً يتغير في دائرة التطبيق؛ فالتطبيق يستلزم مرونة في التدرج ومراعاة الظروف وما تعم به البلوى... إلخ. أنا باستطاعتي أن أجمع مجموعة من الكتب في التربية فأصوغ خطبة عن تربية الأولاد التي تخرج الملائكة، وأخطب في الناس، ويتخيلون أنني ملاك، لكن أنا إذا ذهبت إلى بيتي أجد أنني لا أستطيع أن أطبق لا نصف ولا ربع ما أتحدث به إليهم أحياناً؛ فالأمر النظري شيء، والأمر التطبيقي الواقعي شيء آخر. أمامك وضعيات، أمامك نفسيات، أمامك بشر له اهتماماته ومصالحه وأعرافه وعلاقاته.
البيان : لكن ألا تلاحظ أنه حصل في هذا الاجتهاد نوع من الارتباك؛ بمعنى أن الفقهاء تفاوتوا في هذه القضية، فتوسع أقوام وانضبط أقوام آخرون؛ وبعض الذين توسعوا كانت توسعاتهم غير مرضية وغير متزنة؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: القضية نسبية؛ لأن كل واحد يحكم من موقعه، ويرى أن دائرته منضبطة، وما تجاوزه هو نوع من الارتباك. أما الارتباك فهو سيحدث حتماً. المسلم العالم الداعية حينما يعالج هذه القضية، ويتنزل فيها تجاوباً مع الواقع سيشعر بحرج، ليس فقط حرجاً نفسياً، بل أيضاً حرجاً فكرياً، يعني هو يشعر بأنه مسؤول أمام الله في فتواه إن أفتى بها، ومسؤول أمام الله إن نأى بنفسه عنها.
- د. ناصر العمر: أما جانب تحريف النصوص فإنه بيّن، لكن ما يسمى بالتيسير أرى أنه يجب أن نفرق بين أمرين: ما ندعو إليه الناس وبين تطبيقات الناس، وقد نجد للناس مخارج أو حلولاً بعدما يقع(1/1657)
منهم الفعل، الخطورة في أن يتابع واقع الناس المتردي، وذلك بسبب ضغط الواقع على المفتين وعلى الناس.
والإشكال هو أن يتحول الاستثناء إلى منهج، أو أن تتحول الرخص في الشريعة إلى منهج، ويبدو لي أن هذا هو الذي وقع فيه بعض الفقهاء. يقابل هذا المنهج جانب متشدد فتراه يتعامل بمثالية، وكِلا هذين المنهجين خطأ. والخلاصة أن نكيِّف الواقع مع الإسلام، ولا نكيف الإسلام مع واقعهم.
- د. عبد الله الصبيح: في قضية تطويع النص للواقع كما قلت بعضهم يسميه نوعاً من الاجتهاد، وقد يكون كذلك، وقد يسميه الطرف الآخر تطويعاً للنص؛ فالقضية موضع إشكال وتباين في وجهات النظر، وهذا الأمر له أسباب في واقعنا المعاصر، ومنها:
1 - انتشار الفتوى وشيوعها بسبب الفضائيات؛ فالفتوى الآن لم تعد خاصة بالمجتمع الذي تصدر له فلا يطَّلع عليها غيره؛ والأصل في الفتوى أن تكون خاصة بمن صدرت له، ولكن الفضائيات نشرتها وأصبحت الفتوى التي يفتي بها الفقيه لشخص يعيش قضية خاصة في فرنسا يسمعها الشخص في السعودية وفي اليمن وفي غيرهما من بلاد المسلمين، وهذا يجعل الشخص المستفتي ربما يعترض على مفتيه في بلده الذي يعرف ظروفه ويقدر وضعه، ويبحث عن فتوى أخرى ربما يظنها أيسر أو ربما يظنها أتقى لله عز وجل.
2 - أن بعض ما نظنه ليّاً للنصوص هو نوع من الخلاف الفقهي الذي ربما يكون أحياناً معتبراً، ومن الأمثلة على ذلك ما يحصل من خلاف حول قضية تغطية الوجه: الرأي الفقهي المعتبر في السعودية هو وجوب تغطية الوجه، وعلماء آخرون لهم رأيهم ولهم أدلتهم يرون خلاف ذلك، ومن هؤلاء (الشيخ ناصر الألباني)، ولا يمكن أن تتهم الشيخ ناصر الألباني بأنه أراد أن يجاري الواقع، ولكن هذا نوع من الاجتهاد السائغ والخلاف المعتبر.
البيان : هذا صحيح، لكن لا شك في أن بعض الفقهاء المعاصرين رجَّح هذا الرأي أو ذاك ليس من منطلق دراسة النصوص الشرعية، بل بسبب ضغط الواقع، أو الاستسلام للإلف والعادة.
- د. عبد الله الصبيح: ربما؛ وهنا تأتي أهمية وعي الفقيه وتجرده للحق، ولا بد من ملاحظة ضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف.
البيان : أعود لأصل الموضوع وأقول: كيف يمكن إعادة التوازن في بناء الصحوة من جديد؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: الصحوة الإسلامية تيار عام، الصحوة تعم الأمة بمختلف شرائحها، ومن ثم فينبغي أن لا نضع صورة مثالية نحكم بأن عدم الوصول إليها اختلال وسقوط.
وحتى أوضِّح الصورة؛ فإن غالب التيارات الأخرى في العالم الإسلامي تيارات نخب ثقافية وسياسية محدودة، ومن ثم يمكن مطالبتها بأن تكون على مستوى دعوتها، لكن الأمر غير ذلك بالنسبة لصحوة أمة تحتوي وستبقى محتوية على الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.(1/1658)
لا يعني ذلك أن نقف في البناء الصحوي عن ترقيته نحو الأفضل إلى مجرد النظر المعجب بها فقط، كلاَّ! إن ترشيد مسيرة الصحوة، وعلاج الأدواء العارضة لها أمر واجب؛ إذ هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين.
ومن أهم قضايا الإصلاح المطلوبة في الصحوة الإسلامية تحقيق التوازن المعتدل بين جوانب بناءاتها بين الجانب التعبدي والجانب الاجتماعي، بين المجال التربوي، والمجال السياسي، بين الاندفاع في حماية الدين ونصرة الحق والتعقل ورعاية المصالح في اتخاذ المواقف والتصرفات... إلخ.
من أهم وسائل تحقيق هذا التوازن فقه الدين؛ فقه منهج الإسلام المبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، منهج الإسلام الشمولي، وعدم الاندفاع مع ردات الفعل غير محسوبة العواقب للأحداث والمفاجآت.
البيان : كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية لدى عامة المسلمين والتقليل من آثار الارتباك؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: نعم! للارتباك وجه سلبي من حيث كونه اضطراب رؤية، وتخويفاً من الجو المحيط، وعجزاً عن اتخاذ مواقف، أو عدم ثقة في المواقف المتخذة، لكنَّ له وجهاً مشرقاً يتمثل في أنه يحمي الإنسان من الاندراج في تيار الأحداث انسياقاً معها أو مضادة لها دون وعي، وفي أنه ليس مجرد وعي، وإنما هي لحظات استبصار وتأمل يبحث عن الأرشد؛ ولهذا فالسؤال هو: كيف نتجاوز موقف الارتباك نحو مواقف إيجابية مبنية على هدي الشريعة وعقلانية النظر وحساب كل جوانب القضية؟
السبيل هنا هو ما ذكرته ـ ربما ـ قبلاً من الانطلاق من الرؤية الشرعية المتزنة لا من ردات الفعل، والفقه السديد بمقاصد الشريعة وأولويات المصالح؛ لأن غالب إشكاليات الصحوة ليست في مسائل تعبدية جاءت عموم أحكامها محسومة في الشرع، لكنها في مناهج دعوية وفي شؤون اجتماعية مدارها مقاصد الشريعة وجلب المصالح ودرء المفاسد، وأيضاً فقه الواقع بامتلاك تصورات صحيحة متماسكة لهذا الواقع ليكون الحكم عليه المنطلِقُ من هذا التصور سديداً.
البيان : هل من تجارب معاصرة تُستثمر في تجاوز الأزمة؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أزمة؟ أية أزمة؟ الأمة الإسلامية ممثلة بصحوتها الشاملة لمختلف شرائحها تعيش حالة تطلع وتحفز نفسي للنهوض، وتهيؤ لتقديم الجهود لتحقيق هذا النهوض الحضاري.
نعم! المعوقات كثيرة وضخمة، ونواقص العلم والمعرفة حقيقة موجودة، وبطء الحركة مشهودة، لكن كل ذلك لا يبرر وصف الأمر بأزمة، بل ربما بعض هذه الأشياء تعد نعمة للصحوة، وبالذات المعوقات وجهود الأعداء؛ لأنها تشحذ العزم وتستحث لجمع الجهد، وللتوحد في العمل، وهي متطلبات ضرورية لحركة النهوض الحضاري.(1/1659)
البيان : النظر للجانب المحزن المولد للاحباط.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: ليس هذا منهج المسلم، منهج المسلم دائماً استبشاري تفاؤلي، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس تفاؤلاً في الساعات الحرجة، وكيف تحجب النظرة السوداوية رؤية المسلم وهو الذي يوقن بحكمة الله في تدبيره، وبمعية الله لعباده المؤمنين، وبأنه ما دام محتسباً مستقيماً على خير في كل أحواله «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
ليس معنى هذا طبعاً أن يتجاهل المسلم ما تعيشه الأمة من تخلف، وما يعتور سيرها من عثرات ونواقص، بل يستحضرها في حسبانه، لكنه لا يقعد عندها نائحاً نادباً دون حراك وتطلع؛ إنه يُبعد هذه الحجارة عن طريقه ما دام نظره إلى أهدافه من ورائها سائراً إلى تلك الأهداف مزيلاً تلك الحجارة عن طريقه.
البيان : هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: إذا تجاوزنا القاعدة الشرعية لموقف التفاؤل شعوراً بعدل الله وحكمته في أمره، وبمعيته للمؤمنين، وبحربه لمن يعادي أولياءه الصالحين؛ فإن مؤشرات السنن الاجتماعية والمعطيات الواقعية إذا قُرئت من زاوية أوسع من الأحداث الفردية بانفعالاتها السريعة اشتعالاً وانطفاء، كلها تدعم التفاؤل بظهور الإسلام ونهضة المسلمين نهضة مرتكزة على الإسلام بصفته المبدأ الأرشد في إصلاح الأحوال وحل المشكلات والشهادة على الناس.
- إن تحولات الأمة إذا نُظر إليها عبر مسيرة قرن كامل أو نصف قرن أو حتى ربع قرن تؤكد التقدم نحو الأفضل في القرب من الإسلام وارتقاء مستوى الفقه فيه وبناء الحياة على مقرراته.
- إن انفتاح رواد الصحوة علماءً ودعاةً ومثقفين على عصرهم بروح الإسلام دون انبهار مُعمٍ، ولا استغلاقٍ انكماشي.
- إن سقوط رايات الكفر والضلال والشرود والاغتراب في العالم الإسلامي كله على المستويات الثقافية والسياسية.
- إن الاستثمار الراشد لمنجزات العصر في الدعوة إلى الإسلام والبناء الحضاري.
- إن التفاعل الإيجابي مع تداعيات العولمة السلبية والإيجابية.
- إن اعتراف أعداء الأمة ودينها بأن صحوتها الراهنة ليست محصورة في تدين شخصي، وإنما هي انبعاث حضاري بمشروع شامل ينبغي أن تُستنفر القوى الكبرى لمواجهته.
- ثم إن إحسان المواقف تجاه هذه التداعيات العولمية والاستفزازات والتضييق، وضبط النفس وتلمس بدائل ممكنة للأبواب التي تغلق تجاه الدعوة وحركة النهوض.(1/1660)
كل ذلك يمثل مؤشرات للتفاؤل والاستبشار والآمال التي ينبغي أن تحفز على الحركة والتواصل وتقوية الذات أكثر فأكثر. إن وجود معوِّقين ومخذِّلين وأُجَراء لأعداء الأمة حتى أحياناً باسم الدعوة والغيرة على الدين، وإن وجود متطرفين يقفزون فوق سنن الله في التغيير الاجتماعي، ونحو ذلك لا يمثل عامل إحباط يُسقط تلك المؤشرات؛ خاصة ونحن نشهد أن مثل هؤلاء أصبحوا شذوذاً عن مسيرة الصحوة العامة محدودين في أعدادهم ومساحة التقبل لهم.
- د. عبد الله الصبيح: يقال دائماً «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فالتصور الصحيح يؤدي إلى حكم صحيح، وما تحتاجه الصحوة من أجل إعادة التوازن في البناء ـ في نظري ـ هو إعادة بناء تصوراتها المعرفية بناء صحيحاً؛ وهذا يقتضي وجود تكامل معرفي يحتوي على مجموعة من المعارف: الشرعية، والفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية. في الماضي كان ما يدرسه الفقيه في المتن الفقهي هو ما يمارسه الناس في الواقع أو قريب منه؛ أما الآن فلم يعد المتن الفقهي الذي يدرسه الطالب يمثل مرجعية للسلوك في كثير من شؤون الناس، وأصبحت المعارف الأخرى بل تجارب الشعوب الأخرى تمثل مرجعية للسلوك أكثر من كتاب الفقه. والفقيه كي يعدِّل سلوك الناس ويحكم على الواقعات التي يراها أمامه لا بد له من معرفة بهذه العلوم والمعارف التي تؤثر في سلوك الناس.
والتكامل المعرفي يكون بإعادة بناء مناهجنا الدراسية في الأقسام الشرعية والأقسام الاجتماعية على حد سواء، وإذا لم يتحقق ذلك فلا أقل من إقامة ندوات مشتركة يشترك فيها أصحاب التخصص الشرعي مع نظرائهم من أصحاب التخصصات الأخرى، وهذه الندوات سوف تثري الطرفين بلا شك، ويطلع كل فريق على ما خفي عليه مما يعلمه الطرف الآخر.
البيان : كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين، والتقلل من آثار الارتباك التي أشرنا إليها في أول الندوة؟
- د. ناصر العمر: لعلِّي أركز على أبرز الأسباب التي توقع في الهزيمة النفسية، فمنها:
الفتور، الانقطاع عن الطريق، اختلاف القلوب، تنقّص العلماء والحكماء، الانتكاسة والعياذ بالله، الاستسلام للعدو، ذهاب ريح الأمة، كل هذه الأسباب توصل في النهاية إلى الهزيمة النفسية إذا وقعت، فتجنب هذه الأشياء بكاملها، وتصور عقبات الطريق كل ذلك ينقذ ـ بإذن الله ـ من هذا الأمر؛ ومن هنا فإن الأسباب التي تنجي، وتكون حصانة وعلاجاً ألخصها فيما يلي:
أولاً: فهم القرآن: إننا لم نُعطِ القرآن حقه الواجب من الفهم والتدبر، ولا شك أن للقرآن تأثيره الإيجابي في التخلص من كثير من الأمراض والآفات الحسية والمعنوية؛ ففهم القرآن هو المنجي بإذن الله والمخلص، بل أكاد أجزم أنه مانع بإذن الله من الهزيمة، والآيات صريحة في توضيح هذا الأمر، مثلاً: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] ، هذا نموذج للخلاص من الهزيمة النفسية.(1/1661)
ثانياً: سيرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم - وسير الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: فالذي يدرس سيرة الأنبياء يتعجب، مع ما مروا به من أحوال قاسية وظروف صعبة يلحظ أنه لم تمر بهم الهزيمة النفسية أبداً في حياتهم؛ فدراسة سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم - وسيرة الأنبياء الثابتة في القرآن والسنة هذه أيضاً تخلِّص من الهزيمة، وكلمةُ تخلِّص تتضمن المعنيين: عدم الوقوع، والنجاة إذا وقعت.
ثالثاً: سِيَر المجددين والمصلحين: وهذا أيضاً مهم جداً؛ لأن المجددين والمصلحين ليسوا أنبياء، ومع ذلك نرى كيف واجهوا ذلك ونقلوا الأمم من واقع إلى واقع، ولو أنهم استسلموا للهزيمة النفسية لما أصبحوا من المجددين، وما أثروا في تاريخ الأمة.
رابعاً: أيضاً من أبرز ما يحتاج أن يربى عليه الناس عدم الاعتماد المجرد على المظاهر المادية؛ فالإشكال أن أكثر ما يوجِد الهزيمة النفسية هو التعامل المباشر مع المظاهر المادية دون الرجوع إلى السنن الكونية والكتاب والسنة، فلا شك أنها تؤثر؛ فالأحداث الجارية صباح مساء مؤثرة في حياة الناس؛ إذن عدم الاعتماد عليها فقط وفهم وإدراك هذه الأحداث يساعد بإذن الله.
خامساً: فهم الواقع على حقيقته دون مبالغة، والتعامل معه بفقه ووعي، كل هذا يخلص بإذن الله.
وأركز هنا على ضرورة أن تكون الدعوات مبنية على أصول شرعية ثابتة وهي أصول الكتاب والسنة؛ فإذا كانت الدعوات مؤصلة فإنها لا تنهزم ولا تهتز، كالبناء الذي له أسس قوية جداً، أما إذا كانت هشة ضعيفة فهي عرضة للتبديل والتغيير، والله أعلم.
البيان : ذكرتم فضيلة الشيخ! سِيَر الأنبياء والمجددين والمصلحين؛ فهل ثمة تجارب من التاريخ أو من الواقع المعاصر يمكن من خلالها أن نستثمر تلك التجارب وتعيننا في تجاوز الأزمات التي يمكن أن تحدث في المستقبل؟
- د. ناصر العمر: أبرز التجارب المعاصرة لدينا تجربة أفغانستان، ويجب أن ننظر إليها من الزاوية الإيجابية. لما دخلت روسيا بجبروتها وقوتها وغطرستها إلى أفغانستان؛ فإن الذين يتعاملون مع المادة يرضون بالهزيمة، وقد يستسلمون مباشرة وحدث هذا، لكن الذين تعاملوا بأسلوب آخر وأعلنوا الجهاد الحقيقي في حينه ماذا حدث بسبب ذلك؟ كما تعلم ما هي إلا سنوات معدودة ـ اعتقد أنها قصيرة جداً ـ في عمر الزمن حتى تداعت الأمة إلى الجهاد مع حداثة التجربة، ومع أن الأمة منقطعة لفترة طويلة عن الجهاد، وما يجري في فلسطين لم تشارك فيه الأمة من خارج فلسطين إلا قليلاً، مع ذلك انظر كيف كانت النتائج؟ أما ما حدث من سلبيات بعد ذلك فمسألة أخرى ليست مقصودة في حديثي، ولم يستثمر هذا الانتصار في أفغانستان واستغله الأعداء. وقد تحقق في قضية فلسطين انتصارات ضخمة مع أن العالم تقريباً يكاد يُجمع ـ حتى من داخل الدول العربية وغيرها ـ ضد المسلمين وضد المجاهدين، ومع ذلك فالانتصار ظاهر وبارز. بالأمس القريب كنت أنظر إلى محاولة(1/1662)
اليهود اقتحام المسجد الأقصى، وفجأة نجد هذا الحشد الهائل بعشرات الآلاف من الفلسطينيين مع قوة الضربات، ومع شدة الأزمات، ومع الظروف المعيشية ومع التعذيب ومع التنكيل، ومع ذلك كله نلحظ القوة والسيطرة وتراجع العدو في أماكن كثيرة.
يكفي أن أقول كلمة واحدة: إن الصوت الأعلى هو صوت الجهاد ضد تلك المؤامرات، بل حتى في العمل السياسي عندما أجريت الانتخابات البلدية الفلسطينية، حصلت حماس على 70% تقريباً، مع أننا لا نسلِّم بنزاهة الانتخابات تماماً؛ فكيف لو كانت نزيهة؟
في المشهد العراقي مثال آخر؛ لما دخلت أمريكا للعراق ما كان أحد يتصور أن يصمد الشعب العراقي هذا الصمود، الآن أمريكا في مأزق لا يُشَك فيه.
وهذا الثبات بحد ذاته انتصار عظيم، وعدم استسلام المصلحين لروح الهزيمة هي البداية القوية للنصر. قارن بين ما يحدث في العراق خلال السنتين الماضيتين وبين أيام التتار عندما استسلم الناس وهُزموا نفسياً!
إن هذه الأمثلة من أعظم التجارب. أيضاً تجربة البلقان وما حدث فيه يؤكد هذه الحقيقة.
إذن هذه تجارب واضحة وقوية لم يستسلم أصحابها للهزيمة النفسية أبداً؛ مع أن كل الأدلة الظاهرة المادية قد تدعو إلى مثل ذلك.
وأؤكد أن من أعظمها وأبرزها لديَّ قضية فلسطين، ولا تزال وستظل بإذن الله أنموذجاً حياً حتى يتحقق الانتصار الحاسم.
- د. عبد الله الصبيح: جواباً على سؤالك: «كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين والتقلل من آثار الارتباك؟» أقول: قد ذكرت في مطلع حديثي عن الهزيمة النفسية أن لها صورتين: الأولى: هي هزيمة الذات أمام المبدأ. والثانية: هي هزيمة المبدأ أمام الواقع. وعلاج الصورة الأولى يكون بالتربية الإيمانية، والتربية على الزهد في الدنيا. وعلاج الصورة الثانية يكون بأمور:
الأول: بالتكامل المعرفي، والجمع بين الثقافتين الشرعية والمدنية.
الثاني: بتجاوز صدمة الانبهار أمام الواقع؛ فبعض الأساليب التربوية تحول بين الفرد والاتصال بالواقع ومعايشته، ويصور له بأنه شر وفساد؛ فإذا واجه الشخص الواقع فربما اكتشف أن الواقع ليس كما صُوِّر له، أو يكتشف أن أدواته عاجزة عن التعامل مع الواقع الجديد، فيشعر بالانبهار، وينهزم أمامه. ومعالجة هذا بتربية الفرد على مواجهة الواقع والتعايش معه بدلاً من العزلة عنه ثم مواجهته فجأة. إن المواجهة المستمرة المتدرجة مع الواقع تجبر الشخص على تطوير أدواته في التعامل مع واقعه والتكيف معه.(1/1663)
الثالث: الاطلاع على التجارب الناجحة التي استطاعت مواجهة الواقع وقدمت نماذج سليمة. إن توسيع المدارك بمعرفة بدائل عديدة من تجارب الشعوب سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة لا يجعل الشخص يشعر بالإحباط في مواجهة الواقع، بل يكبر عنده الأمل في التغلب عليه لما يعلمه من بدائل ناجحة.
البيان : لكن لو نظرنا إلى واقع بعض الناس فإننا نجد أنهم ينظرون إلى الجانب المحزن من هذه التفاعلات العالمية في الواقع المعاصر، وهذا ولَّد شعوراً بالإحباط عند بعض الناس.
- د. ناصر العمر: هذا يفسر ما قلته لك سابقاً. لا ينبغي أن نتعامل مع الحدث اليومي مباشرة بمعزل عن السنن الكونية والمنهج القرآني وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - . فالذي يدرس سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - يرى أنه مر بمكة في ظروف أقسى من التي نمر بها ونعيشها الآن. يقول الله ـ عز وجل ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] .
الذي يتعامل مع الجانب المادي والحدث اليومي فقط قد يحدث عنده شيء من الانهزام، وأما من يتعامل مع القرآن والسنن الكونية، مع الأخذ بالأسباب فإنه لا يشك ـ بإذن الله ـ في تحقيق نصر الله. لكن نؤكد على حكمة الله ـ جل وعلا ـ البالغة في جعل الأسباب مؤثرة في الحياة؛ فمثلاً: الخلاف والاختلاف بين الدعاة عوامل مؤثرة تؤخر النصر، وكذلك سوء الظن بالله ـ جل وعلا ـ من أبرز الأسباب التي تؤخر النصر؛ وفي هذا الأمر يقول ـ تعالى ـ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] .
ولذلك لو أن الناس تلافوا الأسباب التي هم واقعون فيها واجتهدوا في هذا الأمر؛ فإن النصر سيكون أقرب مما يتصورون. قد يقول قائل: الناس الآن لم يتلافوا هذا الأمر؛ فمعناه أن الهزيمة قد وقعت. هذا غير صحيح، بل الانتصار قائم الآن ولله الحمد، والمناطق الساخنة في العالم مثل فلسطين، العراق، الشيشان، نموذج لذلك.
إذن نحن نتعامل مع نصوص الوحي ونتعامل مع الأسس والقواعد والسنن الكونية، ولا نتعامل فقط مع مجرد الحدث اليومي، مع أهمية مراعاة الحدث اليومي؛ فقد جعل الله ـ جل وعلا ـ له أساساً في الانتصار. قال ـ تعالى ـ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، ولكن يراعى في حدود، ولكن لا يعني الاستسلام كما قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .(1/1664)
البيان : لكن هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل. نحن نؤمن بأن النصر قادم وبأن العاقبة للمتقين، لكن هل يمكن أن يتحول هذا الفأل الحسن إلى واقع تعيشه الأمة؟
- د. ناصر العمر: نعم! يمكن، بل هذا هو الذي يجب أن يكون، وهذا دائماً أطرحه باسم التفاؤل الإيجابي، وهو أن يتحول التفاؤل الذي تطرحه الألسنة وتتلقاه الأسماع والقلوب إلى برامج عملية، مع ما أشرت إليه سابقاً بعدم الاستسلام للهزيمة مهما كانت النتائج.
التفاؤل الإيجابي ليس تحقيقه مرتبطاً بتحقق النتائج المباشرة؛ إنما يتحقق بإيجاد التفاؤل الإيجابي الدافع للعطاء، وبهذه المناسبة أوضح هذا المفهوم؛ لأن بعضاً قد أخطأ في فهمه للتفاؤل. فالتفاؤل هو مقدار تحقق التزام الدعاة بالمنهج الذي أنزله الله ـ سبحانه ـ سواء التزم به الناس أو لم يلتزموا؛ فثبات الدعاة وثبات المصلحين على مناهجهم مهما كان الأمر يعتبر انتصاراً، وأعطي دليلاً يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد بينت قبل سنوات في كتاب (حقيقة الانتصار) أن الله ـ جل وعلا ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ فبعض الأنبياء كما في الحديث الصحيح لم يؤمن معه أحد، وبعضهم آمن معه رجل واحد فقط، مع أن الله ـ تعالى ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ، ليس فقط في الآخرة ويوم يقوم الأشهاد، بل في الدنيا. إذن مفهوم النصر والهزيمة في أذهان كثير من الناس خطأ، لأنه يتعامل مع الواقع المادي فقط، وهذا خطأ، والصواب أن ثبات الداعية وثبات النبي والرسول وثبات المصلح والمجدد على مبدئه ومنهجه هو الانتصار بذاته، وهو أعظم الانتصارات.
أيضاً لفت نظري في سورة القصص قوله ـ تعالى ـ والخطاب لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] ، بعد ذلك جاءت قضية السحرة؛ والقول الراجح أن فرعون قتلهم ومع ذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، والسحرة ممن اتبع موسى وهارون؛ إذن وهم قتلوا فأين الغلبة؟ الغلبة أنهم ثبتوا عندما هددهم فرعون بالقتل، وكان جوابهم له كما في سورة الشعراء، وطه: {قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] ، وأيضاً في السورة الأخرى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .
كل الآيات تدل على أنهم ثبتوا على منهجهم إلى آخر لحظة، سواء أكان فرعون نفذ تهديده أم على القول الآخر أنه لم ينفذ، لكن الراجح أنه نفذ، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات، ومع ذلك ثبتوا، ولهذا يعتبر هذا انتصاراً عظيماً كما قال ـ تعالى ـ: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] ؛ فهذه هي الغلبة في الحقيقة.(1/1665)
على مدار التاريخ نجد أن حاكماً أو غيره يقتل مصلحاً لكن القاتل يشعر في داخله أنه هو المغلوب، ويشعر أن المقتول هو المنتصر، وأقوى دليل على ذلك قصة أصحاب الأخدود أنهم كلهم قتلوا ومع ذلك فهذا انتصار عظيم: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11] .
لو أننا تعاملنا مع هذه الحقائق لما كان لليأس مكان. إذن التفاؤل الإيجابي هو تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - حيث كان يربي في أصحابه التفاؤل، لكنه كان يعمل، وكان يجتهد، وكان يستحثهم على العمل والإنجاز.
هنا أختم بكلمة: لا أعرف فترة خلال السنوات الماضية مرت بها الصحوة من الانتشار والقوة والمكانة والتمكن كما هي اليوم، ومع ذلك لو أن كل واحد من هؤلاء الدعاة أو كل مجموعة دعوية قامت بمشروع إيجابي عملي لتغير واقع الأمر لانتصرت الأمة، لكن مع الأسف نميل للنقاش والجدال والخصومة وخدمة الأعداء من حيث لا نشعر.
وأخيراً: وجدت تلازماً بين تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين اشتداد الأزمة؛ فإذا اشتدت الأزمة على محمد -صلى الله عليه وسلم - وجدنا أنه أكثر الناس تفاؤلاً، وهذا واضح في كل سيرته، بل وجدت في القرآن تلازماً بين الشدة والفرج، والعسر واليسر. إذن فالشدة التي يجدها بعضهم طريقاً للهزيمة النفسية، أو دليلاً عليها، اعتبرها من أكبر أدلة التفاؤل؟ لأن الانتصار يأتي بعدها إذا أخذت الأمة بأسبابه، وكانت إيجابية، وكانت عملية، ولا أشك في تحقق هذا، وأقوى مثال عندي قضية فلسطين؛ فلو خُلّي بين الأمة وبين عدوها في فلسطين ما لبث اليهود إلاَّ قليلاً، هذه قناعتي، لكن مع الأسف الواقع غير ذلك.
- د. عبد الله الصبيح: هناك عدد من العوامل مرتبطة بنظرة التشاؤم هذه التي تتحدث عنها منها:
1 - النظر إلى الجانب المحزن والنظر إلى الجانب الإيجابي من واقع الأمة هو نتيجة للتربية التي يتربى عليها الشخص؛ فإذا كان المنهج التربوي يتصيد الأخطاء عند الأمة والمصائب التي تمر بها، ويتربى على نظرية المؤامرة؛ فإن النتيجة هي الشعور بالإحباط أو الثورة على الأمة والتغيير بالقوة.
2 - النظرة المثالية التي يتربى عليها بعض الناس ويريد الأمة أن تكون عليها. إن الذي يجب أن نعلمه أن الفساد والضعف حدث في الأمة متدرجاً عبر عشرات السنين، بل مئات السنين، وليس نتيجة يوم وليلة؛ إنه لم يحدث فجأة وحاشا لله أن يقع فجأة؛ وزواله لا يكون فجأة، بل لا بد من التدرج في إصلاحه. ولهذا لا بد أن يتربى الشباب على الواقعية في الإصلاح، فيُسَرَّ بالإصلاح الجزئي ويشارك فيه ويسعى لما بعده من الإصلاح ويطالب به. أما أن يرفض كل خطوة نحو الإصلاح؛ لأنها لا تحقق ما يسعى إليه من الصورة المثالية التي في ذهنه؛ فهذا سوف يفضي به إلى النظرة التشاؤمية واليأس في صلاح الأمة؛ وربما ينتج عن هذا هزيمة نفسية، وهي هزيمة المبدأ أمام الواقع الذي أشرت إليه من قبل.
ـــــــــــــــ(1/1666)
الهزيمة النفسية .. وفقه المرحلة
عبد العزيز عبد الله الحسيني
الهزيمة النفسية سقوط حضاري لا يضاهيه نوع آخر من الهزائم العسكرية التقليدية، وخطورتها تكمن في كونها استعماراً للعقول والقلوب، قبل أن تكون استعماراً لخيرات الأرض ومقدراتها.
وعلى شدة وقع الاستعمار العسكري إلا أنه وسيلة قوية لإيقاظ الأمة من غفلتها، وتقوية لُحمتها، وتحرُّك غيرتها، وإحياء حميّتها الدينية، وفي النهاية طال هذا الاستعمار أم قصر فإن مصيره الرحيل.
أما الاستعمار النفسي فيتغلغل في نفوس معظم أبناء الأمة دون أن يدركوا أثره وخطره؛ بل دون أن يشعروا بإصابتهم به!
ولأثر هذا الغزو النفسي فقد فطنت بعض الدول إلى أهميته حتى غدا عنصراً مهماً في الحملات الفكرية والإعلامية الموجهة للدول المغزوّة أثناء الصراعات الحضارية، كي يدب فيها الوهن ويدوم اليأس.
- من أسبابها:
لعل من أهم أسباب هذه الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة في مقتل وأدى إلى ضعفها ووهنها، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وجهلهم بحقيقته، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً، وعدم اتحادهم أمام قوة أعدائهم، وعدم إدراكهم لأسباب المد والجزر في تاريخ أمتهم، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم التي يحرص الغرب من خلالها على إبراز أنشطته العسكرية وقدراته الحربية واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية وغزوه حتى للفضاء الخارجي، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته وتوهن غيره وتوحي له بالعجز واليأس، بالإضافة إلى ما يرونه من هيمنة أعدائهم على معظم المنظمات والبنوك والهيئات الرسمية واستغلالها لإخضاع الدول الإسلامية وإخضاع بعضها بالعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، وأحياناً بالقوة والتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
مثل هذه الأمور مجتمعة ولّدت هزائم نفسية متتابعة، كان الغرب يهدف إليها ويغذيها بشتى وسائله الإعلامية والسياسية والاقتصادية، ليستمر التخدير، ويدوم الخنوع.
وتجاوز الأمر قنطرته وأثَّر رجع ذلك الصدى في بعض أبناء جلدتنا ـ الانهزاميين ـ الذين أكدوا هذه الهزيمة وعززوها؛ بكتاباتهم وتحليلاتهم الانهزامية في الصحف والمجلات والفضائيات بثنائهم المبالغ فيه على الغرب وحضارته وقيمه وقوته وديمقراطيته، وأنه إنما سيطر على هذه الأمة بسبب ضعفها وتخلفها في الجوانب العلمية والسياسية والاقتصادية والتقنية فحسب.
ومع مصداقية بعض تلك التحليلات ظاهرياً؛ لكونها أعراضاً للمرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا؛ إلا أن أولئك الكتاب والمحللين جعلوها أمراضاً مستقلة ينبغي أن يتجه إليها العلاج مباشرة، وذهلوا ذهولاً أعمى عن (السبب الأساس) في نشوء تلك الأعراض، وحادوا عن استلهام تعاليم القرآن، وتوجيهات(1/1667)
السنَّة، واستقراء التاريخ، ومعرفة السنن الجارية، والنواميس الشرعية، حول أسباب ضعف الأمة الإسلامية والمخرج منها، ولم يتطرقوا إلى ذلك من قريب أو بعيد، لعدم إدراكهم لأبجديات تلك المسائل، ولجهلهم بفقه الهزيمة التي حلّت بالأمة، ولخوضهم في أمور لا يملكون أدواتها، ولتصدرهم لقضايا لا علاقة لتخصصاتهم فيما يتحدثون عنه أو يكتبون فيه، وللهوى والحقد الذي يُكنّه بعض أولئك لهذا الدين.
وللأسف فإن ذلك الطرح المادي المتكرر، قد أثر على قطاع عريض من شباب المسلمين، وكان سبباً في صرفهم عن عودتهم لهذا الدين، وإصابة غيرهم باليأس والقنوط، وأصبح بعضهم الآخر (يُسقط) تقصيره وأخطاءه على غيره، ويخرج نفسه من مغبّة مسؤولية ضعف أمته وهوانها، فعطلوا طاقاتهم وقدراتهم، بل وجميع أسلحتهم المعنوية الأخرى؛ فهم برأيهم ـ وكما فهموه من أولئك المحللين الانهزاميين ـ لا يملكون شيئاً لمواجهة تلك القوة القاهرة؛ حتى أصبح كثير منهم يعتقد أن هذا الواقع السيئ أمر لا مفر عنه وشر لا بد منه، فأصيبوا بهزيمة نفسية محبطة، وأصبحوا لا يؤمنون ولا يعتمدون ولا يطمئنون ولا يثقون، إلا بالقوة المادية فحسب، وغدوا ينظرون إلى الغرب بنفسية الغالب والمغلوب، وجنت الأمة آثار تلك الهزيمة النفسية المحبطة، وهو ما تعيشه اليوم بكل مآسي الواقع ومرارته.
- من آثار الهزيمة النفسية:
لا يحتاج المرء إلى كبير تأمل ليدرك إلى أي مدى أثرت هذه الهزيمة النفسية في واقع أمته؛ فهي لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان، وألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية، والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق لعدوها ما أراد من السيطرة على معظم أفرادها نفسياً، ومن ثم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً بل وسلوكياً.
وإنه ليصعب على المسلم أن يُشخّص الآثار المترتبة للهزيمة النفسية على أمته دون أن يصاب بحشرجة يصعب معها مواصلة حديثه، ومن يُتابع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، يجد أن الأمة الإسلامية بلغت ـ بسبب عجزها ويأسها ـ حداً لا مزيد عليه من الذل والهوان، حتى إنه لا يكاد يوجد عضو من أعضائها، إلا وفيه جرح ينزف، ودم يثعب، وشعب يُهان، وحرمات تنتهك، وأراضٍ تغتصب.
ووصلت أوضاع أمتنا إلى منتهى (الانحطاط والتخلف)(1)، وأصبحنا نعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وتداعت علينا الأمم الكافرة كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وتسلطوا علينا من كل جانب، وأصبحنا نعيش عصر (الغثائية) التي أخبر عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - بقوله:(1/1668)
«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»(2).
نعم! مليار ومئتا مليون مسلم، ولكن لا وزن لأكثرهم ولا قيمة، معظم دُولهم ضعيفة تعاني الفساد وتشكو الفقر، وأكثر شعوبهم مسكينة تعاني الجهل وتشكو القهر.
وجنت الأمة آثار الهزيمة النفسية التي تعايشت معها سنين طويلة، ولم تستطع معظم دولها الخروج منها حتى الآن؛ بل ولم تبذل ما يوحي بمجرد المحاولة، فقعدت واستسلمت وتخلفت وذلت، فاستُبيحت(3).
- فقه الضعف والقوة:
القوة المادية ـ في كل زمان ومكان ـ هي إحدى دعائم الأمم والدول، ولا ينبغي التهوين من شأنها أو التشكيك في أثرها؛ فهي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب شرعي، وطلب النصر من دون بذل الغاية القصوى في الإعداد ـ حسب سنن الله ـ عبث بالأسباب، وتعطيله تعطيل لحكمته سبحانه؛ فالله ـ تعالى ـ جعل للطير والبهائم عُدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب، وخلق للآدمي عقلاً يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصن بالأبنية والدروع، ومن عطّل نعمة الله في ترك السبب فقد عطّل حكمته(4).
فلا أحد يقلل من أثر القوة المادية وشدة الحاجة إليها؛ إلا أن المبالغة في الحديث عنها، وإشعار شباب الأمة أن ما هم فيه من الذل والهوان، إنما هو بسبب ضعف قوتهم المادية، وأن طريق النهوض والخروج من الهوان الذي حلّ بأمتهم إنما يكمن ـ فقط ـ في الحصول على تلك القوة ومجارات الغرب في تقدمه العلمي والتقني حتى يصبح لنا قوة تضاهي قوته، ونحو ذلك من المفاهيم الخاطئة التي ولّدت الكثير من السلبيات المتعددة. فبالإضافة إلى كون ذلك المفهوم خطأ محضاً يخالفه التاريخ والواقع، وكونه انحرافاً كبيراً في التصور الصحيح لمفهوم القوة والموازنة بينها وبين القوة الروحية ـ كما سيأتي ـ فهو أيضاً صرف لشباب الأمة عن واقع أمتهم من حيث بُعد كثير من المسلمين عن دينهم وعدم إشعارهم بأثر ذلك في ضعف أمتهم وهوانها، كما أن التركيز على القوة المادية وجعلها المخرج الوحيد لأزمة الأمة وهوانها فحسب؛ تعطيل للقوة الروحية التي تمتلكها الأمة، وتغييب لها في نفوس أبنائها بالرغم من أهميتها وأثرها الكبير في تغيير نفوسهم وإحياء روحهم وإعادة الثقة إليهم، كما أن التركيز على القوة المادية فحسب استمرار لهزيمتهم النفسية وزيادةٌ ليأسهم وقنوطهم من إمكانية نهضة أمتهم مرة أخرى؛ إذ إن الأمة الإسلامية الآن لا تملك ذلك التفوق المادي الذي تضاهي به ما تملكه الدول الغربية؛ فهم قد سبقونا في هذا المضمار سبقاً واسعاً، وليس من المنتظر ولو بعد عدة قرون أن نجاريهم في هذا الجانب فضلاً عن التفوق عليهم ـ إلا أن يشاء الله تعالى ـ.(1/1669)
ومع أهمية القوة المادية وضرورة العناية بها، إلا أن أمتنا تمتلك من مقومات القوة والنهضة ما هو أهم من القوة المادية البحتة، تمتلك القوة الإيمانية، وكانت السبب الأول في نهضتها وعزها في ذلك الوقت، وهو ما نؤمِّل أن يكون سبباً في نهضتنا وعزتنا مرة أخرى.
ولا أقصد من هذا التقليل من شأن القوة المادية، أو أن نيأس ونقنط من إمكانية امتلاكها، أو أن نُسلّم ونستسلم لأعدائنا لعدم مجاراتهم في قوتهم المادية، بل لا بد من السعي الجاد للإعداد والاهتمام بالنواحي العلمية والتقنية والعسكرية والحربية، وأن نبذل فيها غاية جهدنا ووسعنا، ولكن لا بوصفها (الإكسير) الذي سيعيد لنا العزة والهيبة المفقودة، وإنما بوصفها (مطلباً) لعمارة الأرض واستخلافها، و (ضرورة) ذاتية لوجودنا وتقدمنا، و (حاجة) ملحة للذبّ عن ديننا ومواجهة عدونا(1).
والله ـ تعالى ـ أمرنا بذلك وأوجب علينا العناية بالنواحي المادية، وعمارة الأرض، وإعداد القوة، فقال ـ سبحانه ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فالله أمرنا بالإعداد ولكن حسب الاستطاعة، والمقصود بذلك كما يقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي مهما أمكنكم»(2)، والإعداد حسب الاستطاعة ـ مع الإيمان ـ من أسباب النصر لا من أسباب الهزيمة. وحينما ذكر الله ـ سبحانه ـ القوة فقد أطلقها دون قيد، وفي ذلك أيضاً دلالة صريحة على أن القوة نسبية، فلا يُشترط التكافؤ فيها، فضلاً عن أن يكون لدينا قوة أعظم مما لدى العدو.
ولذا يجب عدم الاستسلام للعدو وإيقاف المقاومة (جهاد الدفع)، إذا احتل بلداً من بلاد المسلمين، بحجة عدم كفاية الإعداد، ليقوم العدو بعد ذلك بابتلاع ديار المسلمين بلداً بعد آخر، فلا بد من الدفع حسب الاستطاعة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يُدفع بحسب الإمكان»(3).
وإذا رأى علماءُ أهلِ بلدِ النازلةِِ عدمَ قدرتهم على الجهاد، فليس شرطاً أن يكون ذلك عبر أساليب قتالية، وإنما عبر وسائل كثيرة: علمية، أو اجتماعية، أو دعوية، أو إغاثية، أو إعلامية وهو الأهم ـ والأهم جداً ـ في هذا العصر، ونحو ذلك مما يحتاجه أهل كل بلد؛ فهم الأدرى بحسابات المصالح والمفاسد، والضرورات الشرعية التي تُقدر بقدرها.
ومثل تلك الحسابات والضرورات التي لها علاقة بمصير أمة ما، ينبغي ألا ينبري لها آحاد العلماء وأفرادهم، فلا أحد يؤمَن عليه النقص أو الزلل، وإنما الذي يُقدّر الجهاد من عدمه، علماءُ أهل بلد النازلة الراسخون في العلم، أهل الدين الصحيح، ولا يكفي هذا، بل لا بد أن يكونوا من الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ: «الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب(1/1670)
عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا»(4).
ومشكلة كثير من المسلمين اليوم في نظرتهم للقوة المادية، أنهم ما بين مُشرّق ومُغرّب:
- فبعضهم يهوّن من القوة المادية ويقلل من أثرها والعمل على امتلاكها، لدرجة أن بعضهم يرى قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ويتناسى ما بعدها: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فغفلوا عن الغرض من إعداد القوة، وهو إرهاب العدو.
- وبعضهم الآخر، ضخّم قضية القوة المادية وبالغ في أثرها، وعلّق ثقته بها واعتماده عليها، حتى جعل بعضهم من القوة المادية إلهاً يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحوُ الأسباب أن تكون أسباباً نقصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع»(5).
والتوازن في النظر إلى القوة المادية أمر مطلوب؛ فهي سبب وإن كانت من أهم الأسباب إلا أنه ينبغي عدم الاعتماد عليها، وانظر وتأمل آثار التعلق والاعتماد على السبب: ما نتائجه وعواقبه؟ لقد كان صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة يشاركون فيها أقل عدداً وعُدّة من عدوهم، وكان اعتمادهم بالنصر على الله ـ تعالى ـ وحده، فكان النصر حليفهم والفوز رديفهم، عدا معركة واحدة هي معركة (حنين) شاركوا فيها وكانوا أكثر عدداًَ، فاعتمدوا ـ في البداية ـ على ذلك، حتى قال قائلهم: «لن نُهزَم اليوم من قلة»، فوكلهم الله ـ تعالى ـ إلى السبب الذي اعتمدوا عليه، فلم يُغن عنهم شيئاًَ {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
فنحن أمة رسالة، نستمد قوتنا وعزتنا من ديننا أولاً، وإذا كان الله ـ تعالى ـ قد أمرنا بإعداد القوة المادية، فقد أمرنا قبل ذلك بإعداد القوة الإيمانية، فلا ينبغي الاعتماد عليها فحسب؛ وما قيمة الإيمان حينئذٍ إذا كان مطلوباً منا ـ كما يزعم بعض الانهزاميين ـ أن نعد قوة كقوة العدو، وألا نقاتله حتى نماثله في القوة، فالمسألة توازن لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان الإعداد المادي (مهمّاً) وهو كذلك؛ فإن الإعداد الروحي والزاد الإيماني (أهمُّ) وأوْلى. فمن المسلّم به أن المقدمات إذا صحّت، أعقبها نتائج مثمرة بإذن الله.
والشواهد تدل على أن حركة التاريخ لا تخضع للعوامل المادية فحسب؛ وإلا فما كان لموسى أن يصارع فرعون، ولا للضعفاء أن يقاوموا المستبدين من المستعمرين، ولا لمحمد -صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه أن يقاتلوا قريشاً والقبائل العربية وفارس والروم. ولولا الخيانات لما سقط (العراق) حتى وإن تفوَّق الأعداء في العدد والعدة، وبالرغم من تلك القوة القاهرة؛ فإن المقاومة العراقية ما(1/1671)
زالت صامدة ثابتة، ولو تمكنت من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي يمتلكها العدو لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم. قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
ومن يستقرئ التاريخ يجد فيه ما يبدد التشاؤم ويرفع اليأس ويزرع الثقة ويُذكي الأمل؛ فليس شرطاً أن الأمم المؤمنة بالله لا تتفوق ولا تنتصر على أعدائها إلا إذا كانت مكافئة لهم أو أقوى عدداً وعدة منهم.
بنو إسرائيل، كانوا يعيشون في مصر، وكانت بالنسبة لهم بيئة قاتمة خانقة، قد أطبقت عليهم كل الإطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب؛ فهم يعيشون في حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد وعدة، وفقر وذلة، وفي ظل هذه الظروف يولد موسى ـ عليه السلام ـ وولادته وحياته كلها تحدٍٍّ لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء: أراد فرعون ألا يولد فوُلد، وأراد ألا يعيش فعاش. يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ عند عدو قاهر، وسُخرة ظالمة، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي؛ فيجد الضيافة الكريمة، ويزوجونه إحدى بناتهم، ويرجع بأهله فيلفُّه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها، فيجد نوراً يسعد به بنو إسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها، ويكرم بالنبوة والرسالة، ويدخل على فرعون في أُبهته وسلطانه، وفي ملئه وأعوانه. وهكذا يهلك فرعون وقومه (الأغنياء الأقوياء) ويملك بنو إسرائيل (الضعفاء الفقراء): {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي (القوة) التي قهر بها موسى (أعظم قوة) في عصره ومصره؟! وما سر انتصار بني إسرائيل على أعدائهم؟! وما (سلاحهم) الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر(1)؟
وماذا لو كان موسى ـ عليه السلام ـ يفكر تفكير كثير من المسلمين اليوم، ويستعرض الإمكانات والقوة التي يملكها هو وقومه، ويوازنها بما يملكه فرعون وجنده، بنظرة مادية محضة، هل كان سيواجه فرعون ويدخل معه في حرب لا هوادة فيها؟!
ومثال آخر: أرجو أيضاً أن يكون في ذكره ما يبدد اليأس ويزرع الأمل والثقة:
فالأمة العربية كانت أمة موغلة في التخلف والضعف والهوان والانحطاط في معظم الميادين والمجالات، السياسية والعقدية والاجتماعية والسلوكية والحربية.
ومن كان هذا شأنهم فإنهم لا يفكرون ولا يحلمون حتى في المنام بالهجوم على الدول المجاورة فضلاً على الانتصار عليها، حتى إن فارس والروم (الدول العظمى في ذلك الوقت) لم تفكرا مجرد تفكير في فتح الجزيرة والاستيلاء عليها، وذلك لقلة خيراتها ومواردها، وهوان أهلها عليهم.(1/1672)
ولكن الله ـ تعالى ـ امتن على تلك الأمة بأن بعث فيهم خاتم أنبيائه ورسله محمداً -صلى الله عليه وسلم - ، فجاء إليهم وعندهم من الفساد والهوان والبعد عن الفطرة ما ذُكر، وفي ظل سنوات معدودة، تغيرت حالهم، وانقلبت أمورهم، فخرجوا من جزيرتهم كالسيل الجارف يفتحون ويقهرون، بثياب مرقعة، وسيوف بالية، على خيل بعضها عارية؛ فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وانقلب رعاة الشاة والإبل إلى ساسة لأرقى الأمم.
هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا الانقلاب الهائل في جميع الميادين والمجالات، اعتبره المؤرخون الغربيون لغزاً من ألغاز التاريخ، بل رأوا أن هذا الحدث هو أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني كله.
لماذا سموه لغزاً؟
لأنهم قالوا: إن العادة جرت أن الغلبة والانتصار للدول بسبب أمرين: إما كثرة عدد أو قوة عتاد، والأمة العربية في ذلك الوقت لم تكن تملك لا كثرة عدد ولا قوة عتاد.
أما مسألة العدد:
فكلنا نعلم أنه ليس هناك معركة شارك فيها المسلمون إلا وهم أقل عدداً وعدة: بدر ـ أحد ـ الأحزاب ـ المريسيع ـ مؤتة... إلخ، عدا معركة واحدة، كان المسلمون فيها أكثر عدداً وعدة وهي معركة حُنين، وقد سبق أن ذكرنا ما حصل فيها من اعتمادهم على كثرتهم فلن تغن عنهم شيئاً. كل ذلك ليُشعرهم ـ ومن بعدهم إلى قيام الساعة ـ أن المسلمين لا ينبغي أن يتعلقوا بأي سبب من الأسباب المادية، لا بكثرتهم، ولا بقوتهم، وإنما بإسلامهم وإيمانهم وتوكلهم على ربهم وثقتهم به أولاً.
أما مسألة قوة العتاد:
فالمسلمون لم يكونوا متقدمين في ذلك الوقت بأي نوع من أنواع السلاح، والجيش لم يكن منظماً، إنما هم مجموعة من المتطوعين يجهزون أنفسهم بأنفسهم حتى إن بعضهم كان يسمع منادي الجهاد فيخرج وما معه شيء، لا رمح ولا سيف ولا مركب {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92](1). ومع ذلك اكتسحوا العالم المعروف كله.
فما هي القوة التي قهر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم - من وقف في طريق دعوته؟ وما سر انتصار المسلمين في معظم الغزوات التي شاركوا فيها وأخضعوا أعظم قوتين في عهدهم (فارس والروم) تحت حكمهم وسيادتهم؟ وما سلاحهم الذي واجهوا به جميع أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم عدداً وعدة؟
والجواب: ليس لغزاً ولا يحتاج لكثير تأمل؛ فنحن معشر المسلمين نعرف أن الإيمان هو السبب الذي عز به المسلمون وسادوا.(1/1673)
وتصوروا ماذا لو كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من صحابته الكرام يفكرون تفكير كثير من المسلمين اليوم ويوازنون ما يملكونه بما يملكه أعداؤهم من القوة المادية فحسب؟ وما كان مصير الإنسانية لو قال المسلمون في ذلك الوقت: لا حول لنا ولا قوة في مقارعة تلك القبائل والدول، ولا ينبغي أن نقاتلهم حتى نملك مثل ما يملكون من كثرة العدد وقوة العتاد؟
لو قالوا مثل ذلك، فهل كانوا سيُخضعون العالم في ذلك الوقت تحت نفوذهم وسلطانهم؟
ولأجل ذلك كله، فإن سبب ضعف أمتنا، وذلها، وهوانها، وتسلط أعدائها عليها، ليس لأنها متخلفة علمياً وتقنياً وحربياً وعسكرياً ـ وإن كان لذلك أثر ولا شك ـ إلا أن السبب ـ الرئيس ـ لضعفها وتخلفها هو بعدها عن دينها، وما تخلفها في النواحي العلمية وغيره من المجالات إلا أعراض للبعد عن الدين، وهو المرض الحقيقي الذي تعانيه أمتنا، وكان السبب الأول في ضعفها وهوانها، وهو عقوبة من العقوبات الإلهية لبعد الأمة عن دينها. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وحيث ظهر الكفار، فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهراً عليهم، كان ذلك لتفريطهم في أداء الواجبات باطناً وظاهراً، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطناً وظاهراً»(2).
ولذا فإنه لا مخرج من الحالة المتردية والأوضاع المأساوية التي تعيشها أمتنا، إلا بالرجوع إلى هذا الدين القويم.
الهزيمة النفسية داء عضال لم يتسلط على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
وأمتنا اليوم لا تعاني من شيء كمعاناتها من آثار هذه الهزيمة التي دمرت معنوياتها، وحطّمت دوافعها، وأحبطت تطلعاتها، وأصابتها بالضعف والهوان؛ حيث ألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها، ودانت له بالتبعية والولاء التام، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة تذكر، حيث تشعر بمرارة العجز والقهر واليأس، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين أية بارقة أمل في نهضة حضارية جديدة، أو مستقبل مشرق واعد، فتحقق للعدو ما أراد من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة نفسياً ومن ثَم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.
- حتى لا نيأس:
في عصور مضت دانت القوة والغلبة للأمة الإسلامية واستمرت قروناً طويلة، وحينما بدأ المسلمون بالتخلي عن دينهم بدأ الضعف يدب في أوصالهم حتى دانت القوة والغلبة لغيرهم.
وحينما استكملت أمريكا أسباب النصر من القوة وإقامة العدل وأداء الحقوق وعدم الظلم لرعاياها؛ دانت لهم القوة حسب سنن الله الجارية في التمكين والاستخلاف. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما(1/1674)
تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»(3).
واليوم بدأت تتعالى الأصوات وترتفع من عقلاء أمريكا قبل غيرهم، محذرين من السقوط والزوال، بعد أن فقدت أمريكا تلك الخاصية، وأصبح الظلم والإرهاب والاستبداد وانتهاك حقوق الآخرين والجور والغطرسة، سمة من أهم سماتها. وستسقط حتماً كل دولة تجعل من الظلم والاستبداد والقهر والإرهاب منهجاً لها ومبدأً من مبادئها، فالكون يسير حسب نواميس شرعية ووفق سنن جارية، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
وليس المهم متى سيحدث ذلك؛ إنما المهم أنه سيحدث إن عاجلاً أو آجلاً، والذي أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى، قادر على أن يهلك مَنْ دونهم، وأن يسلط عليهم جنداً من جنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، وأمتنا متى استكملت أسباب النصر والتمكين فإنها حتماً ستعود قوية عزيزة، في هذا الجيل أو الذي بعده، والنصر والتمكين ليس شرطاً أن يراه الداعية بعينه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم - وعد بفتح فارس والشام واليمن، ولكن ذلك لم يتحقق إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين. فدعوة الله لا بد أن تعلو، ودين الله لا بد أن ينتصر ويسود، ولا نقول هذا جُزافاً؛ وإنما هو عقيدة نستقيها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم - .
- المد والجزر في تاريخ المسلمين:
أقول هذا بعد أن بلغ اليأس والقنوط والإحباط ـ من عودة هذه الأمة إلى مجدها ـ منتهاه عند قطاع عريض من المسلمين، ونسوا أن ما تمر به الأمة من ضعف، إنما هو مرحلة سبق أن مر بها ما هو أشد ضراوة وأعنف شراسة؛ فقد تعرضت من قبل وعلى امتداد تاريخها الطويل لمحاولات عديدة للقضاء عليها واستئصال شأفتها وإبعادها عن دينها ومصدر عزها، ولكنها في كل مرة كانت تقوم من جديد، بعزيمة أقوى وشكيمة أشد، ومن يستقرئ تاريخ أمتنا، يجد أنه كان بين مد وجزر؛ فمتى كانت الأمة قوية بدينها وحققت أسباب النصر عزّت وسادت، ومتى ضعف تمسكها به ذلّت واستكانت، وإليك مصداق ذلك:
- قبل وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم - ، كانت الأمة في عز وسؤدد، وقوة ومنعة، وحينما توفي -صلى الله عليه وسلم - ، مرت الأمة بأزمة عصيبة، ومرحلة خطيرة؛ حيث عَظُمَ الخطب، واشتد الكرب، وظهر مدّعو النبوة، وامتنع قوم عن أداء الزكاة، وارتد من ارتد من العرب، حتى إنه لم يبق للجمعة مقام في بلد سوى في مكة والمدينة، وأصبح حال المسلمين كما يقول عروة ـ رضي الله عنه ـ: «كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم» حتى وُجد(1/1675)
من المسلمين من بلغ به اليأس أن قال لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «إن هؤلاء جُل المسلمين والعرب على ما ترى قد انقصت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين»(1).
في ظل تلك الأوضاع، واليأس قد بلغ منتهاه، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة مرة أخرى؟!
ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يعتره اليأس، ولم يتملكه القنوط، وإنما واجه هذه الأحداث، وهذه البلبلة، وهذه النكبات، بإيمان راسخ، وعزيمة ثابتة، وتفاؤل عظيم، حتى ثبت وحارب مدعي النبوة والمرتدين، وأعاد للمسلمين قوتهم، وللخلافة هيبتها، ولليائسين تفاؤلهم.
وفي القرن الرابع الهجري من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة، حينما قام القرامطة في عام 417هـ باستباحة مكة يوم التروية! «حيث نهبوا أموال الحجاج، وقتلوا في رحابها وشعابها وفي المسجد الحرام بل وفي جوف الكعبة خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر ـ لعنه الله ـ على باب الكعبة، والرجال تُصرع من حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام وفي الشهر الحرام وفي يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ثم أمر بأن يُقلع الحجر الأسود، وقال: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم (اثنتين وعشرين) سنة»(2).
وتأمل أي ذلة ومهانة كانت تعصف بالمسلمين في ذلك الوقت: الحجر الأسود يُقلع من مكانه الطاهر، ويُحمل إلى بلد القرامطة ويمضي عندهم اثنين وعشرين عاماً قبل أن يعيدوه بأنفسهم، والأمة الإسلامية كلها لا تستطيع أن تجتمع لاسترداد حجرها الأسود!
وبعد هذه الحادثة المأساوية، التي لم تتكرر في تاريخ الإسلام والمسلمين، قل لي بربك: هل من مجال للمقارنة بين ما مر على المسلمين في ذلك العصر من الضعف والذل والمهانة، وما نمر به في هذا الوقت من أزمات؟
ومع ذلك فقد عاد المسلمون مرة أخرى، ونهضوا من كبوتهم وصحوا من غفوتهم، وعادوا كأقوى ما يكونون.
- وفي أواخر القرن الخامس الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة لما تدفقت الجيوش الصليبية من أوروبا بأسرها على الخلافة الإسلامية، في تسع حملات صليبية شرسة، فقتلوا وطمسوا معالم الحضارة، واستعملوا جميع مظاهر الاضطهاد والعنف، واستولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وأُغلق المسجد الأقصى ولم تُقم فيه جمعة ولا جماعة، ووضعت الصلبان فوقه ما يقارب (قرناً) من الزمان، حتى ظن كثير من المسلمين في ذلك الوقت، ألاَّ أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وألاَّ رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولا سيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد أكثر من (سبعين ألفاً).(1/1676)
في ظل هذه الظروف، من كان يظن أن هذه البلاد ستتحرر في يوم ما، على يد البطل (صلاح الدين الأيوبي) في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من العزة والقوة والسيادة ما شرّف التاريخ الإنساني.
ومرة أخرى.. لم ييأس المسلمون ولم يقنطوا من رحمة الله؛ فقد عادوا ونهضوا من كبوتهم، واستردوا المسجد الأقصى بعد أن رفع النصارى الصلبان فوقه ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه أو مجرد دخوله قرابة (قرن) من الزمان. بينما يصاب اليوم كثير من المسلمين باليأس والقنوط وفقد الأمل بالكلية من مجرد التفكير في إمكانية استرداد المسجد الأقصى مرة أخرى رغم أنه لم يمض على احتلاله سوى سنوات معدودة.
وإذا كان المسلمون في ذلك الوقت ـ وحالهم كانت أشد مرارة من حالنا ـ قد نهضوا بعد تلك الكبوة؛ فالأمة اليوم قادرة بعون الله تعالى، ثم بالجهود المنتظرة من أهل الصلاح والإصلاح، أن تعود من جديد؛ وإرهاصاتُ ذلك تبدو في الأفق واضحة جلية بعون الله تعالى.
- وفي القرن السابع الهجري، من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة، لما خرّب المغول العالم الإسلامي، ونهبوا الأموال، وداسوا القِيَم، وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً، حتى قيل إن جبالاً وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين؛ حيث كانوا في غاية الهمجية والوحشية، فكانوا يقتلون كل من يقابلهم دون تفرقة، فقتلوا العلماء والمشايخ والكهول والنساء والولدان، وأحرقوا المساجد ودور الكتب، وحطموا كثيراً من معالم الحضارة الإسلامية. وقد ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ عدد قتلى المسلمين إثر ذلك الغزو فقال: «وقد اختلف الناس في كمية من قُتِل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس»(1).
وبلغ من شدة الحدث، أن المؤرخ ابن الأثير ـ رحمه الله ـ قال: «لقد بقيت عدة سنين مُعْرِضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أُقدّم إليه رجلاً وأُؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهَل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً»(2).
من كان يظن أن بلاد الإسلام ـ بعد هذا ـ ستقوم لها قائمة، أو أنها ستتحرر في يوم من الأيام على يد البطل المقدام (قطز) في معركة عين جالوت الحاسمة، ويعود المسلمون إلى سابق عهدهم(3).
ومرة أخرى.. هل من مجال للمقارنة بين ما حصل للمسلمين في ذلك الوقت من القتل والإيذاء والتنكيل، بتلك الصورة وتلك الوحشية وتلك الشراسة وذلك العدد الكبير من القتلى، وبين ما يحصل للمسلمين في هذا الوقت!(1/1677)
ومع ذلك كله فقد نهضوا من كبوتهم وصححوا خطأهم وعادوا إلى ربهم، فبنوا حضارتهم وواصلوا مسيرة فتوحاتهم بكل قوة وثبات.
ومن عجائب التاريخ وفرائده، أنه مع هزيمة الأمة في ذلك الوقت عسكرياً، إلا أنها لم تُهزم نفسياً؛ فقد ظل كثير من المسلمين معتزين بدينهم مستمسكين به، لدرجة أنهم أثَّروا بالغالب ولم يؤثر بهم، على خلاف العادة؛ إذ جرت أن المغلوب مجبول على التأثر بالغالب، إلا أن الذي حصل هو عكس ما جرت عليه تلك العادة، فدخل الغالب بدين المغلوب، وهذا من غرائب التاريخ الإنساني. وفي هذا دلالة على أن الأمة وإن هُزمت عسكرياً إلا أن كثيراً منهم لم ينهزموا نفسياً، ولم يفقدوا الأمل، ولم يصابوا باليأس والإحباط كما أصيب به كثير من المسلمين اليوم. فقد صحا أبناء ذلك الجيل من غفلتهم واستيقظوا من غفوتهم، وعادوا إلى دينهم فعاد لهم العز والتمكين مرة أخرى، بعد معركة عين جالوت المشهورة.
- وفي القرن الرابع عشر الهجري المنصرم، من كان يظن أن الإسلام سيعود من جديد، وقد أُصيب المسلمون بعدة طعنات لو وُجهت لغيره من الأديان لذاب واندرس؛ ففي ذلك القرن: سقطت دولة الخلافة الإسلامية على يد الهالك أتاتورك، وأصبح يُنادَى بالعصبية والقومية، واستُعمرت الدول الإسلامية وقُسمت بين دول الغرب، وعمت البلوى والافتنان بالحضارة الغربية حتى أصبح المثقفون ينادون بضرورة اللحاق بركب تلك الحضارة والانضواء تحت لوائها بخيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحمد منها وما يُعاب. أما العقائد فقد أصبحت الطرق الصوفية هي السائدة حتى عم الظلام والجهل والبدع والخرافات لا أقول بعض أوطان المسلمين، بل معظمها، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وغابت معظم معالمه التشريعية حتى كاد يندرس في معظم البلدان الإسلامية، وبلغ اليأس منتهاه في إمكانية عودة الإسلام من جديد لدى البقية الباقية من المستمسكين به، بل ظن كثير منهم أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخرى.
ولكن الله ـ تعالى ـ بعث هذه الأمة من جديد، وبدأ الناس يعودون إلى دين الله أفواجاً، وبدأت الأمة تنهض بعد الغفلة، نرى ذلك ونلمس مظاهره في جوانب كثيرة ومجالات عديدة بحمد الله تعالى.
- من بشائر النصر:
إن مما يسر الخاطر ويفرح القلب ويُقوي الأمل في إمكانية عودة هذه الأمة إلى سابق عزها ومجدها، ما نراه من الآثار الملموسة للصحوة التي بدأت تؤتي أُكلها ونتنفس ثمرها ونستنشق عبيرها.
هذه الصحوة نتاج طبيعي لإخفاقات متكررة وهزائم متتابعة عاشتها الأمة، ولذا فقد ولدت وترعرعت وهي متعطشة لعز الإسلام وتمكينه، بعد أن جُربت جميع الشعارات الرنانة ولم تفرز إلا النكسات المتعددة، وتكالب الأعداء عليها من كل جانب.(1/1678)
وقد كانت هزيمة أو نكسة يونيو 1967م، بداية تحول كبير في عقول كثير من شباب الأمة الإسلامية؛ حيث تركت تلك الهزيمة آثاراً موجعة في نفوس ما لبثت أن تجلت على شكل صحوة عارمة بين طلبة الجامعات، ثم امتدت وبسرعة لتعبر عن نفسها في مظاهر كثيرة ومجالات عديدة بين جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
وما تزال إيجابيات هذه الصحوة قائمة ملموسة، تنمو وتزداد مع تقادم الأيام والسنين؛ فقد فرضت نفسها على الأحداث العالمية برمتها، وأصبحت همّاً عالمياً، تُفرِح الأصدقاء وتؤرق الأعداء، وتُقام من أجلها المؤتمرات، وتُعقد بسببها اللقاءات، ما بين محب يسعى لإصلاحها وتقويمها، وكاره يخطط لوأدها وإجهاضها؛ فهي أكبر مشروع حضاري نهضوي في العالم المعاصر، وإن كانت ثمراتها ظاهرة ملموسة، إلا أنها حتماً ستؤتي أُكلها وسيتم جني ثمرها بصورة أكبر في القادم من الأجيال اللاحقة بإذن الله تعالى.
ولعل من أهم مظاهر ثمراتها ما نراه من العودة الجماعية لهذا الدين، حيث عمّت بفضل الله ـ تعالى ـ الصحوة ربوع العالم الإسلامي كله، بل تجاوزت إلى ربوع المعمورة، حتى أصبحت الكنائس تُشترى وتُحوّل إلى مساجد للعبادة.
وأصبحنا نرى ونسمع عن مكتسبات ومستجدات ما كان أحد يظنها قبل بضع سنوات، من انتشار الوسائل الدعوية التربوية المختلفة من فضائيات وصحف ومجلات إسلامية، أصبحت تتكاثر وتتوالد بكثرة العائدين إلى الله.
وهذه الأمة ما تزال حُبلى بالمبشرات، وهي قادرة بعون الله ـ تعالى ـ على النهوض والعودة من جديد إلى سابق عزها ومجدها، ولعل مما يُبشر بذلك:
- تتابع سقوط الشعارات والحركات والنقابات والأحزاب غير الإسلامية، وثقة الناس في المقابل بالأحزاب والمنظمات والحكومات الإسلامية.
- ظهور أطفال الحجارة في فلسطين والعراق والفلبين وكشمير، والشيشان، وأفغانستان وغيرها في وسائل الإعلام المختلفة وهم يحملون المصحف في يد والبندقية في اليد الأخرى.
- صمود المقاومة العراقية واستمرار ثباتها، بل وتجدد قوتها شهراً بعد آخر وسنة بعد أخرى، ولولا الخيانات وخذلان الأصحاب لما سقطت العراق ـ ابتداء ـ بهذه السهولة حتى وإن تفوقت أمريكا في العدد والعدة، ولو تمكنت المقاومة من امتلاك (بعض) أنواع الأسلحة التي تمتلكها أمريكا لما بقي أولئك الأعداء يوماً واحداً في بلدهم.
- ولعل من أهم المبشرات التي تدل دلالة واضحة على صحوة هذه الأمة، تنامي العمل الإسلامي في معظم دول العالم وقيامه بدور بارز في نشر رسالته، وهو الأمر الذي جعل حكومات العالم تقف أمامه بقوة للحد منه ومحاولة تجفيف منابعه بدعوى محاربة الإرهاب. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ(1/1679)
بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
[الصف: 8 - 9].
والبشائر بحمد الله كثيرة، ولا يمكن الإحاطة بها أو حصر مظاهرها، وإنما هي أمثلة ونماذج تحيي الأمل وتدفع اليأس؛ فالأمة معطاء، والفأل مطلوب، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، والثقة بالله ـ تعالى ـ هي مقدمة النصر، والقوة المعنوية في كل أمة هي التي تدفع شبابها ورجالها إلى تحقيق المزيد من الانتصارات الخالدة في كل زمان ومكان.
وما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة، ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها ومصدر عزها ومجدها. فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار، وشدة ظلمة الليل دليل على قرب انبلاج الفجر.
ـــــــــــــــ
بشائر الهزيمة الأمريكية
آيات وتحديات
(2 ـ 2)
د. عبد العزيز كامل
يخطئ كثيراً من يظن أن الصراع الدائر في العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم، أو يخص المجاهدين هناك فقط، وهذا الخطأ يعود لأمرين جوهريين: أولهما: أن المحتل الأمريكي الذي جاء إلى المنطقة لمطامع إمبراطورية بذرائع نشر الحرية والديمقراطية انطلاقاً من العراق؛ أراد تحويل هذا البلد إلى قاعدة عسكرية يمكن الوثوب منها إلى دول الجوار القريب والبعيد للهيمنة عليها بصورة أو بأخرى؛ فالخطر هنا لم يكن قاصراً على العراق، والأمر الثاني: أن المحتل الأمريكي أعلن مراراً على ألسنة ساسته بأن العراق أصبح الساحة الرئيسية لما تسميه أمريكا بالحرب (العالمية) على الإرهاب! وهو ما يعني أن تلك الحرب يمكن أن تنتقل إلى ساحات أخرى في بلدان أخرى، يقع عليها الاستهداف الخبيث بخطة إبليس المسماة بـ (الفوضى الخلاقة) التي يريد الأمريكيون تكرارها في كل بلد يريدون أن ينقلوا إليه مركز الحرب العالمية على الإسلام، المتسترة وراء الحرب على الإرهاب.
المجاهدون في العراق، أو ما يصطلح على تسميتهم في الإعلام العربي بـ (الجماعات المسلحة)، وما يصطلح في الإعلام الأمريكي والغربي على تسميتهم بالإرهابيين أو المتمردين، هؤلاء قاموا بقدر كبير من الواجب التاريخي في التصدي للهجمة الأمريكية، من الناحية العسكرية الميدانية على الوجه الذي(1/1680)
فصلت الكلام عنه في الحلقة السابقة من هذا المقال، وهو الأمر الذي رأيت فيه ـ ولا أزال ـ معجزة تاريخية، وآية ربانية تمر بنا وأكثرنا عنها معرضون أو غافلون.
إلا أن تلك الإنجازات الضخمة والنتائج الجبارة التي ألجأت قوة عظمى بحجم الولايات المتحدة إلى التسليم «العملي» بالهزيمة باتخاذ قرار الانسحاب بعد أقل من ثلاث سنوات من الغزو تتهددها تحديات، يمكن أن تفرغ الإنجاز الضخم من محتواه، وتحوِّل النتائج المبهرة من صورتها الإيجابية إلى صور أخرى سلبية، وهذا المحظور الخطير؛ يمكن أن يقع ـ ونسأل الله ألا يقع ـ إذا حدثت محاذير أساسية، يمكن اختصارها فيما يلي:
1 ـ إذا لجأ الأمريكيون إلى خيار (الأرض المحروقة ) عند انسحابهم المخزي المهزوم، بإشعال حرب أهلية، طائفية وعنصرية، يمكن أن تؤدي إلى إحراق ما تبقى من العراق، إذا استجاب لها أقوام دون تقدير للظرف التاريخي الخطر، والمنعطف الحضاري الحساس.
2 ـ إذا أصيب بعض المقاومين بداء نشوة النصر، فراحوا يسارعون إلى جمع الغنائم واقتسامها في شكل مواقف متعجلة، وقرارات منفردة من شأنها أن تمكن الأعداء من استعادة التوازن، أو تمكِّن بعض الفرقاء من اختطاف النصر، واقتطاف الثمار.
3 ـ إذا استمرت الأنظمة في الدول العربية والإسلامية في خذلان العراقيين والسير في ركاب الأمريكيين، لينوبوا عنهم ـ بعد الانسحاب ـ في أداء مهمة أمريكا المستحيلة في العراق، وهي تقوية العملاء وحمايتهم وإضفاء الشرعية على حكومتهم.
4 ـ إذا استمر أكثر الإسلاميين في رفع أيديهم عن التحدي الذي تواجهه الأمة في العراق عقائدياً وحضارياً ـ حيث يتربص به العلمانيون ليسلخوه عن الإسلام، والفرس ليعزلوه عن العروبة، وأمريكا والغرب واليهود ليردوه إلى عصور ما قبل الحضارة.
والضرورة تقضي ـ ونحن على مشارف الاستبشار بالنصر الجديد ـ ألا يسمح الغيورون على الأمة وحرماتها في العراق وخارجه؛ أن يتحول هذا الانتصار إلى انكسار؛ فكم في التاريخ من نجاحات لم يحفظها أهلها فتحولت إلى إخفاقات؛ فما حدث في أُحُد، كُبِّرت صور عديدة منه في الشام وإفريقيا والأندلس، وكُررت في عصرنا في حرب رمضان وحرب أفغانستان. ولكن أوضاع الأمة هذه المرة لا تحتمل مثل هذه التحولات الحادة، فالخصم ضخم، والمشوار طويل، والجراح كثيرة.
ü لكن الفرصة سانحة:
نعم!... فهناك متسع من الحظ لأن تغالب الأمة هذه التحديات، وتمارس خيريتها مرة أخرى فتستنقذ العالم من غول المغول الجدد، والصليبيين المعاصرين في حملاتهم المتجهة ـ كما هي العادة في التاريخ ـ نحو شرقنا العربي الإسلامي بغرض إنشاء إمبراطورية جديدة من إمبراطوريات الشر، وقد ساق الله بأقداره الحكيمة الأمور إلى تناغم عجيب بين أداء الفداء الأسطوري للمقاومين في العراق، مع الغباء(1/1681)
الاستثنائي للتخطيط الأمريكي الذي يتخبط في ورطاته، ويتورط في تخطيطاته من مرحلة إلى مرحلة وفق إستراتيجية هلامية، اتفقت عليها النخبة الحاكمة في أمريكا.
هذه الإستراتيجية، كانت تقوم ـ حتى الانتخابات الأمريكية الأخيرة ـ على أمور ثلاثة أساسية وهي:
وهذه الإستراتيجية التي تبدو منطقية لدى الأمريكيين، هي في الحقيقة غير عملية؛ لأنها تستند إلى عدة افتراضات وهمية: الوهم الأول منها: هو افتراض أن الوجود الأمريكي سيظل ممكناً رغم فداحة الخسائر حتى تحقق أمريكا مصالحها وتؤكد هيبتها وتثبت عملائها، والوهم الثاني: هو توقع أن يوافق أحرار العراق على قرار أمريكا بالاستقرار في بلادهم دون أن يضاعف هبّتهم لرد الصاع صاعين في وجه الغزاة ومن يشابههم، والوهم الثالث: هو افتراض سهولة القضاء على المقاومة عسكرياً، أو تدجينها والتغرير بها سياسياً، والوهم الرابع: هو افتراض وجود القابلية للممارسة الديمقراطية في البنية الطائفية والعنصرية العراقية، التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدم النموذج المحتذى ـ كما يحلم الأمريكان ـ في نشر ما يسمى بقيم الحرية والتعددية وقبول الآخر؛ فالطائفية والعنصرية في العراق جبرية قهرية تاريخية، لا يحيّدها أو يحد من أثرها إلا التوازن بين الأقوياء، ولا يزيل أوضارها إلا أخوّة الدين.
وعليه، فإن إستراتيجية أمريكا للانتصار في العراق هي إستراتيجية مفلسة سلفاً، لاستنادها إلى تلك الأوهام والافتراضات الخاطئة، وقد بدت أمام العالم مؤشرات إقبال الولايات المتحدة على مواجهة أسوأ النتائج المترتبة على انهيار إستراتيجيتها في العراق، وهذا وإن كان يحمل في طياته من المبشرات والتطمينات ما يحمل، وبخاصة فيما يتعلق بتسريع وتيرة الانسحاب المهزوم، إلا أنه يشير في الوقت نفسه إلى الكثير من المحاذير؛ لأن أمريكا التي ستواجه أسوأ النتائج، لا شك أنها وعملاءها سيُقْدِمون على أسوأ الحيل وأنذل التوجهات والإجراءات، للتغطية على النتائج الكارثية لهزيمتهم التاريخية في العراق.
والمتوقع أن يترجم هذا إلى عدد من التحديات الجديدة التي ستتوجب مواجهتها على الصعيد العراقي الخاص، والعربي الإسلامي العام.
ويمكننا أن نصنف هذه التحديات إلى مستويات عديدة، باعتبار أن تحديات ما بعد الانسحاب، لن تأتي من أمريكا وحدها، وإنما من أطراف عديدة، يمكن تفصيلها على الوجه التالي:
أولاً: أمريكا وخيارات الانتقام:
إن هذه التحديات الجسام، تحتاج إلى مئات العقول المفكرة، والقلوب النيرة والكفاءات القديرة كي تنتدب لمواجهة ما قد تخبئه الأيام لا على مستوى العراقيين فحسب، بل على مستوى الأمة كلها بالأقرب منها فالأقرب؛ فمن غير المقبول أن نكون شركاء في إجهاض النصر وتبخر الحلم وفقدان(1/1682)
الفرصة، بترك هذه التحديات تمضي لغايتها. وبما أن العثور على الحلول لا يُنال بمجرد الآمال، فإن ذوي الرأي وأصحاب الفقه وأرباب التخصصات الدينية والسياسية والإستراتيجية والإعلامية في الأمة مدعوون اليوم بإلحاح إلى تقديم المستطاع من الرأي والمشورة، والتسديد والتقريب والنصيحة، إلى أصحاب القرار الإسلامي في العراق باعتبارهم نواباً عن الأمة في مواجهة الملمات التي تحيق بجزء من جسدها على أرض الرافدين، علماً بأن عاماً أو أكثر قد يمضي حتى ينتهي الاحتلال، وتبدأ مشكلات ما بعد الاحتلال.
ولعل ما يتبادر إلى الذهن منها ـ فيما يتعلق بالتحديات على المستوى الأمريكي ـ ما يلي:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ثم قال بعدها: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] وهم المنافقون الممالئون للكافرين. ومن الخير أن يتواكب النصح مع الردع، بإقناع الفرقاء بأن العراق الموحد قوة للجميع؛ وتمزيقه إضعاف للجميع، فدعاة التقسيم لن يقفوا عن حد ثلاث دويلات للأكراد والسنة والشيعة، بل قد يسعون إلى مزيد من التفتيت حتى يصل الأمر ـ لا قدر الله ـ إلى أن نسمع عن الإمارات العراقية «المتحدة»، مع الولايات الأمريكية المتحدة!!
ثانياً: إيران واللعب بالنيران:
هيام الفرس بعبادة النار قديماً، قد ترك آثاره فيما يبدو على تكوين مَنْ لم يتطهر بالكامل من أدران تلك النيران الفارسية الجاهلية الماضية؛ فالثورة والثأر والتثوير، كلها مفردات جاهزة للإنتاج والتصدير، في ظل معتقدات التشيع الفارسي التي حولت هذه السلوكيات الدخيلة إلى قربى إلى الله، وزلفى إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فانضمام الطبيعة الفارسية إلى العقيدة الشيعية، جعل مذهبهم ناراً على نار بدلاً من أن يكون نوراً على نور.
وقد أخرجت دوافع الثارات التاريخية القديمة أصحاب القرار في إيران عن كثير من فرضيات العقل والمنطق، فضلاً عن مقتضيات الدين والمصلحة، فراحوا يُحنون ظهورهم أمام العدو الكافر الظاهر ليمر من فوقها إلى اقتحام حرمات المسلمين ومقدراتهم في كل من أفغانستان والعراق، وسوف يكتب التاريخ بحروف سوداء تلك المواقف النكراء التي كرر بها هؤلاء سلوك أشياعهم وأجدادهم من أمثال نصير «الدين» الطوسي، ومؤيد «الدين» العلقمي الذين جعلوا من الدين ستاراً يخفي التآمر مع أعداء الدين.
وإذا كنا لا نزال نذكر مواقفهم في الموالاة الصريحة لـ «الشيطان الأكبر» قبل وأثناء وبعد غزو أفغانستان والعراق، فإننا ـ وبكل مرارة ـ نتوقع الأسوأ بعد أن تمضي سحابة الاحتلال السوداء الهوجاء.(1/1683)
وسيناريو التغلغل الشيعي على الصعيد السياسي أو العسكري، قد أسس له منذ البداية خميني العراق «الإيراني» السيستاني، فهو الذي دفع بالشيعة إلى الانخراط بقوة في العمل السياسي والعسكري في ظل الاحتلال الذي لن يقتصر في المستقبل ـ على ما يبدو ـ على جزر الإمارات العربية، بل يريد الامتداد للسيطرة على بعض العواصم العربية، بالتواطؤ مع الأمريكيين حيناً، وبالانفراد عنهم أحياناً.
وعلى غرار الجهد المطلوب لمواجهة التحديات الأمريكية، تتأكد الحاجة لجهود مضاعفة لمواجهة التحديات الإيرانية، ولعل من المعالم البارزة في هذا الصدد أن يجري استحضار الحقائق التالية:
1 ـ ليس كل الشيعة من أهل القناعات الدينية؛ فهناك شرائح منهم علمانية، ولكن الديني والعلماني في إيران، مشبع بروح فارسية، تستبطن العداء للعرب، وبخاصة السنة منهم، ولذلك فلن يكون لشيعة العراق العرب مهما توهموا كبير وزن في إدارة شؤون العراق إذا ما تمكنت إيران هناك، ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى شىء من التأليف وتقريب الآراء بين العرب السنة والعرب الشيعة في العراق، لا على خلفية عنصرية ضد الفرس؛ فذلك ليس من الإسلام، بل على خلفية المصلحة العامة التي يحتاج إليها الطرفان في مواجهة التغول الإيراني القادم.
والذي نعرفه أن شيعة العراق من غير الفرس، أقل خبثاً وأدنى قرباً من السنة هناك، بفعل عوامل التعايش والتجاور والمصاهرة، وبخاصة العامة منهم؛ حيث يعتقد أنه يسهل كسبهم أو تحييدهم إذا افتضح استغلال الإيرانيين لهم.
2 ـ لأن شيعة العراق منهم المتدينون المتشددون، ومنهم العلمانيون والليبراليون؛ فإن رهان أمريكا منذ البداية كان على الشيعة العلمانيين، وبخاصة الليبراليين الذين رأت أنها يمكنها من خلال تمكينهم أن تدعي النجاح في إحلال قيم الحرية والديمقراطية في العراق، كنموذج أول في الشرق الأوسط.
ومن غير المستبعد أن تتدخل أمريكا بشكل ما، لإفساد الطبخة التي أنضجها الدينيون المتشددون في الانتخابات الأخيرة، لتعيد العلمانيين الليبراليين من أمثال العلاوي والجلبي إلى سُدَّة الحكم، وهذا ـ إن وقع ـ سيكون مقدمة صِدام مصالح آخر بين أمريكا وإيران على أرض العراق، وبوسع السنة أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهم وحدهم الأقدر على اغتنام هذه الفرص.
3 ـ من الممكن أن يجد شيعة العراق العرب أنفسهم في خيار يدفعهم إلى التقرب من جديد إلى أهل السنة؛ وذلك عندما يكتشفون حقيقة الطمع الإيراني والجشع الأمريكي، وهنا... فعلى سنة العراق ـ وبخاصة العلماء والدعاة ـ أن يحسنوا استثمار هذه الفرصة إذا سنحت، من خلال إعلان المبادرات المشتركة لحقن الدماء وإيقاف الشحناء، والانتقال ـ أو بالأحرى ـ الرجوع إلى صيغة التعايش التاريخية المعروفة عن شعب العراق حتى يهدي الله من يشاء إلى صراط مستقيم.(1/1684)