وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة , أو وجدوا في موقفهم ثغرة . وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطرا وطغيانا . . وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم , وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين , ويذهب غيظ قلوبهم) . .
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته , وأداة مشيئته , فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة , وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون . يشفها من غيظها المكظوم , بانتصار الحق كاملا , وهزيمة الباطل , وتشريد المبطلين . .
وليس هذا وحده ولكن خيرا آخر ينتظر وثوابا آخر ينال: (ويتوب الله على من يشاء) . .
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان , ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين ينصرون , ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم , ويرون آثار الإيمان في مواقفهم - وهذا ما كان فعلا - وعندئذ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم , وأجر هداية الضالين بأيديهم ; وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين: (والله عليم حكيم) .
عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات . حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات .
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف , أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة , مرهوبة الجانب , عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة , إلا وعدا واحدا:
هو الجنة . ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا:هو الصبر . .
فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب , آتاها الله النصر ; وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة , وأن تنبذ عهود المشركين كافة ; وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا . .
لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا , ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة , والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب , ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . .
لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير , وإعلان المفاصلة للجميع , لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة , ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة , يلجون منها إلى مصالحهم(1/807)
وروابطهم مع المشركين , في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة , والله خبير بما تعملون) . لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة , وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة , وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة , مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة , وكشفت المداخل والمسارب للأنظار . وإنه لمن مصلحة الجماعة , ومن مصلحة العقيدة , أن تهتك الأستار وتكشف الولائج , وتعرف المداخل , فيمتاز المكافحون المخلصون , ويكشف المداورون الملتوون , ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته , وإن كان الله يعلمهم من قبل: (والله خبير بما تعملون) . .ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف , وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
ــــــــــــــ
11. معركتنا مع اليهود :
ما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع - مع الأسف - بتلك التوجيهات القرآنية وبهذا الهدى الإلهي : (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ )) ا تنتفع الأمة المسلمة بما انتفع به أسلافها فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة والدين ناشئ ، والجماعة المسلمة وليدة . وما يزال اليهود - بلؤمهم ومكرهم - يضللون هذه الأمة عن دينها ويصرفونها عن قرآنها كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية ، وعدتها الوافية ، وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية وينابيع معرفتها الصافية . وكل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء اليهود ، سواء عرف أم لم يعرف أراد أم لم يرد ، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها - حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية ، فهذا هو الطرق . وهذه هي معالم الطريق . كان لليهود في المدينة مكانتهم وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها ، ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي(1/808)
الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد ، وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع هذه العقيدة !! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة ، وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به ، وكان هناك من يدافع عنهم ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم (( كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي من بني قينقاع ، وإغلاظه في هذا للرسول - صلى الله عليه وسلم - )) . إن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربونها بالسيف والرمح فحسب ، إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها !! كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك ، ونثر الشبهات وتدبير المناورات !
كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها ومنها قام وجودها فيعملون فيها معاول الهدم والتوصية ذلك أنهم كانوا يدركون - كما يدركون اليوم تماما(1)- أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ولاتهن إلا إذا وهنت عقيدتها ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ، ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان مرتكزة إلى ركنه سائرة على نهجه حاملة لرايته ممثلة لحزبه منتسبة إليه ، معتزة بهذا النسب وحده .
من هنا يبدو أن أعدى أعداء الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية ، و يحيد بها عن منهج الله وطريقه ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها ، ملتزمة بمنهجها ، مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين من خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال آمنون من عزمة هذه العقيدة في الصدور .وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة والتشكيك فيها والتوهين من عراها استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة : (( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم )) .لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . .
كان يأخذ الجماعة المسلكة بالتثبيت على الحق الذي هو عليه وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ، ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة وأهدافهم الخطرة وأحقادهم على الإسلام والمسلمين لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم .وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا
__________
(1) - تأمل حملة التشكيك في العقيدة ، والتعبئة الإلحادية في جيش عربي ضد الإيمان بالله قبيل هزيمة 1967 بأسابيع !!!
ثم الإصرار الطويل النفس على إبعاد الإسلام عن قضية فلسطين مثلا .(1/809)
الوجود فبين لها هزال أعدائها وهوانهم على الله ، وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء ، كما يبين لها أن الله معها وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك وأنه سيأخذ الكفار اليهود بالعذاب والنكال كما أخذ المشركين من قبل . وعانت أمتنا التلبيس والدس من يهود .(( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )) وهذه خصلة أهل الكتاب يجب أن يبصرها المسلمون ويأخذوا حذرهم منها .خصلة التلبيس والدس .وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك . هو الأمر الذين درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ .
اليهود بدءوا منذ اللحظة الأولى . .
ثم تبعهم الصليبيون .وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون !! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين والحمد لله على فضله العظيم .دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله ودسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود .ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني .وهناك دس جد خطير .لقد دسوا رجالا وزعامات للكيد لهذه الأمة . فالمئات والألوف كانوا دسيسة في العالم الإسلامي - وما يزالون في صورة مستشرقين وتلاميذ مستشرقين الذين يشغلون مناصب الحياة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : أنهم مسلمون !!
والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة (( أبطال )) مصنوعين على عين الصهيونية(1)ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين .
وما يزال هذا الكيد قائما مطردا ، وما تزال (فرصة) الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ ، والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون . وتستمر حملة التشكيك من اليهود في هذه الأمة المسلمة : (( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) وهي طريقة ماكرة لئيمة ، فإن إظهار هم الإسلام ثم الرجوع عنه يوقع بعض النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته . . يوقعهم في بلبلة واضطراب . . .
__________
(1) - وفي المستقبل القريب سنجعل الرئيس شخصا مسئولا ويومئذ لن نكون حائرين في أن ننفذ بجسارة خططنا التي سيكون (( دميتنا )) مسئولا عنها ، لكي نصل إلى هذه النتائج سندبر انتخاب أمثال هؤلاء الرؤساء ممن تكون صحائفهم السابقة مسودة بفضيحة ما أو صفقة أخرى مريبة .. إن رئيسا من هذا النوع سيكون منفذا وافيا لأغراضنا لأنه سيخشى التشهير وسيبقى خاضعا لسلطان الخوف .... البروتوكول العاشر من بروتوكولات صهيون .(1/810)
فإذا رأوا اليهود يؤمنون ثم يرتدون حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص من هذا الدين وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .إن لهذه القوى اليوم في العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة !! وبعضهم من (( علماء )) المسلمين !!هذا الجيش من العلماء موجه لخلخلة(1)العقيدة في النفوس بشتى الأساليب بصورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . .
وتوهين قواعدها من الأساس . .
والتوهين من شأن العقيدة والشريعة سواء .وتأويلها وتحميلها ما لاتطيق والدق المتصل على (( رجعيتها )) !
والدعوة للتفلت منها وأبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها !!
وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . .
وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . .
وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخرج من الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا . ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص !!
وهم بعد مسلمون !! اليسوا يحملون أسماء إسلامية ؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار !! وبهذه المحاولات يكفرون آخره !! (( ويؤدون بهذه وتلك دور اليهود القديم )) ولا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم ! تظاهروا بالإسلام - ومعكم دليل اسمي - أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم .(( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم )) .وعملاء الصهيوينة اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما ينهم على أمر . . هو الإجهاز على العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة ، ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة(2).
ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . .
ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل - بغير ما يريدون وما يبيتون . .
__________
(1) - لن نبيح قيام أي دين غير ديننا . ولهذا يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان وستكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إثمار ملحدين .. البروتوكول الرابع عشر .
(2) - ولا أحد من الأعضاء سيفشي بالسر للغير ، والسبب هو أنه لا أحد يؤذن له بالدخول في عالمنا ما لم يكن يحمل سمات بعض الأعمال المخزية في حياته .. البروتوكول الثالث عشر .(1/811)
والجو من حولهم مهيأ . .
والأجهزة من حولهم معبأة . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلهم مغيبون أو مشردون !!
لقد تحدث القرآن كثيراً عن يهوده وشرح نفسياتهم الشريرة وليس مصادفة أن يفصل القرآن هذا فإن تاريخ أمة من الأمم لم يشهد ما شهده تاريخ بني إسرائيل من قسوة وجحود وتنكر للهداة فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم - وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين - وقد كفروا أشنع كفر واعتدوا . .
أشنع الاعتداء وعصوا أبشع معصية وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل ! !
ومخاليق تقتل الأنبياء وتذبحهم وتنشرهم بالمناشير لا ينتظر منها إلا استباحة دماء البشر واستباحة كل وسيلة قذرة تنفس عن أحقادهم وفسقهم . والقرآن الكريم يقص علينا العجب من سلوك يهود العجيب : (( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبه بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين . . من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين )) . في قصة هذا التحدي نطلع على سمة أخرى من سمات اليهود . . . سمة عجيبة حقاً . . لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حد . .
وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل . .
لقد سمعوا أن جبريل ينزل بالوصي من عند الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما كان عداؤهم لمحمد قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لج بهم الضغن أن يخترعوا قصة واهية وحجة فارغة فيزعموا أن جبريل عدوهم لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب ، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد من جراء صاحبه جبريل ، ولو كان الذي ينزل بالوحي هو ميكائيل لآمنوا فميكائيل يتنزل بالرخاء والمطر والخصب . إنها الحماقة المضحكة . . . ولكن الغيظ والحقد يسوقانه إلى كل حماقة وإلا فخاب لهم يعادون جبريل ؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدهم ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير ؟ إنما عبد الله يفعل بأمره ولا يعصي الله ما أمره ! ويمتد حقد اليهود الأسود من جبريل عليه السلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في اليهود هي الطبيعة الكنود . طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ، وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو متقطع منها ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى التي تربط البشرية جمعاء .وهكذا عاش اليهود في عزلة .يحسون أنهم فرع مقطوع(1/812)
من شجرة الحياة ويتربصون بالبشرية الدوائر ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها الغنائم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : (( بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده )) .وحقد اليهود الأسود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى القرآن وعلى الإسلام جعلهم يؤثرون الشرك - وهم أهل كتاب - على الإسلام .وهم اليوم يؤثرون الشيوعية .. أي صلة أخرى فاسدة على هذا الدين بل أنهم ينشئون هذه المذاهب الإلحادية(1)لمحاربة الإسلام !عن محمد بن إسحاق قال - بإسناده عن جماعة - : إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري ، وحيي بن أخطب النضري ، وكنانة بن أبي الحقيق النضري ، وهوذة بن قيس الوائلي ، وأبو عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ، ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت قريش : يا معشر يهود . . إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟؟ قالوا - اليهود- بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه !!! فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين أمنوا سبيلا )) إلى قوله تعالى : (( أم يحسدون الناس على ما أتاهم من فضله . . )) ؟ فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعدوا له . وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . ))
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطابا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطابا عاما خرج مخرج العموم لأنه يتضمن أمرا ظاهرا مكشوفا يجده كل إنسان .فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد عداوة للذين آمنوا ، وإن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ويجده كل من يتأمل !!نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين أمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيبا . . ولكن تقديم اليهود هنا حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأنا خاصا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي !!
__________
(1) - لا تتصوروا أن تصريحاتنا جوفاء ، ولا حظوا هنا أن نجاح ماركس قد رتبناه من قبل . . . ونحن على الدوام نتبنى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعا لمبدأ الأخوة والمصلحة الإنسانية . وهذا ما تبشر به الماسونية .. البروتوكول الثاني والثالث .(1/813)
إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا !!
ونقول : إن هذا (( على الأقل )) ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا .وحين يستأنس الإنسان في هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائما أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمدا من عداء الذين أشركوا .لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة ، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة ، وتضمن القرآن من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الآمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا وما تزال حتى اللحظة(1)يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا .لقد عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود ، ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة ، ولكنهم لم يفوا بهذا العهد ، شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل حتى قال الله فيهم : (( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون * أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) .ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط .ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية وأفادتها منذ قرون السبي (( في بابل )) والعبودية في مصر . .
والذل في الدولة الرومانية . . ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : (( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )) ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم إلا كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه سبحانه - ويكيدون بالدس بين صفوف المسلمين . .
__________
(1) - صرخ جنود اليهود وهم يدخلون القدس في يونيو 1967 (( محمد مات ، وخلف بنات )) .(1/814)
وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة . . وهم يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين . .ويشنوها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين !!
وصدق الله العظيم : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والدين أشركوا )) إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة ، وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش من مكة وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . .
يهودي .والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق لشائعات في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما تلاها من النكبات . . .
يهودي .والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير . . .
يهودي .ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال (( الدستور )) بها في عهد السلطان عبد الحميد ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي (( البطل )) أتاتورك . . . يهودي .وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود !!ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية (( يهودي )) ووراء النزعة الحيوانية يهودي . . . ووراء هدم الأسرة والروابط المقدسة في المجتمع . . . يهودي(1). .ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمد ، وأعرض مجالا من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا ، إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها ، وكذلك المعركة مع فارس في العهد الأول . . . أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية (( التي تعد ماركس مجرد فرع لها )) . إن لقصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل حكمة متشعبة الجوانب.. من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول ، وهم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين جميعا . . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . . كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . .
__________
(1) - هؤلاء بالترتيب هم ماركس .. فرويد .. دركايم .(1/815)
وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة ، فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها ؟ وما طبيعتهم ؟ وما وسائلهم ، وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟ ولقد علم الله سبحانه أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ، كما كانوا أعداء هدي الله في ماضيهم كله ، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا. .
ووسائلهم كلها مكشوفة. ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة . .
ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف . .
كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم . .وتقلبات التاريخ ، وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثله في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة - في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدي التجارب الأولى .. ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل ، وقد علم الله أن الأمة حين يطول عليها الأمد تقسو قلوبها وتنحرف أجيال منها ، وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة . .
ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ، فجعل الله أمام أئمة الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج حية من العراقيل التي تلم بالأمم ، يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . وبعد فإن المعركة بين الإسلام ويهود لا تزال دائرة وستظل كذلك لأن اليهود لا يرضون إلا بتدمير هذا الدين .كانوا - بعد أن غلبهم الإسلام - يحاربون هذا الدين بالمؤامرات والدسائس وتحريك عملائهم في الظلام .أما اليوم فقد ازدادت المعركة ضراوة وسفورا و تركيزا بعد أن جاءوا من كل فج وأعلنوا أنهم أقاموا إسرائيل .كانت أطماعهم ترف من بعيد إلى بيت المقدس ، أما اليوم فهم منه على بعد خطوات . . ولا يكف أطماعهم إلا أن يغلبهم الإسلام .. .
فقد أفسد اليهود في الأرض المقدسة فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا .لكن على المسلمين - وهم يتأهبون للمعركة - أن يفهموا قرآنهم ، لقد كانت رحلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - ، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا ، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير - صلى الله عليه وسلم - لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها للنظرة(1/816)
الأولى .وسوف ينازع بنو إسرائيل المسلمين في وراثة المسجد الأقصى .وسوف تدور المعركة .(( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليك عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولا )) .فهذه هي الأولى :
يعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان ، فيفسدون فيها فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد ، وأولي بطش وقوة . .
يستبيحون الديار . .
ويروحون فيها ويغدون باستهتار . .
ويطؤون ما فيها ومن فيها بلا تهيب . .
(( وكان وعد الله مفعولا )) لا يخلف ولا يكذب .وتتكرر قصة الإفساد . . ويتكرر الإذلال والطرد .وكلما عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء من جنس حاضر والسنة ماضية (( وإن عدتم عدنا )) .ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة العربية كلها . .
ثم عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط الله عليهم (( هتلر )) ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة (( إسرائيل )) التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع (( وإن عدتم عدنا )) ووفاقا لسنته التي لا تختلف وإن غدا لناظره قريب !! ولا يهولن المسلم ما يراه من قوة وتهديد فانهم (( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )) . والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم وترى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ، إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع ، فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور . .
وما صدق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار . وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في (( تشخيص )) حالة الكافرين حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان زفي أي مكان بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . .(1/817)
فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولو الأدبار كالجرذان حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء وسبحان العليم الخبير !!(1)
ـــــــــــــ
12. الصراع بيننا وبينهم حتى قيام الساعة :
سيبقى الصراع بيننا وبينهم محتدما حتى قيام الساعة فلن توقفه معاهدات ولا غيرها ما دمنا مسلمين لأنهم يعلمون أنه لن يقف في وجههم سوى الإسلام الذي أكرمنا الله تعالى به ، فإذا نظرنا إلى هذا الموضوع الجلل من وحي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة زال الخطب والاستغراب
قال تعالى عنهم :* يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* (217) سورة البقرة
وفي مسند أحمد 4/230(18186) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْمُسْتَوْرِدَ قَالَ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ لَهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكُمُ الرُّومُ وَإِنَّمَا هَلَكَتُهُمْ مَعَ السَّاعَةِ ».( حسن)
وفي مصنف ابن أبي شيبة( 19338) عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَارِسُ نَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ ، ثُمَّ لاَ فَارِسَ بَعْدَهَا أَبَدًا وَالرُّومُ ذَاتُ الْقُرُونِ أَصْحَابُ بَحْرٍ وَصَخْرٍ كُلَّمَا ذَهَبَ قَرْنٌ خَلَفَ قَرْنٌ مَكَانَهُ , هَيْهَاتَ إلَى آخَرِ الدَّهْرِ هُمْ أَصْحَابُكُمْ مَا كَانَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ. (( صحيح مرسل ))
وفي صحيح البخاري 4/51(2926) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِىُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى فَاقْتُلْهُ ».
وعند أحمد 2/398(9161) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَيُؤْمِنَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ (لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْراً ) وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ فَيَفِرَّ الْيَهُودِىُّ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولَ الْحَجَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْماً نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ »(صحيح).
__________
(1) - نقلا عن كتيب " معركتنا مع اليهود " طبع دار الشروق - لبنان - للسيد قطب عليه الرحمة
ــــــــــــــ(1/818)
13 - لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا :
قال تعالى : *الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً* (141) سورة النساء
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : أنَّ هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِالمُؤْمِنِينَ دَوَائِرَ السَّوْءِ ، وَيَنْتَظِرُونَ زَوَالَ دَوْلَةِ الإِسْلاَمِ ، وَظُهُورَ الكُفْرِ عَلَيهِمْ ، وَذَهَابَ مِلَّتِهِمْ . فَإذَا نَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ ، وَفَتَحَ عَلَيهِم ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الغَنَائِمِ ، قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ مُتَوَدِّدِينَ إِلَيْهِمْ : ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإذاً فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ نَصِيباً مِنَ المَغْنَمِ الذِي حُزْتُمُوهُ . وَإذَا كَانَ النَّصْرُ وَالغَلَبَةُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ، قَالُوا لِلْكَافِرِينَ المُنْتَصِرِينَ : أَلَمْ نُسَاعِدْكُمْ فِي البَاطِنِ وَنَحْمِكُمْ ، وَنُخَذِّلِ المُؤْمِنِينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى انْتَصَرْتُمْ عَلَيهِم ( أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ) ؟ فَاعْرِفُوا لَنَا هَذَا الفَضْلَ ، وَأَعْطُونَا نَصِيباً مِمَّا أَصَبْتُمْ مِنَ المَغْنَمِ .
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ حِسَاباً عَسِيراً عَلَى بَوَاطِنِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَنْفَعَهُمْ تَظَاهُرُهُمْ بِالإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَنِفَاقُهُمْ ، وَأنَّهُ سَيَحْكُمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ ، الذِينَ يُبْطِنُونَ الكُفْرَ ، وَيُظْهِرُونَ الإِيمَانَ ، وَيُجَازِي كُلا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ . وَيَقُولُ تُعُالَى : إنَّهُ لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سُلْطَاناً وَسَبِيلاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ ، قَائِمِينَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَإنْ حَقَّقَ الكَافِرُونَ بَعْضَ الظَّفرِ ، فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ ، فَالعَاقِبَةُ لِلْحَقِّ دَائِماً ، وَالبَاطِلُ إلى زَوَالٍ . كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَنْ يَجْعَلَ لِلْكَافِرِينَ سُلْطَاناً عَلَى المُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ .
إنها صورة منفرة . تبدأ بتقرير ما يكنه المنافقون للجماعة المسلمة من الشر , وما يتربصون بها من الدوائر وهم - مع ذلك - يتظاهرون بالمودة للمسلمين حين يكون لهم فتح من الله ونعمة فيقولون:حينئذ: (ألم نكن معكم ?) . .
ويعنون أنهم كانوا معهم في الموقعة - فقد كانوا يخرجون أحيانا يخذلون ويخلخلون الصفوف:- أو يعنون أنهم كانوا معهم بقلوبهم ! وأنهم ناصروهم وحموا ظهورهم !
(وإن كان للكافرين نصيب قالوا:ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ?) . .
يعنون أنهم آزروهم وناصروهم وحموا ظهورهم ; وخذلوا عنهم وخلخلوا الصفوف !!
وهكذا يتلوون كالديدان والثعابين . في قلوبهم السم . وعلى ألسنتهم الدهان !
ولكنهم بعد ضعاف ; صورتهم زرية شائهة تعافها نفوس المؤمنين . .
وهذه إحدى لمسات المنهج لنفوس المؤمنين .(1/819)
ولما كانت الخطة التي اتبعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه ربه في مسألة المنافقين , هي الإغضاء والإعراض , وتحذير المؤمنين وتبصيرهم بأمرهم ; في الطريق إلى تصفية هذا المعسكر اللعين !
فإنه يكلهم هنا إلى حكم الله في الآخرة ; حيث يكشف الستار عنهم , وينالهم جزاء ما يكيدون للمسلمين: (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) . .
حيث لا مجال للكيد والتآمر والتبييت ; ولا مجال لإخفاء مكنونات الصدور .
ويطمئن الذين آمنوا بوعد من الله قاطع ; أن هذا الكيد الخفي الماكر , وهذا التآمر مع الكافرين , لن يغير ميزان الأمور ; ولن يجعل الغلبة والقهر للكافرين على المؤمنين: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
وفي تفسير هذه الآية وردت رواية أن المقصود بهذا النص يوم القيامة . حيث يحكم الله بين المؤمنين والمنافقين فلا يكون هناك للكافرين على المؤمنين سبيل .
كما وردت رواية أخرى بأن المقصود هو الأمر في الدنيا بأن لا يسلط الله الكافرين على المسلمين تسليط استئصال . وإن غلب المسلمون في بعض المعارك وفي بعض الأحايين .
وإطلاق النص في الدنيا والآخرة أقرب , لأنه ليس فيه تحديد .
والأمر بالنسبة للآخرة لا يحتاج إلى بيان أو توكيد . .
أما بالنسبة للدنيا , فإن الظواهر أحيانا قد توحي بغير هذا . ولكنها ظواهر خادعة تحتاج إلى تمعن وتدقيق:
إنه وعد من الله قاطع . وحكم من الله جامع:أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ; وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة , ونظاما للحكم , وتجردا لله في كل خاطرة وحركة , وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة . .
فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها !
وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك , أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله , إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان . إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ; ثم يعود النصر للمؤمنين - حين يوجدون !
ففي "أحد" مثلا كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي الطمع في الغنيمة . وفي "حنين" كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل ! ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئا من هذا . . نعرفه أو لا نعرفه . .
أما وعد الله فهو حق في كل حين . نعم . إن المحنة قد تكون للابتلاء . .(1/820)
ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة , هي استكمال حقيقة الإيمان , ومقتضياته من الأعمال - كما وقع في أحد وقصه الله على المسلمين - فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه ,جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين .
على أنني إنما أعني بالهزيمة معنى أشمل من نتيجة معركة من المعارك . .
إنما أعني بالهزيمة هزيمة الروح , وكلال العزيمة . فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس همودا وكلالا وقنوطا . فأما إذا بعثت الهمة , وأذكت الشعلة , وبصرت بالمزالق , وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق . .
فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد . ولو طال الطريق !
كذلك حين يقرر النص القرآني: أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا . .
فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ; والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصورا وشعورا ; وفي حياتها واقعا وعملا وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعنوانات . إنما هو للحقيقة التي وراءها . .
وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان , إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان . ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك . .
ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء ; وألا نطلب العزة إلا من الله .
ووعد الله هذا الأكيد , يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون . .
إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى , التي لاتضعف ولا تفنى . .
وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها . .
ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا
غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان . .
إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابته ثبوت النواميس الكونية . ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل . وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . .
ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن "حقيقة " الكفر تغلبه , إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها . .
لأن حقيقة أي شيء أقوى من "مظهر" أي شيء . ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان !(1/821)
إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق . وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل . مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون . .
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) . .
ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا . .
ــــــــــ
14 - لا قيمة لأموالهم ولا أولادهم عند الله :
قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ (13) آل عمران
إنَّ الذِينَ كَفَروا بِاللهِ ، وَبِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ ، وَجَحَدُوا مَا عَرَفُوهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، لَنْ تُفِيدَهُمْ شَيْئاً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ أمْوالُهُمْ ( التِي يَبْذلُونَهَا فِي جَلْبِ المَنَافِعِ ، وَدَفْعِ المَضَارِّ ) وَلاَ أوْلاَدُهُمُ ( الذِينَ يَتَنَاصَرُونَ بِهِمْ فِي الدُّنيا ) ، وَسَيَكُونُونَ حَطَباً تُوْقَدُ بِهِ جَهَنَّمُ .
وَسَيَكُونُ حَالُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ وَشَأنُهُمْ ( دَأبُهُمْ ) مِثْلَ حَالِ قَوْمِ فِرْعُوْنَ ( آلِ فِرْعَونَ ) ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وَبِمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ كُفْرٍ وَآثامٍ ، واللهُ شَدِيدُ العَذابِ ألِيمُهُ ، لاَ يَمْتَعُ عليهِ أحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرينَ - وَهُمْ هُنَا اليَهُودُ - : إنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ فِي الدُّنيا وَيُحْشَرونَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُسَاقُونَ إلى جَهَنَّمَ ، لِتَكُونَ لَهُمْ مَهْداً وَفِرَاشاً ، وَبِئْسَ المَهْدُ وَالفِرَاشُ .
( هَذِهِ الآيةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ بَني قَيْنُقَاع . فَبَعْدَ أنْ نَصَرَ اللهُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، جَمَعَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ المَدِينةِ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ أسْلِمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ اللهُ بِمَا أصَابَ بِهِ قُرَيْشاً .
فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أنَّكَ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيشٍ لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ ، إنَّكَ وَاللهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أنَّا نَحْنُ النًّاسُ ، وَأنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا . فَأنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ والتي بَعْدَهَا ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ فَقَتَلَ المُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَأجْلَوا بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاع ، وَفَتُحُوا خَيْبَرَ ) .
ثُمَّ حَذَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَأنْذَرَهُمْ بَألاَّ يَعْتَرُّوا بِكَثْرَةِ العَدَدِ وَالعُدَّةِ ، فَلَهُمْ فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ عِبْرَةٌ . فَأمَرَ رَسُولَهُ بِأنْ يَقُولَ للَهُودِ الذِينَ قَالُوا لَهُ مَا قَالُوا : إنَّ اللهَ مُعِزٌّ دِنيَهُ ، وَنَاصِرٌ رَسُولَهُ ، وَإنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ مَا أظْهَرَهُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، إذِ التَقَتْ فِئَتَانِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ فِئةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبيلِ إعلاءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَنَصْرِ دِينهِ ، ( وَهُمُ المُسْلِمُونَ ) ، وَفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ ( وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيشٍ ) . وَقَدْ أرَى اللهُ(1/822)
تَعَالَى المُشْرِكينَ المُسْلِمِينَ فِي مِثْلَي عَدَدِ المُشْرِكِينَ ( أيْ قَرِيباً مِنْ ألْفَي مُقَاتِلٍ ) بَصُورَةٍ جَلِيَّةٍ وَاضِحَةٍ ، وَهُمْ إنَّما كَانُوا فِي الحقِيقَةِ ثَلاَثَمِئَةٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، وَكَانَ ضّلِكَ إضْعَافاً لِقُلُوبِ المُشْرِكِينَ ، وَلِيَهَابُوا المُسْلِمِينَ ، وَلِيَجْبُنُوا عَنْ قِتَالِهِمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدَداً مِنَ اللهِ ، كَمَا أمَدَّهُمْ بِالمَلاَئِكَةِ . وَقَدْ أرَى اللهُ المُسْلِمِينَ المُشْرِكِينَ قَلِيلِي العَدَدِ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيهِمْ .
وَدَارَتِ المَعْرَكَةُ فَانْتَصَرَ جُنْدُ اللهِ ، وَأعَزَّ اللهُ دِينَهُ ، وَقُتِلَ رُؤوسُ الكُفْرِ . وَفي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لأولِي البَصَائِرِ لِيَهْتَدُوا إلى حِكَمِ اللهِ وَأفْعَالِهِ وَقَدَرِهِ الجَارِي بِنَصْرِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِمَا أوْصَاهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ بِقَدَرِ طَاقَتِهِمْ ، فَيُقَاتِلُونَ ثَابِتِينَ وَاثقِينَ بِنَصْرِ اللهِ .
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل , وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . .
فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا وكفروا , ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا , وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم الله منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم:إن سنة الله لا تتخلف . وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة , ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح !
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا , وأولئك هم وقود النار) . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية ; ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه , لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه: (وقود النار) . .
بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص "الإنسان" ومميزاته , ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار) . .
لا بل إن الأموال والأولاد , ومعهما الجاه والسلطان , لا تغني شيا في الدنيا:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا , فأخذهم الله بذنوبهم , والله شديد العقاب) . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا , وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلا:وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته , يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق , معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء . .
ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم هذا المصير في الدارين , وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب , فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد: (قل للذين كفروا: ستغلبون(1/823)
وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا:فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
وقوله تعالى: (يرونهم مثليهم رأي العين) يحتمل تفسيرين:فإما أن يكون ضمير(يرون) راجعا إلى الكفار , وضمير(هم) راجعا إلى المسلمين , ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين(مثليهم) . .
وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة , فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس , ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين(مثليهم) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . .
وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . .
وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله , قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ , وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن الله ; ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله , المدبر بحكمته , المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
(إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر , لتبرز العبرة , وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
-------------------
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) [آل عمران : 116 ، 117] }(1/824)
الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الكُفَّارِ ، الذِينَ كَانُوا يُعَيِّرونَ مُحَمَّداً وَصَحْبَهُ بِالفَقْرِ ، وَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَى الحَقِّ لَمَا تَرَكَهُ رَبُّهُ فِي هَذا الفَقْرِ ، وَيَتَفَاخَرُونَ بِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ لَنْ تَنْفَعَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ شَيئاً يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَلَنْ يَمْنَعَهُمْ شَيءٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ . وَهَؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ يَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً .
وَالكَافِرُونَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا ، فِي الصَّدَقَاتِ وَالقُرُبَاتِ ، وَفِي اكْتِسَابِ الشُّهْرَةِ وَالثَّنَاءِ . . . وَلَكِنَّ هَذا الإِنْفَاقَ ضَائِعٌ ، وَلَنِ يَنْتَفِعُوا مِنْهُ فِي الآخِرَةِ شَيْئاً . وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى حَالَهُم هَذا بِحَالِ زَرْع قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي ، أصَابَتْهُ رِيحٌ فِيها بَرْدٌ شَدِيدٌ فَأهْلَكَتْهُ عُقُوبةً لَهُمْ . وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِضَيَاعِ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالكُُفْرِ وَالبَغْيِ ، وَارْتِكَابِ المَعَاصِي .
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله ، ولا تصلح فدية لهم من العذاب ، ولا تنجيهم من النار . . وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك ، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيراً . فلا خير إلا أن يكون موصولاً بالإيمان ، ونابعاً من الإيمان . ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر . إنما يرسم مشهداً حياً نابضاً بالحياة . . .
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة! تحرق هذا الحرث بما فيها من صِرّ . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف ، فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب!
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
{ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر ، فيجعلها خطاً مستقيماً ثابتاً وأصلاً . له هدف مرسوم ، وله دافع مفهوم ، وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة ، والرغبة الغامضة ، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار ، فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم .
إنما هو ظلمهم لأنفسهم بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .(1/825)
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
ــــــــــ
15 - عدم الاغترار بتقلب الكافرين في البلاد :
قال تعالى : لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) سورة آل عمران
لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ . وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ .
فَإنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، ثمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَهْدُ
أمَّا المُتَّقُونَ فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَخِلاَلَ أَشْجَارِهَا ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ أَبَداً ، مُنَزَّلِينَ فِيهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ الذِينَ يَبرُّونَ وَالِدَيْهِمْ وَأَبْنَاءَهُمْ .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار) . .
(خالدين فيها) . . (نزلا من عند الله) . . (وما عند الله خير للأبرار) . .(1/826)
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . .
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . .
النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . .
ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !(1/827)
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
ــــــــــ
16 - هلاك الظالمين والمجرمين والطغاة عبر التاريخ :
قال تعالى : قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76) سورة طه
(فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) . . ويجمل السياق في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه , وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة , وما فكر فيه وما دبر هو ومستشاروه . . يجمله في جملة:فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى . وتصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متواليات:ذهاب فرعون , وجمع كيده , والإتيان به .
ورأى موسى - عليه السلام - قبل الدخول في المباراة أن يبذل لهم النصيحة , وأن يحذرهم عاقبة الكذب والافتراء على الله , لعلهم يثوبون إلى الهدى , ويدعون التحدي بالسحر والسحر افتراء:(1/828)
قال لهم موسى:ويلكم ! لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب , وقد خاب من افترى .
والكلمة الصادقة تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها . ويبدو أن هذا الذي كان ; فقد تأثر بعض السحرة بالكلمة المخلصة , فتلجلج في الأمر ; وأخذ المصرون على المباراة يجادلونهم همسا خيفة أن يسمعهم موسى: (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) . .
وجعل بعضهم يحمس بعضا , وراحوا يهيجون في المترددين الخوف من موسى وهارون , اللذين يريدان الاستيلاء على مصر وتغيير عقائد أهلها ; مما يوجب مواجهتهما يدا واحدة بلا تردد ولا نزاع . واليوم هو يوم المعركة الفاصلة والذي يغلب فيها الفالح الناجح:
(قالوا:إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى . فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا . وقد أفلح اليوم من استعلى) . .
وهكذا تنزل الكلمة الصادقة الواحدة الصادرة عن عقيدة , كالقذيفة في معسكر المبطلين وصفوفهم , فتزعزع اعتقادهم في أنفسهم وفي قدرتهم , وفي ما هم عليه من عقيدة وفكرة . وتحتاج إلى مثل هذا التحميس والتشجيع . وموسى وأخوه رجلان اثنان , والسحرة كثيرون , ووراءهم فرعون وملكه وجنده وجبروته وماله . . ولكن موسى وهارون كان معهما ربهما يسمع ويرى . .
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا تصرف فرعون الطاغية المتجبر , وموقف السحرة ومن ورائهم فرعون . فمن هو موسى ومن هو هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون ويقبل تحديهما ; ويجمع كيده ثم يأتي , ويحشر السحرة ويجمع الناس ; ويجلس هو والملأ من قومه ليشهدوا المباراة ? وكيف قبل فرعون أن يجادله موسى ويطاوله ? وموسى فرد من بني إسرائيل المستعبدين المستذلين تحت قهره ? . . إنها الهيبة التي ألقاها الله على موسى وهارون وهو معهما يسمع ويرى . .
وهي كذلك التي جعلت جملة واحدة توقع الارتباك في صفوف السحرة المدربين , فتحوجهم إلى التناجي سرا ; وإلى تجسيم الخطر , واستثارة الهمم , والدعوة إلى التجمع والترابط والثبات .
ثم أقدموا: (قالوا:يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى) . .
وهي دعوة الميدان إلى النزال . يبدو فيها التماسك وإظهار النصفة والتحدي .
(قال:بل ألقوا) . .
فقبل التحدي , وترك لهم فرصة البدء , واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة . . ولكن ماذا ? إنه لسحر عظيم فيما يبدو , وحركة مفاجئة ماجت بها الساحة حتى موسى:
(فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى) ,
والتعبير يشي بعظمة ذلك السحر وضخامته حتى ليوجس في نفسه خيفة موسى , ومعه ربه يسمع ويرى . وهو لا يوجس في نفسه خيفة إلا لأمر جلل ينسيه لحظة أنه الأقوى , حتى يذكره ربه بأن معه القوة الكبرى:(1/829)
قلنا:لا تخف . إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا . إن ما صنعوا كيد ساحر , ولا يفلح الساحر حيث أتى . .
لا تخف إنك أنت الأعلى . فمعك الحق ومعهم الباطل . معك العقيدة ومعهم الحرفة . معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة . أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا .
لا تخف (وألق ما في يمينك) بهذا التنكير للتضخيم (تلقف ما صنعوا) . فهو سحر من تدبير ساحر وعمله . والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار , لأنه يتبع تخييلا ويصنع تخييلا ; ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية . شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق المعتمد على الصدق . وقد يبدو باطله ضخما فخما , مخيفا لمن يغفل عن قوة الحق الكامنة الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول ولا تتظاهر ; ولكنها تدمغ الباطل في النهاية , فإذا هو زاهق وتلقفه فتطويه , فإذا هو يتوارى .
وألقى موسى . . ووقعت المفاجأة الكبرى . والسياق يصور ضخامة المفاجأة بوقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة فهم أحرص الناس على الفوز فيها , والذين كانوا منذ لحظة يحمس بعضهم بعضا ويدفع بعضهم بعضا . والذين بلغت بهم البراعة في فنهم إلى حد أن يوجس في نفسه خيفة موسى .
ويخيل إليه - وهو الرسول - أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى ! يصور السياق وقع المفاجأة في نفوسهم في صورة تحول كامل في مشاعرهم ووجدانهم , لا يسعفهم الكلام للتعبير عنه ; ولا يكفي النطق للإفضاء به: (فألقي السحرة سجدا . قالوا:آمنا برب هارون وموسى) . .
إنها اللمسة تصادف العصب الحساس فينتفض الجسم كله . وتصادف "الزر الصغير" فينبعث النور ويشرق الظلام . إنها لمسة الإيمان للقلب البشري تحوله في لحظة من الكفر إلى الإيمان .
ولكن أنى للطغاة أن يدركوا هذا السر اللطيف ? أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب ? وهم قد نسوا لطول ما طغوا وبغوا , ورأوا الأتباع ينقادون لإشارة منهم , نسوا أن الله هو مقلب القلوب ; وأنها حين تتصل به وتستمد منه وتشرق بنوره لا يكون لأحد عليها سلطان: (قال:آمنتم له قبل أن آذن لكم ? إنه لكبيركم الذي علمكم السحر , فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل , ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) .
(آمنتم له قبل أن آذن لكم) . . قولة الطاغية الذي لا يدرك أنهم هم أنفسهم لا يملكون - وقد لمس الإيمان قلوبهم - أن يدفعوه عنها , والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء .
(إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) . . فذلك سر الاستسلام في نظره , لا أنه الإيمان الذي دب في قلوبهم من حيث لا يحتسبون . ولا أنها يد الرحمن تكشف عن بصائرهم غشاوة الضلال .(1/830)
ثم التهديد الغليظ بالعذاب الغليظ الذي يعتمد عليه الطغاة ; ويسلطونه على الجسوم والأبدان حين يعجزون عن قهر القلوب والأرواح: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ولأصلبنكم في جذوع النخل) .
ثم الاستعلاء بالقوة الغاشمة . قوة الوحوش في الغابة . القوة التي تمزق الأحشاء والأوصال , ولا تفرق بين إنسان يقرع بالحجة وحيوان يقرع بالناب: (ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) !
ولكنه كان قد فات الأوان . كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل . فإذا هي قوية قويمة . وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة . وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة . وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما بها من عرض زائل . ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه:
(قالوا:لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا , فاقض ما أنت قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر , والله خير وأبقى) .
إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنما يتسابق إليه المتسابقون . فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة , وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه:
(قالوا:لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا . .) فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى . (فاقض ما أنت قاض) ودونك وما تملكه لنا في الأرض . (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . فسلطانك مقيد بها , وما لك من سلطان علينا في غيرها . وما أقصر الحياة الدنيا , وما أهون الحياة الدنيا . وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله , ويأمل في الحياة الخالدة أبدا . (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر) مما كنت تكلفنا به فلا نملك لك عصيانا , فلعل بإيماننا بربنا يغفر لنا خطايانا . (والله خير وأبقى) خير قسمة وجوارا , وأبقى مغنما وجزاء . إن كنت تهددنا بمن هو أشد وأبقى . . .
وألهم السحرة الذين آمنوا بربهم أن يقفوا من الطاغية موقف المعلم المستعلي: إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا . ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى . جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .
فإذا كان يتهددهم بمن هو أشد وأبقى . فها هي ذي صورة لمن يأتي ربه مجرما هي أشد عذابا وأدوم (فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا) فلا هو ميت فيستريح , ولا هو حي فيتمتع . إنما هو العذاب الذي لا ينتهي إلى موت ولا ينتهي إلى حياة . . وفي الجانب الآخر الدرجات العلى . . جنات للإقامة ندية بما يجري تحت غرفاتها من أنهار (وذلك جزاء من تزكى) وتطهر من الآثام .
وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر , وواجهته بكلمة الإيمان القوية . وباستعلاء الإيمان الواثق . وبتحذير الإيمان الناصع . وبرجاء الإيمان العميق .(1/831)
ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية إعلانا لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الأرض وسلطان الأرض , وعلى الطمع , في المثوبة والخوف من السلطان . وما يملك القلب البشري أن يجهر بهذا الإعلان القوي إلا في ظلال الإيمان .
وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد آخر وحلقة من القصة جديدة .
إنه مشهد انتصار الحق والإيمان في واقع الحياة المشهود , بعد انتصارهما في عالم الفكرة والعقيدة . فلقد مضى السياق بانتصار آية العصا على السحر ; وانتصار العقيدة في قلوب السحرة على الاحتراف ; وانتصار الإيمان في قلوبهم على الرغب والرهب , والتهديد والوعيد . فالآن ينتصر الحق على الباطل والهدى على الضلال , والإيمان على الطغيان في الواقع المشهود . والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول . فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير ; وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن . .
إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية . فأما إذا ظل الإيمان مظهرا لم يتجسم في القلب , والحق شعارا لا ينبع من الضمير , فإن الطغيان والباطل قد يغلبان , لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان . . يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب ; فتصبحا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ويصول بها الطغيان . . وهذا هو الذي كان في موقف موسى - عليه السلام - من السحر والسحرة . وفي موقف السحرة من فرعون ومثله . ومن ثم انتصر الحق في الأرض كما يعرضه هذا المشهد في سياق السورة: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي , فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا , لا تخاف دركا ولا تخشى . فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم , وأضل فرعون قومه وما هدى) . .
ولا يذكر السياق هنا ما الذي كان بعد مواجهة الإيمان للطغيان في موقف السحرة مع فرعون . ولا كيف تصرف معهم بعدما اعتصموا بإيمانهم مستقبلين التهديد والوعيد بقلب المؤمن المتعلق بربه , المستهين بحياة الأرض وما فيها ومن فيها . إنما يعقب بهذا المشهد . مشهد الانتصار الكامل ليتصل النصر القلبي بالنصر الواقعي . وتتجلى رعاية الله لعباده المؤمنين كاملة حاسمة . . ولنفس الغرض لا يطيل هنا في مشهد الخروج والوقوف أمام البحر - كما يطيل في سور أخرى - بل يبادر بعرض مشهد النصر بلا مقدمات كثيرة . لأن مقدماته كانت في الضمائر والقلوب .
وإن هو إلا الإيحاء لموسى أن يخرج بعباد الله - بني إسرائيل - ليلا . فيضرب لهم طريقا في البحر يبسا بدون تفصيل ولا تطويل - فنعرضه نحن كذلك كما جاء - مطمئنا إلى أن عناية الله ترعاهم فلا يخاف أن يدركه فرعون وجنوده , ولا يخشى من البحر الذي اتخذ له طريقا يابسا فيه ! ويد القدرة التي أجرت الماء وفق الناموس الذي أرادته قادرة على أن تكشفه بعض الوقت عن طريق يابس فيه !(1/832)
(فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم . وأضل فرعون قومه وما هدى) . .
هكذا يجمل السياق كذلك ما غشي فرعون وقومه , ولا يفصله , ليبقى وقعه في النفس شاملا مهولا ; لا يحدده التفصيل , وقاد فرعون قومه إلى الضلال في الحياة كما قادهم إلى الضلال والبحر . وكلاهما ضلال يؤدي إلى البوار . .
ولا نتعرض نحن لتفصيلات ما حدث في هذا الموضع , كي نتابع السياق في حكمة الإجمال . إنما نقف أمام العبرة التي يتركها المشهد ونتسمع لإيقاعه في القلوب . .
لقد تولت يد القدرة إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان فلم يتكلف أصحاب الإيمان فيها شيئا سوى اتباع الوحي والسري ليلا . ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع . . موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة , وفرعون وجنده يملكون القوة كلها . فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلا . هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة . ولكن بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها . بعد أن استعلن الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه ; لا يرهب وعيده ولا يرغب في شيء مما في يده . . يقول الطغيان: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل) فيقول الإيمان: (فاقض ما أنت قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . . عندما بلغت المعركة بين الإيمان والطغيان في عالم القلب إلى هذا الحد تولت يد القدرة راية الحق لترفعها عالية , وتنكس راية الباطل بلا جهد من أهل الإيمان .
وعبرة أخرى: إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون وهو يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة . فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلا واستنكانة وخوفا . فأما حين استعلن الإيمان , في قلوب الذين آمنوا بموسى واستعدوا لاحتمال التعذيب وهم مرفوعو الرؤوس يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون دون تلجلج ودون تحرج , ودون اتقاء للتعذيب . فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة . وإعلان النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب . .
هذه هي العبرة التي يبرزها السياق بذلك الإجمال , وبتتابع المشهدين بلا عائق من التفصيلات . ليستيقنها أصحاب الدعوات , ويعرفوا متى يرتقبون النصر من عند الله وهم مجردون من عدة الأرض . والطغاة يملكون المال والجند والسلاح .
-------------------
وقال تعالى : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله :(1/833)
هؤلاء هم " الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد " . . وليس وراء الطغيان إلا الفساد . فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء . كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة . ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال . .
إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد ؛ ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف ؛ وكذلك قال فرعون . . " أنا ربكم الأعلى " عندما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد .
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية . والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة . وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك . وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد . .
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان . فلابد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة . . وهو فساد أي فساد .
فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :
" فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " . .
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم . فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب . حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .
ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : " إن ربك لبالمرصاد " تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك ! . . بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج التي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن - ولا يزال - يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .(1/834)
" إن ربك لبالمرصاد " . . يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء . . فأما الإنسان فتخطئ موازينه وتضل تقديراته ، ولا يرى إلا الظواهر ، ما لم يتصل بميزان الله .
- - - - - - - - - - - - - -(1/835)
الباب السابع
بحوث ومقالات حول أسباب النصر والهزيمة
يتضمن هذا الباب مجموعة جيدة من الخطب والبحوث والمقالات والفتاوى حول عوامل النصر والهزيمة ، وكلها تدور حول هذا الموضوع الجلل ، وتركتها كما هي ، مع عزوها لأصحابها ، فبعضها أصاب المحز ، وكثير منها يدور حول الموضوع نفسه .
معيار النصر
د:محمدبن موسى الشريف
لقد جرى ما جرى في العراق ، وضاقت صدور قوم مؤمنين ، وامتلأت قلوبهم غيظاً وحنقاً ، وليس بسبب ما جرى على صدام وحزبه ولكن لأسباب أخرى منها :
1- انهيار الوضع فجأة بحيث تمكن الصليبيون المتصهينون دون مقاومة تذكر ، ولا نكاية كانت متوقعة فيهم ، وهذا بسبب التعبئة الكبيرة الكاذبة التي قام بها النظام ، وما كانوا يدعونه من أن بغداد ستكون مقبرة للغزاة ، وتعاطفت الشعوب الإسلامية تعاطفاً كبيراً جداً مع هذا الطرح ، وبنيت عليه الآمال العظام ثم فوجئوا بما جرى مما لم يكن في حسبانهم أبداً ، وهذا أورث كثيراً من الناس إحباطاً كبيراً ويأساً عظيماً ، وانهارت آمال كثير من الشباب المتحمس المتوقد والفتيان المتوثبين.
2- تمكن الصليبين المتصهينين من البلاد العزيزة على قلوبنا ، ومن مهد الحضارة الإسلامية ، وبدء تهديدهم لسورية وإيران وغيرهما من بلاد الإسلام ، وفي ذلك خوف كبير على هذه البلاد العزيزة الغالية.
3- أثر هذه الأحداث العالمية في ترسيخ الطغيان الصليبي - الصهيوني ، وما تطبعه في أذهان الناس من سيطرة هؤلاء على مقاليد الأمور ، وما تضخمه في قلوبهم وعقولهم من هذه القوة والغاشمة ، وكل ذلك مردوده سلبي جداً.
4- اجتراء القوى الأخرى على المسلمين ، وخاصة إخوان القردة والخنازير على إخواننا في فلسطين ، واجتراء الهنادكة عباد البقر على إخواننا في كشمير ، والصليبيين الفلبينيين على إخواننا هنالك.
المصدر:http://www.altareekh.com
ــــــــــ
يوم النصر للمجاهدين الأفغان
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد(1/836)
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
-----------------------
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- تحقق النصر بعد الصبر والتكاتف 2- سقوط فلسطين بيد اليهود إحباط يعيشه المسلمون 3- دور الجهاد في تفكك الاتحاد السوفيتي 4- موقف المنظمات الفلسطينية من الجهاد الأفغاني 5- دعوة لجعل المعركة مع اليهود معركة عقائدية 6- فضل الجهاد وضرورة الإعداد
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فقال الله تبارك وتعالى: ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [العنكبوت:6].
هذا اليوم هو يوم المجاهدين الأفغان، نشاركهم بهجتهم وفرحتهم ونهنئهم ونهنئ أنفسنا وجميع المسلمين بهذا الظفر وهذا النصر الذي أحرزته قضيتهم، تلك القضية التي أشغلت المسلمين وأهمتهم أكثر من ثلاث عشرة سنة، التي لقيت منهم التأييد الكبير والتعاون والتكاتف خاصة في هذه البلاد مهبط الوحي ومركز الحرمين الشريفين وموئل الإيمان ومحرزه - فقد لقيت هذه القضية كغيرها من القضايا الإسلامية التأييد والدعم الواضح الكبير، ولقد كان لوعي إخواننا الأفغان وصبرهم وإصرارهم على القتال وشدة بأسهم في النزال أكبر الأثر في نجاح قضيتهم. والفضل أولا وأخيرا لله تبارك وتعالى الذي من على المسلمين بهذا النصر، وبرجوع اللاجئين إلى ديارهم وبقيام دولة الإسلام تحكم شريعة الله فيها اليوم يوم الدروس والعبر من هذا الظفر:
فأولا: هذا أول نصر نذوق طعمه نحن المسلمين في هذا العصر، نحن أبناء هذا الجيل الذي عشنا في عصر الهزائم، اعتدنا على الهزائم والنكسات، لم نذق طعم النصر أبدا حتى كاد اليأس والإحباط يستوليان على النفوس وحتى نسينا طعم النصر. فلقد شهدنا سقوط المسجد الأقصى وكيف؟ هكذا بالتقسيط في عام 48 بتاريخ النصارى، القدس في يد اليهود إخوان القردة والخنازير، وفي سنة 67 سقط النصف الثاني من القدس. وهذا الظفر الذي نعيش في أجوائه اليوم هو أول ظفر نذوق طعمه(1/837)
وإن كان طعما فيه شيء من المرارة، وإن كان ظفرا لم يسلم من بعض المنغصات والمكدرات، ولكنه على أية حال يعد من الانتصارات.
ثانيا: هذا الظفر إنما تحقق ببركة الجهاد ورفع راية الجهاد والتمسك بشعار الإسلام الذي رفع لواءه إخواننا المجاهدون الأفغان وصبروا عليه حتى آخر لحظة، هذه بركات الله أكبر، فانظروا إلى أي شيء انتهت الله أكبر، إلى الظفر، إلى سقوط أعتى دولة على وجه الأرض - الاتحاد السوفيتي - فلا شك أن جهاد الأفغان الإسلامي قد عجل بانهيار هذا الصنم الأحمر، ولما سقطت تلك الدولة، سقط ذنبها في كابول، وهذه عادة الأذناب، ماذا تفعل الأذناب إذا سقطت الرؤوس أو تخلت عنها؟
وفي هذا الظفر وهذا النصر الإسلامي المؤزر للجهاد والمجاهدين درس بليغ لأولئك الذين يريدون تحرير بلادهم المغتصبة بالمفاوضات. وهم مثخنون بالجراح يعرجون من كثرة الهزائم، منظمات الترقيع والتوقيع التي تريد تحرير فلسطين بالمفاوضات وتناضل ضد العدو المغتصب من الفنادق والقاعات. تلك المنظمات، منظمات العدل والخيانة، التي كادت من قريب أن تقطع اليد التي كانت تمدها بالعون والتأييد، التي تنكرت للإسلام والمسلمين وتركت أكثر من مليار مسلم وراءها ظهريا وشوهت قضيتهم الأولى، قضية المسجد الأقصى.
تلك المنظمات من أعجب العجب أنها وقفت ضد الجهاد الأفغاني مناصرة لذلك الصنم الأحمر - منظمات الغدر والخيانة يريدون أن يحرروا المسجد الأقصى باسم البعث الملحد وباسم القومية العفنة وباسم العلمانية الكافرة.
ولقد قالوا ذات يوم: إنهم لا يقاتلون باسم الدين، لا يريدون تحرير فلسطين والمسجد الأقصى باسم الدين، فليهنؤوا إذن بالهزائم تلو الهزائم والنكسات بعد النكسات.
أبشري بطول السلامة يا إسرائيل إن كان هؤلاء الذين يناضلون وهم الذين يريدون تحرير فلسطين، فهم لا يحاربون باسم الإسلام عدوا يحاربهم باسم التوراة وباسم أرض الميعاد وباسم إسرائيل - نبي الله يعقوب الذي هو منهم براء.
هذا درس لهؤلاء، أن الجهاد هو وحده الطريق، الطريق إلى الظفر، ولكِ الله يا فلسطين، لك الله يا مسجدنا الأقصى الأسير، إن موعدك ليس مع هؤلاء، إن موعدك مع أولئك المجاهدين الفلسطينيين الحقيقيين حينما ينبعثون ويرجعون إلى الله أكبر، سيحرروك بعون الله وحوله وقوته، ثم بعون المسلمين في أقصى الأرض، فهذه هي مهمتهم تحرير ثالث مسجد من اليهود الذين دنسوا حرمات ذلك المسجد حتى الثمالة.
ثالثا: إننا لنضع أيدينا على قلوبنا شفقة على هذا الظفر الذي حققه إخواننا الأفغان خشية أن يضيع، لأن الأعداء متربصون وقد عودنا هؤلاء الأعداء على سرقة الثمار والسطو على النتائج، فما لم ينالوه بقوة السلاح وما عجزوا عن نيله في ساحة القتال، فإنهم ينالونه بالمكر والخداع والمناورات السياسية.(1/838)
إنهم يستغلون مشاكلنا نحن المسلمين ونقاط الضعف فينا أسوأ استغلال ونحن في قمة فرحتنا بهذا الظفر، نرى الإذاعات الأجنبية يكشفون كل العيوب والنقائص حتى نظن أن هؤلاء المجاهدين سيأكل بعضهم بعضا، فتعال نلهج إلى ربنا بالدعاء، فإن الدعاء في الأيام المباركة، ويوم الجمعة منها، وفي المساجد المقدسة، ومسجد قباء وهذه المدينة منها، الدعاء في مثل ذلك هو من أعظم ما ندعم به إخواننا المجاهدين، فلنلهج بالدعاء إلى ربنا أن يلهم هؤلاء المجاهدين من أمرهم رشدا، اللهم ألهمهم من أمرهم رشدا وشد أزرهم ووحد كلمتهم وانزع الغل من صدورهم واجعلهم إخوانا تحت لواء الإسلام متفقين متكاتفين.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تكفل الله لمن خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله لا ينهزه إلا الجهاد في سبيله أو تصديق كلمته - أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة))(1)[1] متفق عليه.
نعم هي إحدى الحسنيين، إما الظفر وأن يعود المجاهد إلى دياره غانما منتصرا وإما الجنة. فإن من استشهد وهو يجاهد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله دخل الجنة وسلم من النار. قال سيدنا رسول الله: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد مسلم أبدا))(2)[2].
فالجهاد أقرب طريق إلى الظفر، والاستشهاد في سبيل الله أسرع طريق إلى الجنة، فلو علم المسلمون ما في الجهاد من فوائد ما شغلوا عنه أبدا. فالجهاد وحياة الجهاد فيها المنعة والقوة والعزة بينما حياة الخمول والاستسلام للشهوات فيها الذلة والقهر والهوان الشديد.
وهما حالتان لا يجوز للمسلم أن يخلو من إحداهما، لابد للمسلم أن يكون في إحدى هاتين الحالتين، إما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد، والاستعداد للجهاد من الجهاد بل أهم مراحل الجهاد ويكون ذلك بنشر العلم بين الناس وبث الوعي وتصحيح الأفكار والعقائد ودعوة المسلمين إلى دينهم وشريعتهم.
فعلى المسلمين أن يعرفوا كلمة الله قبل أن ينفروا إلى الجهاد، فإنهم إن أخطأوا منهج الجهاد وطريقته فقد تذهب الدماء هدرا وتضيع الجهود هباء منثورا. فإما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد.
__________
(1) البخاري كتاب الخمس (2955).
(2) أحمد (2/256)، ابن ماجة في أبواب الجهاد (2774)، وصححه الألباني.
ــــــــــ(1/839)
في مقدمات النصر القادم
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
-----------------------
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
30/7/1421
جامع الفرقان
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- ذلة المسلمين اليوم وفقدتهم إرادة التغيير. 2- انتصار إخواننا العزل في أفغانستان. 3- هزيمة عام 67 لا تعني أن يستمر الإحباط إلى مالا نهاية. 4- تغير الظروف والمؤشرات بعد تلك الحرب. 5- إسرائيل هزمت التيارات الوطنية والقومية ولم تواجه بعد الراية الإسلامية. 6- الأمل في نصر الله كبير ، والقنوط منه حرام.
-------------------------
الخطبة الأولى
عباد الله: تنوعت أقاويل الحكماء وأهل الغيرة والدين في سبب ما وصلت إليه الأمة المسلمة من وهن وضعف واستخزاء لأعدائها, وما وصل إليه أعداؤها الأذلاء من اليهود من غرور وكبرياء ووقاحة أفصح عنها مجموعة منهم حين رفعوا لافتات كتب عليها (الإسلام التطرف) كما نشرته جريدة الحياة اليوم.
ونشرت عن نتنياهو: أن روسيا وإسرائيل تقفان في خندق واحد ضد عدو مشترك, فما سبب هذا الوهن والمذلة التي منيت بها أمة المليار مسلم وأمة أكبر احتياطي للنفط في العالم, وأمة الأراضي الخصبة, وأمة المواد الخام في كل شئون الحياة, وقبل ذلك كله وأهمّ منه كله أمة القرآن, أصدق حديث, وأصدق قيل, وأحسن حديث, وأحسن قصص, وأحسن تفسير, وأمة خير نبي ((أنا سيد ولد آدم)), أوتي القرآن ومثله معه ((ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه)) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى, أمة هي خير أمة أخرجت للناس, لقد ذهل كثيرون من هذا الوهن الذي منيت به أمة الإسلام, وكشفت عنه الأحداث الأخيرة في فلسطين وتداعياتها.(1/840)
وتساءل كثيرون: هل أزمتنا أزمة إرادة؟ لأن المعطيات كلها متوافرة ولا ينقص إلا الإرادة, والله يقول: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة, وليس في الأفق أي بارقة أمل تدل على الإعداد, بل ولا على مقدماته, فدلّ ذلك على عدم الإرادة أصلاً! إذ لو وجدت الإرادة لتبعها الإعداد ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ثم فقدان الإرادة وضعفها هل هو في القادة فقط والشعوب منه بريئة؟ أم هو شامل حتى للشعوب؟ بدليل أن كثيرًا من الشعوب لم تحدث نفسها بالغزو أصلاً, بل يوجد من أفراد المسلمين كثيرٌ لم يخطر بباله أن يغزو يومًا من الأيام, بل ربما هيأ نفسه للفرار من أقطارها, فهم كما قص الله عن المنافقين: ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبسوا بها إلا يسيرًا.
إن الأفغان حين اجتاحهم السوفيات لم يكن بأيديهم سوى العصي وبنادق الصيد القديمة, وكان عدوهم يملك أقوى ترسانة نووية في زمانه, فلما ملكوا الإرادة والتصميم والثقة المطلقة بنصر الله ووعده, قاوموا الغاشم وأخذوا منه سلاحه وقاتلوه به حتى قويت شوكتهم ونصرهم الله على عدوهم, ولا يليق بمشغب أن يقول ساندتهم أمريكا, ولولا ذاك لما انتصروا؛ لأننا نقول: إنهم بدأوا المقاومة ولم يحسبوا حساب مساندة أمريكا لهم, ثم من يقول إنك لو قاومت لن تجد دعمًا من دول أخرى ولو بحرّ مالك, كيف وأمة الإسلام تستطيع الاستغناء بالله وحده بما معها من عدد وعُدَد, ثم لم يلبث هذا الدب الغاشم أن دحره الله وشتت شمله وفرق جمعه, وكسر شوكته, وقل مثل ذلك في البوسنة والشيشان في حربهم الأولى كيف دحر الله أعداءهم من الصرب والروس وخرجوا منهزمين.
لو وجدت الإرادة لفتحت الحدود المحيطة بإسرائيل للمجاهدين ضدها, لو وجدت الإرادة لقوطعت كل الأمور التي تكون سببًا لقوة إسرائيل مباشرة أو بواسطة, لو وجدت الإرادة لما سجن دعاة الإسلام وعلماؤه في سجون فلسطين على يد بني جلدتهم بضغوط من اليهود من أهل السلام.
إنه ليس هناك أي دليل على إرادة صادقة عند أمة الإسلام لمواجهة عدوها, فما هذا الوهن والإحباط, ألم يسمعوا قوله سبحانه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقوله: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون أغرهم هزائم منوا بها فيما سبق فقاسوا حالهم اليوم على حالهم أمس, إنه قياس مع الفارق.
إن الحروب السابقة جرت حين كانت التيارات الأرضية من بعثية وناصرية وقومية وشيوعية وغيرها هي التي توجه الشعوب, فصرفتها عن طبيعة المعركة إلى رايات جاهلية, أما اليوم فإن الأمر قد اختلف؛ حيث غربة الإسلام بدت تتقشع شيئًا فشيئًا بفضل الله أولاً ثم بفضل جهود العلماء المخلصين العاملين الربانيين في هذه البلاد وغيرها من بلاد الله, وإذا أردت أن ترى مصداق ذلك فانظر كم من الناس كان يعرف ابن عثيمين حفظه الله عام 93هـ, وهو زمن حرب رمضان, كم كان يعرفه في هذه البلاد؟ إنه لم يكن يعرف خارج بلدته, واليوم يصدر الناس عن فتواه في مشارق الأرض ومغاربها, وانظر كم دفعة تخرجت من الجامعة الإسلامية منذ تلك الحرب إلى اليوم؟ إنها(1/841)
ثلاثون دفعة وكل دفعة فيها ما لا يقل عن مائة طالب توزعوا في أقطار الأرض شرقها وغربها, وقد تحملوا من العلم النافع والعمل الصالح والسمت الحسن من العلماء الربانيين من أمثال الشيخ بن باز رحمه الله وغيره كثير رحم الله أمواتهم وختم لأحيائهم بخير, وكثير منهم عين داعية إلى الله على منهج السلف في بقاع شتى من الأرض, ومن كان له بصر بمثل هذه الأمور عرف الأثر العظيم الذي تركوه في مناطقهم, فكيف بخريجي الجامعات الإسلامية الأخرى, ومن طلب العلم في الحلقات وغيرها, كدار الحديث وجامعة الإمام ومعاهدها الإسلامية, لاشك أن لجهود العلماء الربانيين المخلصين في هذه البلاد وغيرها أثرًا تغيير المعادلة ومعطيات القضية ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أملهم رويدًا.
ولاشك أن لهم أثرًا عظيمًا في كشف الغربة الثانية التي ألمت بالإسلام وتجلية كثيرٍ من حقائق الدين والذب عنه, ودحض الشبهات المثارة حوله.
ثم أمر آخر كان له أثر في الفارق الكبير بين هذا الوقت وأوقات الهزائم السابقة, ذلكم هو ثورة الإعلام والاتصالات التي حدثت في العالم كله, فجعلته كالقرية الصغيرة, يلقى الخطاب في أقصى العالم فيسمع في نفس اللحظة في أقصاه من الجهة الأخرى, واعتبروا ذلك بحادثة الغلام القتيل الذي ارتج العالم لمصرعه وبكى عليه أقوام وتباكى آخرون, وما شهر بجريمة اليهود في قتله إلا الإعلام.
إن الهزائم السابقة كان الخونة فيها يملكون أن يمنعوا عن شعوبهم ما يريدون منعه من المعلومات والأخبار, أما اليوم فإن الشعوب تبصر ما لا يحب الظالمون أن تراه شعوبهم, وتسمع ما لا يشتهي الظالمون, وتقرأ وتطلع على ما لا يرغبون, فما يكتمه هذا يفضحه ذاك, وهكذا دواليك, أفلا تمثل هذه الثورة الإعلامية في عصر الاتصال والفضائيات عنصرًا يستحق أن يشكل فارقًا يمنع القياس على ما مضى.
لقد جرب الناس الرايات كلها في حروبهم إلا الراية الإسلامية, والله يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ويقول: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ويقول: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويقول: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
لو أصلحت الأمة ما بينها وبين ربها لجاءها النصر, أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير أي والله إنه ليعفو عن كثير, ولولا ذاك لأخذنا أخذ عزيز مقتدر, فلنتب إلى الله ولنحسن العمل, فقد كان(1/842)
أصحابه إذا تأخر النصر تفقدوا أنفسهم فظفروا بعز الدارين, ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقون لا يعلمون نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
عباد الله: إن رصيد الأمة واحد, رصيد الإعراض عن شرعه والمعاصي التي تقارفها يكون ضررًا عليها وسببًا لعقوبتها, والغُنْمُ بالغُرْم, فرصيد التضحيات أيضًا واحد, فكل ما يعانيه الصادقون الربانيون من حمله الإسلام من أذى وتطريد وقتل وتشريد هو أيضًا رصيد يصب في صالح الأمة كلها بإذن الله فتستحق به إذا صبرت نصر الله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا.
لكن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالصبر واليقين وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ولا تكون للظالمين أبدًا وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين, لا تكون لمن وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون, ولا لمن يسارعون فيهم ـ أي في اليهود ـ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ((إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا)) وقد قال : ((لن يغلب عسر يسرين)).
إن إسرائيل تقرع الآن طبول الحرب عبر تصريحات قادتها, وقد جرت عادتها أن إذا أرادت حربًا تغير بها خارطة المنطقة وتحتل بها مواقع جديدة أن تفتعل حدثًا كزيارة شارون مثلاً لتتذرع به لتنفيذ مخططاتها التوسعية, ونجحت في كل حروبها وأطماعها الماضية فهل تنجح الآن؟ وهل تخطئ حساباتها الآن أم تصيب, أملنا في الله كبير وهو القائل: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون, والقائل: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
ــــــــــ
أسباب النصر وأسباب الهزيمة
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم(1/843)
-----------------------
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أسباب الهزيمة وأسباب النصر. 2- حال المسلمين اليوم. 3- كيفما تكونوا يولِّي عليكم. 4- التحذير من إضاعة الصلاة.
-------------------------
الخطبة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ((خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سُلّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة لا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر)) [رواه الطبراني وهو حسن، انظر: صحيح الجامع 3240].
وفي رواية: ((ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديداً)).
يبين لنا النبي أسباب النصر وأسباب الهزيمة فنقض عهد الله وعهد رسوله - أي معصية الله ورسوله - هو سبب الهزيمة وتسلط الأعداء وتحكيم القوانين التي وضعها البشر والإعراض عن حكم الله هو سبب الفقر والاختلاف والتفرق الذي يعاني منه المسلمون، وفي المقابل فإن طاعة الله ورسوله هي سبب النصر قال تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ويثب أقدامكم.
مرّ سعد بن أبي وقاص يوم القادسية على معسكرات الجيش بالليل فمر بقوم يصلون فقال: من ههنا يأتي النصر، ومر بقوم نيام فقال: ومن هنا تأتي الهزيمة، رغم أن هؤلاء ناموا عن صلاة مستحبة ليست واجبة إلا أن سعداً رأى أن التكاسل عن المستحبات من أسباب الهزيمة.
ومر قتيبة بن مسلم - أحد القواد الفاتحين الكبار - على محمد بن واسع - أحد عبّاد التابعين - وهو رافع أصبعه إلى السماء يدعو وكانت الترك قد أغارت على خراسان وكان قتيبة أمير خراسان فقال قتيبة: أصبعه تلك أحب إليّ من ثلاثين ألف عنان - أي من ثلاثين ألف فارس.(1/844)
فكيف ينتظر المسلمون أن ينصرهم الله وقد فشا في المسلمين تضييع الصلاة والزكاة وأكل الربا وانتشرت في بلادهم الحانات والمراقص ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا انتشر الخبث وكثر عم البلاء قيل: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))، وقال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال]. فإذا أراد المسلمون النصر المبين فعليهم أن يغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد].
ولكن المسلم لا ييأس من رحمة الله فإن الله تعالى قد ينصر المسلمين لأجل ضعفائهم من المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فقد قال : ((إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)).
وعلى قدر ما في عامة الناس من الخير والعدل يكون الخير والعدل في أمرائهم وحكامهم قال ابن القيم - رحمه الله -: (تأمّل حكمة الله تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، كيف يسلط الله عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها، وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وولاتهم من جنس أعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ملوكهم فإن استقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا به عليهم..
وقيل لعلي : لم كثرت الفتن في عهدك ولم تكن كذلك في عهد أبي بكر وعمر؟ فقال : كان أبو بكر وعمر أميرين على مثلي وأنا اليوم أمير على مثلك.
أيها المسلمون: إن من أعظم مظاهر إضاعة الدين إضاعة الصلاة فكم ممن ينتسب إلى الإسلام قد أضاع الصلاة إما أنه لا يصليها بالكلية أو لا يصلي إلا الجمعة أو يضيع أوقات الصلاة.
قال : ((لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة)) وقال : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) [مسلم عن جابر].
((الصلاة عمود الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين)).
وهي أول ما يحاسب عليه العبد وهي آخر وصايا رسول الله : ((الصلاة الصلاة)) ووصف الله تعالى المؤمنين بقوله: والذين هم على صلاتهم يحافظون.
وقال تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
وقد أخبر النبي أنه ستكون بعده أمراء يميتون الصلاة يصلونها في غير وقتها فقال : ((صل الصلاة لوقتها ثم صل معهم فإنها تكون لك نافلة)).
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
ــــــــــ(1/845)
الانتفاضة وبشائر النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
-----------------------
هيثم جواد الحداد
لندن
24/2/1422
المنتدى الإسلامي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- بعض جرائم اليهود على أرض فلسطين. 2- الصراع بيننا وبين يهود ديني تأريخي حضاري. 3-معركة اليهود معنا متعددة الوسائل والأشكال. 4- كل مسلم معني بهذه المعركة. 5-مقتل الطفلة إيمان حجو إحدى جرائم اليهود. 6-معاصينا أحد أسباب الهزيمة. 7-صور من الجهاد يستطيعها كل مسلم. 8-بشائر النصر في الانتفاضة.
-------------------------
الخطبة الأولى
وبعد:
فلقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة على وجه العموم وفي ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال والتي تضاعف فيها الصلاة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، طفل قتل بطريقة وحشية تفوق تلك الطريقة التي قتل بها محمد الدرة، لكن الله لم يشأ أن تصوره عدسات مصور، لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرة يصاب في إحدى الواجهات فلا يستطيع الكر والفر، فيأتي وغد فيركله بقدمه ويطرحه أرضاً ويدوس بحذائه القذر على رقبته، والطفل يستغيث ثم ماذا؟ يصوب ذلك الحقير بندقيته على رأس الطفل ويتلذذ بإطلاق النار عليه، ليتشحط الطفل في دمائه البريئة، لينتقل إلى علييين ولتسيل دماؤه على ثرى فلسطين مسجلة شهادة على تخاذل الأمة، وهوانها.(1/846)
مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال، بأيد قذرة، ... محمد الدرة، قبل أشهر، والآن إيمان حجو ذات الأشهر الأربع، وغيرهم من لم يقدر الله عز وجل تسجيل أسمائهم في صفحات التاريخ، وما ضرهم ذلك، إذا كانوا عند الله من الخالدين..
لم يكفهم القتل، بل جاوزه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، كما هو دأبهم وديدنهم، صورة متعددة وآلام تصرع كل الجبابرة فضلاً عن الإنسان العادي.
أيها الإخوة، معاناة تصفها لنا إحدى الأمهات التي دمر بيتها "ثوان معدودة وتحول البيت وكل ما يحتويه من أثاث وملابس إلى كومة رماد, وأصبحت أنا وأطفالي بلا مأوى سوى من خيمة صغيرة نصبت لنا على قارعة الطريق لا تتسع لمكان جلوسنا، فكيف بها وقد أصبحت المكان الوحيد الذي يضمنا, وعليّ أن احتمل سبل الحياة البدائية, وأصبِّر زوجي وأطفالي حتى لا تتكرر الهجرة مرة ثانية ويضيع ما تبقى من أرضنا"
ثم تتابع قائلة " لقد اضطررت إلى توزيع أولادي وبناتي على بيوت أقاربي بالتناوب وخاصة أن إحدى بناتي تدرس في الصف الثالث الثانوي، وهي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة لتذاكر دروسها وتنجح وان كنت لا ادري إلى متى سنبقى مشردين وموزعين على البيوت".
بهذه الكلمات وصفت سيدة حال أسرتها المكونة من 14 فرداً بعدما هدم جيش الاحتلال منزلها الواقع في منطقة المواصي واضطرت أسرتها إلى العيش في تلك الخيمة.
المراقبون يصفون ما يجري الآن بأنه حالة حرب حقيقية، حولت ما يسمى بمناطق السلطة الفلسطينية إلى ساحات قتال حقيقية، المدفعية الثقيلة تمطر حممها فوق رؤوس العزل، وطائرات الأباتشي تصب جام غضبها على الرضيع، والشيخ، والمرأة والعجوز، المجنزرة الحديدية تعارك الجسد البشري المجرد.
شهيد تلو شهيد، أرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أم، وأم خلف رضيع، ومنزل مهدم، وشيخ حزين، وعجوز بائسة، وإلى متى..؟؟؟
مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في ثنايا قلب كل مسلم، ملاحم تسطرها أشلاء الرجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء.
وفي المحيا سؤال حائر قلق ... أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية ... أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرةٌ ... تواقة لجنان الحور والعين
يا غيْرتي أين أنت أين معذرتي ... ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزة الإسلام من خلدي ... ما بالها لم تعد تغذو شراييني
أيها المؤمنون: الحديث عن الانتفاضة متشعب، طويل بطول هذه الانتفاضة، عميق في الجذور، بعمق هذه الانتفاضة، لكنه واجب كما هذه الانتفاضة واجبة.(1/847)
إن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين.
هذه أحد أهم القضايا التي لا بد لأهل العلم والدعاة من التركيز عليها في مثل هذه الأيام المأساوية التي تعيش فيها الأمة بأسرها مخاضاً صعباً.
حتى تتضح الإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من بيان حقيقة الصراع بيننا وبين يهود أعداء الله، وأحفاد القردة والخنازير.
أيها الإخوة إن الصراع بيننا وبين يهود ديني تأريخي حضاري، متشعب، لا يحده زمان ولا مكان، ولا يتخذ طبيعة واحدة.
نعم أيها الإخوة هذه طبيعة الصراع، ليس الصراع صراعاً عسكرياً في مدة محدودة على أرض فلسطين، ما المعركة في أرض فلسطين، سواء التي تجري الآن، أو التي تجري من قبل سوى جزء صغير من هذا الصراع.
لا أدلّ على ذلك أيها الاخوة من إقرارنا بناء على استقراء الواقع، من أن يهود لا يحتلون أرضنا في فلسطين، بل في وقت من الأوقات سيطروا على أجزاء من البلاد العربية بصورة غير مباشرة قد تكون أقبح من الاحتلال العسكري، فمثلاً: كانت لهم سيطرة سياسية، اقتصادية، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل السيطرة الثقافية، وما لهثهم وراء التطبيع إلا جزء من إدارتهم لهذه المعركة التي أدركوا كنهها وجهلناه نحن.
إننا نعلم أن يهود يستخدمون كل ما يمكن استخدامه من أجل إدارة هذا الصراع لينتهي لصالحهم، خابوا وخسروا، إنهم جند من جند إبليس الذي ذكره الله عز وجل بقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالأولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
ألم يأمرنا الله عز وجل بالاستعاذة من شياطين الإنس والجن، إن شياطين الإنس متمثلين كل التمثل في هؤلاء اليهود، ألم تقل بروتوكلاتهم: علينا إغواء العالم بالنساء والخمر، والقمار واللهو، وإن لم يصح نسبة هذا إليهم فواقعم يشهد بذلك.
أيها الإخوة: من أسلحتهم في هذه المعركة كما هي أسلحة إبليس، الشهوات بأنواعها، المال، النساء، الخمور، اللعب، الإعلام، ما يسمى بالرياضة، الفن، كل هذه أسلحة من أسلحتهم.
أيها المؤمنون: وعليه، فلا بد لنا من إدارة هذه المعركة بطريقة تتناسب مع زمانها الممتد في عمق التاريخ، ومكانها الذي يتجاوز بقعة واحدة إلى نواحي الأرض كلها، في جميع بلاد العالم، بطريقة(1/848)
تتناسب مع طبيعتها التي تتناول جميع جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية وغيرها.
إن جنود هذه المعركة ليسوا هم الفلسطينيون وحدَهم، بل المسلمون، كل المسلمين، في جميع بقاع الأرض، في أرض الحرمين، وفي الجزائر، وفي مصر، وفي الشيشان، وفي أندونيسيا، وفي السودان، بل وفي بلاد أوروبا، وفي غيرها من بقاع العالم.
أنت أيها المسلم في هذا البلد جزء من هذا الصراع، نعم جزء من هذا الصراع، شئت أم أبيت، حتى ولم تكن على أرض فلسطين، بل حتى ولو لم تقل: إنك من الأصوليين، أو الإرهابيين، أو في أقل الأحوال من الإسلاميين، نعم يا أخي، كن من تكن، فأنا منك وأنت مني، وأنا وإياك جنود في هذه المعركة، حياتي حياتك، ونصرك نصري، وهزيمتنا هزيمة للأمة جميعاً.
أيها الأخ المبارك: لست أقول ذلك اعتباطاً، ولا حماساً، ولا أقول ذلك كي أقحمك في ما لا شأن لك به؟
ألست مسلماً؟ ألا تعبد الله؟ إذاً الشيطان عدوك، وأنت عدو للشيطان، ألم يقل هذا اللعين لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. ألست تمتنع عن الزنا؟ عن الربا؟ ألست تحاول غض بصرك عن الحرام، ألست تحاول أداء الصلاة في أوقاتها؟ ألست تسجد لله وحده؟ إن هذا كله يغيظ عدوك اللدود الشيطان الرجيم، أليس الشيطان من جند إبليس؟
ألا يتقطع قلبك حينما يتلى عليك هذا الوصف لجنازة الطفلة إيمان حجو؟
(كانت إيمان ترقد في كفنها الصغير في بيتها في مخيم دير البلح تعلو قسمات وجهها نصف صرخة لم تكتمل بعد، في الكفن كانت صغيرة وآثار شظايا القذيفة التي قتلتها واضحة للغاية، لم يأخذ جسدها الغض من النعش سوى مساحة صغيرة في وسط تلك الأكفان البيضاء النقية بنقاء من تحمل).
جاء أطفال المخيم، أمس تركوا مدارسهم وألعابهم واصطفوا في طابور طويل لا لكي يداعبوها ولكن لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة وهي تستعد لرحلة الجنة.
أطفال صغار بعمر الورد هتفوا لإيمان التي قتلتها قذيفة إرهابية صهيونية وهي في حضن أمها, جاء الأطفال لوداعها وهم لا يعرفون معنى الموت، والقذائف والدبابات التي تحاصر مخيماتهم وتحيل السعادة إلى حزن كبير.
توقفوا أمامها في فناء المنزل محدقين في وجهها الصغير، بعضهم سالت دموعهم غزيرة وآخرون ارتجفوا من هول المشهد، بينما انحنى بعضهم وطبعوا على جبينها الغض قبلة بريئة ومضوا يكفكفون دموعهم, جاءت جدتها (أم والدتها) وربتت بكفيها على رأسها وقبلتها , نظر الرجال فهالهم المشهد وبكوا بصمت أفسح المدى لصيحات الأطفال مكبرة في الخارج: الله أكبر الله أكبر.(1/849)
إيمان هي بكر والديها، طالما حلما كما يحلم كل عروسين رزقا بمولوة تملء حياتهم مرحاً وسرورا بأن يرياها عروساً تزف إلى عريسها وسط الزغاريد، ولكنه اليوم يودعها رضيعة حتى قبل أن تنطق بكلمة (بابا).
كان الأب يكتم أزيزاً في صدره، لم تكتمه الدموع التي لم تفارق عينيه، وعند رأسها توقف قليلاً قبل أن يخر باكياً على وجهها قبل أن يلثمها بعشرات القبل لآخر مرة وقال باكياً: إن استشهاد ابنتي هدية لكل العرب، وأضاف ساخراً: كانت تحمل قنابل ومدافع وصواريخ ضد إسرائيل، لهذا قتلها جيش الإرهابي شارون.
وأضاف أن العدو الصهيوني دمر أسرتي بقتل ابنتي وجرح زوجتي، وأنا مازلت أعاني من جراحي برصاصة صهيونية غادرة بانتظار عمليات جراحية أخرى.
تواصلت مراسم الوداع الاخيرة وانتظر آلاف الرجال والنساء في أزقة المخيم تحت حرارة الشمس للمشاركة في تشيع جثمانها. حضر الأطفال واصطفوا ثم حملوها على أكتافهم تماماً مثل الرجال وهتفوا: "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" وأخذ أحد الأطفال يبكي وهو يحتضن صورة لإيمان ويقول: شارون قتل إيمان وغداً نلتقي في الجنة , وهتف مئات الأطفال: يا شارون يا سفاح ليش تقتل الأطفال".
نظر كثيرون في وجوه عشرات الأطفال الذين لم ينتعل بعضهم أحذيته فشاهدوا مسحة الحزن الذي تسلل بوضوح من أعينهم الصغيرة وصرخ شاب: من سيكون الضحية القادمة من بين الأطفال؟
بغي ُ الطغاة ِ وذل ٌ منْ ذوي الرحمِ ... أحل ّ سفكَ دمي في الأشهر الحرم ِ
يا نادب الحظ أقصرْ والتمس عوضاً ... إن ّ الأماني َ طوع ُ السيف ِ والقلم ِ
لولا العزائم ُ ما سادت بها أمم ٌ ... بالعز ترفل ُ لا بالعجز والسقم
الله أكبر ما كانت لذي َوهن ٍ ... ولا تأتت لذي خور ٍ وذي صمم ِ
يهتز منها طغاة الأرض إن برقت ... فوق َ السيوف بأيد ٍ حرة ٍ وفم
عذراً إليك صلاح الدين في رهط ... ولو تولوك وانتسبوا لمعتصم ِ
أيها المؤمنون: ألا تتحرك مشاعركم لهذه المشاهد، إن تحرك مشاعركم دليل على أنكم خضتم المعركة من حيث لا تدرون.
وعليه، فإني أختصر عليك الجواب أيها الأخ وأقول لك: إن اقترابك من الله بأداء ما افترضه عليك اقتراب من النصر، وإن ابتعادك عن الله باقتراف ما حرمه عليك ابتعاد عن النصر، ولأنك جزء من جسد هذه الأمة، وجندي في معسكرها، وواحد من قواتها، فإني أقول لك: لا بد أن تدرك أن اقترابك من النصر إنما هو زحف من قبل الأمة كلها نحو النصر، وأن ابتعادك عن الله إنما هو نكوص من قبل هذه الأمة نحو الهزيمة.(1/850)
هل تعلم أيها الإخ المبارك أن كل معصية تقترفها إنما هي طعنة نجلاء توجهها نحو جيشك المرابط في ساحة المعركة، لتزيده وهناً وتقوي شوكة العدو عليه.
ألم تقرأ قول الله عز وجل: أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
ألم تسمع إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة).
ألا تقرأ قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ [غافر:51].
أيها الأخ المبارك: ولا بد لنا أن نقول إنك على ثغر من ثغور هذا الرباط، فكل ما تقدمه يمثل نوعاً من أنواع الرباط، وصوراً من صور القتال، وإعداداً للمواجهة الكبرى.
قل لي بربك: ألست قادراً على بذل شيء ولو يسير من أموالك لتدعم به إخوانك المرابطين هناك، ألست قادراً على اقتطاع شيء ولو من مصروف أولادك الذين يتمتعون بأكل الحلويات هنا، لإنقاذ حياة أطفال يأكلون الثرى، ويلعقون الحنظل، ويكرون ولا يفرون أمام مجنزرات العدو ودبابته وأسلحته الخفيف منها والثقيل.
إن تربيتك لأبنائك ليكونوا أناساً صالحين، وإعدادك لهم حتى يكونوا جنود المستقبل جزء من الصراع في هذه الملحمة.
امتناعك عن أكل الربا مع بعض صوره المحببة إلى النفس، وكفك عن النظر المحرم الذي يشق على النفس لا سيما في هذه البلاد ومع هذه الأجواء، وسعيك نحو الله، كل هذا كثير يمكن أن تفعله، في أي زمان ومكان.
أيها الإخوة: لا يأتينكم الشيطان فيقول لأحدكم: شبعنا من الكلام، ولا حاجة له، نريد أفعالاً، وهذا حق، لكنه يريد أن يتوصل به إلى باطل، ألا وهو الإلقاء بك في أغلال الحسرات والآهات، ولوم الآخرين، فلا أنت تكلمت، ولا استمعت إلى كلام، ولا أنت فعلت.
أيها المؤمنون: لا يأتينا الشيطان فيصور لنا أن الفعل يقتصر على الخروج للجهاد في أرض فلسطين فقط، ويهون كل ما عداه، حتى يصور أن من لم يذهب إلى الجهاد فكأنه لم يعمل شيئا، لا وألف لا.
إن هذه الخدعة تنطوي على من لم يفهم طبيعة هذه المعركة وحقيقة هذه الملحمة، نعم إن الجود بالنفس هو أسمى غاية الجود، لكن من لم يستطعه فلا يعني هذه أنه عاجز عن تقديم أي شيء.
لقد ذكرنا أن المال يمكن أن يقدم، والله عز وجل قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في بعض المواطن قال الله عز وجل: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ(1/851)
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينََ [الصف:10-13].
هذا نوع من الجهاد كذلك، وهناك أنواع أخرى كثيرة، الكاتب يجاهد بقلمه، والمتحدث بكلامه، بل ومهندس الحاسب الآلي بآلته، ربة البيت في بيتها وتربيت أبنائها على الصلاح والتقى، الكل له جهاده.
أيها الأخ: ها قد وضح لك الجواب، فلا بعد إلا العمل، وترك القعود.
أمة الإسلام:
بعد هذا البيان المتقدم لطبيعة هذه المعركة، وماهو دورنا تجاه ما يجري، يبرز هنا سؤال آخر؟
متى النصر، وربما يقول قائل: هل من سبيل إلى النصر، أم هي هزائم متلاحقة؟ ومتى ننتقل إلى النصر؟
أيها المؤمنون: هذا سؤال كبير تحتاج إجابته إلى وقفات طويلة، ومحاور عديدة، لكني هنا أريد أن أضع نقاط على بعض الحروف التي لا تقرأ بدونها؟
إن معركة بهذه الشراسة، وهذا الامتداد التاريخي، لا يكون النصر فيها محدوداً بزمان أو مكان أو صورة من الصور.
نعم أيها الإخوة لا زلنا نعيش صوراً متتالية متتابعة من الهزائم، لكننا منذ فترة، وبعد أن أطلت علينا هذه الصحوة المباركة بظلالها، حولنا بعض هزائمنا لانتصارات لا يتسع المجال لذكرها.
لكنني هنا سأقتصر على الانتصارات التي حققتها هذه الانتفاضة المباركة، والتي هي امتداد لهذه الصحوة العارمة التي جاوزت الأغلال والحدود الزمانية والمكانية.
أيها الإخوة لقد قلبت هذه الانتفاضة صوراً من الهزائم إلى انتصارات مشرفة.
إن إبراز هذه الانتصارات أمر في غاية الأهمية، لأمور:
أولها: إن عدم إدراكنا لها،يصورنا ويصور هذه الدماء التي سالت وما زالت تسيل، وهذه الأشلاء التي مزقت وما زالت تمزق، يصورها كأنها تضيع هباء منثوراً، وهنا يأتي المثبطون فيقولون: لا داعي لضياع هذه الأرواح البريئة، وهذه الممتلكات الثمينة بدون مقابل.
ثانياً: إن شعورنا بعدم تحقيق أي نوع من أنواع النصر، يصيبنا بالإحباط، والإحباط أيها الإخوة هو أكبر عائق لبني البشر عن التقدم إلى الأمام ولو خطوة واحدة.
ثالثا: إن معرفة طبيعة انتصاراتنا التي حققناها يزيدنا تمسكاً بل حماساً في المضي إلى الأمام، بل إن له أثراً كبيراً على هزيمة عدونا النفسية قبل العسكرية.
رابعا: إن هذه المعرفة تبصرنا بمواطن قوتنا فنزيد منها، ومواطن إخفاقنا فنتجنبها، ونتجنب الصراع حولها ريثما نصحح فيها مسيرة الجيش.(1/852)
أيها الإخوة: إن الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية أسوء مراحل الهزيمة، كم من جيش هزم في المعركة العسكرية لكنه قلب هزيمته نصراً، لأن نفوس أبنائه ما زالت مستعلية منتصرة.
وعليه فلا بد لنا في حديثنا ومجالسنا وكتاباتنا وأدبياتنا بل وحتى حديثنا مع أنفسنا ومع أبنائنا أن يكون لنا إيمان عميق بهذه الانتصارات التي حققناها وما زلنا نحققها، وبعد هذه الإيمان بها لا بد من إبرازها للعيان.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
أيها المؤمنون: الحديث حول بشائر النصر يطول، وحتى لا تأخذني نشوة هذه الانتصارات والحديث عنها فأتجاوز حدود الوقت، سأقتصر على واحد فقط من بشائر هذا النصر من خلال هذه الانتفاضة المباركة
أمة الإسلام: وحتى لا يكون الكلام مجرد حماس أجوف ليس له رصيد من الواقع، أو لا يكون من قبيل قلب الحقائق أو تزوير التاريخ، فإني سأحاول إبراز الأدلة الواقعية على كل سيأتي:
أولاً: حب الموت، واسترخاص الدنيا، والاستعلاء على خور النفس، و تحطيم رهبة العدو في النفوس.
أيها الإخوة، إن حب الدنيا وكراهية الموت، هي من أهم أساب هزيمة أي أمة من الأمم، وهي سبب هزيمة الأمة المسلمة في كثير من عصورها.
قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإمام أحمد وأبي داود عن ثوبان رضي الله عنه: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله ! فمن قلة يومئذ؟ قال : لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت))(1)[1].
لقد انتصر الفلسطينيون على حب الدنيا وكراهية الموت، وهذه نقلة كبيرة في حياتهم، تجعلهم يطرقون أبواب النصر بإذن الله.
الشواهد على استعلاء الفلسطينين على حب الدنيا وكراهيتهم للموت، بل الشواهد على حبهم للموت أصبحت أكثر من أن تحصى.
في مثل هذه الأيام أي قبل ثلاث وخمسين سنة، وفي هذا الشهر، الذي سموه شهر النكبة، كانت قوات العدو تمارس أبشع المجازر وأفظعها، وتتلذذ بقتل الرجال والنساء على حد سواء، مما ذكرنا بعض صوره في مذبحة دير ياسين، لكني هنا أذكر شواهد أخرى لم يعرفها إلا القليل من الناس.(1/853)
إحدى المجازر التي ارتكبتها عصابات اليهود، تدعى مجزرة الطنطورة قام بها الجنود الصهاينة(2)[2]، لم يكشف عنها إلا مؤخراً، ارتكب اليهود مجزرة تشبه مجزرة دير ياسين، حيث قتلوا أكثر من 200 فلسطني بدم بارد - كما يقال -، يروي أحد شهود العيان الذي حضر هذه المجزرة وقد طعن في السن الآن بأن الجنود اليهود بعد أن جمعوهم في مكان واحد، كانوا يأخذونهم عشرة، عشرة، ويطلقون النار عليهم، ثم يأمرون أصحابهم بتنظيف المكان ليذبحوا العشرة التالين وهكذا.
قال بعض الرواة في هذه القرية: حاصروا بعض الرجال في المقبرة وأمروهم بحفر الحفر حتى إذا قاربوا من الانتهاء من حفرها أطلقوا على النار ليقبروهم فيها وبعض الباقين يتفرج، لدرجة أن بعض الجنود كان يضحك ويقول لصاحبه: انظر إلى هؤلاء الحمقى يحفرون قبورهم بأيديهم.
راو آخر يقول: كان لي أخوان يحضران هذه المذبحة، علموا أن الدور سيأتيهم فتعانقا قبل الذبح.
شاهد آخر يقول: اقتادوا مجموعة من الناس كان فيهم فتاة جميلة لا تتجاوز السبعة عشر عاماً أخذها أربعة من الجنود، حاول عمها الدفاع عنها لكنهم أجهزوا عليه، ثم يقول الراوي عن الفتاة التي يعرفها، لا أعرف بعد ذلك إلا أنها لم تتزوج في حياتها أبداً.
كرامة الأمة العصماء قد ذبحت ... ... وغيبت تحت أطباقٍ من الطين
لكنّها سوف تحيا من جماجمنا ... ... وسوف نسقي ثراها بالشرايينِ
قارن هذه المشاهد بما يحدث الآن:
نشرت جريد الحياة(3)[3] قبل أشهر والانتفاضة على أشدها، عن سامي سكر أحد الفلسطينين الذي يعيشون في إحدى قرى الضفة الغربية أنه يحاول الانتقال بأولاده الثلاثة إلى عمان، وكان سبب طلب انتقاله عجيباً غريباً، فليس طلبه ذلك خوفاً على نفسه من الموت لأجل الرعب الذي دب في قلبه.
لا، لقد أصيب ابنه الأكبر ثائر في عيار ناري في قدمه، ثم أصيب ابنه الأصغر، ثم الثالث الذي يبلغ من العمر عشر سنوات بعيار مطاطي في قدمه، وما إن تماثل الأكبر للشفاء حتى عاود محاولة رشق الجنود بالحجارة مرة أخرى، تقول والدتهم: لا نتستطيع أن نثينهم عن الخروج، لما سمعوا أن الذي يموت في المواجهات مع اليهود يموت شهيداً فهم يطلبون الشهادة منذ ذلك الحين، وفقدنا السيطرة عليهم.
الله أكبر أيها المؤمنون بهؤلاء الفتية وبهذه الدماء تقرع الأمم أبواب النصر.
هتف الجهاد بإخوتي ... ... فمضوا بلا استئذاني
سأعيد أرضي بالدم ... ... القاني وبالنيراني
والله لن يطأوا الثرى ... ... إلا على جثماني
صورة أخرى فتاة مقدسية تتلقى تعليمها في دار الحديث في المسجد المقدسي، تدفع نعمة بصرها ثمنا لرفضها خلع خمارها بطلب من جنود الاحتلال.(1/854)
استوقفها ثلاثة جنود، بعد ذلك قال لها أحدهم: اخلعي الخمار عن وجهك الآن، فرفضت، قالت: فمد يده بقوة ومزقه عن وجهي، وفوراً بصقت في وجهه، وأضافت تقول في تلك اللحظة: انهال الجنود عليّ وضربوني بأعقاب البنادق على رأسي فقدت الوعي وصحوت لأجد إلى جانبي مجموعة من الأطفال الصغار يرشون الماء على وجهي وعدت إلى البيت.
بهذه الكلمات تروي الفتاة شفاء تيسير الهندي من بلدة الجديرة المقدسية تروي قصتها مع نازية جنود الاحتلال في القدس المحتلة، وتكون النتيجة أنها تفقد بصرها، لنبشرها بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما في جامع الترمذي عن أبي هريرة: ((يقول الله تعإلى: من أذهبت حبيبتيه فصبر و احتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة))(4) فكيف بالله عليكم، وقد أصابها ما أصابها ثمناً للدفاع عن كرامة أمتها ودينها.
أصدرت محكمة عسكرية إسرائيلية حكماً بالسجن لمدة ستة سنوات ونصف بحق أصغر أسيرة فلسطينية في السجون الإسرائيلية وهي سعاد حلمي غزال من بلدة سبسطية قضاء نابلس والبالغة من العمر 17 عاماً.
وكانت قوات الاحتلال قد اعتقلت تلك الفتة قبل سنتين(5) على خلفية محاولة طعن مستوطنة إسرائيلية، وتم اعتقالها ونقلها إلى مركز التوقيف حيث تعرضت هناك لتعذيب شديد رغم صغر سنها إذ لم تكن تتجاوز في حينه 15 عاماً.
وأكدت مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان أنه وفور صدور الحكم بحق الأسيرة غزال رفعت نسخة من القرآن الكريم عالياً وهتفت ضد المحكمة الإسرائيلية قائلة " الحكم لله والبقاء لله، وسوف ينتقم الله منكم " وقامت بتحقير قضاة المحكمة والبصق عليهم(6).
الله أكبر والحمد لله أنها لم تستغث بأحد من رؤسائنا فقد علمت كيف سيكون الجواب.
أمتي هل لك بين الأمم ... ... منبر للسيف أو للقلم
أألقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً ... ... من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ... ... ببقايا كبرياءِ الألمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ ... ... في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
كيف أغضيتِ على الذلِّ ... ... ولم تنفضي عنك غبار التهم
أو ما كنت إذا البغيُ اعتدى ... ... موجةٌ من لَهَبٍ أو من دميِ
اسمعي نوحَ الحزانا واطرَبي ... ... وانظريِ دمع اليتامى وابسمي
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ... ... ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها ... ... لم تُلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته ... ... لم يكن يحملُ طهر الصنم(1/855)
لا يلامُ الذئبُ في عدوان ... ... إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
أيها الإخوة:
من كان يصدق أن ينفجر الغضب الفلسطيني علي النحو الذي رأيناه في القدس ورام الله وابلس وغزة , وأن يخرج ألوف الشباب بالحجارة , متحدين المجنزرات والصواريخ والرشاشات الإسرائيلية .
أيها المؤمنون: إن الرد علي الحجارة بالصواريخ ليس علامة قوة , وحشد أرتال الجنود أمام المصلين في المسجد الأقصي تأكيد للهشاشة والضعف . ودخول شارون إلى الحرم الشريف في حراسة ثلاثة آلاف جندي هو إعلان رسمي عن الخوف . واستخدام عشرات القناصة المتمرسين وراء الجدران العالية دليل علي العجز عن المواجهة .
إن الخلل في ميزان القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل وهم كبير , تخلص منه أولئك الشبان الشجعان في الأرض المحتلة وجنوب لبنان , لذلك فإنهم لم ينهزموا قط , وإنما ثبتوا وصمدوا حينا وانتصروا في حين آخر , وظلوا مرفوعي الرأس دائما ً. ولا خشية علي هؤلاء , وإنما الخشية كل الخشية علي عناصر النخبة الذين عجز أكثرهم حتى الآن عن إدراك الحقيقة , ولايزالون أسرى الأسطورة الزائفة .
لولا الحجارة في أيد ٍ تلت قسماً ... وايم ُ اللهِ من قسم ِ
لقلت ُ ضاعت وكانت أخت أندلس ... يوم استبيحت وكانت أول َّ الذمم ِ
قبضاً على الجمر يا أبطالها ولكم ... في الله عون لا من أمة هرم
والفجر آذن بالإبلاج ِ من ظلم ٍ ... والنصر وعد ٌ وحق الوعد ُ في الكلم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران139-142].
وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].
أيها الفلسطينيون:
يا أيها الأسد الكواسر أبشروا ... ... النصر لاح مع الصباح فكبروا
لبيك إسلامنا إنا هنا ... ... فلتفدك الأرواح منا والدماء
أيها المؤمنون: كما ذكرنا من قبل: بواشر النصر كثيرة، وشواهدها أكثر، لكن ضيق الوقت يمنعنا من الإتيان عليها في هذه العجالة، وإن كتب الله في العمر بقية أتمممناها لاحقاً.
__________(1/856)
(1) رواه أحمد وأبو داود، وانظره في صحيح الجامع للألباني رقم: 8183.
(2) كشف النقاب عنها بحث ميداني للحصول على درجة الماجستير من جامعة حيفا قام به يهودي يدعى ثيودور كاتس.
(3) عددها الصادر يوم الأحد 15 شعبان 1421 نوفمبر 2000 أي في قلب الانتفاضة.
(4) صحيح) انظر الحديث رقم: 8140 في صحيح الجامع.
(5) بتاريخ 13/12/1998 مستوطنة " شافي شمرون " سالم " القريبة من مدينة جنين
(6) فلسطين - خاص : 7-11-2000م.
ــــــــــ
النصر الموعود
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
-----------------------
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
24/7/1422
المنشاوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- مجيء الفتن بين يدي الساعة. 2- حتمية ظهور الإسلام على سائر الأديان. 3- بقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. 4- سنة الله ماضية في عذاب الأمم الكافرة السابقة. 5- جعل الله جهاد الأعداء عذاباً للأمم الكافرة. 6- حتمية انتصار المسلمين على عدوهم. 7- الثقة بنصر الله في وقت الشدائد. 8- ضرورة أخذ المسلمين بالأسباب المادية. 9- لا يرضى الأعداء منا إلا أن نترك ديننا ونتبعهم في دينهم.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:(1/857)
فإن أصدق الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدى هدى نبينا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
فإن بين يدي الساعة ـ معاشر المؤمنين ـ كما أخبر الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه فتنًا كقطع الليل المظلم(1)[1]، فتنٌ يفتتن بها العالم والصالح والحليم، فتنٌ لا عاصم منها ـ بعد الله عز وجل ـ إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية، ومعرفة أصولٍ ثابتةٍ لا تتغير ولا تتبدل.
وقد أردت لنفسي ولإخواني في هذا اليوم المبارك أن نتدارس أصولاً خمسة ينبغي ألا تغيب عن ذهن المؤمن ولا عن قلبه؛ علَّه يتسلى بها، وتكون عونًا له على الثبات في الفتن والمحن، عصمنا الله وإياكم من شرها وفتنها.
أما الأصل الأول ـ معاشر المؤمنين ـ الذي لا ينبغي أن يغيب عنك أيها العبد المؤمن، وهو أن الله عز وجل إنما أرسل رسوله بهذا الدين ليظهره على الدين كله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33].
فأول ما يجب عليك أن تعلمه ويتيقن قلبك له وبه، أن هذا الدين سيظهره الله على كل دين، وأنه أرسل رسوله بهذا الهدى، وبهذا الحق ليبلغ ما بلغ الليل والنهار، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله قد زوى لي الأرض ـ أي جمعها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغها))(2)[2]، وفي حديث آخر يقول : ((ليبلغن هذا الأمر ـ أي دين الإسلام ـ ما بلغ الليل والنهار)) وهل هناك قطعة من الأرض لا يبلغها ليل أو نهار أيها المؤمنون؟! ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبرـ بادية وحاضرة ـ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر))(3)[3]
يعني يبلغ هذا الدين وينتشر هذا الإسلام، ويدخل كل بيت في الحاضرة والبادية بأحد خيارين: إما بعزٍ يسلم أهل ذلك القطر، ويؤمنون بالله واليوم الآخر فيعزهم الله، وإما بذلٍ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] ذلاً يذل الله به الشرك وأهله.
يقول تميم الداري : (قد عرفت ذلك في أهل بيتي؛ لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية)(4)[4].
هذا أمر وأصل ينبغي ألا يغيب عنك أيها العبد المؤمن، أن الله ما أنزل هذا الدين ولا أرسل رسوله إلا ليظهره على الدين كله، وأنه بالغ ما بلغ الليل والنهار، فكن ممن يسهم في هذا الأمر وفي هذا النصر الذي لا يخلفه ربنا جل وعلا.
وأما الأصل الثاني ـ معاشر المؤمنين ـ الذي ينبغي أن تعيه وتنظر إليه بقلبك وعينك هو أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، مهما كثرت الفتن ومهما كثرت المعسكرات من معسكرات نفاقٍ وكفر(1/858)
وغير ذلك، فإن الله عز وجل قضى بحكمته وبرحمته أنه لا تزال طائفة على الحق منصورة، طائفة على ما كان عليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه، في العقيدة والشرع والمنهج، في العمل وتطبيق هذا الشرع، وهذا أصل لو عرفه العبد المؤمن سينشرح صدره ويحرص أن يكون من هذه الطائفة، من طائفة الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس.
فلا تيأس يا عبد الله، واعلم أنه ما من بقعة على وجه الله إلا وعليها طائفة على الحق منصورة بإذن الله تبارك وتعالى.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ الذين ينبغي أن يفهمه المؤمن، ويضعه نصب عينيه ويعيشه، هو أن الله عز وجل بحكمته وعلمه جل وعلا قضى أن يعذب من يكذب أنبياءه ورسله، فما من نبي كذبه قومه وآذوه إلا عذبهم الله عز وجل، فأرسل على قومٍ ريحًا، وخسف بآخرين، وأمطر حجارة من السماء على أقوام أخر، يعذب الله كل أمة تكذب برسلها، إلا أمة المصطفى ، شرع لنا ربنا عز وجل أمرًا آخر، لا يُهلِك أعداءنا من عنده، وإنما أمرنا ربنا بقوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 14]، فبين جل وعلا أنه ينبغي على أمة النبي أن تقاتل أعداءها، فإن هي فعلت فإن الله يعذب أعداءها ولكن بأيدي المؤمنين، ويخزي الكافرين، وينصر المؤمنين عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين.
وهذه سنة ينبغي أن يضعها العبد نصب عينيه؛ فلا يمكن هلاك الأعداء في سنة الله التي اختارها لأمة النبي دون جهد ودون عناء ودون تضحية من المؤمنين، لا تنزل عليهم صاعقة من السماء دون أن يأخذ المؤمنون بالأسباب، ويعدوا ما استطاعوا من قوة، ويقاتلوا أعداء الله عز وجل قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ.
ولعلكم ـ معاشر المؤمنين ـ تذكرون ما وقع في غزوة الأحزاب، إذ كان النبي وأصحابه في ضعف وعوز، وكان الرجل منهم يربط الحجر على بطنه من الجوع، فتآلبت عليه الأحزاب وجاءته قريش بعشرة آلاف كافر مقاتل يريدون أن يقاتلوا تلك العصابة المؤمنة، فلما أخذ المؤمنون بالأسباب وحفروا الخندق نصرهم الله عز وجل وسلط على أعدائهم ريحًا لا يستقر معها قِدْر، ولا يستضيئون بنار حتى قال أبو سفيان لمن معه: لا مقام لكم، فأخزاهم الله عز وجل وردهم بعد أن قام المؤمنون بجهد يسير هو كل ما يستطيعونه(5)[5].
فاعلم هذا ـ أيها العبد المؤمن ـ، واعلم أنه ما من أمة حوربت على وجه الأرض، ولا دين حورب وأوذي أهله مثل دين الإسلام، ولكن الله عز وجل سينصر جنده وعباده المؤمنين، وعدًا عليه حقًا جل وعلا.
وأما الأصل الرابع ـ أيها العبد المؤمن ـ فهو أن تعلم أن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء، فهذا أمر يستطيعه كل أحد، من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان، ويسر وسهولة(1/859)
ورخاء أن يقول: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ [آل عمران: 126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك ـ أيها العبد المؤمن ـ وأن تؤمن وتستشعر بأن النصر قادم لا محالة، وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة.
ومن تأمل سيرة المصطفى وجد أمرًا عجبًا، فهذا سراقة بن مالك وهو يطارد النبي ، والنبي طريد لا يملك شيئًا يعد سراقة بسواري كسرى(6)[6]، ولما جاءه عدي بن حاتم فقال له : ((ما منعك أن تسلم؟)) أو قال له: ((أما إني أعلم ما يمنعك من الإسلام، تقول: اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب))، أي تخشى يا عدي أن تنضم إلى فئة ضعيفة، فبشره النبي فقال: ((أتعرف الحيرة؟)) قال: سمعت بها وما رأيتها، فأخبره أن المرأة تسافر من الحيرة إلى مكة تطوف بالبيت لا تخاف أحدًا، وقال له: ((تعرف كسرى بن هرمز؟ ستفتح مدائنه وينال أمتي كنوزه)) أو كما قال (7)[7].
ويوم الأحزاب ـ معاشر المؤمنين ـ لما أمر النبي أصحابه بحفر الخندق، فعرض للصحابة رضي الله عنهم صخرة في مكانٍ من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول، قال البراء بن عازب: فشكونا إلى رسول الله ، وجاء رسول الله ، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: (( بسم الله ))، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: (( الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ))، ثم قال: (( بسم الله ))، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ))، ثم قال: (( بسم الله ))، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: (( الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا))(8)[8]، فبشر النبي أصحابه والأحزاب يحيطون بهم، وهم ضعفاء مستضعفون، واليهود من حولهم بشرهم بفتوحات ثلاث، وهذا هدي المؤمن ينبغي أن يثق بنصر الله عز وجل وفتحه، وأنه آت لا محالة، وقت الشدة ووقت العسرة، لا وقت الرخاء ووقت اليسر والأمن.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظ علينا ديننا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ثم أما بعد:(1/860)
فأما الأصل الخامس الذي يستأنس به العبد المؤمن في زمن الفتن والمحن والبلايا أن يضع نصب عينيه حقيقة قرآنية نص عليها ربنا جل وعلا، وهي أنه مهما فعل المؤمن، ومهما قدم من تنازلات، فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله عز وجل إلا في حالة واحدة، بينها ربنا لنبيه : وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 119] قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120]، فبين جل وعلا لنبيه وهو سيد الخلق وأرحمهم، وأعلمهم بالسياسة وأحكمهم وأحسنهم حكمة وتعاملاً مع عباد الله عز وجل، كيف لا وهو الرؤوف الرحيم بالأمة، وهو الذي قال له ربه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أي مهلكها أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ومع ذلك، مع كل ما أوتي من صفات وقدرات، فهو مع ذلك يخبره ربه بأنه لا يمكن له أن يرضي اليهود والنصارى، مهما فعل إلا إذا اتبع دينهم وملتهم، ثم بين جل وعلا أنهم ليسوا على دين، وليسوا على ملة فقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ماذا يحدث؟ لا أقول للمؤمن أو للمسلم أو لضعيف الإيمان الفاسق، بل لسيد الخلق مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ، لا ينصره الله، ولا يتولاه إن هو أطاع أهواء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
والله عز وجل ـ معاشر المؤمنين ـ أخبرنا، وهو الذي يعلم من خلق، ويعلم السر والنجوى فقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]، فبين سبحانه أنهم يريدون إطفاء نور الله وهو الإسلام، وشرعه الذي أنزله على نبيه ، فماذا رد الله عليهم؟ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ سيتم هذا النور، وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، فلا ينبغي لمسلم يؤمن بالله وبهذه الآيات أن يتنازل أو يرضى الدنية في دينه حتى يرضي يهوديًا أو نصرانيًا، فإنهم لن يرضوا حتى يكفر العبد بالله عز وجل، ويقول: عزير ابن الله، أو عيسى ابن الله، حينها يرضون عنه أتم الرضى فيخسر الدنيا والآخر ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15].
__________
(1) أخرجه أحمد (32/504) [19730] وأبو داود في الفتن [4259]، وابن ماجه في الفتن [3961]، من حديث أبي موسى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان [5962]، وهو في صحيح سنن أبي داود [3582]، وأخرجه أحمد (30/353) [18404]، والحاكم (3/530) من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه أحمد (25/31) [15753]، والحاكم (3/525) أيضًا من حديث الضحاك بن قيس رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في الفتن [2889].
(3) أخرجه أحمد (28/154 ـ 155) [16957]، والبيهقي (9/181) من حديث تميم الداري، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح". وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118 ـ 119).(1/861)
(4) كلام تميم هذا قاله بعدما ذكر الحديث السابق: ((ليبلغن هذا الأمر... )).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/230 ـ 233).
(6) علقه ابن عبد البر في الاستيعاب (2/581) عن ابن عيينة، عن أبي موسى، عن الحسن مرسلاً. وانظر: الإصابة (2/19)، وأحاديث الهجرة للدكتور سليمان سعود (ص 150 ـ 151).
(7) أخرجه أحمد (30/196 ـ 197) [18260]، والحاكم (4/518 ـ 519)، وأصل الحديث في صحيح البخاري، كتاب المناقب [3595].
(8) أخرجه أحمد (30/625 ـ 626) [18694]، والنسائي في الكبرى [8858]، وأبو يعلى [1685] من حديث البراء بن عازب، وصححه أبو محمد عبد الحق كما في تفسير القرطبي (14/131)، وحسنه الحافظ في الفتح (7/397)، وأخرج نحوه النسائي في الجهاد عن أبي سكينة عن رجل من أصحاب النبي وحسنه الألباني في صحيح السنن [2976]، وكذا البيهقي في الدلائل (3/417) من طريق ابن إسحاق قال: حدثت عن سلمان وذكر نحو القصة. وهذا إسناد منقطع.
ــــــــــ
سبيل الوحدة وطريق النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
-----------------------
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
29/1/1423
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- التحذير من الافتتان بالدنيا والانغماس في ملذاتها. 2- ضرورة الحديث عن الوحدة. 3- الوحدة مطلب ضروري. 4- الوحدة لا تبنى على أساس اللغة ولا على أساس العِرق. 5- لا وحدة إلا على أساس عقيدة الإيمان. 6- معايير الوحدة الحقة. 7- النصرة من لوازم الوحدة. 8- مثلان للتضحية والخذلان. 9- فلسطين نقطة الارتكاز في ميدان القضايا الإسلامية والجهاد الإسلامي. 10- أسباب النصر والهزيمة. 11- تقوية الثقة بالله تعالى. 12- ما الواجب على المسلمين؟(1/862)
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس، في دنيانا المحيطة بنا أمثلة وضروب تتلوَّن وتتجدد، ثم إن بعضها يتبع بعضاً على وجه المطالبة الحثيثة بحيث إن النفوس المؤمنة تستمرِئها بسبب تتابعها رويداً رويداً، حتى تألفها فلا تكاد تتحوّل عنها.
وهذه الأمور ـ عباد الله ـ إنما هي نماذج لأحزان وأشجان وقروحٍ تمسّ بلاد الإسلام حسيّة ومعنوية، مما يجعلها سبباً لكثير من الناس في أن يسعَوا جاهدين على إزالة همومهم وغمومهم بشيء من الكيوف الموقوتة والسراب الخادع، من كل ما هو من زخرف الدنيا وزينتها. والذي يجب على المسلمين جملةً أن لا يغترّوا بما يرونه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمةٍ تقطّعت روابطها وانفصمت عُراها، وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131].
من أجل الدنيا وزينتها يغشّ التجار ويطفِّفون، ومن أجل الدنيا يتجبّر الرفعاء ويستكبرون، من أجل الدنيا وزخرفها يروّج الصحفي بقلمه الكذب والزور، ويخفي الحقائق وهي أوضح من فَلَق الصبح، من أجل الدنيا يصبح المرءُ مسلما ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا مقيت.
كل الناس على هذه البسيطة يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها، من مُترَفٍ مبطونٍ يأكل ولا يشبع، داؤه العُضال هو أن تذكّره بذوي المسغبة أو المسكنة، أو المصاب الجلل من بني ملّتِه، ومن قارونيّ يجمع ويجمع، ثم يأخذ ويمنع، ومصابُه الجلل في أن تحثَّه على الإنفاق في سبيل الله جهاداً ودعوةً وصدقةً، ومن شباب وفتياتٍ دُعُوا إلى الفضيلة فأبوا، ونودوا إلى صيانة النفس فتمرّدوا، وألقوا [ثيابهم] لكل قادم ناهب، وكشفوا أوعيتهم لكل سَبُعٍ والغ.
والحق ـ عباد الله ـ أن هذا الانطلاق المحموم في مهامِه الحياة ودروبها أفراداً ومجتمعاتٍ دون اكتراث بما كان وما يكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله، وقد عدّه الله سبحانه سمة من سمات المنافقين الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
أيها المسلمون، في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يُستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط، والوقوف مع(1/863)
النفس في مكاشفة ومصارحة في عصرٍ غلبت عليه المجاملات والرتابة، والفرقة والوحشة، والتناصُر بين النفوس شذر مذر.
ومن هنا يأتي الحديث ضرورياً عن الوحدة والاجتماع، والتآلف والتآخي، والتناصر والتكاتف، في عصر كثرت فيه الموجعات، وقلّت فيه الرادعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، لطالما تحدّث المتحدّثون، وهتف الهاتفون من أمة الإسلام بأنه يجب أن تكون هناك وحدة قوية راسخة الأسس شامخة المعالم، تَطال أمة الإسلام طُراً، حتى تكون بعد ذلك صخراً صلداً تتحطّم أمامه أمواج الضعف وتتخاذل.
وهذه الدعوة في حقيقتها ليست مستحيلة ولا ضرباً من التخييل أو نزوةً من أحلام اليقظة، كلا عباد الله، فلو كان الأمر كذلك لما حظّ الباري جل شأنه عبادَه المؤمنين على أن يكونوا إخوةً في الله متناصرين معاونين، تجمعهم كلمةٌ واحدة ورابطة واحدة، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، ولما حرَّض رسول الله على أن يتلاحم المسلمون، ويكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
غير أن السؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو: كيف نبني هذه الوحدة؟ وعلى أي أساس يجب أن تنهض ليشتد عودها، ويستقيم ظلها؟ أتُقام هذه الوحدة على أساس من اللغة؟ لا، فاللغة وحدها غير كافية، إذ قد يكتنفها مسلم وكافر، فضلاً عن أنه لم يكن اللسان يوماً ما هو سبيل الاتحاد والوحدة، فكم هم الذين يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا، وهم في الحقيقة شياطين في جثمان إنس، كما وصفهم النبي بذلك عند مسلم في صحيحه(1)[1].
أفتقام إذاًَ هذه الوحدة على أساس من الجنس؟ كلا، فالجنس وحده ليس معياراً يُعتمد عليه، أو يُجعل تِكأةً للائتلاف العميق، فالإسلام لا يقيم للجنس في تقديره وزنا، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، وإن كان لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فإنه لا يعدو كونه الطين والماء، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
إذاً على ماذا تقام هذه الوحدة؟ وبأي شيء تكمُل؟ إنها لا تقوم حقيقةً إلا على أساس يجمع الأرواح قبل أن يجمع الأشباح، ويقنع العقول إثر سيطرته على القلوب، ويؤلف بين الرغبات والأهواء كما يؤلّف بين النبات والماء، هذا الأساس بكلِّه هو عقيدة الإيمان المستقرّة في الخواطر والصدور، وملةُ الإسلام التي تُظِل أبناءها جميعاً ليتفيّؤوا ظلالها بلواء العلي الغفار، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138].
إنه يجب علينا جميعاً أن نؤمن بأن الدعوة للوحدة ليست عصبيةً أو جنسيةً أو إقليمية، أو تأليباً على الشر، أو اعتزاماً للبطش والعدوان، بل هي الوحدة المؤمنة العادلة التي يلزمها أن تقوم للناس بالحق والقسط، والدين الإسلامي هو أقوى وَتَرٍ حساسٍ في نفوس المؤمنين، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم،(1/864)
وتباين أقطارهم وبلدانهم، ولن تجتمع كلمتهم يوماً ما دون أن تُؤَسلم قضاياهم، وتُحدد معاييرها من خلال الإطار الإسلامي الخالد، والإسلام بحقيقته ليس إلا.
والإسلام في حقيقة أمره إنما انطلق في وحدته من خلال توحيد الخالق سبحانه وتعالى: اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، ووحدة الرسول : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، ووحدة الدين: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، ووحدة الكتاب: إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ووحدة القلبة: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، ووحدة الأمة: إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
هذه هي معايير الوحدة الحقة، وأي وحدة سواها فهي كالظئر المستأجرة أو النائحة المزوَّرة.
عباد الله، إن من مكمِّلات الوحدة وتداعياتها نصرة الأخ المسلم، وخوض ميدان دعمه حال اشتباكه مع قوى الباطل، في معركةٍ موصولةِ الكرِّ والفرِّ، ولا يحصل مثل ذلك إلا بترويض النفس على شيء من المجاهدة والمثابرة، وحمل همّ الإسلام لنضمن شيئاً من الكفاية ونتقي الفضول، ولنكون أعون شيء على رفع مستوى الثغور والجبهات لأمة الإسلام، وتوفير العزة إرضاءً لله سبحانه، فإنه ـ ولا شك ـ لا يتفق طمعٌ في الدنيا وانتصار للمثل العليا، كما أنهما لا ينسجمان ألبتة، حرصٌ على إعلاء كلمة الله وحرصٌ على تكثير المغانم والعبِّ منها كما الهيم، مع استرضاء الخلائق واستزدائهم بالخور والجبن.
وفي التفاتةٍ سريعة إلى دنيا الناس في مجملها تجاه النصرة والخذلان والرفعة والدون، فإنها يُمكِن أن تصوّر لنا الناس كحال رجلين اثنين: إما رجلٌ له مال وبنون، طال أجله، وأدبر شبابه، وكان واجباً عليه أن يتهيّأ للآخرة بزاد حسن، ومثلُه لو قتل في سبيل الله فإنه لم يترك وراءه شيئاً يخاف عليه الضيعة، لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار، ومع هذا فهو أشبه ما يكون بشيطان أخرص أو ناطق، يفرق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طلباً للمزيد بنهمٍ وسعار، وفي المقابل مثل شباب لهم آمال، وتعتريهم صبوات أيما صبوات، ولهم أحمال، وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثّقت علائقهم بالدنيا أو قهرتهم الصبوة بكلكلها لما كان في سيرتهم كبير عجب، ومع هذا كله يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون ذريةً ضعافاً خافوا عليهم، ويقبلون على نصرة دين الله بنُبل وجلال.
هذان مثلان مضروبان، يمكن تنزيلهما في واقع الناس على كافة المحاور، شعوباً وحكوماتٍ، وأفراداً كلٌّ بحسبه.
ومن باب أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن المؤمن الصادق لا يملّ كثرة الحديث عن ثالث المسجدين، وعن مسرى رسول الله ، عن فلسطين الآبية؛ لأنها اليوم تُعدّ نقطة الارتكاز في ميدان القضية الإسلامية والجهاد الإسلامي، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطّة امتحان وكشف(1/865)
لقوّة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، فهي أرض المسلمين، ولا تصلح إلا للمسلمين، أرضٌ أظهرت صور رجالها البواسل حينما أخرجت العالم من مكتبه، والعامل من معمله، واستنجدت المرأةَ في بيتها، والطفلَ في مدرسته، أمسَوا على وهج النار، وأصبحوا على دخان البارود، إنهم يدافعون عن دينهم وكرامتهم، إنهم يسوقون في وجوه الغاصبين شباباً أنضر من الزهر، وأبهى من الوضاءة، وأثبت من الجبل، وأمضى من العاصفة، إنهم يكافحون بشيوخ لهم حماسة الشباب، وشباب لهم همّة الشيوخ، ونساءٍ لهم قوة الرجال، وصغار لهم عزائم الكبار، ولئن هلك منهم فوجٌ ليأتون بأفواج، ولئن صبر مغتصبهم يوماً ما ليرمونه بأيام.
إن من يستشعر مثل هذا ليس له منطلق إلا الإسلام، فإنه سيوقن ولا ريب أن المسلمين أصحاب دين لا يموت، ولا ينبغي له أن يموت، مهما هبّت الأعاصير، وادلهمت الخطوب، وهو باقٍ خالد إلى قيام الساعة، وعندما يشرئبُّ أعداؤه أن تُشيَّع جنازته فإنهم سيُصعقون ببزوغ شمسه من جديد.
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن ندرك جيداً بأن انتصار المسلمين وانكسارهم لا يرجع إلى قوة أعدائهم أو ضعفهم، وإنما الانتصار والانكسار في الحقيقة يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها، فإذا وحَّدت كلمتها، ومن قبل ذلك وحّدت ربها، ولزمت أمره، وأقامت حقَّه، فإنها منصورة لا محالة، إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
والقلة والكثرة ليست هي المعيار الحقيقي فقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة أذلة، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ثم هُزموا في حُنين وهم كثرة كاثرة، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25].
والمسلمون ـ عباد الله ـ إنما ينتصرون إذا أحسنوا علاقتهم بالله، وعزموا على نصرة دين الله، فإن من لا يعرف إلا الله لن يغلبه من لا يعرف الله، ومن لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل.
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، إنه كان غفاراً.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه المتقين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(1/866)
أما بعد:
فيا أيها الناس، إن العجب كلَّ العجب أن تسفُل النفس المؤمنة حتى لا تطلب رفعةً، أو تقنط حتى لا يكون لها أملٌ.
أما لو أيقن المسلمون أن لهذا الكون مدبراً عظيم القدرة، وأنه القاهر فوق عباده، تخضع كل قوة لعظمته، وتدين كل سطوةٍ لجبروته، وأن هذا القادر العظيم بيده مقاليد كل شيء، يصرِّف عباده كيف يشاء، لما أمكن مع ذلك أن يتحكم فيهم اليأس، أو تغتال آمالهم غائلةُ القنوط.
فما على المسلمين إلا أن يتحقق بينهم روح الإخاء والتضامن في الدين، فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، وتُرفع راية التوحيد المحصنة، ويُطرح التفاهم بإخلاص في الأمور مع الاعتماد على الله، واللجوء إليه، مع بذل الأسباب المادية، ومحض النصح للقيادة، ابتغاء وجه الله، فدين الله وشرعه وإن ضعف فيه شخص المتقين المجاهدين فهو باقٍ خالد، وُضعت فيه صفات المتقين وخُطط المجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
كما أنه من الواجب على المسلمين بعامة أن يبحثوا في كل مظنَّة ضعفٍ عن سبب قوةٍ، ولو أخلصوا في تلمّس ذلك وطلبه لانقلب الضعف إلى قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا هي تهدّ الجبال، وتحيّر الألباب، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4]، سمع معاوية رضي الله عنه أن رجلاً من خصمائه شرب عسلا فيه سمٌّ فمات، فقال رضي الله عنه: (إن لله جنوداً منها العسل)(2)[1].
كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نعترف بأخطائنا في الواقع والتي يتكاثر عدُّها، ويستحيل حصرها، والتي تخل بنظام السببية في النصر والتمكين، وأن يكون هذا الطرح بصورة صريحة في واقعنا، عبر كافة الوسائل المتاحة دون اقترافِ خياناتٍ قاتلة من ذوي الأقلام المؤثرة والألسن المستميلة في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا المهمة، والتي بتجاهلها وغضّ الطرف عنها يُؤخَّر يوم النصر ولا يُقدَّم، فتقود إلى الغرق في بحر لجيٍّ من الخداع والتضليل، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
فهل يرتفع شعار الإسلام وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية أو تبقى تحت الرايات العميَّة لنبلغ بها القاع والعياذ بالله؟!
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَآتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ [الحج:40، 41].
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقد قال عز من قائل عليم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
__________(1/867)
(1) يشير إلى وصف النبي لأئمة الضلال حيث قال فيهم: ((وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)) أخرجه مسلم في الإمارة (1847) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(2) انظر: مصنف عبد الرزاق (5/460)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/311)، الثقات لابن حبان (2/298)، وصار هذا من الأمثال التي تضرب انظر: مجمع الأمثال (1/11).
ــــــــــ
تعريف المسلمين بسبيل النصر والتمكين
-----------------------
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, قضايا دعوية
-----------------------
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
6/2/1423
المسجد النبوي
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- الأمة الواعية تستفيد من التغيرات والتقلبات. 2- ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من العدوان السافر. 3- وقفات اعتبار واتعاظ. 4- أسباب الذل والهوان. 5- طريق النصر والعزة والتمكين. 6- ضرورة الإصلاح الشامل المستمر. 7- تخطيط اليهود والنصارى لإقصاء الإسلام عن الحياة. 8- التحذير من العلمانيين والمستغربين. 9- الالتفاف حول العلماء والحذر من الرويبضة والفويسقة. 10- وجوب تقديم مصلحة الدين على جميع المصالح. 11- الأخذ بسد الذرائع في المسيرة الإصلاحية.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله فإن تقواه أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد.
أيها المسلمون، الأمم تتقلب في أطوار وأطباق، ما بين عزة وذلة، وكثرة وقلة، وغنىً وفقر، وعلم وصناعة، وجهل وإضاعة، وأحوال متقبلة مشاعة. والأمة الواعية مهما عانت من ضراء, وعالجت من بلاء، وكابدت من كيد أعداء، فإنها سرعان ما تُفيق من غفلتها، وتصحو من رقدتها، فتقيم المائد،(1/868)
وتقوِّم الحائد، وترتق الفتق، وترقع الوهى والخرق، لتعود عزيزة الجانب لا يتجاسر عليها غادر، ولا ينالها عدو ماكر.
والأمة المسلمة اليوم تعايش حروباً ثائرة وشروراً متطايرة، تشتت نظامها، وتشعب التئامها، حروب قذرة، يقودها قوم كفرة فجرة، غدرة مكرة، خونة خسرة، لا يرقبون في مؤمن إلا وذمة. هذه فلسطين المباركة، تصبح وتمسي تحت مرارة الفادحة، وألم الفازعة، وصور المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكالى، وآهات اليتامى، تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، وتشييع الجنائز المحمَّلة، والبيوتات المهدَّمة، والمساجد المنتهَكة، أحداثٌُجسام، تُدمي القلوب وتفطِّر الأكباد، ويقشعر لهولها الفؤاد. أحداثٌ تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم، فهل من مجيب لهذا النداء؟! وهل من مغيث لتلك الدماء والأشلاء؟! هل يليق بالمسلمين ـ وهم أكثر الناس عدداً وأغناهم موارد ـ أن يُسلموا إخوانهم لعُصبة الضلال ويهود البغي والاحتلال، النفوسِ الغاوية، والذئاب العاوية، ليصبحوا هدفاً للدبابات والبارجات، وصدفاً للصواريخ والطائرات، وطعمة للكافرين ونهبة للجائرين؟!
أيها المسلمون، إن تلك الأحداث والصور ما هي إلا صرخات إيقاظ واعتبار واتعاظ، ليعرف المسلمون واقعهم ومواقعهم، ويفيدوا من مآسيهم الدروس والعبر، ويقفوا على أسباب النصر والظفر، بعيداً عن ردود الفعل الوقتية التائهة، والهتافات الضعيفة الضائعة، ويصلحوا المسار، ويتجنبوا أسباب الذل والخسار.
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تعلم أن ما أصابها فإنما هو بسبب تقصيرها في جنب ملك الملوك، وتفريطها في الحكم بشريعته، واحترام أحكامها ومعالمها، والوقوف عند حدودها، وعدم تصدِّيها لرياح الإفساد ومسيرة التغريب التي نخرت في الأمة وشبابها وفتياتها، حتى صارت تعاني ويلات الانحراف المرّ في صفوف ناشئتها، بعد أن خان المستأمن، وفرط المستحفَّظ، وغش المستودَع، ودلَّس المستشهَد، في أعظم وديعة وأغلى أمانة، وهي حفظ الدين وتحصين مجتمعات المسلمين من عاديات التغريب وحملات التخريب.
أيها المسلمون، إن الناظر بعين البصر والبصيرة يرى الفرق الشاسع والبون الواسع بين مبادئ الإسلام وقيمه ونظمه كما حددتها نصوصه وموارده، ورسمتها مصادره، وبين واقع المسلمين اليوم. وإن من أمانة الكلمة وصدق الحديث وصراحة المنطق وواجب النصح والبيان القولَ بأن الأمة ما لم تعترف بتقصيرها الكبير وتفريطها الخطير وأثره المستطير على حاضرها ومستقبلها، وتقم بواجب المراجعة والمعالجة والإصلاح، فإن الحديث عن استرداد ديارها المستباحة وأموالها المجتاحة وإيقاف مسلسل الاعتداءات الآثمة لا يعدو أن يكون إمعاناً في الوهم، وإسرافاً في الظن، ومغالطة فاحشة، تجرُّ على الأمة آثاراً سيئة لا يُعرف مداها ولا منتهاها. وإذا كان أصحاب رسول الله قاموا بمخالفةٍ واحدة(1/869)
لأمره في غزوة أحد، فأصابهم ما أصابهم، فما بالكم بجملةٍ لا تُحصى من المنكرات الفاضحة، والمخالفات الواضحة، التي نخشى ـ والله ـ من عاقبتها وعقوبتها.
أيها المسلمون، إن أرادت الأمة نصر الله وتأييده، وأن يعود لها التأثير في مجريات الأحداث، فعليها أن تُعيد صياغة الحياة في بلادها وفق رسالة الإسلام، وأن تسوس الدنيا بالدين، وتمحو آثار المفسدين، وتجفِّف منابع الشر، وتحسِم مواد الإفساد، وأن تعمل على تحقيق أهدافها، وبناء قوتها واستعدادها، وأن تسعى لإصلاح أوضاعها إصلاحاً شاملاً كاملاً، عقدياً وأخلاقياً وسلوكياً واجتماعياً واقتصادياً، حتى لا تتحول جهودها في مواجهة التحدِّيات والمؤامرات سلسلةً من الذل والإحباطات، والصدمات والانتكاسات، وإن الإصلاح الصادق ليس إصلاحاً تحرِّكه بواعث وقتية، أو ملابسات ظرفية، وإنما هو إصلاح صادر عن إيمان راسخ وعقيدة صادقة، واستشعار بأنها مسؤولية أمام الله عز وجل، يوم يسأل كل عبد عما استرعاه مولاه: أدَّى أم تعدي؟ يقول رسول الله : ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) أخرجه البخاري(1)[1].
أيها المسلمون، إن أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين لا يألون إقداماً ولا ينكسون إحجاماً في التخطيط لإقصاء الإسلام عن الحياة، وإزاحته عن أرض الواقع، ومحاولة تهميشه وحصره وقصره، وتطويع العالم الإسلامي بتبعية الحياة الغربية، يساندهم في ذلك فسّاق مستغربون، ومنافقون علمانيون، تارةً بتأويل نصوص الوحيين ولوي أعناقها، وتارةً بالنيل من علماء الإسلام، وتارة بالنيل من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغمزهم ولمزهم والتطاول عليهم، واتهامهم بما ليس فيهم، وتارةً بالدعوة إلى الاختلاط، وتحرير المرأة، ونبذ قوامة الرجل عليها، جهالاتٌ مطبقة، وأفكار موبقة، تثير البلبلة، وتخلق الخلخلة، وتزرع بذور الفرقة، يلبسون ثياب الإصلاح على أفئدة عشعش فيها النفاق، فهم كالثمرة الفجَّة الملقاة، انفصلت من شجرة الطهر والعفاف والحياة، فسقطت وتعفّنت، وأنتنت وفسدت، فأنَّى يستفاد منها، يُفسدون في الأرض ولا يصلحون، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فعلى الأمة وهي تتلمَّس معالم الإصلاح ومنهجيته ومقوِّماته وأسسه ووسائله أن تحذر أدعياء الإصلاح الذين تربَّوا في حجر الأعداء، فلم تجن الأمة من جهودهم إلا كل حنظل، ومن أفكارهم إلا الأحساك والأشواك والهلاك. وعلى الأمة أن تأخذ الرأي والمشورة من علمائها الأمناء الذين ليس لهم بائقة، ولا يُخاف منهم غائلة، وهم ضمير الأمة وغيظ عدوِّها، وحُرّاس عقيدتها والفضيلة فيها، حتى يصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، يقول الله عز وجل حكاية عن ملكة(1/870)
بلقيس: قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32]، وفي صحيح البخاري: كانت الأئمة بعد النبي يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدَّوه إلى غيره اقتداءً بالنبي (2)[2]. ويقول عمر بن الحطاب رضي الله عنه: (رأي الواحد كالخيط الواحد، والرأيان كالخيط السحيل، والثلاثة كالحبل).
أيها المسلمون، إن معرفة مكامن الداء وبواعث التجاوزات والأخطاء، مع العمل على سدها وصدّها من أعظم وسائل الإصلاح والبناء، وإن استعمال غير الأكفاء الأمناء الأقوياء وإسداء الأمور والثغور إلى من لا يُؤْمَنُ في توجُّهه وأفكاره وولائه وانتمائه هو جرثومة الفساد، وخراب العباد والبلاد، وقد قال رسول الهدى : ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) أخرجه البخاري(3)[3]. يقول ابن بطال: "معنى ((وأسند الأمر إلى غير أهله)): أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين فقد ضيَّعوا الأمانة التي قلَّدهم الله تعالى إياها"(4)[4].
وعلى كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين خلافةً أو وزارة أو أمارة أو قضاءً أو رئاسة أو قيادةً أن يتخذ بطانة صالحة وجماعة ناصحة، تحثه على الخير والرشاد، وتنهاه عن البغي والفساد، يقول رسول الله الهدى : ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً ـ أي: لا تقصِّر في إفساد أمره ـ فمن وُقي شرها فقد وقي)) أخرجه البخاري والنسائي(5)[5] وزاد: ((وهو إلى من يغلب عليه منهما))(6)[6].
أيها المسلمون، وعلى الأمة أن تعمل جاهدةً وهي تلتمس الحلول والمخارج أن لا تنطق الرويبضة أو الفويسقة من الناس في أمورها العامة, وأحداثها الهامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) أخرجه ابن ماجه(7)[7].
أيها المسلمون، إن الواجب على الأمة أن تقدِّم مقتضيات العقيدة وموجبات الشريعة ومصلحة الدين وحب الله ورسوله على كل أواصر القربى ومناصب الدنيا ولذائذها، في كل مواقفها وعلائقها، وفي جميع أمورها وشؤونها، وأن تكون على يقين لا يساوره شك أن ذلك سبيل صلاح دنياها وانكشاف بلواها. وإن لا تفعل ذلك فهي على خطر أن ينالها ذلك الوعيد الذي تنقدُّ منه الضلوع والتهديد الذي تنمات منه القلوب وتسيل الدموع، الوارد في قوله جل في علاه: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا(1/871)
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وقوله : ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له)) أخرجه الترمذي(8)[8].
ومن نقض عهد الله وعهد رسوله سلط الله عليه عدوه فأذلّه وأخذ بعض ما في يده، يقول رسول الهدى : ((يا معشر المهاجرين، خمسٌ إن ابتلِيتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم)) أخرجه الحاكم والبيهقي(9)[9].
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن آمن بربه حق الإيمان وأسلم، وفوَّض أمره إلى مولاه وسلَّم، وانقاد لأوامره واستسلم، فقد أسال عليكم من وابل الآلاء وأزال عنكم من وبيء اللأواء وأسبل عليكم من جميل الغطاء وواسع العطاء ما يوجب الخجل منه والحياء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة لا يجوز أن تقيس مسيرتها السلوكية والتربوية والأخلاقية بمن هم دونها من حثالة البشر، ولا يجوز لها أن تبرِّر تقصيرها بذلك، ولكن عليها أن تعرض أوضاعها الحاضرة وحياتها المعاصرة على نصوص الوحيين الشريفين؛ لأنها الميزان الحق والمقياس الصدق على تقدّم الأمم وتأخرها، وزينها وشينها، قال بعض أهل العلم: من لم يزن أفعالهُ وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة فلا تعدّه في ديوان الرجال. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام رجل فقال: يا(1/872)
رسول الله، إن حمدي زين وإن ذمِّي شين، فقال النبي ُ: ((ذلك الله عز وجل)) أخرجه الترمذي وغيره(10)[1].
أيها المسلمون، وواجب على الأمة أن ترعى في مسيرتها الإصلاحية المباركة قاعدة سدّ الذرائع والوسائل المفضية للمفاسد، سواءً كانت موضوعةً للإفضاء إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح قُصد بها التوصل إلى مفسدة، أو موضوعةً للمباح لم يُقصد بها التوصل إلى مفسدة، ولكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها راجحة على مصلحتها.
أيها المسلمون، ليَقُم كل واحد منكم بواجبه في مسيرة الأمة الإصلاحية، بإصلاح نفسه؛ لأن مسيرة الإصلاح تبدأ بإصلاح الذات، ثم تنصدّ إلى إصلاح الأهل والقرابات، ومن ثم إلى سائر الفئات والطبقات، وعلى العلماء والدعاة والمصلحين أن يقوموا بدورهم في نشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهمَّة لا تعرف الفتور، وعزيمة لا تعرف العجز، وقوة لا تعرف الضعف، وحكمة وحنكة لا تعرف التهور.
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
وصلوا وسلموا على خير البرية، وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم...
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق (2554) ، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) صحيح البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم .
(3) صحيح البخاري: كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) انظر: فتح الباري (11/334).
(5) أخرجه البخاري في الأحكام (7198)، والنسائي في البيعة (4202) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بنحوه.
(6) هذه الزيادة عند النسائي في البيعة (4201) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه أحمد (2/291)، وابن ماجه في الفتن (4036) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/465)، ووافقه الذهبي، وقد تُعقِّبا، لكن للحديث طريق أخرى وشواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).(1/873)
(8) أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2465) من طريق يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد ضعيف، قال المنذري في الترغيب (4/82): "قد وُقّق، ولا بأس به في المتابعات"، وهو قد توبع على حديثه وله ما يشهد له. انظر: السلسلة الصحيحة (949، 950).
(9) أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019) ، والبيهقي في الشعب (3/197)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
(10) أخرجه الترمذي في التفسير (3267)، والروياني في مسنده (207)، وابن جرير في تفسير سورة الحجرات (26/121)، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2605).
ــــــــــ
أسباب النصر والتمكين
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
-----------------------
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
7/2/1423
بلال بن رباح
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين. 2- تحقيق الوعد في تاريخ سلفنا. 3- أسلافنا انتصروا بالإيمان لا بالعدد والعدة. 4- فقر المسلمين اليوم لأسباب القوة والنصر. 5- سبب هزيمة المسلمين في أحد وحنين هزائمنا اليوم.
-------------------------
الخطبة الأولى
وبعد:(1/874)
يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
هذه آية تحمل في طيَّاتها قانون النصر، وتحتوي على عناصرِ معادلة التمكين التي ذهب المسلمون يبحثون عنها في كل مكان، وهي في متناول أيديهم، وبين دفتي كتابهم المنزَّل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على قلب نبيهم محمد بن عبد الله ، فالله سبحانه في هذه الآيات يعدُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين حققوا الإيمان في قلوبهم ولم يتوقفوا عند ذلك بل أتبعوا الإيمان بالعمل الصالح، يعدهم بوعود عظيمة ما كانت لتخطر عليهم بل كانوا يقنعون بما هو أدنى منها بكثير، يعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم وأن يؤمِّنهم بعد أن كانوا خائفين، وهذه المعادلة لا يتحقق جانب منها إذا لم يتحقق الجانب الآخر، فإذا أدى الناس ما عليهم جاءت النتيجة من الله الذي لا يخلف الميعاد.
ولقد تحقق هذا الأمر في عهد رسول الله وعهد خلفائه الراشدين لأن الأمة كانت تسير على صراط الله سبحانه وتطلب مرضاته، وتحقق بعد ذلك في كل عصر كان فيه المسلمون محققين لتقوى الله في قلوبهم ساعين في عمل الخيرات، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض وأئمة الناس والولاة عليهم، بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً، وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، ثم قام من بعده خليفته أبو بكر الصديق، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس بقيادة خالد بن الوليد، ففتحوا طرفاً منها وجيشاً آخر بقيادة أبي عبيدة إلى الشام، وثالث بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر، ثم آل الأمر بعده إلى عمر الفاروق الذي تم في أيامه فتح البلاد الشامية بكاملها ومصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس..." إلى آخر كلامه رحمه الله.
من هذا نعلم أن الله يُمكِّن لأوليائه إذا كانوا مؤمنين صالحين, ومن هذا نعلم أنه إذا مكَّن العبد لدين الله في قلبه وأصبح هذا الدين يتربع على عرش القلب وتأتمر الأعضاء بأمره، فإن الله يمكن لهذا العبد في الأرض ويجعله غالباً لا مغلوباً، أما إذا طُرد الإسلام ومُكِّن للشيطان والشهوات في القلوب فإن الله سبحانه بعدله يكتب الذل والصغار على أصحاب هذه القلوب وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وهذا ما كان من هدي رسولنا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فهم لم ينتصروا بالعدد وإن كان العدد عاملاً مساعداً في النصر، بل كانوا في أكثر معاركهم وفتوحاتهم الإسلامية أقل بكثير من(1/875)
عدوهم، بدء من غزوة بدر الكبرى التي كان عدد المسلمين فيها ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً أمام ألف من المشركين إلى معركة القادسية التي نازل فيها سبعة آلاف من المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص ستين ألفاً من الفرس بقيادة رستم وهزموهم بإذن الله، وإذا أجرينا عملية نسبة وتناسب، لوجدنا أن كل جندي مسلم في معركة القادسية يقابل أكثر من ثمانية من جند العدو.
كما أن المسلمين لم ينتصروا بقوة وتقدم عدتهم رغم أنها عامل مساعد أيضاً في النصر لأنهم لم يكونوا متقدمين تقنياً، بل كانوا يقاتلون بأدوات تقليدية كالسيف والرمح، بينما أعداؤهم يستعملون أدوات أقوى وأنجع بل وصلوا إلى استعمال الحيوانات الضخمة التي كانت مخيفة للناس وللخيل، فقد استعمل الفرس في معركة القادسية أكثر من ثلاثة وثلاثين فيلاً في القتال، ومع هذا لم يتراجع المسلمون ولم ينهزموا. لم ينهزموا رغم أنهم الأقل عدداً والأقل عدة لأنهم تسلحوا بالإيمان.
إن العقيدة في قلوب رجالها ... ... من مدفع أقوى وألف مهند
والعجيب ـ عباد الله ـ أن المسلمين ضيعوا حبل الله المتمثل في الإيمان به حق الإيمان والعمل في مرضاته، ففقدوا تأييده ونصره، وضيعوا حبل الأخذ بالأسباب الدنيوية والتقدم العلمي الذي قد يقربهم إن لم يساويهم بمستوى عدوهم، فأصبحوا الأضعف بين أمم الأرض وأصبحوا كالحمار القصير الذي يركبه الكبير والصغير فالله المستعان، وهذا تذبذب كتذبذب المنافقين الذين ذمهم الله تعالى في كتابه لأنهم لم يؤمنوا فيكونوا مع المؤمنين ولم يُظهروا كفرهم فيكونوا مع الكافرين، بل بقوا يتأرجحون بين ذلك، لهذا فهم في الدرك الأسفل من النار يقول الله سبحانه عنهم: مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:143]، كل هذا لأن المسلمين ضيعوا أسباب النصر والتمكين ولم يعملوا بها.
إن من أهم أسباب النصر طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله فأين نحن من هذين الأمرين العظيمين أين نحن من طاعة الله سبحانه التي هي خير عدة وخير عتاد بل هي العتاد والعدة يقول سبحانه:كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
ليس المقياس مقياس عدة وعدد، إنما المقياس مقياس قرب من الله وبعد عنه، لهذا لما طارد فرعون بجنوده وملئه موسى عليه السلام وقومه، وقال قوم موسى في خوف ووجل: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قال موسى العبد الواثق بربه: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، إذاً فطاعة الله حصن عظيم يلجأ إليه الصالحون في الشدائد فينصرهم الله وينجيهم من كل كيد.
وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل رضوان الله عليهم، فقد كثر وتتابع وصية الأمراء والخلفاء إلى قوادهم في المعارك طاعة الله لأنها سبيل النصر، أورد أبو نعيم في حلية الأولياء رسالة من عمر بن عبد العزيز إلى أحد عماله أو قواده يقول فبها: (عليك بتقوى الله في كل حال ينزل بك، فإن تقوى الله أفضل العدة وأبلغ المكيدة وأقوى القوة، ولا تكن في شيء من عداوة عدوك أشد احتراساً لنفسك ومن(1/876)
معك من معاصي الله، فإن الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدوهم، وإنما نعادي عدونا ونستنصر عليهم بمعصيتهم، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم لأن عددنا ليس كعددهم ولا قوتنا كقوتهم).
هذه هي وصية الصالحين لجندهم فقبل الاستعداد بالسلاح يكون الاستعداد بالنفوس الطيبة والقلوب الصالحة هذا عن طاعة الله سبحانه.
أما طاعة رسوله فهي أيضاً من أهم أسباب النصر والتمكين، ولقد عرف المسلمون هذا حق المعرفة في غزوة أحد حينما خالف الرماة أمر رسول الله ، فانقلب النصر إلى هزيمة، وتراجع المسلمون بعد أن كانوا متقدمين، وعاتبهم الله أشد العتاب على مخالفتهم هذه، وأبقى هذا العتاب قرآناً يتلى على مر الزمان ليعلم المسلمون ما معنى مخالفة رسول الله في أي أمر من الأمور، يقول سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
انظروا إلى هذا الدرس العظيم وهذه الكبوة التي جناها أصحاب رسول الله لمخالفة واحدة، رغم أنهم متبعون لرسول الله في كل الأمور، فكيف نرجو النصر والتمكين ونحن نخالفه صلى الله عليه وسلم في عباداتنا وفي هدينا وفي أخلاقنا وفي معاملاتنا وداخل بيوتنا وخارجها، ثم إن الرماة في غزوة أحد خالفوا لأنهم ظنوا أن المعركة انتهت والأعداء اندحروا، فمخالفتهم غير متعمدة، مع هذا انظر ماذا جنت عليهم فكيف حال من يخالف أبا القاسم متعمداً، وأنى له النصر والتمكين.
فاتقوا الله أيها المسلمون وكونوا مع الله ليكون الله معكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم المنان المتفضل بالكرم والإحسان، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد المصطفى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه وذريته ومن تبعهم بإحسان.
إخوة الإيمان، لابد لنتشرف بالنصر والعز والتمكين من أن نهيئ أنفسنا وقلوبنا لكي ترقى إلى المستوى الذي يرضاه الله سبحانه، فالتمكين إنما يكون عندما يستكمل الإنسان لوازمه ومقتضياته ويكون أهلاً لأن ينال هذا الشرف، ولا ينبغي لعبد يريد التمكين من الله أن يثق في حوله وقوته البشرية أو يثق في عدد أو عدة، بل يثق في الله وحده ويبتعد عن الإعجاب بنفسه.
ولقد علم الله المسلمين درساً عملياً في غزوة حنين على أن العدد والعدة ليست كل شيء، وعلى أن الله قادر على أن يهزمهم إذا هم اعتمدوا على قوتهم واغتروا بها، فقد كان المسلمون يوم حنين(1/877)
معجبين بأنفسهم فقالوا: لن نغلب اليوم عن قلة وكانوا يومئذ اثني عشر ألف رجل، ففاجأهم المشركون الذين كانوا يختبئون في جنبتي الوادي، فانهزم جيش المسلمين بالكامل، ولم يبق إلا رسول الله على بغلته الشهباء وحوله عشرة من المسلمين منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم، ثبت رسول الله في هذا الموقف الرهيب وهو يقول: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) وثبت معه هؤلاء الرهط.
ثم عاد المسلمون وقاتلو عدوهم وانتصروا عليه، وهذا درس من الله لعباده الصالحين ألا يغتروا بقوتهم وألا يعتمدوا ويثقوا إلا فيه بقول سبحانه: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [التوبة:25، 26].
إنها سنة كونية إلهية لا تتغير ولا تتبدل، التمكين يحتاج إلى تمكين، والنصر يحتاج إلى نصر، كي يكون تمكين في الأرض لابد أن يتمكن الإيمان من القلب، ولكي يكون نصر على الأرض لابد أن ينتصر دين الله في القلب، والصالحون هم الأعلون، يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد عن أُبي والذي يتكلم فيه عن الأمة إذا سارت على نهج الله: ((بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب))، ويقول سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
ــــــــــ
طريق النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
-----------------------
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
24/9/1423
المسجد الحرام
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة(1/878)
1- خصائص القرآن. 2- حديث القرآن عن أحوال الأمة مع مخالفيها. 3- البشارة بقدوم النصر وقربه. 4- اضمحلال الظلم مهما طغى. 5- ذم اليأس والحث عل الرجاء. 6- واجبات أهل العلم والدعاة. 7- النصر لا يكون بمعجزة خارقة بل بسنة جارية. 8- وجوب استيعاب الأزمة. 9- حاجة الأمة إلى ترتيب الأمور. 10- الخلاص من الأزمة بالإيمان. 11- الصبر والمعالجة الداخلية من أعظم أسباب النصر. 12- ختام رمضان وليلة القدر. 13- فرضية زكاة الفطر.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا ضياع العمر في غير طاعة، وخافوا من التسويف، فالتسويف بئست البضاعة، فكم من مؤملٍ لم يبلغ ما أمّله، وحيل بينه وبين ما كان يرجو عمله، دارت عليه رحى المنون، كم نُصح وهو مُعرض، بات على تفريطه نادماً، يتمنى الرجوع فلا يقدر قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
أيها المسلمون، شهر رمضان المعظّم، هو شهر القرآن الكريم، في نزوله ومدارسته وملازمته، وهو شهر انتصارات الأمة، وقوتها وعزتها، انتصارُها على شهواتها وأهوائها، إن أمة الإسلام في أوضاعها المعاصرة؛ بحاجةٍ إلى استلهام الدروس وأخذ العبر ومواقف المحاسبة، من أجل هذا كان التذكير بالقرآن فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وكان الإنذار بالقرآن وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19]، وكان الجهاد بالقرآن وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً [الفرقان:52]، ومن أجل ذلك كذلك، كان هذا القرآن شرف الأمة وذكرها وعزها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:43، 44].
أمة الإسلام، والمسلمون يعيشون هذا الشهر الكريم في صيامه وقرآنه، هذه مراجعات قرآنية في أوضاع الأمة، ومعالجاتٌ لمشكلاتها وأزماتها، اقرأوا وتأمّلوا في حديث القرآن عن أحوال الأمة مع مخالفيها إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:137-139]، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].(1/879)
أيها المسلمون، إن الأمة تمرّ في حالها الراهنة بأوضاعٍ من الضعف والتشتت وظلام الطريق، بينما يمرّ آخرون بموجاتٍ من الاستعلاء والقوة، ونزعات التفرّد.
إن كل ذلك ـ على ظلامه وبأساءه ـ يشير إلى أفقٍ مضيء، وسبيلٍ عامرٍ بالأمل بإذن الله، نعم، لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً، وصورة ذلك جليةٌ في عدوان اليهود في فلسطين المحتلة، في القتل والهدم، والتشريد، والصلف والاستكبار.
لئن كان الباطل يزداد بطشاً وطغياناً وغدراً بهذه الصورة، فإن ذلك عند المؤمن في إيمانه وبمعرفته بسنن الله هو بداية النهاية بإذن الله حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2].
إن المسلم لا يسرف في التعلق بالأماني وسراب التمنيات، ولكنه في الوقت ذاته لا يكون منكّس الرأس، في مستنقعات الهزائم ومواطن الذل والمهانة، إن أمل المسلم ليس مكابرةً ولا قفزاً على الواقع والوقائع، ولكنه عقيدة راسخة يؤمن بها، ويعمل في إطارها، سندها كتاب الله عز وجل، وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يسوف:87]، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [الحجر:56]، إن اليأس حيلة العاجز الذي يؤثر الانسحاب والعزلة، إن البلاء يُحتمل بعظم الرجاء، والفرج طريقهُ الثقة بالله العلي الأعلى، المؤمن الحق لا تزلزله المِحن، ولا تهدّه المكائد، بل يزيده ذلك عطاءً وبذلاً وتضحية وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
معاشر المسلمين، إن من أعظم مهمات أهل العلم والرأي، والدعاة والمصلحين أن يُشيعوا الأمل الصادق في نفوس الأمل، الأمل الذي يدعو إلى الثبات على الدين، والعضّ عليه بالنواجذ، والعمل على نصرته، والذبّ عن حياضه، واليقين بأن نصر الله لن ينزل على أوليائه بمعجزةٍ خارقة، ولكن بسنةٍ جارية، يمتحن فيها العباد ليبلوهم ربهم أيهم أحسن عملاً، وهذا لا يتحقق بموعظةٍ تُتلى، أو خطبةٍ تُلقى فحسب، ولكن بقدوات صالحة، قويةٍ ـ بإذن الله ـ ذاقت حلاوة الإيمان، وصدقت بموعود الله لأوليائه المتقين.(1/880)
أيها المسلمون، أمة الإسلام تعيش غربة حقيقية بين الأمم، وتنبع غربتها في تميزها وتمنّعها على السير في ركاب الظلم والاستسلام، وقد جرّ عليها هذا ضغوطاً كبيرة وأحمالاً ثقالاً، مادية وأدبية، لا تكاد تدركوها، مسّتها فيها البأساء والضراء وزلزلت.
أيها المسلمون، طغيان القوة وغرورها، يجعل صاحبه لا يبالي بمواقف الآخرين، ولا بحقوقهم، بل إنه ليستهين بالأعراف، وقواعد التعامل، ويستكثر على غيره أن ينظر في مصالحه أو يتمسّك بحقوقه أو يعتزّ بهويته وقيمه، فالضعفاء في ميزان الظلم لا حق لهم إلا الخضوع والاستسلام، حين تضعف الأمم يتفجّر الحقد المكبوت، وينهض الخصوم يناوشون من كل مكان، إن الإنسانية كلها مدعوّة إلى التأمّل في الأخطار الرهيبة التي تنتظرها، إذا تجاهلت النُذر المتصاعدة من الصدور الحاقدة التي تبثّ نيران العداوات والصراعات المدمّرة، وازدراء الأمم في معتقدها وفكرها وديانتها، الظلم هو وقود الصراعات، والعنف لا يولّد إلا العنف، وعقلاء البشر، وقرّاء التاريخ يدركون أن قوة الظلم ما هي إلا كضوء شهاب سرعان ما ينطفئ.
إن الأمة الحيّة ـ ولو كانت مستضعفه ـ فإنها لن تقبل الظلم، بل قد تكون هذه الضغوط والمتغيرات سبباً من أسباب يقظتها وحيويتها، فلا تهون عليها عزتها وكرامتها.
الأمة الكريمة الضعيفة، وإن كانت لا تقوى على المواجهة في مرحلةٍ من المراحل لكنها لا ترضى بالدنيّة في عزّتها ومبادئها، ولن ترضى أن تنظر للآخرين باستجداء أو استحذاء.
أيها المسلمون، إن من دلائل الرشد والفقه؛ استيعاب الأزمة، وتوضيح دورها في إحياء الأمة وبنائها بنفسيةٍ عزيزةٍ وثّابة، ومن غير ضعفٍ أو خوَر.
إن من الحق والحكمة الاعتراف بأن الهزائم قد تكون لازمة من لوازم بناء الأمم، من أجل القضاء على صور الاسترخاء، ومظاهر الترف والفسق، ومن أجل الدُربة على تحمل الظروف القاسية، وزوال الطبقات الهشّة من اجل الوصول إلى القواعد الصلبة. وقد تكون الهزائم أكثر مُلازمة عندما تسود في الأمة الأمراض الاجتماعية، ويحكمها الظلم، وتشتد المظالم، وتُهمل الحقوق، ويفسق المترفون، ويكثر الخبث فتكون الهزيمة عقوبة، وتُسلط الأعداء بلاءً لتستيقظ الأمة، وتتوجّه نحو العلاج فيكون التمحيص، وتكون التنشئة على الجدّ والمسيرة والمبصرة، وحينئذٍ يستقيم المسار بإذن الله.
أيها المسلمون، الأمة لا شك في حاجة إلى إعادة ترتيب أمورها، ودراسة أوضاعها بعمق دراسة تتفهم المتغيرات، وإنها لمتغيراتٌ كبيرة طغت على ساحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية وغيرها، مدركة إمكاناتها، مكتشفةً مكامن قوتها وتأثيرها، ومن أجل تلمّس طريق المعالجة ـ معاشر المسلمين ـ لا بد من التأكيد على أن أولى الأوليات أن تعلم الأمة علم اليقين أنها لن ترتفع لها راية، أو يعلو لها شأن إلا بصدق الإيمان، ونقاء التوحيد، وصفاء الإخلاص، إيمانٌ يستنير به القلب، وتستقيم به الجوارح، وهذا لا يكون إلا بتربيةٍ جادّة، وإنك لتحزن حين لا ترى إلا آثار تربيةٍ هشّة، وأن طاقات الأمة(1/881)
تستنزف في أمور تذهب بحلاوة الإيمان، وتضعف جذوته وكيف يتصور التطلع إلى النصر بنفوسٍ لم تذق حلاوة الإيمان ((ذاق حلاوة الإيمان من رضي الله عنه بالله رباً وبمحمداً رسولاً، وبالإسلام ديناً))(1)[1]. كما يجب التأكد أن الطريق الصحيح ومنهج التصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته ليس بالاشتغال بالرد عليها مما قد يجر أو جرّ إلى معارك خاسرة، ولكن الإصلاح الحقيقي، والتصحيح الجاد يتمثّل في التوجّه نحو الداخل وتصفيته وتنقيته، وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ولا ريب أن التصحيح من الداخل شاقٌ على النفس وثقيل في الممارسة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة سوف ينقد نفسه وسوف يصلحها، أي أنه يجعل من نفسه الحجر والنحّات في آنٍ واحد، وإن أصحاب الطريق المسدود والمتأزّمين هم الذين يسلطون سياط نقدهم ودائماً نحو الخارج وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120]، آية كريمة ومعلمٌ بارز، ورايةٌ مرفوعة في رسم الطريق لهذا الإصلاح الداخلي، ويقترن بهذه الآية، آية أخرى توجه إلى مواجهة الخارج بالنقد الداخلي والإصلاح والتحصين، اقرأوا في خبر غزوة أحد أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:195]، إنه ليس من الحكمة تضخيم شأن العدو إلى الحدّ الذي يجعل تصّور هزيمته شيئاً بعيداً، فالعدّو بشر، له حساباته وله موازناته ومشكلاته وإمكاناته، وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء:104]، إن النصر العام لا بدّ أن يسبقه نصرٌ خاص، إن الأمة المنتصرة على أعداءها هي أمة قد حققت قبل ذلك نصراً داخلياً، ومما يجب التأكيد عليه أخيراً، سلاح الصبر، والمراد بالصبر هنا: احتمال المشاق، والتيمومة في تأدية التكاليف مهما كانت قسوة الظروف.
إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة والظروف والظروف القاسية، ولكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة، إن الجري وراء الحلول السريعة لمشكلاتٍ مستعصية مآلة الإحباط واليأس، أو الاندفاع والتهوّر مما يزيد المشكلات تعقيداً، ويجعل الحلّ الحقيقي بعيد المنال، إن الصبر توظيفٌ صحيح للوقت والزمن لحل أوضاع لا يُستطاع حلّها في الوقت القريب.
وبعد أيها المسلمون، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع اليسر يسراً، وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها، ومفتاح حلّها وطريق ذلك بإذن الله دينٌ صحيح وعقل مستنير، ومبضع جرّاح، وحرقة والدة، وعلى الله قصد السبيل وهو الغالب على أمره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ [آل عمران:186]، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/882)
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الواحد الفرد الصمد، أحمده سبحانه وأشكره، ليس لفضله منتهى ولا لإحسانه حدّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن كفر به وجحد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بالفضائل تشرف وبالكمالات انفرد، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا للدين أعظم مستند، والتابعين ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
فإن من صعاب الأمور قياد الأمم أعقاب الهزائم، وإحياء الأمل بعد الانكسارات. ولكن الرجال يستسهلون الصعب، ويصادرون الأيام حتى يجتازوا الأزمات، نعم: إن الأمة الحيّة لا تكفّ عن مراجعة أمرها، وقياس أدائها في أصولها وأساليبها كما لا تملّ بالبحث عن المعوقات والحلول، إن الأمة بحاجة إلى امتلاك الشجاعة الكافية للاعتراف بالأخطاء، والتقصير في مسيرتها، وهي بحاجة إلى التفريق الدقيق بين الأعراض والأمراض، حتى لا تعالج المظاهر والأعراض وتهمل الحقائق والأدواء. لقد كشفت الأحداث المتوالية عن الأمة اضطراباً في الفهم، واهتزازاً في قراءة الأحداث، واستسلام كثيرين للتضليل الإعلامي الذي يدير آلته العدوّ، مما أثار اللبس، وأشاع الشبهات فأنتج مع الأسف استسلاماً في بعض المواطن لأهواء الأقوياء، ولضغوط إعلامية علا صوتها.
أيها المسلمون: الإصلاح يبدأ بالنفس، وليس بضجيج الإعلام، ولا هُتاف الجماهير، ولا اندفاع الجموع، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، إن الإصلاح يكمن في صلاح القلوب وارتباطها بعلاّم الغيوب، خضوعٌ تام لله الواحد القهار، عيادةً وتذللاً، وانقياداً وتسليماً.
إن أهل الإسلام، وهم يعيشون، أيام هذا الشهر المبارك، أولى ما يكونون بالتوّجه نحو الإصلاح، وأولى الأولويات البدء في إصلاح النفس، فلتكن ـ يا عباد الله ـ هذه الأيام المباركة مواقف صدق، ولاسيما هذه العشر الأخيرة، إنها من أرقى الأوقات، وأحرى ما يؤمّل المسلم من فضل وخير وصلاحٍ وإصلاح، وإن لكم في نبيكم محمد لأسوة حسنة، فقد كان يخلط العشرين بصلاة وصوم، فإذا كان العشر شمّر وشدّ المئزر، وحسبها فضلاً ما يُرجى فيها من ليلة القدر، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:2، 3]، (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه)(2)[1] حديث مخرج في الصحيحين.
أيها المسلمون، إن شهركم قرب رحيله، وأزف تحويله، وقوّضت خيامه، فبادروا بالتوجه، واجتهدوا في حسن الختام، ودّعوا شهركم بالتوبة إلى الله، والإنابة إليه (وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون)(3)[2]، ومن خير أعمالكم إخراج زكاة الفطر، فهي طهرةٌ للصائم من اللغو والرفث، وطعمةٌ للمساكين، من أدّاها قبل صلاة العيد، فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فأخرجوها ـ رحمكم الله ـ طيبة بها نفوسكم.(1/883)
عباد الله، هذا شهركم قد أذن بالرحيل، وفي بقيته للعابدين الجادين مستمتعاً، فهل من قلب يخشع، وعين تدمع، وعملٍ صالح يُرفع، ويا ويح قلوب خراب بلقع، تراكمت عليها الذنوب، فهي لا تبصر ولا تسمع. ألا فاتقوا الله رحمكم الله وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ [آل عمران:133]، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال في محكم تنزيله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على من رضي الله عنه بالله رباً (34) بلفظ: ((ذاق طعم الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمداٍ رسولاً)).
(2) رواه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيماناً واحتساباً (1901). ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (760).
(3) رواه أحمد (3/198). والترمذي في صفة القيامة (2499) وهذا لفظه. وابن ماجة في الزهد، باب: ذكر التوبة (4251) والحاكم (4/272) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ــــــــــ ــــــــــ
فعليكم النصر
-----------------------
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, الولاء والبراء
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
2/2/1424
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- واجب النصرة والمؤازرة لإخواننا في العراق. 2- الوقوف مع الغزاة في حربهم ضد الأشقاء. 3- الشامتون بجراحات إخوانهم. 4- أدلة تحريم خذلان المسلمين في محنهم. 5- تحية لشعب العراق على ثباته.
-------------------------(1/884)
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة الأنفال: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أحبة الله، تفيد هذه الآية الكريمة بأن المسلمين إذا طلبوا النصرة والنجدة من إخوانهم، فيتوجب عليهم أن يلبوا النداء وأن ينصروهم وأن يقفوا إلى جانبهم إلا إذا وجد عهد وميثاق مع الدول المعاهدة والمسالمة، كما نصت الآية الكريمة.
أما أمريكا المجرمة فهي دولة معادية محاربة، وكذلك بريطانيا الحاقدة، فلا يجوز شرعاً إجراء أي عهد وميثاق مع هاتين الدولتين المعتديتين على أرض العراق.
وعلى المسلمين جميعاً الوقوف ضد هذه الحرب.
وهاتان الدولتان تهددان الآن بغزو سوريا وإيران، وسبق لأمريكا أن غزت دول الخليج فليست أمريكا دولة معاهدة كما يزعمون، بل هي دولة معادية ومحاربة، ولا يجوز شرعاً أن نفسر هذه الآية الكريمة حسب الأهواء والأمزجة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وعليه لا يجوز شرعاً أن تقف الأنظمة في الدول العربية والإسلامية مكتوفة الأيدي، بل لا يحوز شرعاً أن نساعد أو نعاون أمريكا وبريطانيا على غزوهما واحتلالهما لأرض الرافدين، فالإثم أشد وأشد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة:6]، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه إذا طلب أحد من المشركين الضعفاء النصرة والحماية، فينبغي حمايته والدفاع عنه حتى يسمع كلام الله، وحتى يصل إلى المكان الآمن له، فما بالكم ـ يا مسلمون ـ إذا كان المستجير والمستنجد مسلماً، فمن باب أولى أن نجير المسلم، وأن ننجده، ونقدم له الحماية وندافع عنه، ونقف إلى جانبه، ونحمي ظهره لا أن نطعنه من الخلف، حتى العرب في الجاهلية كانوا يجيرون وينجدون ويحمون من يستجير بهم، فكيف ببعض الأنظمة العربية تعين القوات الأمريكية والبريطانية في عدوانها على العراق، إنهم يقولون شيئاً ويفعلون شيئاً آخر، وما ينطبق على العراق فإنه ينطبق على أي قطر من أقطار العالم الإسلامي بما في ذلك فلسطين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا نؤكد على حقيقة ناصعة لا جدال فيها، وهي أن المؤمن هو أخ للمؤمن، وأن المسلمين جميعاً بمختلف ألوانهم وأصولهم وقومياتهم يشكلون أمة إسلامية واحدة ذات رسالة خالدة، هي رسالة الإسلام العظيم، فأين المؤمن الصادق في هذه الأيام الذي يقف إلى جانب أخيه ويشد من أزره؟ ما الذي نراه على أرض الواقع في العراق؟ إنه يشد على أخيه ليقتله! ولا يشد معه! فأين الأخوة الإيمانية في ما بين المسلمين؟ اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.(1/885)
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إننا نذكر الحكام والملوك والأمراء والرؤساء في البلاد العربية والإسلامية أن يتقوا الله في أنفسهم وفي شعوبهم وفي بلادهم، ونذكرهم بواجباتهم تجاه فلسطين والقدس والأقصى وتجاه العراق الشقيق، العراق الجريح، أرض الرافدين، بلد المنصور والرشيد والمعتصم وصلاح الدين، ونقول لهؤلاء الحكام: لا يجوز شرعاً التخلي عن مسؤولياتكم، لا يجوز شرعاً معونة الكفار على المسلمين، يتوجب عليكم شرعاً الوقوف إلى جانب إخوانكم في أرض العراق، وإن الله عز وجل سائلكم يوم القيامة عن أعمالكم وعن مواقفكم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
كما لا يجوز شرعاً التشفي بما يحصل بإخوانكم في العراق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله، ويبتليك))(1)[1]. أكرر: لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نذكر الحكام، ونذكركم بثلاثة أحاديث نبوية شريفة تنص على وجوب النصرة وعلى تحريم الخذلان والتقاعس، فيقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: ((وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً، فقدر أن ينصره فلم ينصره))(2)[2] فالله عز وجل يحذر الظالمين بسبب ظلمهم، وأنه سينتقم منهم، وأنه سيحاسبهم عاجلاً أم آجلاً، كما سينتقم من الشخص الذي يتخلى عن نصرة المظلوم، وفي حديث نبوي آخر: ((ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته))(3)[3] وهذا ما هو مشاهد في علاقات المسلمين فيما بينهم من الخذلان والطعن من الخلف لبعضهم بعضاً.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، وفي حديث نبوي ثالث: ((من أذل عند قوم، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة))(4)[4]. اللهم اخذل من خذل المسلمين وأذل يا رب الشرك والكافرين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن إخوانكم في العراق كما عهدناهم ثابتون مجاهدون رافضون للعدوان الأمريكي البريطاني، ومقاومون للمحتلين، وإنهم لن يستسلموا لغطرسة المعتدين، لقد هزني هتاف انطلق من آلاف الجماهير المتظاهرة في مصر وفي المغرب وفي عواصم ومدن الدول الغربية، هذا الهتاف يقول: بغداد اثبتي ولا تستسلمي، ونحن نثني على هذا الهتاف، ونقول: بغداد اثبتي ولا تستسلمي، وحماك الله يا بغداد يا بلد الرشيد.
اللهم انصر العراق وشعبه، اللهم ألحق الهزيمة بأمريكا، اللهم ألحق الهزيمة ببريطانيا، اللهم ألحق الهزيمة بمن والاهم ومن تعاون معهم سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، ستتحقق الآية إن شاء الله.
قولوا: اللهم حققها في أرض العراق، قولوا: آمين آمين آمين.(1/886)
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
-------------------------
الخطبة الثانية
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، توجه لي صحفي أمريكي أمس بسؤال مفاده: ما حكم الدين الإسلامي بحق الجنود العراقيين الذين يتترسون في مسجد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في مدين النجف الأشرف، ويدعي هذا الصحفي أن هؤلاء الجنود العراقيين يطلقون الرصاص على الجيش الأمريكي من هذا المسجد - حسب زعمه - فكأن الأمريكان يظهرون حرصهم على بيوت الله ويتحرون معرفة رأي الإسلام في هذه المسألة الجزئية، ويتناسون ما قاموا به من قتل للأطفال والنساء والأبرياء وتدمير للمساجد والمستشفيات ودور العلم والكليات، كما يحصل في فلسطين، ولا ينظرون إلى أيديهم الملطخة بالدماء، فقلت لهذا الصحفي: إن الجنود الأمريكان والبريطانيين هم محتلون ومعتدون ويجب عليهم الخروج والانسحاب من أرض العراق، وإن أمريكا استعملت كافة الأسلحة، أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك القنابل العنقودية والصواريخ الفتاكة، وإن أسلحة الدمار الشامل ليست بأسلحة ذكية كما يزعمون إنما هي أسلحة إجرامية غبية، لأنها تصدر عن مجرمين أغبياء.
فلم تعجبه هذه الإجابة، فكرر السؤال مرة أخرى، فقلت له: حينما تنسحب القوات الغازية المحتلة للعراق حينئذ أجيبك عن سؤالك.
أيها المسلمون، لم يعد خافياً على أحد أن العدوان على العراق يهدف إلى سرقة العراق وسرقة ثرواته ونفطه، وليس تحرير الشعب العراقي كما يدعون ويزعمون.
أيها المسلمون، إننا نحيي من على منبر المسجد الأقصى المبارك صمود وثبات شعب العراق بمختلف فئاته كما عهدناه، وتحية إكبار وتقدير للذين أبلوا بلاء حسناً في صد الهجمات التتارية في جنوب العراق، ونقول لإخوتنا الأكراد: إنكم أحفاد صلاح الدين الأيوبي الذي حرر الديار من غزو الفرنجة الصليبيين، فلا تكونوا أيها الأكراد طعماً للأمريكان، وتذكروا أيها الأكراد أنكم مسلمون، وأنكم جزء من الأمة الإسلامية، ونقول لأهلنا في العراق وفلسطين: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.(1/887)
أيها المصلون، وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، فأمنوا من بعدي لعل أن يكون فيكم أنفاس طاهرة وقلوب منكسرة، فيستجيب الله لها.
__________
(1) رواه الترمذي في سننه (2506)، من حديث واثلة بن الأسقع، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (450).
(2) رواه الطبراني في الكبير(10652)، والأوسط (36)، من حديث ابن عباس، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. (مجمع الزوائد 7/267).
(3) رواه أبو داود من حديث جابر وأبي طلحة (4884)، وأحمد في المسند (15933)، وقد ذكره الألباني في ضعيف أبي داود(1040).
(4) رواه أحمد في المسند من حديث سهيل بن حنيف(15555) قال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات(مجمع الزوائد 7/267)، وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2402).
ــــــــــ
السبيل إلى النصر والتمكين
-----------------------
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الولاء والبراء
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/4/1424
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أهمية تحقيق الولاء والبراء في كافة مناحي الحياة. 2- الالتجاء إلى الله والتوكل عليه هو السبيل الأمثل للخروج من المحن. 3- استمرار الحروب الصليبية حتى زماننا المعاصر. 4- الأحكام الشرعية غير قابلة للتغيير مهما كانت الظروف. 5- نعي العالم الشيخ/ عبد القادر عبد المحسن عابدين. 6- جهود المسؤولين في إتمام الامتحانات الدراسية رغم الحصار والتضييق. 7- كفالة الأيتام في الإسلام.(1/888)
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً [النساء:60]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة من سورة النساء، وهي مدنية، وتشير هذه الآية إلى أنّ أحد المنافقين في المدينة المنوّرة قد رفض الاحتكام إلى الرسول ، وأراد أن يحتكم إلى أحد الطواغيت الظلمة، فهو في زمرة الشياطين الضالين.
وهناك ـ يا مسلمون ـ آية أخرى في السورة نفسها، أي: في سورة النساء تؤكّد هذا المعنى، فيقول الله عز وجل: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ أحد المنافقين قد رفض الانصياع لقرار التحكيم الذي أصدره رسولنا الأكرم ، وادّعى هذا المنافق بأن هذا القرار مُتَحَيّز وغير عادل(1)[1].
أيّها المسلمون، يجهل البعض في هذه الأيام, أو يتجاهلون الأحكام الشرعية المتعلقة بالولاء والتبعية، في حين إنّ عشرات النصوص الشرعية من الآيات الكريمة, والأحاديث النبوية الشريفة؛ صريحة في أنّه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لشياطين الإنس من العلمانيين واللادينيين، ولا للقوانين الوضعية المستوردة من دول الكفر، الذين يكذبون قول رب العباد ويطبقون قول العباد، ويهجرون القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويريدوننا أن نتنفس بقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، ونسي المسلمون أو تناسوا في هذه الأيام أن ملة الكفر واحدة، وأن دول الكفر كما هو واضح ومعلن لن تغير مواقفها العدائية تجاه المسلمين، تجاه قضاياهم المصيرية، ولو أن المسلمين احتكموا إلى دينهم العظيم؛ لما أشغلوا أنفسهم, وما أضاعوا وقتهم, وهم يلهثون وراء دول الكفر والاستعمار، فأين الإيمان؟ أين اليقين؟ أين التوكل على رب العالمين؟
أيها المسلمون، يتوجب على المسلمين في هذه الأيام أن يلتزموا نهج نبيهم محمد ، في جميع مناحي الحياة من خلال سننه العملية؛ لأنه لم يكن تابعاً ولا عميلاً لأي دولة أخرى، بل كان يعد العدة, ويعبئ الصحابة روحياً وإيمانياً ونفسياً ومعنوياً ومادياً، ثم يلجأ إلى الله رب العالمين يطلب منه النصر والتوفيق، فهذا ما حصل على سبيل المثال لا الحصر قبل بدء معركة بدر الكبرى، حين توجه عليه الصلاة والسلام إلى الله بتضرع وخشوع قائلا: ((اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني))(2)[2].(1/889)
أيها المسلمون، ومازال عليه الصلاة والسلام يهتف بهذا الدعاء ويردده مادًّا يديه, مستقبلاً القبلة, حتى حقق الله وعده.
ولم يتوجه عليه الصلاة والسلام إلى الفرس والروم، ولم يطلب منهم التدخل, كما نسمع كثيراً في هذه الأيام، فلم يكن عليه الصلاة والسلام تابعاً ولا ذليلاً لأي دولة من الدول الكبرى وقتئذ، وإنما كان اعتماده على الله وحده، هو مولاه ومولى المسلمين جميعاً، ولا أحد غيره، يقول عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم [محمد:11].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، واعلموا أن الخطأ كل الخطأ أن نأمل المساعدة من غير المسلمين، والإثم كل الإثم أن نطلب النصرة والحماية من الكافرين، الذين يتظاهرون بحرصهم وبعطفهم على المسلمين، ولكنّ الحقيقة المؤلمة أنهم يُكِنّون العداوة والبغضاء، وما تخفي صدورهم أعظم.
وإن الأحداث والوقائع من أيام الحروب الصليبية حتى يومنا هذا تؤكد ذلك، ويخطئ من يظن أن الحروب الصليبية قد انتهت وقتئذ؛ لأن الغرب منذ أن طُرِد من ديار الإسلام قبل ثمان مائة عام، وهو يخطط ليعود إلى بلادنا من جديد، بأسلوب أو بآخر، ولم يتضح هذا المخطط الاستعماري لكثير من المسلمين إلا بعد الحرب العالمية الأولى، فحين دخل اللورد اللنبي البريطاني مدينة القدس في مطلع القرن الماضي قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ومثل ذلك حين دخل الجنرال غورو الفرنسي مدينة دمشق توجه إلى قرب البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه بالقرب من المسجد الأموي، وركل الجنرال غورو المجرم، ركل القبر برجله, وقال بحقد وكراهية: "قم يا صلاح الدين، الآن انتهت الحروب الصليبية".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والملاحظ أن كلا القائدين، البريطاني والفرنسي قد استعملا لفظ الآن، على اعتبار أنهما حققا الهدف المنشود، وهو احتلال ديار الإسلام من جديد.
وفي الحقيقة أن الحروب الصليبية لم تنتهِ في الحرب العالمية الأولى، بل هي مستمرة، وإن الأحداث هذه الأيام تؤكد ذلك، إذ إن السياسيين الغربيين الذين يلعبون في مصير الشعوب المستضعفة حالياً، هم صليبيون, ولا يجوز شرعاً أن نثق بهم أو نطمأن إليهم.
أيها المسلمون، يطرح في هذه الأيام مشروع قانون العقوبات الفلسطيني لمناقشته, ولإدخال التعديلات عليه، وقد عقدت خلال هذا الأسبوع عدة اجتماعات من قبل مجلس الفتوى الأعلى، ومن قبل رابطة علماء فلسطين، ومن قبل جمعيات قانونية، وذلك لدراسة مشروع قانون العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات في الإسلام، مع أنه لا يجوز الاحتكام إلى القوانين الوضعية, والتي تخالف مخالفة صريحة الأحكام الشرعية، وإن أي مشروع يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله، وإنه لا ولاء إلا لله ورسوله، ولا تبعية لأي قانون وضعي.(1/890)
أيها المسلمون، مهما نزلت من المحن والفتن، ومهما تعرض المسلمون في العالم للضغوطات فإن الحكم الشرعي لا يتغير ولا يتبدل، إن الذي بحاجة إلى التغيير هو نفوس المسلمين، نعم نفوس المسلمين، تلك النفوس التي تمردت على الله رب العالمين، واستمرأت الذل والهوان، فإن أقبلت هذه النفوس على الله واحتكمت إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن الله عز وجل يبدل حال العالم الإسلامي بحال أحسن وأفضل.
وهذه هي المرحلة الأولى في الإصلاح، يقول عز وجل في سورة الأنفال: ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52]. ويقول الله عز وجل في سورة الرعد: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم [الرعد:11].
تداركنا يا رب العالمين برحمتك وعدلك، وهيئ لنا طريق النجاة والخلاص؛ لنرجع إلى دينك وقرآنك وسنة نبيك.
جاء في الحديث الشريف: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))(3)[3] صدق رسول الله .
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فيا فوز المستغفرين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، له الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صلِّ على سيدنا محمد, وعلى آل سيدنا محمد, كما صليت على سيدنا إبراهيم, وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مِنْ على منبر المسجد الأقصى المبارك ينعي أهل العلم الشرعي في بيت المقدس بخاصة, وفي فلسطين بعامة؛ عالماً عاملاً من علماء فلسطين، إنه المرحوم ـ بإذن الله ـ سماحة الشيخ عبد القادر عبد المحسن عابدين، الذي ترك بوفاته فراغاً في هذه المدينة المقدسة المباركة، فإن فقد العلماء هو نزعٌ للعلم بين الناس، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وعوّضَ طلاب العلم الشرعي وذويه خير العِوَض، لله ما أخذ، وله ما أعطى، فكل شيء عنده بمقدار، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا تزال امتحانات الثانوية العامة قائمة، تبذل وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية جهوداً كبيرة مباركة لإنجاح هذه الامتحانات، رغم الإعاقات والحصارات المفروضة على شعبنا، فجزى الله خيراً رجالات التربية والتعليم, والمعلمين والمراقبين(1/891)
والمصححين، الذين قاموا ويقومون في إنجاح العملية التربوية، ونتمنى لطلابنا وطالباتنا النجاح والتوفيق والسداد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أتناول وبإيجاز موضوع كفالة اليتيم في الإسلام، فأقول وبالله التوفيق: لا يخفى عليكم أن ديننا الإسلامي العظيم يحث على كفالة ورعاية الأيتام، فالله عز وجل يقول: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ [الضحى:9]، ويقول رسولنا الأكرم : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى(4)[1].
ويقول في حديث نبوي آخر: ((من مسح على رأس يتيم لم يمسحه إلا لله، كان كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)) وفرّق بين إصبعيه: السبابة والوسطى(5)[2].
وفي حديث شريف ثالث: ((إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: من أسكته وأرضاه عليّ أن أرضيه يوم القيامة))(6)[3].
وفي الأثر أخبرنا رسول الله صلىالله عليه وسلم بأن امرأة تزاحمه على باب الجنة، فسأل عنها، فقيل له: إنها أرملة قامت على أولادها الأيتام.
فالمرأة التي تترمّل وتتفرغ لأبنائها الأيتام، لا تتزوج من رجل آخر، فإن الله عز وجل يهيئ لها مرتبة عليا يوم القيامة، فإنها تزاحم حبيبنا ورسولنا على باب الجنة.
وفي مجتمعنا الفلسطيني هناك العشرات، بل المئات من النساء اللواتي يزاحمن رسولنا على باب الجنة، إنهن الخنساوات، وليست خنساء واحدة.
والسؤال يا مسلمون: لماذا نعرض إلى موضوع كفالة اليتيم، وكفالة اليتيم معروفة لديكم يا مسلمون؟
والجواب: إن الحكومة الأمريكية تدعو إلى عدم كفالة الأيتام إذا كان آباؤهم شهداء أو استشهاديين؛ كعقوبة لهؤلاء الأيتام؛ ولردع الآخرين، كما تدّعي أمريكا.
والإجابة من على منبر المسجد الأقصى المبارك بأن الله عز وجل يقول: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِّزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].
ثم ما ذنب الطفل البريء حتى يحرم من الرعاية والكفالة؟ ثم لم يطلب منا ديننا العظيم أن نفتح ملفاً للآباء حتى نقول: هذا يستحق، وهذا لا يستحق، ثم هل يحق لنا شرعاً أن نحرم المسلمين من التوافق بتبرعهم وكفالتهم للأيتام.
ثم إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين الرحمة والتكافل والتضامن، وهو دين الحضارة والعزة والكرامة؛ لأنه دين سماوي؛ ولأنه خاتم الأديان، وهو دين للإنسانية جَمْعاء، وعليه فإن المطلب الأمريكي هو مطلب فارغ مرفوض, ويتعارض مع قِيَمِنا الدينية والإنسانية، وإن قَِيمَنا السامية بعيدة عن الانتقام،(1/892)
بعيدة عن الأحقاد، بعيدة عن الغطرسة، وعلى أبناء هذا الدين العظيم أن يتمسكوا به, وأن يعتزّوا به وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، صدق الله العظيم.
__________
(1) أخرج الطبري في جامع البيان (5/152-154), جملة من القصص في سبب نزول الآيات من حديث ابن عباس والشعبي وقتادة وغيرهم.
(2) ذكره ابن إسحاق في السيرة (ابن هشام3/168).
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة(1/12) من حديث عبد الله بن عمرو, وصححه النووي في الأربعين, ووثق رجاله ابن حجر في الفتح(13/289), وأعله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (386), وضعفه الألباني في تعليقه السنة لابن أبي عاصم.
(4) أخرجه البخاري في الطلاق (4892), ومسلم في الزهد (5296), من حديث سهل بن سعد.
(5) أخرجه أحمد (5/250), والطبراني في الكبير(8/202), والأوسط (3/285), من حديث أبي أمامة, وضعفه الهيثمي في المجمع(8/160).
(6) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن(20/101).
ــــــــــ
من معاني النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
-----------------------
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/8/1422
النور
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- سنة الله الماضية في التاريخ هي نصر أوليائه وجنده. 2- لهذا النصر صور متغايرة متنوعة. 3- الشهادة نوع من انتصار العقيدة والإيمان. 4- ثقة المؤمن بنصر الله. 5- أسباب تأخر النصر.
-------------------------(1/893)
الخطبة الأولى
أما بعد: يقسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
ومن معتقد أهل السنة والجماعة في معاني أسماء الله وصفاته أن الله لا يَخذل من توجّه إليه بصدق وتوكل واعتمد عليه. فإنه لم يحصل في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله هذه الأرض أن نبياً من الأنبياء أو عالماً أو داعيةً أو مجاهداً أو مجتمعاً أو دولةً أو غيرهم توكلوا على الله وصدقوا الله واعتمدوا على الله وتركوا جميع الناس من أجل الله ثم خذلهم الله، هذا لا يعرف في التاريخ أبداً، بل من فهمنا لمعاني أسماء الله وصفاته أن كل من توكل على الله واعتمد عليه وترك من سواه من الخلق، فإن الله لا يخذله، بل سينصره كما قال سبحانه: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
فإن هذا من معاني أسمائه وصفاته. فالله عز وجل بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلاّ إذا تخلفت أسبابها فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
أيها المسلمون، لكن لهذا النصر صور عديدة، وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب، بل قد يقتل النبيّ أو يطرد العالم أو يسجن الداعية أو يموت المجاهد أو تسقط الدولة، والمؤمنون منهم من يسام العذاب، ومنهم من يلقى في الأخدود، ومنهم من يَستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا بل وحققوا نصراً مؤزراً، وتحقق فيهم قول الله تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ.
ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة وهي الانتصار في المعارك فحسب، لم يدرك معنى النصر في الإسلام.
فمن أنواع النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين: نصر العزة والتمكين في الأرض وجعل الدولة للإسلام والجولة للإسلام، كما نصر الله عز وجل داود وسليمان عليهما السلام كما قال سبحانه: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:251]، وقال عز وجل: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79]، فجمع الله عز وجل لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم.
وكذلك موسى عليه السلام نصره الله على فرعونَ وقومه وأظهر الدين في حياته، كما قال سبحانه: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
أما نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقد نصره الله نصراً مؤزراً، فما فارق النبي الدنيا حتى أقرّ الله عز وجل عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله عز وجل النصر ودخول الناس في دين الله(1/894)
أفواجاً علامة قربِ أجل النبي فقال تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة النصر]، فما فارق النبي الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب، ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى استنارَ أكثرُ الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين الله عز وجل، حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ المحيط الأطلنطي وقال: "والله يا بحر لو أعلم أن وراءك أرضاً تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا".
وما كان يعلم رضي الله عنه أن وراء ذلكم البحر الأمريكتان، ولو كتب الله وخاض البحر ودخل المسلمون تلك البلاد لكان التاريخ شيئاً آخر، فشاء الله تعالى أن تقف خيول عقبة بن عامر على شاطئ الأطلنطي لحكمة يعلمها سبحانه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها: "أمطري حيث تشائين فسوف يأتيني خراجك".
لقد انتصر الإسلام عباد الله لما وجد الرجال الذين يقومون به ويضحون من أجله والله عز وجل يقول: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
ومن أنواع النصر ـ كذلك عباد الله ـ: أن يهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وينجي رسله وعباده المؤمنين، قال عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر:10-14]، ولما نصر الله عز وجل هوداً وصالحاً ولوطاًً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، أهلك الله عز وجل الكافرين والمكذبين وأنجى رسله وعباده المؤمنين.
النوع الثالث من النصر: وهو انتصار العقيدة والإيمان، وهو أن يَثْبُت المؤمنون على إيمانهم وأن يضحوا بأبدانهم حماية لأديانهم وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم، فهذا نصر للعقيدة ونصر للإيمان.
فنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟
ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، مع أن الذين ألقوه في النار يرون أنفسهم قد هزموه، كما أنه انتصر مرة أخرى، وهو ينجو من النار. هذه صورة وتلك صورة، وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب!
وهذا خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين عجز الملك عن قتله فقال له: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك: ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال:(1/895)
تجمعُ الناس في صعيد واحد وتصلُبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم اللهِ ربِّ الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا بربِّ الغلام، آمنا بربِّ الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس.
فانظروا كيف ضحى هذا الغلام بحياته من أجل الدعوة، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله عز وجل، أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته وآمن الناس بدعوته، عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا حتى جاءت امرأة، ومعها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وسجل الله عز وجل لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة فقال عز وجل: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:4-11].
أيها المسلمون، وقافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام والصديقون والشهداء.
مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور، ولا خلت الأرض من مخلص يقدم للأمة نموذجاً، فيموت هو، وينتشر الخير بعده بسببه.
فهذا صاحب الظلال رحمه الله كان قتله انتصاراً لمنهجه الذي عاش من أجله ومات في سبيله، بذل حياته كلها من أجل أن يبين أن الحكم من أمور العقيدة والتحاكم إلى غير شرع الله، والحكم بغير حكمه كفر بالله عز وجل: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40]، وقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وبعد أن حكم عليه بالإعدام وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم كتب هذه الأبيات وكتب الله عز وجل لها الحياة وخرجت من وراء القضبان تقول للعالم.
أخي أنت حر وراء السدود ... ... أخي أنت حر بتلك القيود(1/896)
إذا كنت بالله مستعصما ... ... فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي ستبيد جيوش الظلام ... ... ويشرق في الكون فجر جديد
أخي إن نمت نلق أحبابنا ... ... فروضات ربي أعدت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا ... ... فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إن ذرفت عليّ الدموع ... ... وبللت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع ... ... وسيروا بها نحو مجد تليد
فرحمة الله على صاحب الظلال ورحماته. قال عنه أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل وينشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتبه.
نعم، لقد وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتبه بعدما قتل من أجلها، وهذا ما قصده رحمه الله عندما قال: إن كلماتَنا وأقوالَنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بدمائنا عاشت وانتفضت بين الأحياء.
إنه نصر وأيّ نصر، إنه أعظم وأجلّ من انتصارات كثير من المعارك والتي سرعان ما تنتهي بانتهائها، أما هذا النصر فإنه يبقى ما شاء الله أن يبقى.
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال.
نوع رابع من أنواع انتصار المؤمنين: وهو أن يحمي الله عز وجل عباده المؤمنين من كيد الكافرين كما قال تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، وكما قال عز وجل لنبيه : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله عز وجل من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال: من يعصمك مني؟ فقال: ((الله))، فارتجف الرجل وسقط السيف من يده. وقصة الشاه المسمومة التي أنطقها الله عز وجل، وأخبرت النبي بأنها مسمومة. وقصة إجلاء بني النضير، ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي .
وهل سمعتم أيها الأحبة عن يوم الرجيع؟ هل تعرفون عاصم بن ثابت ؟ بعث النبي سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيّ من هذيل يقال لهم: بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتُهي إلى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى مكان مرتفع، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا(1/897)
لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك، فقاتَلوهم حتى قَتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً، فكان عمر يقول: لما بلغه خبره، يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
فكان عاصم مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله عز وجل عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك.
فإن قال قائل: لماذا لم يمنعهم الله عز وجل من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد قتله؟ فالجواب: أن الله عز وجل يحب أن يرى صدق الصادقين، ويحب أن يرى عباده المؤمنين، وهم يبذلون أنفسهم لله عز وجل فيبوئهم منازل الكرامة، ويزيدُهم من فضله، فالله عز وجل أراد أن يشرّفه بدرجة الشهادة، فلم يمنعهم من قتله ثم حمى الله عز وجل جسده من أن يمسه مشرك. فهذه صورة من صور النصر ولو انتهت بموت وقتل صاحبه.
نوع خامس من النصر الذي ينصر الله عز وجل به عباده المؤمنين: وهو نصر الحجة كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، والرفع هو الانتصار، وكما قال النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)). فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور دولة وسلطان.
أيها المسلمون، هذه أنواع من النصر كلها تدخل في وعد الله سبحانه وتعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، ولكن النصر الذي بشرنا الله عز وجل به، وبشرنا به رسوله هو النصر الأول، وهو نصر التمكين والظهور، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وقال النبي : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) وقال : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوي لي منها)). وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
ونقرأ هذه الأحاديث تحقيقاً لوعد الله ووعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ونحن بانتظار الشمس أن تشرق، وهذا الليل أن ينجلي، وذلكم الصبح أن يتنفس.(1/898)
صبح تنفس بالضياء وأشرقا ... وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق ... فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تتخذ المدى ... ضرباً و تصنع للمحيط الزورقا
وما أمر هذي الصحوة الكبرى ... ... سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنما ... ... لها جذع طويل في التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة ... فى جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحبِس نوره؟! ... أرني يداً سدت علينا المشرقا
بارك الله لي ولكم ..
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد أيها المسلمون، إن الثقة بنصر الله، وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة، وتبقى لحظة النصر وبشارة التمكين حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم، وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ [الحج:15، 16].
أيها المسلمون، من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قول الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وقوله عز وجل: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13]، وقوله سبحانه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقوله تعالى: ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60].
أيها المسلمون، إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يستحقونه، وهم المؤمنون الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله لا إلى أي حل آخر، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند(1/899)
الله. ومع ذلك نقول: إن من سنن الله تعالى أن النصر قد يتأخر، ولو كان أهله مسلمون وأعداؤهم كفار وذلك لأسباب:
منها: أن البنية للأمة لم تنضج بعد ولم يتم بعد تمامها، ولم تُحشد بعد طاقاتها ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. لأن النصر السريع الهين اللين، سهل فقدانه وضياعه، لأنه رخيص الثمن لم تُبذل فيه تضحيات عزيزة.
ومن الأسباب أيضاً: أنه قد يتأخر النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتتأذى وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا ملجأً إلا إليه، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج الصحيح بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه أو تقاتل حمية لذاتها أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده، وفي سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فأيها في سبيل الله؟ فقال ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس، وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه.
وقد يتأخر النصر أيضاً: لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.
أيها المسلمون، من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن قد يتأخر نصر الله، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام وتتضاعف معها الأجور، وفي كل ذلك خير مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصلاةَ وَاتَوُاْ الزكاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا(1/900)
أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ [الحج:40-48].
ــــــــــ
النصر من الله وحده
-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, معارك وأحداث
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
16/4/1425
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- رفع معنويات المؤمنين. 2- كيد المنافقين والحروب والفتن. 3- النصر من الله تعالى وحده. 4- الفرق بين الغلبة والنصر. 5- تجاوز أمة الإسلام للمصائب بسلام. 6- من مواقف السلطان عبد الحميد الثاني. 7- ضرورة الثقة بالله تعالى. 8- ظاهرة غلاء إجارات البيوت في القدس. 9- ظاهرة الباعة المتجولين في الشوارع. 10- قضية مقبرة الرحمة واليوسفية.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيقول الله عزّ وجلّ في محكَم كتابه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، يا أبناءَ أرض الإسراء والمعراج، هذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران، وهي مدنية، وقد نزلت بعد معركة أُحد وذلك لمواساة المسلمين من الهزيمة التي لحقتهم، ولتقوية أعصابهم(1/901)
وشدّ عزائمهم، ولإعادة الثقة لأنفسهم، ولأخذ العظة والعبرة مما حلّ بهم، ويأمر الله ربَّ العالمين المسلمين بأن لا يحزنوا وأن لا يضعفوا إن كانوا مؤمنين حقًّا.
أيّها المسلمون، أيّها المؤمنون، لقد كانت هذه الآيات الكريمة مطَمئِنةً لنفوس الصحابة ومواسِية لهم ومقويّة لإيمانهم، فدفنوا الشهداء، وضمّدوا الجراح، واستعدوا من جديد لردّ الاعتبار.
ومع ذلك وُجِد في المدينة المنورة بعض المنافقين الذين لا همَّ لهم إلا أن يتصيّدوا أخطاء المسلمين ويشمتوا بما حلّ بهم من خسائر، وهم يروِّجون الإشاعات ويثبّطون العزائم، فيقول الله عز وجل على لسان هؤلاء المنافقين: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، فكأنّ الموت والأجل بأيديهم، معاذ الله عما يدعون ويفترون.
أيها المسلمون، إن مثل هؤلاء المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كلّ زمان ومكان، ولكن يتفاوت عددهم قلة وكثرة، وهذا ما لمسناه بعد وقوع حرب حزيران عام 1967م، والتي سيصادف ذكراها غدًا السبت، فإنّ المندسين كان هدفهم تكريس الاحتلال والاعتراف بالأمر الواقع والانخراط في صفوفهم والانسجام معهم، وأطلقوا التبريرات الواهية لتصرفاتهم ولمواقفهم الشاذة.
أيها المسلمون، لقد تمكن رسولنا الأعظم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير كفة الميزان لصالحهم، وذلك بعد عام واحد فقط من وقوع غزة أُحد، فكانت غزة بدر الآخرة التي وقعت في السنة الرابعة للهجرة، ثم غزوة الخندق "الأحزاب"، والتي وقعت في السنة الخامسة للهجرة، وأعطى المسلمون بتوفيق الله وتأييده درسًا قاسيًا لخصومهم، كما أنهم وضعوا حدًّا للمثبطين والمشكّكين، ولم ييأس المسلمون لما حل بهم في أُحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يتهرّبوا من المسؤولية، ولم ويستسلموا للأمنيات.
وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
ما استعصى على قوم منال ... إذا الإقدام كان لهم ركابا
أيها المسلمون، يا أبناء محمد عليه الصلاة والسلام، ولا بدّ من الإشارة إلى أن النصر لفظ من الألفاظ العقدية في الدين الإسلامي، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم ما يزيد عن مائة وثلاثين مرة.
والنصر مسند ومنسوب إلى الله العليّ القدير، فالنصر من عند الله، والمسلمون ينصرون بمدد من الله وتأييده، وذلك حينما يَنصرون الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وكما في قول رب العالمين في سورة الحج: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقوله عز وجل في سورة محمد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].(1/902)
أيها المسلمون، يا أحفادَ عمر وخالد وصلاح الدين، أما إذا كانت المعركة لصالح غير المسلمين فتكون لهم الغلبة ولا يكون لهم النصر، لقوله سبحانه وتعالى في سورة الروم: غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2، 3]، فإنّ دولة الفرس سبق أن تغلّبت على الروم، ثم تغلّبت الروم على الفرس، وعلى اعتبار أنهما دولتان كافرتان غير مسلمتين فلا ينسب لهم لفظ النصر، لأن النصر من عند الله، ومثل ذلك بالنسبة لأمريكا وبريطانيا وروسيا وغيرها من الدول الكافرة المستعمرة في هذه الأيام، فالنصر لفظ خاص يتعلق بالمسلمين، أما لفظ الغلبة فهو لفظ عام يشمل المسلمين وغير المسلمين.
أيها المسلمون، يا أحبة الله، لقد مرّت محن ومصائب على المسلمين في العصور الماضية أيام التتار والمغول والفرنجة الصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل ثبات وصمود وإصرار وتضحية، والله عز وجل يهبهم القدرة والنصرة والتأييد بما أودع فيهم من عقيدة قوية وإيمان راسخ وعمل مثمر مفيد متواصل، وقد أصيبت أمتنا الإسلامية في القرن الماضي بعدّة محن ومصائب متوالية منذ الحرب العالمية الأولى، مرورًا بنكبة عام 1948م، وانتهاء بنكسة حزيران بل بمسرحية حزيران عام 1967 م، ولا تزال آثارها السلبية قائمة حتى الآن بما في ذلك الجدار العنصري الفاصل اللعين، ويكتوي شعبنا الفلسطيني المرابط بنار هذه الحرب التي لم تدم سوى ستة أيام، في حين صمد مخيم جنين في شهر نيسان إبريل من عام 2002م مدة تسعة أيام رغم الأسلحة الأمريكية الفتاكة المتطورة.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، بمناسبة ذكرى حرب حزيران يوليو، يحسن الإشارة إلى موقف السلطان عبد الحميد الثاني في القرن التاسع عشر الذي تمسّك بأرض فلسطين، وكيف أن الذين جاؤوا بعده قد فرطوا بهذه الأرض المباركة المقدسة، ويقول السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله في رسالته إلى هرتزل بشأن بيع أرض من فلسطين: "إن البلاد الإسلامية ليست لي، وإنما للأمة، ولا أستطيع أن أهب قطعة منها لأحد، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب، وإذا مزقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المِبضع ـ أي: السكين ـ في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين قد سلبت من دولة الخلافة"، ويقول أيضًا: "من الممكن أن تقطّع أجسادنا وهي ميتة، وليس من المكمن أن تُشرَّح أجسادنا ونحن على قيد الحياة"، ويقول في رسالة أخرى: "إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولست مستعدًا لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع الأراضي المقدسة لليهود، أو أن أتحمل خيانة الأمانة التي كلفني المسلمون بحمايتها"، هذه ـ يا مسلمون ـ هي أمانة التاريخ.
أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، إن ما حصل للأمة الإسلامية منذ القرن الماضي وحتى الآن لن يفقدنا الثقة بالله العلي القدير القائل في كتابه العزيز في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ(1/903)
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، والقائل في سورة يوسف: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، ويقول رسولنا الأكرم : ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)).
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، حمدَ عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلامًا دائمين عليه إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، أيها المرابطون، أتناول في هذه الخطبة ثلاث نقاط لها علاقة مباشرة ببيت المقدس.
النقطة الأولى: بشأن إيجارات البيوت، مرة أخرى: إن من سلبيات الجدار العنصري الفاصل رفع إيجارات البيوت في مدينة القدس وما ترتب على ذلك من خلافات بين المالكين والمستأجرين، ونطلب من جميع المواطنين في بيت المقدس أن يتقوا الله في أنفسهم، ونذكرهم أنه يتوجب عليهم التراحم فيما بينهم، وأن يحلوا مشاكلهم بالتراضي فيما بينهم، دون اللجوء إلى المحاكم التي لا تحفظ حقوقهم، بالإضافة إلى الخسائر المادية التي ستترتب على رفع القضايا، ولا يخفى عليكم ذلك.
ونقول أيضًا: إن إيجارات السكن والحوانيت القديمة هي منخفضة فعلاً، في حين أن الإيجارات الجديدة هي مرتفعة جدًا، فلا بد من وضع تسويات لهذه الإيجارات مع حفظ حقوق المستأجرين، ووضع سقف أعلى وسقف أدنى لها، وسبق أن طالبنا الغرفة التجارية في القدس أن تبادر في وضع حلول لهذا الموضوع.
أيها المسلمون، النقطة الثانية: بشأن البائعين المتجولين الذين يضعون بضائعهم في الطرقات وفي الممرات مما يؤدي إلى عرقلة السير للمشاة، وبخاصة في منطقة باب العمود ومنطقة باب الأسباط، وكما تعلمون أن رسولنا الأكرم قد أمرنا أن نعطي الطريق حقها، وأن نزيل الأذى عنها، كما لا يجوز شرعًا وضع مواد البناء في الطرقات، ونحن كمسلمين نؤمن بأن الأرزاق بيد الله العلي القدير، والله يرزق من يشاء بغير حساب، وإن وضع البضائع في الطرقات لا يزيد في الرزق، بل فيه إثم، لعرقلة سير الناس، كما أن ديننا الإسلامي العظيم يدعو إلى النظام، ويدعو إلى النظافة.(1/904)
أيها المسلمون، النقطة الثالثة والأخيرة: بشأن مقبرة باب الرحمة واليوسفية، هذه المقبرة المحاذية للجدار الشرقي للمسجد الأقصى المبارك، والتي دُفن فيها الصحابة والتابعون والعلماء، والتي تخص المسلمين وحدهم منذ خمسة عشر قرنًا، وإن هذه المقبرة محدّدة المساحة، فلا مجال للتوسع فيها، كما تزعم البلدية الإسرائيلية، وكما تزعم ما يسمى بسلطة الحدائق الوطنية، أما ما يجري داخل المقبرة فهو أمر يخصّ المسلمين، ولا علاقة للبلدية به، كما أن المقابر الإسلامية لا تدخل ضمن الحدائق والأماكن العامة، فالمقابر الإسلامية لها حرمتها، كما أن المقابر التي تخص الديانات الأخرى لها حرمتها.
ثم ماذا فعلت وزارة الأديان الإسرائيلية في المقابر اليهودية المقامة على أرض الأوقاف في رأس العامود؟! لقد قامت بتغييرات كثيرة وكثيرة، ولا اعتراض لا من البلدية ولا من سلطة الحدائق العامة.
أيها المسلمون، إن المقابر الإسلامية تقع ضمن صلاحيات الأوقاف، وندعو المواطنين للتعاون مع الأوقاف بالمحافظة على هذه المقابر وتنظيفها من الحشائش وترتيبها وتوضيح الممرات والمسارات، حتى لا يسير الناس على القبور، فإنه يحرم شرعًا الجلوس والسير على القبور، كما يحرم شرعًا نبشها وكسر عظامها، كما يحرم شرعًا سرقة هذه المقابر، وقد سبق أن صدرت فتوى شرعية بهذا الموضوع، وإن الإهمال بالمقابر يؤدي إلى انتهاك حرمتها، فليحافظ كل واحد منكم على القبور التي تخصه.
ــــــــــ
حِكم تأخر النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
-----------------------
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
10/1/1418
جامع جامعة الملك فهد
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- ذكر الآيات القرآنية الدالة على انتصار الحق واندحار الباطل. 2- أسباب تأخر نصر الله للمؤمنين 3- من أسباب النصر.
-------------------------(1/905)
الخطبة الأولى
أيها الإخوة، يقرأ المسلم في القرآن عشرات الآيات التي تؤكد انتصار الحق واندحار الباطل، فآيات تعد المؤمنين بالنصر والتمكين كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، وآيات تبين أن نصر المؤمنين وعد من الله، ووعد الله حق لا يتخلف: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وآيات تنفي أن يكون للكافرين سلطان على المؤمنين: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، وأخرى تؤكد أن الكفرة مهزومون مغلوبون غيرُ معجزين: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59]، وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [النور:57]، وتأمل المؤكدات اللغوية في الآيات.
وهذه الآيات كلها محكمة غير منسوخة، لكن واقع أمة الإسلام اليوم يجعل المسلم في حَيرةٍ من أمره، فبالمقياس المادي والمنظور القريب لا يرى المسلم ملامح النصر تلوح في الأفق، بل لا يرى إلا الذلة والهوان وتسلط الأعداء والوِصاية على الأمة والاستخفاف بها.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
ولولا هذه الآيات والأحاديث الواعدة لأصيب الإنسان باليأس والقنوط. وهنا يبرز سؤال، بل تحصل فتنة للمسلم: أين نصرُ الله؟! ومتى يتحققُ وعدُ الله؟!
أقول: إن الله لم يرد أن يكون حَمَلةُ دعوتِه وحُماةُ دينه من التنابلةِ الكُسالى الذين يجلسون في استرخاء ينتظرون نصرًا سهلاً هينًا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء.
نعم، يجب أن يفعلوا ذلك، لكن هذه العبادةَ وحدها لا تؤهّلهم لحمل دعوةِ الله وحمايتِها، كما أن النصرَ السريعَ الهينَ الذي ينزل على أناس غيرِ مؤهلين لم يبذلوا من أجله شيئًا سيكون رخيصًا في نفوسهم، ولن يبذلوا جهدًا للحفاظ عليه، فما جاء هينًا ذهب هينًا ولا بد، ولقد حاول سيد رحمه الله استلهام حِكم تأخرِّ النصرِ، فذكر عدة حِكم منها:
فقال: "النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها"، نعم هذه أهمُ الحكم؛ فالأمة لم تنته بعد من تيهها، فلقد غُيِّبت حينًا من الدهر عن دينها، ورفعت شعارات فكرية تصطدم مع عقيدتها أغلى ما تملكه، ومارست كثيرًا من الشركيات السلوكية، وما زال أهم مقتضيات التوحيد مائعًا أعنى: الولاء، يقول رسول الله : ((إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله))، فما زال ولاء(1/906)
الأمة متشتّت في الشرق والغرب، بل أصبح وللأسف تعاملنا مع بعضنا بعكس ما وصف الله المؤمنين في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وأصبح بأسنا بيننا شديدا، بل أشدّ مما على اليهود، كما قال الشاعر:
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضًا عيانًا
وقال: "قد يبطئ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنةُ آخرَ ما في طوقِها من قوةٍ، وآخرَ ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا إلا بذلته رخيصًا في سبيلِ اللهِ". أقول: ليسأل كلّ واحدٍ منا نفسه: ماذا بذل؟ وما حجمُ تضحياته من أجل نصرة دينه، أو تأييد العاملين لنصرة الدين مقارنة بما يبذله من أجل دنياه؟! لو أن النصر تحقق لنا الآن ونحن نؤثر عليه دنيانا لن تكون له أيُ قيمةٍ في نفوسنا، بل سنقول: ها نحن قد نُصرنا ونحن محادّين لدينه ومشاقّين له، فما قيمةُ العبادةِ والطاعةِ إذًا، وبعد نزول النصر ـ بلا شك ـ لن نكون حريصين على المحافظة عليه؛ لأن ما جاء هينًا وبلا بذلٍ سيذهبُ كما جاء.
وقد يبطئ النصر حتى تجرّب الأمة آخرَ قواها، فتدركَ أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل النصر من عند الله.
إن القوةَ الماديةَ رغم أهميتها إلا أنها ليست هي الأساس، بل هي تبع، وفي يوم حنين اغترّ المسلمون بالقوة المادية، فتلقّوا درسًا قاسيًا، وعُلِّموا أن النصر لا يعتمد على القوّة المادية بالدّرجة الأولى، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]. لقد تلقّوا الهزيمة أوّل الأمر، وفرّ القوم حتى لم يثبت مع رسول الله إلا قرابةُ مائةِ، وقبل قليل يقول أحدهم: لن نهزم اليوم من قلة، اغترارًا بالعَدد، وعلى هؤلاء القلةِ الثابتةِ مع رسول الله نزلَ النصرُ وأسِرَ ستة آلاف أسيرا، ولكثرة الغنائم كان يعطي الرجل من المؤلفة مائة من الإبل، قال تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26]. ...
وقد يبطئ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنةُ صلتَها بالله، نعم يجب أن تركن إلى الله وحده، وتكفرَ بأي سند سوى الله، وتؤمِن يقينًا بقول الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وبقدر قوة الصلة بالله والركون إليه والتوكل عليه تكون سرعة تنزل النصر، لذلك كانت وصيةُ الخلفاءِ لجيوشهم حثَهم على تقوى الله وتحذيرَهم من المعاصي، فمن وصايا عمر لقادته: (آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، آمرك ومن معك أن تكون أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليس كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا فلن نغلبهم بقوتنا).(1/907)
-------------------------
الخطبة الثانية
من الحكم أنه قد يبطئ النصرُ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرّد بعد من حظوظ نفسها، كثيرٌ منا يريد إسلامًا بمقاس معين يتكيّف مع رغباته، فإن تعارض مع هذه الرغبات طوَّعَه وإلا تركه، وأظهر حظوظ النفس حب الدنيا والرياء والسمعة والانتصار للنفس حمية والاستحسان العقلي، ومن هنا كان الشرك والرياء والبدعة محبطة للعمل، قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))، وقال رسول الله : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وسئل رسول الله عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه: فأيها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة هي العليا فهو في سبيل الله)). نعم، ليس لحزب أو جماعة أو طائفة أو قبيلة، ويوم حصل جزء من النصر والنفوس لم تتجرد من حظوظ نفسها وجه المسلم سلاحه الذي كان موجها إلى الكفرة لأخيه المسلم ـ اللهم إنا نعوذ بك من شماتة الأعداء ـ لأن الباطل لم ينكشف زيفه أمام الناس، والله يريد إظهار الباطل عاريًا للناس حتى لا ينخدع به أحد بعد ذلك.
يا لها من حكمة عظيمة، قد يدّعي الصلاح والإصلاح من هو عدوّ للصلاح والإصلاح، ويمثل الدور بإتقان، ويظهر غَيرتَه على الدعوة، فيغترّ كثير من الناس بعدو الله ولا يشكّون فيه؛ لأن اسمه محمد أو أحمد، بل قد يتهم غيره بالعمالة والخيانة، فيلتبس الأمر على الناس، وقديمًا اتهم فرعون اللعين موسى الكليم عليه السلام بالخيانة والتآمر: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فيتأخر النصرُ حتى ينكشفَ الباطلُ كلُه ويتعرّى، وما يعود أحد يغترّ به، فيأذن الله بزهوق الباطل وظهور الحق، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحقّ والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ لأن الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة فيه بقايا خير يريد الله أن يستخلص هذا الخير، ليُهلكَ بعد ذلك الشرَ المحضَ.
أيها الإخوة، إن النصر آت لا محالة كما وعد الله، لكن السؤال الذي ينبغي أن يسأل كل واحد منا نفسه: هل أنا ممن استحق أن يتنزل عليه نصر الله؟ وهل أنا ممن يحسِبُ الأعداءُ له حسابًا، أم أنني ممن يتمنى الأعداء أمثاله؟ وهل أنا صفر ذو قيمة في الصراع بين الحق والباطل، أم أني من الأصفار التي لا يؤبه بها لأني من أصفار الشمال؟ ليس الذي يحدد ذلك شهادتك أو مركزك أو جاهك، كلا، بل الذي يحدد ذلك أهدافك وأمانيك وبرامجك، هل هي تدور مع مصلحة الإسلام أينما دار، أم تدور مع مصالحك الشخصية؟(1/908)
ارتفع ـ يا عبد الله ـ لمستوى التحدّي الذي تتعرّض له أمتك أن نكون أو لا نكون، عش لدينك ولأمتك تعش كبيرًا وتمت عزيزًا ويخلد ذكراك، وإن أبيت إلا أن تعيش لمصالحك الشخصية فستعيش صغيرًا وتموت ذليلاً وتعدّ في عداد الأموات وأنت حيّ، وصدق الشاعر:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات
أو كما قال شوقي:
الناس صنفان: موتى في حياتهم ... وآخرون ببطن الأرض أحياء
ــــــــــ
شهر النصر
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, فقه
الصوم, القتال والجهاد, المسلمون في العالم, غزوات
-----------------------
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- غزوة بدر. 2- فتح مكة. 3- رمضان شهر الصبر والتقوى. 4- حال الأمة الإسلامية اليوم. 5- وصف مخططات أعداء الدين. 6- أسباب النصر على الأعداء. 7- واجبنا نحو إخواننا المستضعفين في دينهم.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقو الله أيها المؤمنون، واعلموا أن شهر رمضان لم يكن عند سلفنا شهر صيام وقيام ودعاء واعتكاف وعمرة وإكثار من العبادة فحسب، بل كان شهر جهاد ومجاهدة ودعوة وعمل، فقد سطروا فيه أعظم الانتصارات وأكبر الفتوحات، وإن ليالي هذا الشهر وأيامه تحكي ما حققته الأمة من انتصارات وأمجاد، فقد كان في هذا الشهر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في غزوة بدر الكبرى التي هي شامة في جبين التاريخ.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخرًا ... فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدأ(1/909)
فقد فرق الله في هذه الغزوة بين الحق والباطل، فنصر الله دينه، وأظهر نبيه، وأطاح رؤوس الكفر والشر والظلم والطغيان، قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]. فكانت هذه الغزوة صفحة من صفحات المجد المشرق في تاريخ هذه الأمة.
وقد منّ الله تعالى على الأمة في هذا الشهر أيضًا ففتح بيته لنبيه، وطهّره من أوضار الشرك ولوثات الكفر ومظاهر الظلم والاستكبار، فكان حديثًا عظيمًا كبيرًا ليس في تاريخ الأمة فحسب، بل وفي تاريخ البشرية كلها، كيف لا؟! وقد أعزّ الله بهذا الفتح دينه ورسوله وحزبه، واستنقذ به بلدَه وبيته من أيدي الكفار والمشركين، وقد استبشر بهذا الفتح أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجًا، وانحسرت به الوثنية في جزيرة العرب. وما انفك هذا الشهر المعطاء أن يكون محلاً ومضمارًا لأمجاد وبطولات وانتصارات لهذه الأمة عبر التاريخ، وهذا يؤكد أن شهر الصيام له أثر بالغ في تحقيق النصر وصناعة المجد، وكيف لا يكون كذلك؟! وهو شهر الصبر والتقوى؛ أما الصبر فإن من الكلام المأثور: "الصوم نصف الصبر"، فالصوم يربي المسلم على ترك المحاب والملاذ والشهوات، ولذا قال النبي : ((قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي))(1)[1]، أما التقوى فإن الله إنما فرض الصيام على عباده لتحقيقها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وبالصبر والتقوى يحقق العبد أول درجات النصر الكبرى وأسبابه، قال الله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]. فإذا صبرت الأمة واتقت الله سبحانه وتعالى وقاها شر عدوها ودافع عنها، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
وهذا مما يؤكد أهمية تحقيق المقصود من الصيام، فإن المتقدمين لما حققوا غايات الصيام ومقاصده جعل الله شهر صومهم شهر عِزّ ونَصر وتمكين ومجد. ولما ضعف صبر الأمة وقلّ تقواها وتمسكها بدينها وتركت الجهاد جعلها الله غرضًا لأعدائها، فأحل بها الكفر أعظم الضيم، وأنزل بها الأعداء ألوان الكيد والتعذيب:
أحل الكفر بالإسلام ضيمًا ... يطول به على الدين النحيب
فحقٌّ ضائع وحِمى مباح ... وسيف قاطعٌ ودم صبيب
أيها المؤمنون، إن المتأمل لحركة المد والجزر في تاريخ الأمة لا يعتريه شك أن الأمة اليوم تمر بأصعب أيامها وأشد أحوالها، فإنه وإن كان قد نزل بالأمة نكبات وحلت بها الكوارث والأزمات فإنها لم تزل على ثقة بدينها وربها، معتزة بالإسلام، فخورة بالإيمان، لذا فإنها سرعان ما وثبت من سباتها وانقشعت كروبها بمراجعة دين ربها.(1/910)
أما اليوم، فإن كثيرا من المسلمين أُصِيبوا في إيمانهم ودينهم، واجتمع عليهم أعداؤهم، فرموهم عن قوس واحدة، كما أخبر النبي حيث قال: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُق كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا))، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ))، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
وواقع الأمة اليومَ يجسّد هذا الحديث ويوضحه، فأعداد المسلمين كثيرة، ولكنها لا تفرح صديقًا، ولا تخيف عدوًا، فهم غثاء كغثاء السيل، وأما أعداؤنا من اليهود والمشركين والنصارى والمنافقين فقد جمعوا فلولهم، ورصوا صفوفهم، وجمعوا كلمتهم على حرب الأمة وتدميرها وإذلالها ونهب ثرواتها.
فالوثنيون والملحدون ـ ممثلون بالعالم الشرقي ـ يسحقون المسلمين بالحديد والنار، يتربصون بالأمة الدوائر، ويكيدون لها المكائد، ولا يجدون فرصة ينفّسون فيها عن أحقادهم إلا فعلوا، وما تخفي صدورهم أكبر، وما يفعلونه بإخواننا في كشمير وفي الهند وفي بورما وفي بلاد الشيشان أكبر شاهد على ضراوة عداوتهم.
أما الصليبيون ـ ممثلون بالعالم الغربي الكافر ـ فهم ورثة الأحقاد والضغائن على الأمة، فالصليبيون ضائقون بالإسلام منذ ظهوره، وقد اشتبكوا مع المسلمين في حروب طويلة مضنية، إلا أن التاريخ لم يشهد حدة في العداء وخبثًا في الأداء وإصرارًا وتصميمًا على تدمير الأمة وإفنائهما كما يجرى منهم اليوم، فها هم خبراؤهم وكبراؤهم وساستهم يتنادون لحرب الإسلام، وما هذا الذي يجري في بلاد البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد الإسلام إلا ثمرة أعمالهم وجني أحقادهم، وما هذه الهيمنة السياسية والتسلط الاقتصادي والاستكبار الحضاري على المسلمين إلا قليل من كثير وغيض من فيض، وقد صدق القائل:
عاد الصليبيون ثانية ... ... وجالوا في البطاح
عاثوا فسادًا في الديار ... ... كأنها كلأ مباح
أما اليهود فقد زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي، وهم سماسرة الكيد والمكر والخبث، وقد ضربوا أفظع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم والتسلط عليهم والتلاعب بهم وانتهاك مقدساتهم، ولا عجب في ذلك فهم الذين قال الله عنهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، وهم الذين آذوا رسول الله ودبروا له المكائد ونقضوا العهود والمواثيق، وهل ما يجري اليوم في فلسطين الغالية وفي غيرها من البلاد إلا من صنائعهم؟! فعجبًا لمن نسي الكتاب، وركض وراء السراب، بطلب الصلح أو السلم مع اليهود أرباب الغدر والمكر.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إيمان وإسلام(1/911)
أما المنافقون فهُم أشدّ الأعداء خطرًا وأعظمهم فتكًا، لذا قال الله تعالى عنهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، لبسوا مسوح الضأن على قلوب الذئاب، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، دعاة على أبواب جهنم، يصدّون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، تلونت راياتهم، وتشكلت شعاراتهم، فتارة قوميون، وتارة وطنيون، وتارة علمانيون، تعددت الأسماء والكفر واحد، عاثوا في الأمة فسادًا ودمارًا، فهل التغريب الذي تعيشه الأمة إلا من صنعهم؟! وهل تنحية الشريعة وتطبيق القوانين الوضعية إلا من أعمالهم؟! وهل محاربة الدين وأهله وعلمائه ودعاته إلا تجارتهم؟! فللّه كم من راية للدين قد نكسوها؟! وكم من شعيرة من شعائره قد عطلوها؟! وكم من عالم أو عامل أو داعية لله قد آذوه؟! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، هؤلاء هم أعداء دينكم الظاهرون والمستترون، سعوا إليكم بالبوائق والأزمات، وجرمكم الذي اقترفتموه أنكم رضيتم بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المؤمنون، إن أمتكم مغزوةٌ من داخلها، ومحاربة من خارجها، أما غزوها من الداخل فذلك بالمنافقين المتربصين؛ من العلمانيين و أشياعهم الذين أضعفوا إيمان الأمة بربها ودينها بشبهاتهم وشهواتهم.
وأما حربها من خارجها فبهذا التداعي العالمي لأمم الكفر من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين على أمة الإسلام، ولن تنجو الأمة من هذين الشبحين إلا بإقبالها على ربها، ورجوعها إلى دينها، وإعلائها رايات الجهاد بأنواعها؛ جهاد النفس وجهاد العُصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، فإن ما أصاب الأمة ما أصابها إلا لما هجرت ظهور الخيل وأخذت بأذناب البقر، ويدلّ على ذلك ما رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن عبد الله بن عمر عن النبي قال: ((إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فعلينا ـ أيها الإخوة ـ الأخذ بأسباب النصر وسننه للخروج من مآسي اليوم وتحقيق آمال الغد، فإن النصر لا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس.(1/912)
فمن هذه السنن أن تعلم أن النصر من عند الله تعالى، كما أخبرنا مولانا حيث قال: وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فمهما طلبنا النصر من غيره أذلنا الله وخيب سعينا، وما أحوجنا إلى أن نجأر إلى الله تعالى بما قاله الأول:
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم وهل إلا عليك المعول؟!
ومن أسباب النصر أن ننصر الله تعالى بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره وإعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله، قال الله تعالى في بيان المستحقين للنصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
ومن سنن النصر أنه آتٍ لا محالة للمؤمنين الصادقين، وأن التمكين للإسلام متحقق رغم العوائق والعقبات، فالدين دين الله، والله ناصر دينه وأولياءه، قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. لكن هذا الوعد لا يعني أن لا يبتلى المؤمنون بالنكبات والأزمات، ولا يعني أن لا تصاب الأمة بالمصائب والكوارث، بل كل هذا لا بد منه، ليميز الله الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وقد يبتلي الله تعالى الأمة بتأخير النصر أو تمكين الأعداء بسبب الذنوب والمعاصي، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فإذا أصررت أنا وأنت على تقصيرنا وذنوبنا فهل نرجو أن يصلح الله الأحوال ويرفع عنا هذا الذل والصغار والانكسار؟! إن هذا لمن المحال، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]. فإن لم يكن منا نزوعٌ عن الذنوب وإقلاع عن المعاصي ونصرٌ للدين وأهله، فإن الله ينصر دينه بغيرنا، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:11].
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن من أقل ما يجب علينا تجاه إخواننا أن نشعر بما يشعرون به من ألم وضيق، فإن النبي قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه.
وإن من واجبنا تجاه إخواننا أن ننصرهم بما نستطيع من مال، ونعينهم به على جهاد أعدائهم وأعدائنا، ونكسو أولادهم، ونطعم جائعهم، ونخلفهم في أهليهم وذويهم، وهذا هو أقل ما يجب علينا تجاههم، فأنفقوا في سبيل الله فإنها من أعظم النفقات، قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ(1/913)
كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وقال : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم.
وما زال السلف الصالح رضي الله عنهم يبذلون جهدهم في الإنفاق في سبيل الله، والتقرب إلى الله تعالى بمساعدة الغزاة والمجاهدين، وإدخال السرور عليهم، بما تصل إليه استطاعتهم؛ قليلاً كان أو كثيرًا، حتى إن بعض نسائهم تصدقت بشعرها عقالاً لفرس في سبيل الله، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (6938).
ــــــــــ
التوكل على الله سبيل النصر
-----------------------
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
-----------------------
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/1/1426
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- من صور الصبر والتوكل في معركة بدر وحمراء الأسد. 2- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 3- موعدة بدر الصغرى. 4- أثر الخشية في التغلب على المحن. 5- محاولة اليهود تشويه صورة المسلمين وتاريخهم. 6- تواصل الاعتداءات اليهودية على مقابر المسلمين وأراضيهم. 7- خطورة المحاولات اليهودية للنيل من المسجد الأقصى.
-------------------------
الخطبة الأولى(1/914)
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، قد ذكرت كتب التفسير وكتب السيرة النبوية المطهرة أنه بعد أن وقعت أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل انتشى أبو سفيان زعيم المشركين في مكة المكرمة وقتئذ فرحًا، ونادى بأعلى صوته: يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، أي: نتلاقى في العام القادم في مكان بدر، فأجابه مباشرة: ((نعم، إن شاء الله)).
أيها المسلمون، لما رجع الرسول إلى المدينة المنورة أصبح حِذَرًا من زحف المشركين إلى المدينة ليتمّموا غلبتهم وفرحتهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضوان الله عليهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يُعرف بحَمْرَاء الأسَد، وكان ما توقّعه الرسول قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المكرمة، ولكن لما علّموا بخروج النبي من المدينة باتجاه مكة ظنوا وتوهموا أنه قد حضر معه جيش كبير، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم، ورجعوا القَهْقَرَى إلى مكة، وعَدَلوا عن التوجه إلى المدينة.
أيها المسلمون، بينما كان في موقع حَمْرَاء الأسَد أُلقِي القبضُ مرّة أخرى على المشرك أبي عزّة الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرًا في غزوة بدر الكبرى، وقد مَنّ عليه الرسول وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرًا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبا عزّة الشاعر لم يلتزم بوعده وعهده، فاستمرّ في نظم الشعر ضد الإسلام والمسلمين، فأمر بقتله، فأخذ أبو عزّة الشاعر يتوسل ويتَمَسْكَن ليمنّ عليه الرسول مرة أخرى، فقال له: ((لا والله، لا تمسح عارضيك بالكعبة وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين)). هذا، وتعتبر غزوة حمراء الأسد أول رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، هذا درس بليغ للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ، وليس كِيْسَ قُطْنٍ، ينبغي عليه أن لا يُلدغ من جُحر واحد مرتين. أما الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي فقد لُدِغت من جُحر واحد مرات ومرات، ولم تتعظ إلى الحين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، لقد تمكّن رسولنا الأكرم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عَسْكَرَ المسلمون فعلاً في موقع بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان(1/915)
والزمان اللذين سبق لأبي سفيان أن حدّدهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إخافة وإرجاف المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل، وإن الحرب النفسية والإشاعات لم تؤثر على المسلمين، واستمروا متوجّهين إلى مكان بدر وهم يردّدون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فازداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم.
أيها المسلمون، إذا وقع المسلم في كرب شديد فإنه يلجأ إلى الله رب العالمين داعيًا: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ لقول رسولنا الأكرم : ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))، وقد سبق وأن ردّد هذا الدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أُلقِي في النار، فكانت النار بردًا وسلامًا عليه.
أيها المسلمون، لقد خرج المسلمون فعلاً، ومكثوا في موقع بدر ثلاثة أيام، وقاموا بأعمال تجارية بأمن وأمان، ثم عادوا غانمين سالمين، ويشير الله عز وجل إلى ذلك بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه مع العمل الجاد، فإنه لا ملجأ إلا إليه سبحانه وتعالى، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله رب العالمين يُطوّع له المخلوقات كلها، سئل الإمام الحسن البصري رحمه الله: كيف تخاف من ربنا؟ فقال للسائل: "لو ركبت أنت البحر، فتحطّمت سفينتك، فلم يبق منها إلا لوح، فأمسكت به فوق الموج العالي، كيف يكون حالك؟" قال السائل: خوف شديد، قال البصري: "أنا هكذا مع الله، في خوف منه ليل نهار".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم ييأس المسلمون مما حلّ بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يستسلموا، لم يتهرّبوا من المسؤولية، لم يتخاصموا على الكراسي والمناصب والعروش، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا بمؤتمرات سياسية ولا بقرارات، لم يُوكلوا أمرهم للأوهام والتمنيات.
وما نيل المطالب بالتمنّي ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منال ... إذا الأقدام كانت لهم رِكَابا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد مرّت مِحَن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية؛ لأنهم كانوا يخافون الله ويخشونه، وقد ورد عن البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أنه كان يحثّ جُنده على تلاوة القرآن الكريم، وكان يطرد اليأس من قلوب ونفوس المواطنين امتثالاً لقوله عز وجل:(1/916)
وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].، فلا بد من الرجوع إلى الله العلي القدير في كل وقت وحين، وأن يدفعنا ذلك للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، ومن يرزقنا؟ إنه هو الله، ومن يميتنا ويحيينا؟ إنه هو الله، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ورد في الأثر: إن أربعة من الملائكة يحملون عرش الرحمن، وإن هؤلاء الملائكة سَبَق أن منحهم الله عز وجل قوة السماوات والأرض والجبال والرياح، إلا أنهم لم يتمكّنوا من حمل العرش حتى قيل لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحينما قالوها استطاعوا حمل العرش.
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، هناك أربع نقاط تهمّ أمور المسلمين ومصالحهم العامة، أشير إليها بإيجاز:
أولاً: محاولة التشويه لصورة العرب والمسلمين بأنهم يهتمّون بالجنس ويشربون الكحول، وأنهم حمقى لم يقدّموا أيّ مساهمة للإنسانية. هذا ما يزعمه محاضر يهودي في جامعة حَيْفا، وكان الأحرى بهذا المحاضر اليهودي أن يُحاسب نفسه قبل أن يحاسب وينتقد غيره، ويتوجب عليه أن يكون موضوعيًا وأمينًا في الحكم على غيره، وأن يطلع على الحضارة الإسلامية من مصادرها الموثوقة قبل أن يتطفّل ويتكلّم في هذا الموضوع، والأنكى من ذلك أن الطالب الذي ناقش هذا المحاضر واعترض على هذه الافتراءات ستحاكمه إدارة الجامعة، وتحيله إلى لجنة تأديبية، أي: إن موقف إدارة الجامعة كان مع المحاضر ضد الطالب العربي. وإننا إذ نقف إلى جانب هذا الطالب الذي تصدّى للمحاضر الجاهل العنصري، ونطالب الأساتذة والطلاب العرب في جامعة حَيْفا وغيرها من الجامعات أن يبرزوا الوجه الحضاري للشريعة الإسلامية عبر التاريخ والإنجازات التي قدمتها للحضارة الإنسانية جمعاء.
ثانيًا: المقابر الإسلامية في فلسطين، هناك انتهاكات متواصلة لحرمة المقابر الإسلامية، وكان من آخرها ما أُثير حول مقبرة الاستقلال في حَيْفا، وقد أصدرنا مؤخّرًا فتوى شرعية تأكيدًا لفتاوى سابقة، تتضمن وجوب المحافظة على حرمة هذه المقابر وصيانتها من العبث ونبش القبور، وذلك بإقامة أسوار حولها وإعادة دفن الموتى.
ثالثًا: توسيع المستوطنات ومصادرة آلاف الدونمات، لقد قررت الحكومة الإسرائيلية خلال هذا الأسبوع بناء 6400 وحدة سكنية في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى توسيع المستوطنات في محيط مدينة القدس، وشقّ طرق جديدة للربط فيما بين المستوطنات لمحاصرة مدينة القدس وخنقها، وهذا يؤدي إلى مصادرة آلاف الدونمات من أراضي المواطنين الفلسطينيين، وهذا(1/917)
يؤكد أن السلام المطروح هو سلام مزعوم للخداع وللمراوغة وكسب الوقت، ونؤكد على عدم شرعية هذه المستوطنات، وأن حق المواطنين في أراضيهم سيبقى قائمًا إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، رابعًا وأخيرًا: المسجد الأقصى المبارك تاج القدس ودرّة فلسطين ورمز ثباتنا ومرابطتنا، تواصل الشرطة الإسرائيلية تحذيراتها من هجوم محتمل للمتطرفين اليهود. ونتساءل: هل الشرطة الإسرائيلية لا تعرف هؤلاء المتطرفين؟! ولماذا تتركهم يصِلُون ويفسدون ويعربدون دون أن تعتقلهم اعتقالاً على الأقل؟! وهل يستطيع هؤلاء المتطرفون تنفيذ مخططاتهم العدوانية دون علم الحكومة الإسرائيلية المحتلة؟! المسؤولة [مسؤولية] كاملة عن أي مسّ بحرمة المسجد الأقصى المبارك، كما نحمّل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي المسؤولية لحماية المقدسات وتحرير البلاد والعباد.
ــــــــــ
يوم النصر العظيم وفضل يوم عاشوراء
-----------------------
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الصحابة, فضائل الأزمنة والأمكنة
-----------------------
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
9/1/1426
جامع النويعمة القديم
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- البلاء وحِكمه. 2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون. 3- دروس وعبر مستفادة من قصة موسى مع فرعون. 4- مشروعية صيام يوم عاشوراء. 5- فضل صيام يوم عاشوراء، وفضل شهر الله المحرم . 6- بدع ومخالفات تقع في يوم عاشوراء. 7- مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة رضي الله عنهم.
-------------------------
الخطبة الأولى(1/918)
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، ثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه، من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه.
أيها المسلمون، عاشوراء يوم النصر العظيم، ويوم الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قديم قدم البشرية ذاتها، ولن يزال مستعرًا مشبوبًا إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]. فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم وجهادهم وبذلهم. فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق, ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل. ولقد قصَّ الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين.
عباد الله، ومن هذه القصص العظيمة قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر في عهده، والتي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعًا، وهي أكثر القَصص القرآني تكرارًا؛ وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول من صناديد قريش وفراعين هذه الأمة, ولما فيها من التسلية له وللمؤمنين حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة والدروس والحكم الباهرة والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه، فقد قيل لفرعون: إن مولودًا من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصًا، ثم لم يزل عددهم ينمو ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.
وعندما أخبِر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل، أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذرًا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر، وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. واحترز فرعون كل الاحتراز أن لا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه من ساعته. وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفًا عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهمّ والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف(1/919)
أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله جل وعلا ألهمها بما يثبّت به فؤادها، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقًا وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، ألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خاليًا من الطّمأنينة، خاليًا من الرّاحة والاستقرار، ولولا أنّ الله ربط على قلبها بالإيمان وشدّ عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحفه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا
التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف، ولكن رب الأرباب ومالك القلوب والألباب يلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضًا من الرحمة والرأفة والحنان على هذا الطفل الرضيع، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:9]، وكانت آسيا عاقرًا لا تلد، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: كدناهم هذا الكيد وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدوًا وحزنا وهم لا يشعرون.
وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير, فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته، ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو لا يزيدهم إلا عنتًا وحيرة ورفضًا واستعصاءً، وبينما هم كذلك إذا بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره وتستطلع خبره، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:11، 12]، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنَهَم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله عز وجل إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].
وما زالت الأيام تمضي والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكمًا وعلمًا، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحد من أهل بيته، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14].(1/920)
وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوف من الطلب، ففر هاربًا إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلمه من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:21-24]، وادعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:4]، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:118-122]، ولما انقطعت حجة فرعون وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه لجأ إلى القوة والبطش والتعذيب والتنكيل والملاحقة والتشريد وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة وخذله البرهان وخاف أن يظهر الحق ويتمكن أهله ورواده.
ثم أرسل الله عز وجل على فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة، من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ولكنها ـ والعياذ بالله ـ لم تزدهم إلا عنادًا واستكبارًا وظلمًا وعدوانًا، يقول الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ولما تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام، فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه وجند جنوده من شتى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:53-56].
فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون [الشعراء:61]، فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم، فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق ـ بإذن الله ـ اثني عشر طريقًا يابسًا، وصار هذا الماء السيال وتلك الأمواج العاتيات كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه وتكاملوا خارجين وتكامل فرعون وقومه داخلين أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين، وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ(1/921)
بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:77-79]، وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
ويستفاد من هذه القصة أن العاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51، 52].
ويستفاد منها كذلك أن الباطل مهما انتفخ وانتفش وتجبر وتغطرس وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه أو يرد كيده وباطله أو يهزم جنده وجحافله فإن مصيره إلى الهلاك وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، ولكنه حين حل به العذاب لم يغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:25، 26].
فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم وتحقق هذا النصر المبين؟! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وقد كان صيام يوم عاشوراء واجبًا قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة.
تقول حفصة رضي الله عنها: أربع لم يكن رسول الله يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر. رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم. متفق عليه.(1/922)
وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: ((صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن ابن عباس قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال: ((فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمت التاسع))، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ، وفي صحيح مسلم أيضًا: ((خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده)).
قال ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم". وبناءً عليه فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب، وإن صمت يومًا قبله ويومًا بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصًا إذا كان مشكوكًا في وقت دخول الشهر، ولأن السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر المحرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)). وإن وافق عاشوراء يوم الجمعة أو السبت فلا بأس بصيامه في أحدهما؛ لأن النهي عن إفراد الجمعة أو السبت بالصيام إنما هو لمن صام من أجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام في أحدهما سبب شرعي يقتضيه كأن يوافق يوم عاشوراء أو يوم عرفة فلا حرج في الصيام حينئذ.
فاحتسبوا ـ أيها المؤمنون ـ وارغبوا في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمة الله ومغفرته، وجددوا لله تعالى التوبة في كل حين. اللهم تب علينا واعف عنا وتجاوز عن خطيئاتنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره، ما علمنا منه وما لم نعلم. كما نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد: أيها المسلمون، إن لله سبحانه يختص بفضله من يشاء من عباده، وله سبحانه أن يفضل بعض الأزمان على بعض، وأن يخصها بمزيد عناية وكرم، ومن ذلك ما اختص به شهر محرم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ(1/923)
عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماوات وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
أيها المسلمون، لقد أنصتّم في الخطبة الأولى قصة موسى والطاغية فرعون، وكذلك فضل اليوم العاشر من شهر الله المحرم الذي وقعت فيه تلك الحادثة العظيمة.
ثم اعلموا أن من المفارقات العجيبة ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضًا من قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا، ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين وما يقومون به من تعذيب أنفسهم وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين ولطم خدودهم ونتف شعورهم ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة والمنكرات الظاهرة ومن كبائر الذنوب ـ يا عباد الله ـ التي تبرأ رسول الله من مرتكبيها فقال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) متفق عليه، وعن أبي موسى أن رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. متفق عليه. والصالقة هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب، والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها، فكل عمل يدل على الجزع والتسخط وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة وتشويه لصورة الإسلام وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه، وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وأن هذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام.
وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار وإعلان للبراءة منهم، وهذا ـ لعمرو الله ـ من أعظم الضلال وأنكر المنكرات، ويقابل هؤلاء فرقة أخرى ناصبوا الحسين العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيدًا، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة والضلالات المنكرة، والبدعة لا تعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة، وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين ، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم".
فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعًا، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد(1/924)
رسولها ؛ ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته وتبليغ هديه وسنته، ويدينون لله عز وجل بمحبتهم كلهم والترضي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعًا مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، وإن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله وجهادهم معه، رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي الكريم، كما أمركم بذلك المولى العزيز الرحيم، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنا نسألك أن تنصرنا على أعدائنا حتى نسعد ونسر بظهور دينك...
ــــــــــ
النصر أسبابه ومقوماته
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
-----------------------
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
30/6/1426
المسجد الأقصى
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- وقفة محاسبة مع حال أمتنا الإسلامية. 2- حالنا مع الدعاء. 3- أسباب النصر وشروطه. 4- الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة. 5- واجب العلماء والدعاة والصالحين. 6- الممارسات الإسرائيلية في القدس، والنشاط الاستيطاني. 7- الغلبة لهذا الدِّين.
-------------------------
الخطبة الأولى(1/925)
عباد الله، لماذا ندعو الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، أن يكتب لنا النصر ولا يستجاب لنا؟ نتوجه إليه بقلوب خاشعة وألسنة طاهرة وأيد ضارعة ولا يستجيب لنا؟!.
أيها المؤمنون، لماذا لا تزال أمتنا تحت الحصار؟ لماذا لا تزال تقرب من اليمين ومن اليسار؟ لماذا يظل أعداؤنا يتحكمون فينا تحكم السادة في العبيد؟
أليست أمتنا هي القائمة على الدين الحق؟! أليست هي الشهيدة على الناس؟! ألم يخاطبنا المولى تبارك وتعالى بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. أو ليست أمتنا الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر؟!
وقد وصف الله عز وجل سِوَانا بقوله: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].
إذا لماذا أصبحنا أذلاء نستجدي غيرنا وقد كنا أعزاء؟ ألم تحكم دولتنا الإسلامية العالم لقرون عديدة؟!
فما هو سبب هذا التردي والانحسار؟ ما هو سبب هذا الانكسار؟
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نعالج هذه الأمور، ونضع النقاط على الحروف، حتى نعرف من أين نبدأ وإلى أين نقف؟
عباد الله، المشكل أننا ندعو الله ونحن بعيدون عن الله، ندعو الله أن ينصر الإسلام وأن يُعِزَّ المسلمين ونحن قعود على جنوبنا، ولا نريد أن نبذل أنفسًا ولا أموالاً، ولا نضحي بغال ولا رخيص، وما هكذا يستجاب الدعاء. إنما يستجاب الدعاء من قوم بذلوا ما يستطيعون وتركوا لله ما لا يستطيعون، فالله تعالى هو الذي يكمل النقص ويسد الثغرات، لأن النصر من عنده وحده، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10].
وهذا نصر الله أصحاب طالوت وكانوا قلة، كانوا في عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وحينما رأوا جنود جالوت قال الكثيرون: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، فماذا قال أهل الإيمان ـ اسمعوا أيها المؤمنون، ماذا قالوا ـ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
انظروا ـ يا عباد الله ـ إلى هذه اللفتة الإيمانية في قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ، بمجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقوا الله، قد جعل الله لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟
هكذا يجب علينا أن نفعل أيها المؤمنون، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك، حتى ينكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدد كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا، ومن هنا يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء : (إنما تقاتلون بأعمالكم). فالأعمال فاسدة، والضعفاء(1/926)
مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة، ومشاكلنا كثيرة، وأهل العلم والصلاح نائمون وغافلون.
ألم يقل الله تعالى: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، ألم يقل سبحانه وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23]، ألم يقل عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ألم تقرؤا ـ أيها المؤمنون ـ قوله تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45، 46]؟!.
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما أصابنا وحَلَّ بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدِّين إلا رسمه؛ لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا، برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.
عباد الله، ونظرة أخرى في هذه الآيات مع قوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]. هذا هو دعاؤهم، توجهوا إلى الله وهم في قلب المعركة، وهم في ساحة القتال، هذه هي الشُحْنَةً الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه، فهو ينادي قائلاً: (ربنا)؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء.
وتأملوا ـ أيها المؤمنون ـ في قوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر، ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام حتى يواجهوا العدو بإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251].
تلك هي النتيجة التي يتمناها المؤمنون، هزيمة أعدائهم، فهل تتحقق هزيمة أعدائنا أيها المؤمنون؟ نعم سوف تتحقق باذن الله، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((ساعتان تفتح أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته، عند حضور النداء، والصف في سبيل الله)).
واعلموا ـ يا عباد الله ـ علم اليقين أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم ـ ونرجو أن يكون عارضا ويزول ـ ولو قام العلماء والأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم عهد الله الذي لا يخلف، لرأيتم الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيتم نورا يُبِهِرُ الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار، وأن الحركة التي نلمسها ونحس بها الآن في نفوس المسلمين في أغلب الأقطار، تُبشرنا بأن الله تعالى قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جمع الموحدين، وسوف(1/927)
يكون قريبا إن شاء الله. فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحت لهم التوبة وعفا الله عنهم والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى الأمة وعلمائها أن تسارع إلى هذا الخير، وهو الخير كله جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، وما يذكر إلا أولوا الألباب، قال رسول الله : ((لا تزال يد الله عز وجل على هذه الأمة وفي كنفه وفي جواره وجناحه، ما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، وما لم يبر خيارهم أشرارهم، وما لم يعظم أبرارهم فجارهم، فإذا فعلوا ذلك رفعها عنهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم الفاقة، وسلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب)). وقال: ((إذا كان ذلك لا يأتيهم أمر يضجون منه إلا أردفه بآخر يشغلهم عن ذلك)).
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، من الأمور الهامة التي تستوجب انتباه وحذر ويقظة أمتنا الإسلامية، وبخاصة نحن أهل فلسطين، قضية بيت المقدس التي قفزت إلى ساحة الأحداث الساخنة، ليس بفعل يقظة الأمة الإسلامية وإنما ـ وللأسف الشديد ـ بفعل الممارسات الإسرائيلية، والنشاط الاستيطاني المتسارع داخلها وخارجها، والأنباء التي تتحدث عن الشروع بإقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة، وبالتحديد في باب الساهرة بالقرب من برج اللقلق المجاور لباب حطة.
عباد الله، قلناها أكثر من مرة أن القدس في خطر، ولكن لا حياة لمن تنادي! والحقيقة الجلية هي أن اسقاط القدس من قضية ما يسمى مفاوضات التسوية، وتأجيل بحثها لما يسمى مفاوضات الحل النهائي ـ إن وجد حَلُّ أو بقيت قدس ـ، قد أعطت إسرائيل الضوء الأخضر للإسراع بتنفيذ مخططات تهويد المدينة المقدسة، مستغلة ضعف الموقف الفلسطيني، وعدم وجود أي موقف عربي أو إسلامي واضح وصريح ضد هذه الممارسات، وبعبارة أخرى هو استسلام للأمر الواقع.
أيها المؤمنون، إن الحديث عن إقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة ليس أمرًا جديدًا، بل هو مخطط قديم حان الوقت لتنفيذه، والإعلان عنه في ظل التواطئ الدولي ومعاداة دول الكفر للإسلام، وفي ظل أوضاع مزرية يعيشها شعبنا الفلسطيني المسلم.
فالقدس ـ يا مسلمون ـ تضيع رويدا رويدا، البؤر الاستيطانية تزداد اتساعا مساحة وعددا، حول المسجد الأقصى، وفي محيطه أكثر من خمسين بؤرة استيطانية، وفي حارات البلدة القديمة المتعددة نحو ثلاثين بؤرة، محال تجارية وعقارات تتسرب بالخفاء. الحي اليهودي الواقع في الجنوب الغربي من البلدة القديمة يحتل خمس مساحة البلدة القديمة. الحي الاستيطاني المزعم إقامته سيحتل مساحة كبيرة من القسم الشمالي الشرقي من البلدة القديمة. ومما يلفت الأنظار أن الحَيَّ الاستيطاني الجديد يأخذ الطابع(1/928)
الديني كما ذكرت الصحف ليتحدى مشاعر المسلمين، وسيقام في الحي كنيس تعلوه قبة صفراء يقولون: أنها ستضاهي قبة الصخرة المشرفة على حد زعمهم. والأنباء تتحدث عن اعتزام السلطات الإسرائيلية جلب نحو مليون يهودي خلال السنوات العشر القادمة، حيث سيتم إسكان غالبيتهم في القدس والمستوطنات اليهودية المحيطة بها.
عباد الله، ما أشبه اليوم بالبارحة؛ أبرهة الأشرم بعد أن استأثر بحكم اليمن، أراد أن ينال رضا ملك الحبشة، فبعث إليه قائلا: سأبني كنيسة كبيرة تعلوها قبة مزركشة، يتحدث عنها العرب والعجم. واسماها القليس لعلوها، وكان هدف أبرهة أن يستقطب العرب للحج إلى هذه الكنيسة بدلا من الحج إلى بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فالعرب كانوا يقدسون الكعبة ويحجون إليها قبل الإسلام، ونحن نفرط بمسرى رسول الله !. ولما دَنَّسَ العرب هذه الكنيسة استشاط أبرهة غضبا، وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة، فمذا جرى؟ محقه الله وسحق جيشه وشتت شمله ومزق جمعه، وتلك سنة الله لمن أراد لبيته بسوء، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
أيها المسلمون، ومهما طغى الطغاة، ومهما تكالبت قوى الشر والبغي والعدوان في محاربة الإسلام والمسلمين، وتدنيس المقدسات وقتل الأبرياء، فإن الغلبة لهذا الدين، وستبقى مدينة القدس درة فلسطين إسلامية العقيدة عربية الجذور، ستبقى مدينة إسلامية إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون، الأيام القادمة ستكون صعبة على أهل بيت المقدس، سيما بعد الانتهاء من بناء الجدار العنصري، والذي سيشدد على المدينة ويضعف الحالة الاقتصادية، ويزيد من معاناة التنقل والتواصل.
أيها المسلمون، هذا هو قدرنا، إن شرفنا الله بالرباط على ثغرة من ثغر الإسلام، فهنيئا لكم ـ يا أهلنا ـ بهذا الشرف الإلهي وهذه النعمة العظيمة، فكونوا على قدر المسؤولية، كونوا أهل نعمة وشكر، ولا تكونوا أهل نقمة وكفر، وتذكروا أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ــــــــــ
لماذا يتأخر النصر؟!
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
-----------------------
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان(1/929)
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- أحوال الناس عند نزول الشدائد والمصائب. 2- أسباب تأخر النصر. 3- أسباب النصر.
-------------------------
الخطبة الأولى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيّها المسلمون، يتكررُ في فتراتٍ من التاريخ لمن تأملَ انسياح الإسلامِ في الأرضِ وغلبة المسلمين، أو انحسار مدّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثريةُ المسلمين تلتزمُ بالإسلامِ في حالةِ غلبته فإنَّ القلةَ من المسلمينَ من يتمالكُ نفسهُ ويلتزمُ بمقتضياتِ العقيدة والدين ويصبرُ على اللأواءِ والمحن في حالِ غلبةِ أعداءِ الدين، إذ من الناسِ من يُصابُ بالهلعِ وفقدان الثقةِ بنصرةِ هذا الدين، ويُصاب آخرون بالإحباطِ واليأس والقنوطِ من رحمة الله والتسخطِ لأقدارِ الله، وتلك أدواءٌ قاتلة، وهي منافية لحقيقةِ التوحيد من الصبر واليقين والتقوى والتوكل على رب العالمين.
إخوةَ الإيمان، وهذا الشعورُ قديم، وهذهِ الفتنةُ غير مستحدثة، وهذا الهاجسُ تحدثَ عنه العلماء السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة وكادَ اليأسُ يلفُّ بعض المنتسبين للإسلام.
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيميه رحمه الله كما في جامع الرسائل الرسالة الثالثة: قاعدة في المحبة: "وهُنا نكتةٌ نافعة؛ وهي أنَّ الإنسانَ قد يسمعُ ويرى ما يصيبُ كثيرًا من أهل لإيمان والإسلام في الدنيا في المصائب، وما يصيبُ كثيرًا من الكفَّار والفجَّار في الدنيا من الرياسةِ والمال وغير ذلك، فيعتقدُ أنَّ النعيمَ في الدنيا لا يكونُ إلاَّ لأهلِ الكُفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقدُ أنَّ العزةَ والنُّصرةَ قد تستقرُ للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاءَ في القرآن من أنَّ العزةَ لله ولرسولهِ وللمؤمنين وأنَّ العاقبةَ للتقوى وقولَ الله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] وهو ممن يصدّقُ بالقرآن حملَ هذه الآيات على الدارِ الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا فما نرى بأعيننا إلاَّ أنَّ الكفارَ والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين".
وهذا تلميذهُ الشيخُ ابن القيم رحمه الله يعرضُ أمامَ ناظريك ـ أيّها المسلمُ ـ الحكمة من وراءِ تمكين أهل الكُفر والفسوقِ والعصيان، فيقول في كتابه طريق الهجرتين (ص214-215): "وكان في تمكينِ أهل الكفرِ والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمالِ الذي يحصل لهم بمعاداةِ هؤلاءِ وجهادهم والإنكارِ عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإنَّ تمام(1/930)
العبوديةِ لا يحصلُ إلاَّ بالمحبةِ الصادقة، وإنَّما تكونُ المحبةُ صادقةً إذا بذلَ فيها المُحبُّ ما يملكُهُ من مالٍ ورياسةٍ وقوةٍ في مرضاة محبوبهِ والتقرب إليه، فإذا بذلَ لهُ رُوحهُ كان ذلك أعلى درجاتِ المحبة. ومن المعلومِ أنَّ من لوازمِ ذلك أن يخلقَ ذواتًا وأسبابًا وأعمالا وأخلاقًا وطبائعَ تقتضي معاداةُ من يحبه... ـ إلى أن يقول: ـ فلولا خلق الأضدادِ وتسليط أعدائهِ وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبوديةِ من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه والحبّ فيه والبغضُ فيه والعطاء له والمنع له".
أيّها المؤمنون، نستبطئُ النصر أحيانًا ونحنُ بعدُ لم نُقدمُ للنصرِ ثمنا، ونستعجلُ النصرَ وقد لا يكونُ حانَ وقته بعد، ونتطلعُ إلى تغيرٍ مفاجئٍ في العالم ونحنُ بعدُ لم نغيرِّ ما بأنفسنا، وبالجملةِ فهُناك معوّقاتٌ للنصرِ وأسبابٌ لتأخره يعرفها العلماء ويجهلها البسطاء، وأسوقُ لكم طرفًا منها، استَجمعها صاحبُ الظلال يرحمه الله، فاعقلوها وقارنوا واقعَ المسلمين بها.
يقولُ سيد قطب رحمهُ الله في كتابه طريق الدعوة في ظلال القرآن (ص359): "والنصرُ قد يُبطئُ لأنَّ بنيةَ الأمةِ المؤمنة لم ينضجُ بعد نضجها، ولم يتمُّ بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفّزَ كل خليةٍ وتتجمع لتعرف أقصى المدخور فيهما من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكا؛ لعدمِ قُدرتهما على حمايتهِ طويلاً.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكهُ من رصيدٍ، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليا إلاَّ وتبذلهُ هينًا رخيصًا في سبيل الله.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تجرب الأمةُ المؤمنة آخر قواها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سندٍ من الله لا تكفلُ النصر، إنَّما يتنزلُ النصرُ من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثُمَّ تكلُ الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ البيئةَ لا تصلحُ بعدُ لاستقبالِ الحقِّ والخيرِ والعدل الذي تمثلهُ الأمةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضةً من البيئةِ لا يستقرُ معها قرار، فيظلُ الصراعُ قائمًا حتى تتهيأ النفوسُ من حوله لاستقبالِ الحقّ الظافر لاستبقائه، من أجل هذا كله ومن أجل غيرهِ مما يعلمهُ الله قد يبطئُ النصر، فتتضاعفُ التضحيات وتتضاعفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصرِ تكاليفهُ وأعباؤهُ حين يأذن اللهُ به بعد استيفائه أسبابه وأداءِ ثمنه وتهيؤ الجوِّ حوله لاستقباله واستبقائه.
وقد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تُعاني وتتألم وتبذل، ولا تجدُ لها سندًا إلاَّ الله، ولا متوجهًا إلاَّ إليهِ وحده في الضراء، وهذهِ الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهجِ بعد النصر عندما يأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل والخير الذي نصرها الله به.(1/931)
وقد يُبطئُ النصرُ لأنَّ الأمةَ المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تُقاتلُ لمغنمٍ تُحققه، أو تُقاتلُ حميَّةً لذاتها، أو تُقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكون الجهادُ له وحدهُ وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأُخرى التي تلابسهُ، وقد سُئل رسولُ الله : الرجلُ يُقاتلُ حميةً، والرجلُ يُقاتلُ شجاعةً، والرجلُ يُقاتلُ ليرى، فأيّها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
كما قد يبطئُ النصرُ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحهُ الأمة المؤمنة بقيةً من خيرٍ يريد اللهُ أنَّ يجردَ الشرَّ منها ليُمحّص خالصًا، ويذهبَ وحدهُ هالكًا، لا تتلبسُ بهِ ذرةٌ من خيرٍ تذهبُ في الغمار.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ الباطلَ الذي تحاربهُ الأمةُ المؤمنة لم ينكشف زيفهُ للناسِ تمامًا، فلو غلبهُ المؤمنون حينئذٍ فقد يجدُ لهُ أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفسادهِ وضرورةَ زواله، فتظلَ له جذورٌ في نفوسِ الأبرياءِ الذين لم تنكشف لهمُ الحقيقة، فشاءَ اللهُ أن يبقى الباطل حتى يتكشفَ عاريًا للناس، ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليهِ من ذي بقية".
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
-------------------------
الخطبة الثانية
أمَّا بعدُ: إخوة الإسلام، فينبغي أن لا يخامرَ المسلم شكٌ بنُصرةِ الله لهذا الدين، حتى وإن لم يرهُ بأمِّ عينه، وتحققَ لأجيالٍ بعده، فحسبهُ أن يكونَ جنديًا صادقًا في سبيلِ خدمةِ هذا الدين، وحسبهُ أن يموتَ يوم يموت وهو يُحسنُ الظنَّ بربهِ، ويستشعرُ بمسؤوليتهِ تجاهَ دينه، قد حررَ عبوديتهُ لله.
أمَّا النصرُ فلا بُدَّ من اكتمال أسبابهِ وزوالِ معوقاته، واللهُ يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد، ووعدهُ حق ونصرهُ قريب وأمرهُ بين الكاف والنون، ولكن ثَمة أدواء يتلبسُ بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصرُ اللهِ عزيزٌ لا بُدَّ فيه من تمحيصِ الصفوف، ولا بُدَّ من تمييزِ الخبيث من الطيب، لا بُدَّ من سقطٍ لأصحابِ المطامعِ والأهواء، ولا بُدَّ من تجريدٍ للصفوةِ المختارةِ التي يُحبُها الله وتستحقُ نصره، لا بُدَّ من تمييزِ المجاهدين الصادقين من المتقولين المنتفعين.
عباد الله، وليست المسؤوليةُ في هذا على الناس على حدٍ سواء، فكلٌّ بحسبه، ولست العبوديةُ المؤهلةُ للنصر ضربًا من الأماني أو قدرًا محدودًا من العبادات، يظنُّ المرءُ فيها أنَّهُ بلغَ قمَّة الإيمان واستحقَّ النصرَ لولا فساد الآخرين بزعمه، كلا، فالمسؤوليةُ كبيرة، والعبوديةُ المرادةُ لله شاملة، واسمع إلى أحدِ علماءِ السلف وهو يشخِّصُ الحال وكأنَّهُ يعيشُ اليومَ بين ظهراني المسلمين:(1/932)
يقولُ ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (2/176، 177) وهو يتحدثُ عن نوعي العبوديةِ العامةِ الخاصة: "ولله سبحانهُ على كلِّ أحدٍ عبوديةً بحسبِ مرتبته، سِوى العبوديةِ العامةِ التي سوَّى بين عبادهِ فيها؛ فعلى العالم من عبوديةِ نشرِ السنةِ والعلم الذي بعثَ اللهُ به رسلهُ ما ليس على الجاهل، وعليه من عبوديةِ الصبرِ على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكمِ من عبوديةِ إقامةِ الحقِّ وتنفيذهِ وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغنيِّ من عبوديةِ أداءِ الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادرِ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهادِ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت لهُ امرأة: هذا واجبٌ قد وضع عنَّا، فقال: هبي أنَّهُ قد وضَع عنكنَّ سلاح اليدِ واللسان، فلم يُوضع عنكنَّ سلاح القلب، فقالت: صدقت، جزاك الله خيرًا... ـ إلى أن قال الشيخ رحمه الله: ـ وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلقِ بأن حسنَّ لهمُ القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبادات؛ فلم يُحدِّثُوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاءِ عند ورثةِ الأنبياءِ من أقلِّ الناسِ دينًا، فإنَّ الدين هو القيامُ لله بما أمر به، فتاركُ حقوقِ الله التي تجبُ عليه أسوأُ حالاً عند الله ورسولهِ من مُرتكب المعاصي... ـ إلى أن قال: ـ ومن له خبرة بما بعث اللهُ به رسولهُ وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هُم أقلُّ الناسِ دينًا والله المستعان، وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدودهُ تُضاع ودينهُ يُترك وسنة رسولِ اللهِ يرغب عنها وهو باردُ القلبِ ساكتُ اللسان شيطانٌ أخرس؟! كما أنَّ المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليَّةُ الدين إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا
سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاةَ بما جرى على الدين؟! وخيارهم المحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعضِ ما فيه غضاضة عليه في جاههِ أو مالهِ بذل وتبذل وجدَّ واجتهد واستعملَ مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء ـ كما يقولُ الشيخ رحمه الله ـ مع سقوطهم من عينِ الله ومقت اللهِ لهم قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليَّةٍ تكونُ وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتهُ أتم كان غضبهُ لله ورسولهِ أقوى وانتصارهُ للدين أكمل".
أيّها المسلمون، في تركِ أمرِ الله وعدم التمعُّر لشيوعِ الفساد والمنكر خطر عظيم، وقد ذكرَ الإمامُ أحمد وغيره أثرًا أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى ملكٍ من الملائكةِ أن اخسِف بقريةِ كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلانٌ العابد؟! فقال: به فابدأ؛ فإنَّهُ لم يتمعَّر وجههُ في يومٍ قط. وذكر صاحبُ التمهيد أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائهِ أن قُل لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدك في الدنيا فقد تعجّلت به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إليَّ فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما ليَ عليك؟ فقال: يا ربي، وأي شيءٍ لك عليّ؟! قال: هل واليتَ فيَّ وليّا أو عاديت فيّ عدوّا؟(1/933)
هكذا إخوة الإسلام، فَهِمَ السلفُ رحمهم الله حقيقةَ العبوديةِ لله، وكذلك جاءتِ النصوصُ الشرعية والوصايا النبويَّة تُؤكدُ أمرَ القيامِ له بحقهِ عبوديةً عامة يشتركُ الناسُ فيها، وعبودية خاصة كلٌّ بحسبه، تضمنُ قيام أمر الله، تُرسي دعائمَ الخيرِ في الأرض، وتوالي الخيِّرينَ وتحبُ الناصحين، وتسهمُ في اقتلاع الشرِّ من جذوره، وتأخذُ على أيدي السفهاءِ وتأطرهم على الحقِّ أطرا، وتكرهُ المبطلين وتُعادي الكافرين وتبغضُ المنافقين.
وبهذه المجاهدة في الأرض ينساحُ الخيرُ وينكمشُ الباطل ويقتربُ النصر، ولكنَّ ذلك يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة وإيمانٍ ويقين، ومن خطَبَ الحسناءَ لم يغلها المهر، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69], وقال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47], وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وصدقَ رسولُ الله : ((ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يتركُ اللهُ بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ اللهُ هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزًا يُعزُّ اللهُ به الإسلام، وذلاً يُذلُّ به الكفر)) رواه ابن حبان وصححه الألباني في السلسلة (3).
اللهمَّ انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهمَّ اجعلنا من أنصار دينك والمنافحين عن شرعك يا رب العالمين...
ــــــــــ
بشائر النصر في فلسطين
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
-----------------------
خالد بن محمد طقاطقة
عبدون
7/7/1426
جامع أبو بكر الصديق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فضل المبادرة إلى صلاة الجمعة. 2- استجابة الله تعالى لدعاء المضطرين. 3- بشائر النصر. 4- سنة الابتلاء.(1/934)
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أيتها المسلمات، يا أصحاب الجباه الطاهرة المتوضئة الساجدة الطائعة، يا من تحفكم ملائكة الرحمن بعد أن طوت الصحف ليستمعوا الذكر الآن، قال : ((إذا كان يومُ الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم، فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضة، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر)) أخرجه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح.
فصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم محمد ، وصلاة الله وسلامه على النبيين والمرسلين، وسلام الله على الملائكة الكرام البررة، وسلام الله على الصديقين والشهداء ما تعاقب صيف وشتاء، وما امتدّ ظلٌ وفاء، سلام الله على شهداء الأمة الذين رووا الأرض بدمائهم الزكية، سلام الله على شهداء الأقصى الذين عرفوا طريق الجنة، ولسان حالهم يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، وهنيئًا لنا أمة الإسلام أن جعلنا الله من المسلمين، وأن أكرمنا لنكون في بيتٍ من بيوته مع الملائكة الكرام الكاتبين، فأي تشريفٍ أعظم من تشريف الله تعالى؟! وأي نصرٍ أعظم من نصر الله تعالى؟! وأي بشاراتٍ أعظم من بشارات القرآن العظيم؟! نعم، القرآن ربيع قلوب المؤمنين، ومثبّت همم المجاهدين، ومصبّر الجرحى والثكالى، وأنيس المأسورين، وأي مناجاةٍ أعظم من قرع أبواب السماء بالدعاء؟! فكم من أشعث أغبر من بين المسلمين كان صادقًا في دعواه حتى قرعت أبواب السماء وهو يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، فكانت دعوات هؤلاء الصالحين تقرع أبواب السماء حينما انقطعت كلّ الأسباب وأغلقت كلّ الأبواب إلا باب الرحمن الجبار العزيز الوهاب الذي بيده العزّ والعطاء والنّصر والتأييد، إنه الباب الوحيد الذي وقف عنده الأنبياء والصالحون والمجاهدون، قال الله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إنه يسمع دعاء المضطرين، ويعلم صدق المجاهدين، يسمع أنين المجروحين، ويعلم نية المرابطين، فيا لها من آيةٍ متجدّدةٍ وكأنها أنزلت اليوم، سهام قسّام المجاهدين في أرض فلسطين على رؤوس إخوة القردة والخنازير من المعتدين والمغتصبين أحالت بقدرة الله ليلهم إلى جحيم ونهارهم إلى نار حتى أيقنوا بقدرةِ القادر الجبار، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ(1/935)
بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وكأن الآية تقول لنا: إن أردتم مزيد نصر فاقرعوا أبواب من ذلّت له الرقاب، فلا إله إلا الله، ما أكرم الله، ولا إله إلا الله، ما أعظم الله.
فهذه دعوات إلى الرحمن السميع العليم صاعدة، وهذه آيات من الرحمن العزيز كأنها اليوم منزلة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، فكل شيءٍ حولنا ـ يا عباد الله ـ لله فيه حكمة، وتذكّروا أن كل من كان عدوًا لله فهو ضعيف، قال الله تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ، فثقوا بنصر الله وبوعد الله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وقال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وقال سبحانه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ، وقال تعالى: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلقد تضمّنت سيرة النبي مجموعةً من المبشرات لهذه الأمة المباركة، ومن ذلك ما رواه الصحابي الجليل المجاهد خباب بن الأرت قال: أتيت النبي وهو متوسّد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: ألا تدعو الله؟! فقعد وهو محمرٌ وجهه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحمٍ وعَصَبٍ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ والذئب على غنمه)) وفي روايةٍ: ((ولكنكم تستعجلون))، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
فثقوا ـ يا عباد الله ـ بنصر الله، فإن نصر الله قريب، وبشائر النصر قد لاحت بإذن الله في الأفق، يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.(1/936)
أتذكرون ما أصابكم يوم أحد؟! أتذكرون ما أصابكم من جراحٍ وحصارٍ وتضييق؟! أتذكرون شهداءكم؟! أتذكرون بكاء أطفالكم؟! أتذكرون أنين الأيتام؟! أتذكرون حنين المبعدين؟! أتذكرون وتذكرون؟! فقد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة والهلاك على الكافرين، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وإن كان قد أصابكم قتل وجرح فقد أصاب أعداءكم قريبٌ من ذلك، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء).
عباد الله، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. نقول ذلك ـ يا عباد الله ـ ونكرره لأنّ الله وحده هو الذي يهبنا النصر ولا أحد غيره، فهو يهب النصر لمن شاء ومتى شاء، فلا يظننّ ظانّ بأن النصر لهذه الأمة يقوم بلا إسلام، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. ومدح الله المؤمنين الذين عرفوا حقيقة النصر فأقاموا شرع الله في أرض الله، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
فنسأل الله العظيم أن يهيّئ لإخواننا في أرض فلسطين الحكم بكتاب الله وبسنة النبي ليكون بصيص النصر في هذه الأيام مباركًا في أرض غزّة هاشم، نصرًا يشعّ بعد نحو أربعين سنةٍ من الجهاد والرباط، وفاتحةً بإذن الله لفكّ قيود الأقصى المبارك وما ذلك على الله بعزيز، ونسأل الله تعالى أن لا يحقّق لأعدائه غاية، وأن لا ينجح لهم أمنية، وأن يحفظ أهل فلسطين من مؤامرات المعتدين الذين يمكرون ويخططون لفتنة المسلمين وطمس عقيدتهم وزرع الفتنة بينهم، فقد قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، فكلنا أملٌ وثقةٌ بإذن الله أن اندحار المغتصبين من أي شبرٍ من أراضي المسلمين هو نصرٌ وإن سماه أعداؤنا ما سموه، ولن يكتمل فرح المسلمين إلا باسترداد كامل الحقوق المغتصبة بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، وتتويج ذلك كله بعودة الأقصى الأسير إلى(1/937)
سماحة الإسلام ونوره، فنسأل الله أن يكون ذلك قريبًا، ونسأله تعالى أن يجمع قلوب إخواننا في أرض فلسطين، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه جواد كريم.
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، حيث قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِ وسلم على عبدك ونبيك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن سائر صحابة رسول الله أجمعين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأعلِ اللهم بعزتك كلمة الدين...
ــــــــــ
خواطر حول النصر والهزيمة
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
-----------------------
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- سنن الله الكونية. 2- أسباب النصر. 3- حكم وفوائد من هزيمة المسلمين في أحد. 4- هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟
-------------------------
الخطبة الأولى
أوجد الله هذا الكون وجعل له سننًا كونية ثابتة لا تتغير وقوانين لا تتبدل، ولهذه السنن أسباب، من أخذ بها تحققت له نتائجها وحصل على ثمراتها، ومن لم يأخذ بأسبابها خسر النتائج ولم يجن الثمار.
"من جد وجد ومن زرع حصد" مثل معروف يشير إلى سنة كونية أودعها الله في هذا الكون. وبنظرة عميقة سريعة إلى حال أمة الإسلام ووضعها التقني وما يسمى بالتكنولوجيا مقارنة مع كثير من دول الكفر يرى أن هذه السنة الكونية واضحة جلية، فقد حصل القوم على تقدم هائل في(1/938)
مجالات التصنيع والإنتاج بما لا يمكن مقارنته مع وضع المسلمين، والسبب هو تحقيق هذه السنة الكونية. هذا في أمر من أمور الدنيا، ودعونا من أمر الدنيا الآن، وإنما ضربت مثلاً أريد به تقريب المعنى.
ومن السنن الكونية التي قررها الله تعالى في كتابه في مواضع عديدة أن العزة والنصر لعباده المؤمنين وأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، ويقول جل في علاه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] وغيرها كثير. وهذه قضية مسلمة لا يجوز لمسلم أن يكون عنده فيها أدنى شك، وإن حصل ذلك فإنه الكفر. أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
لكن هناك أسئلة تلح على النفس تطرح مع هذا الكلام؛ ليحصل الفهم الصحيح لهذه القضية وحتى لا تشوبها شائبة:
أولها: ما أسباب النصر؟
وثانيها: هل يعني ذلك أن المؤمنون في نصر دائم ولا يمكن أن يهزموا؟
وثالثها: هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟
معاشر المؤمنين، الإجابات على هذه الأسئلة محور الحل لمشكلة من مشاكل الأمة وكبرى قضاياها التي تعاني بسببها هذه الأمة الأمرين. إن من الواجب على الأمة اليوم جماعات وأفرادًا دراسة هذه الأسئلة وبحثها بحثًا يراد منه التوصل إلى حل لأزماتها ومصائبها التي أصيبت بها، وتخرج بحل عملي يسارع في انتشال الأمة من الغرق.
أيها المسلمون، إننا مع الأسف نكثر الكلام بدون حاجة لذلك، لكننا نعيش وضعًا قد أصبح الكلام فيه بضاعتنا التي لا نستغني عنها. إننا بحاجة والله إلى تأمل وتدبر أكثر من الكلام، ولو أننا تأملنا في كتاب الله وسنة رسوله ثم تأملنا في حالنا لعرفنا الداء والدواء، ولما احتجنا إلى تلك الإطالة التي لا داعي لها. فنحن اليوم نكثر الكلام ونطيل، وكان بالإمكان أن يختصر الكلام بكلمات جامعة نافعة يتدبرها الناس ويخرجون بنتائج عظيمة، ولعل بعض من يطيل يفعل ذلك لأن ذلك هو الذي يروج عند كثير من أفراد هذه الأمة.
أمة الإسلام، إن التأمل في كتاب ربنا تبارك وتعالى يجيب على التساؤل الأول الذي طرحناه، وهو السؤال عن أسباب النصر، فعند القراءة في كتاب الله نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أجاب على هذا التساؤل بإجابة مختصرة شافية كافية، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].(1/939)
إنها ـ عباد الله ـ كلمات يسيرات تبين لنا أسباب النصر بما يمكن لو أردنا نحن الإجابة عليه لتكلمنا بما لا يتسع له مقام خطبة الجمعة، أما القرآن فقد بين القضية أفضل بيان وأوضحه، شرط النصر أن تنصروا الله، وما نصرة الله عز وجل؟ إنها إقامة شرعه وتطبيق دينه واقعًا على الأرض، يحياه الناس عملاً وقولاً واعتقادًا. إنها العمل بكتاب الله وسنة رسوله ونشرهما بين الناس ولو أبغضك من أبغضك، ولو كره الكافرون الذين يهاجموننا ويتهموننا بشتى التهم، لأننا نعمل بكتاب الله وسنة رسوله .
وإن شئت ـ أخي الكريم ـ فاقلب السؤال الذي نناقشه الآن وقل: ما أسباب الهزيمة؟ لتسمع جوابًا شافيًا كافيًا من رسول الله فيما رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، يذكر فيه أن ترك دين الله وترك نشره وحب الدنيا والتعلق بها هو سبب الهزيمة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). فهذا جواب آخر من رسول الله بلا إطالة ولا إكثار.
وأما التساؤل الثاني حول حصول الهزيمة للمؤمنين في بعض معاركهم ضد الكفر، فمن تأمل في كتاب الله وسنة رسوله وجد الإجابة واضحة جلية، فقد ذكر الله في كتابه قصص بني إسرائيل، وأنهم قتلوا بعض أنبيائهم، وأشار تبارك وتعالى إلى هزيمة المسلمين في معركة أحد، وبين أسبابها والحكمة منها في مجموعة من الآيات ذكرها سبحانه في سورة آل عمران. وقد هزم المسلمون في معارك عدة أمام الكافرين، وليس ذلك بمستغرب وإن استغربه كثير من المسلمين. وهذا ما حصل للمؤمنين يوم أن هزموا في أحد فتعجبوا كيف يهزمون وهم المؤمنون؟! بل كيف يحدث ذلك ورسول الله يقاتل معهم؟! فعلى المسلمين أن يعلموا أنهم قد يهزمون في بعض معاركهم ضد الكافرين، ولذلك أسبابه كحصول المعصية من المؤمنين فتكون العقوبة هزيمتهم في تلك المعركة. كما أنه يجب على المسلمين أن يفهموا أن الله جل وعلا لم يخبر بأن المسلمين سينتصرون في كل معركة يخوضونها، وإن كان قد وعد المؤمنين بالنصر، وإنما المراد بذلك النصر النهائي والعاقبة لا تكون إلا للمؤمنين، كما أشار تبارك وتعالى لذلك في غير آية، قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].
عباد الله، لقد هزم المسلمون في أحد فهل كانت تلك النهاية؟! كلا، بل كانت الخاتمة للمؤمنين، وجاء الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا. لقد هزم المسلمون في أحد هزيمة شمت فيهم بسببها الأعداء، فلما حصل ما حصل جعل عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقون يشمتون ويسرون بما أصاب(1/940)
المسلمين, ويظهرون أقبح القول، فيقول ابن أبي لابنه عبد الله وهو جريح قد بات يكوي جراحه بالنار: ما كان خروجك معه إلى هذا الوجه برأي، عصاني محمد وأطاع الولدان، والله لكأني كنت أنظر إلى هذا. فقال ابنه: الذي صنع الله تعالى لرسوله وللمسلمين خير. وأظهر اليهود القول السيئ, فقالوا: ما محمد إلا طالب ملك؛ ما أصيب هكذا نبي قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه. وجعل المنافقون يخذلون عن رسول الله أصحابهم، ويأمرونهم بالتفرق عنه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل. وسمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن فمشى إلى رسول الله ليستأذنه في قتل من سمع ذلك منه من اليهود والمنافقين، فقال : ((يا عمر، إن الله تعالى مظهر دينه ومعز نبيه، ولليهود ذمة فلا أقتلهم))، فقال عمر: فهؤلاء المنافقون؟ قال: ((أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)) قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذًا من السيف، فقد بان لنا أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم عن هذه النكبة، فقال: ((إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يا بن الخطاب، إن قريشًا لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن)). وهكذا شمت أعداء الإسلام بهزيمة المسلمين، لكن النهاية كانت للمؤمنين وأعز الله دينه وأعلى كلمته.
إن الهزيمة ـ عباد الله ـ قد تكون نعمة والمحنة قد تكون منحة، وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، وربما صحت الأجساد بالعلل. فقد كان في هزيمة المسلمين في أحد حكم وفوائد، منها مثلاً اتخاذ الشهداء من المسلمين، وبيان سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، ومنها أن الهزيمة من أعلام وأدلة الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال, يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى، قال هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة. ومن فوائد الهزيمة كذلك أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. ومنها تطهيرهم وتنقيتهم من معاصيهم، وغير ذلك كثير مما ذكر العلماء. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى كل ذلك في سورة آل عمران، وجاءت تلك الآيات لتثبيت المعايير الإيمانية في مفهوم القدر، ومفهوم الحياة والموت ومفهوم النصر والهزيمة والربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق. فهل الهزيمة تعني الخسارة؟ وهل الموت يعني الخسارة؟ كلا والله، فقد مات من الصحابة في معركة أحد سبعون رجلاً، فهل خسروا؟! بل ربحوا ـ والله ـ جنة عرضها السماوات والأرض، واتخذهم الله شهداء عنده أحياء غير أموات عند ربهم يرزقون. ولقد قتل المؤمنون في الأخدود وأحرقوا، فهل خسروا؟! ولقد قتل الغلام المؤمن ـ كما في حديث الغلام المؤمن والساحر ـ بطريقة كان هو الذي دل الملك عليها بعد أن عجز عن قتله، فهل خسر؟! بل ربح أولئك جميعا رضوان الله والدار الآخرة.
-------------------------
الخطبة الثانية(1/941)
ويبقى ـ إخوة الإيمان ـ التساؤل الثالث يحتاج إلى إجابة، وهو هل الأمة الإسلامية اليوم مؤهلة للنصر على أعدائها؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تفصيل طويل ولا أريد ذلك، لكن ربما يكون من المفيد لنا جميعًا أن نقسم هذا السؤال الضخم إلى أسئلة صغيرة، يكون من السهل علينا جميعًا الإجابة عليها.
معاشر المؤمنين، يقول تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، هل نصرنا الله بإقامة شرعه وتطبيقه على أنفسنا فالتزمنا بأوامر ربنا واتبعنا سنة نبينا ؟! لا شك أننا جميعًا نعرف الإجابة على هذا السؤال لأن كل واحد منا أدرى بنفسه من غيره. ويقول تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، فهل نحن صالحون بحيث تنطبق علينا هذه الآية فيورثنا الله الأرض؟! ويقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فهل أقمنا الصلاة وأدينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، أم أن الكثير منا قد ضيع الصلاة وتحايل على الزكاة ورأى المنكرات فسكت ولم يأمر بالمعروف حتى أقرب الناس إليه؟!
وهكذا في قائمة أسئلة معروفة الإجابات تظهر لنا الإجابة على ذلك السؤال الكبير، ويتبين منها أن الأمة اليوم بحاجة إلى عودة إلى ربها وتوبة صادقة ليتحقق لها موعود الله بالنصر. ومع ذلك كله نقول: إننا على ثقة بأن الأمة الإسلامية اليوم وإن هزمت في كثير من الميادين فإن الغلبة لها والعزة والنصر والتمكين، وعدًا من الله والله لا يخلف الميعاد.
ــــــــــ
وما النصر إلا من عند الله
-----------------------
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, غزوات
-----------------------
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة(1/942)
1- سبب غزوة الخندق. 2- المعجزات الباهرة الدالة على نبوته أثناء حفر الخندق. 3- حال المنافقين في هذا الموقف الحالك. 4- ما أصاب المؤمنين من الشدة والكرب في تلك الغزوة. 5- أسباب النصر الحقيقية.
-------------------------
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، إن في سيرة محمد وصحبه الكرام عبرة وأي عبرة، ذلك لمن تأملها ونظر فيها بعين البصيرة. لقد بعث الله رسوله بالحق، فصدع به ودعا إليه، ولكن الملأ من قريش لم يقبلوه منه، وعادوه واتهموه بتهم شتى، وآذوه في نفسه وعرضه وحاولوا قتله، لكنه لم يترك الدعوة، وخرج بدعوته إلى المدينة مهاجرًا، وحاربه كفار قريش فهزمهم مرة وهزموه مرة.
ثم جاء اليوم الذي أراد فيه أعداء الله ورسوله أن يجتثوا الإسلام والمسلمين ـ كما يزعمون ـ من جذورهم، وجاء اليهود إلى قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله ، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه مع محمد، أفديننا خير أم دينه؟ قال اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً إلى قوله تعالى: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:51-55]. فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لحرب رسول الله ، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له، ثم اتجه اليهود إلى غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه. ثم إن قريشًا تجهزت وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألَّبوا أحابيشهم ومن تبعهم، وخرجوا في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن حلجة، وقادوا ثلاثمائة فرس وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران من سبعمائة، وخرجت بنو فزارة وكانوا ألفًا، وخرجت كذلك أشجع، وخرجت بنو مرة حتى اكتمل عددهم عشرة آلاف، وقادهم أبو سفيان.
أما ما كان من أمر رسول الله فإنه لما بلغه الخبر جمع الناس وشاورهم يسألهم ما يفعل، فكان أن أشار سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة، فأعجبتهم الفكرة، وبدأ رسول الله بحفر الخندق هو وأصحابه، ووقع في أثناء حفر الخندق معجزات باهرة من علامات نبوته ؛ كحديث الصخرة العظيمة التي اعترضتهم في حفر الخندق، فلم يعمل فيها المعاول وأعيت فيها الحيل, فأخذ رسول الله المعول وسمى الله وضربها فانهالت ترابًا كما في صحيح البخاري. وحديث الطعام القليل الذي كفى أهل الخندق وكانوا ألفًا، وكقوله لما انصرفت الأحزاب: ((لن تغزونا قريش بعدها، بل نغزوهم ولا يغزونا))، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، وكانت تلك الشدة خاتمة الشدائد.(1/943)
أيها المؤمنون، لقد كانت غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب كما سماها الله شدة يظن المرء معها أنها نهاية الدعوة والداعية. لقد كانت بالحسابات الدنيوية والمقاييس المادية النصر الأكيد للأحزاب الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب على حرب الإسلام والمسلمين، وكانت الدولة الإسلامية لا زالت ناشئة فتية، بادئة في تأسيس ذاتها في المدينة النبوية. ولقد بلغ الحال بالمؤمنين أشده من الرعب والخوف، فهم قلة محاصرون من قبل جماعة كثيرة يبلغون أضعافهم عددًا وعدة. وإذا أردت وصفًا دقيقًا لحال المؤمنين في تلك الوقعة فلن تجد أبلغ من وصف الله تعالى لهم في كتابه، حيث يقول واصفًا الشدة التي لقيها المؤمنون: وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]. كيف لا يكون هذا الزلزال الشديد للمؤمنين وقد جاءهم الأحزاب من فوقهم، وكان اليهود قد غدروا بهم ونقضوا العهد من أسفل منهم، وأصبح المسلمون بين الأحزاب واليهود؟! واستمع إلى وصف الله لحالهم حيث يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ [الأحزاب:9،10]. فهل تصورت هذه الشدة وذلك الوضع الحرج الذي عاناه المؤمنون؟ هل تصورت كيف يزيغ البصر في وضع مثل هذا حتى يصبح المرء لا يدري أين ينظر ولا إلى أي جهة يلتفت؟ هل تصورت ـ أيها المؤمن ـ شدة تحرك القلب من مكانه حتى يكاد أن يبلغ حلقك؟ إنها شدة وأي شدة، العدو كافر حاقد يريد الانتقام للضربة التي
لقيها في معركة بدر، ولا زالت قريش تعاني من آلام الهزيمة والإهانة العظيمة التي لقيتها في بدر. ومن أسفل المدينة العدو الآخر الخبيث المتربص الذي كان في يوم من الأيام صاحب عهد وميثاق، إنهم اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، غدروا في أحلك المواقف وهم كذلك دائمًا وأبدًا، يستغلون المواقف ويصطادون في الماء العكر. والعدو الداخلي كذلك بدأ في التخذيل والهرب من أرض المعركة، المنافقون أخذوا يخذلون. واسمع إلى ما رواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله في يوم الخندق: ((اذهبوا بنا إلى سلمان))، وإذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال : ((بسم الله))، فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: ((الله أكبر، قصور الروم ورب الكعبة))، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: ((الله أكبر، قصور فارس ورب الكعبة))، فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم.
هكذا ـ أيها المؤمنون ـ كان حال المنافقين في هذا الموقف الحالك، الذي يبين فيه رسول الله أن هذا الدين منصور وقائم، حتى أنه يخبرهم بأن الله سيفتح على المسلمين قصور فارس والروم، حتى تهدأ نفوس المؤمنين، ويعلموا أن هذا الجمع وهذه الأحزاب لن تتمكن من القضاء على المسلمين واجتثاث أصل دعوتهم والقضاء عليها كما جاؤوا يحلمون بذلك.(1/944)
عند هذا الموقف الإيماني التربوي من الرسول إذا بالمنافقين يشككون في هذه الأخبار التي يخبر بها الرسول ، ويقولون: نحن محاصرون ونحفر الخندق لحماية أنفسنا وما بيننا وبين الموت إلا قليل ومحمد يعدنا أننا سنفتح قصور الروم وفارس! يسخرون ويهزؤون.
ثم من تخذيلهم كذلك أنهم بدؤوا يستأذنون النبي ليعودوا إلى بيوتهم وأهليهم، ويقولون: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، ولكنهم جبناء يريدون الهروب. حتى ذكرهم الله في كتابه وفضحهم فقال جل وعلا: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13]. يزعم المنافقون أن بيوتهم مكشوفة، ولذلك يريدون الرجوع إلى بيوتهم ليحموها، وهم كاذبون، إنما يريدون الهروب خوفًا من القتال. هكذا كان الوضع. لكن كيف كان حال المؤمنين؟ لقد كان حالهم هم ورسول الله كما وصف الله حال المؤمنين قبل معركة بدر، حيث أخذوا يسألون عن كفار قريش، فأخذ الناس يقولون لهم: إن قريش قد أعدت لكم وجمعت لكم، فكان رد رسول الله وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل. قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. فماذا كانت النتيجة والعاقبة؟! قال الله تعالى مبينًا ما جعله الله لهم جزاء على اعتمادهم على ربهم وتوكلهم عليه: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
ثم بين الله تعالى للمؤمنين بل وللناس كلهم أن هذه الجموع لا يخافها المؤمنون، لا يخافها محمد وأصحابه، بل يخافها الذي خلا قلبه من الإيمان والتوكل على الله، فيقول سبحانه: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. نعم عباد الله، إن أولياء الله لا يخافون جموع الكفر ولو كثرت، إنما يخاف ويخشى هذه الجموع أولياء الشيطان، أما من كان الله وليه فقد قال الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
عباد الله، إن الخوف قد يقع وقد ينال كل النوعيات وكل المستويات الإيمانية، لكن الموقف الناتج عن الخوف يختلف من إنسان لآخر، وهنا موضع الأسوة والقدوة؛ فالمؤمنون في الخندق خافوا وبلغت القلوب الحناجر وزاغت الأبصار وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا، فالمؤمنون الصادقون الصديقون رغم ما وقع بهم من الخوف والفزع قال الله تعالى عنهم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وأما المنافقون الذين أصابهم الخوف واقتلع قلوبهم الرعب فقال الله تعالى عنهم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]. لقد زاد الخوف المؤمنين إيمانًا وتسليمًا، وزاغت عقيدة المنافقين قبل أن يزيغ بصرهم وقالوا: إن محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ولا يأمن أحدنا أن يخرج إلى حاجته, أو لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! فقارن بين الموقفين، وتأمل الحالين؛ لتعلم حال المؤمنين وتستمسك بغرزهم وتفوز فوزًا عظيمًا.(1/945)
-------------------------
الخطبة الثانية
عباد الله، أما رسول الله فلقد كان هو القمة التي لا يرقى إليها أحد في الثقة بالله والثبات أمام العدو؛ فعندما بلغه أن بني قريظة قد نقضوا عهدهم الذي عاهدوه به واشتركوا مع الأحزاب في حرب المسلمين وخانوا الله ورسوله قال: ((الله كبر، أبشروا يا معشر المسلمين)). وفي قلب هذه المحنة وشدة هذا الهول يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله)) ذكر ذلك الواقدي في المغازي.
أيها الموحدون، وحيث إن المعركة بين رسول الله والأحزاب معركة عقيدة فلا بد من اللجوء إلى الله تعالى وحده أن يكشف الغم ويزيل الكرب، فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله يوم الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)). وقد حرص رسول الله أن يؤكد لصحابته الكرام ثم للمسلمين جميعًا أن هذه الأحزاب العظيمة لم تهزم من المسلمين رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده، بالمسلم الذي أسلم في قلب المعركة واندفع يخذل العدو، وبالريح التي قلبت قدورهم واقتلعت خيامهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا حتى قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:9-25]. يقول مؤكدًا ذلك كما عند البخاري: ((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)). إنها التربية الإيمانية، التربية على البراءة من الحول والطول، التربية على نسبة الفضل إلى الله وعدم الاغترار بالأسباب المادية.
إننا ـ أيها المسلمون ـ لا ننصر بكثرة العدد ولا العدة، بل ننصر بإيماننا بالله ويقيننا بموعوده، ننصر بطاعتنا لله واجتناب ما يغضبه سبحانه. بل إنه عندما اغتر المسلمون بعددهم أذاقهم الله مرارة الهزيمة، قال تعالى حاكيا ذلك في سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ [التوبة:25، 26]. إنه درس تربوي لأولئك الذين ظنوا أن كثرتهم ستكون سببا أكيدا للنصر، فأراهم الله ماذا يصنع التعلق بالأسباب الدنيوية مع نسيان العون الإلهي والمدد الرباني؛ لذا فإن علينا اليوم خاصة أن نحيي هذه العقيدة في نفوسنا، وأن نغرسها في نفوس المسلمين عامة؛ ليعلم كل مسلم أن نصر الله قريب وسهل، إن نحن توكلنا على الله مع بذل الأسباب، وتعلقت قلوبنا به سبحانه، وتبرأنا من كل شيء إلا الله. وعند ذلك فلن يهزمنا ـ والله ـ أقوى وأعتى الأعداء؛ لأن الله مولانا ولا مولى لهم.
ــــــــــ(1/946)
أسباب النصر الحقيقية وصفات من ينصرهم الله
الحمدُ لله، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ، وأصحابه، والتابعينَ لهم بإِحسانٍ وسلَّم تسليماً، أما بعد ،،،
فلقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ، والأحزابِ، والفتحِ، وحُنينٍ، وغيرها:
1- نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه: {...وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ[47]} [سورة الروم] . {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَدُ [51] يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[52]} [سورة غافر].
2- نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها: فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]} [سورة التوبة].
3- نصَرَهم اللهُ لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ: فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ لَهُم، وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم:{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [139] إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ[140]} [سورة آل عمران] . {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً[104]} [سورة النساء]. { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[35]}[سورة محمد]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِيرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ.
وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ[60]} [سورة الأنفال] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ، والقوةِ العسكريةِ الظاهرة.
4- نصرهم الله تعالى لأنهم قامُوا بنصر دينِه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. فوعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية: أما المؤكدات اللفظية: فهي القسمُ المقدَّرُ؛ لأنَّ التقديرَ: واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ. وكذلك اللامُ والنونُ في:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} كلاهُما يفيدُ التوكيدَ.(1/947)
وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ: ففي قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قَويٌّ لا يضْعُفُ، وعزيزٌ لا يذِلُّ، وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً. وفي قولِه:{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه، فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر سبحانَه ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه.
أوصاف من يستحقون النصر:
وفي هاتين الآيتين: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ، وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه، وأفعالِه، وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريد بها جاهاً، ولا ثناءً من الناسِ، ولا مالاً، ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ؛ مكَّنَ الله له في الأرض.
إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ:
الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ: بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه، قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها، وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا، رواه أبو داود وأحمد.
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ:{...وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[43]}[سورة البقرة]. بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم، كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً،(1/948)
فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم، ويطهِّرون أموالَهم، وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} والمعروفُ: كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءً لشريعةِ اللهِ، وإصلاحاً لعباده، واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه، فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه.
والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الآمر قائماً بما يأمرُ به؛ لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ: {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} والمُنْكَرُ: كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها، مما يتعلقُ بالعبادةِ، أو الأخلاقِ، أو المعاملةِ؛ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله، وحمايةً لِعباده، واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ، وتَشَتَّتَ بها المسالكُ؛ ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[105]}[سورة آل عمران].
فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً، وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون.
وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]}[سورة آل عمران].
وبتَركه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79]}[سورة المائدة].
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ، والعزيِمَةِ، وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة؛ حصل النصرُ بإذنِ الله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[6]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[7]}[سورة الروم].فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ.
وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها:(1/949)
افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً، فقال الله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ[15]فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ[16]}[سورة فصلت].
وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ، وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه، وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين.
وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها، فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون:'لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً، فننحرَ فيها الجزور، ونَسْقِيَ الخمورَ، وتعزفَ الْقِيانُ، وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً'. فَهُزمُوا على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ.
ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصر،ِ وقُمْنَا بواجبِ دينِنا، وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين، ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا، وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ؛ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه، ونصر عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[23]}[سورة الفتح].
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا، ورفعةُ الإِسلام، وذُل الكفرِ والعصيانِ؛ إنك جوادٌ كريمُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ، وعلى آلِهِ، وصحبِه أجمَعين.
من كتاب:'مجالس شهر رمضان' للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
ــــــــــ
أسباب النصر وأسباب الهزيمة من خلال سورة الأنفال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :(1/950)
لا تنتصر الأمة ولا تزدهر إلا إذا وقع تغيير جذري في كيانها ونفوس أفرادها. ولا تنهزم أمة أو تزول إلا حين تتحول نفسياتها واهتماماتها فتنحدر من الأعلى إلى الأدنى فهذه سنة الله عز وحل في عباده ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
ومن يتتبع سنة الله عز وجل في خلقه سيجد النتيجة واضحة ساطعة مطردة ولقد بينت لنا سورة الأنفال نموذجاً من هذه السنة لفريقين: فريق مؤمن منتصر وفريق كافر منهزم، فما هي أسباب النصر وما هي أسباب الهزيمة. فريق الكافرين المشركين الذين أذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند ربهم أشد وأنكى ، ذكر الله هؤلاء الكفرة وبين حالتهم وهم يودعون الحياة شر وداع، تتناولهم ملائكة الموت باللطمات والصفعات وهم يواجهون جزاءهم قال تعالى: ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ?[الأنفال:50-51]. تعالوا أيها الأخوة لنرى ماذا فعل هؤلاء في حياتهم وماذا قدموا ، لقد مكثوا أمداً بعيداً وطويلاً يكرهون الحق ويؤثرون الكبر والعناد ، يعيشون لأنفسهم، فما يرجون لله وقاراً، ولا يتخذون عنده مآباً. كانوا في رخاء من العيش لا تشوبه أزمة، وفي أمان لا يعكره قلق فما شكروا من هذه النعم قليلاً ولا كثيراً.
جاءهم رسول منهم أرجح الناس عقلاً وأشرفهم نسباً وأصدقهم لهجة وأبرهم رحماً لا ترقى إلى سيرته تهمة، لقبوه هم بالصادق الأمين ثم قاوموه وطاردوه في صلف وكبر غريب.والإنسان السوي إذا اشتبهت عليه الأمور طلب من الله أن يهديه إلى الصواب، أما هؤلاء فقد أبغضوا الحق، وكرهوا النزول على حكمه وقالوا مكابرين رب السماوات والأرضين: ?... اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?[الأنفال:32].
وقد لقي دعاءهم بعض الإجابة، فلما التقوا المسلمين في بدر حل بهم الخزي الرهيب، وتبخر السراب الذي كانوا يعيشون في خداعه فسقطوا بين قتيل وأسير.
لقد قاوم المشركون النور والهداية التي امتن الله بها على عباده، قاوموه بكل ما لديهم من جبروت، واستماتوا لكي يبقى ليل الوثنية مخيماً على جزيرة العرب، وتبقى الخرافات تسرح وتمرح في المشارق والمغارب، الشيطان سول لهم وأملى لهم ، إذ ركبوا رؤوسهم حتى آخر لحظة ، لقد كانت الفرصة أمامهم متاحة ليُسلموا ويَسلموا ولكن الكفر والعناد والغطرسة والكبر الذي ملأ نفوسهم حال بينهم وبين السعادة، أنظروا إلى موقف أبي جهل ذاك الطاغية المعاند المكابر ، لقد كان بإمكانه أن يعود بقومه من أرض بدر، ما دامت القافلة التي خرجوا لإنقاذها قد نجت، غير أن مشاعر الكبرياء والغرور هاجت في دمه وعروقه، فقال: لا نعود حتى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور، وتغني لنا القيان ويسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، لقد كان حريصاً على إذلال الإسلام وأهله في مهجرهم الجديد. إن هذا القصد هو الذي ذبحه ، وقاد قومه إلى المأساة وإلى الخزي والبوار، هذه الأخلاقيات والمسالك(1/951)
إذا بثتها أمة يهلكها الله عز وجل ويدمرها ولهذا فإن الله عز وجل يحذر المؤمنين من أن يسلكوا مسالكهم ، قال تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ?[الأنفال:47].
ولنترك فريق الكافرين وما آل إليه حالهم من العذاب والنكال. ونلق نظرة أخرى على الفريق المؤمن ، لننظر كيف كان يفعل وما هي الأسباب التي أخذ بها فجاء الخير والعزة والسعادة والنصر والتمكين. لقد عاش المؤمنون بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة وبعدها يؤمنون بربهم وحده لا شريك له ، يحترمون دينهم، ويقدمون مطالبه على رغبات نفوسهم، يحملون في الحياة رسالتهم العالمية ويرفعون راية التوحيد في ثبات ويقين دون شك ولا وجل، ولقد كان خصوم الإسلام يستكثرون على المؤمنين حق الحياة كما يريدون ، بل كانوا يروعونهم في الحرم الآمن، ويرغمونهم على النزوح هنا وهناك. لكن الله جل جلاله اطلع على قلوبهم فعلم صدقهم فكافأهم مكافأة سخية كريمة لم تخطر لهم على بال حيث كتب الله لهم النصر والتمكين والسيادة، قال الله عز وجل ممتناً على المؤمنين بالنصر والظفر والعزة والتمكين الذي نالوه على الرغم من قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم : ?وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[الأنفال:26].
نعم على المؤمنين أن يدركوا دائماً وأبداً أنهم ليسوا وحدهم في المعركة التي يواجهون بها أعداء الله، إن الله معهم جلت قدرته، يرعاهم ويؤويهم وينصرهم ويرزقهم، فلا خوف إذاً ولا قلق ، فسنة الله تعالى مع أوليائه أنه معهم يتولاهم بنصره وتأييده في كل زمان ومكان ففي معركة بدر كانت عوامل النصر الظاهرية والدلائل الواقعية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف المؤمنين حتى قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ?... غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ...? [الأنفال:49]، لأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم يرون ظواهر الأمور المادية ولا يرون إلى مواطنها، لأنهم لم يؤمنوا بالله أو يستشعروا عظمته وقدرته جل وعلا. فهم لذلك يظنون المسلمين مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم واقعين في الهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين الذين يرونها.
إن المؤمنين بالله عز وجل حق الإيمان يأخذون بالأسباب ويستعدون ولكنهم يوقنون مع ذلك بأن الأمر كله لله وأن نواصي الخلق بيده فهم يتوكلون عليه ويفوضون الأمر إليه: ?... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[الأنفال:49].
وما أشبه الليلة بالبارحة ، لقد تجمع الكفر والوثنية لمواجهة الرسول والمؤمنين ، فكانت المعركة بين القلة المؤمنة والكثرة الكافرة، ووقف المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتفرجون على المعركة مؤيدين للكافرين ساخرين من المؤمنين واليوم تتكالب قوى الكفر والإلحاد العالمي بقيادة اليهود وأمريكا(1/952)
لتدمير الإسلام والمسلمين ويقف معها المنافقون والذين في قلوبهم مرض وجهاً لوجه في مواجهة القلة المؤمنة التي تكفر بالطاغوت وتؤمن بالله وتستعصي على الواقع وتواجه كل القوى الكافرة الملحدة معتصمة بالله متوكلة عليه وحده سبحانه وتعالى.
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يعرفون لهذا الموقف الإيماني الثابت الشامخ الذي يقفه المؤمنون مبرراً لهذا التهور ـ كما يسمونه ـ وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة من يستطيع أن يواجه أمريكا وإسرائيل؟ إنهم يحسبون الحياة كلها ـ بما فيها الإيمان والعقيدة والدين ـ صفقة في سوق التجارة، إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها، فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى، إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ولا يزنون الأشياء بميزان الإيمان، إن هذه المعركة التي يخوضها المؤمن صفقة رابحة دائماً في حسه وميزانه، فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلبة ، أو الشهادة والجنة.
ثم إن حساب القوى لدى المؤمنين يختلف عن حسابات الكافرين والمنافقين ، فهناك الله القادر المنتقم الجبار القوي العزيز .. وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين أشركوا ، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم. لا تغالب قوته ولا يهزم جنده ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصفات:171-173].
فتن وأهواء تعصف بالناس، وحروب ومحن واختلاف وأمراض وزلازل تهز أرضنا هذه هزاً. وكأنني بهذه الأمور والحوادث تقول للناس لا مقام لكم في هذه الدار وليست إقامتكم بها إلا يسيراً، فاستعدوا للرحيل .. ولهذا فإن الله عز وجل يدعونا إلى المسارعة والمبادرة في فعل الخير واغتنام الوقت في الإكثار من عمل الصالحات كما قال سبحانه: ?... فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ...?[البقرة:148] ، وقال: ? وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?[ آل عمران:133] ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاثاً أمته على المسارعة والمبادرة في فعل الخير والعمل الصالح : "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا".
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر".
بادروا أيها الناس وسارعوا إلى عمل الخير والإكثار من الصالحات ، تزودوا لآخرتكم قبل أن تنزل بكم واحدة من هذه السبع.
ماذا تنتظرون وماذا تأملون، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً ينسيكم كل شيء ولا تفكرون سوى في الغلاء والجرعات وزيادات الأسعار وقلة الأعمال وكساد التجارات وانهيار العملة. لقد تعلق الناس(1/953)
في بلادنا بالنفط وعولوا عليه كثيراً وظنوا أنه سيغنيهم ويسد حاجتهم، نسوا الله فنسيهم، فما ازدادوا بظهور النفط إلا فقراً وحاجة ، ألا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له.
ماذا تنتظرون أيها الناس؟ هل تنتظرون غنى مطغياً، يطغي وينسي وتدلفون منه إلى البطر والترف وتشتغلون بجمع المال وتكثيره وتنسون الله والدار الآخرة ، وتبخلون وتمنعون حق الله في أموالكم.
ماذا تنتظرون؟ مرضاً مفسداً يعطل حركتكم ويشل قواكم فلا تستطيعون فعل شيء من أعمال الخير التي تحتاج إلى صحة ونشاط وإلى سعي وحركة وجهاد.
هل تنتظرون أن يطول بكم العمر حتى يسلمكم إلى التخريف والفند أو هرماً مفنداً، ينتكس الإنسان فيه ويعود كالطفل الذي لا يعقل ولا يدرك، لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً.
ماذا ننتظر من دنيانا هذه التي نرى الموت فيها زائراً لنا يحصد فيه الناس حصداً وهم لا يرغبون في ذلك وهم كارهون أو موتاً مجهزاً ، أي سريعاً وبدون استئذان أو مقدمات.
فحتى متى وإلى متى نتوانى وأظن هذا كله نسيانا
والموت يطلبنا حثيثاً مسرعا إن لم يزرنا بكرة مسانا
إنا لنوعظ بكرة وعشية وكأنما يعني بذاك سوانا
غلب اليقين على التشكك في الردى حتى كأني قد أراه عيانا
يا من يصير غداً إلى دار البلى ويفارق الإخوان والخلانا
إن الأماكن في المعاد عزيزة فاختر لنفسك إن عقلت مكانا
ماذا ننتظر ، هل ننتظر الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر.
يا أيها الناس تنبهوا من غفلتكم واعملوا لآخرتكم وتزودوا بالتقوى والعمل الصالح فإن خير الزاد التقوى.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح مسلم. ج1كتاب الإيمان. باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن. الحديث رقم: 118
ـ سنن الترمذي 4/ 552، حديث رقم: 2306، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ، وضعفه الألباني.
ــــــــــ
أسباب النصر وأصول التمكين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.(1/954)
فلم يعد خافيًا على أحدٍ من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلةٍ ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة، تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعْدٍ عن تعاليم الإسلام، وإقصاء لشريعة الله سبحانه، ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم لا يستغرب من قبل العالمين بسنن الله عز وجل في التغيير، حيث إنَّ هذا الواقع هو النتيجة الطبيعية للبعد عن دين الله عز وجل، وعدم الاستسلام لشرعه. ولا ننتظر في ضوء السنن الربانية غير هذا، والله عز وجل يقول: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11 ) ويقول سبحانه : (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم )) (محمد: 7) .
أما الذين يجهلون سنن الله عز وجل أو يغفلون عنها، وينسونها، فهم الذين يستغربون ما يحل بالمسلمين اليوم من محنٍ وويلات، وهم الذين يتساءلون أنى هذا؟ وكيف يحصل هذا ونحن أصحاب الدين الحق؟ فيجيبهم الله عز وجل بما أجاب به من سأل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا السؤال، فقال سبحانه وتعالى: (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) (آل عمران: 165) .
ونتيجة لنسيان هذه السنة الربانية أو الغفلة عنها، يقع الانحراف في المواقف المختلفة إزاء هذه الأحوال المريرة، التي يمر بها المسلمون ما بين يائسٍ من التغيير قد أصابه الإحباط، وألقى بيده ينتظرُ المهدي أو المسيح عليه السلام لإنقاذ الأمة والتمكين لها في الأرض، أو مستعجلاً قد نفد صبره مما يرى من الكفر والنفاق، فقرر الجهاد والمواجهة مع أعداء الدين غير ملتفت للقواعد الشرعية وأصول التمكين، وأسباب النصر، فنجم عن ذلك من المفاسد ما الله به عليم، وآخر رأى مهادنة الأعداء والرضى منهم بأنصاف الحلول، والدخول معهم في مفاوضات ومقايضات، لم تثمر إلاَّ مزيدًا من التمكين للمفسدين، والإقرار لهم بالشرعية والوجود.
أما الذين فقهوا سنن الله عز وجل في النصر والتمكين والتغيير، وأخلصوا دينهم لله تعالى، فقد هداهم ربهم سبحانه لما اختلف فيه من الحق، ورأوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها، وذلك بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام عليهم رضوان الله تعالى.
وباستقراء المنهج النبوي في الإصلاح والتغيير يظهر لنا أنه قائم على الأصول التالية :
الأصل الأول: البصيرة في الدين وصحة الفهم والعمل.
قال الله عز وجل: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)) (يوسف: 108) .
ويعنى بهذا الأصل : أن تقوم الدعوة وينطلق التغيير من فهمٍ صحيح، وعقيدة صافية، وبصيرة واضحة في الدين، كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفهم(1/955)
الصحابة- رضي الله عنهم-، لأنَّ أي دعوة تعارض هذا الفهم أو تزيد عليه أو تنقص، فإنها قد فرطت في هذا الأصل العظيم من أصول التمكين والنصر.
ويلحق بالفهم الصحيح ما يجب أن يكون عليه أصحاب الدعوة من عمل صحيح، موافق لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم.
وهذا هو ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وصف الفرقة الناجية المنصورة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أنا عليه وأصحابي )) [1] .
وإنَّ الجهد في إخضاع أفراد الدعوة وعامة الناس للفهم الصحيح والعمل الموافق يحتاج إلى صبر وعناء، وتضافر في الجهود، واتخاذ الأسباب المباحة المتاحة في تبليغ هذا الفهم الصحيح للأمة، ببرامج علمية وعملية، حتى تستقيم الأفهام في العقيدة والأحكام والتصورات على هذا المنهج النبوي الكريم، ومما يلحق بالفهم فهم الواقع الذي يتحرك فيه الدعاة، وطبيعته والبصيرة بأحوال الناس، واستبانة سبيل المجرمين، والوعي بكيدهم ومخططاتهم وإمكاناتهم.
الأصل الثاني: حسن القصد:
ويعنى بهذا الأصل إخلاص المقاصد لله عز وجل، وصدق النية في الدعوة والتغيير، بأن يكون القصد من ذلك التعبد لله عز وجل وابتغاء وجهه ورضاه وجنته، وإنقاذ الناس بإذن ربهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
وهذا بدوره ينفي كل مقصد دنيوي سواءً كان رياءً أو إرادة جاهٍ أو مالٍ أو منصبٍ أو شهرة.. إلخ، لأنَّ وجود مثل هذه المقاصد في الدعوة يفسدها ولا يكون القصد فيها حسنًا، وبالتالي لا يبارك الله فيها ولا ينصر أهلها، ولا يمكِّن لهم في الأرض ولو كانوا على فهمٍ صحيح؛ لأنَّهم فرطوا في أصلٍ عظيم من أصول التمكين، ألا وهو إرادة الله عز وجل والآخرة ليس إلا. ولا شك أنَّ تحقيق هذا الأصل العظيم في نفوس الدعاة يحتاج إلى جهدٍ ومجاهدة، ومناصحة وتربية علمية وعملية، يعتني فيها بالقلوب وأعمالها، وتُقوَّى فيها الصلة بالله عز وجل والتحلي بالأخلاق المحمودة الباطنة والظاهرة، والتي على رأسها الإخلاص لله عز وجل.
الأصل الثالث : وحدة الصف:
وهذا الأصل ثمرة للأصل السابق، حيثُ إنَّ تجرد المقاصد لله عز وجل ينفي الهوى وحظوظ النفس، والتي هي من أكبر أسباب الفرقة والبغضاء، لأنَّه لا يمكن لأصحاب الفهم الصحيح الواحد أن يتفرقوا إلاَّ إذا كان القصد غير حسن. وأصحاب القصد الحسن لا يفارقون غيرهم، إلاَّ إذا كانوا على فهمٍ منحرفٍ غير صحيح كأصحاب الفرق وأهل البدع.(1/956)
وكون الاجتماع ووحدة الصف أصلٌ من أصول التمكين، لا يجادل في هذا أحد، كيف والله عز وجل يقول : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) (الأنفال: 46).
ولا شك أنَّ نبذ الفرقة، واجتماع القلوب، ووحدة الصف بين أهل السنة، أصحاب الفهم الصحيح يحتاج إلى القد وات وإلى الصبر والجهد الجهيد، والتجرد لله عز وجل، وترك حظوظ النفوس.
وتقع المسئولية في ذلك على العلماء والموجهين والمربين كل في مجاله، ويكون ذلك بالتواصي والمناصحة، وإظهار الود وحقوق الأخوة بين الدعاة، وإن لم يجد بعضنا مجالاً لهُ في جمع الكلمة، فليتق الله ولا يفرق، فإنها صدقة منه على نفسه وكف شر عن إخوانه، وهو بذلك يساهم في جمع الكلمة وتوحيد الصف، وإن مما يحفز الهمم على تحقيق هذا الأصل العظيم، اليقين بأنَّ نصر الله عز وجل لا ينزل على أمةٍ متفرقةٍ متباغضة.
وقد يجد أصحاب الدعوة الحريصون على جمع الكلمة أنفسهم أمام أناسٍ غير حريصين على وحدة الصف، فحينئذ حسبهم أن يعلم الله عز وجل صدقهم وإخلاصهم، فيوفقهم ويعينهم وينصرهم.
الأصل الرابع: التمحيص والتميز:
قال الله عز وجل: (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) . (آل عمران:141).
وقال سبحانه : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )) (آل عمران: 179) .
وإنَّ المتأمل في منهج الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وبخاصة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه المؤمنين، ليرى هذه السنة الربانية واضحة وضوح الشمس، وذلك بما تعرض له المسلمون من الابتلاء والتمحيص في مكة والهجرة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، وأنهم لم يمكنوا إلاَّ بعد أن ابتلوا ومحصوا.
والابتلاء الذي يتعرض له أصحاب الدعوة نوعان :
أـ ابتلاء عقوبة وتكفير وتنبيه :
وذلك عندما يحصلُ الخلل في واحدٍ من الأصول الثلاثة السابقة أو أكثر. فعندما يحصل الخلل في الفهم والمعتقد، أو في النية والمقصد، أو في وحدة الصف وتآلف القلوب، فإنَّ الله عز وجل قد يبتلي عباده هؤلاء ببعض العقوبات والابتلاءات لعلهم يرجعون ويراجعون أنفسهم، ويكفِّر الله عز وجل عنهم بهذه العقوبات سيئاتهم.
ب ـ ابتلاء تمحيص وتمييز للصفوف :
وهذا النوع من الابتلاء هو الذي نقصده في هذا الأصل، وهو الذي يتعرض له أصحاب الفهم الصحيح، والقصد الحسن والصف الموحد، والحكمة منه تمحيص القلوب، وتمييز الصفوف مما قد(1/957)
يكون فيها من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة، والذين يكون ضررهم شديدًا على الدعوة فيما لو بقوا مندسين في الصفوف ولم يعرف شأنهم، فيقدر الله عز وجل مثل هذا النوع من الابتلاءات ليتميز المؤمن الصادق من غيره، ويزيد الله عز وجل به المؤمنين إيمانًا وثباتًا وصلابة في إيمانهم، قال الله عز وجل عن المؤمنين في غزوة الأحزاب عندما رأوا الشدائد والأهوال : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )) (الأحزاب:22).
وقال عن المنافقين الذين نجم نفاقهم عند الابتلاء : (( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)) (الأحزاب:12)
فما زادت الشدائد المؤمنين إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، وما زادت المنافقين إلاَّ مرضًا، وأخرج الله بها ما في قلوبهم من النفاق والكذب والذي ما كان ليعرف في حال السلم والأمان.
وإنَّ فترات التمحيص والابتلاءات لمن أشدِّ فترات الدعوة على أهلها، فهي تحتاج إلى جهدٍ عظيم من التعليم والتربية والعبادة، والتواصي على الحق والتواصي بالصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ومن علم الله عز وجل صحة فهمه وحسن قصده، وعمله الصالح وحرصه على الوحدة والاجتماع، فإنَّهُ سبحانه يثبته ويخرج من الابتلاءات وقد قوي إيمانه، وصلب عوده. وعلى مثل هؤلاء ينزل نصر الله تعالى ويقوم عز الإسلام.
وبقيت مسألةٌ مهمةٌ تتعلقُ بالتميز، ألا وهي ضرورة تميز أصحابِ الدعوات الذين يريدون التمكين لدين الله تعالى عمن حولهم، ممن ابتعدوا عن الدين وتعاليمه، وظهور ذلك في تصوراتهم وأفهامهم، وفي عبادتهم وسلوكهم، وفي دعوتهم وصبرهم وتضحيتهم.
وعليهم أن يوصلوا ما يحملونه من علمٍ ودعوةٍ إلى طبقات الناس قدر استطاعتهم، حتى يتم البلاغ وتقوم الحجة، ويُعرف أصحاب الدعوة بين الناس بمنهجهم الواضح وأهدافهم العالية، ومن أهم ما يقومُ به أصحاب الدعوة حتى يحصل التميز القيام فضحهم للباطل وأهله، وتبيين سبيل المجرمين للناس حتى لا تختلط عليهم الأمور ويلتبس الحق بالباطل، ومالم يتم هذا البيان فإنَّ الناس المضللون قد يُستخدمون في مواجهة أصحاب الدعوة لعدم وضوحهم ووضوح دعوتهم في مجتمعات الناس، وذلك بما يستخدمه أعداء الدعوة من تضليل وتلبيس للناس، سواء في تشويه أهل الدعوة وإظهارهم للناس بمظهر المفسدين والمهيجين للفتن، أو بما يضفونه على أنفسهم من أنهم أصحاب الحق وحماته.
فمالم يحصل البلاغ الكافي، والذي يتميز فيه الحق من الباطل، ويزول التلبيس والتضليل، فإنَّ هذا الأصل أعني أصل التميز لم يتحقق بعد، وعلى الدعاة الصبر والتأني، وبذل الأسباب في تحقيقه قدر الاستطاعة، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وحتى يعطي الواحد من الناس ولاءه لمن يختاره من أهل الحق أو الباطل عن علم وبينة وطواعية.
الأصل الخامس: اتخاذ الأسباب المادية المتاحة والمباحة في تبليغ الدعوة ومواجهة أعدائها:(1/958)
والمقصود بهذا الأصل هنا أن لا يتكل أصحاب الدعوة على أنهم مسلمون والله ناصرهم؛ فيفرطون في الأخذ بالأسباب. نعم إنَّ الله عز وجل لو شاء لانتصر من أعدائه بكلمة واحدة، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن ينتصر دينهُ بجهد البشر، كما قال تعالى : (( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض )) ( محمد : 4 ) .
وإذا علم الله سبحانه أنَّ عباده المؤمنين المصلحين قد بذلوا ما في طاقتهم من الأخذ بأسباب النصر وأصوله من الفهم والمعتقد الصحيح والمقاصد الحسنة المتجردة لله تعالى واجتماع القلوب وتميز الصف والصبر على ابتلاءات الطريق، وبذلت الجهود الكبيرة، وأخذ بالأسباب والوسائل المتاحة، والتي توصل إلى تحقيق هذه الأصول. ومن ذلك الجوانب الاقتصادية التي توفر المال للدعوة، لأنها من أهم الأسباب التي يحصل بها قوة الدعوة وانتشارها، واعتماد الدعوة بعد الله تعالى على نفسها. إذا علم الله سبحانه أنَّ أصحاب الدعوة قد بذلوا كل ما في وسعهم ولم يفرطوا في الأخذ بأسباب النصر السابقة، واستعدوا للجهاد في سبيل الله تعالى، وقال قائلهم بعد ذلك : (( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ )) (القمر:10).
فإنَّ نصر الله عز وجل ينزل حين ذاك كما نزل على أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام-، وكما نزل على عباده المصلحين المجاهدين في مراحل التاريخ الإسلامي. ولم يكلف أصحاب الدعوة بمعرفة الطريقة التي سينزل بها نصر الله تبارك وتعالى، ولكن حسبهم أن يوقنوا بنصرِ الله عز وجل، وأنَّ لهُ سُبحانه جنود السموات والأرض، وهو على كل شيءٍ قدير، وأنَّه سبحانه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهذا يقودنا إلى الأصل السادس.
الأصل السادس: التوكل على الله عز وجل والاستعانة به وحده:
وهذا أصل مهم من أصول النصر والتمكين، وهو في حقيقته داخلٌ في الأصل الأول والثاني، لأنَّ صحةَ الفهم والمعتقد يجعل أصحاب الدعوة فاهمين لحقيقة التوكل، وأنَّهُ يعني تمام الثقة بالله عز وجل والاعتماد عليه مع فعل الأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها، لأنَّ خالق الأسباب ومسبباتها هو الله عز وجل، كما أنَّ حسن القصد والإخلاص يجعلهم لا يتعلقون بالأسباب ولا يعجبون بأنفسهم وإيمانهم وكثرة أتباعهم، وإنما يوقنون بأنَّهم ضعفة عاجزون لا حول لهم ولا قوة إذا لم يعنهم الله عز وجل ويقويهم.
وإفراد هذا الأصل هنا في أصلٍ مستقل مع دخوله فيما سبق للتأكيد على أهميته ولوجود من يغفله في كثير من الأحيان، وفي زحمة الأخذ بالأسباب.
وإنَّ الأخذ بهذا الأصل يعني تقوية اللجوءِ إلى الله عز وجل، ودعائه والتضرع بين يديه في استجلاب النصر ودفع الشر، مما يكون لهُ الأثر في إضفاءِ الطمأنينة واليقين والثبات، ومن اليقين والثقة بوعد الله عز وجل اليقين الذي لا يتزعزع بأنَّ لله عز وجل جنود السموات والأرض، وأنَّهُ سبحانه ينصر عباده(1/959)
المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر بجندٍ من جنوده، ويظهر ذلك للعيان ولو كان عباده في قلة من العدد والعتاد، ولو كان أعداؤهم في قوة عظيمة من العدد والسلاح وأدوات الدمار.
إنَّهُ لا يجوز لأصحاب الدعوة أن ينسوا نصر الله عز وجل لأنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- بجنوده الذين سخرهم لنصرة عباده الذين بذلوا ما في وسعهم من العبودية له سبحانه، والدعوة إلى دينه، وإبلاغه للناس والصبر على ابتلاءات الطريق، فلقد نُصِرَ نوح - صلى الله عليه وسلم - بالطوفان، ونصر هود - صلى الله عليه وسلم - بالريح، وصالح - صلى الله عليه وسلم - بالصيحة، ومحمد- عليه الصلاة والسلام- بالرعب والملائكة التي قاتلت معه في بدر وأحد وحنين وغيرها من الغزوات، بل إنَّ الناظرَ في انتصارات المسلمين بعد ذلك وفتوحاتهم ليلحظ أنهم كانوا دائمًا في قلةٍ من العدد والعتاد مقابل أعدائهم من الفرس والروم وغيرهم، ومع ذلك انتصروا بنصر الله عز وجل لهم.
إذن من لوازم التوكل على الله عز وجل اليقين بتدخل قوة الله عز وجل لنصر عباده المؤمنين بآياتٍ ومعجزات، وتثبيت للمؤمنين، وبث للرعب في قلوب أعدائهم وغير ذلك مما يقدره سبحانه في وقته المناسب وفق علمه سبحانه وحكمته.
والناس في نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين بالآيات والمعجزات طرفان ووسط.
الطرف الأول :
الذين يرون أنَّ الله عز وجل سينصرُ المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاءِ على أعداء الدين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر، أولم يكملوها، فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإنَّ نصر الله عز وجل سينزل عليهم، لأنَّهم مسلمون وكفى وهذا الفريق من الناس يفرطُ في العادة في الأخذ بأسباب النصر، أو يطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقةً وآية من الله عز وجل.
ولا يخفي ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين.
الطرف الثاني :
وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردةَ فعلٍ له، وذلك بقولهم بأنَّه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد، والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبِّون الأسباب المادية، ويفرطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه، وعلم أنَّ عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه. ومعلومٌ أنَّ المسلمين في كل وقتٍ وبخاصة في هذا الوقت لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح، لأنَّهُ ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرفٍ وغفلةٍ عن أسباب النصر الشرعية، ونسيان لقوة الله تعالى، والذي(1/960)
لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصرُ بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض.
الوسط :
وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهُم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربُّوا أنفسهم على ذلك وبلغوهُ للأمة قدر استطاعتهم، حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفرٍ وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم، ومع أخذهم بهذه الأسباب، فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب، ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين، الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه : ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) (محمد: 7).
ولم ينسوا قوله تعالى : (( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (الفتح:7).
وقوله تعالى : (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )) (المدثر: 31).
بل هم موقنون بتدخل قوة الله عز وجل وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت في القوة والدمار، لأنَّ قوة الله عز وجل فوق قوتهم ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها. ولكن هذا لا يكون إلاَّ لمن حقق أسباب النصر والتمكين.
أسأل الله عز وجل أن يشرفنا بنصرة دينه، وإعلاءِ كلمته وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.
والحمد لله رب العالمين
__________
[1] رواه الترمذي : كتاب الإيمان باب ( 18 ) ما جاء في افتراق هذه الأمة
5 / 26 ( رقم : 2641 ) .
ــــــــــ
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي
رئيسي :أحوال العالم الإسلامي :الأحد 26 ربيع الأول 1425هـ - 16 مايو2004 م
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله وخيرته من خلقه، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد،،،
فإن أسباب الانتصار والهزيمة في التاريخ الإسلامي موضوع مهم ينبغي أن يعرفه المسلمون عموماً، والدعاة إلى الله خصوصاً، ينبغي أن يبحثوه ويتأملوه ليعرفوا أسباب النصر، فيعملوها، وينشروها، ويعرفوا أسباب الخذلان والهزيمة، فيجتنبوها، ويحاربوها، ويبعدوها.(1/961)
ومن المعلوم عند كل مسلم أن الله وعدنا أن ينصر هذا الدين وأن يمكن لعباده المؤمنين، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْاَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور].
إذن: هذا وعد صادق لابد أن يتحقق.. وقد تحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد خلفائه، ومرت السنون والقوة الإسلامية والتمكين لها في الأرض بين مد وجزر، فبعد القرون المفضلة أصبح التاريخ الإسلامي يمر بفترات هزيمة وبفترات انتصار، ولكن النصر كلمة واسعة عامة شاملة تشمل:
انتصار الداعية: حتى ولو قتل، فهناك من الدعاة من قتل، ومن عذب، ومن شرّد، ولكنه في النهاية نصره الله- أي نصر المنهج الذي عاش من أجله، حتى ولو قتل ذلك الداعية- وأقرب مثال لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي مات سجيناً، ثم إنه بعد عدة قرون ييسر الله من يقوم بنفس المباديء التي دعا إليها شيخ الإسلام، وهو الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويرفع لوائها، وينشرها في هذه الأرض، فليس النصر بالمعنى العام هو الظهور في الأرض فقط، إنما حديثنا يتركز حول الظهور على العدو والتمكين في الأرض .
الأمة الإسلامية اليوم تواجه واقعاً مأساوياً، نستطيع أن نلخصه في ثلاث نقاط:
1- هزيمة نفسية تنتاب كثيراً من أفراد الأمة: ومع الأسف حتى على مستويات كبيرة حتى وجد من ينادي بالانخراط في منظومة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لنكون عجلة من عجلات هذا النظام، ويقوده ذلك الرجل الغربي الكافر .
2- تبعية في مجالات كثيرة: ومن أهمها التبعية الثقافية والفكرية، والاقتصادية، وتبعيات كثيرة .
3- الأمر الثالث الذي يتضح فيه واقع الأمة: الضعف والذلة والتفرق: فأصبحت الأمة المسلمة رغم كثرتها وامتداد ساحتها ورقعتها أصبحت أضعف الأمم، وأقل الأمم شأناً في هذا العصر، بينما الأمم الأخرى لا يمكن أن يحصل شيء في هذه الأرض إلا بعد أن يؤخذ رأيهم حتى البوذيين في الصين يؤخذ رأيهم، وأما الأمة المسلمة فإنه لا يؤخذ رأيها حتى في قضاياها هي ! وصدق فيها قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
إذن: لابد لهذه الأمة أن تعرف أسباب النصر والهزيمة، وأن تتلمس واقعها هذا، والأمور التي أدت إلى نزولها إلى هذا الحضيض، وأن تحاول أن تنتشل نفسها، وأن تخرج إلى ما أراد الله لها من قيادة هذه الدنيا، ومن سيادة العالم .فنحاول أن نلخص أسباب النصر والهزيمة بدون استطراد وتوسع وإلا فهي تحتاج إلى مجلدات.(1/962)
أسباب النصر والهزيمة:
أولاً: من أسباب النصر:
لعل أهم سبب من أسباب النصر لهذه الأمة هو:
1- الإيمان الصادق والعمل الصالح: يقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإذن لابد من إيمان صادق وعمل صالح : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وهنا شرط مهم : {...يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة:{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[56]}[سورة النور]. فإذن: لابد من إيمان صادق، ومن عمل صالح.
ومن أهم ما يتمثل فيه هذا الإيمان:
أ- عبادة الله سبحانه وتعالى عبادة خالصة ليس فيها شرك .
ب- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، فما أمر به يفعل، وما نهى عنه يجتنب .
ج- التوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه، والاستنصار به جل وعلا، ودعاؤه والاستغاثة به: كما كان نبينا يفعل، ومن يقرأ قصة غزوة بدر يجد ذلك واضحاً حيث قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ] فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ...إلخ الحديث.رواه مسلم.
د- الصبر والثبات: سواء كان ذلك في المعركة، أو قبل المعركة: صبر على الابتلاء، صبر على المحن، فلا يمكن أن يمكن لهذا الدين إلا بعد ابتلاءات ومحن، ثم إذا صُفي ونُقي جاء التمكين، وجاء النصر، فلابد من صبر وثبات كما قال جل وعلا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا...[45]}[سورة الأنفال]. وكما قال سبحانه:{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[66]}[سورة الأنفال].(1/963)
هـ- ذكر الله كثيراً ...{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...[45]}[سورة الأنفال] . إذا قارنت هذا الأمر الإلهي الذي طبقه النبي وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، ثم قارنته بهذا العصر الذي نعيشه؛ وجدت أن أهل هذا العصر يدخلون المعركة، وهم يغنون، ويرقصون؛ فتكون النتيجة هزيمة ساحقة، وخيبة ماحقة .
2- ومن أسباب النصر: وحدة صف الأمة: أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
3- كذلك من أسباب النصر: وجود القيادة المؤمنة القوية: فالقيادة العلمية القوية وقيادة الدنيا إذا اجتمعتا تحقق النصر والتمكين، أما إذا وجدت القيادة العلمية، ولكن ليس معها قوة تحميها وتدافع عنها وتجاهد لنشرها فإنها لا تقوى ولا تنتصر.
4-إعداد العدة والأخذ بالأسباب: قال الله:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ...[60]}[سورة الأنفال]. كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة، فأعدوه صغيراً كان أو كبيراً ما دمتم تستطيعونه عليكم أن تعدوه.{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الخيل تدخل في القوة، فلماذا خصها بالذكر؟ خصها بالذكر لحكمة وهي: أن نعتني بأهم أسباب القوة، فالخيل في عهد النبي هي أهم أسباب القوة، فما دمنا نستطيع أن نوجد أهم أسباب القوة فإن علينا أن نعتني بها، في غزوة بدر لم يكن مع النبي إلا فارس واحد، وقيل: اثنان، وأكثر الأقوال أنهم ثلاثة.ويقول الحافظ ابن حجر:لم يثبت أو لم يصح أنه وجد فارس إلا المقداد وحده . فهذا هو قدر استطاعتهم، وكان مع قريش مائة فارس، والخيل في ذلك الوقت مثل الطائرات في زماننا هذا، فنحن مطالبون بأن نعد ما نستطيع ولسنا مطالبين بأن نعد ما لا نستطيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب الموجودة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.
وعلينا أن نعلم حقيقة مهمة وهي: أنه لم يلتق ولم يحصل يوم من الأيام أن كانت قوة المسلمين أقوى من قوة الكافرين، فالكافرون دائماً هم الأكثر، والكافرون دائماً هم الأقوى من ناحية العدة والعتاد، ولكن جانب الإيمان يرجح المسلمين على عدوهم ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا استبطأ النصر(1/964)
من قادته كتب لهم:'إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين فلعلكم أحدثتم أمراً'. يذكرهم لعلكم أحدثتم شيئاً فراجعوا أنفسكم، هل أخللتم بشيء من أسباب النصر.
- سؤال: هل أمة الإسلام اليوم مطالبة بأن يكون لديها مثل ما لدى اليهود من السلاح؟ ومثل ما لدى اليهود من الخبرات ومثل ما لدى اليهود من التقدم العلمي والتكنولوجي؟
الجواب: لا، الأمة ليست مطالبة بهذا، الأمة مطالبة بأن تكون مؤمنة، وأن يكون صفها موحداً، وأن تكون قيادتها مؤمنة، ثم أن تُعِدَّ ما تستطيع من الأسباب، وتستعين بالله، وتجاهد في سبيله وسَتُنْصَرُ وتُمَكَّنُ.. هذا هو الشيء المطلوب، وهذا هو الذي يريح قلب المؤمن، ويدخل السرور على نفسه، فإننا لسنا مطالبين بأن نكون أقوى من الكفار، ولا حتى بأن نماثلهم، ولا حتى بأن نكون قربهم، بل علينا أن نعد ما نستطيعه، ثم نجاهد، وسينصرنا الله جل وعلا، وأفغانستان عبرة لمن اعتبر حيث لم يكونوا يحملوا إلا أسلحة قليلة ضعيفة بالنسبة لما كان في أيدي الشيوعيين الروس، ومع ذلك خذل الله الروس على أيدي أولئك الذين يسمون في القاموس الغربي بالبدائيين .
وفعل الأسباب وإعداد العدة ينقسم لأمور كثيرة جداً لعل أهمها:
أ - إعداد الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة: هذه هو أهمها وأولها، فتعد هذه القوة التي هي الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة بالإيمان والعمل الصالح أولاً، وينقى الصف المؤمن من غير هؤلاء، ولذلك بمجرد أن تطالع كتب 'الفقه الإسلامي' تجدهم يقولون: وعلى القائد أن يمنع المخذل والمرجف من أن يسير مع الجيش؛ لأن هذا منافق لا يستطيع أن يواجه الكفار إذا حمي الوطيس.
فإذن: لابد من إعداد الجندي المؤمن الذي يذكر الله كثيراً، والذي يحافظ على طاعة ربه، ويجتنب ما نهاه الله عنه، والذي نصب عينيه أن يموت شهيداً ليدخل الجنة بفضل الله. كما قال عمير بن الحمام-لما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] وكان بيده تمرات بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ- ربما لا تتجاوز خمس تمرات - إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
إذن إذا وجد مثل هذا النموذج الذي يقدم على الموت، فإنه سيوهب لنا النصر، وستوهب لنا الحياة، وسنحصل على الحسنيين .
ب - الأمر الآخر في إعداد العدة إعداد العدة العسكرية: بالعتاد.. بالأجهزة.. بما نستطيع من قوة فنعد ذلك ونجهزه، حتى لا يبقى سبب من أسباب النصر في استطاعتنا إلا وفعلناه، فإذا أعددنا تلك العدة، فإن القلوب تنام وهي مطمئنة مرتاحة .(1/965)
ت - ومن العدة أيضاً: إعداد الأموال اللازمة: فإن الأموال الآن أصبحت عماد الجهاد، بل هي عماد الجهاد منذ عصر النبي، ولعل الجميع يتذكر أن عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة، فماذا كانت جائزته؟ كانت جائزته: [ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ] رواه الترمذي وأحمد. هذه جائزته لماذا؟ لأن المال هو عصب الجهاد، فلا بد أيضاً أن تعد الأمة الأموال اللازمة للجهاد في سبيل الله .
ث - ومن إعداد العدة: ألا يغفل المسلمون عن معرفة عدوهم وعن قدراته: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما أخذ السقاة الذين جاءوا يستقون الماء لقريش ثم سألهم: كم عدد قريش؟ كم ينحرون من الجزر؟ كم معهم من الخيل؟ من معهم من صناديد قريش؟ معهم فلان وفلان،ينحرون من الجزر كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ ] رواه أحمد . فَأَعَدَّ لذلك عدته، فهذا واجب من واجبات المسلمين، فلا يستهينوا بعدوهم، واحتقار العدو ليس من شأن المسلمين بل إننا نبحث عن مكامن القوة ومواطن الضعف فيه، ثم نستنصر بالله جل وعلا عليه، ومع ذلك علينا أن نتأمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ] رواه البخاري ومسلم.أي أننا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا عليهم وأن يخذلهم، حتى ولو لم نلتق بهم ولم نقاتلهم .
5- من أهم أسباب النصر: الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
6- من أهم أسباب النصر التي ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:كيف ذلك؟
الأمة- أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] من هم يا رب؟(1/966)
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا: تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
7- أيضاً من أهم أسباب النصر: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا كتبت عليهم الذلة'.
الجهاد سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] . عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط فيها أهلها فضاعت.(1/967)
ومن المعلوم عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] .
فإذن: هم لن يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى.. سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام.. سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين على حذر .
8- ثم أخيراً من أهم أسباب النصر: السلامة من أسباب الخذلان والهزيمة، ومنها:
أ -أهم أسباب الخذلان والهزيمة: هو الانحراف عن الصراط المستقيم: سواء كان هذا الانحراف انحرافاً عقدياً، أو انحرافاً عملياً، يعني سواء كانت المعاصي في باب الاعتقاد: بالإلحاد في أسماء الله وصفاته.. بالشرك الأكبر والشرك الأصغر، أو كان بالردة الكاملة باعتناق المذاهب الكافرة كالشيوعية، والقومية، والعلمانية، أو كان من باب الأعمال أي المعاصي العملية.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[40]}[سورة العنكبوت] . فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما عليك إلا أن تقرأ كتاب ربك وستجد ذلك واضحاً، وعلى سبيل المثال: اقرأ قصة أصحاب سبأ، واقرأ قصة أصحاب السبت، واقرأ سبب إغراق قوم نوح، واقرأ سبب إهلاك قوم عاد وثمود وقوم لوط، وما حصل لقوم موسى، وما حصل لغيرهم من الأمم؛ فستجد الذنوب هي السبب في ذلك .
أولا:الانحراف العقدي وأثره: سنضرب على الانحراف في العقيدة مثلين هما شاهد حي على أن الأمة إذا انحرفت اعتقاديا،ً فإنها تضعف وتذل:
الشاهد الأول من القرن الرابع الهجري: فقد شهد مداً رافضياً شديداً، فقامت دول رافضية في شرق الجزيرة في البحرين والأحساء قامت دولة القرامطة، وفي بلاد فارس والعراق دولة بني بويه، وفي بلاد الشام الحمدانيون- أبو فراس الحمداني وجماعته كانوا رافضة- وفي بلاد المغرب قامت الدولة العبيدية الإسماعيلية القرمطية، والتي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة الفاطمية، ثم بعد ذلك انطلقت فأخذت مصر، ثم الحجاز. والقرامطة أهل البحرين وصلوا إلى الحجاز، وأخذوا في ذلك القرن الحجر الأسود وبقي عندهم اثنتان وعشرون سنة، ووصلوا إلى دمشق، ولم يبق من بلدان المسلمين سالماً من المد الرافضي(1/968)
إلا القليل، وأذكر لكم ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث حصلت في ذلك الزمن ثم انظروا إلى تعليقاته رحمه الله على تلك الحوادث .
إنه مع قيام تلك الدول الضالة الرافضية تقدم النصارى من بلاد الروم، فأخذوا بعض بلاد المسلمين، وفعلوا من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان، يذكر الحافظ ابن كثير بعض هذه الحوادث، ثم يعلق عليها، فيقول في حوادث سنة 359 للهجرة:'وفيها دخلت الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز، وسبوا من أهلها الشيوخ والأطفال نحواً من عشرين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون' ثم يعلق على ذلك بقوله:'وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله'. ثم يذكر أيضاً في حوادث سنة359 هـ أيضاً أن ملك الروم فعل أعظم من ذلك في طرابلس الشام، وفي السواحل الشامية وحمص وغيرها، يقول رحمه الله :'ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر ما قدر عليه، ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو مائة ألف إنسان ما بين صبي وصبية وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم'.
تصوروا عدو من أعداء المسلمين يأتي ويأخذ مائة ألف أسير من المسلمين ولا يرجع إلا بسبب الأمراض التي فتكت بجيشه ولم يحاربه أحد من ملوك الرافضة الذين كانوا ملوك الأرض في ذلك الوقت، تذكروا ما ذكرناه في أول الموضوع أن من أسباب النصر القيادة المؤمنة، ويعلق ابن كثير على ما كان يفعله الروافض في ذلك القرن من سب الصحابة، وما يفعلونه من البدع والضلالات، فيقول في حوادث سنة 351 هـ بعد أن ذكر غارات الروم وقتلهم ما لايحصى من المسلمين قال:' وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة الله علي معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا أيضا:ً ولعن الله من غصب فاطمة حقها-يعنون أبا بكر رضي الله عنه-، ومن أخرج العباس من الشورى -يعنون عمر رضي الله عنه-ومن نفى أبا ذر-يعنون عثمان رضي الله عنه- 'يقول ابن كثير رحمه الله:' رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله' . ثم تكلم قليلاً ثم قال:'ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة-يقصد ابن بويه وكان رافضياً- لم ينكره ولم يغيره قبحه الله وقبح شيعته من الروافض'.
انظروا إلى تعليق ابن كثير وهو المراد في هذه المحاضرة يقول:'لا جرم أن الله لا ينصر هؤلاء وكذلك سيف الدولة ابن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم، وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الإفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع' - ثم بعد(1/969)
ذلك صور حال المسلمين-' والناس معهم في حصر عظيم وضيق من الدين وأهل هذه المدن-يقصد دمشق وحلب وحمص وحماة- التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الإفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد خير الأنبياء'.
هذا نتيجة الانحراف العقائدي الذي استحوذ على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري بل استحوذ على حكامها وقادتها في ذلك الوقت.
أما الشاهد الثاني، فأضربه لكم من عصرنا هذا: فقد هُزم العرب أمام اليهود رغم أنه لا تناسب بين العددين، ورغم ما كان يتشدق به طواغيت العصر في الشام، وفي مصر من أنهم سيلقون باليهود في البحر، وسيفعلون وسيفعلون، كان أولئك يرفعون لواء القومية، ولواء الاشتراكية، ويحاربون الإسلام وكان طاغوتهم الأكبر قد قتل سيد قطب رحمه الله قبل المعركة بسنة، ثم لما جاءت المعركة كانت إذاعاتهم ترفع النشيد الآتي تقول موجهة الخطاب لطائرات اليهود:
ميراج طيارك هرب خايف من نسر العرب
والميج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر
هذا كانت تتغنى به إذاعة دمشق في ذلك الوقت، إذن كانت تلك الهزيمة الساحقة التي أخذ فيها ما تبقى من فلسطين، وأخذت أضعاف أرض فلسطين مثل سيناء والجولان كانت بسبب تلك القيادات الفاجرة المنحرفة التي تسلطت على رقاب المسلمين، وكانت سبب من أهم أسباب الخذلان والهزيمة .
ثانيًا: الانحراف في ناحية المعاصي العملية، وبالإمكان أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- معاصي تؤثر أثناء المعركة: كمعصية أمر القائد في أثناء المعركة مثل ما حصل في يوم أحد لما ترك الرماة الجبل، وخالفوا أمر النبي، فحصل ما حصل مما تعرفونه.
2- معاصي تؤثر من قبل المعركة: وهذه سنطيل في الحديث عنها، فنتركها إلى الأخير.
3- وهناك معاصي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً:وهذه المعاصي تؤثر تأثيراً مباشراً في هزيمة الأمة أمام أعدائها، وقد بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] حديث صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.
والعينة نوع من أنواع الربا والربا قد انتشر الآن في بلدان المسلمين فحقت عليهم الذلة، [وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] يعني: الإخلاد إلى الدنيا والالتفات إليها.
[وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] من أسباب ضرب الذلة، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا]، ليس الذل على اليهود فقط، بل الذل يضرب أيضاً على هذه الأمة إذا عصت أمر ربها، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ] لا يرفعه إلى متى؟ ليس إلى أن يصبح عندكم مليون جندي، ولا أن يصبح عندكم ألف طائرة، ولا أن يصبح(1/970)
عندكم خمسة آلاف دبابة، لا.. وإنما [حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فإذا رجعتم إلى دينكم يرفع الله عنكم الذلة، بهذا الشرط الوحيد، وهو أن ترجعوا إلى دينكم كله من أوله إلى آخره، لا تقولوا: هذه قشور وهذا لباب، ولا تقولوا: هذه سنن وهذه وهذه ، ولا تقولوا: هذه تفرق المسلمين إذا بحثت أمور العقائد بين السنة والروافض، أو بين السنة والأشعرية وغيرهم . بل تأخذ هذا الدين كاملاً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، تأخذ به كاملاً نقياً صافياً.. فعند ذلك يمنح لك النصر، ويمنح لك الظفر على العدو .
ننتقل إلى المسألة الثانية:وهي المعاصي التي توعد عليها بأنها سبب من أسباب الهزيمة فمن ذلك مايلي:
أ ] الظلم: الظلم ليس سببًا من أسباب الهزيمة فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط الدول، وتغير الأحوال، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة استقرائية ماتعة يقول:' إن الدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرة، وتسقط مع الظلم وإن كانت مسلمة'. [انظر:السياسة الشرعية] .
ب] ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سبب من أسباب الهلاك ونزول العذاب، يقول الله:{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[116]وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117]}[سورة هود] . إذا كان أهلها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يهلكهم الله، أما إذا تركوا ذلك، وانتشرت الرذائل، وأصبحت علانية، فليسوا مهددين بالهزيمة بل بأعظم من ذلك، وهو أن يهلكهم الله، ويحل بهم العذاب، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد.
كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب الاختلاف، وسبب من أسباب التفرق، وهذا من أهم أسباب الهزيمة.
ج] نقض عهد الله وعهد رسوله: فقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ... فذكرها، ومنها: [ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ] حديث صحيح رواه ابن ماجة وغيره . ومن المعلوم أن العدو لن يستطيع أن يأخذ بعض ما في أيدي المسلمين من الأموال، أو من الأراضي، أو من غيرها إلا بعد أن يهزم المسلمون، ويستذلوا.(1/971)
د] الغلول: والغلول المراد به أخذ مال المسلمين بغير حق : جاء في الموطأ عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:' مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ...' . ومن المعلوم أنه إذا ألقى الله الرعب في قلوب قوم فإنهم لن يواجهوا العدو وسيهزمون ويولون الأدبار هذا أمر لا شك فيه ..
هـ ] من المعاصي التي توعد الله عليها بأن أصحابها يهزمون ولا ينصرون، البطر والفخر والغرور والعجب: قال سبحانه:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[47]}[سورة الأنفال]. فهذا الرياء والبطر والكبر في الأرض، ثم الصد عن سبيل الله أي: الصد عن دينه حتى ولو عن جزئية من جزئيات الدين، الصد عنها منذر بوقوع الهزيمة كما دلت عليه هذه الآيات . وكذلك العجب قال الله:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]}[سورة التوبة] . فلما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وقالوا: لن نغلب هذا اليوم من قلة؛ ما أغنت عنهم كثرتهم شيئاً، وبعض الروايات تقول: إن هوازن لم يتجاوزوا الثلاثة آلاف رجل . والصحابة كانوا عدة أضعاف لهوازن، ومع ذلك ولوا مدبرين لما أعجبوا بأنفسهم، ونسوا الاعتماد على ربهم عز وجل.
وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي: أنك عندما تقرأ في القرآن في أعقاب ذكر غزوات النبي؛ لا تجد أبداً أن الله يمدح المؤمنين، ويشيد ببطولاتهم، إنما يبين لهم أن هذا النصر الذي تحقق إنما هو فضل منه:{ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]}[سورة آل عمران]. { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[10]}[سورة الأنفال].
بل إنك تجد أن الله ينبه المؤمنين إلى أخطاء وقعت منهم، وهم منتصرون، فيقول لهم يوم بدر:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...[67]}[سورة الأنفال] .{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} ثم قال لهم بعد:{... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال] . كأن هذا إشارة إلى أن اختلافكم في قسمة الغنائم والأنفال ليس بجيد، فاحذروا أن تخالفوا أمر الله وأمر رسوله.
فإذن: ما قال لهم لقد أحسنتم وفعلتم وفعلتم.. ما أشاد بهذه البطولات التي فعلها الصحابة يوم بدر، بل نبههم على أخطاء، وذكرهم بأن لا يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يعجبوا بأنفسهم، إنما النصر من عند الرب وحده لا شريك له. كذلك في أحد عندما تقرأ قصة أحد تجد أن الله نبههم على مكمن الخطأ وسبب ما حاق بهم وما حصل لهم . فالله سبحانه ينبهنا على أن المسلم دائماً يجب أن يكون خاشعاً لله، معتمداً عليه، مستنصراً به، مخلصاً له، يعلم أن النصر من عنده ليس بعدد ولا بعدة .
السبب الثاني من أسباب الهزيمة:(1/972)
ب ] الفرقة والاختلاف: تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم سبب من أسباب الهزيمة الماحقة، يقول الله:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وهذا الأمر بالإضافة إلى الأمر السابق وهو المعصية كان من أعظم أسباب سقوط الأندلس.
ج ] من أسباب الهزيمة في تاريخنا الإسلامي: موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم: لقد حذرنا الله من ذلك تحذيراً شديداً، وأبدأ وأعاد حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه الله:'لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي عن موالاة الكافرين' . وفيآية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أي: لا يقصرون فيما يفسدكم. { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا ما يشق عليكم.{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما استطاعوا إخفاءها. { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة آل عمران] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار وكاتبهم من أجل أن تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور .
قد يندس شياطين الإنس من المنافقين في صفوف المؤمنين، ولا يميزهم المؤمنون، فمن رحمة الله بالمؤمنين أن تتوالى الابتلاءات على المؤمنين، فتكشف حقيقة المنافقين، وتميز الصف المؤمن وتطهره من هؤلاء المندسين حتى يتميز الصف، ويصبح مؤمناً خالصاً، وما هذه الابتلاءات التي حصلت لإخواننا المجاهدين في أفغانستان سابقاً ولا حقاً إلا فيما نحسب من هذا الباب، ليميز الله الصفوف فتتساقط الأوراق المندسة التي لا يستطيع المؤمن أن يكشفها لتظاهرها بالإيمان.
د ] ومن أهم أسباب الهزيمة: ترك إعداد العدة والإخلاد إلى الدنيا وملذاتها والإغراق في اللهو وطلب الراحة مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يدخل المعركة، ولا أن يواجه العدو .
هذه بعض أسباب الهزيمة التي مرت في التاريخ الإسلامي، وهي ليست كلها، ولو تتبعت واستقرأها شخص من بطون كتب التاريخ لوجدها أضعاف ما ذكرنا أضعافاً كثيرة، ولكن حسبنا أن نذكر الأهم والأقل يدل على الأكثر .وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم .
من محاضرة:' أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي' للشيخ/ بشر البشر
ــــــــــ
أسباب النصر
فإن الأمة الإسلامية اليوم تتطلع إلى نصر عاجل يرفع عنها هذا الذل والهوان الذي تسربلت به ، وينقلها من دركات المهانة والإذلال إلى درجات العزة والرفعة والسمو ...(1/973)
نصراً يعيد لها مجدها السابق ، وحماها المستباح ....
ولاشك أن الناصر هو الله تعالى وحده .... فهذه عقيدة الموحدين التي لا يساومون عليها ... ولا يشكون فيها ... عقيدة ثابتة مغروسة في النفوس ....
ولكن الله تبارك وتعالى قد جعل لذلك النصر أسباباً وأمر بتحصيلها والاعتناء بها حتى تؤتي الشجرة ثمرتها ....
وهنا جملة من أسباب النصر مادية ومعنوية فاسأل الله تعالى التوفيق والسداد .
أول تلك الأسباب : الإيمان بالله تعالى [ باطناً و ظاهراً ] .
قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )
قال تعالى : (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )
ولاشك أن من أسباب الهزيمة المعاصي .... ومن أسباب النصر الطاعات
الثاني : الصبر
قال تعالى : ( بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) .
قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
الثالث : الإخلاص لله تعالى . [ أن يكون القصد نصر دين الله وإقامة شرعه ]
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) .
قال تعالى : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) .
وعلامة المخلص ... (( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ))
الرابع : الإعداد المادي
قال تعالى : ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ...)
فلما تركنا هذا التوجيه الرباني الكريم صرنا مطمع كل طاغية وكافر ....
الخامس : الائتلاف وعدم الاختلاف
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .(1/974)
فلما اختلفنا زرع الأعداء بيننا من ليس منا ... ليزيد الفرقة والتمزق ... حتى صرنا قطعاناً تتناهشها الكلاب ....
السادس : التوكل على الله والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع بالدعاء إليه ....[ وهذه مجموعة من الأسباب آثرت جمعها مع بعضها لقوة الترابط بينها ]
قال تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )
قال تعالى : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
قال تعالى : (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ))
قال تعالى : ( ... أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )
السابع : الإقدام وعدم الإحجام ....
قال تعالى : (( قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))
ولذلك كان الانغماس في العدو من أفضل الجهاد لما ينتج عنه من علو في الهمم ، ورفع للمعنويات ، وبه تقوى عزائم أهل الإيمان ، وبه تتحطم معنويات أهل الظلم والطغيان ...
وفي المقابل حرم التولي يوم الزحف وصار من السبع الموبقات لما يسببه من الهزيمة .... والتثبيط .... ورفع معنويات العدو ....
الثامن : مشاورة القائد [ حاكماً أو قائداً ] لأصحابه [ أصحاب الرأي والمشورة من أهل الحل والعقد وغيرهم ] وإشراكهم في صناعة القرار.... [ فتطيب النفوس وتقوى العزائم ]
قال تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... )
قال تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )
وهذا يشمل الجهاد وغيره فهو قاعدة عامة .
أخوكم التونسي
شبكة أنا المسلم
ــــــــــ
أصول جامعة في النصر والهزيمة وفقه الابتلاء
رئيسي :علم :الخميس 5 جمادى الأخرة 1425هـ - 22 يوليو 2004(1/975)
الأصل الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار- والواقع شاهد بذلك-. وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا، فمعولهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض؛ هان عليهم تحمل المشاق والبلاء. والكفار لا رضا عندهم، ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:{ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]}[سورة النساء] . فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرًا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله، ومؤنته، ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه؛ كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه.
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان-وإن كان في الظاهر بخلافه- قال الحسن:' إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه'.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ] رواه مسلم. فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم، فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.(1/976)
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض، والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة، والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم؛ لكان ذلك عَالمًا غير هذا، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[37]}[سورة الأنفال] .
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز وجل:
فمنها:استخراج عبوديتهم، وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين، غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة.
فإذا غُلبوا.. تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا؛ أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة. ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا؛ لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية: أن كانت لهم الدولة تارةً، وعليهم تارةً، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم، والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[141]أَمْ(1/977)
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[141] وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ[143]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[144]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[145]}[سورة آل عمران].
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله، ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولًا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها كالأرزاق والآجال، ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم -وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه- ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعًا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة، لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو؛ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة، والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد، ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم..فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم؛ ليعلم من يريده ويريد ما عنده، ممن يريد الدنيا وزينتها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[7]}[سورة هود]. وقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[7]}[سورة الكهف]. وقال:{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...[2]}[سورة الملك]. وقال تعالى:{...وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء].(1/978)
وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]}[سورة محمد]. وقال تعالى:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت].
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين:
إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا. فأما من قال: آمنت، فلابد أن يمتحنه الرب، ويبتليه ليتبين: هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب، فإن كان كاذبًا؛ رجع على عقبيه، وفر من الامتحان كما يفر من عذاب الله. وإن كان صادقًا؛ ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانًا على إيمانه، قال تعالى:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]}[سورة الأحزاب].
وأما من لم يؤمن: فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلابد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة، وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه من الصبر والثبات، والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته، وأما الكافر، والمنافق، والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم.
فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة، فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت، أو كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداءً، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم ألبتة.. يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم؛ آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلابد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم، أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل، وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم.
ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم، فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى. وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة؛ أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما(1/979)
ناله من اللذة أولًا بموافقتهم.. فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألمًا عظيمًا دائمًا.. والتوفيق بيد الله.
الأصل الحادي عشر: أن البلاء الذي يصيب العبد في الله لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارةً، وبتألمها بدون التلف.. فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس، ومن المعلوم: أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات، وأفضلها، وأعلاها، ولكن الفار يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول:{ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا[16]}[سورة الأحزاب]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا؛ إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال:{ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[17]}[سورة الأحزاب]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله إن أراد به سوءًا غير الموت الذي فرّ منه، فإنه فرّ من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيره؛ لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه، وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال، والعرض، والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته؛ سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنؤه وعلى مخلفه وزره، وكذلك من رفه بدنه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله، وفي سبيله؛ أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.. قال أبو حازم:' لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذي يتقى الله من معالجة التقوى'.
واعتبر ذلك بحال إبليس، فإنه امتنع من السجود لأدم فرارًا أن يخضع له، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادمًا لأهل الفسوق والفجور من ذريته، فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته. وكذلك عباد الأصنام أنفوا أن يتبعوا رسولًا من البشر، وأن يعبدوا إلهًا واحدًا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار.(1/980)
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يبذل ماله في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته، لابد أن يذل لمن لا يسوى، ويبذل له ماله، ويتعب نفسه وبدنه في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف:' من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته'.
من كتاب:'إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان' للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله.
ــــــــــ
أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة
بينما كنت مهموما أتابع أخبار المسلمين وما أصابهم من مصائب، خاطبتني نفسي قائلة: يا هذا، أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة، بل وأنت سبب رئيس في كل البلاء الذي نحن فيه !
قلت لها: أيا نفسي كيف ذاك وأنا عبد ضعيف لا أملك سلطة ولا قوة، لو أمرت المسلمين ما ائتمروا ولو نصحتم ما انتصحوا ..
فقاطعتني مسرعة، إنها ذنوبك ومعاصيك ، إنها معاصيك التي بارزت بها الله ليل نهار .. إنه زهدك عن الواجبات وحرصك على المحرمات ..
قلت لها: وماذا فعلت أنا حتى تلقين عليّ اللوم في تأخير النصر ..
قالت: يا عبدالله والله لو جلست أعد لك ما تفعل الآن لمضى وقت طويل، فهل أنت ممن يصلون الفجر في جماعة؟
قلت: نعم أحيانا، ويفوتني في بعض المرات ..
قالت مقاطعة: هذا هو التناقض بعينه، كيف تدّعي قدرتك على الجهاد ضد عدوّك، وقد فشلت في جهاد نفسك أولا، في أمر لا يكلفك دما ولا مالا، لا يعدو كونه دقائق قليلة تبذلها في ركعتين مفروضتين من الله الواحد القهار ..كيف تطلب الجهاد، وأنت الذي تخبّط في أداء الصلوات المفروضة، وضيّع السنن الراتبة، ولم يقرأ ورده من القرآن، ونسي أذكار الصباح والمساء، ولم يتحصّن بغض البصر، ولم يكن بارّا بوالديه، ولا واصلا لرحمه ؟
واستطردت: كيف تطلب تحكيم شريعة الله في بلادك، وأنت نفسك لم تحكمها في نفسك وبين أهل بيتك، فلم تتق الله فيهم، ولم تدعهم إلى الهدى، ولم تحرص على إطعامهم من حلال، وكنت من الذين قال الله فيهم: { يحبون المال حبا جما } ، فكذبت وغششت وأخلفت الوعد فاستحققت الوعيد ..
قلت لها مقاطعا: ومال هذا وتأخير النصر؟ أيتأخر النصر في الأمة كلها بسبب واحد في المليار ؟
قالت: آه ثم آه ثم آه، فقد استنسخت الدنيا مئات الملايين من أمثالك إلا من رحم الله.. كلهم ينتهجون نهجك فلا يعبأون بطاعة ولا يخافون معصية وتعلّل الجميع أنهم يطلبون النصر لأن بالأمة من هو أفضل منهم، لكن الحقيقة المؤلمة أن الجميع سواء إلا من رحم رب السماء .. أما علمت يا عبدالله(1/981)
أن الصحابة إذا استعجلوا النصر ولم يأتهم علموا أن بالجيش من أذنب ذنبا .. فما بالك بأمة واقعة في الذنوب من كبيرها إلى صغيرها ومن حقيرها إلى عظيمها .. ألا ترى ما يحيق بها في مشارق الأرض ومغاربها ؟
بدأت قطرات الدمع تنساب على وجهي، فلم أكن أتصوّر ولو ليوم واحد وأنا ذاك الرجل الذي أحببت الله ورسوله وأحبببت الإسلام وأهله، قد أكون سببا من أسباب هزيمة المسلمين .. أنني قد أكون شريكا في أنهار الدماء المسلمة البريئة المنهمرة في كثير من بقاع الأرض ..
لقد كان من السهل عليّ إلقاء اللوم، على حاكم وأمير، وعلى مسؤول ووزير، لكنني لم أفكر في عيبي وخطأي أولا .. ولم أتدبّر قول الله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }
فقلت لنفسي: الحمد لله الذي جعل لي نفسا لوّامة، يقسم الله بمثلها في القرآن إلى يوم القيامة .. فبماذا تنصحين ؟
فقالت: ابدأ بنفسك، قم بالفروض فصل الصلوات الخمس في أوقاتها وادفع الزكاة وإياك وعقوق الوالدين، تحبّب إلى الله بالسنن، لا تترك فرصة تتقرّب فيها إلى الله ولو كانت صغيرة إلا وفعلتها، وتذكر أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة، لا تدع إلى شيء وتأت بخلافه فلا تطالب بتطبيق الشريعة إلا إذا كنت مثالا حيا على تطبيقها في بيتك وعملك، ولا تطالب برفع راية الجهاد وأنت الذي فشل في جهاد نفسه، ولا تلق اللوم على الآخرين تهرّبا من المسؤولية، بل أصلح نفسك وسينصلح حال غيرك، كن قدوة في كل مكان تذهب فيه .. إذا كنت تمضي وقتك ناقدا عيوب الناس، فتوقّف جزاك الله خيرا فالنقّاد كثر وابدأ بإصلاح نفسك .. وبعدها اسأل الله بصدق أن يؤتيك النصر أنت ومن معك، وكل من سار على نهجك، فتكون ممن قال الله فيهم: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقداكم } .. واعلم أن كل معصية تعصي الله بها وكل طاعة تفرّط فيها هي دليل إدانة ضدّك في محكمة دماء المسلمين الأبرياء ..
فرفعت رأسي مستغفرا الله على ما كان مني ومسحت الدمع من على وجهي ..
وقلت يا رب .. إنها التوبة إليك .. لقد تبت إليك ..
ولنفتح صفحة حياة جديدة .. بدأتها بركعتين في جوف الليل .. أسأل الله أن يديم عليّ نعمتهما ..
ــــــــــ
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه .
أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له ، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه ، كما قال سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقال عز وجل : الر كِتَابٌ(1/982)
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية ، وقال سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له ، وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما ، كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها ،
والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله ، وإخلاص له في العمل ، وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله ، فإن معناها : لا معبود حق إلا الله ، فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يجب أن تكون لله وحده ، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات ، ولقوله عز وجل : وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الآية ، وقوله عز وجل : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وقوله سبحانه : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ وقال تعالى : وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ وقال عز وجل : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه ، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم ، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له ، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل ، ونفي الفلاح عن أهله ، كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعا غيره ، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب
لداعيه إلى يوم القيامة ، وأنه غافل عن دعائه إياه ، وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه ، ويتبرأ منها ، ويعاديه عليها ، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه ، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم .
وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة ، وأن العبادة بحق لله وحده ، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ الآية من سورة الحج .
وذكر سبحانه في مواضع أخرى من كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة ، وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم ، كما قال عز وجل : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وقال تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ(1/983)
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
فالواجب على كل ذي لب أن ينظر فيما خلق له ، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده ، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة ، وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها ، لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وخلاصة دعوتهم ، ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومقتضى هذا الإيمان ، تصديقه صلى الله عليه وسلم في إخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه ، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام . وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا ، لا يصح إسلامها ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله ، وإخلاص العبادة له عز وجل ، ومتابعة رسولها صلى الله عليه وسلم ، وعدم الخروج عن شريعته ، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده ، وأخبر أنه هو دينه ، كما في قوله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا وقوله عز وجل : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران :
أحدهما : أن لا يعبد إلا الله وحده ، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
الثاني : أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله ، ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده ، والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء ، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا ، كما قال الله عز وجل : ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وقال سبحانه : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقال تعالى : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال عز وجل : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله ، وترشد الأمة حكومة وشعبها إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به ، والحذر مما يخالفه ، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها ، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه ، ولا صلاح(1/984)
للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله ، وينفذوا حكمه في عباده ، ويخلصوا له القول والعمل ، ويقفوا عند حدوده التي حدها لعباده ، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعز في الدنيا والآخرة ، كما يفوزون بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب ، والعز الغابر ، كما قال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وقال سبحانه : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا ، وأنهم يودون عنتهم ، قال بعد ذلك : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون ، وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق ، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ ، وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه .
وإني لأنصح إخواني أهل العلم والقائمين بالدعوة إلى الله سبحانه بأن يعنوا بهذا الأصل العظيم ويكتبوا فيه ما أمكنهم من المقالات والرسائل حتى ينتشر ذلك بين الأنام ويعلمه الخاص والعام ، لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه ، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور ، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك .
ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها .
فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا ، وأن يصلح قادتهم وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما يخالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين .
ــــــــــ
التمكين وتأويل الأحاديث
23/7/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر(1/985)
"وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ"(يوسف: من الآية21). ما أحوجنا إلى الوقوف مع هذه الآية في هذه الظروف التي تعيشها الأمة.
القنوط واليأس دخل كثيراً من القلوب بعد ما رأوا أعداء الله يعودون إلى استعمار بعض بلاد المسلمين مرة أخرى، ومن ذلك ما يفعله اليهود في فلسطين، وما يفعله الغرب في أفغانستان والعراق، نفوس أصابها التشاؤم واليأس والقنوط، والله غالب على أمره.
لقد تواترت الآيات مانعة من الخوف إلا من الله _جل وعلا_، وكذلك الخشية إلا من الله "فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ "(آل عمران: من الآية175)، "فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ "(المائدة: من الآية3). "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل"(آل عمران: من الآية173). فعلينا أن نثق بالله وبوعده، وأن نأخذ بالأسباب التي توصلنا إلى العز والسؤدد والمجد، فلنحسن الظن بالله ولنثق به "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً"(الطلاق: من الآية3). "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" (غافر:51) . "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ "(يوسف: من الآية110).
هذه الآية "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ"(يوسف: من الآية21) من سورة يوسف الذي عاش ألوان الابتلاء، يأتي تصديقها في نفس السورة "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ" (يوسف: من الآية21)، التمكين تمكين خاص وعام، وقد حصل عليهما يوسف _عليه السلام_ مكنه الله في أول الأمر من قلب العزيز، ومكنه الله _جل وعلا_ في داخل السجن، وهذا تمكين خاص.
ثم جاء التمكين العام عندما قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، فأصبح هو عزيز مصر، بل هو سيد مصر الآمر الناهي، حكم فيه بشريعة الله _جل وعلا_ "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" (يوسف: من الآية21)، وكأن الآية تشير إلى أن من يأخذ بالأسباب التي أخذ بها يوسف فسيكون نهايته التمكين _بإذن الله_.
والسؤال: كيف نصل إلى ما وصل إليه يوسف؟
والجواب: هنالك أسباب جعلها الله _جل وعلا_ من أخذ بها حصل على التمكين، إما التمكين الخاص أو التمكين العام ولعله تأتي الإشارة بشي من التفصيل إلى ذلك لاحقاً أما ما يهمنا هنا فهو ما يتعلق بتأويل الأحاديث، فالله _عز وجل_ قرن به التمكين، فقال _سبحانه_: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ"(يوسف: من الآية21). ذكر بعض العلماء أن تأويل الأحاديث هنا ليس محصوراً فيما يتعلق بتعبير الرؤى بل هو أعم من ذلك، فيشمل تفسير الأحداث(1/986)
وتوقع نتائجها والقدرة على التعامل معها، فيوسف _عليه السلام_ أكرمه الله بتأويل الأحاديث أي تعبير الرؤيا، وهذا معنى أوّلي، وهو ما مشى عليه عامة المفسرون، ومعنى آخر، وهو تأويل الأحاديث، بمعنى تفسير الأحداث واستشرافها والتخطيط لها، وهذا ما حصل عندما ولي أمر تدبير ما بدء تحققه مما توقعه بعد تأول الرؤيا.
ولعل هذا الضرب من تأويل الأحاديث فيه شبه مما أعطيه عمر بن الخطاب _رضي الله تعالى عنه_، فقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" [أخرجاه في الصحيحين] وليس ذلك من ادعاء علم الغيب. كلا وحاشا، بل هي فراسة وعلم قائم بذاته، يبنى على الحقائق والدراسات والأرقام. يلهمه الله بعض خلقه، وخاصة إذا توافر فيهم الصدق، والإيمان، والتقوى، فينير الله بصيرتهم، ويجعل لهم فرقاناً.
ولعل الناظر إلى علم دراسات المستقبل، والذي غدا اليوم علماً مستقلاً يدرس في أعرق الجامعات، يلحظ أن الذين تفارقهم التقوى والإيمان يخطئون كثيراً في هذا الجانب رغم عظم ما عندهم من وسائل مادية وإمكانات.
أما إذا توافر مع هذا العلم تقوى وورع وصدق مع الله _جل وعلا_ والتجاء إليه، فيجعل الله لأصحابه فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، وفراسة لا تكاد تخطئ، وقد قال الله _عز وجل_: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ "(البقرة: من الآية282). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً"(لأنفال: من الآية29).
كما إن دراسة السنن الكونية من الأهمية بمكان، فالسنن لا تتخلف. وكذلك دراسة التاريخ الذي تمر به حوادث مشابهة يستفيد اللبيب من نتائج تصرفات أهل تلك الحقبة، وكل ذلك جزء مما يسمى اليوم بعلم (فقه الواقع)، والذي يجب أن يبنى على الكتاب والسنة، ويجب أن نكون فيه وسط بين الإفراط والتفريط.
فهناك من غلا في هذا العلم فأخرجه عن حده، وهناك من أنكره، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فأصل هذا العلم في الكتاب والسنة، وفي سيرة السلف _رضوان الله تعالى عليهم_ وهو علم له أصوله ومنطلقاته، كما أنه من أهم ما نحتاج إليه في عصرنا الحاضر، بل ما أحوجنا إلى أن تنشأ له المعاهد والكليات المتخصصة، وما أحوجنا إلى ربطه بالكتاب والسنة، و السنن الكونية والأحداث التاريخية، مع ملاحظة واقعنا وقدراتنا وإمكاناتنا وأحوال أعدائنا، مع الالتجاء إلى الله بأن يهدينا سواء السبيل "اللهم اهدني وسددني" كما ورد في حديث علي عند مسلم.
وبهذا يكون تعاملنا مع هذا العلم تعاملاً واقعياً بلا إفراط أو تفريط ، ويكون عالم الشرعية على مستوى من الوعي بما يقع في أمته وما يحيط بها من أخطار.(1/987)
وبهذا نصبح قادرين على رسم الطريق الصحيح لخروج الأمة من واقعها الأليم، قادرين على استثمار كل خطأ وكل حدث قد يصدر من الآخرين، مترقبين له متوقعين، وبهذا يحصل العز والتمكين للمسلمين، كما حصل لنبي الله يوسف من قبل "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".
نسأل الله أن يعز جنده، وأن يظهر كتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــ
الجهاد في سبيل الله فضله ومراتبه وأسباب النصر على الأعداء
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، أما بعد،،،
فهذه كلمات مختصرة في 'فضل الجهاد في سبيل الله تعالى، وأسباب النصر على الأعداء'، أوجهها إلى كل مجاهد لإعلاء كلمة الله، والله أسال أن ينصر المجاهدين في سبيله في كل مكان، وأن يوفقهم للعمل بعوامل النصر وأسبابه، والإخلاص في القول والعمل، والرغبة فيما عند الله من الثواب العظيم والتجارة الرابحة، والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.
أولًا: مفهوم الجهاد لغة وشرعًا:
لغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل.
شرعًا: بذل الجهد من المسلمين في قتال الكفار، والبغاة، والمرتدين ونحوهم.
ثانيًا: حكم الجهاد في سبيل الله تعالى:الجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين [انظر:المغني لابن قدامة]. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122]}[سورة التوبة].
ويكون الجهاد فرض عين في ثلاث حالات[انظر:المغني لابن قدامة]:
1ـ إذا حضر المسلم القتال والتقى الزحفان وتقابل الصفان، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ[15]وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[16]}[سورة الأنفال]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي يوم الزحف من السبع الموبقات [رواه البخاري ومسلم].
2ـ إذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تعين على أهل البلاد قتاله وطرده منها، ويلزم المسلمين أن ينصروا ذلك البلد إذا عجز أهله عن إخراج العدو، ويبدأ الوجوب بالأقرب فالأقرب، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}[سورة التوبة].(1/988)
3ـ إذا استنفر إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك.
وجنس الجهاد فرض عين: إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد. فيجب على المسلم أن يجاهد في سبيل الله بنوع من هذه الأنواع حسب الحاجة والقدرة. والأمر بالجهاد بالنفس والمال كثير في القرآن والسنة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد.
ثالثًا: مراتب الجهاد في سبيل الله:الجهاد له أربع مراتب: جهاد النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكرات .
رابعًا: الحكمة من مشروعية الجهاد: بيّنه سبحانه فقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[39]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[193]}[سورة البقرة]. فعلى هذا يكون الهدف والحكمة من الجهاد الأمور التالية:
أولاً: إعلاء كلمة الله تعالى: لحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم.
ثانيًا: نصر المظلومين: قال تعالى:{ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا[75]}[سورة النساء].
ثالثًا: ردّ العدوان وحفظ الإسلام: قال الله تعالى: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[194]}[سورة البقرة]. وقال سبحانه:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج].
خامسًا: أنواع جهاد الأعداء:
1ـ جهاد الكفار، والمنافقين، والمرتدين[انظر التفصيل في زاد المعاد 3/100 و6-11 والمغني لابن قدامة 12/264].
2ـ جهاد البغاة .
3ـ الدفاع عن الدين، والنفس، والأهل والمال:عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ]رواه أبوداود والترمذي والنسائي وأحمد.(1/989)
وعَنْ مُخَارِقٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الرَّجُلُ يَأْتِينِي فَيُرِيدُ مَالِي قَالَ: [ذَكِّرْهُ بِاللَّهِ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَذَّكَّرْ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلِي أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: [فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ] قَالَ فَإِنْ نَأَى السُّلْطَانُ عَنِّي قَالَ: [قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَكُونَ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ أَوْ تَمْنَعَ مَالَكَ]رواه النسائي وأحمد.
سادسًا: فضل الجهاد في سبيل الله تعالى: من ذلك على سبيل المثال:
1ـ الجهاد في سبيل الله تجارة رابحة:
قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[111]}[سورة التوبة].
وقال تعالى في تجارة المجاهدين الرابحة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[10]تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[11]يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[12]وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[13]}[سورة الصف].
وقال سبحانه: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[74]}[سورة النساء].
2ـ فضل الرباط في سبيل الله تعالى: الرباط على الثغور التي يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الإسلام له فضل عظيم، فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ]رواه مسلم.
3ـ فضل الحراسة في سبيل الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه الترمذي.
4ـ فضل الغدوة أو الروحة في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا]رواه البخاري، ومسلم-مختصرا-.
5ـ فضل من اغبرَّت قدماه في سبيل الله: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ] رواه البخاري.(1/990)
6ـ الجنة تحت ظلال السيوف: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
7ـ الجهاد لا يعدله شيء: عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: [لَا أَجِدُهُ] قَالَ: [هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ] قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ . رواه البخاري ومسلم .
8 ـ درجات المجاهدين في سبيل الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ]رواه البخاري.
9ـ ضيافة الشهداء عند ربهم: عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يَغْفِرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ وَيُزَوَّجُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ]رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف الحور العين: [...وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا]رواه البخاري.
10ـ دم الشهيد يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ وَرِيحُهُ مِسْكٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ]رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
11ـ تمني الشهيد أن يقتل عشر مرات:عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ]رواه البخاري ومسلم.
12ـ أرواح الشهداء تسرح في الجنة: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]}[سورة آل عمران] قَالَ أَمَا إِنَّا(1/991)
قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: [أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلَاعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا] رواه مسلم .
13ـ ما يجد الشهيد من ألم القتل:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الشَّهِيدُ لَا يَجِدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ الْقَرْصَةَ يُقْرَصُهَا]رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
14ـ فضل النفقة في سبيل الله: قال تعالى:{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[261]} [سورة البقرة]. وعَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ]رواه النسائي.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ]رواه مسلم.
15ـ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[170] يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171]} [سورة آل عمران].
16ـ الجهاد باب من أبواب الجنة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ]رواه أحمد.
17ـ ما يُبلِّغ منازل الشهداء:ويحصل هذا الخير العظيم لمن سأل الله الشهادة بصدق، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ] رواه مسلم .
18ـ فضل المجاهدين على القاعدين:قال الله: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[95]دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[96]}[سورة النساء].(1/992)
19ـ الرحمة والمغفرة للشهداء:قال الله تعالى:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[157]وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[158]}[سورة آل عمران].
20ـ القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدَّين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ] رواه مسلم.
21ـ المجاهد بنفسه وماله أفضل الناس:عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ] قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ: [ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ]رواه البخاري ومسلم.
22ـ من خرج من بيته مجاهدًا فمات فقد وقع أجره على الله: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[100]}[سورة آل عمران]. و عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ] رواه البخاري ومسلم.
والأعمال بالنيات، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
23ـ مثل المجاهد في سبيل الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: [لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: [مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى] رواه البخاري ومسلم.
24ـ ذروة الإسلام الجهاد في سبيل الله:عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: [رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ]رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد.
25ـ سياحة أمة محمد صلى الله عليه وسلم الجهاد في سبيل الله: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رواه أبوداود.
26ـ الرمي بسهم في سبيل الله يعدل إعتاق رقبة:عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ] رواه الترمذي وصححه. والمحرَّرُ: الرقبة المعتقة، والعدل: المثل. ولفظ ابن ماجة: [مَنْ رَمَى الْعَدُوَّ بِسَهْمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ الْعَدُوَّ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَعَدْلُ رَقَبَةٍ].(1/993)
27ـ عمل قليلاً وأجر كثيرًا: عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ: [أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ] فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا]رواه البخاري ومسلم.
28ـ من جهّز غازيًا فقد غزا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا] رواه البخاري ومسلم. وتجهيز الغازي: تحميله، وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه، ومعنى خلف غازيًا في أهله: أي قام مقامه في مراعاة أحوال أهله..
سابعًا: الترهيب من ترك الجهاد:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ]رواه مسلم.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ] رواه أبوداود وابن ماجة والدارمي، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]رواه أبوداود وأحمد. وللحث على الاستعداد للجهاد في سبيل الله، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى]رواه مسلم .
ثامنًا:أسباب النصر على الأعداء:
1ـ الإيمان والعمل الصالح: قال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[51] يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[52]}[سورة غافر]. وقال سبحانه:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم].
والمؤمنون الموعودون بالنصر هم الموصوفون بقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2]الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[3]أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[4]}[سورة الأنفال]. وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[55]}[سورة النور].
2ـ نصر دين الله: ومن أعظم أسباب النصر: نصر دين الله والقيام به قولاً، واعتقادًا، وعملاً، ودعوة، قال الله تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40] الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ(1/994)
الأُمُورِ[41]}[سورة الحج]. وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7] وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ[8]}[سورة محمد].
3ـ التوكل على الله مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر: قال سبحانه:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[160]}[سورة آل عمران]. ولابد من التوكل من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل يقوم على ركنين عظيمين:
الأول: الاعتماد على الله، والثقة بوعده ونصره.
الثاني: الأخذ بالأسباب المشروعة؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[60]}[سورة الأنفال].
4ـ المشاورة بين المسؤولين لتعبئة الجيوش الإسلامية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه مع كمال عقله، وسداد رأيه، قال سبحانه:{...وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ...[38]}[سورة الشورى].
5ـ الثبات عند لقاء العدو:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ]رواه البخاري ومسلم.
6ـ الشجاعة والبطولة والتضحية:والاعتقاد بأن الجهاد لا يقدم الموت ولا يؤخره، قال الله تعالى:{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...[78]}[سورة النساء].
قال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد
ولهذا كان أهل الإيمان الكامل هم أشجع الناس، وأكملهم شجاعة هو إمامهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ظهرت شجاعته في المعارك الكبرى التي قاتل فيها.
7ـ الدعاء وكثرة الذكر: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[45]}[سورة الأنفال] . وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله في جميع معاركه، ومن ذلك:
مارواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: [اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اللَّهُمَّ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ].(1/995)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَالَ: [اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ]رواه أبوداود والترمذي. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:' حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]}[سورة آل عمران]'رواه البخاري. وهكذا ينبغي أن يكون المجاهدون في سبيل الله .
8 ـ طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: وهي من أقوى دعائم وعوامل النصر، ولهذا قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أحمد.
9 ـ الاجتماع وعدم النزاع: يجب على المجاهدين أن يحققوا عوامل النصر ولا سيما الاعتصام بالله، والتكاتف، وعدم النزاع والافتراق، قال تعالى:{ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...[103]}[سورة آل عمران].
10 ـ الصبر والمصابرة: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[200]}[سورة آل عمران]. وجاء في الحديث: [...وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]رواه أحمد. وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147]}[سورة آل عمران].
11ـ الإخلاص لله تعالى:لا يكون المقاتل مجاهدًا في سبيل الله إلا بالإخلاص، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: [مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] رواه البخاري ومسلم. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ...] رواه مسلم.(1/996)
12ـ الرغبة فيما عند الله: مما يعين على النصر على الأعداء هو الطمع في فضل الله وسعادة الدنيا والآخرة؛ ولهذا نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما يدل على الرغبة فيما عند الله تعالى ما يأتي:
أولاً: ما فعل عمير بن الحمام في بدر حينما قال عليه الصلاة والسلام: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَالَ : [نَعَمْ] قَالَ بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
ثانيًا: ما فعل أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - يوم أحد، تأخر عن معركة بدر، فشق عليه ذلك وقال: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عَنْهُ وَإِنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ فَقَالَ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ قَالَ فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{...رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]}[سورة الأحزاب] قَالَ فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ .رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
.والمسلم المجاهد في سبيل الله تعالى إذا رغب فيما عند الله تعالى، فإنه لا يبالي بما أصابه رغبة في الفوز العظيم.
فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مصرعي
13ـ إسناد القيادة لأهل الإيمان.
14ـ التحصن بالدعائم المنجيات من المهالك، والهزائم، ونزول العذاب: ومن ذلك:
أولاً: التوبة والاستغفار من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها .
ثانيًا: تقوى الله تعالى.
ثالثًا: أداء الفرائض وإتباعها بالنوافل؛ لأن محبة الله لعبده تحصل بذلك، فإذا أحبه نصره، ووفقه، وسدده وأعانه. لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ(1/997)
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ] رواه البخاري.
رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع الاعتقادات، والأقوال والأفعال.
سادسًا: الدعاء والضراعة إلى الله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من كتاب:'الجهاد في سبيل الله : فضله، ومراتبه، وأسباب النصر على الأعداء'
للشيخ/ سعيد بن علي بن وهف القحطاني
ــــــــــ ــــــــــ
الخوف من الله ..وجيل النصر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن من الوسائل المهمة التي تحيي القلب وتدفع بالعبد إلى التسابق في الخيرات، وتحول بينه وبين المعاصي والآثام، هي الخوف من الله عز وجل، إننا نريد خوفاً يصل بنا إلى درجة الانزعاج والفزع، فتتصدع به القلوب وتشيب له الرؤوس ، فإن لم يصل الخوف إلى هذه الدرجة أو قريباً منها فإن التأثر به يصبح وقتياً يزول أثره.
إن الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً بدءوا دعوتهم بتحذير أقوامهم من المآل الذي ينتظرهم إن استمروا على ما هم عليه من كفر وفساد وإعراض، فنوح عليه السلام يقول لقومه ? قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?[ نوح:2] وقال لهم ?... يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[ الأعراف:59]
وهود عليه السلام يقول لقومه كما قص الله: ? وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[ الأحقاف:21]. وهكذا جميع الأنبياء أنذروا وخوفوا الذين أرسلوا إليهم، ورسول الله - صلى الله(1/998)
عليه وسلم - خاتم الأنبياء وإمام المرسلين لما نزل عليه قول الله: ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?[ الشعراء:214].
صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي
"يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال ( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ) . قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب "
وفي رواية أنه جعل يقول - صلى الله عليه وسلم - : "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل( وأنذر عشيرتك الأقربين) . قال ( يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا"
إن الخوف من الله تعالى هو الوسيلة الأكيدة التي توقظ الراقدين، وتنبه الغافلين، استخدمها الرسل أجمعون، وسار على نهجهم الدعاة الصادقون والعلماء العاملون، ففتح الله على أيديهم أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
الخوف من الله هو الدواء الناجح لمن أسر قلبه الهوى، وغلب عليه حب الدنيا ، الخوف من الله هو البداية الحقيقية لسير القلب إلى الله كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل إلا إن سلعة الله غالية ، ألا أن سلعة الله الجنة".
والمعنى من خاف الله عز وجل حمله خوفه على سلوك الصراط المستقيم والإقبال على الآخرة والمبادرة بالعمل الصالح خوفاً من الشواغل والقواطع والعوائق. كالمسافر الذي يغتنم أوقات الليل فيقطع المسافات قبل طلوع الشمس وحرارة الجو ونفاد الزاد وعند الصباح يخمد القوم.
وعن إبراهيم بن شيبان قال: الخوف إذا سكن القلب أحرق مواضع الشهوات فيه، وطرد منه رغبة الدنيا، وأسكت اللسان عن ذكر الدنيا.
وقال ذو النون المصري: الناس على طريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق، ولم لا يكون الخوف على هذه الدرجة من الأهمية؟ وقد مدح الله أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام ، فقال عنهم: ?... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ?[ الأنبياء: 90] ، وقال عن المؤمنين: ? وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ?[ الرعد: 21].(1/999)
وأثنى على الملائكة لخوفهم الشديد من ربهم فقال: ? يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ?[ النحل: 50] ، ?... وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ?[ الأنبياء:28].
ووبخ الله الكفار على غفلتهم وجرأتهم على محارم الله فقال على لسان نبيه : ? مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ?[ نوح: 13] ، قيل في التفسير لا تخافون عظمة الله.
إن الخوف من الله هو الذي منع ابن آدم الأول أن يقتل أخاه عندما هم بقتله فقال: ? لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ?[المائدة: 28].
الخوف من الله هو الذي دفع الرجلين من بني إسرائيل إلى حث قومهما على الشجاعة والثبات والدخول عل الجبارين لجهادهم ومقاتلتهم : ? قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[ المائدة: 23].
والخوف من الله هو الذي أعان القلة الباقية مع طالوت على الثبات وهزيمة جالوت وجنوده كما قال تعالى مخبراً عنهم: ? قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ?[ البقرة: 249].
والخوف من الله والإيمان به هو الذي جعل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون حينما خوفهم المرجفون بالناس فكان كما قال سبحانه عنهم: ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[ آل عمران173].
الذين يخافون الله لا يخشون غيره كائناً من كان وقديماً قال الحسن البصري رحمه الله : من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه كل شيء.
الخوف من الله هو الذي يدفع العباد إلى إخلاص الدين والعمل لله فلا يبتغون به جزاءاً دنيوياً، ولا مدحاً أو ثناء وإطراء من الناس كما قال تعالى عن المؤمنين: ?وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ?[ الإنسان:8-10].
الخوف من الله عز وجل من أهم صفات ومواصفات جيل النصر جيل التمكين والاستخلاف في الأرض كما قال سبحانه وتعالى: ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ?[ إبراهيم:13-14].
إن الخوف من الله عز وجل هو حقيقة التقوى، هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى: ?... وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ...?[ النساء: 131].
الخوف من الله عز وجل هو سبيل الفوز يوم القيامة كما قال سبحانه : ? وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?[ النور: 52].(1/1000)
الخوف من الله هو رأس الحكمة كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - خير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله.
والناس إنما يقتربون ويبتعدون عن ربهم بمقدار التقوى والخوف من قلوبهم يقول سبحانه: ? ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...?[ الحجرات:13] ، والعبادات والطاعات التي شرعها الله هي من أجل زيادة التقوى والخوف من الله ، وخضوع القلوب وخشوعها لبارئها وخالقها فليس المطلوب من العبادات والطاعات بجوارحهم، دون أن تتأثر بها قلوبهم، قال تعالى عن الأضاحي والهدايا التي يتقرب بها إلى الله يوم النحر : ? لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ...?[ الحج: 37] فالمراد من إراقة دماء الهدي في الحج هو زيادة التقوى في القلوب.
وكذلك الحال في سائر العبادات والطاعات، فشهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هي كلمة التقوى من قالها خالصاً من قلبه عاملاً بها دخل الجنة.
والصلاة عنوان الفوز والفلاح مربوطة بالخشوع ? ...وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ?[ البقرة: 45] ، ? َقدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ?[ المؤمنون:1-2] ، ? وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ?[ الإسراء: 109].
والزكاة تطهر النفس وتسمو بها وهي دليل الصدق والإيمان : ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ...?[ التوبة: 103]، والصدقة برهان والصوم الذي فرضه الله تعالى إنما هو لتربية الروح والنفس على الإيمان والتقوى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?[ البقرة: 183].
والقرآن إنما ينتفع به الذين يخافون ويتقون ? وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ?[ الأنعام: 51] ، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً... ?[ الأنفال:2].
فالتقوى هي مقصود العبادات والطاعات، ولذلك أمر الله تعالى عباده بالتزود منها فقال سبحانه: ?... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ?[ البقرة: 197].
الخطبة الثانية:
الخوف من الله تعالى أصل كل خير في الدنيا والآخرة كما قال أو سليمان الداراني : الخوف من الله عز وجل هو سمة الأنبياء والصالحين، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصَعُدات تجأرون إلى الله تعالى"، وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله، أراك شبت؟ فقال : "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت".(1/1001)
ويقول عبد الله الشخير بن عوف - رضي الله عنه - : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء.
وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه كان يمسك بلسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد، وكان يبكي كثيراً خوفاً من الله.
ويقول: ياليتني خَضرة تأكلني الدواب.
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قرأ سورة الطور.. حتى إذا بلغ قول الله عز وجل: ? إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ?[ الطور:7] بكى واشتد بكاؤه، حتى مرض وعاده الناس.
وكان في وجهه - رضي الله عنه - خطان أسودان من البكاء، قال له ابن عباس رضي الله عنهما في مرض موته: يا أمير المؤمنين مصر بك الأمصار وفتح بك الفتوح وفعل وفعل فقال: وددت أن أنجو ولا أجر ولا وزر. وعثمان بن عفان - رضي الله عنه -، كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يبكي خوفاً من الله.. وكان يقول يا دنيا غري غيري، وأبو الدرداء - رضي الله عنه - كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي : يا أبا الدرداء، قد علمت فكيف عملت فيما علمت.
وقرأ تميم الدري - رضي الله عنه - ليلة سورة الجاثية فلما أتى على هذه الآية? أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ?[ الجاثية: 21] ، جعل يرددها ويبكي عليها حتى أصبح وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان علي كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل.
أيها المؤمنون إن اضطراب أمورنا وأحوالنا وفسادها سببها عدم الخوف من الله والدار الآخرة، فسبب إعراض المعرضين وتكذيب المكذبين واستكبار المستكبرين هو عدم خوفهم من الله والدار الآخرة كما قال تعالى فيهم: ? كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ?[ المدثر: 53] ، فلو خافوها لما أعرضوا ولما غفلوا : ? فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ?[المدثر:49-53].
الذين يمارسون الظلم ويعتدون على الآخرين في أموالهم وأعراضهم ودمائهم الذين يفعلون ذلك لا يخافون الله ولا يرجون لقاءه الذين ينتهكون المحرمات ويستبيحون الزنا والربا والخمر ويروجون للفساد في المجتمعات هؤلاء لا يخافون الله ولا يخافون الآخرة.(1/1002)
الذي يعبث بمقدرات الأمة ويهدر ثرواتها ويبدد طاقاتها الذي يسرق وينهب ويختلس ويخادع هؤلاء لا يخافون الله ولا يخافون الآخرة.
الذي يخون دينه ويتآمر على أمته ويبيع أخلاقه وقيمه ومبادئه بعرض من الدنيا قليل، من يفعل ذلك لا يخاف الله ولا يخاف من لقاءه.
من يحارب أولياء الله ويوالي أعداء الله، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل من يفعل ذلك لا يخاف الله ولا يرجو لقاءه. هذا الموقف المتخاذل والمخزي والمشين الذي يقفه الحكام وتتفرج الشعوب على إخوانهم الذين يقتلون ويشردون ويحاصرون ويتآمر عليهم العدو الخارجي والداخلي في فلسطين سببه عدم الخوف من الله وعدم اليقين بلقائه.
أمور كثيرة ومظاهر عديدة تعج بها الأسر والمجتمعات وتكتوي بنارها في الحياة سببها الحقيقي الجهل بالله وعدم الخوف منه، والاغترار بهذه الحياة الزائلة والمنقضية.
وإذا ما أردنا أن نصلح نفوسنا وأحوالنا فما علينا إلا أن نتعرف على الله ربنا وخالقنا وأن نطيعه وأن نخافه وأن نذكره ونشكره ونواصل الليل بالنهار في ذكره وشكره وطاعته وعبادته لنكون من أهل قوله سبحانه وتعالى: ? أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ?[ الزمر: 9].
العلم الذي يعرفك بالله ويكسبك خوفه وتقواه هو العلم النافع الذي يخلصك من عذاب الله، هذا العلم لا يوجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويلتمس عند العلماء الربانيين الذين يخشون الله ويتقونه كما بينهم في كتابه العزيز.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
(1)ـ البخاري 4/1787 ، حديث رقم: 4492.
(2)ـ البخاري 3/1012، حديث رقم: 2602.
(3)ـ سنن الترمذي 4/633 ، حديث رقم: 2450، وصححه الألباني.
(4)ـ سنن الترمذي 4/566 ، حديث رقم: 2312 ، وحسنه الألباني.
(5)ـ سنن الترمذي 5/402 ، حديث رقم: 3297، وصححه الألباني.
ــــــــــ
بوابة النصر الانتصار على النفس
26/7/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21). ويأتي مصداق هذه الآية تمكين يوسف بعد محن عظام، فكيف مكن ليوسف في الأرض؟ يأتي هذا السؤال، وأمتنا تعيش هذه الظروف الصعبة من تسلط الأعداء، ومن ظلم الظالمين، حتى بلغ اليأس مبلغه في(1/1003)
نفوس كثير من المسلمين. فيأتي التساؤل، هل لهذه الأزمة من مخرج؟ هل لهذا البلاء من نهاية؟ هل يمكن أن ينتصر الدعاة، تنتصر المؤسسات، رغم ما يحاك لها؟ ورغم واقعها! ولماذا فشلت كثير من المؤسسات والدعوات في هذا العصر.
لماذا؟ لأنها أخلت بأركان الانتصار.
إن هناك عوامل التزمها يوسف عليه السلام فظهر وانتصر، وما التزم بها فرد أو جماعة أو أمة إلا انتصرت. الانتصار العاجل والانتصار الآجل. وسأقف مع أبرز هذه العوامل والأسباب التي كانت ظاهرة في سورة يوسف.
إن أول انتصار حققه يوسف عليه السلام، هو انتصاره على نفسه. ومن لا ينتصر على نفسه لن ينتصر على غيره، فالمهزوم من هزمته نفسه قبل أن يهزمه عدوه. إن بداية انتصار يوسف عليه السلام هي انتصاره على نفسه. عندما تفاجأ إخوانه، بأن الذي أمامهم هو عزيز مصر، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف:88) (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ) (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ،قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)(يوسف: من الآية91)، فانتصر يوسف عليه السلام على نفسه عندما انتصر، وانتصر لأنه انتصر على نفسه فلم يحمل حقداً جراء ما حصل، وبعض الناس يعميه الحقد أو الحسد فتغلي نفسه يقوم ويقعد ولاهم له إلاّ النيل ممن أخطأ في حقه فيخطئ بذلك درب المعالي وعزم الأمور وينشغل بالسفاسف والقضايا الشخصية وبنيات الطريق (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور).
ومن مظاهر انتصار يوسف عليه السلام على نفسه قصته مع امرأة العزيز، فقد انتصر فيها انتصارات متعددة، (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، فانتصر على نفسه في مراودة امرأة العزيز له، ويبين هذا الانتصار قوله صلى الله عليه وسلم، في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله" [متفق عليه]. فقوله إني أخاف الله انتصار عظيم. يوسف عليه السلام قال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون). وذلك انتصار وأي انتصار على النفس في هذه المعركة الشرسة ومع من! مع امرأة العزيز.
ثم بعد ذلك انتصر يوسف على نفسه ولسانه بعفة منطقه العجيبة! أتريد أن تعرف عظم هذا الانتصار؟ قسه بمقداره تمكنك من سيطرتك على لسانك. وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أمسك عليك لسانك. قال له الصحابي الجليل أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ قال له ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟ [رواه الحاكم وصححه].(1/1004)
لقد رأيت عجباً في سيرة يوسف عليه السلام من عفة منطقه ولسانه؛ مع إخوانه، ومع العزيز، ومع امرأة العزيز. عفة ندركها عندما نرى ضعف الآخرين في سيطرتهم على ألسنتهم. وإليك بعض الأمثلة التي تدل على عفته وانتصاره على لسانه بينما عجز كثير عن ذلك:
لما أرسل له الملك يطلب منه الخروج من السجن في المرحلة الأولى، قال للرسول: (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن). أين العفة؟ لم يقل له ارجع إلى ربك فاسأله عن امرأة العزيز التي راودتني، لم ينطق بها. قال: (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن)، من أجل ألا يحرجها، وألا يحرج النسوة، وألا يحرج زوج المرأة. هذه عفة وتعبير عن المراد بأسلوب عجيب.
انتصر على نفسه عندما جاءه إخوانه وقالوا له في قصتهم مع أخيه، قالوا: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل). هذه القضية تهمة اتهم بها يوسف وهو منها بريء عليه السلام، وذلك عندما كان صغيرا. وقد ذكر المفسرون أقوالا لعله يتأتى المرور عليها في حينها إن شاء الله. والآن وهو عزيز مصر، وهم لا يعلمون أنه يوسف، وبعدما فعلوا به ما فعلوا، وهو يدرك أن كل ما مر به من محن في تاريخه بسببهم؛ من بعد عن أبيه، ومن رمي في البئر، ومن سجن، في قصة امرأة العزيز، ومرة أخرى يكررون تهمة باطلة. ماذا فعل؟ هل ضربهم؟ هل سجنهم؟ هل رد عليهم أمام الملأ؟ لا .. (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ )(يوسف: من الآية77)، (قال أنتم شر مكانا). فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم. وأي انتصار على النفس هذا الانتصار!
ومن انتصاره على نفسه أيضا وهو تبع لهذا الموضوع، الدقة العجيبة في التعبير عما يريد دون أن يقع في الكذب إطلاقا. وكل منا يحاسب نفسه وينظر مدى قدرته على حفظ لسانه وإبعاده عن الزور. لما قال له إخوانه ولم يعلموا أنه يوسف، (أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين). ماذا قال؟ قال: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده). لم يقل معاذ الله أن نأخذ إلا من سرق. وإنما قال: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)، لأن أخاه لم يسرق، وهو يعرف أن أخاه لم يسرق. فكيف يعبر بتعبير يتخلص من مطلبهم دون أن يقول كلمة زور واحدة، بل قال الحقيقة: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. وهم قد وجدوا متاعهم عند بنيامين حقاً، لكنه لم يسرق، وهذا التعبير دقيق، انتصار على النفس والشيطان والهوى، وأعظم ما يكون عندما يكون من رجل في السلطة يستطيع أن ينفذ ما يريد ويقول ما يشاء، وقد لا يحاسبه أحد في الدنيا، ومع ذلك يحاسب يوسف عليه السلام نفسه قبل أن يحاسبه الناس.
ومن انتصار عليه السلام على نفسه، عفوه عن إخوانه. هل تريد، أن تعرف مقدار هذا الانتصار؟ لنتأمل أحوالنا، قد يسيء إلينا بعض الناس، إساءات قد نكون سببا فيها، أو قد نشارك في نسبة من سبب تلك الإساءة، ومع ذلك نعجز عن العفو أو الصفح! بل أعجب من هذا إذا عفونا أو صفحنا أتبعنا ذلك بالإساءة لهم عن طريق المن عليهم، بعفونا عنهم! مع أن ما يمر بنا قد لا يعادل جزءا يسيرا(1/1005)
مما حصل ليوسف عليه السلام، ابتداء من أول القصة إلى هذه المرحلة. فماذا كانت النتيجة وكيف كان تصرفه؟ (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين). (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم). دون تأنيب ودون عذل ودون سجن. تسامح، وصفح، وعفو..
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحوهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا
إنه الانتصار على النفس، إذا هذه المسائل بمجموعها تدل على أن يوسف عليه السلام انتصر على نفسه،فولج بوابة الانتصار.
نسأل الله أن يقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يهدينا لأحسن الأفعال والأخلاق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ــــــــــ
بوابة النصر
رئيسي :تربية :الأربعاء 8 شعبان 1425هـ - 22 سبتمبر 2004 م
الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار، أما بعد،،،
في ظلام الليل الذي يعقبه نور الصباح.. وفي نزول القطر بعد إقفار الأرض.. وفي أحوال كثيرات..وبما في تضاعيف التأريخ المُشْرِق لهذه الأمة من بواعث النصر، ومُحْييات التمكين؛ نزداد يقيناً، واقتناعاً بما في أُفق الدنيا من لوائح المبشرات، وحينها ؛ نعم في ذلك الحين ينبثق نور بوابة النصر..فَيَلِجُ منها من ذاق مرارة السطوة الظالمة، ويدخل منها من تفطرت كبده قهراً على تكالب سُرَّاق المشاعر، فإلى أولئك أقول: عليكم بما في ثنايا الموضوع فإنها أعمدة تلك البوابة، وعليكم باغتنام سويعات النصر فإن الفجر لاح، وحذار من مُغْلِقَاتِ البوابة فهي كثيرة محبوبة .
أولاً: أعمدة النصر:
1- الإيمان بالله والنصر: قال تعالى:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم]. وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[51]}[سورة غافر].(1/1006)
في هاتين الآيتين قضى الله أن نصره وتأييده إنما هولعباده المؤمنين.. نعم؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تحلي العباد بالإيمان بالله برهان كبير على أنهم هم المنصورون، وأنهم هم الجند الغالبون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات].
وكما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]}[سورة المائدة].
فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل؛ كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، وقاصر عن التمام؛ فإن النصر لهم بحسب ذلك .
وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان والتوحيد؛ نجد أن أغلبها راجع إلى الإيمان قوة وضعفاً:
فهذا يوم الفرقان، يوم بدر: نصر الله عباده المؤمنين نصرًا أصبح شجى في حلوق المشركين زماناً، وكان من أعمدة النصر في تلك الغزاة أن قَوِيَتْ قلوب المؤمنين إيماناً بالله تعالى.
وفي التأريخ المشرق لهذه الأمة المنصورة، والمُخَلَّدَة إلى قيام الساعة صورٌ كثيرة جداً لوقائع نصر مبين للمؤمنين .
فهذا عمود من أعمدة النصر على الأمة أن تأتي به إن كانت تطمح بالنصر، وترمق بعين الشوق إلى التمكين في الأرض، أما إن كانت تريد نصراً بلا إيمان فما هي وطالب السمك في الصحراء إلا سواء .
إن الله أخبرنا بأنه حافظ دينه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وأخبر أن البقاء لدينه فقال:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف]. وهل نور الله تعالى إلا الإيمان والدين، ونصرته له نصرة لعباده القائمين بهذا الدين، والمُتَحَلِّيْنَ بهذا الإيمان . فلا مجال حينئذٍ لمداهمة اليأس قلوبَ الصالحين، بل الدربُ مستنير، وواضح لا يعمى إلا على عُمْيِ القلوب والأبصار .
فالله تعالى وَعَدَ ووعْدُهُ حق وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء، وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء وكماله، وهوقريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد .
فما هوإلا الصبر القليل، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، وأساس ذاك كله اليقين بموعود الله، والحذر من تسرُّب الشك في موعوده .(1/1007)
2- العبودية لله والنصر:
قال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]}[سورة الصافات]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. ففي هذا النص القرآني عمود من أعمدة النصر، الذي يَمُنُّ به الرب على من تعبَّد له حق التعبُّد. واَلْحَظْ بتمعُّنٍ وتدبر:{ لِعِبَادِنَا} و{ عِبَادِيَ} تجد في ثناياها خالص التجرد بالعبودية لله، فلما جردوا التعبد لله وأخلصوه له؛ فلم يجعلوا في قلوبهم ميلاً-و لو قليلاً- لغيره أثابهم منه فتحاً ونصراً وتمكيناً .
ولذا نرى أن الأمة قد يَتَخَلَّفُ عنها النصر بسبب تعلُّقها بغير الله، وهذا من صُوَر صرف التعبُّد لغير الله، فلا عجبَ أن تخلَّف النصر عنّا، وحلَّت الهزيمة بنا، فما استنكف أحد عن التذلل لله، واتبع نفسَه ذليلة غير الله إلا زاده الله وهناً وخسارة .
وللعبودية في ساعات الشدة أثر بالغ في قرب الفرج، وبُدُو أمارات النصر:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فزَعَ إلى الصلاة، وجعل خير العبادة ما كان في زمن الهَرْجِ.
وحاله يوم بدر أكبر شاهد على ذلك؛ فقد جأر بالدعاء، واشتدَّ تضرُّعُه لربه وتذلله بين يديه، سائله أن يُعَجِّلَ بنصره الذي وَعَدَه إياه .
وهذه هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله، وبدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله؛ فهيهات أن ينصر من أعرض عن دينه، ولم يتبع هداه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبع ما أجلب به الكفار من حياة قِوَامُها على الرذيلة، والمعصية، بل ترك الشريعة كلها .
فعمود النصر التجرد لله بالعبودية؛ التي هي: تمام الذل له، وكمال المحبة له، ومنتهى الانقياد والاستسلام لدينه وشرعه. فمتى قامت الأمة بالتعبُّد لله والتذلل بين يديه؛ أضاء لها نور النصر واضحًا جليًا، تبصره قلوب الصالحين من أولياء الله العابدين، وتعمى عنه بل تُحرَمُه قلوب وأبصار من تعبَّد لغير الله . وكلما كان تعبُّد الأمة لله أتم كان نصر الله لها أكمل وأقرب .
3- نُصْرَةُ الله والنصر: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ...[7]}[سورة محمد]. نصر الله حليفُ قومٍ ينصرون الله ودينه، ويرفعون راية شريعته شامخة في أُفقِ العلياء .
أما من يخذل شريعته حين ضعفها؛ فليس له من نصر الله شيء. وما انتصر من انتصر من الصالحين إلا بسبب ما قاموا به من نصرةٍ لدين الله وشريعته . فمن قام ناصراً بلده، أو قومه، أو مبدأه ومذهبه المخالف لدين الله؛ فهو مخذول .
ومن قام ناصراً- ولو وَحْدَه-ُ دين الله؛ فهو المنصور لا غيره، وهو المؤيد لا سواه، وهو الموعود بالتمكين .(1/1008)
فلتقم الأمةُ الطالبةُ نَصْرَ الله بنصرة دين الله، وإعلائه على الأديان كما أعلاه الله، حتى تنال موعود الله لها بالنصر، والتمكين في الأرض .
ومن نُصْرَة الله تعالى:
1- تحقيق الولاء والبراء.. فلا مداهنة في دين الله، ومحاباة لمخلوق أيَّاً كان، فدين الله فَرَّقَ بين المسلم والكافر، ولو كانا في القرابة بالمكان الذي لا يفرَّق بينهما فيه .
2- تطهير الأرض من المنكرات والموبقات ؛ التي ما فتيء أصحابها يجاهرون بها مطلع النهار ومغربه، ويحاربون الله ليل نهار.
3- القيام حمايةً لدين الله من أن يَمَسَّه دَنِيٌّ بسوء، أو أن يَقْصِدَه سافل بنقيصة .
4- حراسة محارم الله وحفظها من أن يتعرَّض لها من سلبه الله العفاف والحشمة .
فمن قام بنُصْرَة الله ودينه؛ حَظِيَ بالنصر من الله، وظَفِرَ بالغلبة على عدوِّه .
4- النصر من الله تعالى: قال تعالى:{...وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...[13]}[سورة آل عمران]. وقال:{...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[126]}[سورة آل عمران]. وقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150] }[سورة آل عمران]. وقال:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]}[سورة آل عمران].
فالنصر مِنْ الله ، وهو المانُّ به على عباده المؤمنين، فلا قُدُرَاتِهم، ولا عُدَدِهم جالبة لهم نصراً على عدوهم، ولا اعتداد بكل أسلحة المؤمنين إذا لم يُرِد الله لهم نصراً على عدوهم .
فلو كان النصر آتياً بقوى العباد؛ لما غلب المسلمون الضعفاء ظاهرًا أُمَمَ الكفر التي ملكت من آلات القتال ما الله به عليم . فمتى رجيَ المؤمنون النصر من غير الله فيا خيبتهم، ويا شؤم حالهم .
وحين ترى أحوال المسلمين في المعارك التي انهزموا بها ترى أن من أهم الأسباب: تعلُّقُ النفوس في طلب النصر بغير الله، ولنعتبر بغزوة حنين، فإن الهزيمة التي حصلت لهم إنما هي بسبب اغترارهم بقوة أنفسهم حيث قالوا:'لن نغلب اليوم من قِلَّة'.
قال ابن القيِّم رحمه الله في سرَدِه الفوائدَ المأخوذةَ من تلك الغزوة:'واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعُددهم، وقوة شوكتهم، ... ، وليبيِّن سبحانه لمن قال:'لن نغلب اليوم من قلَّة' أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين'[زاد المعاد [ 3/477]].
وهذا الذي حصل إنما هو من طائفة عُمِرَتْ قلوبهم بالتوكل على الله، والتعلُّق به، لكن لما انصرف القلب انصرافاً قليلاً عن الله؛ عُوقبوا بما ذكر الله بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ(1/1009)
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...[25]}[سورة التوبة]. فكيف الحال بمن بعدهم ممن انصرفت قلوبهم لغير الله انصرافًا كُلِّيًا، والله المستعان؟!
ثانيًا:مبشرات النصر:
1- البشارة بظهور الدين: قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. وقال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ]رواه أحمد.
فهذه نصوص قاطعة بأن الغالب هو دين الله، والواعد بذلك هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يخلف الميعاد؛ فكيف إذا كان الميعاد نَصْر دينه، فمهما طال مُقامُ الكافر، ومهما استطال شرُّه وضرُّه، ومهما كِيْدَ بالمسلمين، ومهما نُّكِّلَ بهم؛ فإن الغلبة لدين الله، وَعْدَاً من الله حقاً وصدقاً.. وهذا سيحدث لا محالة، فلا نستعجلَّنَّ الأمور، ولا نسابق الأحداث .
2- الطائفة الظاهرة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ]رواه البخاري ومسلم. فهذه الطائفة قائمة إلى قيام الساعة، والنصرة لهم، والتأييد الإلهي معهم، وهذه الفرقة المنصورة من بواعث الأمل في نصرة الدين، ومن بشائر الرفعة لدين الله، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنها دائمة وموجودة إلى قيام الساعة .
ولكنه ضعف اليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلُّق القلوب بالماديَّات والظواهر، وأساس ذلك كله ضعف الإيمان بالغيبيات التي هي أصل الإيمان.
فهل يجوز بعد هذا أن ييأس المسلمون من اكتناف نصر الله تعالى لعباده المؤمنين؟! وهل يجوز أن تُعَظَّمَ قوة الكفر وجبروته؟! وهل يجوز لنا أن نتخاذل عن البذل لدين الله.. ولو بأقلِّ القليل؟! وهل يجوز أن نعتقد خطأً أن هذه الطائفة لن تقوم، أو أنها قامت ولن تعود؟! أسئلة تفتقر إلى أجوبة فعلية لا قولية .
3- الوعد الإلهي الحق: قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. وهذا الوعد قد تحقق في زمانه صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق بعده حتى قيام الساعة،
فمتى توافرت الأوصاف التي ذكرها الله في هذه الآية في قوم؛ كانوا أحق بالتمكين من غيرهم مهما كانوا .(1/1010)
فحتى نظفر بالتمكين من الله لنعقد العزم على تطبيق شريعته في أحوال الناس اليومية، والسياسية، والاجتماعية .
عندها سننال النصر من الله بكل تأكيد ويقين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
4- المدينتان المُنْتَظَرَتان: قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي.
ومما يزيد في البشارة أن هذه المدينة قد فتحت على يد السلطان محمد الفاتح العثماني التركماني ؛ ولكن ليس هو الفتح المذكور في الأحاديث؛ لأن الفتح الذي في الأحاديث يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بيسير. [انظر: اتحاف الجماعة للتويجري [ 1/404 ]].
ولفتح القسطنطينية الفتح الحق علامة واردة في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، معروفة مشهورة، وهي :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ- ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ- يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-]رواه أبوداود وأحمد.
فإذا كان أن الفتح الذي حصل على يد محمد الفاتح ليس هوالفتح الوارد في الحديث فإنا لعلى يقين بقرب فتحين عظيمين لمدينتين كبيرتين، وهذا قريب، ووَعْدُ الله نافذ، ومُتحقق بإذنه تعالى .
5- المعركة الفاصلة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ]رواه البخاري ومسلم. وهذه المعركة هي الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهي التي يُظْهِر فيها الله عباده المؤمنين، وينصرهم على اليهود بعدما ذاقوا منهم الأذى والنكال . ولم تأتِ بعد هذه المعركة وإنا على انتظارها، وهي آتيةٌ لا محالة إن شاء الله .
6-محمد المنتظر: مما ثبت في السنة، واعتقده السلف الصالح، ودانوا لله به: ثبوت المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا]رواه مسلم.(1/1011)
وأخباره متواترة تواتراً لا يعتريه شك .
وفي خروجه يكثر الخير، قال ابن كثير رحمه الله:'في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم' [النهاية في الفتن والملاحم [1/31 ]].
فهذا المهدي [ محمد بن عبد الله ] المنتظر لم يخرج بعدُ، وبخروجه يقوم الدين، ويرتفع الحق، ويخمد الباطل، وتتبدد كل قوة علت من قوى الباطل، وكل ما هو آت قريب، فصبر جميل.
ثالثًا:ساعات النصر:
1- اليأس والنصر: قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف]. فهذه صورة يَحِلُّ فيها اليأس على قلب العبد، ويُخَيِّم القنوط على نفوس الصالحين،
وإنها لصورة من أشد الصور، وأخطرها على نفوس المسلمين، فالنصر ينزل على العباد 'عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه'[تفسير ابن كثير [ 2/497 ]]. و'إنها لساعة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمرُّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا القليل، وتكرُّ الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عُدَّتِهم القليلة، وقوتهم الضئيلة'[ في ظلال القرآن [ 4/2035].
وإنا والله لنفرح بمثل هذه الساعة-لا لذاتها معاذ الله- ولكن لما فيها من بشائر النصر القريب، وأمارات ظهور الفجر الواعد ..نعم.. إنها ساعة فيها يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلَّق بها الناس، وسنة الله أن في مثل هذه الظروف التي يفقد المؤمنون فيها صبرهم، وتتكالب عليهم الشدائد من كل حَدْبٍ وصوب، وينالهم من أهل الشر والباطل كل أذى وسُخرية من ضعف قوتهم، وهوانهم على الناس؛ يلمح المؤمنون نور النصر يلوح، وشمسه تشرق في تمام الوضوح، فيزول عن القلب ما خَيَّمَ عليه من حُجُب وشوائب، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم فيها تبيان لهذا.. فاعتبرها .
2- المظلوم والنصر: الظلم شيمة من ابتلاه الله بالكبر والغطرسة، ومن هذا شأنه كان حريَّاً بأن يناله من الله عقاب لتقرَّ عين المظلوم بنكاية الله بالظالم، ونكاله به، فجعل الله دعوة المظلوم تسلك طريقها في السماء، وتكفل الله بنصرها ولو بعد حين، ووَعْدُ الله حق، وهذه بشارة عُظمى، إن نصر الله قريب، هذا كله في عموم الناس المسلم والكافر، فكيف إذا كان المظلوم أمة مسلمة لله، والظالم لها(1/1012)
كافر لا يؤمن بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، فأقول إن الأمر غاية في اليقين أن نصر الله قريب جداً .
وهذه ساعة من أهم ساعات الانتصار والغلبة أن يتمكن العدو من المسلمين، ويتحزبون عليهم من كل جانب من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم..{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39]}[سورة الحج]. فما على المؤمنين حال تلك الساعة إلا الجأر بالدعاء، والابتهال والتضرع بين يدي الله أن يُعجِّل بنصرهم، وأن يَخْذِل عدوَّهم[ ويُحِلَّ عليهم غضبه وسخطه..وموعود الله قريب للمظلوم، والويل للظالم من عقاب الله .
رابعًا:حُجُبُ النَّصْرِ:
1-حجاب الكفر:قال الله:{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[56]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...[12]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[44]سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[45]}[سورة القمر]. هذه آيات أنزلها الله في كتابه قضى فيها أن الكفر لن يغلب الإسلام مهما كانت له من القوى، ومهما ملك من العُدَد والعَدَد، ولقد صدق الله وَعْدَه، فنصر عبده، وأعز جُنْدَه، وهزم الأحزاب وَحْدَه.. فمهما قامت حروب ومعارك بين المسلمين والكفار؛ فإن الغالب هم المسلمون، والهزيمة لاحقة بالكفار ؛ وعد صادق من الله.. الكافرون سينفقون ما لديهم من أموال ورجال في حروب طاحنة مع المسلمين، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغْلَبُوْن على أيدي المسلمين .
وإن انتصر الكفار على المسلمين فهو نصر مؤقَّتٌ لا يدوم؛ وهيهات له أن يدوم، والله قد كتب الغلبة لدينه ورسله وأوليائه الصالحين، والله لا يؤيد بنصره أُمة قامت على كفر به، وصد عن سبيله .
2- حجاب الظلم:قال تعالى:{...وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[270]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ[8]}[سورة الشورى]. نعم ؛ إن الله لا ينصر الظالم على المظلوم بل اقتضت حكمته أنه ينصر المظلوم على الظالم مهما كان المظلوم والظالم .
وما أكثر الظلم في المسلمين؛ والذي بسببه حُرِمْنا النصر على أعدائنا، فالظلم يمنع النصر كما في هذه الآيات وكما في حديث دعوة المظلوم وأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والله تعالى قد وعد بأنه سينصرها ولوبعد حين .
فمتى طُهِّرَت الأمة من الظلم بجميع أنواعه وصوره؛ فإن نصر الله آتٍ، ووعده متحقق سواء في ذلك قرب الزمن أو بعده .
3- حجاب النفاق: قال الله تعالى:{...إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء]. بيَّن الله في هذه الآية أن نصرَه محرومٌ منه كل منافق دخيل في صفوف المسلمين، بل محروم منه كل من قرَّب المنافقين وأنالهم منه مكاناً مرموقاً، وجاهاً رفيعاً..إن النفاق ما(1/1013)
وُجِدَ في قوم إلا أحلَّهم دار البوار، ومنعهم الخير والنصر، وما وُجِدَ المنافقون في أرض إلا مَكَّنُوا منها العدو على المسلمين، وأذلُّوا الصالحين من عباد الله.
فإذا ما طهُرَت الأرض، وسَلِمَت الأمة من هؤلاء 'المتلونين' استحقت النصر من الله على عدوها، وكان لها الظفر بالعدو.
وما مُنِعَ المسلمون النصر يوماً قط إلا بسبب ما كان منهم من تقريب لهؤلاء المنافقين، وحبٍّ لهم، ومجالسة معهم، وتمام وُدٍّ لهم.. إن النفاق في هذه الأزمان قد طال ريشه بين المسلمين، ودام مُقامُه بينهم، ونال أهلُه من المسلمين كل ما يريدونه، بل نال الصالحين المُبيِّنين حالهم وضلالهم الأذى منهم ومن أسيادهم. وحين تلتفت الأمة إلى هؤلاء المجرمين، وتبدأ بهم، وتنكِّل بهم؛ تنعم بعد ذلك بنصر من الله مؤزَّرٌ، وبإيفاء الله وعده لهم .
خاتمة البوابة:
في ختام الولوج من هذه البوابة العريقة..وفي نهاية المرور بها..آمل أن أكون قد وُفِّقْتُ بوضع النقاط على حروفها، وأن أكون قد بعثت ما مات من آمالٍ كبار في نفوس قومي، وأسأل الله تعالى أن يُحيي ما مات من آمالنا، وأن ينصر دينه، وكتابه، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعباده الله الصالحين .
من رسالة:'بوابة النصر' للشيخ/ عبد الله بن سليمان العبد الله
ــــــــــ
تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم
المؤلف
د. علي محمد الصلابي
الناشر
دار الفجر للتراث- القاهرة
الطبعة
الطبعة الأولى: 1424هـ - 2003م
الصفحات
584
يتحدث الكاتب في الباب الأول عن أنواع التمكين في القرآن الكريم، وينقسم هذا الباب إلى أربعة فصول:(1/1014)
الأول: تبليغ الرسالة وأداء الأمانة.
والثاني: هلاك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في المعارك.
والثالث: المشاركة في الحكم؛ إذ إن تولي أهل الإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من التمكين في قوله تعالى:(قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). [يوسف:55]. والرابع: إقامة الدولة، وقد تحدث القرآن الكريم عمّن قادوا دولاً، وساسوا شعوباً بشرع الله، من أمثال داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، والقائد العادل ذي القرنين، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين.
وفي الباب الثاني الذي ينقسم إلى فصلين:
أولها: شروط التمكين، والمتمثلة في الإيمان بالله والعمل الصالح، وتحقيق العبادة، ومحاربة الشرك، معتبراً أنه على الجماعة المسلمة، والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه، وأن تنقي صفها منه بجميع الأساليب الشرعية، ولا يمكن للإنسان أن يحذر من الشرك، وأن يحذّر غيره إلا إذا عرفه، وعرف خطره، و عرف تقوى الله عز وجل، مبيناً أن للتقوى ثمرات، منها: المخرج من كل ضيق، والرزق من حيث لا يحتسب العبد، والسهولة واليسر في كل أمر، وتيسير العلم النافع، وإطلاق نور البصيرة، ومحبة الله وملائكته والقبول في الأرض.
وفي الفصل الثاني: يتحدث الكاتب عن أسباب التمكين، وأول سبب من هذه الأسباب هو: سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد، مبيناً أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب؛ إذ إن ذلك من صميم تحقيق العبودية لله، وهو الأمر الذي خُلق له العبيد، وأُرسلت به الرسل، وأُنزلت لأجله الكتب، موضحاً أنه على المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
1- الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها.
2- ترك ما أمر الله به من الأسباب.
وفيما يتعلق بإرشاد القرآن للإعداد، فقد قال تعالى في كتابه الكريم:(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ). [الأنفال:60].
ويذكر الكاتب تفسير ابن كثير -رضي الله عنه- لقول الله تعالى: "ما استطعتم" أي مهما أمكنكم، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها.
والسبب الثاني للتمكين يتمثل في الأسباب المعنوية: والذي يشمل إعداد الأفراد الربانيين، والقيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفرقة.(1/1015)
أما السبب الثالث فهو الأسباب المادية، وأول هذه الأسباب التفرغ والتخصص ومراكز البحوث؛ إذ لابد أن تهتم الحركات الإسلامية على المستوى القطري والإقليمي والدولي بمبدأ التفرغ لأصحاب القدرات المتميزة في المواقع المهمة، وخصوصاً في مجال العلم والفكر والتربية والتكوين والدعوة والإعلام والسياسة والتخطيط والاقتصاد والمال والأمن والاستخبارات، وكافة مجالات الحياة اللازمة لتحكيم شرع الله على كافة أفراد الشعب ومؤسسات الدولة.
وثاني هذه الأسباب التخطيط والإدارة: مبيناً أن التخطيط في المفهوم القرآني هو الاستعداد في الحاضر لما يواجه الإنسان في عمله أو حياته في المستقبل، وعلى هذا فإن الإداري المسلم يكون قد عرف التخطيط؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وجّه إلى ذلك في آيات كثيرة.
قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). [القصص:77].
وثالثها الإعداد الاقتصادي: فالقوة الاقتصادية هي عصب الحياة الدنيا وقوامها، والضعيف فيها يُقهر ولا يُحسب له حساب إلا في ظل شرع الله حين يحكم، ولذلك ينبغي -كما يقول الكاتب- على الحركات الإسلامية أن تعتمد على الذات في موارد ثابتة، وهذا من النفرة التي أمرنا الله -عز وجل- بإعدادها لمواجهة الأعداء ونشر الدين، مما يوفر للدعوة والدعاة حرية التحرك، واتخاذ القرار دون ضغوط .
أما رابعها فهو الإعداد الإعلامي: ولقد أرشد القرآن الأمة إلى الأخذ بأسلوبي بأسلوب الإعلام في دعوة الخلق، ونهج نهجاً متميزاً في إيصال الحقائق إلى الناس.
وخامس هذه الأسباب الإعداد الأمني: يوضح المؤلف ضرورة أن ينشأ الحس الأمني للأفراد العاملين منذ دخولهم في العمل الجماعي، وأن تُشكّل لجان ومكاتب، وتتحول مع توسع الحركة إلى مؤسسات، ثم إلى وزارة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم، وقد قال تعالى: (ما كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). (التوبة:120).
وفي الباب الثالث والأخير يتحدث الكاتب عن مراحل التمكين وأهدافه، مبيناً أن مراحل التمكين هي: مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام، واختيار العناصر التي تحمل الدعوة، والمغالبة، والتمكين، أما عن أهداف التمكين فتتمثل في: إقامة المجتمع المسلم، والدعوة إلى الله.
ــــــــــ
حَقِيقَةُ الْنَّصْرِ
رئيسي :تربية :الثلاثاء 19ربيع الآخر 1425هـ - 8 يونيو 2004 م(1/1016)
قد ينظر الكثير منا إلى فتح مكة باعتباره مَعلم النصر لصدر الأمة الأول، وهو مَعلم انتصار عظيم وفتح من الله مبين لا ريب، ولكن هل هو حقيقة الانتصار، أم ثمرته؟ وهل التمكين في الأرض هو جوهر النصر، أم هو تتويج له؟ وإن لم يكن كذلك: فما هي حقيقة النصر التي لا يضر معها تخلف حصول الثمرة، وتأخر حفل التتويج؟
لقد سبقت فتحَ مكة معاركُ عظام، وأحداث جسام، لم تكن ساحتها ميدان القتال بعد، كما لم تكن عدتها السيف والسنان بعد، وإنما كانت معركةً من نوع آخر، وكان تدافعًا من نوع آخر:
كانت معركة اسمها:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ[94]}[سورة الحجر].
وكانت معركة اسمها:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]}[سورة الكافرون].
ودارت رحى المعركة الأولى حول تجريد التوحيد:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[8]رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا[9]}[سورة المزمل].
وكانت عُدة المعركة الثانية:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم].
واشتدت أتون هذه الحرب، و تمحضت معها حقيقة التوحيد في قلوب أولئك النفر، فإذا بهم يتلذذون في آهاتهم، ويتنعمون في أنَّاتهم، قد أغناهم حب الله عن كل ما سواه، وشغلهم مشهد العبودية
عن مشهد التسخط على الأذى فيه سبحانه وتعالى، وكانت تلك بداية معركة التحرير، وأولى ملامح الانتصار.
ثم أخذ مشهد المعركة يتميز شيئاً فشيئاً وأخذت معالم الطريق تتضح شيئاً فشيئاً: نعم لقد بدأ أولئك النفر يدركون أنه لابد من تسديد بعض أقساط الجنة.
فكانت الأقساط من أموالهم تارةً، ومن أجسادهم ولحومهم تارةً، كانت من الولد والأهل تارةً، ومن العشيرة والوطن تارةً، قطعوا ما بينهم وبين الناس؛ ليقيموا ما بينهم وبين الله، وطلقوا الدنيا ليخطبوا الآخرة، وأفرغوا قلوبهم من كل ما سوى الله، فتهيأت لغرسة التوحيد فيها، هُجِّروا فهاجروا، وعُذِّبوا فصابروا ، استُنصروا فنصروا، واستُنفروا فنفروا، وكلما تجردوا من علائق الدنيا كلما تميزت عندهم معالم النصر، وغدت ملامح الانتصار وحقيقته أكثر وضوحاً، وأشد نوراً من ذي قبل.
ثم كان أن تحول ميدان المعركة إلى السيف والرمح: وكانت بدر، وما أدراك ما بدر! ولكن بريق النصر العسكري، ونشوة اندحار العدو ومادته قد يخطف الأبصار أحياناً، فلربما ظن المسلمون أن النصر العسكري، والغلبة والظهور المادي أمرٌ لازمٌ ملازم، بل قد تزين نفس المرء له استحقاقها لهذا الظهور حتماً، كيف لا وقد اجتمعت الدواعي من التزام الحق، وتأييد السيف له، والإثخان في العدو، وكسر شوكته وشكيمته، ولكن ليس هذا هو تمام النصر، بل كان لا بد من جولة أخرى يكتمل فيها انتصار الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت غزوة أحد.(1/1017)
دخل المسلمون غزوة أحد و لربما كانت نشوةُ النصر في بدر آخذةً بلب بعضهم، و لربما خال بعضهم أنه ومنذ بدر نصرٌ بلا هزيمة وغلبةٌ بلا انكسار، و لربما توهم البعض أن مجرد التزامِ طريق الحق موجبٌ لدوام الظهور والتمكين، وعندما انقلبت موزاين المعركة، وتجرد المسلمون من كل رداء خلا العبودية المطلقة لله؛ تمحضت آنذاك معالم النصر؛ عندما كُسرت ثنية النبي صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وجهه الشريف؛ تمحضت معالم النصر في أمةٍ هكذا قائدها، أمة رأس الحربة فيها هو الإمام القائد، أو قل: الرئيس الحاكم، أمةٌ لا ينشغل حاكمها بكرسي الدنيا عن كرسي الآخرة، قائدٌ يستشير الصغير والكبير، وينزل عند رأي المخالف فيما لا يغضب الله؛ تطييباً للقلوب، وجبراً للخواطر، قائدٌ يصمد حين يلتفت الناس، ويرفع لواء الحق حين يتواني عنه الناس، قائدٌ يسدد شيئاً من أقساط الجنة من لحمه ودمه حين يلوذ الناس بلحومهم ودمائهم.
وعندما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد، وعندما قام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترَّس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وعندما جعلت أم عمارة نسيبة بنت كعب تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتيت من قوة في تسعة رهطٍ اجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين انفض عنه الناس، هنالك لاحت معالم النصر.
وعندما أصيب زوج وأب، وأخ المرأة من بني دينار، وهي لا تسأل إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأته قالت:' كل مصيبةٍ بعدك جلل' أي: هينة.
عندها كان أحد معالم الانتصار، عندما تحقق تقديم حب الله ورسوله على كل ما سواهما عندها كان النصر.
وعندما انحسر المسلمون، وقد أعجبتهم قوتهم وعددهم، لا يلوي أحدٌ منهم على أحد في كمين العدو لهم في حُنين، تقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه آنذاك؛ ليعلن للناس جميعاً مسلمين وكفاراً أن أمر هذه الدعوة قائمٌ مهما انحسر عنه الناس، وأن راية الحق أبداً مشرعة مهما انكسرت لجندها شوكة، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار، وهو ينادي:
[أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ] رواه البخاري و مسلم .
عندها كان النصر، وعندها جلجلت كلمة الحق، أما ما كان بعد ذلك من اجتماع كتائب الحق على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهر عدوهم فلم يكن إلا ترجمة لهذا النصر، وثمرة من ثماره ليس إلا.
وليس هذا النصر الذي نتحدث عنه ظاهرة عابرة في تاريخ أمتنا، بل هو جزء لا يتجزأ من مسيرة كلمة التوحيد عبر العصور.(1/1018)
فلقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر؛ لتحلق أرواحها في سماء التوحيد، ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة.
إن سورة البروج في القرآن ليست تسجيلاً لمذبحة لا يسعنا سوى التألمُ لحال أصحابها.. كلا!
إن سورة البروج تسجيلٌ لانتصارٍ تاريخي لكلمة التوحيد على شرذمة الكفر.. نعم لقد قهر أصحاب الأخدود أجسادَ الموحدين وأحرقوها، لكنهم لم يهزموا ولا نفسَ طفلٍ واحد منهم!
وليس القول بانتصار الموحدين يومها ضرباً من المبالغة، أو تطييب الخواطر.. كلا، بل هو والله الانتصار الحقيقي، وأي انتصار لأهل التوحيد أعظم من شهادة الله تعالى لهم بالإيمان، وأي هزيمة على الكفار أشد من تربص عذابِ الحريق بهم، وأي حريق!
وقل مثلَ هذا في لقطات الانتصار التاريخية لكلمة الحق على الباطل:
- فلقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل:{ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[28]}[سورة المائدة].
- وانتصرت كلمة الحق حين قالت:{...هَيْتَ لَكَ...} فقال الكريم بن الكريم بن الكريم:{ ...قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[23]}[سورة يوسف].
- وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام :{أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[36]}[سورة النمل].
- وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون، فإذا أنصار الباطل بالأمس شهداء الحق اليوم:{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى[70]}[سورة طه]. ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لما لاقوه من حلاوة الإيمان:{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]}[سورة طه].
نعم.. هذه مواقف من الانتصار على النفس حيث مُنعت ولُجِمت عن التعدي على الدم المعصوم والفرج الحرام والمال غير المستحَق والمنصب والجاه الفارغين، فسِجل هذه الأمة سجل حافل بالانتصار بل هو سلسلة متصلة من الانتصار، أثمر غلبةً عسكرية، أم لم يثمر.
وإن المتأمل في طبيعة النصر الذي قدمنا نماذج منه ليدرك أن حقيقة الأمر ومداره على التمسك بالحق مهما كان الثمن، والثقة بوعد الله مهما تأخرت الثمرة: ولهذا فإني أقول إن مشهد النصر الحقيقي لم يكن في قوله تعالى:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ...[251]}[سورة البقرة]. بقدر ما كان في قوله تعالى:{... إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ...[249]}[سورة البقرة].(1/1019)
نعم هنا كانت معالم النصر لأقوام، ومعالم الهزيمة لآخرين:{... فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ...[251]}[سورة البقرة].
وهؤلاء القليل هم الذين تعول عليهم أمة الإسلام في كل زمان ومكان:أما عند الغلبة العسكرية والظهور والتمكين، فما أكثر المسلمين حينذاك، وما أكثر من يحبون الدين آنذاك، ولكن شتان بين من أحب الدينَ والدين غريب، وبين من أحب الدينَ والدين تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهذه هي حقيقة النصر.
من :'حقيقة النصر' د.وسيم فتح الله
ــــــــــ
ذكر الله تعالى ...وجيل النصر المنشود
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
من أسباب سوء الخاتمة العدول عن الاستقامة والانحراف عنها: قيل لأحد علماء السلف الصالح فلان عرف طريق الله ثم رجع عنه ، فقال لو وصلوا إليه ما رجعوا.
فمن عرف طريق ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ثم أعرض عنه وتنكبه، واختار طرق الغواية والضلال، وآثر الغي على الرشاد، والضلالة على الهدى، والفجور على التقى، كان ذلك من أعظم أسباب سوء الخاتمة، وقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب ومن الحور بعد الكور() .
قال الله عز وجل فيمن عرفوا ثم أنكروا ، وآمنوا ثم كفروا ? َفلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ?[الصف: 5] قال الإمام ابن كثير كان رجل من بني عنفوة قد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرة وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى اليمامة يدعوهم إلى الإسلام ويثبتهم على الإسلام فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة ، وكان يقول: كبشان انتطحا فأحبهما إلينا كبشنا يعني مسيلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد قتل هذا الكذاب الأشر في يوم اليمامة ، قتله زيد بن الخطاب وختم له بالسوء.(1/1020)
وما أكثر هؤلاء المترددين الزائغين المتنكبين عن صراط الله من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ممن يتظاهرون ويظهرون أمام الناظرين على غير حقيقتهم. يلبسون أردية الدين والإيمان ويتدثرون به وهم له كارهون. فيأبى الله إلا أن يكشف زيفهم ويظهرهم على حقيقتهم في الحياة الدنيا قبل يوم القيامة يوم تبلى السرائر وتكشف الضمائر ويحصل ما في الصدور.
ولقد ضرب الله لنا نموذجاً لهؤلاء الناكثين الناكصين بقصة رجل آتاه الله آياته، وأسبغ عليه فضله ووهب له علماً، ومنحه الفرصة كاملة للهدى والارتقاء والاتصال بخالق الأرض والسماء.. ولكنه مع ذلك آثر ما يفنى على ما يبقى وهبط من سموه وارتفاعه إلى الأوحال والطين. تأمل في قوله سبحانه وتعالى وهو يأمر رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك النموذج بقوله الكريم: ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ?[الأعراف:175-177] فقد شبه سبحانه من آتاه كتابه ، وعلمه العلم الذي منع منه غيره ، فترك العمل واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أفسد الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسها نفساً. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرهاً وحرصاً، ومن حرصه أن لا يمشي إلا وأنفه في الأرض يتشمم ويستروح حرصاً وشرهاً ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه. وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مئة كلب لم يدع كلباً يتناول معه منها شيئاً إلا نبح عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى فقيراً ذا هيئة رثة وثياب دنيئة، وحال مزرية، نبحه وحمل عليه ، كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته، وإذا رأى
إنساناً ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة، وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه ومعرفته، بالكلب الذي هو في حال لهثان دائم سواء حملت عليه بالرجم والطرد أو تركته فاللهث لا يفارقه يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، آيات وعبر يبينها الله لنا وما يعقلها إلا العالمون.
فالذي تجرد عن الهدى وانسلخ من الإيمان والتقى شبيه بالكلب ، قال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق، دُعِيَ أو لم يُدْعَ ، وُعِظ أولم يوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.
وفي هذا المثل الذي ضربه الله لنا في كتابه حكم ودروس ذكرها العلماء رحمهم الله.
منها: قوله سبحانه? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ? فالعلم هو محض فضل الله على الإنسان وهو نعمة أنعم الله بها عليه لكنه لم يشكر الله ويعرف قدر النعمة قال تعالى: ? فَانسَلَخَ مِنْهَا ? أي خرج منها، انسلخ كما تنسلخ(1/1021)
الحية من جلدها ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو المتسبب لذلك الانسلاخ باتباع هواه وشهواته لدناءته وحقارته.
ومنها قوله سبحانه: ? فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ? يعني أدركه ولحقه. وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان كما يظفر الأسد بفريسته ? فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ? العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها قوله تعالى: ? وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ? فأخبر أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم. فإن هذا الذي ضرب به المثل كان أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه بها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع. وإنما الرفعة عند الله تحصل باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله.
? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ? ركن إلى الدنيا ولصق بها واتبع سفاسف الأمور ومسافلها ، وترك معاليها ولقد ختمت الآية بقوله عز وجل: ? سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ? [الأعراف:177].
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟ وهل هناك أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى، وهل هناك أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم الإنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها ويجردها الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضاً للشيطان يلازمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان، الهابط اللاصق بالأرض الحائر القلق اللاهث وراء الدنيا لهاث الكلب أبداً.
ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به ولا يرفعون به رأساً، وإنما يتخذون ذلك وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه. واتباع الهوى به كم رأينا وسمعنا من عالم يعلم حقيقة دين الله وحكمه ثم يزيغ عنها ويحرفها ويعلن خلافها.. ويضلل الأمة لهثاً وراء منصب زائف أو مال زائل.
كم الذين يتنازلون ويرتدون عن دينهم وإيمانهم وقيمهم وأخلاقهم ممن يلهثون وراء الحطام ويسقطون في المستنقع الآسن ثم لا يتوبون. ولا هم يذكرون، فيخرجون من الحياة خائبين خاسرين. قد ختم لهم بسوء وعادوا إلى سوء المنقلب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم اعصمنا وثبت أقدامنا وأفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين. واجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
جعل الله الطريق إلى النصر والعزة هو طريق الجهاد والقتال والاستشهاد نطقت بذلك الآيات المحكمات والأحاديث الصحاح التي لن يستطيع الجبناء من البشر أن يخفوها أو يلغوها مهما فعلوا، ومهما سلكوا من أساليب ورسموا من خطط لإذلال الأمة واستعبادها والحيلولة بينها وبين مصدر قوتها وعزتها والمتمثلة في الإيمان والجهاد، قال الله عز وجل في بيان ذلك: ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ(1/1022)
كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[البقرة:216] ويقول سبحانه حاثاً عباده المؤمنين على الحيطة والحذر داعياً لهم للاستنفار واليقظة:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً?[النساء:71-76].
وأمر الله نبيه بالقتال وتحريض المؤمنين على القتال فقال له: ? فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ?[النساء: 84].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ?[المائدة: 54].
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ?[الأنفال:15-18].
? قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ?[التوبة: 29].
? فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:4-8].
? انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ?[التوبة:41].(1/1023)
وآيات الجهاد في كتاب الله كثيرة، أما الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد والقتال والرباط والشهادة فكثيرة جداً أكتف بذكر ثلاثة منها.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"() فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال : نعم، فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل" وهذا الفعل يشبه ما يسمى اليوم بـ (العمليات الاستشهادية)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"()
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا"()
أيها الإخوة المؤمنون: ها هي الفرصة متاحة للتجارة مع الله في الأرض المباركة أرض النبوات والرسالات، أرض الرباط والجهاد، فها هم إخوانكم يسطرون أروع الملاحم في النكاية بالعدو اليهودي المتغطرس الذي أخذ على عاتقه القيام بدور إخضاع هذه الأمة وتدميرها وإذلالها نيابة عن كل قوى الحقد والاستكبار التي تدعمه وتقف خلفه.
إن إخوانكم في فلسطين بالأمس قاموا بعملية بطولية في عمق فلسطين التي يحتلها اليهود المغتصبون فأثلجت صدور المؤمنين وأفزعت الكافرين. إن اليهود يريدون أن يقتلوا المسلمين ولا يريدون أن يُقتلوا؟ فظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب.
وإن إخوانكم في أشد الحاجة إلى الوقوف بجوارهم ودعمهم بالمال والسلاح ورعاية أسر الشهداء ومدهم بكل ما نستطيع فعله.. إنهم يقومون بالواجب المناط على رقابنا فلا يجوز أن نخذلهم أو نكتفي بمواقف الحكام الذين هم جزء من الهزيمة فالكثير منهم عملاء ينفذون خطط أعداء الله الرامية إلى إضعاف الأمة وتدمير مقوماتها.. ولكن الله لهم بالمرصاد ولن يفلتوا من قبضته أبداً.
إنني أراقب في الأفق ملامح العزة والنصر وملامح الملاحم والبطولات التي سيسطرها قوم يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله.. لا يجبنون ولا يخافون قد غدت لديهم المناعة ضد الجبن والخوف والهلع والخور والاستكانة.
إن جيل النصر قادم بإذن الله وها هي طلائعه تخط طريقها وتتشوق إلى الجنة إنهم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين إلى الثلاثين ولدوا في رحم الهزائم والنكسات ولكن قدر الله غالب وجنده هم المنصورون في نهاية المطاف.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.(1/1024)
صحيح مسلم: باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره: الحديث رقم: (1342) .
صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب ثبوت الجنة للشهيد:الحديث رقم: (1902) وسنن الترمذي: أبواب فضائل الجهاد عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم: الحديث رقم: (1710) .
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير:باب: درجات المجاهدين في سبيل الله: الحديث رقم: (2637) .
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير: في الحديث رقم: (2688) ، وصحيح مسلم في الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله..، رقم: (1895) .
ــــــــــ
شروط النصر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
تعاني الأمة الإسلامية ومنذ زمن ليس بالقصير من الضعف والتفرق، والاختلاف والتناحر والتخلف، فهي تابعة وليست قائدة كما أراد الله لها أن تكون، مقلدة ومحاكية لغيرها، ليست مبتدعة ولا مبتكرة، إنها غارقة في مشكلاتها تعاني الأمّرين من تناقضاتها وصراعاتها. وإن الأمراض قد تعددت ، والأوبئة المنتشرة غدت مزمنة في جسدها الكبير. ولقد حاول كثيرون تشخيص الداء، فتباينوا في التشخيص كما تباينوا في وصف العلاج، فذهبوا مذاهب شتى فزاد الأمر تعقيداً، ووسّعوا في الجراحات ومكّنوا للأدواء وأوصلوا الأمة إلى مرحلة اليأس والاستسلام والقنوط . لقد شرقوا وغربوا وذهبوا كل مذهب، ثم رضوا من الغنيمة بالإهاب. لقد قال بعضهم: إن سبب تخلف الأمة وضعفها إنما هو في التحرر من قيود الدين وأحكامه.
وقال آخرون : إن القومية هي الحل الذي ينبغي أن تأخذ به الأمة وتتجمع على أساسه فلم يفلحوا.
ويرى البعض : أن سبب ضعف الأمة وتخلفها إنما هو بسبب تحجب المرأة المسلمة وصيانتها والحل عندهم يكمن في تحرر المرأة وتخليها عن دينها وأخلاقها وآدابها، إنهم يريدونها أن تكون كالكافرات في أوربا وأمريكا.(1/1025)
هناك من يرى أن المشكلة اقتصادية والصراع إنما هو اقتصادي فأخذوا بالفكر الشيوعي والاشتراكية التي أضفوا عليها صفة العلمية. وكانت النتيجة تكريساً للفقر والتخلف والحرمان كما هو معلوم للجميع.
هناك من يرى أن لا خلاص للأمة إلا بأن تنسلخ من هويتها وترتبط بأوربا وتأخذ بفكرها ومناهجها من الخير والشر والحق والباطل، في الحلو والمر وفي كل شيء ، وهناك من الأفكار والتصورات التي أخذت بها الأمة في القرن الماضي فلم تجن من ذلك إلاّ الحزن المبين والضياع والتيه الذي لا نهاية له.
أيها المؤمنون : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا كيف تبنى الأمم وتسود ، وكيف تقوى وتنتصر وكيف تسمو وتسعد، وترقى في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ولن تفلح الأمة ولن تخرج من تيهها وضعفها وهوانها إلا إذا تعرفت على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسارت عليه في بناء النفوس وفي بناء المجتمعات والشعوب على حد سواء ألم يكن العرب بل والعالم قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - يعاني من الأمراض المستعصية التي نشكوا منها الآن.
ظلم وظلام، فساد وطغيان كان يملأ الأرض قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولقد ذكر الله المؤمنين بفضله ونعمته عليهم حيث أنقذهم مما كانوا فيه في جاهليتهم، أنقذهم ببعثة عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى: ?... وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ... ?[آل عمران:103].
فكيف بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته في ذلك الليل الغاسق والظلام الدامس الذي كان يلف البشرية بمجموعها ، لقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين في مكة بتأسيس الإيمان واليقين وغرس عقيدة التوحيد، وتثبيتها بإقامة الأدلة والبراهين القاطعة الساطعة، أدلة تكوينية مبثوثة في عناصر الكون ومظاهر الطبيعة الناطقة بأن الله ليس له شريك.
وأدلة تنزيلية، تنزل بها الوحي لهداية العقول وتنوير القلوب، وتحصين هذه العقيدة الراسخة التي هي المقصود الأعظم والغاية العظمى لجميع رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض كما قال سبحانه: ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ...?[ النحل:36] ،?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ?[الأنبياء: 25].
لقد كانت هذه المرحلة مرحلة بناء الإيمان واليقين في النفس الإنسانية ، أطول مراحل سير الرسالة الخالدة زمناً، كانت حافلة مليئة بالحجج الفكرية والعقلية، وأبلغها في إيقاظ الفطرة البشرية، كان الجهاد فيها جهاداً بالكلمة ، بالقرآن الكريم في دلائل آياته على عظمة الكون وخالقه ومدبره سبحانه وكان سلاح الجهاد في تلك المرحلة الصبر الجميل والتحمل الكبير ، يقول الله عز وجل في جهاد هذه المرحلة مخاطباً خاتم أنبيائه ورسله: ? وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ(1/1026)
جِهَاداً كَبِيراً ?[الفرقان: 51-52] ، ويالها من مهمة ما أعظمها، ففي هذه الآية من الحث والتهييج للرسول والمؤمنين ما فيها.. فإن الكفار قديماً وحديثاً يجدّون ويجتهدون ، في حرب الإسلام وتهوين شأنه، وكأن الآية تقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - قابل صدهم وإعراضهم وعنادهم بجدك واجتهادك ، واستمسك بالوحي الذي أنزل عليك وعض عليه بالنواجذ فإنك بذلك تغلبهم وتعلوهم: ?... وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ?، وجعله جهاداً كبيراً لما يحتمل فيه الرسول من المشاق العظام والمهام الجسام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نذير لجميع القرى ، والأمم وذلك لعموم رسالته لأن الله لو بعث في كل قرية نذيراً، لوجبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده وعظم - صلى الله عليه وسلم - .
وكما اكتمل بناء العقيدة الإيمانية والتوحيدية في النفوس المؤمنة في هذه المرحلة وظهر شامخاً راسخ الدعائم والأركان، ثابت القواعد لا تهزه أعاصير الحياة ولا تقف أمامه ترهات الكفر والإلحاد، ولا تؤثر فيه سخافات الوثنية وأباطيل الشرك والجهالات.
لقد غرس محمد - صلى الله عليه وسلم - في أفئدة وقلوب أصحابه الإيمان بالله واليوم الآخر، كانوا على يقين جازم لا يخالطه ريب أنهم سيقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم صغيرها وكبيرها، فإما إلى نعيم مقيم دائم لا ينتهي ولا ينقطع وإما إلى عذاب خالد شديد في نار وقودها الناس والحجارة فكانوا بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه ، كانوا موقنين أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، كانت هذه العقيدة تهون عليهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها.
إن الإيمان العميق إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش.. وهذا ما ربى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام. إنهم لما آمنوا بالله العزيز الحميد وصدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب .. صنعوا العجائب وحققوا وأنجزوا.
لما اكتمل بناء العقيدة في ضمائر وقلوب المؤمنين في مكة وهم قلة والمشركون واقفون في طريق الدعوة عقبه كأْداء يصدون عن سبيل الله ويتوعدون من يؤمن ، وينزلون به ألواناً من العذاب واستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى ربه ويجاهد ويصبر ويصابر، حتى أذن الله للنور أن ينتشر فيمّم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه شطر قبائل العرب ووفودهم في موسم الحج يعرض عليهم دعوة الله ويطلب منهم النصرة والحماية، فوجد هذا النور والخير طريقه إلى قلوب الأوس والخزرج من سكان المدينة وسرعان ما انتشر الخير وسرى النور في المدينة كما يسري نور البدر في ظلمات الليل فيبددها، والماء العذب في الأرض الجدبة فينبتها، واحتضنت المدينة الإسلام والمسلمين كما تحتضن الأم الرؤوم أولادها ، ووجد المسلمون في الأنصار خير إخوان، وأعواناً عرفتهم الدنيا في تاريخها الطويل.(1/1027)
لقد انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلى طور جديد، طور يبني فيه الأسس الراسخة ويقيم الدعائم الثابتة لبناء المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، التي تطبق أحكام الله وتقيم شعائر الدين وتبلغ الإسلام رحمة للعالمين ، فما هي يا ترى تلك الأسس التي أقام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة ، هذا ما سيتم تبيينه في خطب لاحقة إن شاء الله.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: لا تزال الدماء تسفك والأنفس تزهق والبيوت تدمر والاقتصاد ينهار، واليهود يسرحون ويمرحون على مرأى ومسمع من العالم، كل همّهم هو أن توقف الانتفاضة الشعبية الجهادية.. والشعب الأعزل يواجه الطائرات بالمقالع والمدافع والدبابات بالحجر.. والطائرات العربية والصواريخ العربية والأموال العربية، مشلولة بالذل والصغار، قادة الأمة غير جادين في نصرة القضية الفلسطينية منذ قيام دولة إسرائيل وحتى الآن، لم توجد إسرائيل أصلاً إلا بحماية الحكام الخونة لها وحراستهم لأمتها وحدودها، ومحاربتهم لكل المجاهدين والفدائيين طوال الخمسين عاماً الماضية .
تعلقت آمال الشعوب وتطلعت إلى القادة العرب الذين اجتمعوا أخيراً وتفرقوا دون أي موقف مشرف يذكر.. لأنهم ليسوا أهلاً للقيام بشرف الجهاد وتحرير فلسطين.
أيها الناس إن النصر لا ينزل على الجبناء القاعدين ، إن النصر له شروط وله مقدمات.. إذا توفرت في الأمة وأخذ بها الزعماء والقادة فإن النصر حليفها لا محالة. أما إذا لم نأخذ بها ولم نسارع في تطبيقها فإن المأساة ستستمر والمحن ستزداد والبلاء سيضاعف، لا يذهبن الوهم بنا على أن نقول: مهما كان فينا من عيوب فإن أعداءنا كفار وظلمة ومعادون ومستكبرون عن الحق وسوف ينصرنا الله عليهم.. كلا.. لقد أرانا الله تبارك وتعالى شيئاً من مظاهر الانكسار والضعف والهزيمة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بسبب مخالفتهم لأمر واحد من أوامر الرسول مع أنهم كانوا يواجهون أعتى وأكفر خلق الله يومئذ.
أيها المؤمنون: إن من شروط النصر ومقدماته :
أن تقلع الأمة عن كبائر الإثم والفواحش، أما أن تظل أمورنا على ما هي عليه ، ترك للفرائض والواجبات وانتهاك للحرمات، بارات للخمر وتصنيع له ، أماكن الدعارة والقمار، أوكار للفساد، وتحطيم الأخلاق، إباحة الربا ومحاربة الدين.. هذه الحالة الاستثنائية التي تعيشها الأمة لا بد أن تختفي من حياتها فذلك شرط من شروط النصر ومقدمة ضرورية له.
من شروط النصر الاستعداد والإعداد ورفع وتيرة الأمة بكاملها وتدريبها وإعدادها للتضحية والجهاد فهؤلاء اليهود أعداء الله يأخذون بكل أسباب القوة المادية ، تصنيع للأسلحة تدريب وتسليح لليهود المدنيين ، فلماذا لا يأخذ حكامنا بأسباب النصر في جانب إعداد التصنيع ، أين المصانع العسكرية ،(1/1028)
لماذا تخدرت الشعوب العربية والإسلامية ، وترسم السياسات من أجل إذلال الأمة ونزع هويتها وتجريدها من أسلحتها، وإشغالها باللهو واللعب والعبث والفسوق والاستمرار في هذه السياسات يمنع النصر ويحول بين الأمة وبينه ، قال تعالى: ? وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ?[التوبة:46].
فالإعداد للجهاد وإحياء فريضة الجهاد هو الخيار الوحيد، وهو قدر هذه الأمة، إن تقاعس حكامنا اليوم فسوف يأتي الله بغيرهم ممن يحبّهم ويحبونه.
من شروط النصر الهامة رفع مستوى الأمة إيمانياً وجهادياً ، على الحكومات أن تفتح الأبواب الموصدة أمام العلماء والدعاة لتوعية الأمة وتذكيرها وتعليمها وتربيتها على الإيمان والجهاد. وتجفيف منابع الفساد في إعلامها، وتعليمها وسائر أمورها.
ومن شروط النصر ومقدماته هو توحيد الأمة وجمع طاقاتها .. والعمل على رسم السياسات الجادة وإيجاد البرامج التي تجمع الأمة ولا تفرقها وتقويها ولا تضعفها إن كثيراً من الزعامات في الإعلام العربي تسهم في إضعاف وحدة الأمة وتفريق كلمتها بسياسات خبيثة لا تخدم سوى أعداء الأمة المتربصين بها.
هذه الشروط والخطوات ما لم يقم بها الحكام ويترجمونها إلى واقع عملي فإنهم خائنون لدينهم وأمتهم متعاونون مع أعداء الأمة متآمرون عليها.. والوقت كفيل بإفراز الصادقين وظهور المتآمرين والخائنين لكل الناظرين.
ــــــــــ
شَوْقُ الجهَاد وجلاَلُ النَّصر
في أفغانستان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَأَسكُبُ الشَّوقَ مِنْ جَفْنٍ ومن كَبِدِ ... ... ومِنْ رُؤىً وَصَلَتْ عَهْداً مضىَ بِغَدِ
... ...
الذكْرْياتُ عَلَى أَطْلاَلِها نَهَضَتْ ... ... تُعَانِقُ المجدَ شَوْقَ الأُمِّ لِلْوَلَدِ
... ...
هُنَا اللَّيالي التي فَارَقْتُها زَمَناً ... ... عَادَتْ تُحَدِّثُ عَنْ أَهْلي وعَنْ بَلَديَ
... ...
" كَابُول " داري وإنْ شَطَّ المَزَارُ فُما ... ... يُقَرِّبُ الدَّار إِلا لَهْفَةُ الكَبِدِ
... ...
فَحيْثُما كَانَ ذكْرُ الله عُدْتُ إِلى ... ... حَبْلٍ مِن الله مَوْصولٍ ومُنْعَقِدِ(1/1029)
... ...
أَنا انتسابي إلى الإِسلام : كُلّ هَوَى ... ... ماضٍ ويبقى هوى ديني ومُعْتَقَدِي
... ...
لله دَرُّكِ يا " كَابولُ " أَيُّ شَذاً ... ... أَحْلَى مِنَ الدَّمِ دفَّاقاً مِنَ الوُرُدِ (1)
... ...
أَزكى مِنَ الوَرْدِ فَوَّاحاً بِرَوضته ... ... أَغْنَى مِنَ النَّبْع فَوَّاراً على جَدَدَ (2)
... ...
رَحِيقُهُ : في سبيل الله ، نَفْحَتُه ... ... نَصْرٌ على عِزَّةٍ قَعْسَاءَ لم تَحِدِ (3)
... ...
كَأَنَّهُ عَبَقٌ ، والسَّاحُ تَنْشُرُهُ ... ... مِلءَ الزَّمانِ، عَلَى الآفاق ، في النُّجُدِ
... ...
لله تَسكُبُه الأبْطَالُ صَاعِدةً ... ... عَلَى مَدَارِجِها آفَاق ، مُجْتَهِدِ
... ...
إِلى الجِنَان ! إِلى الفردَوس وثْبَتُها ... ... تَدُقُّ أَبوابها دقًّا بكلّ يَدِ
... ...
للنَّاسِ إِن أَظْلَمُوا نُورٌ بِهِ وإِذا ... ... مَالُوا فمِنْهُ جَلاءُ الحقِّ و السَّدَدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ
... ...
فَقفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ
... ...
فَقِفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إِلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
* * ... ... * *
جَلاَلُ نَصْرِكِ آياتٌ مبيِّنةٌ ... ... للِمؤْمِنين وغَيْظُ الحَاقِدِ النَّكِدِ
... ...
عَشْرٌ مَضتْ ! والدَّمُ القَاني يُفَجِّرهُ ... ... مِن الوَرِيد وَفَاءُ العَهْدِ وَالعُدَدِ
... ...(1/1030)
لقَدْ تَجَاوَزْتِ شَكْوَانا و واقِعَنَا ... ... وَقُمْتِ مِنْ غَفْوَةٍ رَكْضاً إِلى كَبَد (4)
... ...
إِلى الميَادِين يُجْلَى في مَلاحمها ... ... حقُّ ويُحْسَمُ مِنْ أَمْرٍ ومِنْ عُقَدِ
... ...
هُناكَ بَيْنَ اللَّظى صُغْتِ السِّياسَة لا ... ... بَيْنَ الأرائِكِ والأطْبَاقِ والحَفَد (5)
... ...
هُنَاكَ صُغْتِ على الميْدَانِ فَلسفَةً ... ... تَقُولُ إِن شِئتَ نَصْرَاً قُمْ لَهُ وجُدِ
... ...
وَعُذْ بِربِّكَ لا تُشْرِكْ به أَحداً ... ... وَمنْ يَعُذْ بِسِوى الرَّحمن لم يَسُدِ
* * ... ... * *
1412هـ
1991م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• ملحمة الجهاد الأفغاني .
(1) الوُردُ أصلها الوُرْد وهي جمع الورد وهو الشجر أو الزهرة ، ومن كل شيء بين الحمرة والصفرة .
(2) جَدَدَ : الأرض الغليظة المستوية .
(3) قعساء : الثابت من العز .
(4) كبد : مشقة .
(5) الحَفَدْ : الأعوان والخَدَم
ــــــــــ
عاشوراء يوم النصر العظيم
*د.عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان 9/1/1426
18/02/2005
الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان قديم قدم البشرية ذاتها، ولا يزال مستعراً مشبوباً إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عز وجل: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)، وقال تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض). فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه(1/1031)
ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم، وجهادهم وبذلهم. فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق, ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل.
ولقد قصَّ الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين. ومن هذه القصص العظيمة: قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر في عهده، التي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعاً، وهي أكثر القَصص القرآني تكراراً، وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صناديد قريش وفراعين هذه الأمة, ولما فيها من التسلية والتأسية له وللمؤمنين، حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة، والدروس والحكم الباهرة، والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون, منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه، فقد قيل لفرعون: إن مولوداً من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك.
وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصاً، ثم لم يزل عددهم ينمو ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.
وعندما أخبر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذراً من وجود هذا الغلام -ولن يغني حذر من قدر-، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون )، واحترز فرعون كل الاحتراز ألا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه من ساعته.
وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفاً عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهم والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله جلّ وعلا ألهمها بما يثبت به فؤادها، كما قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه، فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقاً، وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، ألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خالياً من الطمأنينة، خالياً من الراحة والاستقرار، ولولا أن الله ربط على قلبها بالإيمان، وشد عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).(1/1032)
ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحفه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف. ولكن رب الأرباب، ومالك القلوب والألباب، يلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضاً من الرحمة والرأفة والحنان، على هذا الطفل الرضيع: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أونتخذه ولداً وهم لايشعرون) وكانت آسية عاقراً لا تلد، وقوله تعالى: (وهم لا يشعرون) أي: كدناهم هذا الكيد، وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدواً وحزنا وهم لا يشعرون. وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير, فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته.
ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئوهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو لا يزداد إلا رفضاً واستعصاء، ولا يزيدهم إلا عنتاً وحيرة، وبينما هم كذلك، إذ بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره، وتستطلع خبره: (وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لايشعرون، فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون)، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنهم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله -عزّ وجل- إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون).
وما زالت الأيام تمضي، والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكماً وعلماً، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحد من أهل بيته، قال الله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين). وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوف من الطلب، ففر هارباً إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلمه كفاحاً من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، (فكذب وعصى, ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى) وادّعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون) (فوقع الحق وبطل ما كانوا(1/1033)
يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون).
ولما انقطعت حجة فرعون، وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه، لجأ إلى القوة والبطش، والتعذيب والتنكيل، والملاحقة والتشريد، وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يظهر الحق، ويتمكن أهله وروّاده.
ثم أرسل الله -عز وجل- على فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة: من الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، (وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر)، ولكنها -والعياذ بالله- لم تزدهم إلا عناداً واستكباراً، وظلماً وعدواناً، يقول الله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).
ولما تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه، أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام.
فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه، وجنّد جنوده من شتّى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حذرون).
فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم!! فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: (كلا إن معي ربي سيهدين)، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق بإذن الله اثني عشر طريقاً يابساً، وصار هذا الماء السيال، وتلك الأمواج العاتيات، كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه، وتكاملوا خارجين، وتكامل فرعون وقومه داخلين، أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى، فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى).
وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
ويستفاد من هذه القصة أيضاً: أن العاقبة للمتقين، والنصر حليفهم، متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)، (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار).(1/1034)
ويستفاد منها كذلك: أن الباطل مهما انتفخ وانتفش، وتجبّر وتغطرس، وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه، أو يردّ كيده وباطله، أو يهزم جنده وجحافله؛ فإن مصيره إلى الهلاك، وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدّعي الإلوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: (ما علمت لكم من إله غيري) وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: (أنا ربكم الأعلى)، ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: (يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)، ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)، ولكنه حين حلّ به العذاب لم يغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى).
فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم، وتحقق هذا النصر المبين؟!! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم: شهر الله المحرم. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه".
وقد كان صيام يوم عاشوراء واجباً قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة. تقول حفصة رضي الله عنها: "أربع لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر" رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وسئل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن صيام عاشوراء؛ فقال: "ما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم" متفق عليه. وبين النبي -عليه الصلاة والسلام- أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: "صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم.
وروى مسلم أيضاً عن ابن عباس قال: "حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمت التاسع. فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي صحيح مسلم أيضاً: "خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده".
قال ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاثة. أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم. ويلي ذلك: أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. ويلي ذلك: إفراد العاشر وحده بالصوم" أ.هـ
وبناءً عليه، فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب. وإن(1/1035)
صمت يوماً قبله ويوماً بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصاً إذا كان مشكوكاً في وقت دخول الشهر، ولأن السُّنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر محرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".
وإن وافق عاشوراء يوم الجمعة أو السبت فلا بأس بالصيام فيهما أو في أحدهما، لأن المنهي عنه هو إفراد الجمعة أو السبت بالصيام، لأجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام فيهما سبب شرعي يقتضيه، كيوم عاشوراء، أو يوم عرفة، ونحوهما فلا نهي حينئذ. ويشبه ذلك الصلاة في أوقات النهي إذا كان لها سبب شرعي.
ومن المفارقات العجيبة: ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضاً من قتل سيد شباب أهل الجنة: الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته-، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهّر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا. ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه: هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين -رضي الله عنه-، وما يقومون به من تعذيب أنفسهم، وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم، والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين، ولطم خدودهم، ونتف شعورهم، ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة، والمنكرات الظاهرة، ومن كبائر الذنوب التي تبرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مرتكبيها، فقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" متفق عليه. وعن أبي -موسى رضي الله عنه- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة" متفق عليه. والصالقة: هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب. والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها. فكل عمل يدل على الجزع والتسخط، وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة، وتشويه لصورة الإسلام، وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه. وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وهذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام!!
وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار، وإعلان للبراءة منهم. وهذا لعمر الله من أعظم الضلال، وأنكر المنكرات.
ويقابل هؤلاء فرقة أخرى، ناصبوا الحسين رضي الله عنه العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيداً، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة، والضلالات المنكرة، والبدعة لا تعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ.(1/1036)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال، والتوسعة على العيال، واتخاذ أطعمة غير معتادة. وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين -رضي الله عنه-، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم. ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية. بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم" أ.هـ
فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار. ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعاً، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم. ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته، وتبليغ هديه وسنته. ويدينون لله -عز وجل- بمحبتهم كلهم، والترضي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم، وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور. وأن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم، التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهادهم معه. رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العامين. *عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بالرياض
ــــــــــ ــــــــــ
مؤهلات النصر في جيل الصحابة
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا
و بعد ..
إن كل أمة تعتز بتاريخها و تفخر ببطولات أبنائها و رجالاتها و إن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز و الفخار هي الأمة الإسلامية لما أنجبته على طول تاريخها من رجال و أبطال يقف التاريخ أمام صفحات بطولاتهم وقفة إعزاز و فخر و ليس هذا فحسب بل لشهادة العزيز الغفار قال سبحانه و تعالى " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ "
فسبحان من قدمنا على الناس وسقانا من الإسلام أروى كأس و جعل بيننا أفضل نبي رعا و ساس وقال لنا كنتم خير أمة أخرجت للناس .
و إن كل أمة قادة و رموزا يمثلون قيمة و يوجهون الأمة ليصعدوا بالناس إلى القمة ويبلغوا بها درجات الجنة فإن قادة و رموز المجتمع المسلم هم صحابة النبي صلى الله عليه و سلم ، من نقتهم المحن ، و محصتهم الفتن ، الذين وضعوا أيديهم في يد النبي صلى الله عليه و سلم حتى ارتفعت راية الإسلام خفاقة و انتشر الإسلام في ربوع الأرض فمن رام الرفعة و العزة استهدى بهديهم و اتبع طريقهم.
وهذه جملة من المؤهلات التي أهلت الصحابة - رضي الله عنهم - لقيادة البشرية على سبيل الاختصار لا الحصر :(1/1037)
1- تعظيمهم لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم
كان الصحابة - رضي الله عنهم - يسارعون إلى تنفيذ أوامر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم عملا بقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ " ( الأنفال20 )
و قوله عز و جل " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً " ( الأحزاب 36 )
فهذا موقف الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - و استجابتهم لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم و خروجهم إلى حمراء الأسد في صبيحة يوم أحد و قد دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم للخروج فخرجوا على ما بهم من جراح و ألم تعظيما لأمر الله عز و جل و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم و سجل الله عز و جل لهم ذلك الموقف في كتابه الخالد في سورة آل عمران .
2- صدقهم - رضي الله عنهم - في إيمانهم و أقوالهم و أعمالهم
و قد وصف الله عز و جل المهاجرين الكرام بالصدق ، فقال تعالى " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( الحشر 8 )
و نزل فيهم - رضي الله عنهم - قوله تعالى " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " ( الأحزاب 23 )
و لا نستطيع أن ننسى موقف أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد و قوله لسعد بن معاذ الجنة و رب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : فوجدنا به بضعا و ثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه .
3- زهدهم في الدنيا و رغبتهم في الآخرة
إنما سبق الصحابة رضي الله عنهم بقوة يقينهم بالآخرة الباقية و زهدهم في الدنيا الفنية قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه للتابعين لأنتم أكثر عملا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لكنهم كانوا خير منكم كانوا أزهد في الدنيا و أرغب في الآخرة
تصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقول " كان ينام أدما حشوه ليفا " متفق عليه وهذا عمر رضي الله عنه و هو خليفة المسلمين يرقع ثوبه و ينام على ظنفة رحله متوسدا الحقيبة و يقول هذا يبلغني المقيل.
4- شجاعتهم النادرة و استهانتهم بالحياة الدنيا(1/1038)
و كأن صحابة النبي صلى الله عليه و سلم تمثلت لهم الآخرة و تحلت لهم الجنة بنعمائها كأنهم يرونها رأي العين فطاروا إليها طيران الحمام الزاجل لا يلوي شيء و تعددت صور شجاعتهم فهذا عمير بن الحمام يوم بدر يقول " بخ بخ إنها الحياة الطويلة إن أنا بقيت إلى أن آكل تلك الثمرات وألقاها من يده ثم قاتلهم حتى قتل ".
وفي يوم اليمامة أغلقت بنو حنيفة أنصار مسيلمة الكذاب الباب عليهم و أحاط بهم الصحابة فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرمح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه و دخل المسلمون الحديقة من حيطانها و أبوابها يقتلون من فيها من المرتدة من أهل اليمامة حتى خلصوا إلى مسيلمة - لعنه الله - 5- قطع حبال الجاهلية وموالاة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين :
كان الواحد من الصحابة بمجرد أن يدخل الإسلام يجتهد كل الاجتهاد أن يقطع حبال الجاهلية و أن يخلع على باب هذا الدين مل ماضيه بما فيه من سوءات وظلمات
فهذا عبد الله بن أبي سلول يستأذن النبي صلى الله عليه و سلم بأن يأتي برأس والده رأس المنافقين و هذا حنظلة بن أبي عامر يطلب من النبي صلى الله عليه و سلم قتل أبيه لما آذى الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين فينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نهى عبد الله بن أبي بن سلول .
6- استهانتهم بزخارف الدنيا وزينتها الجوفاء :
علم الصحابة - رضي الله عنهم - حقارة الدنيا وزيف زخارفها فاستهانوا بها فلم تبهرهم الأضواء و لم تشغلهم الشهوات ، و ما موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر يوم القادسية عنا ببعيد حين دخل على رستم و قد مزق النمارق و الوسائد التي وضعت له وهو إنما يمزق شهوات الدنيا الفانية وزخارفها الجوفاء .
7- حرصهم على الاجتماع و الوحدة ونبذ الخلاف :
كان الصحابة - رضي الله عنهم - من أحرص الناس على أسباب الرفعة و النصر و التي من أسبابها الوحدة و الاجتماع و نبذ الخلاف قال تعالى " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ " ( آل عمران 103 )
قال علي رضي الله عنه السنة و الله سنة محمد صلى الله عليه و سلم و البدعة ما فارقها ، و الجماعة و الله مجامعة أهل الحق و الفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا .
8- مسارعتهم - رضي الله عنهم - إلى التوبة والإنابة إن بدرت منهم المعصية:
كما في قصة ماعز الذي أقر عند رسول الله صلى الله عليه و سلم على نفسه بالزنا فأمر بإقامة الحد عليه ثم أتت الغامدية تقر على نفسها كذلك . و كذا الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر(1/1039)
حتى نزلت براءتهم من السماء فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - من أسرع الناس إلى التوبة و الإنابة و الاعتراف بالذنب ، كما أنهم دائما أسرع الناس إلى الخير فرضي الله عنهم أجمعين .
9- تكافلهم فيما بينهم و مواساتهم لإخوانهم
قد مدح الله عز و جل الأنصار الكرام بقوله تعالى " وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ " ( الحشر 9 )
و كانوا رضي الله عنهم يمتثلون قوله سبحانه " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ "
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين سعد بن الربيع الأنصاري ، فعرض عليه أن يناصفه أهله و ماله ، فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك و مالك " البخاري
10- اتهامهم أنفسهم دائما بالتقصير
قال تعالى " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ " ( يوسف 53 ) هذا أبو بكر رضي الله عنه يدخل عليه عمر يوما و هو يجند لسانه فيقول له : مه غفر الله لك فيرد عليه أبو بكر قائلا : إن هذا الذي أوردني الموارد " البخاري
وهذا أبو الدرداء يصيبه المرض و يدخل عليه أصحابه ليعودوه و يقول له أي شيء تشتكي ؟ فيقول ذنوبي فيقولون له : أي شيء تشتهي فيقول الجنة "
11- أنفتهم و استعلاء الإيمان في قلوبهم
هذا الإيمان الذي رفع رأسهم عاليا و أقام صفحة عنقهم فلن تنحني لغير الله أبدا .
12- تزكية نفوسهم بالعبادات
وعى الصحابة رضوان الله عليهم عمليا من أن تطهير النفس و تزكيتها هما أساس التغيير المنشود و أساس النجاح و النصر المنشود في الدنيا و الفوز و الفلاح في الآخرة قال تعالى " قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا " ( الشمس 9 )
" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " ( الأعلى 14 ، 15 )
13- ثباتهم أمام المطامع و الشهوات
لا شك في أن قوة الإيمان في قلب العبد تجعله يترفع عن شهوات الدنيا و أغراضها الدنيئة فيصون العرض و يؤدي الأمانة ، و يعف عن الغلول .
14- حرصهم على الأخذ بأسباب القوة
عملا بقوله عز و جل " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ " ( الأنفال 60 )
وقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " رواه مسلم(1/1040)
15- استنصارهم بالله عز و جل و طلبهم العزة بما أعزهم الله عز و جل به :
و قد كان من هدي الصحابة الكرام أنهم يطلبون النصر من الله عز و جل عملا بقوله تعالى " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ( الأنفال 10 )
و يطلبون العزة بما أعزهم الله عز و جل به من الإيمان و العمل بالإسلام و طاعة النبي صلى الله عليه و سلم كما قال عمر : إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " .
16- ثقتهم بنصر الله عز و جل
قال تعالى " وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ " ( الروم 47 )
و قال تعالى " وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ " ( الصافات 173 )
و قال صلى الله عليه وسلم " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " فكان من ثقة الصحابة الكرام بنصر الله عز و جل يتهمهم المنافقون بالغرور كما قال تعالى " إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " ( الأنفال 49 )
ــــــــــ
من فقه الأولين النصر ساعة صبر !!
* عبد الله فرج الله
النصر.. صبر ساعة، أو ساعة صبر، هذا ما أكده الأولون من سلفنا الصالح، الذين ذاقوا طعم النصر، بعد أن ساروا في دروبه، وخاضوا ميادينه، فهم وحدهم من يملك حق الكلام في «النصر» تنظيراً وتأطيراً، أما الذين لم يتذوقوا إلا طعم الهزائم، ولم يعيشوا «النصر» إلا من خلال الخطابات الجوفاء، والشعارات الزائفة، التي لا تسد جوعة، ولا ترجع مغتصباً، ولا تردع ظالماً،. فلا يحق لهم غير الصمت، وإن تجرءوا على الكلام أن يخرسوا.. فللذين انتصروا، فكان لهم في ميادين البطولات جولات وصولات، نصيخ السمع، ونحني الهامات، إجلالاً وإكباراً..
أما الذين غدا النصر عندهم خطبة رنانة، أو مقالة مطولة، أو قصيدة عصماء، أو مبادرة ذليلة، أو معاهدة تنازل، أو مؤتمر استجداء، نقول لهم : أخطأتم الطريق.. فلن يكون النصر أبداً ثمرة حرب «السلام والمبادرات والمؤتمرات» كما تزعمون، بل لن يكون السلام أو المبادرات أو المؤتمرات حرباً في يوم من الأيام، مهما روج لذل ك إعلامكم، وانطلقت به شياطينكم، وجعجعت به أبواقكم..
فالنصر -وهذا إيماننا المطلق- ساعة صبر، ويالها من ساعة، إنها أم الساعات، بله هي الساعات كلها، إنها كبرى الساعات وأعظمها، ساعة التضحيات الجسام، ساعة بذل الأرواح، ساعة الدماء النازفة، ساعة الجوع والحصار، ساعة الدموع والآلام، ساعة الوداع والفراق، ساعة الموت الزؤام، ساعة(1/1041)
العصف والقصف، ساعة تهدم فيها البيوت، وتدك الحصون ، وتيتم الصبايا، وترمل النساء، وتثكل الأمهات.. إنها ساعة الزلزلة والخوف والهلع، ساعة تبلغ فيها القلوب الحناجر..
هذا هو ثمن النصر.. وهذا هو إيماننا، لا نصر بدون هذا كله، ومن ظن النصر غير هذا، فليبحث له عن مكان آخر، فليس في هذه الدنيا مكانه، وليس هذا الزمان زمانه..
فهنيئاً للقابضين على الحجر..
فهذه ساعة الصبر..
والنصر.. على مرمى حجر..
لا تسمعوا صوت الناعبين..
فالنصر مع الصبر
لكن بعد حين..
قسماً هذا هو اليقين..
قسماً هذا هو اليقين..
فالنصر العظيم هذه ساعته..
والتضحيات الجسام يا أهلنا هي ساحته
ــــــــــ
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله وخيرته من خلقه، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد،،،
فإن أسباب الانتصار والهزيمة في التاريخ الإسلامي موضوع مهم ينبغي أن يعرفه المسلمون عموماً، والدعاة إلى الله خصوصاً، ينبغي أن يبحثوه ويتأملوه ليعرفوا أسباب النصر، فيعملوها، وينشروها، ويعرفوا أسباب الخذلان والهزيمة، فيجتنبوها، ويحاربوها، ويبعدوها.
ومن المعلوم عند كل مسلم أن الله وعدنا أن ينصر هذا الدين وأن يمكن لعباده المؤمنين، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْاَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور].
إذن: هذا وعد صادق لابد أن يتحقق.. وقد تحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد خلفائه، ومرت السنون والقوة الإسلامية والتمكين لها في الأرض بين مد وجزر، فبعد القرون المفضلة(1/1042)
أصبح التاريخ الإسلامي يمر بفترات هزيمة وبفترات انتصار، ولكن النصر كلمة واسعة عامة شاملة تشمل:
انتصار الداعية: حتى ولو قتل، فهناك من الدعاة من قتل، ومن عذب، ومن شرّد، ولكنه في النهاية نصره الله- أي نصر المنهج الذي عاش من أجله، حتى ولو قتل ذلك الداعية- وأقرب مثال لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي مات سجيناً، ثم إنه بعد عدة قرون ييسر الله من يقوم بنفس المباديء التي دعا إليها شيخ الإسلام، وهو الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويرفع لوائها، وينشرها في هذه الأرض، فليس النصر بالمعنى العام هو الظهور في الأرض فقط، إنما حديثنا يتركز حول الظهور على العدو والتمكين في الأرض .
الأمة الإسلامية اليوم تواجه واقعاً مأساوياً، نستطيع أن نلخصه في ثلاث نقاط:
1- هزيمة نفسية تنتاب كثيراً من أفراد الأمة: ومع الأسف حتى على مستويات كبيرة حتى وجد من ينادي بالانخراط في منظومة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لنكون عجلة من عجلات هذا النظام، ويقوده ذلك الرجل الغربي الكافر .
2- تبعية في مجالات كثيرة: ومن أهمها التبعية الثقافية والفكرية، والاقتصادية، وتبعيات كثيرة .
3- الأمر الثالث الذي يتضح فيه واقع الأمة: الضعف والذلة والتفرق: فأصبحت الأمة المسلمة رغم كثرتها وامتداد ساحتها ورقعتها أصبحت أضعف الأمم، وأقل الأمم شأناً في هذا العصر، بينما الأمم الأخرى لا يمكن أن يحصل شيء في هذه الأرض إلا بعد أن يؤخذ رأيهم حتى البوذيين في الصين يؤخذ رأيهم، وأما الأمة المسلمة فإنه لا يؤخذ رأيها حتى في قضاياها هي ! وصدق فيها قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
إذن: لابد لهذه الأمة أن تعرف أسباب النصر والهزيمة، وأن تتلمس واقعها هذا، والأمور التي أدت إلى نزولها إلى هذا الحضيض، وأن تحاول أن تنتشل نفسها، وأن تخرج إلى ما أراد الله لها من قيادة هذه الدنيا، ومن سيادة العالم .فنحاول أن نلخص أسباب النصر والهزيمة بدون استطراد وتوسع وإلا فهي تحتاج إلى مجلدات.
أسباب النصر والهزيمة:
أولاً: من أسباب النصر:
لعل أهم سبب من أسباب النصر لهذه الأمة هو:
1- الإيمان الصادق والعمل الصالح: يقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإذن لابد من إيمان صادق وعمل صالح : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وهنا شرط مهم : {...يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي(1/1043)
شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة:{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[56]}[سورة النور]. فإذن: لابد من إيمان صادق، ومن عمل صالح.
ومن أهم ما يتمثل فيه هذا الإيمان:
أ- عبادة الله سبحانه وتعالى عبادة خالصة ليس فيها شرك .
ب- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، فما أمر به يفعل، وما نهى عنه يجتنب .
ج- التوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه، والاستنصار به جل وعلا، ودعاؤه والاستغاثة به: كما كان نبينا يفعل، ومن يقرأ قصة غزوة بدر يجد ذلك واضحاً حيث قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ] فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ...إلخ الحديث.رواه مسلم.
د- الصبر والثبات: سواء كان ذلك في المعركة، أو قبل المعركة: صبر على الابتلاء، صبر على المحن، فلا يمكن أن يمكن لهذا الدين إلا بعد ابتلاءات ومحن، ثم إذا صُفي ونُقي جاء التمكين، وجاء النصر، فلابد من صبر وثبات كما قال جل وعلا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا...[45]}[سورة الأنفال]. وكما قال سبحانه:{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[66]}[سورة الأنفال].
هـ- ذكر الله كثيراً ...{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...[45]}[سورة الأنفال] . إذا قارنت هذا الأمر الإلهي الذي طبقه النبي وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، ثم قارنته بهذا العصر الذي نعيشه؛ وجدت أن أهل هذا العصر يدخلون المعركة، وهم يغنون، ويرقصون؛ فتكون النتيجة هزيمة ساحقة، وخيبة ماحقة .
2- ومن أسباب النصر: وحدة صف الأمة: أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها(1/1044)
نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
3- كذلك من أسباب النصر: وجود القيادة المؤمنة القوية: فالقيادة العلمية القوية وقيادة الدنيا إذا اجتمعتا تحقق النصر والتمكين، أما إذا وجدت القيادة العلمية، ولكن ليس معها قوة تحميها وتدافع عنها وتجاهد لنشرها فإنها لا تقوى ولا تنتصر.
4-إعداد العدة والأخذ بالأسباب: قال الله:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ...[60]}[سورة الأنفال]. كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة، فأعدوه صغيراً كان أو كبيراً ما دمتم تستطيعونه عليكم أن تعدوه.{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الخيل تدخل في القوة، فلماذا خصها بالذكر؟ خصها بالذكر لحكمة وهي: أن نعتني بأهم أسباب القوة، فالخيل في عهد النبي هي أهم أسباب القوة، فما دمنا نستطيع أن نوجد أهم أسباب القوة فإن علينا أن نعتني بها، في غزوة بدر لم يكن مع النبي إلا فارس واحد، وقيل: اثنان، وأكثر الأقوال أنهم ثلاثة.ويقول الحافظ ابن حجر:لم يثبت أو لم يصح أنه وجد فارس إلا المقداد وحده . فهذا هو قدر استطاعتهم، وكان مع قريش مائة فارس، والخيل في ذلك الوقت مثل الطائرات في زماننا هذا، فنحن مطالبون بأن نعد ما نستطيع ولسنا مطالبين بأن نعد ما لا نستطيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب الموجودة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.
وعلينا أن نعلم حقيقة مهمة وهي: أنه لم يلتق ولم يحصل يوم من الأيام أن كانت قوة المسلمين أقوى من قوة الكافرين، فالكافرون دائماً هم الأكثر، والكافرون دائماً هم الأقوى من ناحية العدة والعتاد، ولكن جانب الإيمان يرجح المسلمين على عدوهم ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا استبطأ النصر من قادته كتب لهم:'إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين فلعلكم أحدثتم أمراً'. يذكرهم لعلكم أحدثتم شيئاً فراجعوا أنفسكم، هل أخللتم بشيء من أسباب النصر.
- سؤال: هل أمة الإسلام اليوم مطالبة بأن يكون لديها مثل ما لدى اليهود من السلاح؟ ومثل ما لدى اليهود من الخبرات ومثل ما لدى اليهود من التقدم العلمي والتكنولوجي؟
الجواب: لا، الأمة ليست مطالبة بهذا، الأمة مطالبة بأن تكون مؤمنة، وأن يكون صفها موحداً، وأن تكون قيادتها مؤمنة، ثم أن تُعِدَّ ما تستطيع من الأسباب، وتستعين بالله، وتجاهد في سبيله وسَتُنْصَرُ وتُمَكَّنُ.. هذا هو الشيء المطلوب، وهذا هو الذي يريح قلب المؤمن، ويدخل السرور على نفسه، فإننا لسنا مطالبين بأن نكون أقوى من الكفار، ولا حتى بأن نماثلهم، ولا حتى بأن نكون قربهم، بل(1/1045)
علينا أن نعد ما نستطيعه، ثم نجاهد، وسينصرنا الله جل وعلا، وأفغانستان عبرة لمن اعتبر حيث لم يكونوا يحملوا إلا أسلحة قليلة ضعيفة بالنسبة لما كان في أيدي الشيوعيين الروس، ومع ذلك خذل الله الروس على أيدي أولئك الذين يسمون في القاموس الغربي بالبدائيين .
وفعل الأسباب وإعداد العدة ينقسم لأمور كثيرة جداً لعل أهمها:
أ - إعداد الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة: هذه هو أهمها وأولها، فتعد هذه القوة التي هي الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة بالإيمان والعمل الصالح أولاً، وينقى الصف المؤمن من غير هؤلاء، ولذلك بمجرد أن تطالع كتب 'الفقه الإسلامي' تجدهم يقولون: وعلى القائد أن يمنع المخذل والمرجف من أن يسير مع الجيش؛ لأن هذا منافق لا يستطيع أن يواجه الكفار إذا حمي الوطيس.
فإذن: لابد من إعداد الجندي المؤمن الذي يذكر الله كثيراً، والذي يحافظ على طاعة ربه، ويجتنب ما نهاه الله عنه، والذي نصب عينيه أن يموت شهيداً ليدخل الجنة بفضل الله. كما قال عمير بن الحمام-لما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] وكان بيده تمرات بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ- ربما لا تتجاوز خمس تمرات - إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
إذن إذا وجد مثل هذا النموذج الذي يقدم على الموت، فإنه سيوهب لنا النصر، وستوهب لنا الحياة، وسنحصل على الحسنيين .
ب - الأمر الآخر في إعداد العدة إعداد العدة العسكرية: بالعتاد.. بالأجهزة.. بما نستطيع من قوة فنعد ذلك ونجهزه، حتى لا يبقى سبب من أسباب النصر في استطاعتنا إلا وفعلناه، فإذا أعددنا تلك العدة، فإن القلوب تنام وهي مطمئنة مرتاحة .
ت - ومن العدة أيضاً: إعداد الأموال اللازمة: فإن الأموال الآن أصبحت عماد الجهاد، بل هي عماد الجهاد منذ عصر النبي، ولعل الجميع يتذكر أن عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة، فماذا كانت جائزته؟ كانت جائزته: [ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ] رواه الترمذي وأحمد. هذه جائزته لماذا؟ لأن المال هو عصب الجهاد، فلا بد أيضاً أن تعد الأمة الأموال اللازمة للجهاد في سبيل الله .
ث - ومن إعداد العدة: ألا يغفل المسلمون عن معرفة عدوهم وعن قدراته: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما أخذ السقاة الذين جاءوا يستقون الماء لقريش ثم سألهم: كم عدد قريش؟ كم ينحرون من الجزر؟ كم معهم من الخيل؟ من معهم من صناديد قريش؟ معهم فلان وفلان،ينحرون من الجزر كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ ] رواه أحمد . فَأَعَدَّ لذلك عدته، فهذا واجب من واجبات المسلمين، فلا يستهينوا بعدوهم، واحتقار(1/1046)
العدو ليس من شأن المسلمين بل إننا نبحث عن مكامن القوة ومواطن الضعف فيه، ثم نستنصر بالله جل وعلا عليه، ومع ذلك علينا أن نتأمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ] رواه البخاري ومسلم.أي أننا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا عليهم وأن يخذلهم، حتى ولو لم نلتق بهم ولم نقاتلهم .
5- من أهم أسباب النصر: الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
6- من أهم أسباب النصر التي ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:كيف ذلك؟
الأمة- أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] من هم يا رب؟
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا: تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا(1/1047)
المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
7- أيضاً من أهم أسباب النصر: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا كتبت عليهم الذلة'.
الجهاد سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] . عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط فيها أهلها فضاعت.
ومن المعلوم عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] .
فإذن: هم لن يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى.. سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام.. سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين على حذر .
8- ثم أخيراً من أهم أسباب النصر: السلامة من أسباب الخذلان والهزيمة، ومنها:(1/1048)
أ -أهم أسباب الخذلان والهزيمة: هو الانحراف عن الصراط المستقيم: سواء كان هذا الانحراف انحرافاً عقدياً، أو انحرافاً عملياً، يعني سواء كانت المعاصي في باب الاعتقاد: بالإلحاد في أسماء الله وصفاته.. بالشرك الأكبر والشرك الأصغر، أو كان بالردة الكاملة باعتناق المذاهب الكافرة كالشيوعية، والقومية، والعلمانية، أو كان من باب الأعمال أي المعاصي العملية.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[40]}[سورة العنكبوت] . فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما عليك إلا أن تقرأ كتاب ربك وستجد ذلك واضحاً، وعلى سبيل المثال: اقرأ قصة أصحاب سبأ، واقرأ قصة أصحاب السبت، واقرأ سبب إغراق قوم نوح، واقرأ سبب إهلاك قوم عاد وثمود وقوم لوط، وما حصل لقوم موسى، وما حصل لغيرهم من الأمم؛ فستجد الذنوب هي السبب في ذلك .
أولا:الانحراف العقدي وأثره: سنضرب على الانحراف في العقيدة مثلين هما شاهد حي على أن الأمة إذا انحرفت اعتقاديا،ً فإنها تضعف وتذل:
الشاهد الأول من القرن الرابع الهجري: فقد شهد مداً رافضياً شديداً، فقامت دول رافضية في شرق الجزيرة في البحرين والأحساء قامت دولة القرامطة، وفي بلاد فارس والعراق دولة بني بويه، وفي بلاد الشام الحمدانيون- أبو فراس الحمداني وجماعته كانوا رافضة- وفي بلاد المغرب قامت الدولة العبيدية الإسماعيلية القرمطية، والتي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة الفاطمية، ثم بعد ذلك انطلقت فأخذت مصر، ثم الحجاز. والقرامطة أهل البحرين وصلوا إلى الحجاز، وأخذوا في ذلك القرن الحجر الأسود وبقي عندهم اثنتان وعشرون سنة، ووصلوا إلى دمشق، ولم يبق من بلدان المسلمين سالماً من المد الرافضي إلا القليل، وأذكر لكم ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث حصلت في ذلك الزمن ثم انظروا إلى تعليقاته رحمه الله على تلك الحوادث .
إنه مع قيام تلك الدول الضالة الرافضية تقدم النصارى من بلاد الروم، فأخذوا بعض بلاد المسلمين، وفعلوا من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان، يذكر الحافظ ابن كثير بعض هذه الحوادث، ثم يعلق عليها، فيقول في حوادث سنة 359 للهجرة:'وفيها دخلت الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز، وسبوا من أهلها الشيوخ والأطفال نحواً من عشرين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون' ثم يعلق على ذلك بقوله:'وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله'. ثم يذكر أيضاً في حوادث سنة359 هـ أيضاً أن ملك الروم فعل أعظم من ذلك في طرابلس الشام، وفي السواحل الشامية وحمص وغيرها، يقول رحمه الله :'ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر ما قدر عليه، ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو مائة ألف(1/1049)
إنسان ما بين صبي وصبية وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم'.
تصوروا عدو من أعداء المسلمين يأتي ويأخذ مائة ألف أسير من المسلمين ولا يرجع إلا بسبب الأمراض التي فتكت بجيشه ولم يحاربه أحد من ملوك الرافضة الذين كانوا ملوك الأرض في ذلك الوقت، تذكروا ما ذكرناه في أول الموضوع أن من أسباب النصر القيادة المؤمنة، ويعلق ابن كثير على ما كان يفعله الروافض في ذلك القرن من سب الصحابة، وما يفعلونه من البدع والضلالات، فيقول في حوادث سنة 351 هـ بعد أن ذكر غارات الروم وقتلهم ما لايحصى من المسلمين قال:' وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة الله علي معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا أيضا:ً ولعن الله من غصب فاطمة حقها-يعنون أبا بكر رضي الله عنه-، ومن أخرج العباس من الشورى -يعنون عمر رضي الله عنه-ومن نفى أبا ذر-يعنون عثمان رضي الله عنه- 'يقول ابن كثير رحمه الله:' رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله' . ثم تكلم قليلاً ثم قال:'ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة-يقصد ابن بويه وكان رافضياً- لم ينكره ولم يغيره قبحه الله وقبح شيعته من الروافض'.
انظروا إلى تعليق ابن كثير وهو المراد في هذه المحاضرة يقول:'لا جرم أن الله لا ينصر هؤلاء وكذلك سيف الدولة ابن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم، وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الإفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع' - ثم بعد ذلك صور حال المسلمين-' والناس معهم في حصر عظيم وضيق من الدين وأهل هذه المدن-يقصد دمشق وحلب وحمص وحماة- التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الإفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد خير الأنبياء'.
هذا نتيجة الانحراف العقائدي الذي استحوذ على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري بل استحوذ على حكامها وقادتها في ذلك الوقت.
أما الشاهد الثاني، فأضربه لكم من عصرنا هذا: فقد هُزم العرب أمام اليهود رغم أنه لا تناسب بين العددين، ورغم ما كان يتشدق به طواغيت العصر في الشام، وفي مصر من أنهم سيلقون باليهود في البحر، وسيفعلون وسيفعلون، كان أولئك يرفعون لواء القومية، ولواء الاشتراكية، ويحاربون الإسلام(1/1050)
وكان طاغوتهم الأكبر قد قتل سيد قطب رحمه الله قبل المعركة بسنة، ثم لما جاءت المعركة كانت إذاعاتهم ترفع النشيد الآتي تقول موجهة الخطاب لطائرات اليهود:
ميراج طيارك هرب خايف من نسر العرب
والميج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر
هذا كانت تتغنى به إذاعة دمشق في ذلك الوقت، إذن كانت تلك الهزيمة الساحقة التي أخذ فيها ما تبقى من فلسطين، وأخذت أضعاف أرض فلسطين مثل سيناء والجولان كانت بسبب تلك القيادات الفاجرة المنحرفة التي تسلطت على رقاب المسلمين، وكانت سبب من أهم أسباب الخذلان والهزيمة .
ثانيًا: الانحراف في ناحية المعاصي العملية، وبالإمكان أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- معاصي تؤثر أثناء المعركة: كمعصية أمر القائد في أثناء المعركة مثل ما حصل في يوم أحد لما ترك الرماة الجبل، وخالفوا أمر النبي، فحصل ما حصل مما تعرفونه.
2- معاصي تؤثر من قبل المعركة: وهذه سنطيل في الحديث عنها، فنتركها إلى الأخير.
3- وهناك معاصي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً:وهذه المعاصي تؤثر تأثيراً مباشراً في هزيمة الأمة أمام أعدائها، وقد بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] حديث صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.
والعينة نوع من أنواع الربا والربا قد انتشر الآن في بلدان المسلمين فحقت عليهم الذلة، [وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] يعني: الإخلاد إلى الدنيا والالتفات إليها.
[وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] من أسباب ضرب الذلة، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا]، ليس الذل على اليهود فقط، بل الذل يضرب أيضاً على هذه الأمة إذا عصت أمر ربها، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ] لا يرفعه إلى متى؟ ليس إلى أن يصبح عندكم مليون جندي، ولا أن يصبح عندكم ألف طائرة، ولا أن يصبح عندكم خمسة آلاف دبابة، لا.. وإنما [حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فإذا رجعتم إلى دينكم يرفع الله عنكم الذلة، بهذا الشرط الوحيد، وهو أن ترجعوا إلى دينكم كله من أوله إلى آخره، لا تقولوا: هذه قشور وهذا لباب، ولا تقولوا: هذه سنن وهذه وهذه ، ولا تقولوا: هذه تفرق المسلمين إذا بحثت أمور العقائد بين السنة والروافض، أو بين السنة والأشعرية وغيرهم . بل تأخذ هذا الدين كاملاً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، تأخذ به كاملاً نقياً صافياً.. فعند ذلك يمنح لك النصر، ويمنح لك الظفر على العدو .
ننتقل إلى المسألة الثانية:وهي المعاصي التي توعد عليها بأنها سبب من أسباب الهزيمة فمن ذلك مايلي:(1/1051)
أ ] الظلم: الظلم ليس سببًا من أسباب الهزيمة فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط الدول، وتغير الأحوال، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة استقرائية ماتعة يقول:' إن الدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرة، وتسقط مع الظلم وإن كانت مسلمة'. [انظر:السياسة الشرعية] .
ب] ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سبب من أسباب الهلاك ونزول العذاب، يقول الله:{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[116]وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117]}[سورة هود] . إذا كان أهلها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يهلكهم الله، أما إذا تركوا ذلك، وانتشرت الرذائل، وأصبحت علانية، فليسوا مهددين بالهزيمة بل بأعظم من ذلك، وهو أن يهلكهم الله، ويحل بهم العذاب، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد.
كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب الاختلاف، وسبب من أسباب التفرق، وهذا من أهم أسباب الهزيمة.
ج] نقض عهد الله وعهد رسوله: فقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ... فذكرها، ومنها: [ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ] حديث صحيح رواه ابن ماجة وغيره . ومن المعلوم أن العدو لن يستطيع أن يأخذ بعض ما في أيدي المسلمين من الأموال، أو من الأراضي، أو من غيرها إلا بعد أن يهزم المسلمون، ويستذلوا.
د] الغلول: والغلول المراد به أخذ مال المسلمين بغير حق : جاء في الموطأ عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:' مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ...' . ومن المعلوم أنه إذا ألقى الله الرعب في قلوب قوم فإنهم لن يواجهوا العدو وسيهزمون ويولون الأدبار هذا أمر لا شك فيه ..
هـ ] من المعاصي التي توعد الله عليها بأن أصحابها يهزمون ولا ينصرون، البطر والفخر والغرور والعجب: قال سبحانه:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[47]}[سورة الأنفال]. فهذا الرياء والبطر والكبر في الأرض، ثم الصد عن سبيل الله أي: الصد عن دينه حتى ولو عن جزئية من جزئيات الدين، الصد عنها منذر(1/1052)
بوقوع الهزيمة كما دلت عليه هذه الآيات . وكذلك العجب قال الله:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]}[سورة التوبة] . فلما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وقالوا: لن نغلب هذا اليوم من قلة؛ ما أغنت عنهم كثرتهم شيئاً، وبعض الروايات تقول: إن هوازن لم يتجاوزوا الثلاثة آلاف رجل . والصحابة كانوا عدة أضعاف لهوازن، ومع ذلك ولوا مدبرين لما أعجبوا بأنفسهم، ونسوا الاعتماد على ربهم عز وجل.
وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي: أنك عندما تقرأ في القرآن في أعقاب ذكر غزوات النبي؛ لا تجد أبداً أن الله يمدح المؤمنين، ويشيد ببطولاتهم، إنما يبين لهم أن هذا النصر الذي تحقق إنما هو فضل منه:{ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]}[سورة آل عمران]. { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[10]}[سورة الأنفال].
بل إنك تجد أن الله ينبه المؤمنين إلى أخطاء وقعت منهم، وهم منتصرون، فيقول لهم يوم بدر:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...[67]}[سورة الأنفال] .{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} ثم قال لهم بعد:{... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال] . كأن هذا إشارة إلى أن اختلافكم في قسمة الغنائم والأنفال ليس بجيد، فاحذروا أن تخالفوا أمر الله وأمر رسوله.
فإذن: ما قال لهم لقد أحسنتم وفعلتم وفعلتم.. ما أشاد بهذه البطولات التي فعلها الصحابة يوم بدر، بل نبههم على أخطاء، وذكرهم بأن لا يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يعجبوا بأنفسهم، إنما النصر من عند الرب وحده لا شريك له. كذلك في أحد عندما تقرأ قصة أحد تجد أن الله نبههم على مكمن الخطأ وسبب ما حاق بهم وما حصل لهم . فالله سبحانه ينبهنا على أن المسلم دائماً يجب أن يكون خاشعاً لله، معتمداً عليه، مستنصراً به، مخلصاً له، يعلم أن النصر من عنده ليس بعدد ولا بعدة .
السبب الثاني من أسباب الهزيمة:
ب ] الفرقة والاختلاف: تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم سبب من أسباب الهزيمة الماحقة، يقول الله:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وهذا الأمر بالإضافة إلى الأمر السابق وهو المعصية كان من أعظم أسباب سقوط الأندلس.
ج ] من أسباب الهزيمة في تاريخنا الإسلامي: موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم: لقد حذرنا الله من ذلك تحذيراً شديداً، وأبدأ وأعاد حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه الله:'لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي عن موالاة الكافرين' . وفيآية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أي: لا يقصرون فيما يفسدكم. { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا(1/1053)
ما يشق عليكم.{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما استطاعوا إخفاءها. { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة آل عمران] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار وكاتبهم من أجل أن تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور .
قد يندس شياطين الإنس من المنافقين في صفوف المؤمنين، ولا يميزهم المؤمنون، فمن رحمة الله بالمؤمنين أن تتوالى الابتلاءات على المؤمنين، فتكشف حقيقة المنافقين، وتميز الصف المؤمن وتطهره من هؤلاء المندسين حتى يتميز الصف، ويصبح مؤمناً خالصاً، وما هذه الابتلاءات التي حصلت لإخواننا المجاهدين في أفغانستان سابقاً ولا حقاً إلا فيما نحسب من هذا الباب، ليميز الله الصفوف فتتساقط الأوراق المندسة التي لا يستطيع المؤمن أن يكشفها لتظاهرها بالإيمان.
د ] ومن أهم أسباب الهزيمة: ترك إعداد العدة والإخلاد إلى الدنيا وملذاتها والإغراق في اللهو وطلب الراحة مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يدخل المعركة، ولا أن يواجه العدو .
هذه بعض أسباب الهزيمة التي مرت في التاريخ الإسلامي، وهي ليست كلها، ولو تتبعت واستقرأها شخص من بطون كتب التاريخ لوجدها أضعاف ما ذكرنا أضعافاً كثيرة، ولكن حسبنا أن نذكر الأهم والأقل يدل على الأكثر .وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم .
من محاضرة:' أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي' للشيخ/ بشر البشر
http://islammemo.cc/
ــــــــــ ــــــــــ
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
حديثنا اليوم عن معادلة إيمانية نصها : "الصبر واليقين طريق النصر والتمكين " .
تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية ، وشهدت بها الحوادث التاريخية ، وصدقتها الوقائع الحاضرة ، وتثبت كذلك في الوقائع المستقبلية .. ذلك أنها من سنن الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلا .
إن الإيمان إذا رسخ في القلب ، وإن اليقين إذا تعمّق في النفس تولّد منه الصبر على ما يقّدره الله - عز وجل - من البلاء ، وينبثق عن ذلك الثبات على نهج الرسل والأنبياء ، ويؤسس كل ذلك على يقين(1/1054)
راسخ برب الارض والسماء ، ثم لا يلبث الليل الطويل - من الظلم والعسف والطغيان - أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الأيمان ، ولاتلبث القوى الأرضية - التي تتآمر على أهل الأيمان - أن تذهب ريحها ، وتتفرق صفوفها ، وأن يصبح بأسها بينها شديداً ، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها البلاد والعباد وتدرأ شرورها عن هذه الحياة.
وإذا تأملنا في كتاب ربنا ، وفي سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم ، ثم نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشه ؛ فإننا نرى أن تشبث أهل الأيمان بإيمانهم وصبرهم على ما يلاقون في طريق الأيمان والدعوة والجهاد في سبيل الله وثباتهم دون تغييرولاتبديل هو الذي يؤذن - بإذنه سبحانه وتعالى - أن ينزل نصر الله - جل وعلا - وأن يعجّل به ، وأن يعجّل بهزيمة أعداء الله سبحانه وتعالى.
والصبر واليقين هما عمادا الإمامة في الدين ، والله - جل وعلا - يقول : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } .
والله سبحانه وتعالى خاطب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: { فاصبر إن وعد الله حق } .
الصبر لا يدوم ، والثبات لا يستمر إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله ، والثقة عظيمة في نصر الله ، واليقين لا يعتريه الشك في وعد الله عز وجل ،وذلك يثبت المؤمن بإذن الله عز وجل ، كما قال سبحانه وتعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
وانظر إلى الأمر الرباني الذي يوصي أهل الأيمان بأن لايحيدو عن نهجه قيد شعره ، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا .. { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطو واتقو الله لعلكم تفلحون } .
إنه الصبر والمصابرة والمرابطة والاستمرار والثبات الموصول بيقين راسخ في الله عز وجل : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } .
ويأتي هذا الفلاح في صورة طمأنينة في القلوب ، وسكينة في النفوس ، وثبات في الأقدام ، ووضوح في الحجة والبرهان في هذه الحياة الدنيا.
ثم كذلك يتجلى في صور من النصر ، وفي صور من الظفر لم تكن تخطر على بال ولا ترتبط ولا تتلائم مع القوى الضعيفة والعدة القليلة لأهل الأيمان في مواجهة أهل الكفر والطغيان والعاقبة من بعد ذلك عند الله عز وجل : { جنات عرضها السماوات والأرض } .
وإذا أردنا إن نستقرئ الأحداث والشواهد من كتاب ربنا ؛ فإننا نرى ذلك التصوير القرآني الفريد البديع ، الذي يبيّن كيف ينبغي أن يرتبط المؤمن بإيمانه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة ، مهما أدلهمت الظروف ، ومهما تكالب الأعداء ، ومهما حصل من أسباب هذه الحياة الدنيا يعيق عن المضي في طريق الله ؛ فإنه لاينبغي للمؤمن أن يتراجع ولا أن يتخاذل مطلقاً.(1/1055)
انظر إلى الوصف الرباني لأهل الأيمان الصابرين { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون } لم يلتفتوا إلى شرق ولا إلى غرب إذا حلت بهم النكبات ، لم ينظروا إلى قوى الأرض ولكن التجأوا قوة رب الأرباب ، وملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى .
{ الذين إذا أصابتهم مصيبة }لم يشكوا ، لم يرتابوا ، لم يغيروا ، لم يبدلوا ، لم ينافقوا ، لم يداهنوا ، لم يجاملوا في دين الله عز وجل ، وإنما ظلت حبالهم موصولة بربهم ، ويقينهم راسخ في دينهم ، وثباتهم على كتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، يقتفون في ذلك آثار الرسل والانبياء { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } .
إنها المعادله الإيمانية الآيات القرآنية ، والسنة الربانية التي لا تتخلف ولاتتغير أبداً { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
وانظر إلى قصة يوسف - عليه السلام - لترى هذه المعادلة الايمانية واضحا ًفي قصة فردية ، فإذا بيوسف - عليه السلام - من غيابة الجب وظلمته ، إلى رحابة الأرض وسعتها ، ثم إذا به من ذل الأسر إلى عزّ القصر ، ثم بعد ذلك من ظلمة السجن إلى سدة الحكم .. ثبات وصبر وارتباط بالله ، بإذنه - عزوجل - يفرج كل كرب ، وينفس كل هم ، ويزيل كل ضائقة
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لاتفرج
وانظر إلى المثل الآخر في قصة جماعية ، قصّها الله - جل وعلا - علينا من قصص الأمم الغابرة ، وهي من أكثر القصص القرآنية تكرراً في كتاب الله عز وجل .. قصة فرعون ، وهي متشعبة متعددة الجوانب متكاثرة في أسلوب عرضها في كتاب الله سبحانه وتعالى ، ومن ذلك العرض الذي جاء إيجازه في بعض صور القران قوله جل وعلا : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } .
هذه إرادة الله ولا راد لقضاءه وإرادته سبحانه وتعالى { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .
والله - سبحانه وتعالى - قد ذكر لنا من سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة ، غير أن منها مثلاً فريداً ظاهراً في هذا الأمر ، في صبر أهل الإيمان ويقينهم بالله ، وما يترتب على ذلك من النصر والتمكين لهم بإذن الله ، وتتجلي هذه الصورة في أهل النفاق .. في ضعف يقينهم ، وزوال(1/1056)
أيمانهم ، وفي حرصهم على دنياهم ، وفي تخذيلهم للصفوف ، وتفتيتهم لعرى الروابط في صفوف أهل الأيمان .. ذلكم هو الوصف القرآني لما كان من شأن الأحزاب الذين تألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم ، وليس أبلغ من وصف القرآن { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً } .
اجتمع عليهم شدة الخوف ، مع شدة الجوع ، مع شدة البرد ، ولم يكن هناك بارقة أمل ، ولم يكن هناك في نظر أهل الارض وأهل النظرات المادية مهرباً ولا منفذاً ! إنما كان الفناء الماحق والهلاك المتحقق ، وزلزلوا زلزالاً شديداً .
ثم يأتي وصف القرآن لأهل النفاق بعد إن مرت بهم هذه الظروف ، فيقول جل وعلا : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً }
كان أحدهم يقول : " إن محمد صلى الله عليه وسلم يعدكم بكنوز كسرى وقيصر ، وإن أحدكم لايستطيع إن يمضي خطوات ليقضي حاجته ! " .
{ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا .. }.
أما لكم بهذه القوى المجتمعة والمؤامرات العظيمة والأسلحة الفتاكة والخطط المحكمة !
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً }
جبناً وخوفاً وهلعاً .. كفراً ونفاقاً ، ولذلك جاء هذا الوصف القرآني يعري صورتهم ، ويكشف حقيقتهم ، ويضرب المثل بأشياعهم ونظرائهم في كل مجتمع إسلامي وفي كل زمان ومكان .. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً } .
ذلك وصف أهل النفاق ، فانظر إلى وصف أهل الصبر والإيمان واليقين ، الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ظل هذه المحنة العصيبة ، وفي ظل محاصرة هذه القوى الرهيبة .. { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
هذه مواقف المؤمنين .. هذه مواقف الصابرين .. هذه مواقف أهل اليقين ، وهذه كلمات أهل الثبات ، الذين لا يشكون لحظة في وعد الله ، ولا يعتريهم التزعزع أوالتردد في دين الله عز وجل ، يظل الواحد منهم ثابتاً واقفاً راسخاً لا يتزعزع .. فعلى أي شئ انتهي الأمر ؟ وبأي شئ انجلى الموقف ؟(1/1057)
إنها الآيات القرآنية تذكر لنا في صورة رائعة مشرقة كيف كان نزول النصر ، وكيف كان بداية التمكين ، لم تردهم السيوف ولا القوى ولا الخطط ، وإنما هي قوة الله عز وجل ، وإنما هو نصر الله الذي تنزل { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
هذا كتاب ربكم ، وهذه سنة نبيكم ، فهل أنتم في شك من دينكم ؟
لابد أن نقوى اليقين بدين الله عز وجل وبوعد الله ؛ إذ حيث تكالب الأعداء في هذا العصر فتّ ذلك في عضد بعض المؤمنين ، وأضعف إيمانهم ، والتمسوا الدنية في دينهم ، وأعطوا التبعية لأعدائهم ، ومنحوا بعض الذل والولاء والمداهنة لأعداء الله عز وجل .
وماذا بعد هذا ؟ إنه مصير أهل النفاق يتكرر ، أما إذا رجعت الأمة إلى ربها ، وتذكرت ذلك الوصف القرآني { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }
إذا مدّت الحبال مرة أخرى إلى الله .. إذا رفعت الأكفُّ مرة أخرى إلى الله .. إذا سجدت الجباه مرة أخرى ذله لله .. إذا ترابطت الصفوف وتوحدت الأمة على منهج الله ؛ فإن نصر الله متنزل ، وإن طريق التمكين ممهد .
لقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً ، وجاهد بعد ذلك عشر سنين ، وثبت - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء بعد ذلك إلى مكة التي خرج منها مهاجراً عاد إليها فاتحاً وجاء بعصاه وهو يطيح بهذه الأصنام من حول الكعبة ، ويقرأ قول الله عز وجل : { وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } .
ولقد اعترى بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم نوع مما يعتري النفوس البشرية ، وجاءه خباب بن الأرت - وكان من المعذبين المضطهدين الصابرين في مكة - وقال له : يا رسول الله ألا تدعو لنا ؟ ألا تستنصر لنا ؟
فذكّره النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون )
ولذلك أريد أبيّن أن بعض مشاهد الواقع عندما يأذن الله عز وجل بأن تعود فئة من الأمة إلى ربها ، وأن يسوق لها من الاحداث والمحن من يذكرها بحقيقة ضعفها وتقصيرها في إلتزامها دين الله - سبحانه وتعالى - أن ذلك يجسّد مره أخرى هذه المعادله الإيمانية والسنة الربانية .(1/1058)
وانظروا إلى أحداث الأمة وإلى أشدّ قضاياها قساوة ومعاناة .. انظروا إلى كل الجرائم والفضائع التي تصبّ على المسلمين .. انظروا إلى بشاعة وفضاعة وقسوة أعداء دين الله عز وجل ، ثم انظروا إلى ما انبثق في القلوب من صبره وما سكب ا لله عزوجل فيها من يقين ، وما ثبت به الأقدام فلم تتزعزع والقلوب فلم تشك ولم ترتاب .
ثم انظروا إلى بعض الصور في هذه الوقائع : انظروا إلى إخواننا في البوسنة والهرسك .. انظروا إلى إخواننا في كشمير ، إلى إخواننا في طاجكستان وفلسطين .. انظروا إلى شرق الأرض وغربها حيث يضطهد المسلمون ، حيث يعذبون ، حيث يحاربون .
انظروا .. فماذا ترى ؟ قد يرى الرائي إذا نظر بغير منظار إيمان صورة سوداء أو شوهاء ، ويدقّ في قلبه بأس عجيب ، ويظن أن الأمر قد قضي ، وأن الأمة لابد أن تتراجع وأن تتخاذل ، وأن تعطي لأعدائها ما يشاؤون !
إلا أن الناظر بنظر الأيمان يرى مثل هذه الصور تتجلى من جديد .. إخواننا في البوسنة والهرسك الذين ظن الأعداء - الذين تكالبوا عليهم بصورة تشبه بل قد تكون أشد مما تكالب الأعداء يوم الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم - وجاءهم صرب وكروات ، ومن ورائهم قوي عظمى ، ومن ورائهم دول ، ومن ورائهم حيل وسياسات ومؤامرات .. ومع ذلك مازال صمودهم وثباتهم بحمد الله عز وجل راسخاً ! بل قد رجع كثير منهم إلى الله عز وجل ، وأصبح لسان حالهم يردد : { إنا لله وإنا إليه راجعون } ، واصبح حالهم كأنه يمضى إلى تحقيق الوصف الرباني { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً }.
ولسان حالهم يذكرنا بما قص الله علينا من شأن محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }.
هل ترونهم ينظرون إلى مدد من شرق أو غرب وهل تروهم يعتمدون على قوة مادية أو عسكرية.
ومع ذلك انظروا على ما فتح الله عليهم ومن النصر والإيمان ، وقبل ذلك إلى ما سكب في قلوبهم من اليقين والطمأنينة ، ومن رجوعهم إلى ربهم وصلتهم بمولاهم ، وخضوعهم له سبحانه وتعالى .. وإذا بهم يرجعون إلى القرآن ، وإلى حلق الذكر ، وإذا بنسائهم يمضين في طريق فيه التذكر ولبس الحجاب .. وغير ذلك من الأمور.
ثم انظروا إلى ما فتح الله عليهم ، فإذا بهم اليوم في الآونة الأخيرة ينتصرون ، ويعجب المرء كيف ينتصر الضعفاء العزل المحاصرون الذين ليس في ديارهم ماء ولا كهرباء ولا كساء ولا غذاء ، كيف يكون مثل هذا ؟ كيف ينتصرون ويفتحون فآريس وخمس مدن وقرى كرواتيه ، ويطردون عشرات الآلاف من أولئك الأراغل الأعداء ؟(1/1059)
كيف يثبتون هذا الثبات في سراييفو العاصمة التي كل لحظة يتهدد أصحابها وسكانها الموت ، إما برصاص وإما بقذاف وإما بجوع وإما بأية صورة من الصور.
يحصد الموت الناس حصداً ، ومع ذلك تجد الواحد منهم يقول : " ثابتون صامدون ، وبقضاء الله عز وجل راضون " .
وانظر إلى فضاعة أعداء الله عز وجل وإرهابهم وتطرفهم ، وكل الأوصاف الذميمة التي يريدون إلصاقها زوراً وبهتاناً بأهل الإسلام والإيمان هي فيهم.
وكان الناس يذكرون الصرب ، وأنهم ظلمة ، وأنهم قساة ، وأنهم طغاة ، فجدد الكروات ما أنسى سيرة الصرب ..
ونعلم قصة القرية التي أحرقوها عن بكرة أبيها ومن فيها من رجالها ونساها وأطفالها وبيوتها ، حتي أذهلوا الناس والعالم أجمع ، ومع ذلك ما فتّ ذلك في عضد أهل الأيمان ، وما رفعوا أيديهم استسلاماً ، وما قالو حسبنا هذا ! وإنما قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل }.
وانظروا إلى إخواننا في كشمير اليوم ، وهم قد حوصروا في أعظم مسجد من مساجدهم " مسجد حضرة أبال " يحاصره خمسة عشرة ألف جندي ، والطائرات المروحية والقوات ، ومنع التجول ، وبعد ذلك يحصدون ، وإذا بالحصاد في بضعة أسابيع يبلغ مئات ، ومع ذلك ما يزالون صامدين ، وما يزالون في أوج مواجهتهم وجهادهم ، يتمسكون بالله عز وجل وبكتابه ، وبهدى نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويثقون بالنصر ثقة ليس فيها شك .. حتى يقول قائد من قوادهم ، وهو من زعماءهم الكبار : " إن الجهاد في كشمير ماضٍ في طريقة حتى نهايته المنطقية ، وإن الشعب الكشميري قد وصل إلى منطقة اللا عودة " .
بل علماء الأيمان والإسلام في تلك الديار يحثون المؤمنين على الصبر والثبات والصمود ، وعلى أن لا يضعفوا وأن لا يجبنوا أمام أعداء الله عز وجل ، ويفتون بكفر من يكون عوناً للأعداء على المجاهدين والمسلمين في أرض كشمير المسلمة.
وانظروا إلى كل مكان ، وانظروا إلى إخواننا في أرض الإسراء وما قد أثلجوا به صدورنا مما يظهرون من مظاهر القوة والاستعلاء { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
صبر وثبات لا يتغير ولا يتبدل ، مع استقامة على أمر الله وشرع الله والصياح والهتاف : " الله اكبر .. الله أكبر ".
والأيدي المرتفعة متوضئة ، وهي ترفع في أيديها المصافح تغيرت بعض ملامح الأمة ، فاصطلحت في بعض أحوالها وأشخاصها وديارها مع الله عز وجل ، فجاءها بعض هذا النصر ، وارتسمت لها بعض مسالك التمكين ..(1/1060)
فالله الله في تجديد ما ذكر الله سبحانه وتعالى من هذه السنن ، وأن تكون أوثق بالله عز وجل ، أوثق بنصرة ووعده من كل شئ في هذه الأرض ومن كل قوة في هذه الدنيا ، والله لتعلمن نبأه بعد حين ، والله منجز وعده ، ومنزل نصره .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
إذا تأمل العبد وجد الحكمة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، تبين لنا الطريق وتعرفنا به ، فلسنا في جهل وعماية ، بل الأمر واضح بيّن .
فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول:( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات )
فليس الطريق مفروش بالورد ، وليس على جانبيه أسباب الأمن والسلامة والسلام ، وإنما هو الطريق الذي فيه ذلك البذل والصفق مع الله عز وجل : { اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ }
إنها السنة التي ذكرها الله عز وجل بقوله : { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } .. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }
نعم أيها الاخوة نحن في وقت عصيب ، وفي محنة شديدة ، وإخواننا في مشارق الارض ومغاربها يعانوا الأمرين من أعداء هذا الدين ، الذين تظهر فيهم الآن صورة حقيقية واضحة لا غبش فيها ، ولاشك فيها مطلقاً .. صورة تتجلى فيها صفات الكفر والكافرين ؛ لما فيهم من عداء ومن قسوة ومن حقد حسد ، ومن انعدام الإنسانية وانسلاخ الفطرة وانعدام كل معنى من المعاني الشريفة والقيم الفاضلة .. كل ذلك يتجسد واضحاً كما اخبرنا الله عز وجل به في قوله جل وعلا : { لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة }
والسؤال الذي يتبادر ألي أذهاننا ، ونختم به هذه الوقفة هو ما دورنا ؟ وماهي مهمتنا ؟ هل نحن متفرجون أم نحن مشجعون ؟
إن التشجيع لو اردنا أن نأخذه بمبدأ التشجيع الذي نعرفه في ميادين التشجيع المشهورة المعروفة هو في حقيقته موقف إيجابي ، إن المشجعين نراهم بأم أعيننا لا يجلسون على مقاعدهم ، بل كلما جرت حركة في الميدان تحركوا وقاموا ، وإذا بهم أيضاً يهتفون ، وإذا استدعي الأمر يغضبون ، وإذا استدعي الأمر بعد ذلك ربما يتحركون وينصرون أو يشتبكون.
أن هذا لم يكن منهم الأ من تحريك قلوبهم وتحرقها وحماستها ومحبتها وغيرتها .. أفيكون ذلك في أمور من اللهو أو في أمور عارضة من أسباب هذه الحياة ومن زينتها ومن زخرفها ، ولا يكون ذلك(1/1061)
في أمر من أعظم أسس الحياة ، ومن أعظم مهمات الإنسان المسلم في هذه الحياة في أمر دينه وأمته وإخوانه المسلمين !
إنه لابد إن تنبض هذه القلوب بالمحبة ، وأن تمتلئ بالولاء والنصرة ، وأن تعظم فيها الغيرة على دين الله والحرقة والأسى والحزن على أحول الأمة ، ولا يكون ذلك ونحن ساهون لاهون ، ونحن نملاء البطون ونضحك ملء أشداقنا ، ونأكل ملء بطوننا ، وننام ملء عيوننا .. فما ذلك حال المشجعين الذين نعرفهم ؟
إن أولئك يسعون إلى الميادين لينظروا ، فاسعوا إلى أن تعلموا أخبار إخوانكم ، وأن تعرفوا أحوالهم ، وأن تكونوا بعد ذلك ورائهم قلباً وقالباً ، بدعاء في السحر وفي جوف الليل وفي أدبار الصلوات وفي سجودها ، حتى يأذن الله عز وجل بأن ينصر وأن يُمكّن .
وكونوا أيضا مع إخوانكم بأموالكم وبدعمكم وبذلكم في سبيل الله عز وجل ؛ فإن الجهاد بالمال من أعون أسباب النصر لهذه الأمة ولإخواننا المجاهدين والمضطهدين في كل مكان.
وليكن لنا من وراء ذلك أيضاً ما نتحرك به لنصرة هذا الدين ، ببيان الدروس والعبر ، وبيان المواقف المشرقة ، وبيان المواقف البطولية الاستشهادية ، التي يظهر فيها عيوب كفة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في مواقع شتى في أماكن عديدة .. إذا بنا نرى صوراً تنشرح لها صدور المؤمنين ، ويفرح لها أهل الأيمان عندما نرى آلاف أم من أعداء الله وهم يخشون واحداً أو اثنين إذا كبر أحدهم ، أو إذا صاح بآية من آيات القرآن الكريم ، وإذا بالصفوف تنفلّ ، وإذا بالجموع تتفرق ، وإذا بواحد أو فئة قليلة تنصر بإذن الله عز وجل كما وعد الله عز وجل في كتابة الكريم.
لابد أن ننقل هذه الأخبار المفرحة حتى يزول بعض اليأس الذي عرى النفوس وغزى القلوب ؛ فإن المؤمن لا ييأس من روح الله ، ولا ييأس من روح الله لا القوم الكافرون والقانطون ، وليس المؤمن بكافر ولا قانط ، إنه واثق بنصر الله وثقته بالله عز وجل عظيمة.
ينبغي أن نلقن الأمة وأن نشيع في صفوفها هذه الدروس ، وينبغي أن نرتقي بمستوانا ومستوى من حولنا ومستوى من حولنا عن سفاسف الأمور وصغائرها ؛ فإنه لا يليق أن تكون الأمة محاصرة ، وأن يكون أعداء الله قد جدوا لحربها وفي إنزال البلاء بها ، ثم يكون انشغالنا بالدون من الأمور ، وبالتافهة من القضايا ، دون أن تكون مهمتنا هي أن ننصر ديننا ، وأن نحمي أمتنا ، وأن نرعى نشأنا ، وأن ننشئ جيلنا نشأة تجدد لنا ذكر أبى بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة وأئمة الأمة من سلفها رضوان الله عليهم.
إن بإمكاننا أن نظهر في نفوسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا نصر الله عز وجل فيتنزل علينا باذنه سبحانه وتعالى النصر { إن تنصروا الله ينصركم }(1/1062)
ونصركم دين الله عز وجل يكون أول شئ باستقامتكم على أمره .. بالتزامكم حكمه .. باتباعكم هدى النبي صلى الله عليه وسلم.
والثبات الثبات .. لاشك ولا ريب ، ولا مداهنة ولا نفاق ، ولا تراجع ولا ضعف ، وانما هو المضي وذلك هو الذي كان ويكون في كل وقت وآن ، كلما ازدادت المحنة وكان الأيمان عظيماً كلما ازداد أثر هذا الإيمان وتجلت صورة وظهرت آثاره وأشرقت أنواره ، فإذا بها تبدد بعد ذلك كلما يعتري النفوس من ضعف أو خور أو ذلة أو قنوط ويأس ..
وذلك ما ينبغي أن يكون فيما بيننا ، وأن نشيعه في صفوفنا ؛ فإن هذه الأمة لم ولن تهزم قط مادامت متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وفي أتون المحنة وشدتها في وقعة الأحزاب كبّر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع خبر خيانة اليهود ، وكان خبراً كالطعنة النجلاء من الخوف قال : ( الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا ) .
البشارة بأنه علم أن الأمة مؤمنة بربها ، وواثقة بالرسول ؛ ولأنها أمة ملتحمة متلاصة متوحدة فلا خوف عليها من أعداءها ، وانما الخوف من أنفسنا .. من ضعف إيماننا .. من كثرة معاصينا .. من تفرق صفوفنا .. من مجاهرتنا بالمعصية لله عز وجل .. من إعطائنا ولاءنا لغير الله سبحانه وتعالى ، ولغير عباد الله المؤمنين ..
هنا يكمن الخطر ، وهنا تأتي الثغرات .. فالله الله في دينكم ، والله الله في نصرة إخوانكم ، والله الله أن يؤتي هذا الدين من قبلكم ، فليكن كل منكم على ثغرة ، وليكن كل منكم قائم بأمر الله عز وجل في نفسه أهله ومجتمعه ؛ حتى يعجّل الله عز وجل بالنصر والتمكين إنه الولي على ذلك والقادر عليه .
ــــــــــ
النصر مع الصبر والفرج مع الشدة
في ظل الواقع العربي والإسلامي الرسمي والشعبي تأتي هذه الخطبة للتأكيد على أن الفرج قريب وإن بدا لبعض الساسة العرب غير ذلك.
فإلى كل من كل له قلب وبصيرة نهدي هذه الكلمات المستمدة من عقيدتنا وإيماننا بحتمية النصر وقرب الفرج.
قال الله تعالى: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام . ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) [سورة الزمر: 36-38] .(1/1063)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " يا غلام أو يابني ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى. قال:
احفظ الله يحفظك،
احفظ الله تجده أمامك،
تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة،
إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله،
فقد جف القلم بما هو كائن،
فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه،
واعمل لله بالشكر واليقين،
واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا،
وأن النصر مع الصبر،
وأن الفرج مع الكرب،
وأن مع العسر يسرا " .
وزاد ابن أبي حاتم في روايته: " قل حسبي الله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال: إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم" .
فتأمل في الآية والحديث تجد المفاهيم التالية :
حفظ الله للمسلمين مرهون بحفظ المسلمين لله (أي بتطبيق منهج الله تعالى في جميع أمورهم).
إذا أراد المسلمون معونة الله تعالى في الشدائد فلابد من التزامهم بمنهج الإسلام وأحكامه في أوقات الرخاء.
الاستعانة الحقيقية المؤثرة هي ما كانت بالله تعالى والاتكال لا يكون إلا على الله القوي العزيز.
لن تغير هذه القاعدة الربانية أي قوة في الدنيا مهما عظمت، فلا يملك كل الطغاة والمستكبرين مجتمعين إيذاء شخص إلا وفق قدر الله تعالى وقضائه.
العمل المتواصل الدؤوب بما يرضي الله تعالى (من رص الصفوف وإعداد العدة والجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى ... الخ) هو صمام الأمان للعالم الإسلامي لضمان التأييد الرباني.
لابد من الصبر لمواجهة الشدائد، فلا يجوز الارتماء في أحضان العدو بحجة رفع الشدائد.(1/1064)
تلازم النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، ومن أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اشتدي أزمة تنفرجي، يعني: يا أزمة ابلغي النهاية في الشدة حتى تنفرج، فإن الشدة إذا تناهت انفرجت بشهادة الاستقراء، فليس المراد حقيقة أمر الشدة بالاشتدا بل طلب الفرج، إن مع العسر يسرا .. وفيه نوع تسلية وتأنيس بأن الشدة المتناهية نوع من النعمة لما يترتب عليها، ومن كلام العلام: الشدة إذا تناهت انفرجت. وأنشد بعضهم :
إذا الحادثات بلغن النهى وكادت تذوب لهن المهج
وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج
يا معشر اليائسين المحبطين احذروا :
قال الله تعالى : (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) قال الإمام الطبري: " يعتي القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه " .
وقال تعالى: (وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا) .
في الأنبياء أسوة حسنة :
قال الله تعالى: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين . لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) .
فالله عز وجل يسوق لنا قصص الأنبياء وصبرهم على الأذى والباساء والضراء، وحتمية تنزل النصر عليهم وعلى أتباعهم، وأن النصر يتنزل مع شدة الكرب.
وأنشد أحدهم :
أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له:
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيئسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن
حتمية البلاء والامتحان قبل تنزل النصر والتمكين :
قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [سورة البقرة: 214].
فتأمل ماذا يدخل في البأساء والضراء والخوف الشديد المزلزل. و كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا: يا رسول الله ألا تستنصر لنا الا تدعو الله لنا؟ فقال: " إن من كان قبلكم(1/1065)
كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد مابين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون " .
وقال الله تعالى: (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب كما قال الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنوناهنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) .
ثم حذرنا الحق تبارك وتعالى من التشبه بالمنافقين الذين قالوا (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) .
ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال سجالا يدال عينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. رواه الشيخان .
وقوله تعالى: (مثل الذين خلوا من قبلكم) أي سنتهم كما قال تعالى: (فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين) وقوله: (وزلزلوا حتى يقول الرسل والذين آمنوا معه متى نصر الله) أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج ثم ضيق الحال والشدة، قال الله تعالى: (ألا إن نصر الله قريب) كما قال: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال: (ألا إن نصر الله قريب).
وفي حديث أبي رزين: "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب".
انتظار الفرج عبادة :
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج " . التدوين في أخبار قزوين ج: 2 ص: 117.
الخطبة الثانية :
التذكير بحديث الغار المشهور، وبيان أن الأعمال الصالحة سبب في تفريج الهموم والكروب:
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خرج ثلاثة يمشون فأصابهم المطر فدخلوا في غار في جبل فانحطت عليهم صخرة قال فقال بعضهم لبعض ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه فقال أحدهم اللهم إني كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت أخرج فأرعى ثم أجيء فأحلب فأجيء بالحلاب فآتي به أبوي فيشربان ثم أسقي الصبية وأهلي وامرأتي فاحتبست ليلة فجئت فإذا هما نائمان قال فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون ثم رجلي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما حتى طلع(1/1066)
الفجر اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرجة نرى منها السماء قال ففرج عنهم وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء فقالت لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار فسعيت فيها حتى جمعتها فلما قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركتها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فرجة قال ففرج عنهم الثلثين وقال الآخر اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته وأبى ذاك أن يأخذ فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها ثم جاء فقال يا عبد الله أعطني حقي فقلت انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك فقال أتستهزئ بي قال فقلت ما أستهزئ بك ولكنها لك اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فكشف عنهم" . متفق عليه
الأمر بالتهليل والتسبيح لله جل وعلا مع التحميد لمن أصابته شدة أو كرب :
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات وأمرني إن أصابني كرب أو شدة أقولهن: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين . صحيح ابن حبان
توصيات :
- الدعاء بهذه الكلمات (لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) بعد صلوات الجمع حتى يحفظها الناس (فكل المؤمنين اليوم في شدة وكرب).
- دعوة المسلمين الذين يريدون أداء الحج للمرة الثانية بالتبرع بتكاليف الحج لدعم صمود المجاهدين في فلسطين المحتلة، فهذا أولى بكثير وأفضل عند الله تعالى من التنفل بعبادة الحج العظيمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. إبراهيم أحمد مهنا
ــــــــــ
بلاد الشام ... بين قدسية الأرض وأسباب النصر
تأملات :الوطن العربي :الاثنين 27 رجب 1427هـ - 21 أغسطس 2006م
عيسى القدومي
مفكرة الإسلام: بلاد الشام بلاد مباركة، ثبت ذلك في آيات من القرآن المجيد وأحاديث صحيحة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والآثار الموقوفة على الصحابة وكبار التابعين ومن دونهم. فهي مهد الرسالات السماوية، ومحل لدعوات رسل الله تعالى.(1/1067)
وحين كان يتحدث المؤرخون والرواة القدامى عن الشام وأرضها كانوا يقصدون بذلك الرقعة التي تشغلها الآن سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، تلك كانت بلاد الشام على مدى تاريخ طويل، كما قال ابن الفقيه الهمداني: 'أجناد الشام أربعة: حمص ودمشق وفلسطين والأردن'. وفتوح الشام ابتدأها خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم 'أبو بكر' الصديق رضي الله عنه واستكملت في زمن عمر رضي الله عنه.
ولم يتم تقسيمها سياسياً إلى دول أربع إلا بفعل الاستعمار في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتطبيق اتفاقية 'سايكس بيكو' على بلاد الشام، وفرض الانتداب الفرنسي على شمال الشام فقسمه إلى كيانين هما سوريا ولبنان، وفرض الانتداب البريطاني على جنوبه فقسمه إلى كيانين هم الأردن فلسطين، وأصبح لكل كيان جواز مرور وحدود ودستور وأعلام.
بركة بلاد الشام :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مقدمة كتابه 'مناقب الشام وأهله': ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحريضي للمسلمين على غزو التتار، ولزوم دمشق، والنهي عن الفرار إلى مصر ...'.
ومما جاء في كتاب الله تعالى قوله سبحانه: 'ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين'، قال الحسن: أن الأرض التي باركنا فيها: [الشام] وروي ذلك عن مجاهد، وابن زيد، وابن جريج.
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله - أي الشام ... ومن بركة الشام، وأن كثيراً من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها، مهاجراً لخليله وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة وهو بيت المقدس.
وقال تعالى في سورة الإسراء: 'سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله'.
قال ابن تيمية - رحمه الله - والبركة تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا وكلاهما معلوم لا ريب فيه.
وجاء في الصحيح من كتب السنة أحاديث كثيرة في فضل 'بلاد الشام' أذكر منها ما جاء عن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'عليكم بالشام'. وقوله صلى الله عليه وسلم: 'إن الله عز وجل قد تكفل لي بالشام وأهله'. وعنه صلى الله عليه وسلم: 'ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام'. وحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'الشام أرض المحشر والمنشر'. ووصى النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام: 'عليك بالشام فإنها خيرة الله في أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده' رواه أبو داود وأحمد، بسند صحيح.
أهلها المقاتلون في سبيل الله من الطائفة المنصورة نصّاً:(1/1068)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة' صحيح الجامع.
وفي رواية أخرى صحيحة: 'لا تزال طَائِفَة من أمَّتِي يقاتلونَ على الحَق ظَاهِرِينَ على من ناوأَهُمْ حَتَّى يقاتلَ آخِرهم المَسِيحَ الدجال'. ومن المعلوم أن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم يدرك المسيح الدجال بباب لد بفلسطين فيقتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى [4/449]: 'والنبي صلى الله عليه وسلم ميَّز أهل الشام بالقيام بأمر الله دائماً إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير أهل الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز التي هي أصل الإيمان نقص في آخر الزمان منها: العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق، وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت'.
بلاد الشام حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان:
عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: 'يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك' صحيح الجامع.
من أحق الناس بعمارة الأرض المباركة:
المسلمون الموحدون أحق الناس بعمارة الأرض المباركة، والشام ثغر من ثغور المسلمين وبلد جهاد إلى قيام الساعة لأن أعداء الله لن يكفوا عنها، فكان الترغيب للسكنى فيها، والرباط، والدعوة إلى التوحيد ومؤازرة من فيها من أهل الحق عنواناً مهماً في حياة المسلم.
ولأنها حلبة الصراع بين الحق والكفر، فهي مركز قيادة الناس إلى الخير الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: 'إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة'.
ولما عرَّف أئمة الحديث الكبار - رحمهم الله - الطائفة المنصورة قالوا: هم أهل العلم بالآثار ومن تبعهم اقتداء بالسلف الصالح رضوان الله عنهم عقيدة ومنهجاً، يقصدون بذلك من كان على علم في الحديث والأثر وعلى منهاج النبوة.
عسقلان ثغر مهم من ثغور الشام:
أخرج الطبراني في 'المعجم الكبير' وهو في 'الصحيحة /3270' عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم(1/1069)
يتكادمون عليه تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان'.
وعسقلان عرفت منذ أقدم العصور التاريخية وورد لفظها في معجم 'لسان العرب' بمعنى أعلى الرأس، إنها عروس الشام من جند فلسطين، جاء في 'موسوعة المدن الفلسطينية': 'وتعتبر عسقلان مدينة ساحلية ذات شأن اقتصادي على مدى تاريخها الطويل، ويعود ذلك إلى مينائها البحري وموقعها الاستراتيجي القريب من الحدود المصرية ـ الفلسطينية، ومواجهتها للقادمين من البحر تجاراً كانوا أم غزاة، وكانت عرضة للسيطرة عليها في التاريخ القديم، ولم يعرف جيش حاول فتح فلسطين لم يحاول السيطرة على عسقلان، ولم يحدث أن فتحت فلسطين من الجنوب إلا بعد فتح عسقلان، ولم تقل أهمية عسقلان في كل عهود الحكم الإسلامي'.
الحديث من أعلام ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ففيه: 'ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر' إشارة إلى الحال الذي سيصل بالمسلمين، وأنهم يتنازعون السلطة، بسبب التفرق والاختلاف، ومن ثم كان قوله: 'وإن أفضل رباطكم عسقلان' إشارة إلى أفضل الرباط على اعتبار أن هذا الرباط في بلاد الشام، وبلاد الشام مطمع الكفار، ومن تتبع تاريخ بلاد الشام منذ القدم يرى أهمية موقعها الاستراتيجي الذي كان هدف الغزاة الأول للنفاذ إلى فلسطين، فالسيطرة عليها كان يعني التحكم في الطرق المؤدية إلى معظم أنحاء فلسطين شمالاً وجنوباً وشرقاً، يضاف إلى ذلك التحكم منها في حركة المواصلات البحرية.
ولا شك أن سقوط ثغور المسلمين بيد الكفار أعداء الله دليل واضح على فساد اعتقاد المسلمين وبعدهم عن دين ربهم، ولن يعود المجد والعزة إلا إذا رجع المسلمون لدينهم واتقوا ربهم عز وجل.
العاقبة للمتقين طال الزمان أو قَصُر:
من سنن الله تعالى أن تكون العاقبة للمتقين طال الزمان أو قصر، فالنصر والتمكين لدين الله قادم لا محالة بنا أو بغيرنا قال تعالى: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون].
ولكن حين يتخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإن سنة أخرى هي التي ستحكم هؤلاء المتراجعين: [وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم].
ولا شك أن قتال اليهود حادث ولا ريب، وسيقضي المسلمون المجاهدون على الدجال ومن معه من اليهود جميعاً، وتستريح البشرية جمعاء من شرور اليهود وأطماعهم وإفسادهم، ولكن على يد مَنْ مِنَ المجاهدين سيقتل اليهود ومعهم الدجال؟ والإجابة في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:'لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم(1/1070)
المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود'.
فحربنا من اليهود مستمرة والتي بدأت منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف تستمر حتى خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، والقضاء على آخر يهودي وستبقى بقية أهل الإيمان على الأرض المقدسة وبلاد الشام تنافح عن الحق وعن الإسلام ضد الباطل وأهله إلى أن تقاتل هذه الفئة الدجال في آخر الزمان.
ولكن على يد مَن يعود المسجد الأقصى وما سلب من بلاد الشام؟
لقد وعد الله تعالى المؤمنين بأن ينصرهم على عدوه وعدوهم وإن طال الزمان بنظر المؤمنين أو قصر، وربط الرسول صلى الله عليه وسلم الأرض المقدسة بأصلها الأصيل وهو الإسلام، فهو مستقبلها وبه حياتها، ولن يتم لها أمر، أو يعلو لها شأن إلا من خلال هذا الدين وأهله المصلين الموحدين المؤدين فرائضه، والمجتنبين معاصيه، فالنصر موعود الله سبحانه وتعالى للجباه الساجدة، والقلوب الموحدة، والأيدي المتوضئة، قال تعالى: [وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون] النور 55.
والنصر لا يكون بالتمني والأماني والركون إلى الدنيا إنما النصر بالجهد والجهاد وبتحقيق التوحيد لله تعالى [يعبدونني لا يشركون بي شيئاً] فلا يتنزل النصر مع الإشراك بالله تعالى، وبهذا نعلم مقدار بعد الأمة الإسلامية عن النصر وأسبابه، وذلك لشيوع أسباب الشرك ومظاهره وغلبة الهوى والجهل، وظهور الفرق الضالة في الأمة وتمكنها في بلاد الشام، ومتابعة جماهير المسلمين اليوم لهذه الضلالات - إلا ما رحم الله - والتي أبعدتهم عن الجادة والنهج القويم.
فالعودة إلى الإسلام هو الطريق لإنقاذ فلسطين والمسجد الأقصى السليب، وبتمسكنا بالإسلام ترجع إلينا إن شاء الله مقدساتنا التي اغتصبت في بيت المقدس، وديارنا السليبة في جميع أنحاء الأرض ويتحقق لنا شرط التمكين والنصر قال تعالى: [الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور] الحج 41. وتكون بهذا العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين.
كلمات نفيسة لفضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
وأختم مقالي بكلمات لفضيلة الشيخ بن العثيمين رحمه الله تعالى في الطريق إلى النصر والتمكين: 'أيها المسلمون إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له، والتمسك بدينه ظاهراً وباطناً، والاستعانة بالله وإعداد القدرة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من ديارنا، ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف(1/1071)
أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، فالنصر مشروط بما شرطه الله عز وجل، استمعوا إلى قول الله تعالى: [ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور].
هؤلاء هم الذين يستحقون النصر، الذين يوقنون بقلوبهم ويقولون بأفواههم إن مكنهم الله في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور، بهذا يمكن للمسلمين أن يحتلوا بلاد الله وأن يطردوا عنها أعداء الله، لأن 'الأرض يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين' ، 'ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض لله يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين'.
والحمد لله رب العالمين ،،،
ــــــــــ
بوابة النصر
الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار، أما بعد،،،
في ظلام الليل الذي يعقبه نور الصباح.. وفي نزول القطر بعد إقفار الأرض.. وفي أحوال كثيرات..وبما في تضاعيف التأريخ المُشْرِق لهذه الأمة من بواعث النصر، ومُحْييات التمكين؛ نزداد يقيناً، واقتناعاً بما في أُفق الدنيا من لوائح المبشرات، وحينها ؛ نعم في ذلك الحين ينبثق نور بوابة النصر..فَيَلِجُ منها من ذاق مرارة السطوة الظالمة، ويدخل منها من تفطرت كبده قهراً على تكالب سُرَّاق المشاعر، فإلى أولئك أقول: عليكم بما في ثنايا الموضوع فإنها أعمدة تلك البوابة، وعليكم باغتنام سويعات النصر فإن الفجر لاح، وحذار من مُغْلِقَاتِ البوابة فهي كثيرة محبوبة .
أولاً: أعمدة النصر:
1- الإيمان بالله والنصر: قال تعالى:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم]. وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[51]}[سورة غافر].
في هاتين الآيتين قضى الله أن نصره وتأييده إنما هولعباده المؤمنين.. نعم؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تحلي العباد بالإيمان بالله برهان كبير على أنهم هم المنصورون، وأنهم هم الجند الغالبون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات].(1/1072)
وكما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]}[سورة المائدة].
فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل؛ كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، وقاصر عن التمام؛ فإن النصر لهم بحسب ذلك .
وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان والتوحيد؛ نجد أن أغلبها راجع إلى الإيمان قوة وضعفاً:
فهذا يوم الفرقان، يوم بدر: نصر الله عباده المؤمنين نصرًا أصبح شجى في حلوق المشركين زماناً، وكان من أعمدة النصر في تلك الغزاة أن قَوِيَتْ قلوب المؤمنين إيماناً بالله تعالى.
وفي التأريخ المشرق لهذه الأمة المنصورة، والمُخَلَّدَة إلى قيام الساعة صورٌ كثيرة جداً لوقائع نصر مبين للمؤمنين .
فهذا عمود من أعمدة النصر على الأمة أن تأتي به إن كانت تطمح بالنصر، وترمق بعين الشوق إلى التمكين في الأرض، أما إن كانت تريد نصراً بلا إيمان فما هي وطالب السمك في الصحراء إلا سواء .
إن الله أخبرنا بأنه حافظ دينه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وأخبر أن البقاء لدينه فقال:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف]. وهل نور الله تعالى إلا الإيمان والدين، ونصرته له نصرة لعباده القائمين بهذا الدين، والمُتَحَلِّيْنَ بهذا الإيمان . فلا مجال حينئذٍ لمداهمة اليأس قلوبَ الصالحين، بل الدربُ مستنير، وواضح لا يعمى إلا على عُمْيِ القلوب والأبصار .
فالله تعالى وَعَدَ ووعْدُهُ حق وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء، وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء وكماله، وهوقريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد .
فما هوإلا الصبر القليل، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، وأساس ذاك كله اليقين بموعود الله، والحذر من تسرُّب الشك في موعوده .
2- العبودية لله والنصر:
قال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]}[سورة الصافات]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. ففي هذا النص القرآني عمود من أعمدة النصر، الذي يَمُنُّ به الرب على من تعبَّد له حق التعبُّد. واَلْحَظْ بتمعُّنٍ وتدبر:{ لِعِبَادِنَا} و{ عِبَادِيَ} تجد في ثناياها(1/1073)
خالص التجرد بالعبودية لله، فلما جردوا التعبد لله وأخلصوه له؛ فلم يجعلوا في قلوبهم ميلاً-و لو قليلاً- لغيره أثابهم منه فتحاً ونصراً وتمكيناً .
ولذا نرى أن الأمة قد يَتَخَلَّفُ عنها النصر بسبب تعلُّقها بغير الله، وهذا من صُوَر صرف التعبُّد لغير الله، فلا عجبَ أن تخلَّف النصر عنّا، وحلَّت الهزيمة بنا، فما استنكف أحد عن التذلل لله، واتبع نفسَه ذليلة غير الله إلا زاده الله وهناً وخسارة .
وللعبودية في ساعات الشدة أثر بالغ في قرب الفرج، وبُدُو أمارات النصر:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فزَعَ إلى الصلاة، وجعل خير العبادة ما كان في زمن الهَرْجِ.
وحاله يوم بدر أكبر شاهد على ذلك؛ فقد جأر بالدعاء، واشتدَّ تضرُّعُه لربه وتذلله بين يديه، سائله أن يُعَجِّلَ بنصره الذي وَعَدَه إياه .
وهذه هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله، وبدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله؛ فهيهات أن ينصر من أعرض عن دينه، ولم يتبع هداه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبع ما أجلب به الكفار من حياة قِوَامُها على الرذيلة، والمعصية، بل ترك الشريعة كلها .
فعمود النصر التجرد لله بالعبودية؛ التي هي: تمام الذل له، وكمال المحبة له، ومنتهى الانقياد والاستسلام لدينه وشرعه. فمتى قامت الأمة بالتعبُّد لله والتذلل بين يديه؛ أضاء لها نور النصر واضحًا جليًا، تبصره قلوب الصالحين من أولياء الله العابدين، وتعمى عنه بل تُحرَمُه قلوب وأبصار من تعبَّد لغير الله . وكلما كان تعبُّد الأمة لله أتم كان نصر الله لها أكمل وأقرب .
3- نُصْرَةُ الله والنصر: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ...[7]}[سورة محمد]. نصر الله حليفُ قومٍ ينصرون الله ودينه، ويرفعون راية شريعته شامخة في أُفقِ العلياء .
أما من يخذل شريعته حين ضعفها؛ فليس له من نصر الله شيء. وما انتصر من انتصر من الصالحين إلا بسبب ما قاموا به من نصرةٍ لدين الله وشريعته . فمن قام ناصراً بلده، أو قومه، أو مبدأه ومذهبه المخالف لدين الله؛ فهو مخذول .
ومن قام ناصراً- ولو وَحْدَه-ُ دين الله؛ فهو المنصور لا غيره، وهو المؤيد لا سواه، وهو الموعود بالتمكين .
فلتقم الأمةُ الطالبةُ نَصْرَ الله بنصرة دين الله، وإعلائه على الأديان كما أعلاه الله، حتى تنال موعود الله لها بالنصر، والتمكين في الأرض .
ومن نُصْرَة الله تعالى:
1- تحقيق الولاء والبراء.. فلا مداهنة في دين الله، ومحاباة لمخلوق أيَّاً كان، فدين الله فَرَّقَ بين المسلم والكافر، ولو كانا في القرابة بالمكان الذي لا يفرَّق بينهما فيه .(1/1074)
2- تطهير الأرض من المنكرات والموبقات ؛ التي ما فتيء أصحابها يجاهرون بها مطلع النهار ومغربه، ويحاربون الله ليل نهار.
3- القيام حمايةً لدين الله من أن يَمَسَّه دَنِيٌّ بسوء، أو أن يَقْصِدَه سافل بنقيصة .
4- حراسة محارم الله وحفظها من أن يتعرَّض لها من سلبه الله العفاف والحشمة .
فمن قام بنُصْرَة الله ودينه؛ حَظِيَ بالنصر من الله، وظَفِرَ بالغلبة على عدوِّه .
4- النصر من الله تعالى: قال تعالى:{...وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...[13]}[سورة آل عمران]. وقال:{...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[126]}[سورة آل عمران]. وقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150] }[سورة آل عمران]. وقال:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]}[سورة آل عمران].
فالنصر مِنْ الله ، وهو المانُّ به على عباده المؤمنين، فلا قُدُرَاتِهم، ولا عُدَدِهم جالبة لهم نصراً على عدوهم، ولا اعتداد بكل أسلحة المؤمنين إذا لم يُرِد الله لهم نصراً على عدوهم .
فلو كان النصر آتياً بقوى العباد؛ لما غلب المسلمون الضعفاء ظاهرًا أُمَمَ الكفر التي ملكت من آلات القتال ما الله به عليم . فمتى رجيَ المؤمنون النصر من غير الله فيا خيبتهم، ويا شؤم حالهم .
وحين ترى أحوال المسلمين في المعارك التي انهزموا بها ترى أن من أهم الأسباب: تعلُّقُ النفوس في طلب النصر بغير الله، ولنعتبر بغزوة حنين، فإن الهزيمة التي حصلت لهم إنما هي بسبب اغترارهم بقوة أنفسهم حيث قالوا:'لن نغلب اليوم من قِلَّة'.
قال ابن القيِّم رحمه الله في سرَدِه الفوائدَ المأخوذةَ من تلك الغزوة:'واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعُددهم، وقوة شوكتهم، ... ، وليبيِّن سبحانه لمن قال:'لن نغلب اليوم من قلَّة' أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين'[زاد المعاد [ 3/477]].
وهذا الذي حصل إنما هو من طائفة عُمِرَتْ قلوبهم بالتوكل على الله، والتعلُّق به، لكن لما انصرف القلب انصرافاً قليلاً عن الله؛ عُوقبوا بما ذكر الله بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...[25]}[سورة التوبة]. فكيف الحال بمن بعدهم ممن انصرفت قلوبهم لغير الله انصرافًا كُلِّيًا، والله المستعان؟!
ثانيًا:مبشرات النصر:
1- البشارة بظهور الدين: قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ(1/1075)
الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. وقال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ]رواه أحمد.
فهذه نصوص قاطعة بأن الغالب هو دين الله، والواعد بذلك هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يخلف الميعاد؛ فكيف إذا كان الميعاد نَصْر دينه، فمهما طال مُقامُ الكافر، ومهما استطال شرُّه وضرُّه، ومهما كِيْدَ بالمسلمين، ومهما نُّكِّلَ بهم؛ فإن الغلبة لدين الله، وَعْدَاً من الله حقاً وصدقاً.. وهذا سيحدث لا محالة، فلا نستعجلَّنَّ الأمور، ولا نسابق الأحداث .
2- الطائفة الظاهرة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ]رواه البخاري ومسلم. فهذه الطائفة قائمة إلى قيام الساعة، والنصرة لهم، والتأييد الإلهي معهم، وهذه الفرقة المنصورة من بواعث الأمل في نصرة الدين، ومن بشائر الرفعة لدين الله، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنها دائمة وموجودة إلى قيام الساعة .
ولكنه ضعف اليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلُّق القلوب بالماديَّات والظواهر، وأساس ذلك كله ضعف الإيمان بالغيبيات التي هي أصل الإيمان.
فهل يجوز بعد هذا أن ييأس المسلمون من اكتناف نصر الله تعالى لعباده المؤمنين؟! وهل يجوز أن تُعَظَّمَ قوة الكفر وجبروته؟! وهل يجوز لنا أن نتخاذل عن البذل لدين الله.. ولو بأقلِّ القليل؟! وهل يجوز أن نعتقد خطأً أن هذه الطائفة لن تقوم، أو أنها قامت ولن تعود؟! أسئلة تفتقر إلى أجوبة فعلية لا قولية .
3- الوعد الإلهي الحق: قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. وهذا الوعد قد تحقق في زمانه صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق بعده حتى قيام الساعة،
فمتى توافرت الأوصاف التي ذكرها الله في هذه الآية في قوم؛ كانوا أحق بالتمكين من غيرهم مهما كانوا .
فحتى نظفر بالتمكين من الله لنعقد العزم على تطبيق شريعته في أحوال الناس اليومية، والسياسية، والاجتماعية .
عندها سننال النصر من الله بكل تأكيد ويقين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
4- المدينتان المُنْتَظَرَتان: قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:(1/1076)
بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي.
ومما يزيد في البشارة أن هذه المدينة قد فتحت على يد السلطان محمد الفاتح العثماني التركماني ؛ ولكن ليس هو الفتح المذكور في الأحاديث؛ لأن الفتح الذي في الأحاديث يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بيسير. [انظر: اتحاف الجماعة للتويجري [ 1/404 ]].
ولفتح القسطنطينية الفتح الحق علامة واردة في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، معروفة مشهورة، وهي :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ- ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ- يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-]رواه أبوداود وأحمد.
فإذا كان أن الفتح الذي حصل على يد محمد الفاتح ليس هوالفتح الوارد في الحديث فإنا لعلى يقين بقرب فتحين عظيمين لمدينتين كبيرتين، وهذا قريب، ووَعْدُ الله نافذ، ومُتحقق بإذنه تعالى .
5- المعركة الفاصلة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ]رواه البخاري ومسلم. وهذه المعركة هي الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهي التي يُظْهِر فيها الله عباده المؤمنين، وينصرهم على اليهود بعدما ذاقوا منهم الأذى والنكال . ولم تأتِ بعد هذه المعركة وإنا على انتظارها، وهي آتيةٌ لا محالة إن شاء الله .
6-محمد المنتظر: مما ثبت في السنة، واعتقده السلف الصالح، ودانوا لله به: ثبوت المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا]رواه مسلم.
وأخباره متواترة تواتراً لا يعتريه شك .
وفي خروجه يكثر الخير، قال ابن كثير رحمه الله:'في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم' [النهاية في الفتن والملاحم [1/31 ]].(1/1077)
فهذا المهدي [ محمد بن عبد الله ] المنتظر لم يخرج بعدُ، وبخروجه يقوم الدين، ويرتفع الحق، ويخمد الباطل، وتتبدد كل قوة علت من قوى الباطل، وكل ما هو آت قريب، فصبر جميل.
ثالثًا:ساعات النصر:
1- اليأس والنصر: قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف]. فهذه صورة يَحِلُّ فيها اليأس على قلب العبد، ويُخَيِّم القنوط على نفوس الصالحين،
وإنها لصورة من أشد الصور، وأخطرها على نفوس المسلمين، فالنصر ينزل على العباد 'عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه'[تفسير ابن كثير [ 2/497 ]]. و'إنها لساعة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمرُّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا القليل، وتكرُّ الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عُدَّتِهم القليلة، وقوتهم الضئيلة'[ في ظلال القرآن [ 4/2035].
وإنا والله لنفرح بمثل هذه الساعة-لا لذاتها معاذ الله- ولكن لما فيها من بشائر النصر القريب، وأمارات ظهور الفجر الواعد ..نعم.. إنها ساعة فيها يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلَّق بها الناس، وسنة الله أن في مثل هذه الظروف التي يفقد المؤمنون فيها صبرهم، وتتكالب عليهم الشدائد من كل حَدْبٍ وصوب، وينالهم من أهل الشر والباطل كل أذى وسُخرية من ضعف قوتهم، وهوانهم على الناس؛ يلمح المؤمنون نور النصر يلوح، وشمسه تشرق في تمام الوضوح، فيزول عن القلب ما خَيَّمَ عليه من حُجُب وشوائب، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم فيها تبيان لهذا.. فاعتبرها .
2- المظلوم والنصر: الظلم شيمة من ابتلاه الله بالكبر والغطرسة، ومن هذا شأنه كان حريَّاً بأن يناله من الله عقاب لتقرَّ عين المظلوم بنكاية الله بالظالم، ونكاله به، فجعل الله دعوة المظلوم تسلك طريقها في السماء، وتكفل الله بنصرها ولو بعد حين، ووَعْدُ الله حق، وهذه بشارة عُظمى، إن نصر الله قريب، هذا كله في عموم الناس المسلم والكافر، فكيف إذا كان المظلوم أمة مسلمة لله، والظالم لها كافر لا يؤمن بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، فأقول إن الأمر غاية في اليقين أن نصر الله قريب جداً .
وهذه ساعة من أهم ساعات الانتصار والغلبة أن يتمكن العدو من المسلمين، ويتحزبون عليهم من كل جانب من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم..{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا(1/1078)
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39]}[سورة الحج]. فما على المؤمنين حال تلك الساعة إلا الجأر بالدعاء، والابتهال والتضرع بين يدي الله أن يُعجِّل بنصرهم، وأن يَخْذِل عدوَّهم[ ويُحِلَّ عليهم غضبه وسخطه..وموعود الله قريب للمظلوم، والويل للظالم من عقاب الله .
رابعًا:حُجُبُ النَّصْرِ:
1-حجاب الكفر:قال الله:{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[56]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...[12]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[44]سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[45]}[سورة القمر]. هذه آيات أنزلها الله في كتابه قضى فيها أن الكفر لن يغلب الإسلام مهما كانت له من القوى، ومهما ملك من العُدَد والعَدَد، ولقد صدق الله وَعْدَه، فنصر عبده، وأعز جُنْدَه، وهزم الأحزاب وَحْدَه.. فمهما قامت حروب ومعارك بين المسلمين والكفار؛ فإن الغالب هم المسلمون، والهزيمة لاحقة بالكفار ؛ وعد صادق من الله.. الكافرون سينفقون ما لديهم من أموال ورجال في حروب طاحنة مع المسلمين، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغْلَبُوْن على أيدي المسلمين .
وإن انتصر الكفار على المسلمين فهو نصر مؤقَّتٌ لا يدوم؛ وهيهات له أن يدوم، والله قد كتب الغلبة لدينه ورسله وأوليائه الصالحين، والله لا يؤيد بنصره أُمة قامت على كفر به، وصد عن سبيله .
2- حجاب الظلم:قال تعالى:{...وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[270]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ[8]}[سورة الشورى]. نعم ؛ إن الله لا ينصر الظالم على المظلوم بل اقتضت حكمته أنه ينصر المظلوم على الظالم مهما كان المظلوم والظالم .
وما أكثر الظلم في المسلمين؛ والذي بسببه حُرِمْنا النصر على أعدائنا، فالظلم يمنع النصر كما في هذه الآيات وكما في حديث دعوة المظلوم وأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والله تعالى قد وعد بأنه سينصرها ولوبعد حين .
فمتى طُهِّرَت الأمة من الظلم بجميع أنواعه وصوره؛ فإن نصر الله آتٍ، ووعده متحقق سواء في ذلك قرب الزمن أو بعده .
3- حجاب النفاق: قال الله تعالى:{...إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء]. بيَّن الله في هذه الآية أن نصرَه محرومٌ منه كل منافق دخيل في صفوف المسلمين، بل محروم منه كل من قرَّب المنافقين وأنالهم منه مكاناً مرموقاً، وجاهاً رفيعاً..إن النفاق ما وُجِدَ في قوم إلا أحلَّهم دار البوار، ومنعهم الخير والنصر، وما وُجِدَ المنافقون في أرض إلا مَكَّنُوا منها العدو على المسلمين، وأذلُّوا الصالحين من عباد الله.
فإذا ما طهُرَت الأرض، وسَلِمَت الأمة من هؤلاء 'المتلونين' استحقت النصر من الله على عدوها، وكان لها الظفر بالعدو.(1/1079)
وما مُنِعَ المسلمون النصر يوماً قط إلا بسبب ما كان منهم من تقريب لهؤلاء المنافقين، وحبٍّ لهم، ومجالسة معهم، وتمام وُدٍّ لهم.. إن النفاق في هذه الأزمان قد طال ريشه بين المسلمين، ودام مُقامُه بينهم، ونال أهلُه من المسلمين كل ما يريدونه، بل نال الصالحين المُبيِّنين حالهم وضلالهم الأذى منهم ومن أسيادهم. وحين تلتفت الأمة إلى هؤلاء المجرمين، وتبدأ بهم، وتنكِّل بهم؛ تنعم بعد ذلك بنصر من الله مؤزَّرٌ، وبإيفاء الله وعده لهم .
خاتمة البوابة:
في ختام الولوج من هذه البوابة العريقة..وفي نهاية المرور بها..آمل أن أكون قد وُفِّقْتُ بوضع النقاط على حروفها، وأن أكون قد بعثت ما مات من آمالٍ كبار في نفوس قومي، وأسأل الله تعالى أن يُحيي ما مات من آمالنا، وأن ينصر دينه، وكتابه، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعباده الله الصالحين .
من رسالة:'بوابة النصر' للشيخ/ عبد الله بن سليمان العبد الله
مفكرة الإسلام
ــــــــــ
لماذا يتأخر النصر ؟
الحمد لله رب العالمين، تكفَّلَ بإظهار هذا الدين، ووعد بنُصرةِ المؤمنين، فقال في كتابهِ المبين: (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) (التوبة:33) .
وقال تعالى: (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) (الروم: من الآية47) وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، اقتضت حكمتهُ أن يديلَ الإسلام والمسلمين تارة، ويديلَ الكفرُ والكافرين تارة أخرى، وصدق الله (( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) (آل عمران: من الآية140) .
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله عاش فترةً من حياته والمسلمون معهُ في مكة، ظروفَ المحنةِ وشدةَ الابتلاء، حتى جاءَ اللهُ بالنَّصرِ والفتحِ المبين، وعادَ المُحاربون له مسالمين مؤمنين، بل وفي عِداد الغزاة الفاتحين.
اللهمَّ- صل وسلم عليه- وعلى سائر المرسلين، وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) (التوبة:119) , (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)) (الأحزاب:70) , (( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:71).
أيَّها المسلمون :(1/1080)
يتكررُ في فتراتٍ من التاريخ، لمن تأملَ انسياح الإسلامِ في الأرضِ وغلبة المسلمين، أو انحسار مدَّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثريةُ المسلمين تلتزمُ بالإسلامِ في حالةِ غلبته، فإنَّ القلةَ من المسلمينَ من يتمالكُ نفسهُ، ويلتزمُ بمقتضياتِ العقيدة والدين، ويصبرُ على اللأواءِ والمحن، في حالِ غلبةِ أعداءِ الدين، إذ من الناسِ من يُصابُ بالهلعِ وفقدانَ الثقةِ بنصرةِ هذا الدين، ويُصابَ آخرون بالإحباطِ واليأس والقنوطِ من رحمة الله، والتسخطِ لأقدارِ الله، وتلك أدواءٌ قاتلة، وهي منافيةً لحقيقةِ التوحيد، من الصبر واليقين، والتقوى والتوكل على رب العالمين.
إخوةَ الإيمان: وهذا الشعورُ قديم، وهذهِ الفتنةُ غير مستحدثة، وهذا الهاجسُ تحدثَ عنه العلماءَ السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة، وكادَ اليأسُ يلفُّ بعضِ المنتسبين للإسلام .
يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله-، (وهُنا نكتةٌ نافعة ، وهي أنَّ الإنسانَ قد يسمعُ ويرى ما يصيبُ كثيراً من أهل لإيمان والإسلام في الدنيا في المصائب، وما يصيبُ كثيراً من الكفَّار والفجَّار في الدنيا، من الرياسةِ والمال وغير ذلك، فيعتقدُ أنَّ النعيمَ في الدنيا لا يكونُ إلاَّ لأهلِ الكُفر والفجور، وأنَّ المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقدُ أنَّ العزةَ والنُّصرةَ قد تستقرُ للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاءَ في القرآن من أنَّ العزةَ لله ولرسولهِ وللمؤمنين، وأنَّ العاقبةَ للتقوى، وقولَ الله تعالى: (( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) (الصافات:173) وهو ممن يصدقُ بالقرآن حملَ هذه الآيات على الدارِ الآخرة فقط، وقال: أمَّا في الدنيا فما نرى بأعيننا إلاَّ أنَّ الكفارَ والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين... الخ [1].
وهذا تلميذهُ الشيخُ ابن القيم- رحمه الله-، يعرضُ أمامَ ناظريك أيَّها المسلمُ الحكمةُ من وراءِ تمكين أهلِّ الكُفر والفسوقِ والعصيان فيقول: ( وكان في تمكينِ أهلُ الكفرِ والفسوق والعصيان، من ذلك إيصالُ أولياءِ الله إلى الكمالِ الذي يحصل لهم بمعاداةِ هؤلاءِ وجهادهم، والإنكارِ عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبذلُ نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإنَّ تمام العبوديةِ لا يحصلُ إلاَّ بالمحبةِ الصادقة، وإنَّما تكونُ المحبةُ صادقةً إذا بذلَ فيها المُحبُّ ما يملكُهُ من مالٍ ورياسةٍ وقوةٍ في مرضاة محبوبهِ والتقربُ إليه، فإذا بذلَ لهُ رُوحهُ كان ذلك أعلى درجاتِ المحبة، ومن المعلومِ أنَّ من لوازمِ ذلك أن يخلقَ ذواتاً وأسباباً وأعمالا، وأخلاقاً وطبائعَ تقتضي معاداةُ من يحبه.
إلى أن يقول : فلولا خلقِ الأضدادِ، وتسليطِ أعدائهِ وامتحانِ أوليائه لم يستخرج خاص العبوديةِ من عبيده الذين هم عبيدَه، ولم يحصل لهم عبوديةُ الموالاة فيه والمعاداة فيه، والحبُّ فيه والبغضُ فيه، والعطاءُ له والمنعُ له) [2].
أيَّها المؤمنون: نستبطئُ النصر أحياناً ونحنُ بعدُ لم نُقدمُ للنصرِ ثمنا، ونستعجلُ النصرَ وقد لا يكونُ حانَ وقته بعد، ونتطلعُ إلى تغيرٍ مفاجئٍ في العالم، ونحنُ بعدُ لم نغيرِّ ما بأنفسنا، وبالجملةِ فهُناك(1/1081)
معوقاتٌ للنصرِ، وأسبابٌ لتأخره، يعرفها العلماء، ويجهلها البسطاء، وأسوقُ لكم طرفاً منها، استجمعها صاحبُ الظلال- يرحمه الله- فاعقلوها وقارنوا واقعَ المسلمين بها،
يقولُ سيد قطب- رحمهُ الله-: ( والنصرُ قد يُبطئُ لأنَّ بنيةَ الأمةِ المؤمنة لم ينضجُ بعد نضجها، ولم يتمُّ بعد تمامها، ولم تحشدُ بعد طاقاتها، ولم تتحفزَ كل خليةٍ وتتجمع، لتعرف أقصى المد خور فيهما من قوى واستعدادات، فلو نالت النصرُ حينئذٍ لفقدته وشيكا، لعدمِ قُدرتهما على حمايتهِ طويلاً .
وقد يبطئُ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخرُ ما تملكهُ من رصيدٍ، فلا تستبقي عزيزاً ولا غاليا، إلاَّ وتبذلهُ هيناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئُ النصرُ حتى تجربُ الأمةُ المؤمنة آخر قواها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحدها بدون سندٍ من الله لا تكفلُ النصر، إنَّما يتنزلُ النصرُ من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثُمَّ تكلُ الأمر بعدها إلى الله.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ البيئةَ لا تصلحُ بعدُ لاستقبالِ الحقِّ والخيرِ، والعدلَ الذي تمثلهُ الأمةُ المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضةً من البيئةِ لا يستقرُ معها قرار، فيظلُ الصراعُ قائماً حتى تتهيأ النفوسُ من حوله لاستقبالِ الحقَّ الظافر لاستبقائه، من أجلِّ هذا كله، ومن أجل غيرهِ مما يعلمهُ الله، قد يبطىءُ النصر، فتتضاعفُ التضحيات، وتتضاعفُ الآلامُ، مع دفاعِ الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصرِ تكاليفهُ وأعباؤهُ حين يأذن اللهُ به بعد استيفائه أسبابه، وأداءِ ثمنه، وتهيؤ الجوِّ حوله لاستقباله واستبقائه.
وقد يبطئُ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تُعاني وتتألم وتبذل، ولا تجدُ لها سنداً إلاَّ الله، ولا متوجهاً إلاَّ إليهِ وحده في الضراء، وهذهِ الصلةُ هي الضمانةُ الأولى لاستقامتها على النهجِ بعد النصر، عندما يأذنِ به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحقِّ والعدل، والخيرَ الذي نصرها الله به.
وقد يُبطئُ النصرُ لأنَّ الأمةَ المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها، وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تُقاتلُ لمغنمٍ تُحققه، أو تُقاتلُ حميَّةً لذاتها، أو تُقاتلُ شجاعةً أمام أعدائها، واللهُ يريدُ أن يكون الجهادُ له وحدهُ وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأُخرى التي تلابسهُ، وقد سُئل رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: (( الرجلُ يُقاتلُ حميةً، والرجلُ يُقاتلُ شجاعةً، والرجلُ يُقاتلُ ليرى فأيَّها في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله )) [3]
كما قد يبطئُ النصرُ، لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحهُ الأمة المؤمنة بقيةً من خيرٍ يريد
للهُ أنَّ يجردَ الشرَّ منها ليُمحِّص خالصاً، ويذهبَ وحدهُ هالكاً، لا تتلبسُ بهِ ذرةٌ من خيرٍ تذهبُ في الغمار.
وقد يبطئُ النصرُ لأنَّ الباطلَ الذي تحاربهُ الأمةُ المؤمنة لم ينكشف زيفهُ للناسِ تماماً، فلو غلبهُ المؤمنون حينئذٍ، فقد يجدُ لهُ أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفسادهِ وضرورةَ زواله، فتظلَ له جذورٌ(1/1082)
في نفوسِ الأبرياءِ الذين لم تنكشف لهمُ الحقيقة، فشاءَ اللهُ أن يُبقى الباطلُ حتى يتكشفَ عارياً للناس، ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليهِ من ذي بقية .[4]
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11) .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين ، (( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (القصص: من الآية70) وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ إمامَ المتقين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وأرض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ إخوة الإسلام: فينبغي ألاَّ يخامرَ المسلمُ شلكٌ بنُصرةِ الله لهذا الدين، حتى وإن لم يرهُ بأمِّ عينه، وتحققَ لأجيالٍ بعده، فحسبهُ أن يكونَ جندياً صادقاً في سبيلِ خدمةِ هذا الدين، وحسبهُ أن يموتَ يوم يموت، وهو يُحسنُ الظنَّ بربهِ، ويستشعرُ بمسئوليتهِ تجاهَ دينه، قد حررَ عبوديتهُ لله.
أمَّا النصرُ فلابُدَّ من اكتمال أسبابهِ، وزالِ معوقاته، واللهُ يحكمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد، ووعدهُ حق، ونصرهُ قريب، وأمرهُ بين الكاف والنون، ولكن ثَمة أدواءٍ يتلبسُ بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصرُ اللهِ عزيزٌ لا بُدَّ فيه من تمحيصِ الصفوف، ولابُدَّ من تميزِ الخبيثَ من الطيب، لابُدَّ من سقطٍ لأصحابِ المطامعِ والأهواء، ولابُدَّ من تجريدٍ للصفوةِ المختارةِ التي يُحبُها الله، وتستحقُ نصره، لابُدَّ من تمييزِ المجاهدين الصادقين من المتقولين المنتفعين.
عباد الله :
وليست المسؤوليةُ في هذا على الناس على حدٍ سواء، فكلٌّ بحسبه، ولست العبوديةُ المؤهلةُ للنصر ضرباً من الأماني، أو قدراً محدوداً من العبادات، يظنُّ المرءُ فيها أنَّهُ بلغَ قمَّة الإيمان، واستحقَّ النصرَ لولا فساد الآخرين بزعمه، كلا، فالمسؤوليةُ كبيرة، والعبوديةُ المرادةُ لله شاملة، واسمع إلى أحدِ علماءِ السلف وهو يشخِّصُ الحال، وكأنَّهُ يعيشُ اليومَ بين ظهراني المسلمين،
ويقولُ ابن القيم في كتابه: ( أعلام الموقعين عن رب العالمين ) وهو يتحدثُ عن نوعي العبوديةِ العامةِ الخاصة: ( ولله سبحانهُ على كلِّ أحدٍ عبوديةً بحسبِ مرتبته، سِوى العبوديةِ العامةِ التي سوى بين عبادهِ فيها: فعلى العالم من عبوديةِ نشرِ السنةِ، والعلم الذي بعثَ اللهُ به رسلهُ ما ليس على الجاهل، وعليه من عبوديةِ الصبرِ على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكمِ من عبوديةِ إقامةِ الحقِّ وتنفيذهِ وإلزامه من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغنيِّ من عبوديةِ(1/1083)
أداءِ الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادرِ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما) .
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهادِ والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت لهُ امرأةُ: هذا واجبٌ قد وضُع عنَّا فقال: هبي أنَّهُ قد وضَع عنكنَّ سلاح اليدِ واللسان، فلم يُوضع عنكنَّ سلاح القلب، فقالت : صدقت، جزا ك الله خيراً . أن يقول الشيخ- رحمه الله- وقد غرَّ إبليسُ أكثرَ الخلقِ بأنَّ حسنَّ لهمُ القيامَ بنوعٍ من الذكر والقراءة والصلاة والصيام، والزهدُ في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبادات. فلم يُحدِّثُوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاءِ عند ورثةِ الأنبياءِ من أقلِّ الناسِ ديناً، فإنَّ الدين هو القيامُ لله بما أمر به، فتاركُ حقوقِ الله التي تجبُ عليه أسوأُ حالاً عند الله ورسولهِ من مُرتكب المعاصي، إلى أن يقول: ومن له خبرةً بما بعث اللهُ به رسولهُ- صلى الله عليه وسلم- وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أنَّ أكثرَ من يشار إليهم بالدين هُم أقلُّ الناسِ ديناً- والله المستعان- وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارمُ تُنتهك، وحدودهُ تُضاع، ودينهُ يُترك، وسنةَ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس، كما أنَّ المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليَّةُ الدين إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلامبالاةَ بما جرى على الدين؟ وخيارهم المحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعضِ ما فيه غضاضة عليه، في جاههِ أو مالهِ بذل وتبذل، وجدَّ واجتهد، واستعملَ مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء- كما يقولُ الشيخ رحمه الله- مع سقوطهم من عينِ الله، ومقت اللهِ لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليَّةٍ تكونُ وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإنَّ القلبَ كلَّما كانت حياتهُ أتم، كان غضبهُ لله ورسولهِ أقوى، وانتصارهُ للدين أكمل [5] .
أيَّها المسلمون :
في تركِ أمرِ الله، وعدم التمعُّر لشيوعِ الفساد والمنكر، وقد ذكرَ الإمامُ أحمد وغيره أثراً، أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى ملكٍ من الملائكةِ أن اخسف بقريةِ كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلانٌ العابد، فقال: به فابدأ، فإنَّهُ لم يتمعَّر وجههُ في يومٍ قط.
وذكر صاحبُ التمهيد : أنَّ اللهَ سُبحانهُ أوحى إلى نبيٍّ من أنبيائهِ أن قُل لفلانٍ الزاهد: أمَّا زُهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأمَّا انقطاعُك إلىَّ فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما ليَ عليك؟ فقال: يا ربي وأي شيءٍ لك عليَ؟ قال هل واليتَ فيَّ وليا، أو عاديت في عدا ؟ [6]
هكذا إخوة الإسلام، فَهِمَ السلفُ- رحمهم الله- حقيقةَ العبوديةِ لله، وكذلك جاءتِ النصوصُ الشرعية، والوصايا النبويَّة تُؤكدُ أمرَ القيامِ له بحقهِ عبوديةً عامة، يشتركُ الناسُ فيها، وعبوديةٍ خاصة كلٌّ بحسبه، تضمنُ قيام أمر الله، تُرسي دعائمَ الخبرِ في الأرض، وتوالي الخيِّرينَ، وتحبُ الناصحين،(1/1084)
وتسهمُ في اقتلاع الشرِّ من جذر وه، وتأخذُ على أيدي السفهاءِ وتأطرهم على الحقِّ أطرا، وتكرهُ المبطلين، وتُعادي الكافرين، وتبغضُ المنافقين.
وبهذه المجاهدة في ا لأرض ينساحُ الخيرُ، وينكمشُ الباطل، ويقتربُ النصر، ولكنَّ ذلك يحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة، وإيمانٍ ويقين، ومن خطبَ الحسناءَ لم يغلها المهر. (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) (العنكبوت: من الآية69) , (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم: من الآية47) , (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )) (الصافات:173,172,171) .
وصدقَ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: (( ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار ولا يتركُ اللهُ بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ اللهُ هذا الدين، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزاً يُعزُّ اللهُ به الإسلام، وذلاً يُذلُّ به الكفر )) [7] .
اللهمَّ انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين- اللهمَّ اجعلنا من أنصار دينك والمنافحين عن شرعك يا رب العالمين.
[1]- كلام الشيخ وإجابته السديدة على هذه المشاعر الخاطئة والهواجس الفاسدة، فليراجعه من شاء في: جامع الرسائل، الرسالة الثالثة (قاعدة في المحبة) (عن: متى نصر الله، الجليل ص 56-74).
[2]- على آخر كلامه النفيس في طريق الهجرتين ص 214، 215. طبعة قطر
[3]- متفق عليه
[4]- طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 359.
[5]- أعلام الموقعين 2/176، 177.
[6]- أعلام الموقعين - تعليق طه عبد الرؤوف 2/176، 177.
[7]- رواه ابن حبا ن وصححه الألباني في السلسلة ( ج ا/7 ح 3) .
-ــــــــــ
حول بطاقة المرأة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له ، الملكُ القدوسُ السلام، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ النبي المصطفى، الإمام عليه وعلى آله وصحبه من ربهم أزكى الصلوات والسلام .أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فتقوى الله جماعُ كلِّ خيرٍ ومنبع كل صلاح.
أيُّها المسلمون:
كلُّ أمةٍ تعتمدُ في قوتها وثباتها على مقومٍ من المقومات، فأمةً تنافسُ بقوتها البشرية، وأخرى بمقوماتها الاقتصادية، وثالثةً بقوتها العسكرية، ونحنُ أمةَ الإسلام نُفاخرُ الأممَ وننافسها ونصارعُها بأعظمِ(1/1085)
مُقومات البقاء، وأقوى عواملِ الثبات، وأسمى وسائلِ التحدي، نحنُ أمةً تُفاخر بمقوماتها العقدية، وبنائها الأخلاقي، حيثُ الترابط الأسري، والتكافلَ الاجتماعي، وحيث السلامة من الأدواءِ الخلقية، والأمراضِ الجنسية، لأننا أمةً تستمدُ منهجَ حياتها من كتابٍ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفهِ تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، ومن سنةِ نبيٍ وسيرةَ رسولٍ لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌّ يوحى.
لقد أدرك أعداؤنا من يهودٍ ونصارى وهم يعيشون فوضى أخلاقية، وانحرافاتٍ اجتماعية، وتفككاتٍ أسرية، ويُعانون من أمراضٍ جنسيةٍ، وجرائمَ خلقية، أدركوا أنَّ المسلمين أمةٌ لن تُقهر، ما داموا يستمسكون بالمبادئِ الأخلاقيةِ السامية، فبدت البغضاءُ من أفواههم، وأصبحوا كما قال الله : (( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً )) (النساء: من الآية89) وكما أخبر الحق : (( ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم )وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ )) (البقرة: من الآية109) .
لذا فقد عملوا عبرَ وسائلهم المختلفةِ، ومن خلال أبواقهم وأذنابهم من المنافقين والمنافقات، وسعوا إلى أن تميلَ الأمةُ ميلاً عظيماً.
لقد أحسَّ أعداؤُنا وهم يُحاولون هدم هذه الأمةِ صلابة البناءَ الأسري في المجتمعاتِ المسلمة، وقوة الحصونِ الأخلاقية، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجرَّدوا الحملات المُسلحة بسهامِ الشهوات، وسمومَ الشُبهات، لتعيثَ في قلوبِ المسلمين فساداً، وتجوسُ خلالَ ديارهم لتسلخهم من دينهمُ الحقُّ الذي ارتضى اللهُ لهم.
لقد كان هؤلاءِ الأعداء خبثاءَ ماكرين في حربهم، إذ تفرسوا في أسبابِ قوةِ المسلمين وحددوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكرٍ ودهاء.
علموا أنَّ المرأةَ من أعظمِ أسبابِ القوةِ في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أيضاً أنَّها سلاحٌ ذو حدين، وأنَّها قابلةً لأن تكون أخطرَ أسلحةِ الفتنة والتدمير، ومن هُنا كان النصيب الأكبر من حجم المؤامرات 0
إنَّ المرأة تملكُ مجموعةً من المواهب الضخمةِ، الجديرةِ بأن تبني أمةً، وأن تهدم أمة، قال -صلى الله عليه وسلم- (( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم.
وقال- صلى الله عليه وسلم- (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)) متفق عليه.
وقال حسَّان بن عطية: ما أُتيت أمة قط إلَّا من قبل نسائهم ، وقد كان للمرأةِ المسلمةِ دورٌ رائعٌ في بناءِ الصرح الإسلامي، وقد انتفعت الأمةُ بهذا الحدِّ النافعِ من سلاحِ المرأة في قرونها الخيرة، ثم لم تلبث الحالُ أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجُرحت الأمةُ بالحدِّ المُهلك من سلاح المرأة .(1/1086)
يجبُ أن لا ننسى أن انحرافَ المرأةِ، أو الانحرافَ بالمرأةِ كان السببُ الأول في أنَّ حضاراتٍ عتيقة انهارت وتمزقت كل ممزق، ونزل بأهلها العقاب الإلهي، والأوجاعُ والأمراضُ الفتاكة، كما وقع قديماً لليونان والروم وغيرهم ، أمَّا في عصرنا الحاضرِ فقد زخرَ التاريخُ الحديث بعبرٍ ومثُلات، تزيدُ يقينَ المؤمنِ بشؤمِ هاتيك المعاصي والشهوات، التي غرق فيها الغربيون، وتبعهم عليها كثيرٌ من الأمم، الأمرُ الذي ينذرُ بسوءِ العاقبةِ، فإنَّ المثُلات لم تنتهِ من الأرض ، فلئن هلك بعضُ الأممِ الظالمةِ بالخسف أو النسف، أو الجوعِ أو المسخ، إنَّ ذلك لمستمرٌ لم ينقطع بعد ولن ينقطع، وإلاّ فما هذه الزلازلُ تقرعُ البشر هنا وهناك، وما هذه السيولُ تجرفُ المُدن والقرى في الشرق والغرب، وما هذه الأمراضُ الفتاكة تجتاحُ الإنسان في كلِّ مكان، وقد عجزَ العلمُ عن استئصالها ، أمَّا المسخُ فما أكثرهُ في هذا العصر، الذي مُسخ فيه مُعظمُ البشرِ آلاتٍ تُحركُ آلات، فلا وفاءَ ولا حنان، ولا عدالةَ ولا أمان، فكأنَّ الأرضَ كلَّها على فوهةِ بركان.
أيُّها المسلمون :
لم يعد خافياً ما تشهدهُ مجتمعات المسلمين اليوم من حملةٍ محمومةٍ، من الذين يتبعون الشهوات على حجابِ المرأةِ وحيائها وقرارها في بيتها،حيثُ ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثيرٍ من مجتمعاتِ المسلمين، وذلك في غفلةٍ وقلةِ إنكارٍ من أهل العلم والصالحين، فأصبحَ الكثيرُ من هذه المجتمعاتِ تعجُّ بالسفورِ والاختلاط، والفسادِ المستطير، الأمرُ الذي أفسدَ الأعراضَ والأخلاقَ، وبقيت بقيةٌ من بلدان المسلمين لا زال فيها بحمد الله يقظةً من أهل العلم، والآمرين بالمعروفِ والناهينَ عن المنكر، حالت بين دُعاةِ السفورِ وبين كثيرٍ مما يرومون 0
ومن كيدِ المُفسدين في مثلِ المجتمعاتِ المحافظةِ، ولوجودِ أهلِ العلم والغيرة أنَّهم لا يُجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراءَ الدين، ويُلبسون باطلهم بالحقِّ واتباع ما تشابه منه، وهذا شأنُ أهلِّ الزيغِ كما أخبر الله، وهُم أولَّ من يعلمُ أنَّ فساد أي مجتمعٍ إنَّما يبدأُ بإفسادِ المرأةِ واختلاطها بالرجال، وهذه حقيقةٌ لا يُماري فيها أحد، وملل الكفر أولَّ من يعرفُ هذه الحقيقة ومن خلالها دخلوا على كثيرٍ من المجتمعات المسلمين وأفسدوه، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم ذلك المهزومون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبانِ الغرب وأفكاره. ولكن لأنَّهم يعيشون في بيئةٍ مسلمة، ولا زالَ لأهلِ العلم والغيرةِ حضورهم، فإنَّهم لا يتجرأون على طرحِ مطالبهم التغريبيةِ بشكلٍ صريح، لعلمهم بطبيعةِ تدينِ الناسِ ورفضهم لطروحاتهم، وخوفهم من الافتضاحِ بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباعِ المتشابهاتِ من الشرع وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يُلبسون الحقَّ بالباطل، وهم كما قال الله : ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) (البقرة:11) .
ومن تلك الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونةِ الأخيرةِ ونشروها في مجتمعنا المُحافظ، وفي بلدنا الذي يأرزُ إليهِ الإيمان، وتهوي إليه أفئدةُ الصالحين، ومنه نبعت الفضيلةُ ودعاتها، مطالبتهم بكشفِ(1/1087)
المرأة عن وجهها، وإخراجها من بيتها، وهم يعلمون ونحنُ نعلمُ أنَّ تلك هي الشرارةُ الأولى، والخطوةُ الأولى نحو فسادِ المرأة،، وذهابِ حيائها، وهم في دعواتهم هذه يُلبسون الباطلَ ثوبَ الحقِّ، ويصوغُون القضيةَ بقالبٍ شرعي، ويعتمدون بزعمهم على أدلةٍ شرعيةٍ وأقوالٍ لبعض العلماء.
ونحنُ أيُّها المسلمون إحقاقاً للحقِّ، وبياناً لهُ، نقفُ مع هؤلاءِ وقفات :
أولاها : أنَّ هُناك فرقاً بين فتاوى مبينةٍ على التحري والاجتهاد، وأخرى محلولةَ العقالِ، مبنيةً على التجري لا التحري، والتي يصدرُها قومٌ لا خلاقَ لهم من الصحفيين، ومن أسموهم المفكرين وأهل التنوير ، يفرقونَ من تغطيةِ الوجهِ لا لأنَّ البحث العلمي المجرد أدَّاهم إلى أنَّهُ مكروهٌ أو جائز، أو بدعةٌ كما يرجفون ، ولكن لأنَّه يشمئزُ منهُ متبوعهم من كفارِ الشرقِ والغرب، ولك أن تُقدرَ شدةَ مكرِ القومِ الذين يُريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثُمَّ يُبررون فعلهم هذا بقواعدِ النظام الإسلامي الاجتماعي 0
لقد أوتيت المرأةُ من الرخصةِ في النظام الإسلامي، أن تُبدي وجهها وكفيها، وما دعت إليه الحاجةُ والضرورة في بعضِ الأحوال، وأن تخرجَ من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاءِ يجعلون هذا نقطةَ البدءِ، وبدايةَ المسيرِ، ويتمادونَ إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوبَ الحياءِ والاحتشام، فلا يقفُ الأمرُ بإناثهم عند إبداءِ الوجهِ والكفين، بل يجاوزهُ إلى تعريةِ الشعرِ والذراعِ والنحرِ، إلى آخرِ هذهِ الهيئاتِ القبيحةِ المعروفة، وهاهو ذا المودودي- رحمهُ الله- يصرخُ في وجهِ هؤلاءِ الأحرار في سياستهم، العبيدُ في عقليتهم، قائلاً : (( ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منهُ جوازُ هذا النمطِ المبتذلِ من الحياة، وإنَّكم يا إخوانَ التجدد إن شاءَ أحدكم أن يتبعَ غير سبيلِ الإسلام فهلا يجترئ، ويصرح بأنَّهُ يُريدُ أن يبغي على الإسلام، ويتفلت من شرائعهِ وهلا يربأ بنفسهِ عن هذا النفاقِ الذميم، والخيانة الوقحة )) 0
وثاني الوقفات : أنَّ قضية الحجابِ اليوم، وما يدورُ بينها وبين السفورِ من معارك، لم تُعد قضيةً فرعية، ومسألةً خلافية، ولكنَّها باتت قضيةً عقديةً مصيرية، ترتبطُ بالإذعانِ والاستسلامِ لشرع الله عز وجل، في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وعدم فصلها عن شئونِ الحياة كلها.
إنَّ التشنيعَ على تغطيةِ المرأة وجهها، والتهالكُ على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، ليست اليومَ مسألةً فقهيةً فرعية، ولكنَّها مسألةً خطيرةً، لها ما بعدها، لأنَّها تقومُ عند المنادين بذلك على فصلِ الدين عن حياةِ الناس، وعلى تغريبِ المجتمعِ، وكونها الخطوةُ الأولى أو كما يحلو لهم أن يُعبروا عنها بالطلقة الأولى .
وثالث الوقفات : إنَّ المناديةَ اليوم بكشفِ وجه المرأةِ أمامَ غير المحارم، إنَّما يُوجِّهون نداءَهم إلى مجتمعاتٍ محافظة، لم تعرف نساؤهُ إلاَّ الحشمةَ و الحياء، وتغطيةَ الوجهِ والبُعد عن الرجالِ الأجانب، وهذا مما يُثيرُ العجب، ويُحيرُ العقلَ، و يضعُ استفهاماتٍ كثيرةٍ على مطالبهم تلك، فماذا يُريدون من(1/1088)
ذلك، وماذا عليهم لو بقيت نساؤُهم وبناتهم وأخواتهم ونساء المسلمين، على هذه الحشمةِ والعفةِ و الحياء ، ماذا يضيرهم في ذلك ؟ ألا يشكرون اللهَ عزوجل على هذه النعمة العظيمة، ألا يعتبرون بما يرونه في المجتمعات المختلطة المتبرجة، حيثُ ضاعت قوامةُ الرجل، وظهرَ الفساد، وهُتكت الأعراض، وأصبحت تلك البُلدان مقصدَ كلِّ فاجر، وملاذَ كلِّ طالبٍ للرذيلة .
إن زماننا اليومَ زمنَ العجائبِ، وإلا فعلامَ يشرقُ قومنا بالفضيلةِ والطُهر والعفاف .
ورابع الوقفات : أنَّ الأدلةَ الموجبة لستر وجه المرأة و كفيها عن الرجالِ الأجانب، ووجوب الابتعادِ عنهم، أدلةً كثيرةً وصحيحة وصريحة، ويُمكنُ الرجوعُ إليها في فتاوى ورسائلِ أهل العلم الراسخين ، ولكن يحسنُ أن نُشير إلى أنَّ علماء الأمةِ قديماً وحديثاً من أجازَ منهم كشف الوجه ومن لم يجزه، كلهُم مُتفقون ومُجمعون على وجوبِ سترِ وجه المرأةِ وكفيها، إذا وجدت الفتنةُ وقامت أسبابها ، فبربكم أيُّ فتنة هي أشدُّ من فتنةِ النساء في هذا الزمان؟!! حيثُ بلغت وسائلُ الفتنةِ والإغراء بهنَّ مبلغاً لم يشهدهُ تاريخُ البشريةِ من قبل، وحيث تفنن شياطينُ الأنس في عرضِ المرأة بصورها المُثيرةِ في كلِّ شئ، في وسائلِ الأعلامِ المقروءةِ والمسموعة والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائلِ الدعايةِ و المكرِ والخداع ، فمن قال بعد ذلك إنَّ كشف المرأة عن وجهها، أو شئٍ من جسدها لا يثيرُ الفتنةَ فهو والله مغالطٌ مكابر، لا يوافقهُ في ذلك من لهُ مسكةٌ من دينٍ أو عقلٍ أو مروءة .
وإذا تبين ذلك فلنعلم أيضاً أنَّ هذا القدر من الخلاف بين العلماء بقي خلافاً نظرياً إلى حدٍ بعيد، حيثُ ظلَّ احتجابُ النساءِ هو الأصلُ في الهيئةِ الاجتماعية، خلالَ مراحلِ التاريخِ الإسلامي، كما قال شيخ الإسلام : (كانت سنة المؤمنين في زمن النبيe أنَّ الحُرة تحتجب)
وقال الإمامُ الغزالي : (( لم يزل الرجالُ على مرِّ الزمان مكشوفي الوجوه، و النساءَ يخرجن متنقبات )) 0
أيَّها المسلمون :
إنَّ المتأملَ في حال المتبعين للشهواتِ اليوم، ليأخذهُ العجبُ و الحيرةُ من أمرهم ، فمالهم وللمرأةِ المُسلمة التي تقرُّ في منزلها، توفرُ السكنَ لزوجها، وترعى أولادها، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصينِ تؤدي دورها الذي يُناسبُ أنوثتها و طبيعتها ، ماذا يُريدون من عملهم هذا، ثُمَّ ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخيرِ والدين؟! والخصالَ الكريمة؟! ماذا يُريدون من إفسادهم وتسليط برامجَ الإفسادِ المختلفةِ عليهم؟! هل يُريدون جيلاً مُختلاَّ يكونُ وبالاً على مجتمعه، ذليلاً لأعدائه ، عبداً لشهواته، إنَّ هذه هي النتيجة، وإنَّ من يسعى لهذه النتيجةِ التي تتجهُ إليها الأُسرُ المسلمةِ اليوم لهوَ من أشدِّ الناس خيانةً لمجتمعهِ وأمتهِ وتاريخه ، وإنَّ من عندهُ أدنى مروءةٍ ونخوةٍ فضلاً عن الدين والأيمان، لا يسمحُ لنفسهِ أن يكونَ من هؤلاءِ الظالمين المفسدين.(1/1089)
ثُمَّ أنتم يا مسلمون يا صالحون، يا أهلَ الشرفِ و الحياءِ و المروءةِ، كونوا يقظينَ لما يطرحهُ الظالمون لأنفسهم و أمتهم، من كتاباتٍ وحواراتٍ مؤداها إلى سفورِ المرأة و اختلاطها بالرجال، فما دامت المدافعةُ بين المصلحين و المفسدين، فإنَّ اللهَ عز وجل يقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فإذا هو زاهق.
يا مسلمون :
ينبغي أن لا ننسى في خضمِ الردودِ على ما يكتبهُ المفسدون من الشُبهات والشهوات، ذلك السيلُ الهادرُ الذي يتدفقُ من وسائلِ الأعلامِ المسموعةِ و المرئية في بلاد المسلمين، وذلك بما تبثُّهُ من دعواتٍ للمرأةِ إلى السفور، ومزاحمةِ الرجال في الأعمالِوالطرقات، عبر القصةِ والمسلسل والبرامج الحوارية، والمقابلاتِ والبرامجِ الغنائية ، ولقد ضربت هذه الوسائلُ بأطنابها في بلادِ المسلمين، فكان لزاماً على كلِّ غيورٍ محاربتها وإبعادها عن بيتهِ قدر الاستطاعة .
يا مسلمون :
ربُّوا نساءَكم وبناتكم على حُبِّ الحجابِ والتعلقِ به منذُ الصغر، ومن وسائلِ ذلك تحصينهنَّ الحصانةَ الفكريةِ و الأخلاقية، بأن تعلمَ المرأةُ المسلمة أوضاعَ المرأةِ الغربية، والإسفاف النفسي الذي وصلت إليه، وتعتيم الغزو لأوضاعها، وأحياناً قلبُ مفاسدها وانحرافاتها إلى فضائلَ و تكريم0
إننا لا نُريدُ المرأةَ المتحجبةِ تقليداً وعادةً تشعرُ مع الحجابِ بالضيقِ والحرج ، وتتخلى عنهُ لأدنى شبهة أو شهوة.
نريدُ المرأةَ المسلمة التي ترى في الحجاب عزاً وشرفاً، وترى في الحياءِ سلوكاً وخلقاً، نريدُ المرأةَ التي تتحجبُ استسلاماً لله ، ورضاً بشريعتهِ، وخضوعاً لحكمه، وتتمثلُ قولَ الحقِّ: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )) (الأحزاب: من الآية36) 0
لا نريدُ المرأةَ المتحجبةَ المتخلفة، فإنَّ الدعوةَ إلى فريضةِ الحجابِ والعودة إليه، لا بُدَّ أن تُواكبها دعوةَ القائمين بأمرِ المرأة، إلى أن يؤدوا لها فريضة تحرير عقلها من حُجبِ التضليل والجهل والتخلف، وتِلكم مسئوليتكم أيُّها الأولياء، فاتقوا الله، وقوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
أقولُ هذا القول .
الخطبة الثانية
فإنَّ دُعاة تغريرِ المرأةش وتدميرها، ما فتئُوا يستغلون الظروفَ و الأزمات، لبثِّ أفكارهم العفنة و الدعوة إليها، وهُم في دعواتهم المتكررةِ لكشفِ المرأةِ وجهها، باعتبار ذلك خطوةً نحو تبرجها و سفورها، يعمُدون إلى وسائلَ متعددة، فتارةً من خلالِ الأفلام والمسلسلات،وتارةً من خلالِ الحفلاتِ و المهرجانات، وأُخرى من خلالِ الإعلاناتِ التجارية، و التي تُبرزُ الرجلَ حالقاً للحيته، و المرأةُ كاشفةً وجهها، باعتبارهم يُمثلون المجتمع السعودي،حتى يستمرئُ الناس ذلك و يألفونه .(1/1090)
وآخرُ خطواتهم في ذلك، دعواتهم منذُ سنواتٍ عبرَ الكتاباتِ الصحفيةِ، لاستقلالِ المرأةِ ببطاقةٍ تحملُ صورتها، بحجةِ أنَّ ذلك يحمي حقوقها ، ويثبتُ شخصيتها، ويقضي على صورِ التزوير، حتى تحولت دعواتهم إلى واقعٍ عملي، استرضي به حفنةً، واستغضبت به أمة.
ونحنُ إذ نُقدرُ للمسؤولين حرصهم على أمنِ البلدِ وحمايةِ حقوق ساكنيه، و نُثمنُ لهم خطواتهم لتحقيق ذلك، فإننا يجبُ أن نعلمَ أنَّ الله لم يجعل شفاءَ أمةِ محمدٍ فيما حرم عليها ، وإننا إذ نقفُ مع كلِّ خُطوةٍ تحققُ للبلد أمنهُ و استقراره، فإنَّهُ يجبُ أن نُدركَ أنَّ هُناك أمناً لا يمكنُ التفريط فيه، ألا وهو الأمن الأخلاقي .
إن أمتناعنا عن بطاقةِ المرأةِ ليس تحجراً و لا تعنتاً، و لا من بابِ المشقةِ، بل هو نظرٌ مصلحي، ومبنيٌّ على موازنةِ المصالح و المفاسد منها ، وسدَّ باب الذرائع قاعدةً شرعيةً متقررةٌ في القرآنِ والسنة، وعليها عملُ سلف الأمة ، و بنظرٍ مُتجردٌ من الأهواءِ و العواطف، والتأثيراتِ الإعلامية، سيُدركُ كلَّ صاحبَ عقلٍ أنَّ مفاسدها راجحةً على مصالحها، و إثمها أكبرُ من نفعها .
إنَّهُ نظراً لتعلقِ البطاقةِ بالمرأة، وهي عرضُ المسلم و شرفه، فإنَّ مثلَ هذهِ الأمورِ لابُدَّ أن تُقدر فيها مشاعرُ الغيرةِ لدى الناس، وليس الميزانُ في ذلك رضى البعض بها ، بل النظر هنا لمن يُوقعون عن اللهِ، وهم الذين أمرَنا اللهُ بالرجوع إليهم، وهم علماؤُنا الإجلاء، والذين قرروا بالإجماعِ في جلسةٍ لهيئةِ كبار العلماءِ أنَّ المصلحةَ الراجحةُ تقتضي بالمنعِ من ذلك ، وكذا بيانَ اللجنةِ الدائمةِ للإفتاء، والتي عدت المُطالبة ببطاقةِ المرأةِ من الأفكارِ المضللةِ للمجتمع .
ولابد أن نعلم أيُّها المسلمون أموراً منها :
أولاً : أن بطاقة المرأةِ وفيها صورتها خطوةً نحو حصولها على رخصةِ قيادة، مما يفتحُ البابَ لقيادتها للسيارة، وهو ما يطمحُ إليه دُعاة التغريب و الضلال .
ثانياً : أن مسوغات صرف البطاقةِ للمرأة غير مقنعةً البتة، سواءً في دعوى حفظِ حقوقها وكرامتها، أو رفع الظلمِ عنها من ذويها، وذلك لوجودِ بدائلَ متاحةً حالياً، وكافيةً لحفظِ حقوقِ المرأةِ المالية أو المعنوية ، والبطاقةُ لا تمنع الولي من ظلمهِ لزوجته أو ابنته أو أخته، والذي سيسلبها حقوقها، سيسلبها بطاقتها ، فأيُّ شئٍ ستحققهُ البطاقة للمرأة ، ورقم سجلِّها المدني، يحققُ لها حقوقها المدنية، و سجلاتها المستقلة سواءً كانت سجلاتٌ أمنية، أو تجارية، أو إحصائية.
ثالثاً : تصويرُ المرأة لوجهها في بطاقةٍ يُشاهدها الرجالُ في المحاكم، و الدوائر والمطارات،ونقاط التفتيش وفي الفنادق وغيرها، سيرفعُ الحاجزُ النفسي عند المرأة، وسيُجرئها على كشفِ وجهها في كلِّ مكان، ومن هُنا تنشأ المفاسد، وتكثرُ المخالفات الأخلاقية 0
رابعاً : مع ما في بطاقة المرأة من إضعافٍ لقوامةِ الرجل على أهله، حينما يصيرُ لدى المرأةِ شعورٌ بالاستقلالية، فإننا إذا سلمنا بأهميتها أمنياً، فما المبررُ لصورتها، رغم أنَّ الإثبات بالصورةِ من أسوءِ(1/1091)
وسائل الإثبات، في زمنٍ تطورت فيه وسائلُ التزوير ، ومعلومٌ أنَّ الصورةَ تتغيرُ كلَّ حينٍ عند الرجال، فكيف بالمرأةِ التي تتغيرُ في اليومِ أكثر من مرة .
إذا سلمنا بالحاجةِ إلى البطاقة أمنيا،ً فإنَّ في وسائلِ الإثبات الحديثةِ من بصماتٍ وعدساتِ عينٍ ما يُغنى عن هذه الخطوةِ الخطيرة ، والتي تعتبرُ بدايةً لخلعِ الحجاب ، فلا تسأل عن انكسارِ عيونِ أهلِ الغيرة، وتقلصِ ظل الفضيلة، و انتشارِ الرذيلةِ وشيوعِ التبرج والسفور 0
وإننا أيُّها المسلون لنتساءل : ماذا لو فقدت امرأةٌ بطاقتها و فيها صورتها؟! فعثرَ عليها أربابُ الشهوات! فجعلوا منها وسيلةً للمساومةِ على عفافِ المرأةِ و شرفها ؟ 0
وماذا لو عثرَ عليها المفسدون؟! فتفننوا في وضعها بأشكالٍ مُزريةٍ فاضحةٍ عبر شبكةِ الإنترنت؟! فهناك الفضائح و المخازي .
إنَّهُ يومَ أن تصورَ المرأةُ و تكشفُ وجهها ليراها كلَّ موظفٍ ومسؤول، حينها ترقبوا أن يكون حديثُ المجالس، ما أجملَ امرأةَ فلان!! وفلانٌ زوجتهُ ليست بذاك!! و حينها ارتقبوا خللاً أُسرياً، و تفككاً عائلياً، ومشاكل اجتماعيةٍ لا حصر لها .
وإنَّ لنا أن نتساءلَ و نسألَ أولئك الكُتاب والكاتبات، من المستغربين والمستغربات ، أدينُ الله يبغون؟! وبشريعتهِ يرضون ؟ إذاً فقد قال العلماءُ كلمتهم، وأصدروا حُكمهم، فلماذا لم تأخذوا بحكمهم ؟ أم أنَّهم غيرَ دين الله يبغون؟! وبحكمِ الجاهلية يرضون ؟ إن كانوا يؤمنون بالديمقراطيةِ، وأنَّ الرأي للأغلبية، فإنَّ غالبَ رجالَ الأمة و نساءَها، لا يرضون مثل هذه الخطوة الخطيرة، فلماذا لم يؤخذُ رأيهم بالاعتبار ؟ وبأيِّ حديثٍ هؤلاءِ يؤمنون ؟ 0
وإنَّ لنا أن نتساءل : المسؤولون يُريدون من البطاقةِ تحقيقُ مطلبٍ أمني ، ولكن أرباب الشهواتِ و دُعاةِ الضلالِ جعلوا منها وسيلةً للتشفي و التحدي، وإغاضةِ أهل الغيرة والصلاح، فهذا أحدهم يرسمُ في جريدةٍ صورةَ لبطاقة امرأةٍ وسماها، ( إنسانة بنت الوطن ) لأنَّها كانت قبل البطاقة في نظرهِ حيواناً لا قيمةَ لها، ولو كانت الصالحة القانتة، ويرسمُ معها رسماً لامرأة ترفعُ يديها بعلامات النصر، وكأنَّ المرأةَ قبل ذلك مقهورةً مظلومة .
وآخر يرسمُ رسماً يُعنونَ له ( الخاسرون في بطاقة المرأة ) ويرسمُ تحتهُ صوراً لأشخاصٍ أشكالهم قبيحة، وفي هيئةٍ مُقززة، وقد حفوا شواربهم، وتركوا لحاهم، وهُم ثلاثُ أصناف : المجرمون، النصَّابون ، والمزورون.
فياليت شعري : هل البطاقةُ مطلبٌ أمنى، أم هدفٌ علماني ؟
و إنَّ لنا أن نتساءل: لماذا لا تظهرُ الخفافيشُ إلاَّ في الظلام ؟ لماذا لا تُصدرُ هذه الدعواتِ الآثمة، والتي تفرقُ الصف، وتشتتُ الشمل، وتوغرُ الصدور، إلاَّ زمن الأحداثِ والأزمات، حيثُ تشتدُّ الحاجةُ إلى وحدةِ الصف، واجتماع الكلمةِ، ووقوفَ الرعية مع رعاتها، ولكنهُ النفاق والمنافقون (( لَوْ خَرَجُوا(1/1092)
فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (التوبة:47) .
وأخيراً أيُّها المسلمون :
إنَّ من حقِّ ولاتنا علينا، ومن حق هذا الوطن، وإنَّ من مقتضياتِ الغيرةِ على دينِ الله، وعلى حُرمات المسلمين، أن نبينَّ للمسؤولينَ الخطر الماحق، الذي سينشأُ من هذه البطاقة، وأن نقفَ جمعياً في خندقِ الإصلاح، ضدَّ كلِّ دعوةٍ تستهدفُ هدمَ جدارنا الأخلاقي، وزعزعةَ ثوابتِ الأمة .
إننا نتطلعُ أيُّها المسلمون إلى أن تكون غيرتُكم جبلاً، تتحطمُ عليه كلَّ نصالِ دعاةِ الضلال، وأن لا تكونَ غيرتكم جداراً من ورق، ينهارُ عند أدنى طمعٍ دنيوي، أو شهوةٍ مادية . نحنُ لا نريدُ المجتمع الذي يقتلُ الحسينَ ويسألُ عن دمِ البعوضة، لا نُريدُ الجيلَ الذي يأنفُ أفرادهُ من ذكرِ أسماءِ نسائهم في المجالس، و يسمحُون بصورهنَّ تتداولُ في كلِّ مكان .
قد قلتُ ما قلتُ نصحاً للهِ و لدينه ولأئمةِ المسلمين وعامتهم ، وغيرةً على هذا الوطن و أهله ، ومساهمةً في تحقيقِ المواطنةِ الحقيقية، وما أريدُ إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقي إلاَّ بالله، عليه توكلتُ و إليه أنيب .
اللهمَّ احفظ بلادنا و أهلها، و دُعاتها ورعاتها، من كيدِ الكائدين، وحسدِ الحاسدين، ودعوات المفسدين
ــــــــــ
الإيجابيات في زمنِ التحولات والانتخابات
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينه ونستغفره ...
أخوة الإسلام :
من محسوساتِ العقلِ أنَّ الزمانَ يتغيرُ، ومن مُدركات الواقعِ أنَّ الحياةَ لا تدومُ على حال، ومن مُوجبات الشرعِ أنَّ الناسَ يُبتلون بالسراءِ والضراء، ويمتحنون بالشرِّ والخير ، وأنَّ الهداية على قدرِ المُجاهدة ، وإذا كنتم تُقصرون في واقعِ حياتكم تغيراً في كلِّ يوم بل وفي كل لحظ ، فثمة سرورٌ وأحزان ، وغني وفقرٌ ، وصحةٌ وسقمٌ ، وخيرٌ وشرٌ ، ونصرٌ وهزيمة ، وأمواتٌ وأحياءٌ، ومحالٌ في هذهِ الحياة أن تستقيمَ للإنسان الظروفُ وأن تُخلد في نعيم، وأن يتلبس بصحةٍ إلى الأبد، فمحالٌ ذلك والله يقول : (( لقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ)) (البلد:4) .
إن كان هذا شأن واقع الحياة فاسمعوا إلى نصوصِ الشرعِ في توصيف طبيعةِ الحياة، يقول ربنا (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيناْ تُرْجَعُونَ)) (الأنبياء:35) .
((آلم،أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) (العنكبوت :1- 2)
(( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)) (النور:44)(1/1093)
(( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (العنكبوت:64)
إنَّ الناسَ قد يتساوون في إدراكِ هذهِ الحقيقة المتغيرةِ للحياة والأحياء، ولكنهم يتفاوتون في أسلوبِ التعامل معها ، واستخلاص الخيرِ منها، وجلبَ المنافع، ودفع الشرور ورفض المآثم ، والاجتهادَ في حُسن العمل ، والخلاص من تلكم هي قيمةُ الحياة ، والهدف من الوجود (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك:2)
والعبادةُ حين تكون الهدف من وجودنا (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذريات:56) .
فهذه العبادة أنماطٌ وأشكالٌ يمارسها العبدُ حين يُصلى، وحين يبيع ويشتري ، وحين يعملُ أو يتعامل ، وحين يتحدثُ أو يكتب ، ويحن يُجاهد أو يتصدق المسلمُ يُمارس العبادة في المسجد والمنزل ، وفي الوظيفة والسوق، في السفرِ والحضر ، وفي حالِ الخلوةِ أو الاجتماع . والشهودُ حاضرون، والإحصاءُ دقيق ، وكتابُ ربي لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، والعبدُ ما يلفظُ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد.
عبادَ الله :
وثمةَ سؤالٍ مهمٌّ يقول : كيف يتعاملُ المسلمُ مع متغيرات الحياة؟ أن تكون لغة الرفض هي الحل ؟ أم يكون القبولُ المطلق والتسليم ؟ أم هناك موقف وسطٌ راشد؟ وإيجابية تأخذُ المصالح وتنميه وتدعمه . وترفضُ الطالح ويجاهدُ في مدافعته .
إنَّها الإيجابيةُ والمجاهدةُ والسعيُ للإصلاح والوقوفُ في وجهِ الفساد، تلك هي المرتبةُ العلية التي رُبما تقاصرت عنها هِممُ الكثيرين، ما بين مُستسلمٍ سلبي مفتون، وما بين رافضٍ قاعدٍ عن العمل ، يحسبُ أنَّ الرفض كافٍ لأداءِ الواجب،
لقد علّق سُبحانه الهدايةَ بالجهاد في قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) (العنكبوت: من الآية69) .
وعلّق عليها ابنُ القيم فقال : فأكملُ الناسِ هدايةً أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهادُ النفسِ، وجهادُ الهوى ، وجهادُ الشياطين، وجهادُ الدنيا ، فمن جاهد هذهِ الأربعة في اللهِ هداه اللهُ سُبلَ رضاهُ الموصلةَِ إلى جنته، ومن ترك الجهادَ فإنَّهُ بعيدٌ من الهدي بحسبِ ما عطّل من الجهاد ( الفوائد / 62 ) .
وإذا تجاوزنا فئةَ المفتونين المستقبلين لكل سوء، ولعلهم في مُجتمعنا قليل ، فالأكثريةُ هم من يرفضون الشرَّ والفساد، ولكنَّهم يتفاوتون بين رافضٍ سلبي لا يملك إلاَّ الرفض،َ وبين رفضٍ إيجابي يُفكِّرُ في المخارج، ويبحثُ عن الحلول، ويتلمسُ سبُلَ الخلاصِ ليُنجي نفسهُ ومجتمعهُ من كلِّ فتنةٍ وافدة، ذاك هو المعول، وهذا الصنفُ هم الأقلون ولكنَّهم المباركون، فأينَ نحنُ منهم ؟(1/1094)
إنَّ نفراً من الناس يشغلون أنفسهم بالتُّهم للأشخاص، والإسقاطِ لكلِّ فكرةٍ واردة ، والشغبِ على كلِِّ جديدٍ لم يألفوه، والرفضِ لكِ مستحدث - وإن كان فيه نفعٌ وخيرٌ- وهذه المواقفُ المز حيةِ للفراغ ، والمُفرَّغة للطاقة دون جدوى، ينبغي أن تكون شعاراً للأخيار، ولا دثاراً للمصلحين .
إنَّها سهلةَ التناولِ، بسيطةَ التكاليف ، ولكهنَّا ضعيفةُ الأثر، محدودةَ النتائج .
أمَّا الإيجابيةَ الدافعةِ إلى خوضِ غمارِ المعركةِ بسلاحِ العلم والإيمان واليقين. والمشتملةِ على برامجَ ومشاريعَ نافعةٍ، فتلك التي دُونها خرقُ القتاد .
أيَّها الناس :
مجتمعنا - كغيرهِ من المجتمعات - ينفتحُ ولكن كيفَ تكونُ الإيجابيةُ في ترشيدِ الانفتاح، ومجتمعنا - كغيره - يمرُّ بتحولاتٍ سريعة، فكيف نُساهمُ في ضبطِ زمامِ هذه التحولات ؟
ومجتمعنا - كأيِّ مجتمعٍ - تتزاحمُ فيه الفرصُ، فمن يُبادرُ إليها ويسبقُ إلى استثمارها ؟
عبادَ الله :
حديثُ الناسِ في هذهِ الأيام - الانتخاباتُ البلدية - وتساؤلاتُهم، هل يُسجلون ومن يُرشحون؟ ومن ينتخبون ؟ .
وهذه التجربة ُالتي تمرُّ بها بلادُنا ينبغي أن تُستثمرَ لصالحِ البلادِ والعباد ، وأن يتطَّلعَ الناسُ إلى الهدفِ الأسمى منها، ولا ينشغلون بشكلياتٍ ومظاهرَ بسيطةٍ بصورتها المعاصرة .
الانتخاباتَ البلدية بصورتها المعاصرةِ، تجربةً وافدةً، يُمكنُ الاستفادةُ منها بعد تهذيبها وتخليتها ممَّا علقَ بها من بيئتها، ومحضنِِ تجربتها ، فلا غِشَّ ولا تزوير، ولا كذبَ ولا مُخادعة، ولا تعدٍ على حقوقِ الآخرين، أو محاولةٍ لإسقاطِ الأكفاءِ المنافسين .
الانتخاباتَ البلديةِ ليست استعراضاً عشائرياً، أو تسابقاً قبلياً، ولكنَّها اختيارٌ للأمثلِ وإن كان الأبعد .
الانتخاباتِ البلديةِ شعورٌ بالمسؤولية المستقبلية، وسعيٌّ صادقٌ لتحقيقِ أعلى قدرٍ ممكنٍ من احتياجات المواطن ، ورعايةَ مصالحهِ، وتأمينَ حقوقهِ، وليست مجرد ظهورٍ إعلامي ، أو منصبٍ استشرافي ، أو إثباتٍ للذات ليس إلاَّ ؟ .
قبل أن تُسجَّل سل نفسك لماذا تُسجل؟ ومن سترشح؟ ما مقدارُ تَمثِّلك الأمانةَ والتزامَك بالصدق ، إنَّها نوعٌ من التزكيةِ، فمن تُزكي؟ وهي نوعٌ من الشهادةِ، فعلى ما تشهد ؟ .
لقد كان للمسلمين سبقٌ في الشورى ، مارسوهُ في عصورهم الزاهية، فضربوا أروعَ الأمثلةِ في تحقيقهِ، ورسولُ الهُدى( صلى الله عليه وسلم ) وقائدُ الأمةِ رُبما تنازلَ عن رأيهِ نزولاً عند رأي الأكثريةِ من المسلمين، ما لم يكن في ذلك نصاً أو مأثماً .(1/1095)
ومارس المسلمون بعدهُ - صلى الله عليه وسلم- المشورةَ واختيارَ الأمثل للمسلمين في ولايتهمُ الكُبرى والصغرى، فضربوا في ذلك أروعَ الأمثلةِ في الصدقِ والتحري، واختيار الأكفاء ، وكان مرشحُوهم عند حُسنِ الظنِ صدقاً وعملاً وإخلاصاً، ومارس المسلمون ( الاقتراع ) ، فكانوا مِثالاً في الإيثارِ والبذل، وشهدَ القرآنُ أنَّهم يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، لم يكن هذا في سِلمهم فحسب، بل وفي حربهم كانوا نماذجَ للإيثار، فشربةُ الماءِ للجريحِ النازف، رُبَّما دارت على أكثر من مجاهدٍ قعدت به الجراحُ عن مواصلةِ الجهاد ، فظلَّ هؤلاءِ الجرحى يتدافعون هذه الشربةِ، ويُؤثرون بها غيرهم، حتى استشهدوا جميعاً ولم يشربها أحدٌ منهم
إنَّهُ البُعد عن الشُّحِ والانعتاقِ من الأنانيةِ، تتجلى في أسمى معانيها ، فتتعانق مرتبةُ الجهادِ في سبيل الله مع خُلق الإيثارِ النبيل، ولو كان بأصحابهِ خصاصة .
تُرى كم يدركُ المسلمون ما في دينهم من سمُوِّ الأخلاق، وكريمِ السجايا؟ وكم يبحثون في تاريخهم ليروا نماذج من الشرِّ كانت أجسادهم جسوراً عبرَ عليها الإسلامُ إلى أممِ الأرض، وكانت في موتهم حياةٌ للآخرين، وكان جهادُهم عدلاً وحريةٌ للمظلومين !
(( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)) (الأحزاب:23) .
الخطبة الثانية
أيَّها المسلمون :
مؤهلاتُ الترشيحِ لأيِّ مسؤوليةٍ كثيرةٍ ومتكاملة ، وعلى قدرِ كبرِ هذه المسئوليةِ تزيدُ هذه المؤهلاتُ، وإذا كانت المُصداقيةُ والتقوى والصلاحُ، والنزاهةُ مؤشراتٍ مهمةٍ للترشيح، فلا بُدَّ أن يُضاف إليها القوةُ والسياسة والحكمة، والمعرفةُ والعلمُ بمتطلبات هذه المسؤولية، ويُرشدُنا كتابُ ربنا إلى شيءٍ من هذا ، فيوسفُ - وهو نبيُّ اللهِ حين تقدمَ لولايةِ خزائنِ الأرض، قدَّمَ بالقول ((إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)) (يوسف: من الآية55) ومارسَ فيما بعد سياسةَ الاقتصادِ بنجاحٍ واقتدار ، ومن مشورتهِ (( حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)) (يوسف: من الآية47) .
وثمَّةَ توجيهٌ قرآنيٌّ إلى أهمِّ عناصرِ التولية والاستئجار، (( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين)) (القصص: من الآية26)
وفي مخزونِ السُنةِ والسيرةِ النبوية، توجيهٌ وإرشادٌ وتقديرٌ للمواهب والقدرات ، ووضعٌ للرجلِ المناسبِ في المكانِ المناسب ، فأبو ذرٍّ -رضي الله عنه- نصحهُ النبي- صلى الله عليه وسلم- ألاَّ يتولى المسؤوليةَ حين قال يا رسول الله: ألا تستعملني ؟ فضربَ رسول الله على منكبِ أبي ذر،(( وقال : يا أبا ذر، إنَّكَ ضعيفٌ وإنَّها أمانة ، وإنَّها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامة، إلاَّ من أخذها بحقِها، وأدَّى الذي عليه فيها )) ( رواه مسلم ح 1825 ) فهذا أبو ذرٍ لا يُضيرُه ألاَّ يوليهِ رسول الله - صلى الله عليه(1/1096)
وسلم- لمسؤولية، وإن كان أصدقُ الناسِِ لهجةً ، واعظهم زُهداً، فما هو ضعفُ أبي ذر ؟ قال الذهبي في تفسيرِ ضعفِ أبي ذر: فهذا محمولٌ على ضعفِ الرأي ، فإنَّهُ لو وُلِّيَ مالَ يتيمٍ لأنفقهُ كلّهُ في سبيلِ الخيرِ ولتركَ الفقيرَ فقيراً، والذي يتأمرُ على الناسِ،ِ يُريدُ أن يكونَ فيه حلمٌ ومداراةٌ ، وأبو ذرٍ- رضي الله عنه- كانت فيه حِدَّة ، فنصحهُ النبي-صلى الله عليه وسلم-( ألاَّ يتولى أمرَ الناسِ ) ( السير 2/75 ) .
وإذا كان هذا توجيهُ النبي- صلى الله عليه وسلم- لواحدٍ من أصحابهِ النُجباءَ والسابقين إلى الإسلام .
فقد وجَّهَ أحدَ أصحابهِ - وهو بعدُ حديثُ عهدٍ بالإسلام - إلى أن يقودَ سريةً فيها من أمثالِ أبي بكرٍ وعُمر، وأبي عبيد ةَ وأمثالهم- رضي الله عنهم- أجل، لقد أمرَ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- عمرو بن العاص- رضي الله عنه- على سريةِ ذاتِ السلاسل، في السنةِ الثامنةِ للهجرة ، ولم يجد الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- ولا صحابته في أنفسهم شيئاً لتأميرِ المفضولِ مع وجود الفاضل ،إنَّها القدراتُ تُستثمر، والرجلُ المُناسبُ يُوضعُ في المكانِ المناسب، ولا يعني ذلك بحالٍ الأفضليةِ المطلقةِ للأميرِ ولمن وُلي ، ولا التقليلُ من شأنِ المأمورِ ومن وَليَ عليه، ما لنفقهَ هذه المعالمَ النبويةِ في ولاية، والتعاملُ مع القدارت .
إنَّهُ صلاح الذات ليس مؤهلاًً - وحدهُ - لتولي أمورِ الناسِ كما أنَّ صاحبَ المطامعِ الشخصية ، وضعيفَ الأمانة ، ورقيقَ الديانة لا يُولَّى ولو كان خبيراً بالسياسة ، قادراً على القيادة ، ومن هُنا نعودُ إلى القرآنِ لنجد فيه شرطين مهمين لمن يُولي ويُستأجر (( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)) (القصص: من الآية26) فالقوةُ والأمانةُ جناحانِ يطيرُ بهما من رُشِّح لولايةٍ في الإسلام إلى برّ الأمان، ومراقِ العزةِ والكرامة ، وتحقيقِ العدل والسعادة ، وفي مجتمعٍ كمجتمعنا الأصلُ فيه الخير ، والغالبيةُ همُ الأخيارُ لدينا، فُسحةٌ في اختيارِ الأمثلِ من الأخيار.
يا أيَّها المُشرحُ لنفسك :
أعقل هذه الوصايا ، وقدِّر هذه الأمانة ، واعلم أنك مسؤولٌ ومُستأمن ، ولا يغب عن بالك أنَّ ثقةَ الناسِ بك لا تكونُ بنصبِ الخيام الفارهة، ولا باستئجارِ القصورِ الفخمةِ ، ولا بتوفيرِ الموائدِ المتنوعة، كلاَّ .
إنَُّ الواثقَ من نفسهِ لا يحتاجُ لمثلِ هذا، قدر ما يحتاجُ إلى تفكيرٍ مستديمٍ في شُغل هذه المسؤوليةِ بما ينفعُ البلاد والعباد ، ولا يُطلبُ من المرشحِ وعودٌ كلامية، وبرامجٌ مثالية، تتطايرُ كالهباءِ عند أوَّلِ وهلةٍ من محطاتِ الطريق !(1/1097)
إنَّ الواقعيةَ مطلبٌ ، والمصداقيةُ شرطٌ للمرشح ، ولا بُدَّ أن يكونَ المرشحُ عند حُسن ظن من رشحوهُ بتنفيذِ ما وعد به ، حتى يعلمَ الناسُ ما أنجزَ وحدودَ صلاحياته ، وما لم يُنجز، وهي من صلاحيات غيره .
أيَّها السادةُ المرشحون :
تجاوزوا في ترشيحاتكم حدودَ العشيرةِ، ودائر القبلية ، والأهواءَ الشخصية ، وضعوا الأمانةَ في موقعها ، واختاروا الأكفاءَ الناصحين، الأقوياءَ الأُمناء ، ألا وإنَّ الترشيحاتِ لوحةٌ كاشفةٌ لتوجهاتِ المجتمع ، ومؤشرٌ لوعيهم ، ومحددةٌ لنوع ثقافتهم، فليكنِ المرشحون من خيارِ الناس عدلاً وحكمةً ودرايةً ، إنَّ وضعَ الرجل المناسبُ في المكانِ المناسبِ هو عينُ الحكمةِ، ومن الظُلمِ أن نضعَ الرجل في غيرِ موضعه ، واللهُ كما قسَّم أرزاقَ الناسِ وأخلاقهم، قسَّم كذلك قدراتهم ومواهبهم .
عباد الله :
ومرةً أُخرى، بلادنا تمرُ بمرحلةٍ انتقاليةٍ، فلنكن إيجابيين وفاعلين ، ولتكن قدرتَنا على استثمارِ هذه التجربةِ الانتخابية، لوحةً كاشفةً لعظمةِ إسلامنا ، وموقعِ بلادنا وما يتطلعُ إليه المسؤولون منَّا ، وما تتطلعُ إليه أبناءَ مجتمعنا ، وفَّقَ اللهُ الجميعَ لما يحبُ ويرضى، وسدد الخُطى ، وباركَ اللهُ في جهودِ المُخلصين ، وأعانَ ووفق من أضمرَ الخيرَ للإسلام والمسلمين
ــــــــــ
الغيرة على دين الله
الحمد لله ذي الكرمِ والجود ، أحمدهُ وأشكره، وأعبدهُ وهو خيرُ معبود ، وأشهدُ أن لا إله إلاِّ الله وحدهُ لا شريك له، إنَّهُ هو الغفورُ الودود ، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله خيرُ من صلى وصام، وجاهدَ واستقام، وأوفى بالعقودِ- صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، من القائمين والصائمين، والركع السجود وسلم تسليماً.
أمَّا بعد.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) (المائدة:54) .
بعيداً عن جوِّ هذا الزمان القاتم بغبارِ الالتزام الأجوف ، والمشوه بغترِ السلبية المُفرطة ، والمظهريةِ الجوفاء ، نحلقُ في فضاءِ الجيل السالف المعطر بورودِ الإيجابية ، ونتفيؤ ظلالَ شجرةِ البذلِ والعطاء، والتضحيةِ والفداء .
نعودُ بذكرياتنا إلى الصورِ الرائعة، لسلفِ هذه الأمة، حيث يتجلى الإيمانُ الحقُّ، وتبرزُ حقيقة الهمِّ لهذا الدين .(1/1098)
تنقلنا الذاكرةُ إلى سوق بني قينقاع، حيثُ يعتدي يهودي على امرأةٍ مسلمة، ويكشفُ عورتها، فتثورُ ثائرة مسلمٍ ويأبى الدنية في دينهِ، وينهضُ بكلِّ عزةٍ وإباء، ويقتلُ ذلك اليهودي رغمَ أنَّهُ بين أهلهِ وقومه .
إلى موقفِ شابٍ لم تمنعهُ حداثةُ عهدهِ بالزواجِ، من الاستجابةِ لداعي الجهاد، فيخرجُ من زوجهِ وهو جنب ليلقى ربه شهيداً في أحد، فيحظى بتغسيلِ ملائكةِ الرحمة، ويُلقبُ بغسيلِ الملائكة، إنَّهُ حنظلةَ بن أبي عامر .
إلى موقف امرأةٍ مسلمةٍ تُشاهد استعدادات المسلمين، وبذلهم لتجهيزِ جيشِ المسلمين في إحدى المعارك، فلا تجدُ ما تُساهم به إلاَّ أن تقص شعرها، وتجعل منهُ ظفائرَ لخيلِ قائد جيش المسلمين، إلى مجموعةٍ من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفعهم الحماسُ للدين إلى أن يأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسألونهُ أن يحملهم للجهاد ، ولمَّا لم يجد ما يحملهم عليه، تولوا وأعينهم تفيضُ من الدمعِ حُزناً ألا يجدوا ما يُنفقون، إلى موقف عُمير ابن أبي وقاص وهو شابٌ لما يبلغ الحُلم، يختفي في أحدَ المعاركِ خلف الرجال، حتى لا يراهُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيرده ، ولما رأه- عليه الصلاة والسلام- وردَّهُ جعل يبكي، فأشفق عليه المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وأذن له بالجهاد، فعقد لهُ أخوهُ سعد حمائلَ سيفهِ، فجعلت تخط في الأرض .
إلى عبد الله بن حذافة السهمي، وهو مأسوراً عند الروم، فيجوعُ ويعرضُ عليه الخمر ولحم الخنزير، فيأتي ويقول : أما إنِّي أعلمُ أنَّها قد حلت لي بالضرورة، ولكن كرهتُ أن أشمتكم بالإسلام .
إلى وإلى ما لا يحصر، والصورُ المثاليةِ التي تذكر فيهتزُ لها القلبُ طرباً وشوقاً إلى أمثالها .
إنَّ موقفَ هذا وذاك، وتلك وأولئك، ينطلقُ من شعورٍ واحد، هو الغيرة على هذه الدين، والإحساسُ بالمسؤولية، والحميَّة للمبادئ التي آمنوا بها.
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله وحُرما ته، من صفاتِ المؤمنين الأعزاء، فهي من مقتضياتِ الإيمان، تقوى بقوته وتضعفُ بضعفه ، وتفقدُ الغيرة حيثُ لا يكون القلبُ مؤمناً، وفي الحديث : (( المؤمنُ يغارُ واللهُ أشدُّ غيرة )) .
الغيرةُ هي التألمُ والغضبُ على حقٍّ يُهانُ ويُقهرُ، أو باطلٌ يحمى وينصرُ، وينتجُ عن هذا التألم والغضب، مساندة الحقِّ ومقاومةَ الباطل ودحره .
يا مسلمون :
إنَّ من الغيرةِ على دينِ اللهِ الوقوفُ مع الحقِّ، ومناصرة أهل الحقِّ والخير، ومناورة الباطل، ومقاومةُ المبطلين والمفسدين، مهما كانوا ولو كانوا أولى قربى .
الغيرةُ على دينِ الله تتمثلُ فيمن ينظرُ إلى الدليلِ ويصدعُ بالحقِّ ولو كره المنافقون .
الغيرةُ على دينِ الله تكون بالمساهمةِ في نشره، والدعوة إليه، والجهاد في سبيلهِ بالنفسِ أو بالمال .(1/1099)
إنَّ الغيرةَ على دينِ اللهِ تشجيعُ كل مجالاتِ الخيرِ وسبل الدعوة ، فحضور المحاضرات ، والدعوةُ وإحياءِ الدروس العلمية ، ونشر الكتاب والشريط الإسلامي ، والكتابة في الصحف والمجلات دفاعاً عن الإسلام ومبادئه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا يُعدُّ صورةً من صورِ الغيرةِ على دين الله ، وبهذه الخطوات تُقمعُ راية النفاق، وتؤد خطوات التغريب .
الاعتزازُ بالدين، والافتخارُ بالانتساب إليه، والتمسكُ بشعائرهِ الظاهرة والباطنة ، والتفاعلُ مع قضايا المسلمين ، كلُّ ذلك مظهرٌ من مظاهر الغيرة .
إنَّ من الغيرةِ على دينِ الله، مُناصرةُ المسلمين وقضاياهم، والتألم لآلامهم والفرحُ بآمالهم، ولقد كان التحامُ المسلمين، ونصرة كل منهم لأخيه مثالاً فريداً في تاريخ التلاحم والتواصل والتنا صر، سواءً على مستوى الأمة أو الأفراد ، ولن ينتصرَ المسلمون إلاَّ إذا تحقق فيهم بعد صفاءَ العقيدة، حبُّ المسلم لأخيه ما يُحبُ لنفسه ، وشعوره بآلام أخيهِ كشعورهِ بما يصيبهُ هو، وحبُّ نصرته كما يُحبُّ أن ينصره هو، والله ينصر من ينصره وهو القوي العزيز، وإذا كانت أوضح صورِ النُصرة هي الجهادُ بالنفسِ في سبيل الله، فإنَّهُ ومع وجود المعوقات في طريقه ، حيثُ أصيبت الأمةُ بالوهن ؛ حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت ، فمع ذلك فإنَّ صور النُصرةِ للمسلمين كثيرة .
فالذبُ عن عرضِ المسلم وسُمعتهِ، والرد على أهل الباطل الذين يُريدون خدش كرامة المسلمين ، والدعاءَ للمسلمين في ظهر الغيب ، وتتبع أخبارهم، والوقوفُ على أحوالهم، كلُّ هذه تحققُ للإنسان معنى النُصرةِ وتجعلهُ عضواً عاملاً صالحاً في كيانه الإسلامي .
وفي وقتٍ يتكالبُ أعداءُ الله على المسلمين، يغزونهم في عقرِ دارهم، ولا يجدُ هؤلاءِ المسلمون ما يدفعون به عن أنفسهم وأعراضهم وأحوالهم وأوطانهم ، وقذائفُ الأعداءِ تُمزقُ لحومهم وتهشمُ عظامهم، وتقطعُ أجسامهم، في هذا الوقت يتأكدُ الجهادُ بالمال غيرةً على دين الله، ومُناصرةً للمستضعفين من المسلمين .
يا مسلمون :
إنَّ ضعفَ الغيرة على الدين أو فقدها، نقيصةً تنزل بصاحبها إلى الحضيض .
ألا وإنَّ من علامات فقدِ الغيرةِ، الهمُّ والحزن لعلو الحقِّ، والمسرةُ لانخفاضهِ والشماتة بالمنكوبين من المسلمين، والتوجعُ لفواتِ الباطلِ والفرح بحصوله أو إدراكه .
ومن علاماتِ فقد الغيرةِ الانقباضُ عند ذكر الصالحين وأحوالهم، ما لا يستأنس لولاة الكافرين والثناء عليهم ،
إنَّ المسلم الغيور هو الذي لا يُغريه طمعٌ، ولا تخيفهُ رهبةٌ عن قول الحقِّ، فيدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وينكرُ المنكر بحماسٍ منضبط بضوابط الشرع.(1/1100)
إنَّ الغيرةَ على دينِ الله يجب أن تكون هاجسُ كل واحدٍ منا ، وهماً في عروق كل مسلم صغيراً كان أم كبيراً ، ذكراً ًكان أم أنثى، عالماً أو جاهلاً ، صالحاً أو فاسقاً ، فلا يصحُّ أن تكون الذنوبُ والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبد وبين العمل الإيجابي لهذه الدين، نريدُ أن يكون همَّ هذا الدين يلاحقُ المرأةَ في بيتها، والرجلُ في متجره، والمعلمُ في فصله ، والطالبُ مع زملائه، والموظف في دائرته ، بل ويحملهُ الشاب على الرصيفِ وفي مدرجاتِ الملاعب ، فلم تكن الخطيئةُ يوماً مهما عظمت حائلاً بين المسلمِ وبين أن يُساهم في نُصرةِ هذا الدين، فقد ذهب بعضُ الصحابة إلى غزوة أُحد بعد ليلةً من شرب الخمر كما في البخاري ، اصطبح أناسٌ الخمر يوم أُحد ثُمَّ قُتلوا شهداء .
وفي قصة أبي محجن الثقفي لنا عبرةً وعظة، فقد كان يشرب الخمر ، وفي القادسيةِ شربها، فعاقبهُ سعدٌ بأن حرمَه من القتال، وكبلهُ بالقيود ، ولما اشتدَّ القتال وحميَّ الوطيس وانكشف المسلمون، أخذت أبا محجن الغيرةَ للدين والحميةَ لأهله، فطلب من زوجةِ سعدٍ أن تفكَّ قيده، وأن تعطيه خيلَ سعدٍ على أن يعود بعد المعركة إلى قيده، وتوسل إليها قائلاً
كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصادر مع دوني قد تصم المنادي
ارمني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهدٌ لا أبخس بعهده لئن أفرجت ألاَّ ازور الحوانيا
فرحمتهُ امرأة سعد، وأعطتهُ الخيل، فشقَّ الصفوف وأثخن في الأعداء، وأبلى بلاءً حسنا .
إن أقوى الناس ديناً أعظمهم غيرةً على حُرمات الله وحدوده ، فمحبُّ الله ورسوله يغارُ لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبهُ من الغيرة لله ورسولهِ، فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنَّهُ من المحبين ، فكيف يصحُّ لعبدٍ أن يدعي محبةَ الله وهو لا يغارُ لمحاره إذا انتهكت، ولا لحقوقه إذا ضيعت .
أخي المسلم إن مما يقوي الغيرة في قلبك، أن تستشعر المسؤولية وجسامتها، وأن تُقدرَ الخطر الداهم على أمتك، وتستشعر استمرارية دُعاة الباطل في إشاعة باطلهم، (()يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) (التوبة:32).
(( وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ )) (صّ:6) .
(( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (لأنفال:36).
أو لم تسمع عن مُنصرين يمكثون سنوات في الصحاري القاحلة، والمناطق الآسنة، دون انتظار أجر دنيوي، وإنِّما نُصرةً لباطلهم ونشر الضلالة .(1/1101)
فما بالنا معشرَ المسلمين يجلسُ الواحدُ منا شبعان متكأً على أريكته، إذا طلب من نصرةِ دينهِ الحق، أو كُلف بأبسط المهام، أو عُوتب لاستغراقهِ في اللهو والترفيه انطلق كالسهم مردداً، (( يا حنظلةَ ساعةً وساعة )) هذا إذا سلمَ من قدحِ العاملين، ولمزِ المجاهدين، وتثبيطِ همم الباذلين.
تبلدَ في الناس حسن الكفاح وقالوا الكسب والعيش رتيب
بكاءٌ يزعزع من همتي سدود الأمين وعزم المريب
ألا فليستثر الشعور بالاستحياءِ من الله عز وجل في قلوبنا، حين نرى من الإخلاص لهم عند الله ، يُكرمون ويضحون لنصرة باطلهم، ويوفون مع إمامهم إبليس بالعهد الذي قطعه على نفسه، فبعزتك لأغوينهم، في حين يتباطأ كثيرٌ من المسلمين عن نصرةِ دينهِ الحقِّ، مع أنهم عاهدوا على الانقياد لشرعه (( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (المائدة:7) أقول هذا القول .
الخطبة الثانية
أما بعد .
فإننا إذ نتحدثُ عن الغيرةِ على دين الله، وننظر بعين الأسى والحزن لواقع الأمة، فإننا ننظرُ بالعين الأُخرى إلى ما يجري في عراق العزِّ والإباء، فعن أيِّ شيءٍ نتحدث .
هل نتحدثُ عن عيدهم عيدنا ، عيدهم نارٌ ودمار ، ودماءٌ وأشلاء، عيدهم جروحٌ غائرة ، ونفوسٌ ثائرة ، عيدهم أطفالٌ يتامى ونساءٌ أيامى ، وشيوخٌ ثكالى ، عيدهم مساجدُ تهدم ، وجراحٌ تنزف، وحثثٌ ملقاةٌ في الشوارع ، وعدوٌ صليبيٌّ يسومهم سُوءَ العذاب، هذا عيدهم ، أما عيدنا ،فغناءٌ وطرب ، ولهوٌ ولعب ، رجالٌ يختلطون بالنساءِ وشبابٌ يرقصون، عيدنا فنان يغني على ساحلِ البحر، في ليلةٍ الجمعة فغباء؟ تسمعه حتى النساء
أهنئكم وعينُ القلب تجري على أحبابنا في الرافدين
وأشجبُ صمتكم وأقولُ إني براءٌ من عميل أو خؤون
ففي أعيادكم لعبٌ وحلوى وألوانُ المعازفِ والمجون
وفي فلوجةِ الأبطالِ قتلٌ وحربٌ للصليب تجاهَ ديني
هل نتحدثُ يا مسلمون عن الحضارة الغربية المزيفة، والمدنيةِ الغربية الكاذبة، والتي يُمجدها المستغربون، ويغني لها المنهزمون ، والتي ظهرت معالمُها على أرض العراق ، هدماً للبيوت على العزَّل، وإجهازاً على الجرحى، وتخريباً للمُدن وإهلاكاً للحرث والنسل، وتترساً بالأطفال الأبرياء، وانتهاكاً لحُرمات المساجد، وتمزيقاً للمصاحف، وإهداراً لكرامةِ الإنسان، هذه هي حضارتهم، وتلك حريتهم التي جاءوا يبشرون بها، فيا ليت المنافقين يعقلون .(1/1102)
هل نتحدثُ يا مسلمون عن الأسودِ المزمجرة، والصواعقِ المدمرة ، عن الرجالِ حقاً والأبطال صدقاً، والذين رسموا بدمائهم وصمودهم أجملَ لوحاتِ العزِّ والشرف، في زمنِ الضعف والوهن، والذين مرغوا وجهَ الصليبية، وأرغموا أنوف الحاقدين وأثبتوا للعالم أنَّ القوةَ قُوة الحقِّ، وأنَّ النصرَ مع الصبر، وأنَّ في أمةِ الإسلام (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) (الأحزاب: من الآية23) ، لا يلتفتون إلى الوراءِ، ولا ترهبهم قوةُ الأعداء ولا تثبطهم أقاويل المرجفة،
إنَّ ما يجري يا مسلمون على أرضِ العراق إنَّما هو نصرٌ وعز، ولو قُتل من قُتل، وجُرح من جُرح وأُسر من أسر، ولو سقطت مدنٌ، وخربت بيوتٌ، ليس النصر في ميزان الإسلام مدينة تفتح، أو بلدة تسرق، وإنَّما هو انتصارُ القيمِ والمبادئ، وارتفاعُ رايةَ الحقِّ .
إنَ الناسَ يُقصرون معنى النصر على صورةٍ معينة، معهودةٍ لهم قريبةَ الرؤيةِ لأعينهم ، ولكن صورُ النصر شتى، وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمةِ عند النظرة القصيرة .
إنَّ وعدَ اللهِ قاطعٌ جازم ((إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)) (غافر: من الآية51) .
بينما يُشاهدُ الناس أنَّ الرسلَ منهم من يُقتل ومنهم من يُهاجر من أرضهِ وقومهِ مكذباً مطروداً ، وأنَّ المؤمنين منهم من يسام العذاب، ومنهم من يُلقى في الأخدود ، ومنهم من يُستشهد، ومنهم من يعيشُ في كربٍ وشدةٍ واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ إنَّ الناسَ يعيشون بظواهرِ الأمورِ، وبفترةٍ قصيرةٍ من الزمان، وحيزٍ محدودٍ من المكان ، وإنما النصرُ أوسع وأشمل ، وكم من شهيدٍ ما كان يملكُ أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عامٍ كما نصرها يوم استشهاده، وإنَّ أعظمَ أنواع النصر : النصرُ على الذات والشهوات ، والسيطرةُ على الأهواءِ والمغريات، إنَّ معركة الإسلام مع الصليبيةِ لا تتوقفُ عند حدِّ فتح مدينة، والسيطرة على موقع ، ولكنَّها حربٌ طويلة الأمد .
فنهايتها تحقيقُ الغاية التي ذكر الله، (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) (التوبة: من الآية29) وحتى تصل الأمة إلى هذه الغاية، فلا بُدَّ من تضحياتٍ وبذل، وإنَّ كلَّ نقطة دمٍ من نفسٍ مسلمةٍ زكية لن تضيعَ عند الله سُد ى، ولن تذهب هدراً ، وإنَّما هي خطوةٌ لطريقِ النصر، ووقودٌ لنارِ العزة، ومنارات لمعالمِ القبلةِ والفتحِ المبين، فتحُ مكة لم يكن وليد تخطيط شهرٍ أو سنةٍ، لكن نتاجَ كفاحٍ دامٍ ثلاثةَ عشر عاماً في مكة ، وهو ثمنُ دماءٍ أُريقت في بدرٍ وأحد، وجزاء نفوسٍ أُزهقت فداءً لدين الله .
فتحُ مكة لم يأت بارداً جاهزاً ، لكنهُ أتى تتويجاً لدم زكي، قد خرج من عقبي النبي- صلى الله عليه وسلم- وثمناً للبلاءِ والإيذاءِ الذي تعرض له المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام .
فتحُ مكةَ رسمَ معالمهُ دمُ أبي عمار وزوجه سمية ، وخط خطوطهُ أنين بلال وعمار، وخبا بٌ وصهيب، تحت سياط العذاب .(1/1103)
فتح مكة جاءَ ليُعلن للناس أنَّ النصرَ عزيزٌ ولا بُد له من ثمن ، وليقولَ للناسِ اليوم ، لا تهنوا ولا تحزنوا، فإنَّ دماءً في العراق تُراق ، وأُخرى في أقطارٍ وآفاق، إنَّما هي ثمنٌ تُقدمهُ الأمة للنصر القادمِ القريبِ بإذن الله ، النصرُ نورٌ مرتقبٌ وقودي دماءِ الشهداء ودعوات الأتقياء، وأموال الأغنياء، وشروطهُ صبرٌ على البلاءِ وشكرٌ عند الرخاء، ووفاءٌ مع خالقِ الأرضِ والسماء، (( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) (الروم:5).
وأخيراً ، وأرض العراق تشهدُ ملحمةً من ملاحمِ الإسلام، وتَبرزُ للعالم صورَ الغدرِ والخيانةِ العلقيمة ، وتُروي للعالم صورةَ الحضارةِ الأمريكية ، وأرض العراق تُدكُ على أهلها، وتهدم بيوتها فوق سكانها، فما أكثر الشامتين من كُتَّابٍ وغيرهم من يقولُ بلسان الحال، (( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (آل عمران: من الآية168) ولن شغلنا أنفسنا بالحديث عن هؤلاءِ وإليهم وإنَّما نوجِّهُ لهم تحذيرَ اللهِ ووعيده، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (آل عمران:156) .
وأخيراً ، أيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارمَ الله تُنتهك، وحدودهُ تُضاع، ودينهُ يُترك، وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها ، وعبادهُ يُهانون، وهو باردُ القلبِ، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس، وهل يلينُ الدينُ إلاَّ من هؤلاءِ الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم ،فلا مبالاة بما جرى على الدين ، وخيارهم المتخرن المتلمظ ، وهؤلاءِ مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظمِ بليةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلوب ، فإنَّ القلب كما كانت حياتُهُ أتم، كان غضب الله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل .
فلا بُدَّ يا مسلمين من الشعورِ بواجبِ النُصرة لهذا الدين، كلٌّ بحسبه ومرتبتهِ من العلم والقدرة، والغني وغيرها .
تلكم يحيى بن معاد، يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأته هذا واجبٌ قد وُضعَ عنَّا فقال ، هبي أنَّهُ قد وضُع عنَّا سلاح اليد فلم يُوضعُ عنا سلاح القلب، واللسان ، فقالت : صدقت جزاك الله خيراً
اللهم صل وسلم .
ــــــــــ
النصر والتمكين في يوم عاشوراء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه..
أمَّا بعدُ إخوةُ الإسلام: فإنَّ ثوبي الكبرياءِ والعظمةِ لله، لا ينبغي لأحدٍ من البشرِ مهما كان أن ينازعَ فيهما، قال اللهُ تعالى في الحديث القدسي ("الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحداً(1/1104)
منهما قذفته في النار") ([1]) والظلمُ مرتعهُ وخيم، والمكرُ السيئُ لا يحيقُ إلاَّ بأهله، تلك معانٍ وحقائقَ يُعرضُها علينا القرآن في أكثرِ من مشهد، وغيرَ واحدٍ من المواقفِ والقصصِ في أخبارِ السابقين، ولكنَّها تتجلى بشكلٍ واضح، ويزدادُ تكرارُها في القرآن في قصةِ موسى- عليه السلام- وفرعونَ اللعين، بشكلٍ مُلفتٍ للنظرِ لمن تمعن في قصصِ القرآن، فلماذا يكثرُ ذكرُ قصةِ مُوسى- عليه السلام- مع فرعون في القرآن؟
وقد أجابَ أهلُّ التفسيرِ عن ذلك بأنَّها من أعجبِ القَصص، أمَّا وجهُ العجبِ فقالوا: إنَّ فرعونَ حذَّرَ من موسى كلَّ الحذرِ، فسخَّرهُ اللهُ أن ربَّى هذا الذي يُحذِّرُ منه على فراشهِ ومائدتهِ بمنزلةِ الولد، ثُمَّ ترعرعَ وعقدَ اللهُ لهُ سبباً أخرجهُ من بينَ أظهرهم، ورزقهُ النبوةَ والرسالةَ والتكليم، وبعثهُ اللهُ إليه ليدعوهُ إلى الله تعالى ليعبده ويرجعُ إليه، هذا مع ما كانَ عليه فرعون من عظمةِ المُلكِ والسُلطان، فجاءهُ برسالةِ اللهِ وليس لهُ وزيرٌ سوى أخيهِ هارون- عليه السلام- فتمردَ فرعونُ واستكبر وأخذتهُ الحميةَ والنفسَ الخبيثة الأبية، وركبَ رأسهُ وتولى بركنهِ، وادَّعى ما ليس له، وتهجمَ على اللهِ وعتا وبغى، وأهانَ حزبُ الإيمانِ من بني إسرائيل، واللهُ تعالى يحفظُ رسولهُ موسى وأخاهُ هارون- عليهما السلام- ويُحوطُهما بعنايتهِ ويحرُسهما
بعينهِ التي لا تنام، ولم تزل المُحاجَّةُ والمجادلةُ والآياتُ تقومُ على يدي موسى شيئاً بعد شيء، ومرةً بعد مرة، مما يُبهرُ العقولَ ويُدهِشُ الألبابَ مما لا يقومُ له شيء، ولا يأتي به إلاَّ من هو مُؤيدٌ من الله، وصمَّمَ فرعونُ وملأهُ- قبحهم الله- على التكذيب بذلك كله، والجحودِ والعنادِ والمكابرةِ حتى أحلَّ الله بهم بأسهُ الذي لا يُرد، وأغرقهم في صبيحةٍ واحدةٍ أجمعين، (( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)) ([2]) فهل من مُد كر؟ وكيف وقعَ الغرقُ؟ وما هي عاقبةُ الظلمِ والطغيان؟ وكيف نستفيدُ من قصصِ القرآن؟
تلك أسئلةٌ مهمةٌ، ومفتاحُ الإجابةِ عليها في أمثالِ قولهِ تعالى : (( وإذ فرقنا بكم
البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون)) ([3])
وفي قولهِ تعالى : (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين* الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين* فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون)) ([4]). وتأويلُ ذلك : أن بني إسرائيلَ حين خرجوا من مصرَ صُحبةَ موسى- عليه السلام- وهم فيما قيلَ سُتمائة ألف مُقاتل سوى الذُرية- ويُقال: إنَّ إسرائيلَ وهو- يعقوبُ عليه السلام- حين دخلَ مصرَ دخلها في ستةٍ وسبعين نفساً من ولده وولد ولده، فأنمى اللهُ عددهم، وباركَ في ذريتهم ([5]) وكان بنو إسرائيلَ حين خرجوا قد استعاروا من القبطِ (حُليَّاً كثيراً ومتاعاً، وأحلَّ اللهُ ذلك لبني إسرائيل) ([6]) فخرجوا به معهم، فاشتدَّ حنقُ فرعونَ عليهم، فأرسلَ في المدائنِ(1/1105)
حاشرين، يجمعونَ له جنودهُ من أقاليمه، فركبَ وراءَهم في أُبهةِ عظيمةٍ وجيوشٍ هائلةٍ، لما يُريدُهُ اللهُ تعالى بهم، ولم يتخلف عنهُ أحدٌ ممن له دولةٌ وسُلطانٌ في سائرِ مملكته، فلحقوهم وقتَ شُروقِ الشمس، (وذكر الطبري أنَّ فرعونَ أُعلمَ أن موسى سرى ببني إسرائيلَ من أولِّ الليلِ فقال: لا يتبعهم أحدٌ حتى تصيحُ الديكة، فلم يصح تلك الليلةِ بمصرٍ ديك، وأماتَ اللهُ تلك الليلةِ كثيراً من أبناءِ القِبط، فاشتغلوا في الدفنِ، وخرجوا في الإتباع مُشرقين ([7]) ((فلما تراءَ الجمعانِ قال أصحاب موسى إنا لمدركون)) وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحلِ البحرِ وأدركهم فرعونُ لم يبق إلاَّ أن يتقاتلَ الجمعان، وألحَّ أصحابُ موسى- عليه السلام- عليه بالسؤالِ كيف المخلصُ مما نحنُ فيه؟ فيقولُ: إنِّي أُمرتُ أن أسلكَ هاهنا، ((كلا إن معي ربي سيهد ين)) فعندما ضاقَ الأمرُ اتسع، فأمرهُ اللهُ أن يضربَ البحرُ بعصاه، فضربهُ فانفلقَ (( فكان كل فرق كالطود العظيم )) أي كالجبلِ العظيم، وصارَ اثني عشرَ
طريقاً لكلِّ سِبطٍ واحدة، وأمرَ اللهُ الريحَ فنشفت أرضهُ ((فأضرب لهم طريقاً في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى)) وتخرَّقَ الماءُ بين الطُرقِ كهيئةِ الشبابيك، ليرى كلٌّ قومٍ الآخرين حتى لا يظنوا أنَّهم هُلكوا، وجاوز بنوا إسرائيل البحرَ، فلمَّا خرجَ آخرُهم منهُ، انتهى فرعونُ وجندهُ إلى حافتهِ من الناحيةِ الأُخرى (وعددهم فيما قيل ألفَ ألفَ ومائتا ألف) ([8]) ومعهم مائةَ ألفَ أدهم (فرس) سِوى بقيةِ الألوان، فلمَّا رأى ذلك فرعونُ هالهُ البحرُ وأحجم، وهابَ وهمَّ بالرجوع، وهيهاتَ ولا حينَ مناص، نفذَ القدرُ، واستُجيبتِ الدعوةُ، وجاءَ جبريلُ على فرسٍ ود يقٍ حائل (ويُقال إنَّهُ لم يكن في خيلِ فرعونَ فرسٌ أنثى، ويُقال أن جبريلَ جاءَ في صورةِ هامان، وقال لهُ:تقدم، ثُمَّ خاضَ البحرُ، فتبعهما حصانُ فرعون وميكائيل يسوقهم لا يشذُّ منهم أحد، ([9]) ولم يبق فرعونُ يملكُ من نفسهِ شيئاً، فتجلدَ لأُمرائه، وقال لهم: ليس بنو إسرائيلَ بأحقِّ بالبحرِ منَّا، فاقتحموا كُلهم عن آخرهم، فلمَّا اجتمعوا فيه وتكاملوا، وهمَّ أولُهم بالخروجِ مِنهُ أمرَ اللهُ القديرُ البحرَ أن فارتطم عليهم، فأرتطم فلم ينجُ منهم أحد، وجعلت الأمواجُ ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواجُ فوقَ فرعونَ، وغشيتهُ سكراتُ الموتِ، فقال وهو كذلك (( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)) فآمن حيثُ لا ينفعهُ الإيمانُ ((فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون)) ([10]).
وهكذا قال اللهُ تعالى في جوابِ فرعون حين قال ما قال، ((آلآن وقد عصيت قبل)) أي أهذا الوقت تقولُ وقد عصيتُ الله قبل، هذا فيما بينك وبينه ((وكنت من المفسدين)) ([11]).
إخوةَ الإسلامِ :هذا الذي حكاهُ اللهُ عن فرعونَ في حالهِ ذاك، من أسرارِ الغيبِ التي أعلمَ اللهُ بها رسولهُ محمداً- صلى الله عليه وسلم- فلم يسمعها، بل رُبما لم يسمعها أحدٌ من خلقهِ بقي على الحياةِ(1/1106)
بعد فرعون، ولكنَّ جبريل وقد حضرَ الواقعةَ، وسمعَ الكلمة، أوحى بها بأمرِ الله إلى نبيهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- وبلَّغهُ كذلك بغيرها ممَّا وقعَ بينهُ وبين فرعونَ في لحظاتهِ الأخيرة، فقد أخرجَ الإمامُ أحمدَ والترمذي عن ابن عباسٍ- رضي اللهُ عنهما- قال قال رسولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: لما قال فرعونُ آمنتُ أنَّهُ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال: قال لي جبريلُ: يا محمد: لو رأيتني وقد أخذتُ حالاً من حالِ البحر (وهو الطينُ الأسودُ في قاعِ البحر) فدسستُه في فيهِ مخافةَ أن تنالهُ الرحمة)) ([12]). تلك واحدةٌ من أسرارِ القرآن، وهي معدودةٌ في دلائلِ نبوتهِ- عليه الصلاة والسلام- حتى قال الطبري: ((وفي أخبارِ القُرآن على لسانِ محمدٍ- عليه الصلاة والسلام- بهذه المغيباتِ التي لم تكن من علم العربِ، ولا وقعتٌ في حقِّ بني إسرائيل إلاَّ دليلٌ واضحٌ عند بني إسرائيل قائمٌ عليهم بنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ([13]).
والحادثةُ بمُجمَلها تُؤكدُ نهايةَ الطُغيان، وهلاكُ المجرمين، ونصرةُ الحقِّ، ونجاةُ المؤمنين، وإذا كانت هذه الحقيقةُ بارزةً في هذا المشهدِ، والحقُّ ينتصرُ على مشهدٍ من الناسِ في هذهِ الحياة، فليسَ ذلك شأنُ القصصِ كلهِ في القرآن، إذ ليسَ أمدُ النصرِ ينتهي في هذهِ الحياة: وليسَ معنى النصر مقصوراً على النصرِ المحسوس للناس، فقد ينالُ النصرَ فردٌ أو مجموعةٌ من الصادقين، وإن خُيِّل للناسِ أنهم قد استضعفوا أو أُهينوا أَو غلبوا في هذهِ الحياةِ الدنيا، أجل لقد انتصرَ الخليلُ- عليه السلام- على الطُغاةِ وإن قُذف في النار، وانتصرَ أصحابُ الأُخدودِ وإن حُفرت لهم الأخاديد وأُحرقوا، وانتصر الغلامُ المؤمنُ وإن كانت روحهُ قد أُزهقت على ملأ الناسِ الذي لم يتمالكوا أنفسهم وقالوا: آمنا برب الغلام.
وهكذا يبدو النصرُ أشملَ من صورتهِ الظاهرةِ المحسوسة، وينبغي أن يعلمَ الناسُ أنَّ الثباتَ على المبدأِ الحقِّ حتى الممات نصر، وأن نصرُ المبادئِ والقيمِ نجاحٌ ونصر، وينبغي ألاَّ يُصاب الناسُ بالإحباطِ إذا لم يشهدوا نصرَ الحقِّ وأهلهِ في هذه الحياةِ الدنيا، فليست هذه الدارُ نهايةُ المطاف، بل وليست أعمارُهم هم مستغرقةً لكلِّ هذه الحياةِ الدنيا، وقد يشهدُ أبناؤُهم أو أحفادُهم النصرَ الذي بُذرت بذورهُ الأولى في عهد آبائهم وأجدادهم، ولهذا أوحى اللهُ إلى نبيه- صلى الله عليه وسلم- فيما أوحى (( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون )) ([14])، وأوحى إليه أيضاً (( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون )) ([15]).
كلُّ ذلك حتى لا يستعجلُ النصرَ، ولا يتعلقُ به أكثر، وتعلقهُ بتهيئةِ أسبابهِ والصبرِ
على متطلباته.
تلكَ قيمةٌ كُبرى من قيم القرآن، وعبرةٌ عُظمى من عِبر التاريخِ، لابُدَّ من وعيها. وللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعد، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون.(1/1107)
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الواحدُ القهار، ذي الجبروتِ والسلطان، وأشهدُ ألا إله إلا اللهَ وحدهُ لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ، اللهمَّ صلِ وسلم عليهِ وعلى سائرِ أنبياءِ الله ورسله، وارضِ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، وعن التابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوةَ الإسلام: ثمةَ دَرسٌ ثالث، وقيمةٌ كبرى نستفيدُها من قصصِ القرآنِ ألاَّ وهي الحفاظُ على النصر، ومضاعفةُ الشُكرِ حين تتضاعفُ النعم، وكما يمتحنُ اللهُ بالضعفِ والذلةِ والهزيمةِ والمطاردةِ، يمتحنُ كذلك بالقوةِ والعزةِ والنصرِ والتمكين، فمنَ الناسِ من يصبرُ حالَ الضعفِ والقلةِ، ولا يشكرُ في حالِ القوةِ والكثرة، والمؤمنونَ الصادقون: هم الذين يصبرون في الضراءِ، ويشكرون في السراءِ، قال -عليه الصلاة والسلام ("عجباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرهُ كلهُ لهُ خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتهُ ضراءَ صبر فكان خيراً له، وإن أصابتهُ سراءَ شكرَ فكان خيراً له") رواه مسلم.
ووصفَ اللهُ عبادهُ الذين يستحقون التمكينَ في الأرض ويستحقون النصرَ بقوله: (( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) ([16]).
وتعالوا بنا إخوةَ الإيمانِ لنقرأَ على عجلٍ شيئاً من تاريخِ هذهِ الأُمة التي نُصرت ورأت من آياتِ الله الباهراتِ ما رأت، هل قدرت هذا النصرُ وأورثها التُقى والهدى، وإتباع المرسلين، أم زاغت وحرفت وبدلت وآذت المرسلين؟.
إنَّ تاريخَ بني إسرائيل شهدَ من المعجزاتِ على يدي موسى- عليه السلام- ما لم تشهدهُ أمةٌ من الأُمم قبلهم، وشهدَ في الوقتِ نفسهُ من الحيلِ والصدودِ والإيذاءِ لموسى- عليه السلام- ما يجلُّ عن الوصف، وحُذرت هذه الأمةُ أن تسلكَ مسلكهم، (( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها )) ([17]).
وإليكم طرفاً من سيرتهم: ذكرَ أبو بكر بن أبي شيبةَ عن قيس بن عباد، أنَّ بني إسرائيل قالت : وما مات فرعونُ وما كان ليموت أبداً، فلمَّا أن سمعَ الله تكذيبهم بنبيهِ- عليه السلام- رمى به على ساحلِ البحر كأنَّهُ ثورٌ أحمر يتراء هُ بنو إسرائيل، فلمَّا اطمأنوا وبعثوا من طريق البرِّ إلى مدائنِ فرعونَ، حتى نقلوا كنوزهُ وغرِقوا في النعمةِ، رأوا قوماً يعكُفونَ على أصنامٍ لهم، قالوا يا موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، حتى زجرهم موسى وقال : (( أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين)) - أي عالمي زمانه- ثُمَّ أمرهم أن يسيروا إلى الأرضِ المقدسةِ التي كانت مساكن آبائهم، ويتطهروا من أرضِ فرعون، وكانت الأرضُ المقدسةِ في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها، فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال، فقالوا: أتريدُ أن تجعلنا لحمةً للجبارين، فلو أنكَ تركتنا في يدِ فرعونَ لكان خيراً لنا، فدعا عليهم وسمَّاهم فاسقين، فبقوا في التيهِ أربعين سنةً عقوبةً لهم، ثُمَّ رحمهم فمنَّ عليهم بالسلوى والغمام.(1/1108)
ثُمَّ سارَ موسى- عليه السلام- إلى طورِ سِيناء ليجيئهم بالتوراةِ فاتخذوا العجل، ثُمَّ قيل لهم: قد وصلتم إلى بيتِ المقدسِ فادخلوا الباب سُجداً، وقولوا حطة، فبدلوا وأنزلَ اللهُ بهم كما في القرآن الكريم، وكان موسى عليه السلام شديدُ الحياءِ ستِّيراً وكانوا هم يغتسلون عُراةً يرى بعضهم عورةَ بعض، فقالوا: ما استتر إلاَّ أنَّهُ (آدر)- أي من عيبٍ خُلقي في خصيته- حتى كشفَ اللهُ لهم الحقيقةَ حينما ذهبَ الحجرُ بثوبه فأبصروهُ لا عيبَ فيه، ولما ماتَ هارونُ قالوا: أنت قتلتهُ وحسدته، حتى نَزلتِ الملائكةُ بسريرهِ وهارونَ ميت عليه إلى غير ذلك من مواقفهم المُشينةِ حتى بلغَ بهم الأمرُ أن بدَّلوا التوراة، وافتروا على الله، وكتبوا بأيديهم ما لم يأذن بهِ الله، واشتروا به عرضاً من الدنيا، ثم صار أمرُهم إلى أن قتلوا أنبياءَهم ورسلهم، فهذه مُعاملتهم مع ربهم، وسيرتهم في دينهم، وسوءَ أخلاقهم ([18]).
أجل لقد شاءَ اللهُ أن تكون هذه الأمةُ نموذجاً لمن بغى وتجبر، وأعرضَ وأنكل، بعد أن أبصرَ من آياتِ الله ما أبصر، فأحل اللهُ بهم بأسه، ومسخهم قردةً وخنازير، وألحقهم بمن سلفهم، وكذلك تُعمى القلوبُ وتُصمُ الآذانُ عن رؤيةِ الحقِّ وسماع الهُدى لدى القومِ الفاسقينَ الغافلين، وصدقَ اللهُ (( وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)) ([19]).
إخوةَ الإيمان: هذه الملحمةُ الكُبرى، وهذا النصرُ المبينُ لحزبِ الله المؤمنين، والغرقُ والهلاكُ للطغاةِ والمفسدين، وقعَ كلهُ في العاشرِ من هذا الشهرِ- شهرُ الله المحرم- وعليه فيومُ عاشوراءَ يومٌ من أيامِ الإيمان، ومناسبةٌ تستحقُ الشكرَ والعرفان- بما شرعَ اللهُ لا بما يهوى البشرُ، ولا بما يتوارثهُ أصحابُ النحلِ والملل والأهواءِ الفاسدة.
وقد قدَّرَ المؤمنونَ على مدارِ التاريخ هذا اليومُ وعظموه، وكانت اليهودُ يصومونه ويقولون: إنَّ موسى- عليه السلام- صامهُ شُكراً لله، فصامهُ الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- وقال:(" نحنُ أحقُّ بموسى منكم") ، بل كانت العربُ في جاهليتها تصومُ ذلك اليوم وتعظمه، وتكسو فيه الكعبة ([20])، وأمرَ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- بمخالفةِ اليهودِ، وصيامُ التاسع مع العاشر، فقال:("إن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع") (يعني مع العاشر) ([21]).
وصيامُ التاسعِ مع العاشر هو أصحُّ ما جاء، وعليه أكثرُ الأحاديث، أمَّا حديثُ ("صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده") فالمرفوعُ منه للنبي- صلى الله عليه وسلم- ضعيف.
والموقوفُ: على ابن عباس- رضي الله عنهما- صحيح([22]) وكذلكَ حديثُ ("صوموا يوماً قبلهُ ويوماً بعده " )([23]).
وإن كان ابنُ القيم ذكرَ مراتب صيامه فقال : ((أكملُها أن يصامَ قبلهُ يومٌ وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصامَ التاسعَ والعاشر، وعليه أكثرُ الأحاديث، ويلي ذلك إفرادُ العاشر وحدهُ بالصوم)) ([24]).(1/1109)
معاشرَ المسلمين : قدروا هذا اليومَ وصوموه قربةً لله وشكراً، واحتساباً للمغفرةِ والمثوبة، فقد قالَ- عليه الصلاة والسلام-:("صومُ عاشوراء يُكفرُ سنةً ماضية") واسألوا اللهَ النصرَ للإسلامِ والمسلمين، فالذي قدرَّ النصرُ للسابقين قادرٌ على إنزالِ النصر على اللاحقين.
(2) رواه مسلم وأبو داود- جامع الأصول 10/63 .
(3) تفسير ابن كثير 4/220، 221.
(4) البقرة: 50 .
(5) يونس: 90، 92 .
(6) تفسير القرطبي 1/ 389 .
(7) القرطبي 1/ 389 .
(8) القرطبي 1/ 389
(9) تفسير القرطبي 1/389
(10) تفسير القرطبي 8/377
(11) غافر: 84- 85
(12) تفسير ابن كثير 4/ 226، 227 .
(13) قال الترمذي: حديث حسن، تفسير ابن كثير 4/227.
(14) انظر تفسير القرطبي 1/393 .
(15) يونس: 46 .
(16) الزخرف: 41، 42 .
(17) الحج: 40، 41 .
(18) الأحزاب: 69.
(19) تفسير القرطبي 1/392، 313
(20) يونس:11
(21) زاد المعاد 2/70
(22) رواه مسلم 1134 .
(23) زاد المعاد 2/69 .
(24) أخرجه البيهقي وسنده ضعيف (زاد المعاد 2/76 الحاشية)
(25) زاد المعاد 2/76
ــــــــــ
النصر الحقيقي(1/1110)
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا , ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ , ومنْ يُضلل فلا هاديَ له .
وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( ]آل عمران:102[ .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( ]النساء:1[ .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ! يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ( ]الأحزاب:70-71[ .
أما بعدُ : فإن أصدقَ الحديثِ كتابَ الله , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ( صلى الله عليه وسلم ) وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أما بعد , أيها المسلمون :
فنتيجةً لضعفِ الإيمان بَعد العهدِ بعصرِ النبوةِ , استخفَ كثيرٌ من المسلمين بدينهِم العظيم , وشرعهِم القويم , فاتخذوه هزواً ولعبا , أو طقوساً ودروشة وترتب على ذلك ونتج عنه , أن غفلَ المسلمون عن المهمةِ العظيمةِ , التي تعلقتْ بها رقابهُم , والمسؤوليةِ الضخمة التي شُغلتْ بها ذممهُم , ألا وهي إخراجُ الناس من الظلماتِ إلى النور , ومن جورِ الأديان إلى عدالةِ الإسلام , ومن ضيق الدنيا إلى سعةِ الدنيا والآخرة , ولقد فقهَ أسلافُنا الأولون , تلك المهمةَ بفهمٍ تام , فقاموا بها خيَر قيام , فتركوا من أجلهِا العشيرةَ والوطن , وتخلوا عن المالِ والولد , وحملوا أرواحَهم على أكفهِم , مجاهدين في سبيل الله , باذلين مُهَجهم في سبيلِ إبلاغِ هذا الدين, للبشريةِ المتخبطة في وثنيتهِا وإلحادهِا , والسادرةِ في غيهِا وفجورها , حتى ظهر المسلمون , وتزعموا العالم, وعزلوا الأممَ المتسلطة عن القيادةِ والرياسة , وساروا بالبشريةِ سيراً حثيثا إلى بر الأمان ، بعد أن توفرتْ في المسلمين الصفاتُ التي تؤهلهُم لقيادةِ العالم كله , وتضمنُ سعادتهَ وفلاحَه في ظلِ الإسلام , وتحتَ سلطتِه , فأولُ تلك الصفاتِ: أنهم أصحابُ كتابٍ منزل , وشريعةٍ من السماء , فلا يُقننون من عندِ أنفسهِم , ولا يُشرَّعون بمحضِ عقولهِم , لأنَّ ذلك منبعُ الجهلِ والخطأ , والظلمِ والجور , وثانيا: لأنهم لم يتولوا الحكمَ والإدارة , إلا بعد أن مكثوا زمناً طويلا , تحت يدِ محمدٍ( صلى الله عليه وسلم ) , وإشرافهِ الدقيق , يُعلمهمُ ويُثقفهُم , ويُزكيهمِ ويُؤدبهُم, ويأخذهُم بالزهدِ والورع , والعفةِ والأمانة , والخشيةِ والإنابة , خلافاً لغالبِ الأممِ والأفراد قديماً وحديثاً , ممن تولى مقاليدَ الأمور , وزمامَ السياسة , دون رصيدٍ يُذكر من تربيةٍ, أو خلقٍ أو ديانة .(1/1111)
وثالثاً : لأن السلف الأولين لم يكونوا خَدمةَ جنسٍ, أو لونٍ, ولا رسلَ شعبٍ أو وطن , يَسعون لرفاهيتِه ومصلحتِه وحدَه , ولم يخرجوا ليؤسِسُوا إمبراطوريةً عربية , ينعمون ويهنأوون في ظلها , ويشمخونَ, ويتكبرون تحتَ حمايتهِا , ولم يخرجوا من ديارهِم أشراً وبطراً, ورئاءَ الناس , وإنما خرجوا لإقامةِ دولةِ الإسلام , وإخراجِ العباد من عبادةِ العباد إلى عبادةِ الله وحده , ولم يكن أسلافُنا ينظرونَ لهذه الحياة كقفصٍ من حديد , فيعادونُه ويكسرونه , كما أنهم في الوقتِ نفسه, لا ينظرون إليها كفرصةٍ من لهوٍ ونعيم لا تعودُ أبدا. فينتهزونها ويهتمون بها , بكل شغفٍ وجنون , فلا يُضيعون ساعةً واحدة دون عربدةٍ أو مجون , لذا كان ظهورُ المدينِة الإسلامية , بروحهِا وأصالتهِا , وقيامُ الدولةِ الإسلامية بشكلهِا ونظامها , فصلاً جديدا في تاريخِ الأديانِ والأخلاق , وظاهرةً عجيبة في عالم ِالسياسةِ, والاجتماع , انقلبَ به تيارُ المدنية رأساً على عقب , واتجهتْ به الدنيا اتجاهاً جديداً , لم يُعهدْ له مثيلٌ في تاريخِ الأممِ والشعوب , على مرِّ الدهورِ والأزمان , فكانت المدنيةُ الإسلامية , والفتحُ الإسلاميُ الكبير , منحةً عظيمةً للجاهليةِ المُتخبطةِ , والإنسانيةِ الحيرى , وجدتْ فيها نجاةً وسعادة , وروحاً ومادة , وحياةً وقوة , وديناً ودولة , وحكومة وسياسة , وكان الإسلامُ الضاربُ بجراره فوقَ الأرض, ديناً عظيماً بحق , ومنهجاً قويماً بصدق , كلُهُ حكمةٌ وعدالة , إزاء أوهامٍ وخرافاتْ كانت سائدة , وكله شرعٌ ووحي إزاءَ أقيسةٍ وتجارب , وتشريعاتٍ بشريةٍ هزيلة , كانتْ جاثمةً فوقَ الصدور , وإذا بالجاهليةِ الفاضحة تتحول ببركة الإسلام , إلى مدينةٍ فاضلة , قويةِ البنيان محكمةِ القواعد , يسودُها التقوى والورع , والعفةُ والأمانة , وتَسمو الأخلاقُ والآداب فوقَ المالِ والجاه , والمنصبِ والمكانة , ويتساوى الناسُ , فلا يتفاضلون إلا
بالتقوى , ولا يتمايزون إلا بالدين والقيم , ويهتمُ الناس بالآخرة , فتصبح النفوسُ مطمئنة , والقلوبُ خاشعة , ويقلُ التكالبُ على جمعِ الحطام , والتنافسُ من أجلِ السراب , كلُ ذلك وأكثر , تحقق للجاهليةِ حينما تغشّاهَا الإسلام , وحطّمَ عروشَها المتصدعة , وبنيانهَا المهتز , بعد أن كانت مدنيةً صاخبة , مضطربةً متناحرة , يسودُها الظلم , وتعلوهُا الكآبة , ويلفُها البغضُ والكراهية , ويتخللُها الفجورُ والطغيان , والترفُ والمتعةُ الحرام , حتى أصبحت تلك المدنيةُ الزائفة , جحيما لا يطاق , وسعيرا لا ُيحتمل , كما قدم المسلمون للعالم كذلك , حكومةً عاملة , تساوي بين رعاياها , فلا يُقدَّمُ ذو حسبٍ لحسبه , ولا ذو نسبٍ لنسبه , ولا مزيةَ لأسرة من الأسر , ولا لقبيلةٍ من القبائل , ولا لعشيرة من العشائر , فالكل متساوون في الفرص , متعادلون في الحقِ الواجب , والثواب والعقاب , وهي حكومةٌ كذلك , تحرسُ الناسَ في أخلاقهِم وأعراضهم , وقيمهِم ومبادئهِم تماماً , كما تحرسُهم في بيوتهمِ وأموالهِم , ودماءهم وأرواحهم , وذلك كلهُ في مقابلِ حكوماتٍ جاهلية كانت سائدة من قبل , عم فيها الجورُ والعدوان , والشرُ والطغيان , وتواضَع رجالهاُ على الخيانةِ والظلم , والسرقةِ والغلول , ونشرت تلك الحكوماتْ المتسلطة أسبابَ الرذيلة , وهيأتْ سُيل الغواية,(1/1112)
وفتنتْ الناسَ عن دينهِم ، وقدمتْ لهم الفجور باسمِ المدنية , وعَرضتْ لهم الفساد باسمِ التقدمية , وإزاء هذا الانقلاب العظيم , الذي أحدثه الإسلام في واقعِ الجاهلياتِ البغيضة , أصبح الناسُ حينذاك , يدخلون في دين الله أفواجا , بكل شوقٍ وقناعة , وإقبالٍ وحماس , وبدون ضغطٍ, أو إكراه , وكان الواحدُ منهم يدخلُ الدينَ الجديد فلا يخسُر شيئاً, ولا يفقدُ شيئاً, بل إنه ليجدُ بردَ اليقين , وحلاوةَ الإيمان , ولذةَ العبودية , ويكتسبُ ثقةً وأمناً, وعزاً ورخاء , وصارت أرضُ الجاهلية تنتقصُ من
أطرافها , ودولةُ الإسلام , تزحفُ في كل اتجاه , وظلها يمتد في كل مكان حتى ارتفعت الفتنة , وكان الدين كله لله , وما كان ذلك ليتم , وتلك الأمجاد لتتحقق , لولا أن أسلافنا استجابوا لأمر ربهم , وهو يأمرهم بحمل هذا الدين , وإبلاغه للناس أجمعين , بعز عزيز, أو بذل ذليل , : ]وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ[ [البقرة: من الآية193] , قاتلوهم حتى لا تكون وثنية وهمجية , وظلم وجور , وقاتلوهم حتى لا تكون رذيلة وفاحشة , وفجور وعربدة , فلبى المسلمون النداء , وسطروا ملاحم البطولة والفداء , ورسموا أقواس النصر , بدمائهم ودموعهم وعرقهم , فسل التاريخ عن بدرٍ الكبرى , وكيف خاضها المسلمون , المفارقون لدورهم مسقط الرأس , ومنشأ الوالد والولد , وواجهوا العدو المتفجر غضبا وحنقا , فتركوه أشلاء ممزقة , وجيفا منتنة, في قليب بدرٍ, وسل التاريخ عن واقعة اليرموك الجلل يوم واجه أربعون ألفاً من المسلمين , واجهوا مائتين وأربعين ألفاً من الروم , أي ستة أضعافهم , في واحدةٍ من ملاحم التاريخ, وعجائب الدنيا , فوق أرضٍ مكشوفةٍ , فما وضعتِ الحربُ أوزارها إلا على جماجم الروم الهلكى , ودمائهم النجسة , وهزيمة لا تنسى , وفي القادسية أذاق المسلمون بقيادة سعد t, أذاقوا الفرس هزيمةً نكراء , ومقتلةً مهولة , لازال المجوس يتجرعون مرارتها حتى اليوم , كل ذلك والمسلمون ثلاثون ألف رجل , في مقابل مائتين وأربعين ألفاً من المجوس والأوباش , وفي حطين أقبل الأوربيون النصارى بجيوش كالجبال , من كل حدبٍ وصوب , وفي نيتهم القضاء على ما تبقى من قلاع الإسلام , واحتلالِ المدينةِ النبوية الشريفة , فخرج إليهم الأسد المعجزة , صلاح الدين - رحمه الله - فكسر شوكتهم , وأباد جيوشهم , وطرد فلولهم , وحُرر بيت المقدس , مسرى رسول( صلى الله عليه وسلم ) في واحدةً من فرائد المعارك , وملحمةً من سو انح التاريخ .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ولو تتبعنا انتصارات المسلمين , وأيامهم العظيمة, وبلائهم في سبيل نصرة هذا الدين , وإبلاغه للناس لعجز القلم , وكلّ اللسان , ولكنها إشارات خاطفة , وبرقيات عاجلة , لأولئك المساكين المخدوعين, بأطروحات الحمقى والمغفلين , الباذلين جهودهم في التضليل والإغواء , وصرف هممهم(1/1113)
إلى انتصارات زائفة , و أمجادٍ تافهة , وغايات دنيئة , ومعظمين في نفوس العامة والناشئة , نموراً من ورق , وأسوداً من خشب , إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
بارك الله لي ولكم ,
الخطبة الثانية :
فخلاصة ما سمعتم , يتلخص في الأمور التالية :
أولاً : يجب أن ندرك جميعا أنه لا وزن لنا, ولا قيمة في هذا الوجود إلا حين نتمسك بالإسلام , ونراجع ديننا الذي هو عصمة أمرنا , وسر فلاحنا , كما يجبُ أن ندركَ أننا لن ننتزع احترام العالم, ونحظى بتقديره, واحترامه , إلا بالإسلام الذي يهابونه, ويحسبون له ألف حساب , كما لا يمكن أن نسترد اعتبارنا وكرامتنا , إلا بالإسلام , وبالإسلام فقط , فلتسقط كل الشعارات الزائفة , والأطروحات التافهة , من قوميةٍ ووطنيةٍ , واشتراكيةٍ, وديمقراطيةٍ , وإبليسيةٍ, وشيطانية .
ثانياً : يجب أن نعي نحن المسلمين , أننا أصحاب رسالة , يجب إبلاغها للناس , وأصحاب دينٍ يجب عرضه نقياً بلا شوائب , صافياً من غير كدر , ناصعاً من غير تشويه , نعرضُ هذا الدين بأصالته وشموله , غضا كما أُنزل , نعرضه قرآناً وسنة , وتاريخاً وسيرةً , لا رقصاً ولعباً , وأهازيج وطبولا , حينها لا نشك من إقبال الناس عليه, ودخولهم فيه , واحتفالهم به .
ثالثاً : يجب أن تُربى الأجيال على حب الإسلام , وفدائه بالروح والمال والولد , وأن يوصلَ الناسُ بتاريخهم , وبطولات أجدادهم وأسلافهم , حتى يتشبهوا بهم , ويقتدوا بسيرهم , وأن يعتقد المسلمون جازمين , أنهم متى ما أقاموا دولة الإسلام في قلوبهم , قامت دولة الإسلام فوق أرضهم وأرض خصومهم , تحقيقاً لنبوءة محمد( صلى الله عليه وسلم ) : « إن الله زوى لي الأرض , فرأيت مشارقها ومغاربها , وإن مُلك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها »([1][2]) , وقوله كذلك : « ولا يترك الله بيتَ وبر ولا مدر إلا أدخله الله الإسلام ، بعز عزيز , أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام , وذلاً يذل الله به الكفر»([2][3]) .
رابعا : يجب أن نعي نحن المسلمين بإدراكٍ تام, أن البطولات الحقيقة التي يحق لنا أن نفخر بها, ونحي ذكراها في النفوس , ونلوحُ للعالم بها, وأننا قادرون على تسطير أمثالها , هي تلك البطولات التي حققها أسلافنا الأولون في بدرٍ وخيبر , والقادسية, واليرموك , وجلولاء, وحطين , وأما ما عداها من البطولات , أوهامٌ لا معنى لها , وسرابٌ لا حقيقة له , لا تبني مجداً, ولا تسترد عزا , وها أنت ترى دمائنا مهدرة , وأعراضنا مستباحة , ومقداستنا ممتهنة , وعدونا يلوحُ بعصاه الغليظة فوق رؤوسنا , دون أن نجرؤ على تغيير واقعنا الُمر , ومصابنا الجلل , وغايةُ ما نفعله هو التباكي على عتبات هيئة الأمم , ومجلس الأمن المزعوم , والذي ما هو إلا ضحكٌ على الذقون , وسخريةً بالمسلمين , وإن ننسى فلا ننسى يوم سئلت رئيسة الوزارة البريطانية قبل سنوات حين جيشت(1/1114)
الجيوش , وحركت الأساطيلَ لحرب الأرجنتين واغتصاب جُزْر الفوكلاند من أهلها الأصليين , مرة أخرى , فقيل لها : ما الذي يمنعك من حل المشكلة بطرق سلمية , عبر مجلس الأمن ؟ فأجابت على الفور : إن مجلس الأمن ما وضع إلا من أجل العرب !! ولقد صدقت وهي كذوب , إلا إن العالم لا يفهم إلا لغة القوة, ولا يحترم إلا الأقوياء .
أجل أيها المؤمنون: كل الدروب مسدودةً سوى درب القوة , ودرب الجهاد , كل الصرخات ليس لها صدى في أودية العالم الجديد, سوى صيحات الجهاد , صيحات التكبير , كل الرايات سرابٌ إلا رايةُ الجهاد , الجهاد هو الحل , وهو السبيل ولا سبيل سواه , شهدت بذلك الآيات الصريحة , والأحاديث الصحيحة , ونطق به التاريخ المجيد , والجهاد درب طويل , العلماءُ المخلصون قياداته , والدعاة الناصحون حداته , والأبطال المقاتلون ثمرته , في قوله تعالى : ] لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [ [الحديد:25] .
اللهم إنا نسألك إيمانا يباشر قلوبنا ,
ــــــــــ
بشائر النصر لهذا الدين
أي نعمة عظيمة تنعم بها هذه الديار ؟ وأي منحة جليلة يعيشها أهل هذه البلاد؟ إنها نعمة الإسلام وأكرم بها من نعمة ، إنها نعمة الالتزام بهذا الدين وأعظم به من منحة ..إن دين الإسلام هو الدين الحق الذي كتب الله جل جلاله له البقاء ، وقضاء وقدر سبحانه أن الله ناصر دينه ، ومعل كلمته ، مهما طال الزمان أو قصر ، ومهما تكالب الأعداء للفتك به وبأهله فإن الدائرة على الكافرين قال تعالى {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } إذن المستقبل لهذا الدين ، والعزة لأهل هذا الدين ، والتمكين للمتمسكين بهذا الدين ، العاضين عليه بالنواجذ ، المهتدين بهديه ، المستنين بسنته ، المقتفين أثره ، السائرين على منهاجه قال جلاله في تجلية هذه الحقيقة الكبرى ، والنعمة العظمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }وقال سبحانه {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
وإن ديناً كتب الله له الظهور ، ولأهله النصر والتمكين في الأرض لابد وأن يستعلي ويهيمن ، وأن يصبح أهله أهل القيادة والسيادة ، فيملأ الأرض عدلا كما ملأت جورا ، وأن يحرروا الناس من(1/1115)
عبودية المخلوقات إلى عبادة الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، الذي { إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
إن هذا الدين يحتاج إلى رجال ..نعم رجال صادقين يعرفون حقيقته ..ويتمسكون بمعالمه ، ويثبتون عليه حتى يلقوا ربهم سبحانه ، ولا يهولنهم إرجاف المرجفين ، ووعيد المتسلطبن ، ولا يفتنهم انحراف الكثيرين ممن آثروا الحياة الدنيا على الدين ، واتبعوا سبيل غير المؤمنين ..لأنهم سألوا التاريخ ..واستنطقوا الأحداث الطويلة عبر سائر الأعصار وشتى الأمصار لتتجلى لهم تلك الحقيقة الناصعة ،أن هذا الدين قد حفظه الله تعالى ،وحقق لأهله العزة والتمكين والنصر المبين على سائر أعداء الدين ،مهما كانوا عليه من قلة في العدد ، وضعف في العُدد ، ومهما كان عليه أعداء الدين من كثرة العدد ، وقوة في العُدد ..إن استقرار هذا المعنى في قلوب أهل الإيمان في هذا الزمان يبعد خواطر التشاؤم عن القلوب ، ويبعث على التفاؤل بتمكن الإسلام في القلوب ، وضرورة غلبته ، وظهوره وهيمنته على سائر الأمم والشعوب ، قال عليه الصلاة والسلام : ( ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) وقال صلى الله عليه وسلم+ : ( إن هذا الدين لا يترك بيت مدر ـ أي طين ـ ولا وبر إلا دخله ، بعز عزيز وذل ذليل)، ولقد بشر صلى الله عليه وسلم بانتصار المسلمين على اليهود والروم آخر الزمان وبفتح روما عاصمة الفاتيكان .. {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
أيها المؤمنون :
إن هذا القرن المبارك ـ إن شاء الله ـ من قرون الظهور والغلبة للدين ، والعز والتمكين والنصر للمسلمين ، فلقد مضى عُشره مشتملا على أحداث ذات عبر ، وحاملا لبشائر بعد النذر ، تنبئ عن مستقبل للإسلام وهزائم منكرة لأعدائه المتربصين به الدوائر ، عليهم دائرة السوء ..فلقد ظهر خلال السنوات الماضية فشل الإلحاد ، وأعلن أهله إفلاسه على رؤوس الأشهاد ، وتلك والله خسارة الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ولقد تهاوت فيه عروش الطغاة الظلمة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وظلموا العباد فأخذهم الله على حين غرة ، وجعلهم لأمثالهم آية وعبرة وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}
ومن العبر الظاهرة ودلائل قدرة الله الباهرة أن الإسلام والمسلمين يتآمر عليهم الأعداء من كل جهة ، ويتنادون عليهم من كل صوب ، تسخر في حربهم الأموال الطائلة ، وتحشد عليهم الجيوش الهائلة ، وتنظم المؤتمرات العالمية لكيفية القضاء عليهم والفتك بهم خاصة العلماء الربانيين والدعاة المخلصين فيكال لهؤلاء خاصة وللمسلمين عامة صنوفا من التعذيب والإعدام ، ويكال لهم أنواع السب والشتم والاتهام ..ومع ذلك كله ولله الحمد لا يزداد الإسلام إلا تمكنا من القلوب ، وتغلغلا في الشعوب ، وانتشارا في الأوطان ، ولا يزداد أهله إلا إقبالا عليه ورغبة فيه والتزاما به وجهادا من أجله ، وصدق(1/1116)
الله العظيم إذ يقول {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
فمع جهود أعداء الإسلام الجبارة لحرب الإسلام ، وكثرة مؤامراتهم ومؤتمراتهم على أهله على الدوام ، فإن الصحوة الإسلامية قد عمت الآفاق ، وغاضت ـ بحمد الله ـ أهل النفاق وذلك فضل الله جل جلاله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
آلا إنها دعوة للثقة بوعد الله بالنصر المبين للإسلام والمسلمين ..
آلا إنها دعوة للاستقامة على الدين والدعوة إليه والدافع عنه وتسخير الطاقات والجهود من أجله ، وأن تكون حياتنا كلها فداء لهذا الدين ، وخدمة لهذا الدين فلا يشغلنا عنه شاغل ولا يصرفنا عنه صارف .
آلا إنها دعوة لأن نكون من أولياء الله المتقين ، وجنده المؤمنين { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }
ــــــــــ
بشائر النصر في فلسطين
خالد بن محمد طقاطقة
عبدون
7/7/1426
جامع أبو بكر الصديق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- فضل المبادرة إلى صلاة الجمعة. 2- استجابة الله تعالى لدعاء المضطرين. 3- بشائر النصر. 4- سنة الابتلاء.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، أيتها المسلمات، يا أصحاب الجباه الطاهرة المتوضئة الساجدة الطائعة، يا من تحفكم ملائكة الرحمن بعد أن طوت الصحف ليستمعوا الذكر الآن، قال : ((إذا كان يومُ الجمعة قعدت(1/1117)
الملائكة على أبواب المسجد يكتبون من جاء من الناس على قدر منازلهم، فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم شاة، ورجل قدم دجاجة، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضة، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر)) أخرجه الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح.
فصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم محمد ، وصلاة الله وسلامه على النبيين والمرسلين، وسلام الله على الملائكة الكرام البررة، وسلام الله على الصديقين والشهداء ما تعاقب صيف وشتاء، وما امتدّ ظلٌ وفاء، سلام الله على شهداء الأمة الذين رووا الأرض بدمائهم الزكية، سلام الله على شهداء الأقصى الذين عرفوا طريق الجنة، ولسان حالهم يقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، وهنيئًا لنا أمة الإسلام أن جعلنا الله من المسلمين، وأن أكرمنا لنكون في بيتٍ من بيوته مع الملائكة الكرام الكاتبين، فأي تشريفٍ أعظم من تشريف الله تعالى؟! وأي نصرٍ أعظم من نصر الله تعالى؟! وأي بشاراتٍ أعظم من بشارات القرآن العظيم؟! نعم، القرآن ربيع قلوب المؤمنين، ومثبّت همم المجاهدين، ومصبّر الجرحى والثكالى، وأنيس المأسورين، وأي مناجاةٍ أعظم من قرع أبواب السماء بالدعاء؟! فكم من أشعث أغبر من بين المسلمين كان صادقًا في دعواه حتى قرعت أبواب السماء وهو يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، فكانت دعوات هؤلاء الصالحين تقرع أبواب السماء حينما انقطعت كلّ الأسباب وأغلقت كلّ الأبواب إلا باب الرحمن الجبار العزيز الوهاب الذي بيده العزّ والعطاء والنّصر والتأييد، إنه الباب الوحيد الذي وقف عنده الأنبياء والصالحون والمجاهدون، قال الله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
إنه يسمع دعاء المضطرين، ويعلم صدق المجاهدين، يسمع أنين المجروحين، ويعلم نية المرابطين، فيا لها من آيةٍ متجدّدةٍ وكأنها أنزلت اليوم، سهام قسّام المجاهدين في أرض فلسطين على رؤوس إخوة القردة والخنازير من المعتدين والمغتصبين أحالت بقدرة الله ليلهم إلى جحيم ونهارهم إلى نار حتى أيقنوا بقدرةِ القادر الجبار، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وكأن الآية تقول لنا: إن أردتم مزيد نصر فاقرعوا أبواب من ذلّت له الرقاب، فلا إله إلا الله، ما أكرم الله، ولا إله إلا الله، ما أعظم الله.
فهذه دعوات إلى الرحمن السميع العليم صاعدة، وهذه آيات من الرحمن العزيز كأنها اليوم منزلة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وقال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، فكل شيءٍ حولنا ـ يا(1/1118)
عباد الله ـ لله فيه حكمة، وتذكّروا أن كل من كان عدوًا لله فهو ضعيف، قال الله تعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ، فثقوا بنصر الله وبوعد الله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وقال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، وقال سبحانه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ، وقال تعالى: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلقد تضمّنت سيرة النبي مجموعةً من المبشرات لهذه الأمة المباركة، ومن ذلك ما رواه الصحابي الجليل المجاهد خباب بن الأرت قال: أتيت النبي وهو متوسّد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: ألا تدعو الله؟! فقعد وهو محمرٌ وجهه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحمٍ وعَصَبٍ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوي ـ والذئب على غنمه)) وفي روايةٍ: ((ولكنكم تستعجلون))، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
فثقوا ـ يا عباد الله ـ بنصر الله، فإن نصر الله قريب، وبشائر النصر قد لاحت بإذن الله في الأفق، يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
أتذكرون ما أصابكم يوم أحد؟! أتذكرون ما أصابكم من جراحٍ وحصارٍ وتضييق؟! أتذكرون شهداءكم؟! أتذكرون بكاء أطفالكم؟! أتذكرون أنين الأيتام؟! أتذكرون حنين المبعدين؟! أتذكرون وتذكرون؟! فقد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة والهلاك على الكافرين، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. وإن كان قد أصابكم قتل وجرح فقد أصاب أعداءكم قريبٌ من ذلك، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء).(1/1119)
عباد الله، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. نقول ذلك ـ يا عباد الله ـ ونكرره لأنّ الله وحده هو الذي يهبنا النصر ولا أحد غيره، فهو يهب النصر لمن شاء ومتى شاء، فلا يظننّ ظانّ بأن النصر لهذه الأمة يقوم بلا إسلام، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ، وقال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. ومدح الله المؤمنين الذين عرفوا حقيقة النصر فأقاموا شرع الله في أرض الله، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ.
فنسأل الله العظيم أن يهيّئ لإخواننا في أرض فلسطين الحكم بكتاب الله وبسنة النبي ليكون بصيص النصر في هذه الأيام مباركًا في أرض غزّة هاشم، نصرًا يشعّ بعد نحو أربعين سنةٍ من الجهاد والرباط، وفاتحةً بإذن الله لفكّ قيود الأقصى المبارك وما ذلك على الله بعزيز، ونسأل الله تعالى أن لا يحقّق لأعدائه غاية، وأن لا ينجح لهم أمنية، وأن يحفظ أهل فلسطين من مؤامرات المعتدين الذين يمكرون ويخططون لفتنة المسلمين وطمس عقيدتهم وزرع الفتنة بينهم، فقد قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ، فكلنا أملٌ وثقةٌ بإذن الله أن اندحار المغتصبين من أي شبرٍ من أراضي المسلمين هو نصرٌ وإن سماه أعداؤنا ما سموه، ولن يكتمل فرح المسلمين إلا باسترداد كامل الحقوق المغتصبة بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، وتتويج ذلك كله بعودة الأقصى الأسير إلى سماحة الإسلام ونوره، فنسأل الله أن يكون ذلك قريبًا، ونسأله تعالى أن يجمع قلوب إخواننا في أرض فلسطين، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه جواد كريم.
ــــــــــ
التوكل على الله سبيل النصر
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/1/1426
المسجد الأقصى(1/1120)
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- من صور الصبر والتوكل في معركة بدر وحمراء الأسد. 2- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 3- موعدة بدر الصغرى. 4- أثر الخشية في التغلب على المحن. 5- محاولة اليهود تشويه صورة المسلمين وتاريخهم. 6- تواصل الاعتداءات اليهودية على مقابر المسلمين وأراضيهم. 7- خطورة المحاولات اليهودية للنيل من المسجد الأقصى.
-------------------------
الخطبة الأولى
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، قد ذكرت كتب التفسير وكتب السيرة النبوية المطهرة أنه بعد أن وقعت أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل انتشى أبو سفيان زعيم المشركين في مكة المكرمة وقتئذ فرحًا، ونادى بأعلى صوته: يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، أي: نتلاقى في العام القادم في مكان بدر، فأجابه مباشرة: ((نعم، إن شاء الله)).
أيها المسلمون، لما رجع الرسول إلى المدينة المنورة أصبح حِذَرًا من زحف المشركين إلى المدينة ليتمّموا غلبتهم وفرحتهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضوان الله عليهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يُعرف بحَمْرَاء الأسَد، وكان ما توقّعه الرسول قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المكرمة، ولكن لما علّموا بخروج النبي من المدينة باتجاه مكة ظنوا وتوهموا أنه قد حضر معه جيش كبير، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم، ورجعوا القَهْقَرَى إلى مكة، وعَدَلوا عن التوجه إلى المدينة.
أيها المسلمون، بينما كان في موقع حَمْرَاء الأسَد أُلقِي القبضُ مرّة أخرى على المشرك أبي عزّة الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرًا في غزوة بدر الكبرى، وقد مَنّ عليه الرسول وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرًا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبا عزّة الشاعر لم يلتزم بوعده وعهده، فاستمرّ في نظم الشعر ضد الإسلام والمسلمين، فأمر بقتله، فأخذ أبو عزّة الشاعر يتوسل ويتَمَسْكَن ليمنّ عليه الرسول مرة أخرى، فقال له: ((لا والله، لا تمسح عارضيك بالكعبة(1/1121)
وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين)). هذا، وتعتبر غزوة حمراء الأسد أول رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، هذا درس بليغ للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ، وليس كِيْسَ قُطْنٍ، ينبغي عليه أن لا يُلدغ من جُحر واحد مرتين. أما الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي فقد لُدِغت من جُحر واحد مرات ومرات، ولم تتعظ إلى الحين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، لقد تمكّن رسولنا الأكرم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عَسْكَرَ المسلمون فعلاً في موقع بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان اللذين سبق لأبي سفيان أن حدّدهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إخافة وإرجاف المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل، وإن الحرب النفسية والإشاعات لم تؤثر على المسلمين، واستمروا متوجّهين إلى مكان بدر وهم يردّدون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فازداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم.
أيها المسلمون، إذا وقع المسلم في كرب شديد فإنه يلجأ إلى الله رب العالمين داعيًا: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ لقول رسولنا الأكرم : ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))، وقد سبق وأن ردّد هذا الدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أُلقِي في النار، فكانت النار بردًا وسلامًا عليه.
أيها المسلمون، لقد خرج المسلمون فعلاً، ومكثوا في موقع بدر ثلاثة أيام، وقاموا بأعمال تجارية بأمن وأمان، ثم عادوا غانمين سالمين، ويشير الله عز وجل إلى ذلك بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه مع العمل الجاد، فإنه لا ملجأ إلا إليه سبحانه وتعالى، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله رب العالمين يُطوّع له المخلوقات كلها، سئل الإمام الحسن البصري رحمه الله: كيف تخاف من ربنا؟ فقال للسائل: "لو ركبت أنت البحر، فتحطّمت سفينتك، فلم يبق منها إلا لوح، فأمسكت به فوق الموج العالي، كيف يكون حالك؟" قال السائل: خوف شديد، قال البصري: "أنا هكذا مع الله، في خوف منه ليل نهار".(1/1122)
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم ييأس المسلمون مما حلّ بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يستسلموا، لم يتهرّبوا من المسؤولية، لم يتخاصموا على الكراسي والمناصب والعروش، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا بمؤتمرات سياسية ولا بقرارات، لم يُوكلوا أمرهم للأوهام والتمنيات.
وما نيل المطالب بالتمنّي ... ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منال ... إذا الأقدام كانت لهم رِكَابا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد مرّت مِحَن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية؛ لأنهم كانوا يخافون الله ويخشونه، وقد ورد عن البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أنه كان يحثّ جُنده على تلاوة القرآن الكريم، وكان يطرد اليأس من قلوب ونفوس المواطنين امتثالاً لقوله عز وجل: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].، فلا بد من الرجوع إلى الله العلي القدير في كل وقت وحين، وأن يدفعنا ذلك للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، ومن يرزقنا؟ إنه هو الله، ومن يميتنا ويحيينا؟ إنه هو الله، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ورد في الأثر: إن أربعة من الملائكة يحملون عرش الرحمن، وإن هؤلاء الملائكة سَبَق أن منحهم الله عز وجل قوة السماوات والأرض والجبال والرياح، إلا أنهم لم يتمكّنوا من حمل العرش حتى قيل لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحينما قالوها استطاعوا حمل العرش.
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، هناك أربع نقاط تهمّ أمور المسلمين ومصالحهم العامة، أشير إليها بإيجاز:
أولاً: محاولة التشويه لصورة العرب والمسلمين بأنهم يهتمّون بالجنس ويشربون الكحول، وأنهم حمقى لم يقدّموا أيّ مساهمة للإنسانية. هذا ما يزعمه محاضر يهودي في جامعة حَيْفا، وكان الأحرى بهذا المحاضر اليهودي أن يُحاسب نفسه قبل أن يحاسب وينتقد غيره، ويتوجب عليه أن يكون موضوعيًا وأمينًا في الحكم على غيره، وأن يطلع على الحضارة الإسلامية من مصادرها الموثوقة قبل أن يتطفّل ويتكلّم في هذا الموضوع، والأنكى من ذلك أن الطالب الذي ناقش هذا المحاضر واعترض على هذه الافتراءات ستحاكمه إدارة الجامعة، وتحيله إلى لجنة تأديبية، أي: إن موقف إدارة الجامعة كان مع المحاضر ضد الطالب العربي. وإننا إذ نقف إلى جانب هذا الطالب الذي تصدّى للمحاضر الجاهل(1/1123)
العنصري، ونطالب الأساتذة والطلاب العرب في جامعة حَيْفا وغيرها من الجامعات أن يبرزوا الوجه الحضاري للشريعة الإسلامية عبر التاريخ والإنجازات التي قدمتها للحضارة الإنسانية جمعاء.
ثانيًا: المقابر الإسلامية في فلسطين، هناك انتهاكات متواصلة لحرمة المقابر الإسلامية، وكان من آخرها ما أُثير حول مقبرة الاستقلال في حَيْفا، وقد أصدرنا مؤخّرًا فتوى شرعية تأكيدًا لفتاوى سابقة، تتضمن وجوب المحافظة على حرمة هذه المقابر وصيانتها من العبث ونبش القبور، وذلك بإقامة أسوار حولها وإعادة دفن الموتى.
ثالثًا: توسيع المستوطنات ومصادرة آلاف الدونمات، لقد قررت الحكومة الإسرائيلية خلال هذا الأسبوع بناء 6400 وحدة سكنية في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى توسيع المستوطنات في محيط مدينة القدس، وشقّ طرق جديدة للربط فيما بين المستوطنات لمحاصرة مدينة القدس وخنقها، وهذا يؤدي إلى مصادرة آلاف الدونمات من أراضي المواطنين الفلسطينيين، وهذا يؤكد أن السلام المطروح هو سلام مزعوم للخداع وللمراوغة وكسب الوقت، ونؤكد على عدم شرعية هذه المستوطنات، وأن حق المواطنين في أراضيهم سيبقى قائمًا إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، رابعًا وأخيرًا: المسجد الأقصى المبارك تاج القدس ودرّة فلسطين ورمز ثباتنا ومرابطتنا، تواصل الشرطة الإسرائيلية تحذيراتها من هجوم محتمل للمتطرفين اليهود. ونتساءل: هل الشرطة الإسرائيلية لا تعرف هؤلاء المتطرفين؟! ولماذا تتركهم يصِلُون ويفسدون ويعربدون دون أن تعتقلهم اعتقالاً على الأقل؟! وهل يستطيع هؤلاء المتطرفون تنفيذ مخططاتهم العدوانية دون علم الحكومة الإسرائيلية المحتلة؟! المسؤولة [مسؤولية] كاملة عن أي مسّ بحرمة المسجد الأقصى المبارك، كما نحمّل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي المسؤولية لحماية المقدسات وتحرير البلاد والعباد.
ــــــــــ
شهر النصر
الخطبة الأولى
أما بعد. .
فأتقو الله أيها المؤمنون واعلموا أن شهر رمضان لم يكن عند سلفنا شهر صيام وقيام ودعاء واعتكاف وعمرة وإكثار من العبادة فحسب بل كان شهر جهاد ومجاهدة ودعوة وعمل فقد سطروا فيه أعظم الانتصارات وأكبر الفتوحات وإن ليالي هذا الشهر وأيامه تحكي ما حققته الأمة من انتصارات وأمجاد فقد كان في هذا الشهر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في غزوة بدر الكبرى التي هي شامة في جبين التاريخ.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدأ(1/1124)
فقد فرق الله في هذه الغزوة بين الحق والباطل فنصر الله دينه وأظهر نبيه وأطاح رؤوس الكفر والشر والظلم والطغيان قال الله تعالى ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?(1)، فكانت هذه الغزوة صفحة من صفحات المجد المشرق في تاريخ هذه الآمة. وقد منّ الله تعالى على الأمة في هذا الشهر أيضا ففتح بيته لنبيه وطهّره من أوطار الشرك ولوثات لكفر ومظاهر الظلم والاستكبار فكان حديثاً عظيماً كبيراً ليس في تاريخ الأمة فحسب بل وفي تاريخ البشرية كلها، كيف لا؟ وقد أعز الله بهذا الفتح دينه ورسوله وحزبه واستنقذ به بلده وبيته من أيدي الكفار والمشركين وقد استبشر بهذا الفتح أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس به في دين الله أفواجا وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً وانحسرت به الوثنية في جزيرة العرب. وما انفك هذا لشهر المعطاء أن يكون محلاً ومضماراً لأمجاد وبطولات وانتصارات لهذا الأمة عبر التاريخ وهذا يؤكد أن شهر الصيام له أثر بالغ في تحقيق النصر وصناعة المجد وكيف لا يكون كذلك وهو شهر الصبر والتقوى أما الصبر فإن من الكلام المأثور: "الصوم نصف الصبر" فالصوم يربي المسلم على ترك المحاب والملاذ والشهوات ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإن لي وأنا أجزي به يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))(2).
أما التقوى فإن الله إنما فرض الصيام على عباده لتحقيقها قال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?(3) وبالصبر والتقوى يحقق العبد أول درجات النصر الكبرى وأسبابه قال الله تعالى: ?إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ?(4) فإذا صبرت الأمة واتقت الله سبحانه وتعالى وقاها شر عدوها ودافع عنها ?إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ?(5). وهذا مما يؤكد أهمية تحقيق المقصود من الصيام فإن المتقدمين لما حققوا غايات الصيام ومقاصده جعل الله شهر صومهم شهر عز ونصر وتمكين ومجد. ولما ضعف صبر الأمة وقلّ تقواها وتمسكها بدينها وتركت الجهاد جعلها الله غرضاً لأعدائها فأحل بها الكفر أعظم الضيم وأنزل بها الأعداء ألوان الكيد والتعذيب:
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وميض قاطع ودم صبيب
أيها المؤمنون إن المتأمل لحركة المد والجزر في تاريخ الأمة لا يعتريه شك أن الأمة اليوم تمر بأصعب أيامها وأشد أحوالها فإنه وإن كان قد نزل بالأمة نكبات وحلت بها الكوارث والأزمات فإنها لم تزل على ثقة بدينها وربها معتز بالإسلام فخورة بالأيمان لذا فإنها سرعان ما وثبت من سباته وانقشعت كروبها بمراجعة دين ربها أما اليوم فإن كثيرا من المسلمين أصيبوا في إيمانهم ودينهم واجتمع عليهم أعدائهم فرموهم عن قوس واحده كما أخبر النبي صلى الله علية وسلم حيث قال: ((تداعى عليكم(1/1125)
الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا أو من قلة يا رسول الله؟ قال لا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم وليلقين في صدوركم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت)).
وواقع الأمة اليوم يجسد هذا الحديث ويوضحه فأعداد المسلمين كثيرة ولكنها لا تفرح صديقاً ولا تخيف عدواً فهم غثاء كغثاء السيل وأما أعداؤنا من اليهود والمشركين والنصارى والمنافقين فقد جمعوا فلولهم ورصوا صفوفهم وجمعوا كلمتهم على حرب الأمة وتدميرها وإذلالها ونهب ثرواتها.
فالوثنيون والملحدون ممثلون بالعالم الشرقي يسحقون المسلمين بالحديد والنار يتربصون بالأمة الدوائر ويكيدون لها المكائد ولا يجدون فرصة ينفسون فيها عن أحقادهم إلا فعلوا وما تخفي صدورهم أكبر وما يفعلونه بإخواننا في كشمير وفي الهند وفي بورما وفي بلاد الشيشان خير شاهد على ضراوة عداوتهم.
أما الصليبيون ممثلون بالعالم الغربي الكافر فهم ورثة الأحقاد والضغائن على الأمة فالصليبيون ضائقون بالإسلام منذ ظهوره وقد اشتبكوا مع المسلمين في حروب طويلة مضنية إلا أن التاريخ لم يشهد حدة في العداء وخبثاً في الأداء وإصراراً وتصميماً على تدمير الأمة وإفنائهما كما يجرى منهم اليوم فهاهم خبراؤهم وكبراؤهم وساستهم يتنادون لحرب الإسلام وما ذاك الذي يجري في بلاد البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد الإسلام إلا ثمرة أعمالهم وجني أحقادهم وما هذه الهيمنة السياسية والتسلط الاقتصادي والاستكبار الحضاري على المسلمين إلا قليل من كثير وغيض من فيض وقد صدق القائل:
عاد الصليبيون ثانية وجالوا في البطاح
عاثوا فساداً في الديار كأنها كلأ مباح
أما اليهود فقد زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي وهم سماسرة الكيد والمكر والخبث وقد ضربوا أفضع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم والتسلط عليهم والتلاعب بهم وانتهاك مقدساتهم ولا عجب في ذلك فهم الذين قال الله عنهم ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?(6) وهم الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودبروا له المكائد ونقضوا العهود والمواثيق وهل ما يجري اليوم في فلسطين الغالية وفي غيرها من البلاد إلا من صنائعهم فعجباً لمن نسي الكتاب وركض وراء السراب بطلب الصلح أو السلم مع أرباب الغدر والمكر يهود:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد أن كان في القلب أيمان وإسلام
أما المنافقون فهم اشد الأعداء خطراً وأعظمهم فتكاً لذا قال الله تعالى عنهم: ?هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ?(7) لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة لبسوا مسوح الضأن على قلوب الذئاب فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار دعاة على أبواب جهنم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، تلونت راياتهم وتشكلت شعاراتهم فتارة قوميون وتارة وطنيون وتارة علمانيون(1/1126)
تعددت الأسماء والكفر واحد، عاثوا في الآمة فساداً ودماراً فهل التغريب الذي تعيشه الأمة إلا من صنعهم وهل تنحية الشريعة وتطبيق القوانين الوضعية إلا من أعمالهم؟ وهل محاربة الدين وأهله وعلمائه ودعاته ألا تجارتهم. فللّه كم من راية للدين قد نكسوها؟ وكم من شعيرة من شعائره قد عطلوها؟ وكم من عالم أو عامل أو داعية لله قد آذوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبليه فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون هؤلاء هم أعداء دينكم الظاهرون والمستترون سعو إليكم بالبوائق والأزمات وجرمكم الذي اقترفتموه أنكم رضيتم بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ?وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ?(8).
الخطبة الثانية
أما بعد. .
أيها المؤمنون إن أمتكم مغزوةٌ من داخلها ومحاربة من خارجها أما غزوها من الداخل فذلك بالمنافقين المتربصين من العلمانيين و أشياعهم الذين أضعفوا إيمان الأمة بريها ودينها بشبهاتهم وشهواتهم و أما حربها من خارجها فبهذا التداعي العالمي لأمم الكفر من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين على أمة الإسلام ولن تنجوا الأمة من هذين الشبحين إلا بإقبالها على ربها ورجوعها إلى دينها وإعلائها رايات الجهاد بأنواعها جهاد النفس وجهاد العُصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين وجهاد الكفار فان ما أصاب الأمة وما أصابها إلا لما هجرت ظهور الخيل وأخذت بأذناب البقر ويدل لذلك ما رواه أبو داود وغيره بإسناد عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله علية وسلم ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فعلينا أيها الأخوة الأخذ بأسباب النصر وسننه للخروج من ماسي اليوم وتحقيق أمال الغد فإن النصر لا ينزل اعتباطاً ولا يخبط خبط عشواء بل هو وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس.
فمن هذه السنن أن تعلم أن النصر من عند الله تعالى كما اخبرنا مولانا حيث قال ?وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ?(9) فمهما طلبنا النصر من غيره أذلنا الله وخيب سعينا وما أحوجنا إلى أن نجأر إلى الله تعالى بما قاله الأول:
فيارب هل إلا بك النصر يرتجى عليهم وهل إلا عليك المعول
ومن أسباب النصر أن النصر لله تعالى بأقواله و أعماله وقلوبنا فان الله تعالى قال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ?(10) ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره و إعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله قال الله تعالى في بيان المستحقين للنصر ?الَّذِينَ إِنْ(1/1127)
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ?(11).
ومن سنن النصر أنه آتٍ لا محالة للمؤمنين الصادقين وأن التمكين للإسلام متحقق رغم العوائق والعقبات فالدين دين الله والله ناصر دينه وأولياءه قال الله تعالى: ?إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?(12) لكن هذا الوعد لا يعني أن لا يبتلى المؤمنون بالنكبات والأزمات ولا يعني أن لا تصاب الأمة بالمصائب والكوارث بل كل هذا لابد منه ليميز الله الخبيث من الطيب قال الله تعالى: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ?(13) وقد يبتلي الله تعالى الآمة بتأخير النصر أو تمكين الأعداء بسبب الذنوب والمعاصي قال تعالى: ?أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ?(14) فإذا أصريت أنا وأنت على تقصيرنا وذنوبنا فهل نرجوا أن يصلح الله الأحوال ويرفع عنا هذا الذل والصغار والانكسار إن هذا لمن أمحل المحال قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ?(15) فإن لم يكن منا نزوعٌ عن الذنوب وإقلاع عن المعاصي ونصرٌ للدين وأهله فان الله ينصر دينه بغيرنا قال تعالى: ?وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ?(16).
أيها الأخوة المؤمنون اعلموا أن من أقل ما يجب علينا تجاه إخواننا أن نشعر بما يشعرون به من ألم وضيق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((مثل المؤمنين في تواضعهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه.
وإن من واجبنا تجاه إخواننا أن ننصرهم بما نستطيع من مال ونعينهم به على الجهاد أعدائهم وأعدائنا ونكسوا أولادهم ونطعم جائعهم ونخلفهم في أهليهم وذويهم وهذا هو أقل ما يجب علينا تجاههم، فأنفقوا في سبيل الله فإنها من اعظم النفقات قال الله تعالى: ?مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?(17) وقال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، دينار ينفقه على دابة في سبيل الله، دينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم. ومازال السلف الصالح رضي الله عنهم يبذلون جهدهم في الأنفاق في سبيل الله والتقرب إلى الله تعالى بمساعدة الغزاة والمجاهدين وإدخال السرور عليهم بما تصل إليه استطاعتهم قليلاً كان أو كثيراً حتى إن بعض نسائهم تصدقت بشعرها عقالاً لفرس في سبيل الله ?وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ?(18).
(1) آل عمران: 123
(2) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد برقم: 6938.(1/1128)
(3) البقرة: 183.
(4) آل عمران: 120.
(5) الحج: 38.
(6) المائدة: 82.
(7) المنافقون: 4
(8) البروج: 8
(9) آل عمران: 126.
(10) محمد: 7.
(11) الحج: 41.
(12) غافر: 51
(13) البقرة: 214.
(14) آل عمران: 165.
(15) الرعد: 11.
(16) محمد: 38.
(17) البقرة: 261.
(18) محمد: 38.
ــــــــــ
معيار النصر
د:محمدبن موسى الشريف
لقد جرى ما جرى في العراق ، وضاقت صدور قوم مؤمنين ، وامتلأت قلوبهم غيظاً وحنقاً ، وليس بسبب ما جرى على صدام وحزبه ولكن لأسباب أخرى منها :
1- انهيار الوضع فجأة بحيث تمكن الصليبيون المتصهينون دون مقاومة تذكر ، ولا نكاية كانت متوقعة فيهم ، وهذا بسبب التعبئة الكبيرة الكاذبة التي قام بها النظام ، وما كانوا يدعونه من أن بغداد ستكون مقبرة للغزاة ، وتعاطفت الشعوب الإسلامية تعاطفاً كبيراً جداً مع هذا الطرح ، وبنيت عليه الآمال العظام ثم فوجئوا بما جرى مما لم يكن في حسبانهم أبداً ، وهذا أورث كثيراً من الناس إحباطاً كبيراً ويأساً عظيماً ، وانهارت آمال كثير من الشباب المتحمس المتوقد والفتيان المتوثبين.
2- تمكن الصليبين المتصهينين من البلاد العزيزة على قلوبنا ، ومن مهد الحضارة الإسلامية ، وبدء تهديدهم لسورية وإيران وغيرهما من بلاد الإسلام ، وفي ذلك خوف كبير على هذه البلاد العزيزة الغالية.(1/1129)
3- أثر هذه الأحداث العالمية في ترسيخ الطغيان الصليبي - الصهيوني ، وما تطبعه في أذهان الناس من سيطرة هؤلاء على مقاليد الأمور ، وما تضخمه في قلوبهم وعقولهم من هذه القوة والغاشمة ، وكل ذلك مردوده سلبي جداً.
4- اجتراء القوى الأخرى على المسلمين ، وخاصة إخوان القردة والخنازير على إخواننا في فلسطين ، واجتراء الهنادكة عباد البقر على إخواننا في كشمير ، والصليبيين الفلبينيين على إخواننا هنالك.
المصدر:http://www.alta r eekh.com
ــــــــــ
بشائر النصر لهذا الدين
أي نعمة عظيمة تنعم بها هذه الديار ؟ وأي منحة جليلة يعيشها أهل هذه البلاد؟ إنها نعمة الإسلام وأكرم بها من نعمة ، إنها نعمة الالتزام بهذا الدين وأعظم به من منحة ..إن دين الإسلام هو الدين الحق الذي كتب الله جل جلاله له البقاء ، وقضاء وقدر سبحانه أن الله ناصر دينه ، ومعل كلمته ، مهما طال الزمان أو قصر ، ومهما تكالب الأعداء للفتك به وبأهله فإن الدائرة على الكافرين قال تعالى {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } إذن المستقبل لهذا الدين ، والعزة لأهل هذا الدين ، والتمكين للمتمسكين بهذا الدين ، العاضين عليه بالنواجذ ، المهتدين بهديه ، المستنين بسنته ، المقتفين أثره ، السائرين على منهاجه قال جلاله في تجلية هذه الحقيقة الكبرى ، والنعمة العظمة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }وقال سبحانه {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
وإن ديناً كتب الله له الظهور ، ولأهله النصر والتمكين في الأرض لابد وأن يستعلي ويهيمن ، وأن يصبح أهله أهل القيادة والسيادة ، فيملأ الأرض عدلا كما ملأت جورا ، وأن يحرروا الناس من عبودية المخلوقات إلى عبادة الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، الذي { إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
إن هذا الدين يحتاج إلى رجال ..نعم رجال صادقين يعرفون حقيقته ..ويتمسكون بمعالمه ، ويثبتون عليه حتى يلقوا ربهم سبحانه ، ولا يهولنهم إرجاف المرجفين ، ووعيد المتسلطبن ، ولا يفتنهم انحراف الكثيرين ممن آثروا الحياة الدنيا على الدين ، واتبعوا سبيل غير المؤمنين ..لأنهم سألوا التاريخ ..واستنطقوا الأحداث الطويلة عبر سائر الأعصار وشتى الأمصار لتتجلى لهم تلك الحقيقة الناصعة ،أن(1/1130)
هذا الدين قد حفظه الله تعالى ،وحقق لأهله العزة والتمكين والنصر المبين على سائر أعداء الدين ،مهما كانوا عليه من قلة في العدد ، وضعف في العُدد ، ومهما كان عليه أعداء الدين من كثرة العدد ، وقوة في العُدد ..إن استقرار هذا المعنى في قلوب أهل الإيمان في هذا الزمان يبعد خواطر التشاؤم عن القلوب ، ويبعث على التفاؤل بتمكن الإسلام في القلوب ، وضرورة غلبته ، وظهوره وهيمنته على سائر الأمم والشعوب ، قال عليه الصلاة والسلام : ( ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) وقا صلى الله عليه وسلم + : ( إن هذا الدين لا يترك بيت مدر ـ أي طين ـ ولا وبر إلا دخله ، بعز عزيز وذل ذليل)، ولقد بشر r بانتصار المسلمين على اليهود والروم آخر الزمان وبفتح روما عاصمة الفاتيكان .. {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
أيها المؤمنون :
إن هذا القرن المبارك ـ إن شاء الله ـ من قرون الظهور والغلبة للدين ، والعز والتمكين والنصر للمسلمين ، فلقد مضى عُشره مشتملا على أحداث ذات عبر ، وحاملا لبشائر بعد النذر ، تنبئ عن مستقبل للإسلام وهزائم منكرة لأعدائه المتربصين به الدوائر ، عليهم دائرة السوء ..فلقد ظهر خلال السنوات الماضية فشل الإلحاد ، وأعلن أهله إفلاسه على رؤوس الأشهاد ، وتلك والله خسارة الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ولقد تهاوت فيه عروش الطغاة الظلمة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وظلموا العباد فأخذهم الله على حين غرة ، وجعلهم لأمثالهم آية وعبرة وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}
ومن العبر الظاهرة ودلائل قدرة الله الباهرة أن الإسلام والمسلمين يتآمر عليهم الأعداء من كل جهة ، ويتنادون عليهم من كل صوب ، تسخر في حربهم الأموال الطائلة ، وتحشد عليهم الجيوش الهائلة ، وتنظم المؤتمرات العالمية لكيفية القضاء عليهم والفتك بهم خاصة العلماء الربانيين والدعاة المخلصين فيكال لهؤلاء خاصة وللمسلمين عامة صنوفا من التعذيب والإعدام ، ويكال لهم أنواع السب والشتم والاتهام ..ومع ذلك كله ولله الحمد لا يزداد الإسلام إلا تمكنا من القلوب ، وتغلغلا في الشعوب ، وانتشارا في الأوطان ، ولا يزداد أهله إلا إقبالا عليه ورغبة فيه والتزاما به وجهادا من أجله ، وصدق الله العظيم إذ يقول {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ، لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
فمع جهود أعداء الإسلام الجبارة لحرب الإسلام ، وكثرة مؤامراتهم ومؤتمراتهم على أهله على الدوام ، فإن الصحوة الإسلامية قد عمت الآفاق ، وغاضت ـ بحمد الله ـ أهل النفاق وذلك فضل الله جل جلاله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم(1/1131)
آلا إنها دعوة للثقة بوعد الله بالنصر المبين للإسلام والمسلمين ..
آلا إنها دعوة للاستقامة على الدين والدعوة إليه والدافع عنه وتسخير الطاقات والجهود من أجله ، وأن تكون حياتنا كلها فداء لهذا الدين ، وخدمة لهذا الدين فلا يشغلنا عنه شاغل ولا يصرفنا عنه صارف .
آلا إنها دعوة لأن نكون من أولياء الله المتقين ، وجنده المؤمنين { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }
ــــــــــ
واقع العراق وأثر النفاق في تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين
د محمد الدسوقى بن على
في هذا المنعطف الخطير من تاريخ الأمة الإسلامية وفي هذا الوقت العصيب الذي تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. يستشعر المتأمل في واقع المسلمين عامة والمتابع لمجريات الأحداث على الساحة العراقية بخاصة، لماذا يتأخر النصر عن المسلمين؟ ويدرك - وربما أكثر من أي وقت مضى- أن أعظم معوق لإحراز النصر لأمة الإسلام هم المنافقون، وكيف أضحوا غصّة في حلوق المجاهدين الشرفاء، وشوكة في طريق المدافعين والمناضلين والساعين لتحرير أرضهم وديارهم، وكيف صاروا هم أخطر أثراً وأشد ضرراً على الإسلام وعلى أمة الإسلام من أعداء الإسلام، وأضحى مكر عدو الله وعدو المؤمنين لا يساوي بجانب مكرهم شيئاً .. كما يلحظ كيف يتزلفون ويذلون أنفسهم ويفصّلون منها نعالاً وأحذية في أرجل أهل الكفر، ينفذون مخططاتهم ويقومون بما يعجز الأعداء عن القيام به بل ويكفونهم في كثير من الأحيان مئونة الاقتتال، يستجلبون عطفهم ورضاهم ويطلبون منهم العون لقتل ذويهم وبني قومهم ويوالون ويعادون عليهم ويحبون ويكرهون لأجلهم، ولا نبالغ إذا قلنا أنهم في سبيل جلب رضاهم يساهمون في تخريب بلادهم وإهلاك حرثهم ونسلهم، ناهيك عن دورهم المشبوه في حجب نور الله وإقامة دينه والتمكين في مقابل ذلك لأعداء الإسلام.
يلمس المتابع لما يجري على أرض الرافدين وكل غيور على عروبته حريص على دينه، حجم الضرر الناتج عن أولئك الذين أصبحوا دمىً تحركهم أمريكا كيف تشاء، وكيف يسارعون في أهل الكفر يتكلمون بلسانهم ويتقدمونهم ويفدونهم بأنفسهم ويسهلون لهم مهمتهم في تكريس الاحتلال وفي قتل المسلمين وتعذيبهم وكشف عوراتهم واغتصاب نسائهم حتى صاروا حقراء حتى عند من قدموا ذلك لهم وفعلوه لأجلهم.. كما يلحظ كيف أضحوا عقبة كأداء في تحقيق موعود الله بالتمكين وسبباً مباشراً وحقيقياً في تأخير ما أوجبه الله وأحقه على نفسه في قوله: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)، وما وعد به عباده المؤمنين في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في(1/1132)
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً).
ولقد أوضح لنا القرآن أن أبرز علامات المنافقين وأخص ما يميزهم عن غيرهم هو ولاؤهم للكافرين وأعداء الدين، وذلك في مواضع عديدة نذكر منها قوله جل جلاله في سورة النساء الآية الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين بعد المائة: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، كذا بمجيء صفتهم بطريقة الموصول ليفيد علة استحقاقهم العذاب الأليم، وأنهم اتخذوا الكافرين أولياء وآثروا صحبتهم في مضادة المؤمنين والتربص بهم، لا لقناعتهم بما هم عليه من كفر وإنما ليَقوُوا بهم من ضعف ويَعزوا بهم من ذل، ظناً منهم أن أعداءهم هم الأعزاء الأقوياء وأنهم بذلك يدفعون عن أنفسهم وعمن يوالونهم من أهل الكفر شر أهل الإيمان المتوقع منهم، وهنا يأتي الاستفهام المنبئ عن التوبيخ والإنكار (أيبتغون عندهم العزة) "إيماء- على حد ما ذكر الطاهر بن عاشور- إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة"، وإلا لهان الخطب في اتضاح أمرهم وانكشاف طويتهم، بل اتخذوهم ليلتمسوا منهم ما لا يملكونه مما أخبر الله عنه في قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.. المنافقون/ 8)، وفي ذلك نهاية التجهيل والذم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم أتي جواب الله على هؤلاء بأسلوب التأكيد في قوله: (فإن العزة لله جميعاً)، إذ "لا عزة إلا به لأن الاعتزاز بغيره باطل، كما قيل: من اعتز بغير الله هان.. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية"أ.هـ
وتأتي هذه البشارة التهكمية- المنبئة بالسخرية والاستهزاء والمناسبة لتهتكهم بأهل الإيمان- عقب نداءين محببين للمؤمنين أحدهما يأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها، إذ العدل في الحكم وأداء الشهادة على وجهها على ما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم)، هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عنه إلى الجور مفض إلى فساد متسلسل، وما ذلك إلا لأن العدل يقتضي عدم محاباة الظالمين، تماماً كما يقتضي عدم مجاراتهم أو الركون إليهم ولو كانوا من أهلنا أو من أهل ملتنا أو حتى من أقرب الناس إلينا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .. التوبة/ 23)، (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .. الممتحنة/9)، فما بالك بمن لم يكتف بمحاباة وتولي الكافرين حتى شاركهم في بغيهم على المسلمين فجمع في نفاقه واقتراف ما نهى الله عنه بين ظلم نفسه والركون إلى أهل الكفر ومقاتلة أهل الإيمان، والنداء الثاني: يأمر بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل(1/1133)
على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل)، وما ذلك إلا ليداوموا على ما أمر الله ويحذروا مآرب ما يخل به.
وجاء عقب تلك البشارة التهكمية سالفة الذكر وفي معرض إقامة الحجة، نداء ثالث لأهل الإيمان يصب في نفس الإطار ويحذر من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم وطريقة استحواذهم على المنافقين بقصد أذى المسلمين، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً)، وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة أهل الكفر على اختلاف مللهم وبما فيهم أهل الكتاب، ومن موالاة المنافقين الذين تظاهروا بالإيمان ولم يوالوا أهله بل ناصبوهم العداء وراحوا يطيعون فيهم اليهود والنصارى، فهي تشهير بالنفاق وتحذير من الاستشعار بشعاره والتدثر بدثاره، وتسجيل على المنافقين أن لا يقولوا: كنا نجهل أن الله لا يحب موالاة الكافرين، لذا كان التذييل الذي مراده أنكم إذا استمررتم على ذلك جعلتم لله حجة واضحة على فساد إيمانكم.
وهنا يأتي الحسم لمصير هؤلاء الذين استهانوا بتحذير الله ولم يبالوا به: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً. إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله) فلم يشُبْه بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين فإن كان للمؤمنين (فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)، أي وصولاً إليهم بهزيمة أو غلبة.
وفي سياق مماثل للنظم الوارد بسورة النساء، وفي ثنايا التصريح في سورة المائدة بكفر النصارى الذين قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم) والذين قالوا: (إن الله ثالث ثلاثة)، وبلعن اليهود الذين (عصوا وكانوا يعتدون) والذين هم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا)، والتنويه بكذب مقولة هؤلاء وأولئك (نحن أبناء الله وأحباؤه) .. يستمر حديث القرآن وتحذيره من مؤازرة أهل الكتاب أو التعاون معهم أو إحسان الظن بهم فضلاً عن مناصرتهم في قتال المسلمين وفتح المجالات أمامهم لتحقيق مآربهم، وذلك حتى لا يشكك أحد في مشروعية قتال هؤلاء أو أولئك عندما ينحاز الجميع لحرب المسلمين، أو يتهاون تحت أي مبرر في شأن التحذير والنهي عن موالاتهم .. يتواصل حديث القرآن عن ضعاف النفوس- فيما يشبه أن يكون درساً قاسياً في أيامنا لجميع مرضى القلوب من المسلمين حكاماً ومحكومين- وعما يظهرونه من خوف وهلع لبشر أمثالهم تكون نتيجته في نهاية المطاف الندم لكن بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم، وما يبدونه تجاه من (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) من ود ووفاق يطمّع فيهم أعداء الإسلام إلى حد أن يجعل منهم أداة طيعة يضربون بها أهل الإيمان، ومن حب ووئام عادة ما يكون على حساب مبادئ الإسلام، ومن تفان وإخلاص دائما ما يكون ثمنه دماء المؤمنين وأشلاء ضحاياهم واحتلال بلادهم، إذ في ذلك ضرر وأي ضرر.(1/1134)
وحتى لا يعمى الأمر أو يختلط لدى أصحاب القلوب المريضة من المنافقين، وحتى تتميز لديهم بالدليل القاطع صفات أهل الإيمان الذين لا يجوز التعدي عليهم ولا تسليمهم ولا خذلانهم ولا معاداتهم ولا مناصرة عدوهم، عن صفات أهل النفاق الواضح أمر نفاقهم بمسارعتهم في أهل الكفر، والبين أمر موالاتهم لعدو الله وعدوهم.. أفصح القرآن عمن تجب موالاتهم ومناصرتهم والوقوف بجانبهم ومؤازرتهم وعدم تسليمهم أو خذلانهم فقال في محكم آياته بأسلوب القصر موجهاً خطابه لمن بقي منهم على الإيمان وجهل حقيقة أمره: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.. المائدة/ 55)، فموقع هذه الجملة- على ما أفاده أهل التفسير- موقع التعليل للنهي عن معاونة أعداء الله أو اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، إذ الأصل أن تكون ولاية أهل الإيمان لله ورسوله مقررة عندهم بموجب ما أظهروه من إسلام، وبالتالي يكون ولاؤهم للمسلمين، لأن من كان الله وليه لا يكون أعداء الله أولياءه، وتفيد هذه الجملة تأكيد النهي عن ولاية اليهود والنصارى.. فهي جملة خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد فيها من (إنما) قصر حقيقي، وإجراء صفتي (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) وكذا جملة (وهم راكعون) للثناء عليهم، ومعنى أن يكونوا أولياء للذين آمنوا أن يناصرونهم ويعاضدونهم ويكونون منهم ومعهم ضد عدوهم كالبيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فهو في معنى قوله تعالى: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض).
ويجئ هذا الأسلوب القصري على غرار ما جاء في سورة المائدة عقب نداءين محببين لأهل الإيمان، أولهما: أتي بعد تهيئة النفوس لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب الذين بدت محاولاتهم في تضليل المسلمين والنيل منهم، فيشبه من تولاهم في استحقاق العذاب بواحد منهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، كذا في صورة الشرط والجواب، وقد استحق هذا الذي أضحى واحداً منهم أن يكون كذلك، لأنه كما ذكر القرطبي "خالف الله ورسوله كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم، فصار منهم أي من أصحابهم"، فإنه ومن كان على شاكلته على حد قول الآلوسي: " بالموالاة يكونون كفاراً مجاهرين"، "وهذا- كما في تفسير الرازي- تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين"، يقول ابن عطية: "من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلالٍ بالإيمان، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم"، ويدخل فيما ذكره أهل التأويل- بالطبع ومن باب أولى- ما يحدث في أيامنا من مشاركة لهم في حربهم لمسلمي الفلوجة والموصل وأفغانستان وكل من كان على دينهم من أهل الإيمان، ومن إدلائهم على عورات المسلمين، ومن فتح أيٍّ من مجالات بلدان المسلمين برية كانت أو بحرية أو جوية أمامهم، ومن وضْعِ الحواجز ومنع المتناصرين من حربهم، ومن إنفاذ مخططاتهم في إهلاك حرث المسلمين ونسلهم، ومن إضفاء شرعية على الحكومات الموالية لهم .. إلى غير ذلك مما تقع فيه الأنظمة العربية والإسلامية وبمساندة(1/1135)
أحيانا من علماء سلطاتهم، فإن هذا كله لا يتأتى إلا من ضعاف إيمان ومرضى قلوب (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) والدائرة المخشية هنا هي خشية انقضاض المسلمين على المنافقين، والأرجح أنها خشية "أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين فتكون لهم- على حد ما ذكر
ابن كثير- أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"، وما ذكره الحافظ هو ما يشهد له في أيامنا سطوة الباطل وهيمنة أهل الكفر كما أنه المتناسب مع واقع المسلمين الآن ومع ضعفهم.
وتفيد كلمة المفسرين أن قول (نخشى أن تصيبنا دائرة) صدر عن عبد الله بن أبي بن سلول وذلك حين عزم r على قتال بني قينقاع الذين كانوا أحلافاً لابن سلول ولعبادة بن الصامت فلما رأى الأخير منزع رسول الله جاء فقال: (يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أولي إلا الله ورسوله)، وكان عبد الله ابن أبي حاضراً فقال: (أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر)، وما قالاه وفعلاه إنما يمثل الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق في كل عصر فليس العبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، والتاريخ دائماً وأبداً ما يعيد نفسه، ويؤكد موقف ابن سلول، أن المنافق لا دين له ولا عهد وأن تأرجحه بين الإيمان والكفر إنما هو لأجل الدنيا فهي ذاته ودائرته التي يعيش لها ويميل معها حيث مالت ويدور معها حيث دارت.
وقد اقتضى تحذير أهل الغفلة والنفاق من أعدائهم الذين يبغون صرفهم عن دين الله، ألا يخرجهم من دائرة الإيمان وأن ينبههم سبحانه من خلال نداء ثان على أن صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك وإنما يعود نفعه عليهم، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لن يضر الله شيئاً وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
كما دعا اعتراض هذا النداء بين ما قبله وبين جملة (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، مناسبة الإنذار في قوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، في إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء طريق وذريعة مؤدية إلى الارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق، فأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان إن هم اختاروا طريق الموالا ة المنهي عنها، بأن الإسلام غني عنهم .. وأتى بجملة (فسوف يأتي الله بقوم.. إلخ)، لبيان أن وعد الله آت لا محالة، ولإظهار الاستغناء عن المنافقين الذين في قلوبهم مرض وقلة الاكتراث بهم، وتطمين المؤمنين بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيراً منهم، وطمأنتهم- فيما يشبه المحصلة من ذلك- بأن(من يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.. المائدة/ 56)، واستغنى هنا عن جواب الشرط وهو الإيذان بوعد الله وبأن هذا الدين لن يعدم أتباعاً بررة مخلصين، بذكر ما يتضمنه للإشعار بأن للشرط جوابان.(1/1136)
ويتوالى النداء عقب التحذير من موالاة أهل الكفر وضرورة التمسك بموالاة الله ورسوله وكل ما هو منهما بسبب: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء).. ليكون بمثابة التأكيد لمضمون الكلام الذي قبله والتحذير من عدم امتثال ما نهى عنه ولتكون الحجة ألزم فلا يبق بعدها عذر لمعتذر، وفي ذكر الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون لأن شأن المؤمن دائماً الامتثال.
هذا بعض ما جاء في شأن النفاق والمنافقين في مسألة اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إنما أردنا من خلاله معالجة هذا المرض المفضي إلى تأخير النصر وإلحاق الأذى بالمسلمين، والذي يفتك بالقلوب ويعصّيها حتى يجعلها أقسى على ذوي القربى من الحجارة، وإلا فآيات سورتي التوبة والمنافقون في كشف المزيد من حيلهم ماثلة للعيان، وهي في نهيهم عن اتخاذ الكافرين أولياء أكثر من تعد ونذكر منها قوله عزمن قائل: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.. آل عمران/28)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم هؤلاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ .. آل عمران/118، 119)، وقوله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً .. النساء/ 89)، وقوله: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. المجادلة/ 22)، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .. الممتحنة/ 1، 2).
والسؤال المطروح الذي يفرض نفسه على كل من يحمل السلاح في وجه الأهل وأبناء الوطن الواحد مع أعداء الإنسانية ومدعي- كذباً وزوراً وبهتاناً- حقوق الإنسان وتحرير العراق ورافعي شعارات الحرية والديمقراطية في الوقت الذي يقتلون ويهلكون ويدمرون كل شيء .. ما يكون النفاق إن لم يكن ما ذكره القرآن من المسارعة في نجدة ونصرة هؤلاء اليهود والنصارى، وإن لم يكن التزلف والتقرب والمساعدة والمساندة والمعاونة بشكل أو بآخر والمشاركة لأولئك المحاربين الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليهتكوا العرض ويسلبوا الأرض ويقتلوا النفس ويهلكوا الحرث والنسل؟ وما يكون الرأي في تلك الجرائم التي فاحت وشاع أمرها والتي لم يرتكبها في حق أهليكم وإخوانكم(1/1137)
وأبناء جلدتكم سوى الأمريكان والبريطانيين ومن حالفهم من معشر يهود ومن أهل الصليب؟ وأين أنتم وقد رفع هؤلاء شعار الصليب وأقروا بأن حروبهم (صليبية) واعترفوا أن العراق ستكون عاصمة دولة ربيبتهم المزعومة من النيل إلى الفرات؟ أين أنتم يا جنود الحرس الوطني والشرطة العراقية من دينكم الذي يحرّم قتل النفس المسلمة، ومن وعيد ربكم القائل في قرآنكم (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً.. النساء/ 93)، ومن تحذير نبيكم القائل (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة كتب بين عينيه آيس من رحمة الله)، والقائل: (لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والقائل: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً)، والقائل: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليك كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، ومن إجماع المسلمين على حرمة سفك دم المسلم ولو أكره القاتل وهدد بالقتل .. أين ذلك كله مما تفعلونه طواعية بحجة أكل العيش وعدم وجود فرص عمل؟ وهل هذا العمل الذي تتقاضون من أجله حفنة من الدولارات وتحرمون لأجله رحمة
الله وجنته وتسهمون فيه بشكل مباشر أو غير مباشر في الإضرار بدينكم ووطنكم وأهليكم فتقتلون لأدائه طفلاً أو امرأة أو تحمون به مستعمرة أو تفادون من خلاله كافرًا أو تنتهكون به حرمة إلخ، يُعدّ في أي عرف وفي أي ملة وعند من له عقل أو ضمير عملاً شريفاً؟، وكيف تهنأون به وتقتاتون منه أنتم وأولادكم وقد دفعتم ثمنه دماء ذكية بغير حق ومساجد هدمت وحرمات انتهكت سواء كان ذلك بفعلكم أو بمعاونتكم؟ وإذا كان الصليبي الذي أشرك معه اليهودي والذي أتيتم أنتم لتشاركوهم في حرب إخوانكم وبني قومكم، جاء ليحقق هدفه في نهب ثروات بلادكم وقبض أثمان نفطكم وأخذ خيرات وأقوات أبنائكم، فما هدفكم أنتم وأين خدمتكم لدينكم وأين جهادكم في سبيل ربكم وأين دفاعكم عن عرضكم وذبكم عن نساء أهليكم، وأين نخوتكم ورجولتكم وقد جاءتكم الفرصة سانحة بعد أن دهم العدو أرضكم واغتصب زوجاتكم وأخواتكم وأمهاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وبناتهن، أو فعل مثل ذلك في نساء إخوانكم في الدين والوطن؟، وألا كان حرياً بكم بدل أن تمكنوا لهذا المغتصب الآثم والمعتدي المجرم أن تسهموا مع إخوانكم في دفعه فتبتغون بذلك الأجر من الله وتدخلون معه في تجارة رابحة قال عنها: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله).(1/1138)
إليكم يا أبناء ديننا وعروبتنا وإلى كل من يحمل السلاح في وجه أهله وبني قومه ليحارب به مع أعداء الإنسانية، وإلى كل من يكرس للاحتلال - عن طريق انتخابات معلوم سلفاً نتائجها- ومستبقياً إلى ما لا نهاية الأوضاع على ما هي عليه الآن، هاكم فيما ذكرنا نماذج وبعضاً مما جاء في صحفهم وبشهادتهم وعلى ألسنتهم (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة): أفردت جريدة (روبنز بنورث) الأمريكية على صدر صفحتها الداخلية قصة اغتصاب 5جنود أمريكيين للفتاة العراقية (س) التي كانت متجهة لسوق البصرة لشراء احتياجات منزلها مخلفة وراءها طفلتين، وفي نهاية المقال يتساءل الكاتب: "أي أمن وأمان وديمقراطية أراد بوش أن يحققها في البلد العربي المسلم إنه يريد شيكاغو ثانية .. يريد أن يصرف أنظار مواطنيها عن دينهم وعبادتهم .. يريد بث الرعب وإنهاء حياتهم المستقرة"، كما ذكر الكاتب الأمريكي (ديفيد كول) عملية بشعة قام بها أربعة جنود أمريكان كانوا مخمورين يدخنون الماريجوانا ضد أسرة المواطن (ص ح ز) الذي اقتحموا منزله في ساعة متأخرة من الليل، ولما لم يجدوا ما يسرقونه التقط أحدهم ذراع الزوجة البالغة من العمر 27 عاماً ولديها طفلان، وبكل قسوة اختطفوها من بين أحضان طفليها الصغيرين اللذين كانا يرتعدان خوفاً وهلعاً من أصوات بنادق المحتلين، ثم اقتادوها بعد أن أشهروا السلاح في وجه زوجها الذي حاول دفعهم فأصابوه ليسقط مدرجاً في دمائه وسط بكاء طفليه.. الكاتب الأمريكي (وليام بود) لم يكن أقل صراحة وهو يروي في صحيفة (ويست بومفريت) الأمريكية في صدر صفحتها الأولى تحت عنوان (الاغتصاب الديمقراطي) تفاصيل جريمة بشعة ارتكبها جنود الاحتلال ويقول: "إن بوش قد ترك لجنوده أن يفعلوا ما يحلو لهم مع ضحايا سجنه الكبير في العراق، ترك (كول) و(ديفيد) اللذين يتميزان بالعدوانية الشديدة والهمجية يغتصبان نساء عراقيات بلغ عددهن وقتها26فتاة وضحية، يقومان بعد
الثامنة مساءً باختطاف ضحيتهما من شوارع العاصمة دون تبرير ويجردانها من ملابسها أولاً ثم يُقدمان على تصويرها وإرسال هذه الصور المشحونة بأوضاع مخلة إلى أصدقائهما للاستمتاع بها وكأنهما ما حضرا إلى العراق إلا لهذا، فقط بنادقهم هي التي تتحدث وتتكفل بإسكات أي ضحية وبث الرعب في المحيطين بهم، عشرات الشكاوى وصلت إلى رؤسائهما ولم يتخذوا ضدهما أي إجراء يمكن أن يمنعهما عن هدفهما"، ويضيف الكاتب الأمريكي منتقداً: "هذه ليست ديمقراطية، يكفي تحقيق بعض الأهداف كالبترول والتوسع من أجل مصلحة الأعوان ولترحل أمريكا وترحم نساء وأطفال وشيوخ العراق".
فكيف- وهذه شهادة بعضهم- يتأتى لأبناء العراق الحبيب ولجنود شرطته وحرسه الوطني وللأنظمة العربية الذين مكنوا لأولئك الأوغاد أن يسكتوا عن هذا دون ما احتجاج فضلاً عن أن يغضوا(1/1139)
الطرف عنه بل ويتعاونوا مع فاعليه وينفذوا مخططاته التي منها ضرورة إجراء انتخابات تحت نير هذا احتلال غاشم لا يبقي على شيء.
ولم يكن (بود) الذي ذكرنا شهادته هو آخر من انتقد الاحتلال وندد به فقد انتقده (وليام أركلين) وأفرد على صدر صفحات (ويست بومفريت) جرائم حرب لجنود أمريكان ارتكبوها في العراق، وذكر- بعد أن ندد بعمليات النصب والسلب التي يقومون بها- قصة جنود أمريكان راحوا يفتشون أحد المنازل وبقسوة قاموا بانتزاع صغيرتين من أحضان الأبوين وجردوهما من المشغولات الذهبية وحين تأخرت عملية تجريد إحداهما من قرطها انتزعه واحد منهم بشدة ليصيب الطفلة بجرح قطعي ولم يستطع أحد من أفراد الأسرة حمايتها خوفاً ورعباً من السلاح الفتاك الذي يحملونه.
وعن قتل المدنيين المتعمد حدثوا ولا حرج، وفي إطار الحديث عن بعض حوادث قتلهم وعن حجم الخسائر في الأرواح والضحايا التي سقطت على أيدي أولئك الذين يحصون عدد قتلاهم بالواحد- في الوقت الذي فيه لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة- نكتفي هنا بما أكدته مؤسسة مدنية قامت بمسح المستشفيات والمقابر والأسر العراقية من وجود آلاف المصابين ومن أن أكثر من 5000عراقي من المدنيين لقوا مصرعهم في الفترة ما بين 20/ 3/ 2004 وحتى إعلان انتهاء العمليات الرئيسية في1/ 5 يعني في غضون شهرين فقط، ناهيك عن عشرات المئات من القتلى التي تسقط بشكل يومي عند كل مداهمة لمدينة على نحو ما جرى في الموصل والرمادي وبعقوبة والفلوجة وغيرها، فماذا يا ترى تكون حصيلة القتلى منذ بداية وطوال فترة الاحتلال إلى يومنا هذا؟ يجيب عن هذا التساؤل (مارك ريزيكه) مؤسس منظمة اجتماعية أجنبية الذي صرح عندما سؤل عن عدد الضحايا المدنيين: "إن الجيش الأمريكي لا يتعقب أثر هذه الأشياء ولا يهمه عددها"، وكان مسئولون عسكريون قد أوضحوا أنه لا توجد لديهم أرقام دقيقة أو تقديرات عن عدد القتلى والجرحى من المدنيين العراقيين حيث قالت المتحدثة الرسمية لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) (جان كامبل): "إننا لا نحتفظ بالقائمة"، وبالطبع يغيب عن أمثال هؤلاء ما جاء في الحديث: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)، وقوله عليه السلام: (لو اجتمع أهل الأرض على قتل مسلم لأكبهم الله جميعاً في النار).
لكن التبعة واللائمة تقع في المقام الأول على أهل النفاق الذين مكنوا قوى التحالف من إعمال القتل في أهليهم وذويهم رغم ما يتعرض له أولئك المنافقون أنفسهم، ورغم عجز قوى التحالف البيّن عن إحراز نصر بدونهم، الأمر الذي يؤكد إمكانية انتهاء الاحتلال منذ بدايته لولا مباركة أولئك المنافقين الذين قدموا على طائرات المحتل واستعانوا به بل وطلبوا- ولا يزالون- ذلك منه صراحة، كما يفسر إصرار أمريكا إزاء ضراوة المقاومة وشدتها على إجراء انتخابات بأي شكل .. لتخرج من هذا المستنقع الآسن وذاك الفخ الذي نصبته لنفسها- وقد حفظت ماء وجهها- رغم فداحة ما تكبدته في العدد والعدة .. ولتوقع أهل البلاد مع الحكومة التي ارتضتها لتحقيق مصالحها في بركة من الدماء..(1/1140)
ولتقف هي فيما بعد موقف المتفرج بعد أن توهم العالم أنها أدت مهمتها ووضعت العراق على بداية طريق الحرية والديمقراطية، فإياكم يا أبناء عراقننا الحبيبة وإنفاذ مخططاتها.
ولعله قد وضح الآن أن ما سبق أن ذكرنا بعضه مما يفعله أعداء الله وأعداء الإنسانية ومما جاء في فلتات ألسنتهم وهو قليل من كثير، مقصوده إقامة الحجة على أهل النفاق الذين يجدّون في البحث عن أسباب يغطون بها جرائمهم في حق دينهم ووطنهم وأهليهم، وقد وجدوها بالفعل فيما يردده أضرابهم من المرجفين خارج المدينة وداخلها من تسمية المقاومة العراقية إرهاباً .. وفيما أوحى لهم به أعداء الإنسانية من ضرورة ضبط الحدود وعقد مؤتمرات لدول الجوار للغرض ذاته ولمنع العناصر الأجنبية المتسللة (وهم لا يعنون بالطبع قوى البغي والعدوان الذين أتوا من أقاصي بلاد الدنيا وأدانيها عبر محيطات العالم وأجوائه ليحاربوا عرباً مثلهم ومسلمين في عقر دارهم ويغتصبوا نساءهم ويهلكوا حرثهم ونسلهم، ولا أولئك المرتزقة الذين أتوا بهم لتحقيق نفس هذه الأغراض من العجم، بل يقصدون بها حفنة من شباب البلاد العربية المجاورة عز عليهم أن يتركوا إخوة الإيمان وأصحاب الجنب الذين وصى الإسلام بهم وأمر بنصرتهم) .. كما وجدوها في إطلاق عبارات (متمردين) و (مسلحين) و(قوى الظلام) إلخ، (ويعنون بهم أهل البلاد التي احتلت أراضيهم وتهدمت بيوتهم ودمرت مساجدهم وأجهز على جرحاهم) .. ووجدوها كذلك فيما منّاهم به أهل الكفر من إشاعة الحرية وإقامة الديمقراطية وفي تهيئة المناخ الملائم لإجراء انتخابات علم سلفاً ما يكون مصيرها ومن سيحظى بها على غرار ما حدث في أفغانستان والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ومقصود ما ذكرنا كذلك، بيان أن ما يجري من مدافعة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ما هو إلا سنة من سنن الله التي أخبر عنها في قوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) .. وما هو إلا قتال في سبيل الله أمر الله به وأوجبه كما جاء في قرآن المسلمين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ... الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) .. وما هو إلا ابتلاء منه سبحانه لعباده المؤمنين ليعلم من ينصره ورسله بالغيب على ما جاء في قوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)، وقوله: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)، وليميز به بين أهل النفاق وأهل الإيمان ويبين به درجته لدى كلِّ حتى لا يدعيه أي أحد كما جاء في قوله: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين)، وقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) .. ما هو إلا لبث روح الأمل لدى عباده المؤمنين لكونه اقتراب لما(1/1141)
وعدهم به في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم وليمكنن لكم دينكم الذي ارتضى لكم) .. وما هو إلا تحقيق لما ساقه الله في قوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، وقوله: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)، وقوله: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم
ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)، والنبي في قوله (تتداعى عليكم الأمم .. الحديث) .. ما هو إلا إجمال لما حدث في مكة وما حدث في أحد وبدر، هو (ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون).
ولا ينبغي أن نتهاون أو يفوتنا التنبه لما كشفت عنه آية آل عمران الأخيرة من جعل أهل النفاق أقرب للكفر من الإيمان، وما أكثر ما زاوج القرآن بينهما، ولنتأمل في ذلك قوله تعالى: (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً.. النساء/ 140)، وقوله: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم .. التوبة /68)، وقوله: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً.. التوبة/ 97)، وقوله: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً ولئن قوتلتم لننصرنكم .. الحشر/ 11)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أمر الله لنبيه بجهادهما معاً- كذا دون تفرقة- وذلك في قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم.. التوبة/ 73 والتحريم/ 9)، ونصحه بعدم طاعتهم والسير في ركابهم (ولا تطع الكافرين والمنافقين .. الأحزاب1، 48).. وعلى غرار ذلك ولخطورة ما عليه أهل النفاق زاوج القرآن كذلك بينهم وبين المشركين في قول الله تعالى: (ليعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الأحزاب/ 73) وقوله: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات .. الفتح/ 6)، وفي ذلك من شديد غضب لله على هذا الصنف من الناس- كما لا يخفى- ما فيه.
كما شهدت آي الذكر الحكيم بفسادهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. البقرة/)، وكذبهم (والله يشهد إن المنافين لكاذبون .. المنافقون/1)، ووسمتهم بالفسق والخروج عن طاعة الله (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ..التوبة/ 67)، وقلة الفقه والعلم (ولكن المنافقين لا يفقهون.. لا يعلمون.. المنافقون/ 7، 8)، وبظنهم بفعالهم القبيحة أنهم (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون..البقرة/ 9)، وأنهم العون الوحيد للكفر والكافرين.. وبأن نفاقهم لا يظهر إلا في وجود قوتين متصارعتين يتذبذب بينهما على ما هو عليه الحال الآن خلافاً(1/1142)
لعصر الخلفاء الذي خمدت فيه قوة الكفر .. وأوضحت أنهم لخفائهم أخطر في حربهم المسلمين من الأعداء الظاهرين وأن أخطر ما في حربهم للإسلام سهولة الاستحواز على عقول البسطاء من عامة المسلمين ثم نشر الفتنة بألوانها بينهم وأن شخصاً واحداً يستطيع أن يفسد الآلاف من هؤلاء السذج كما استطاع ابن سلول حين رجع بثلث الجيش في غزوة أحد على سبيل المثال، ومسيلمة الذي أفلح في إفساد عقيدة عشرات الألوف من أهل اليمامة، وابن سبأ الذي استطاع أن يصدع كيان الأمة بعد مقتل عثمان .. كما أفصحت آيات الذكر الحكيم عن تحالفاتهم مع جميع أطياف الكفر لكونهم- من الناحية المادية وحسب نظرتهم للأمور- الأكثر عدة وعتاداً ولكون صحبتهم- من وجهة نظرهم- أخف ضرراً وأيسر عبئاً.. ولم تعذرهم فيما أقدموا عليه من جرائم في حق دينهم وذويهم لا في الدنيا حيث الذلة والاستكانة ولا في الآخرة حيث العذاب المهين في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة.. ووصفتهم بالحرص على الدنيا والإرجاف والكبر والبخل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والتكاسل عن الصلاة إشاعة الفاحشة في المؤمنين والخوف منهم وبكثرة الحلف.. وأظهرت مدى خطورتهم وعداوتهم لأهل الإيمان في عصر لم يجرئوا فيه على حمل السلاح في وجوههم، بل ونزل فيه قول الله
تعالى: (هم العدو فاحذرهم) كذا بأسلوب القصر المفيد أنهم العدو البالغ العداء لا غيرهم، وبأنهم في الدنيا في قلق نفسي لا يستقرون على حال (يحسبون كل صيحة عليهم .. المنافقون/4)، الأمر الذي يعكس ما في بواطنهم من وساوس وتصورات لأنهم متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان فهم لذلك على حذر دائم، ومع احترافهم الكذب والحذر الشديد سرعان ما ينكشف بهتانهم (إن الله مخرج ما يحذرون ..التوبة/64)، ولا يهنأ لهم مقام (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورون فيها إلا قليلاً. التوبة/ 60).
وفي نور الذكر الحكيم وعلى ضوء ما أفادته آياته المحكمات وأشارت إليه السنة الصريحة والعقل الصحيح أفتى أهل العلم بجواز قتل المسلم الذي تترس به العدو إذا تحقق في قتله الخلوص إلى العدو فما بالك بمن قاتل من المنافقين دون العدو، وضحى بنفسه في سبيله، كما أفتوا بأن التحرج من قتال أهل النفاق إنما كان في حال عدم مساهمتهم في قتال وقتل أهل الإيمان واكتفائهم في معاداة المسلمين بحرب المؤامرات والدعايات "حتى لا يستغلوا ذلك- على حد ما ذكر د/ عبد الحليم حفني في كتابه (أسلوب القرآن في كشف النفاق ص71)- في الدعاية لمصلحتهم ضد المسلمين"، أما مع مواجتهم المسلمين وتعاونهم في ذلك مع العدو فلا فرق بينهم إذاً وبين أهل الكفر على ما أفاده ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) وكما أفاده إجماع المفسرين فيما سقناه لهم في آيات سورة المائدة سيما وقد جمع القرآن بين الفريقين وأمر الله نبيه بمجاهدتهما معاً، وقد حدا ما ذكرنا بـ 29عالماً من علماء السعودية يمثلون غيرهم من العلماء المخلصين الشرفاء وكذا بعلماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية(1/1143)
بالأزهر الشريف لأن يصدروا فتواهم التي تقضي بعدم جواز قتال رجال المقاومة الذين يقومون بواجبهم في صد وإخراج المحتل ولا الاعتداء عليهم وبعدم جواز التعاون مع أعداء الإنسانية أو تنفيذ مخططاتهم التي يدخل فيها بالطبع تنظيم الانتخابات التي تكرس احتلالهم أو تمكن لهم وبعدم جواز اتخاذهم أولياء أو مدهم بالمعلومات تحت أى ظرف من الظروف، وهو ما أفاده كلام الشيخ سيد سابق في كتابه فقه السنة 3/ 75 حيث نص على "أن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بيّن واضح، وأن ذلك خيانة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وأنهم لم يراعوا حق الإسلام ولا التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر هذه المنطقة ولا حق مستقبلها، وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا قد باعوا
أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم خزي الدهر وعار الأبد".
إن هذه الفتنة التي أطلت برأسها وتمثلت في الاحتلال الأمريكي وتحالفه البغيض للعراق وما أحدثه أولئك المجرمون القتلة أعداء الحرية والديمقراطية والإنسانية في تلك البلد المسلم، من دمار وخراب طال الأرض والشجر والإنسان، ومن سفك دماء وحصد لا نقول لأرواح عشرات الآلاف من الأبرياء بل لمئات الآلاف، وقتل جرحى واغتصاب نساء واعتداء على أطفال، وانتهاك حرمات وتدنيس مقدسات وهدم مساجد ونهب متاحف وسرقة آثار، وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة دمار شامل وقنابل محرمة دولياً بلغت مئات الآلاف من الأطنان، واحتلال لأرض الغير بالقوة عن قصد وبعد تفادي أسباب ذلك والعلم به، واستعمال لأعمال أقل ما توصف به أنها أعمال بلطجة وهمجية، وعصف بما يدين هذه الأعمال البربرية من قرارات دولية، وإعلان بأن ما ذكر يأتي في إطار حرب صليبية، وفرض لعقيدة النصارى عن طريق مبشرين، واستحضار لليهود وإعطائهم الحق في حرب وقتل وتعذيب المسلمين وشراء أراضيهم في كركوك والموصل وأربيل تمهيداً لتطويق بلاد المسلمين ولتحقيق حلمهم من النيل إلى الفرات، وسماح لآلاف من جنودهم ولعشرات من حاخاماتهم للمشاركة في هذه الحرب القذرة، وعدم إخلاء الشوارع والمناطق الساخنة من جثث المسلمين وتركها تتعفن وتصبح مرتعاً لكلاب أتوا بها لهذا الغرض، وتقطيع أطباء أمريكيين لأوصال وأعضاء القتلى وبعض الجرحى العراقيين بقصد المتاجرة بها وبيعها للمرضى وللمراكز الطبية في أمريكا على ما أفادته تقارير أجهزة الاستخبارات الأوربية مؤخراً، وحرمان الجرحى من مواد الإغاثة الطبية سعياً إلى التخلص منهم، وتدمير العديد من المستشفيات والعيادات، ونهب محتوياتها أحيانا وضرب العاملين فيها حتى من الأطباء، وفرض أشخاص غير مرغوب فيهم ولا يمثلون هذا الشعب المقهور، وإكراه على اتباع نظم انتخابية تمهيداً لتعيينهم ولفرض أمر واقع على نمط ما جرى
في تجربة أفغانستان، واصطناع ديمقراطيات مفصلة ومعدة سلفاً لتحقيق مصالح المحتل، وتداعي الأمم الكافرة من كل حدب وصوب، ومنع شباب المسلمين- في الوقت ذاته- من مناصرة إخوانهم في(1/1144)
الدين، وتبجح بإمرار كل ذلك بحجج كاذبة ودعاوى مختلقة يقومون بأنفسهم بتفنيدها ويقرون- لكن بعد فوات الأوان وبعد تحقيق الهدف منها وبعد ارتكابها عن عمد- بخطئها .. ونضيف لما ذكرنا ما وقع من إدانةِ خبراء وعسكريين ومختصين من نفس دول الاحتلال، ومن اعترافات صريحة منهم ولأكثر من مرة بخطأ هذه الحرب، ومن تظاهرات اندلعت من جميع دول العالم وفي قلب الدول المشاركة، ومن سحب بعض هذه الدول لقواتها بعد أن أدركت خطأ هذه الحرب .. كل هذه الأمور جعلت ليس أبناء العراق فحسب بل المسلمين في كل بقاع الأرض في المحك وأمام اختبار صعب (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)، فهل إلى خروج من هذا النفق المظلم وطريق النفاق المسدود من سبيل غير سبيل الجهاد؟ وهل من ملبٍ للنداء وتائب مقلع عن نفاقه معتصم بربه مشمر لرائحة الجنة مدافع عن دينه وأرضه وعرضه؟ هذا أملنا وليس لنا أمل سواه (إن المنافين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله واخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً.. النساء/ 145:147)، (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.. آل عمران/ 126)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. يوسف/ 21).
ــــــــــ
النصر بيد الله وحده
بسم الله الرحمن الرحيم
إن كل الآيات في القران الكريم تؤكد بشكل قطعي وجازم وبما لا يقبل الشك أن الله وحده هو الذي بيده النصر يمنحه لمن يشاء وليس المنتصر إلا من نصره الله ولا يكون غير ذلك أبدا
فهل يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي نصر اليهود على العرب في عام 67 مثلا وهل يكون الله هو الذي نصر أمريكا ولا يزال مثلا ، وإذا كان كذلك فكيف يكون بالله عليكم، وإذا لم يكن فهل ثمة نصر من عند غير الله؟
خلصونا من حيرتنا جزاكم الله عنا خيرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أنه لا يقع شيء إلا بتقدير الله تعالى وإرادته ، والله سبحانه وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين ، ونفى سبحانه أن يجعل للكفر وأهله سلطانا عليهم ، فقال سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].
وقال: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج:40].(1/1145)
وقال /: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).
فإذا انتصر الكفر، وجعل للكافرين الدولة والغلبة على المؤمنين، في بعض الأزمنة أو الأمكنة فذلك لتخلف سبب النصر وشرطه ، ووجود ما يناقضه ، فيعاقب الله المؤمنين على تفريطهم في دينهم وما أمروا به لعلهم يرجعون ، ويكون هذا ابتلاء وتمحيصا للمؤمنين ، وإمهالا واستدراجا للكافرين.
لكن إذا تمسك المسلمون بدينهم ورجعوا إلى ربهم، فإن لهم الغلبة والنصر والتمكين، لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
ويقول سبحانه: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [لأعراف:128].
والناظر في حال المسلمين اليوم يجد أنهم في قتالهم للكفار لم يرفعوا راية الإسلام، ولم يتمسكوا بدينهم، فقاتلوا تحت رايات القومية والوطنية، فكانت النتيجة الخسران كما هو معلوم، وعندما قاتل المسلمون في أفغانستان والشيشان تحت راية الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا حقق الله لهم النصر، وعندما اختلفوا على بعضهم جعل الله بأسهم بينهم جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فعلى المسلم المؤمن أن يسلم ويؤمن بقضاء الله وقدره في كل شيء، وخاصة بعد وقوع الأحداث، وأن يتجه إلى النظر في أسبابها وشروطها الموضوعية، قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165]، فهو سبحانه قادر على إنفاذ وعده لكم بالنصر، ووعيده للكفار بالخذلان، ولكنكم أنتم لم تستوفوا شروط النصر، ولم تنتف منكم أسباب الهزيمة، فهذه قاعدة نفسية، تقود من تأملها إلى العمل والإصلاح بدلاً من اليأس والشك في المقدور، ولله عاقبة الأمور.
وللمزيد في ذلك انظر الفتاوى رقم: 2855، 8546.
والله أعلم.
المفتي: ... مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
سيأتينا النصر عندما تتوفر شروطه في واقعنا
الأحد 2 ذي القعدة 1426هـ - 4ديسمبر 2005م
الصفحة الرئيسة
- مهمة الحوار في ديننا هي دعوة الآخر إلى الإسلام.
- على الحركات الإسلامية أن تحدد أهدافها بوضوح .(1/1146)
- دراسة الإسلام تحولت عند البعض من علم إلى ثقافة.
- الديمقراطية عزلت الحياة الدنيا عن الآخرة عزلاً كاملاً.
- لم يجد اليهود والنصارى عدالة طوال تاريخهم كما في الإسلام.
أجرى الحوار: أسامة الهتيمي
مفكرة الإسلام : لم يعد خافيا على أحد ما وصل إليه حال الأمة الإسلامية من الضعف والترهل والابتعاد عن القيم والسلوك الإسلامي وقد تحققت فيها نبوءة الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ' توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها' .. غير أن هذا الحال ربما يجمع عقلاء الأمة ومفكريها على أن يتوحد إحساسهم بالألم والإرادة في الخروج من هذا النفق الذي امتد بها ولقرون طويلة حتى قال المؤمنون منهم ' متى نصر الله ' .
ومع كل ما تعرضت له الأمة من مكائد ومؤامرات أعدائها فما زالت باقية تقاوم وصامدة أمام هذه المؤامرات بكل ما أتيح لها من قوة السلاح أو بقوة الفكر الذي ما زال يمثل حصنا قويا ومنيعا ضد تذويب وفقدان هوية الأمة.
مفكرة الإسلام وسط النقاش الذي لن ينتهي حول واقع الأمة ومستقبلها حملت تساؤلاتها للدكتور عدنان النحوي الداعية والمفكر الإسلامي وأحد من فرغوا أنفسهم للدعوة الإسلامية ليذب عنها ما يثيره الأعداء بين الحين والآخر وليؤكد أصالة هذه الأمة التي حتما ستحظى بنصر الله إن هي عادت إلى ربها وحققت شروط النصر في واقعها .
** الجميع من مختلف الاتجاهات يعترف بتردي حال الأمة العربية والإسلامية، غير أنهم يختلفون في أسباب الداء وبالتالي في طرق العلاج .. هل يمكن أن تطرحوا بإيجاز عناصر مشروع يمكن به استنهاض الأمة وابتعاثها من جديد؟!
• أولاً هناك أناس ما زالوا لا يعترفون بتردِّي الحال ، وما زالوا يعتقدون أننا نحقق نصراً بعد نصرٍ ، وما زالت الاحتفالات والمهرجانات بالنصر الموهوم ممتدة في العالم الإسلامي، ولا مجال هنا لأن نضرب أمثلة. وكذلك ما زال هناك أناس لا يعترفون بأخطائهم ويريدون أن يفرضوا أخطاءهم على الأمة كلها . وهنالك أناس يرون أنهم هم وحدهم يستطيعون أن ينقذوا الأمة ، وقد أُعْطِيَ الجميع فرصة واسعة لإنقاذ الأمة !
كلٌّ يقول أنا الذي فإذا الذي ليس الذي ! يا ويل من لم يعدِلِ !
أما عن سؤالكم : ' هل يمكن أن تطرحوا بإيجاز عناصر مشروع يمكن استنهاض الأمة وابتعاثها من جديد ؟! ' أقول : نعم يمكن ذلك ! وكيف لا يمكن ، والله لا يُعقل أن يترك عباده دون أن يوفّر لهم سبيل النجاة والعزّة والقوة ؟! إنه وعد من الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ ولقد كرّر الله سبحانه(1/1147)
وتعالى وعده هذا للمؤمنين في آيات كثيرة تأكيداً على أهمية السبيل الذي أرشدنا الله إليه ، وأهمية التزامه .
والنقطة الأساسية هنا هي أن النصر من عند الله وحده، ينزل نصره على عباده المؤمنين حين يستوفون شروط النصر التي أمر الله بها في واقعهم. فإذا لم يُنزِل الله نصره فلننظر في أنفسنا، فالله لا يظلم الناس شيئاً أبداً ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم.
ولأهمية هذا الموضوع فقد تفرَّغت للكتابة في ميادين متعددة بتفصيل على قدر ما هداني إليه الله في كتب تجاوزت التسعين كتاباً في ميادين متعددة تشمل ميادين الفكر والفقه والتوحيد ، والواقع وما فيه من اضطرابات فكرية وما فيه من أحداث ، وتشمل السياسة والأدب ومذاهبه والردّ على المذاهب الفكرية والأدبية المنحرفة في دراسات مفصلة ، نثراً وشعراً وملاحم .
وإني أطرح من خلال هذه الدراسات نهجاً أعرضه على كل المسلمين بعامة وعلى الناس كافة، لكل مسلم ولكل أسرة ولكل مجتمع. ويشمل هذا النهج: النظرية العامة للدعوة الإسلامية، المناهج التطبيقية، النماذج، الأساليب، الأهداف، التخطيط، وغير ذلك. إن الهدف العام من هذا النهج هو إنقاذ المسلم من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، ثم هناك الهدف الأكبر والأسمى، ثمَّ الأهداف الربَّانيَّة الثابتة، ثمَّ الأهداف المرحلية.
ولقد أوجزت ذلك كله في كتب موجزة في مراحل متعددة ، وكان آخرها : ' الموجز الميسر عن مدرسة لقاء المؤمنين ' . ذلك لأني أومن أنه لا تستطيع فئة واحدة مهما بلغت قوتها أن تنقذ الأمة ، والأمة ممزَّقة أقطاراً وأحزاباً وأهواءً. فذلك يجلب غضب الله ، ويفتح المنافذ لأعداء الله ليتسللوا ، فيثيروا الفتن ويزيدوا الأمة بلاءً على بلاء ، وفتناً على فتن ، وتنازلاً بعد تنازل .
فلا بدَّ إذن من لقاء المؤمنين المتقين الصادقين الذين لا يسعون إلى زهوة الدنيا وتنافسها ، بل يؤثرون الآخرة على الدنيا كما أمر الله ، لا بدَّ من لقاء المؤمنين الصادقين على نهج يمثل قاعدة اللقاء . هذا النهج هو الذي أطرحه في دراساتي ، وهو الذي أدعو إليه ، وأعرضه قدر وسعي وطاقتي على الناس كافة . وهذا النهج قائم على : قواعد الإيمان والتوحيد كما جاءت في منهاج الله ، وعلى المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ وعلى مدرسة النبوة الخاتمة التي يجب أن تكون ممتدة مع الزمن تصنع الأجيال المؤمنة دون توقف .
لا يمكن إيجاز هذا النهج هنا بأكثر من ذلك، ولكنني أنصح باعتبار كتاب: ' الموجز الميسّر ' موجزاً يمكن أن يعين. وهنالك كتب أخرى موجِزَةٌ لهذا النهج تجدها في قائمة الكتب الصادرة .
وأهم العناصر : وضع النظرية العامة وتحديد بنودها ودراسة هذه البنود دراسة مفصلة ، ثمَّ تحديد أهم الأمراض والمشكلات في واقع المسلمين ، ثم التزام النهج الإيماني في التفكير ، التخطيط العام للدعوة الإسلامية ، التخطيط لكل ميدان تخوضه الدعوة ، إقامة نظام إداري يوفر التنسيق والإشراف والمتابعة(1/1148)
والتوجيه ومعالجة الخلل والأخطاء ، ثمّ إقامة المؤسسات الإيمانية ، اعتماد ميزان المؤمن ، واعتماد التقويم الدوري والمرحلي ، واعتماد التدريب العملي ، إلى غير ذلك من العناصر .
أنا وحدي لا أستطيع أن أحقق ذلك ، ولا أيِّ فئة وحدها ، ولكني أستطيع أن أقدم النظرية والمناهج والنماذج والدراسات وغير ذلك ، ولكن لا بدَّ من لقاء المؤمنين الصادقين على طريق بناء الأمة المسلمة الواحدة التي لا غناء عنها لتحقيق أي نصر في واقعنا اليوم . فاليوم كل طائفة تعمل وحدها ، وكل بلد يعمل وحده ، والأعداء يأخذون كل فريق وكل بلد على انفراد في ضعفه وهوانه .
إذا لم تَقُمْ في الأرض أمة أَحمدٍ فكلُّ الذي يجري على الساح ضائع
** يعلق البعض أسباب الفرقة التي تعاني منها الأمة على الاختلاف المذهبي على الرغم من أن هذا الاختلاف المذهبي مصاحب للأمة منذ عهود ازدهارها ... ما تعليقكم على ذلك ؟!
* الاختلاف في الأمة اليومَ لم يعد محصوراً في الاختلاف المذهبي .فهنالك الاختلاف الحزبي ، واختلاف الأقطار ، واختلاف التصورات العامة ، واختلاف الأهواء والمصالح ، واختلافات أخرى كثيرة !
أما الاختلاف المذهبي في أوله فلم يفرّق الأمة، لأن أصحاب المذهب كانوا يصرّون على أن يعود المسلمون إلى الكتاب والسنة ، وأن يأخذوا من حيث أخذوا. فكان للجميع مرجع رباني واحد . وكان الاختلاف في أمور يبيح الإسلام فيها الخلاف . إلا أن الأمور تطورت وأخذ أتباع المذاهب يعتبرون المذهب هو مرجعهم الوحيد، فانعزلوا عن الكتاب والسنة، وأخذ الجهل يظهر ويمتد ، وأخذ التنافر يقوي بين المذاهب !
نحن الآن نعاني من اختلافات جذرية وانحرافات جليَّة عن الكتاب والسنَّة، أصبح من المسلمين ومن دعاتهم من يدعو إلى العلمانية وغيرها. وكلما ظهر شعار جديد أسرع بعض المسلمين ودعاتهم يتغنون بهذا الشعار: الديمقراطية، الحداثة، العلمانية، وأخذوا يساوونه بالإسلام، أو يضعون الإسلام جانباً لتصبح تلك المذاهب الجديدة هي المطلب والمبتغى.
وانتشر بين المسلمين القول: ' نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه !' وبذلك جعلنا التعاون والاختلاف مرهوناً بالبشر ورغباتهم وآرائهم. ولكن الحق أن التعاون والاختلاف يجب أن يكون على أسس ربَّانيَّة. لذلك أرى أن نتبنى نصَّاً آخر هو:
' يجب أن نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا أن نختلف فيه '.
ليس اختلاف المذاهب اليوم هو العلة الوحيدة ، ولكنها علّة من بين العلل . ولا بدَّ أن ندرك أن اختلاف المذاهب لا يعني المذاهب كما نادى بها أصحابها، ولكنها المذاهب التي تطورت عن ذلك وازدادت بها الفرقة والتمزَّق.
إن واقع المسلمين اليوم بحاجة إلى خُطَّةٍ مدروسة ونهج شامل يعالج المشكلات من جذورها.(1/1149)
** تتزايد بين الحين والحين دعوات الحوار مع الغرب بل والتأكيد على أهمية هذا الحوار وهو ما أوجد العديد من المؤسسات التي تختصر مهمتها في ذلك في حين لا نجد من يدعو لحوار إسلامي إسلامي ... ما رأيكم ؟!
* نعم ! لا يوجد من يدعو إلى حوار إسلامي إسلامي ، إلا القليل من الدعاة . ودعوة لقاء المؤمنين التي ندعو إليها هي التي تفتح باب الحوار بين المسلمين. الحوار بين المسلمين هو لإزالة الخلاف وتأليف القلوب وبناء التعاون على أسس ربَّانيَّة وعلى قاعدة يلتزمها الجميع .
الحوار مع الغرب أو مع الآخر يجب أن يحمل معنى آخر غير معنى الحوار بين المسلم والإسلام،لحوار مع الآخر الذي يطلبه الإسلام ينطلق ويمتدُّ من دعوة الآخر دعوة واضحة إلى الإسلام ، وإبلاغه ذلك وتعهده عليه .
ونحن الآن حَوَّلْنا هذا المعنى إلى ما يمكن أن نسميه تقريب وجهات النظر. وكيف يمكن أن نقرَّب وجهة نظر أي طائفة غير مسلمة لنقرّب بين الإسلام وما يرفضه الإسلام، مهمة الحوار في الإسلام هي دعوة الآخر إلى الإسلام، فهذا تكليف رباني من عند الله. فالدين عند الله واحد هو الإسلام لا يقبل الله من أي إنسان غير الإسلام:
[ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ]
[ آل عمران :85 ]
** هل يمكن اعتبار أن الأزمات التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية بمثابة رسائل إيقاظ لها من سباتها أم أنها تجسيد لواقع مهزوم قابل للاستمرار لفترة زمنية مقبلة ؟!
* لا شكَّ أن أول أثر للأزمات هو أن تكون نذراً من عند الله لتوقظ الغافلين، فإن لم يستيقظوا ويتبعوا سبيل الإيمان ويحملوا دعوة الله إلى الناس كافة، تصبح الأزمات عقاباً من عند الله:
[ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ]
[ السجدة : 21 ]
** تمكنت الحركات الإسلامية في حقبة السبعينيات والثمانينات من القرن الميلادي الماضي من أن توجد لنفسها دوراً كبيراً ومؤثراً على الساحة السياسية دولياً ومحلياً بما كان يحمل معه مؤشراً على قدرتها على إحداث حالة من الاستقطاب المجتمعي تجاهها غير أن وقوعها في أخطاء جسيمة أبعدها عن تحقيق الهدف ... هل يمكن أن تقيم لنا أداء الحركات الإسلامية وأسباب فشلها؟!
* لا بدَّ أن تحدِّد الحركات الإسلامية ما الذي تريده ! أي أن تعرف أهدافها محدَّدة تحديداً واضحاً دقيقاً ، ثمَّ ترسم الدرب الذي يوصل إلى الهدف بإذن الله . وهذا هو مقياس النجاح أو الفشل. إن النجاح بجمع الأنصار والمؤيدين لا يكفي ليدلَّ على النجاح . وقد يكون هذا نجاحاً دنيوياً !(1/1150)
عدد الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي عدد ' شعر الرأس ' كما يقولون ، فلا أدري إذا استطاع بعضها أن يحقق هدفه الحقيقي !
لا أتحدث عن حركة معيَّنة ولكني أقول إن الخلل عام وممتد في الواقع الإسلامي بما فيه الحركات الإسلامية. إنه ممتد وعام وشامل.
إن النجاح الذي يجب تحقيقه هو أن تكون كلمة الله هي العليا في الأرض، وأن يحكم شرعه وأن تقام أخوة الإيمان بين المسلمين عامة ، وأن يكون المسلمون أمة واحدة . هذا هو مقياس النجاح وميزانه .
إن تقويم أداء الحركات الإسلامية بالتفصيل لا يتسع له هذا الحوار . ولكن أشير إلى بعض الأخطاء العامة بصورة موجزة سريعة : عدم تقويم العمل دورياً وعدم تحديد الأخطاء ومن ثمَّ عدم معالجتها ، فتراكمت الأمراض والأخطاء حتى أصبحت تحجب الرؤية . بروز أشكال مختلفة من العصبيات الجاهلية التي نهى عنها الإسلام ، فَعطَّلت معنى أخوة الإيمان وغلبت عليها . أصبحت أخوة الإيمان محصورة في حدود الحزب أو الجماعة أو التكتل. ظهور أشكال من التنافس على الدنيا ، وبروز اتجاهات مختلفة ومواقف مختلفة من القضية الواحدة . أصبح الولاء الأول للحزب ، فاختلفت معاني السمع والطاعة ، أمور كثيرة تحتاج إلى دراسة إيمانية موسعة لمعرفة الواقع اليوم مما يصعب عرضه هنا وتجد الكثير منه معروضاً في كتبي . وأخيراً مات التناصح بين المسلمين ، فقليل من ينصحون وقليل من يقبلون النصيحة . وكذلك الإقبال على الدنيا ، وعدم ربط المواقف والأفكار بالدار الآخرة .
** الشباب المسلم حائر بين تعدد الاتجاهات وتنازع الرؤى خاصة وأنه يعاني من هشاشة وسطحية في فهم ومعرفة الإسلام ... كيف السبيل للخروج من هذه الحيرة ؟!
* هذه مشكلة كبيرة كونتها قرون طويلة في حياة المسلمين حين انعزل المسلم عن منهاج الله ـ قرآناً وسنَّة ولغة عربيةـ ، واستقرَّ في ذهنه أن عليه أداء الشعائر وكفى . فامتدَّ الجهل وامتدَّت معه الأهواء .
إن أهم سبب في هذه المشكلة هو تعطيل حديث رسول الله والآيات التي تدعو إلى ذلك : [ طلب العلم فريضة على كل مسلم ] ..هكذا كانت مدرسة النبوة . ولكن الأجيال المتعاقبة لم تشعر بخطورة هذا الأمر حتى انحصر العلم في طبقة محدودة.
وعندما قامت الحركات الإسلامية فإنها لم تتبنَّ تحقيق العلم من الكتاب والسنَّة واللغة العربية . ولذلك لو استعرضت الآلاف المؤلفة من المسلمين في داخل الحركات الإسلامية لوجدت أعداداً غير قليلة لا تتقن اللغة العربية ولا تشعر بأهمية ذلك ، ولا تعرف من القرآن الكريم إلا آية من هنا وآية من هناك ، كذلك السنَّة !
وتحوَّل التصوُّر لدراسة الإسلام من أنه علم كما سمَّاه الله ورسوله إلى أنه ثقافة !(1/1151)
والسبيل للخروج من ذلك هو وجوب وضع خطة ونهج كما أشرت سابقاً يعالج هذه المشكلة في جملة معالجته للمشاكل الأخرى.
** الديمقراطية في رأي البعض هي وسائل للوصول للحكم بينما الشورى هي آلية الحكم ومن هذا فلا تعارض بين الاثنين إذا تم الأخذ من الوسائل الديمقراطية بما لا يتنافى مع الأحكام الإسلامية .... ما رأيكم ؟!
* لا أرى الصواب فيما ذكرته عن الديمقراطية والشورى كما يراه البعض. الشورى نظام رباني، والديمقراطية نظام بشري نبت في الوثنية اليونانية وانطلق منها . ثم صاغته الرأسمالية الأوروبية والعلمانية صياغة تلقي بالفتات للشعب وتخدِّره بها وتملأ جيوبها هي بنتائج شقاء الشعب . حرية الرأي في الديمقراطية أن تقول كما تشاء ولكن ليس من الضروري أن يدخل الرأي في صياغة القرار ، فالقرار يتخذ بين الكواليس ، الديمقراطية تترك الناس يعملون من الصباح الباكر إلى المساء ليعود منهكاً لا يفكر في الموت ولا في الدار الآخرة ولا مصيره . الديمقراطية عزلت الحياة الدنيا عن الآخرة عزلاً كاملاً وألهت الناس عن الدار الآخرة .
المؤسف أن كثيرين من الدعاة استغنوا في أحاديثهم وخطبهم ومقالاتهم عن كلمة ' الإسلام'، وتبنّوا الديمقراطية ! قلت لبعضهم في مؤتمر: الديمقراطية لها دول تدعو إليها، وأنتم دعاة مسلمون على عهد مع الله أن تدعو الناس إلى الإسلام، فما بالكم تركتم الدعوة إلى الإسلام، وانطلقتم تدعون إلى الديمقراطية ؟! قال صاحبنا: نريد الحرية والعدالة والمساواة ! قلت : إذا كانت هذه موجودة في الإسلام فلماذا تنزعونها منه وتعطونها للديمقراطية لتزيفها ، وإذا لم تكن هذه موجودة في الإسلام فأعلنوا ذلك حتى يعرف الناس موقفكم .
لي كتاب : ' الشورى لا الديمقراطية ' ورأيي معروف في ذلك . نحن لسنا بحاجة إلى الديمقراطية ، نحن بحاجة إلى الإيمان الصادق بالله وبرسوله وبالإسلام، وبحاجة إلى العلم الصادق بمنهاج الله . نحن بحاجة أن نكون مسلمين حقيقة ! علينا أن نقرِّر هل نريد أن نكون مسلمين حقيقة كما يريد الله ورسوله، أم نريد أن نخلط الإسلام بالديمقراطية والحداثة والعلمانيَّة ونبتدع ديناً جديداً كما تريد أمريكا؟!
** لماذا الإصرار على الدخول في جدل نظري حول العديد من القضايا ومنها مثلاً الشورى والديمقراطية في حين يعاني الإسلاميون في كل أرجاء الأمة من الاضطهاد والاعتقالات ؟!
* سبب هذا الإصرار أن الغرب ألقى بيننا هذه الفتنة ليُشْغِلنا عن حقيقة قضايانا الهامة ، وليصارع بعضنا بعضاً من أجل الفوز بالبرلمانات ، ويعتبر الفوز بها هو الفوز العظيم . للمسلمين تجارب واسعة في البرلمانات ومع الديمقراطية تجارب عشرات السنين ! فهل درس المسلمون نتيجة هذه التجارب وما استفادوا منها وما خسروا ؟! هي عمليَّة إشغال لنا وإلهاء عن قضايانا المصيرية . المسلمون يُجَرُّون(1/1152)
جرَّاً إلى مثل ذلك ، ولا يملكون أحياناً إلا أن ينصاعوا بسبب الضعف الحقيقي أمام الأعداء وأساليبهم . وأهم أسباب الضعف تمزَّق المسلمين.
** فلسطين قضية عمرها أكثر من خمسين عاماً أصبحت أخبارها لا تثير لدى أغلب المسلمين أي مشاعر جديدة بل أضحت جزءاً تقليداً في نشرة الأخبار .... في رأيكم لماذا هذه الحالة من التبلد التي أصابت المسلمين إزاء واحدة من أهم قضاياهم ؟!
* أولاً: إن قضية فلسطين عمرها أكثر من خمسة وثمانين سنة. أما سبب التبلّد هو كثرة الشعارات ثم كثرة الهزائم ثم كثرة التنازلات حتى عن الشعارات ، ثم محاولة تسويغ ذلك ، حتى كأنَّ الناس يئست بعد طول انتظار . أما السبب الثاني : فهو ضعف الإيمان وعدم وجود منهج كامل للأمة كلها يحقق النصر. والسبب الثالث: انكشاف عوراتنا وظهور ضعفنا وتخاذلنا ضعفاً وتخاذلاً لم يعد يخفيه ضجيج الشعارات.
** لا يفتأ يردد الخطابيون بين الحين والآخر أن الأمة باستطاعتها أن تنتصر وأن تعود لمجدها وأن النصر يقترب وفجأة سقط العراق وأصبح في براثن الاحتلال .... كيف يمكن أن نتفادى استمرار مسلسل الهزائم خاصة وأن التهديدات تحاك بإيران وسوريا والسودان وغيرهم ؟!
** إنها مأساة ! إننا نحن نخدع أنفسنا وعدوّنا يخدعنا وأصبحنا لا نجرؤ على معرفة الحقيقة ، ولا نريد أن نعرف الحقيقة ، الشعارات وضجيجها تخدّر النفوس ، والجميع يريد أن تُخَدَّر النفوس ، والجميع ليس لديهم منهج أو خطة إلا الصراخ والتهديد بالويل والثبور !
** في إطار إحداث حالة من حالات الخوف من وصول الإسلاميين للحكم يكثر الشيوعيون والليبراليون وغيرهم ممن يتبنون أفكاراً غير إسلامية الحديث عن رفض الإسلام لتعدد الرؤى والأفكار في ظل دولته بل إن مصير هؤلاء في ظل الدولة الإسلامية سيكون السحل والاعتقال بل ربما الموت ... فما رأيكم ؟! وكيف يمكن التعامل مع هؤلاء ؟!
* إن الإسلام عندما يحكم يعطي لكل إنسان حقَّه ، ولكلِّ طائفة حقَّها على أعلى درجات العدالة ، عدالة شرع الله كما أنزله على رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - . وكما طبقه المسلمون في عهد النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين وفي مراحل متعددة من التاريخ.
الإسلام يرفض الكفر والفسوق والفجور . هذا أمر واضح . وأولئك يريدون مجتمعاً تباح فيه النساء وتدور حفلات الرقص والفجور ليسمى ذلك حريّة. الإسلام يرى هذه عبودية الشهوات وهبوط الإنسان إلى الدرك الأسفل.
لم يجد اليهود ولا النصارى في جميع مراحل تاريخهم رحمة وعدالة كما وجدوها في الإسلام . ولكن منهم من قابل ذلك بالغدر والخيانة والإساءة !(1/1153)
ولا يمكن أن يكون للإنسانية أيّ معنى خارج الإسلام. في الإسلام فقط تجلى معاني الإنسانية الصحيحة .
إذا لم يَعْتَدِ هؤلاء على الإسلام والمسلمين فلن يعتدي عليهم الإسلام إلا أن يمنعهم من الفتنة والفساد والفجور، وظلم أنفسهم وظلم الناس.
المشكلة كلها هاتِ لي المسلمين الصادقين ليمثَّلوا الإسلام الحقيقي فلن يخاف عندئذ من الإسلام والمسلمين إلا المجرمون الظالمون.
أما عن طريقة التعامل معهم في واقعنا الآن أن ندعوهم إلى الإسلام ونلحَّ بالدعوة بشتى الأساليب . من واجب الدعاة أن يتفرَّغوا للدعوة والتبليغ ولمعالجة هؤلاء وغيرهم . إنها مسؤولية خطيرة . ملايين البشر اليوم مصيرهم بميزان الإسلام إلى النار ، فمن المسئول عنهم ؟! شغل المسلمون بألف قضيَّة وأشغلوا ! ولا يوجد طريقة أخرى إلا دعوة هؤلاء وكسب قلوبهم وبيان أن مصلحتهم هي في الإسلام عندما يمثّل الإسلام الدعاة الصادقون !
** يردد البعض أن التدين ضد الإبداع وأن أغلب المبدعين إن لم يكن جميعهم ليسوا من المتدينين ويستشهدون مثلاً بالأستاذ سيد قطب الذي انتهى إبداعه بمجرد تدينه .. ما تعليقكم ولماذا يقل فعلاً المتدينون في إبداعاتهم؟! وبمعنى آخر لماذا لا يقبل القراء على إبداعات المتدينين إن هي وجدت ؟!
* أقول لهم ولغيرهم وللناس كافة إن الدين الحق هو الذي يطلق الإبداع وينميه ، والإبداع في الأصل هو موهبة يضعها الله فيمن يشاء من عباده . والإيمان والتوحيد ومنهاج الله هو الذي يجلو المواهب الشريفة غير المنحرفة ويباركها . ولكن الظالمين والمجرمين في الأرض هم الذين يقتلون شرف الإبداع، ويظهرون إبداع المفسدين وأهل الفتنة.
والمجرمون اليوم ظاهرون في الأرض بيدهم وسائل الإعلام وقوى الدعم والإظهار والمسلمون لم تقف مصيبتهم عند ضعفهم فحسب ، ولكنهم يحسد بعضهم بعضاً ويؤذي بعضهم بعضاً ، ويضعف بعضهم بعضاً . وتثور بينهم العصبيات الإقليمية على صورة أشد مما يمكن أن تجدها بين الحداثيين .
لقد أثر الغزو الفكري في العالم الإسلام والغزو الإعلامي على تغيير الموازين عند الناس ، فقد أخذ الكثيرون يرغبون بما هو قادم من الغرب بزخرفه وفتنته ، دون أن يجدوا إعلاماً قوياً لما هو إيماني وإسلامي . إن العالم الإسلامي أصبح مفتوحاً للغزو الفكري والإعلامي والعسكري . وربما كان من المسلمين من يبذل جهده لطمس إبداع أخيه المسلم، فتتعاون عوامل كثيرة تضعف انتشار إبداع المسلمين. وللمسلمين إبداعات واضحة .
** على الرغم من أنَّ المدارس الحديثة أو المزعومة بالحديثة في الأدب العربي ' من أمثال أصحاب قصيدة النثر ' ليست لها جماهيرية أو شعبية ولا تحظى لدى المتذوق العربي بأي إقبال إلا أننا نجد أن(1/1154)
أرباب هذه الاتجاهات هم الذين يحصدون أغلب الجوائز وهو ما يشعر المحافظين على التراث بالغبن والضيق .... ما تفسيركم ؟!
* سبب ذلك أن الإعلام المدوِّي اليوم هو بيد الدول الكبرى ومن يتبعها ، ولا يرضى هؤلاء بالإعلام عن العطاء الإسلامي فكراً أو أدباً أو علماً . وهنالك سبب آخر ، ذلك أنك تجد في أغلب الأحيان كلَّ جماعة إسلامية أو حزب إسلامي يبرز أعضاءه ومن ينتمي إليهم في ما يشبه العصبية الجاهلية . إن تمزَّق المسلمين لا بدَّ أن يكون هذا من أبسط نتائجه.
** ألسنا في حاجة فعلاً على الدخول في حوارات مع هؤلاء الفقهاء والمتدينين الذين يتخذون موقف الريبة من الإبداع مما يدفعهم إلى التقليل من شأنه لإقناعهم بأهمية المشاركة في العملية الإبداعية لإفراز جيل من المبدعين المتدينين خاصة وأن الفنون بعمومها تساهم في عملية التوجيه ؟!
* لم أفهم السؤال تماماً ... المتدينون الذين يتخذون موقف الريبة من الإبداع ..؟! ما هو الإبداع الذي يقفون منه موقف الريبة ؟! هل هو أدب الفجور والانحلال ؟! الإبداع الصادق يفرض نفسه على المتديّنين . أنا أطرح سؤالاً آخر: لم لا يهتم أولئك المبدعين بإبداع المسلمين وهو كثير ؟! لماذا نهتم نحن بإبداعات أولئك دون تمحيص، وهم لا يبالون بالمؤمنين ولا بإبداعهم ولا يحرصون إلا على طمس كل ما هو إيمانيِّ.
بعضنا يمدح الحداثيين ، ولكنني لم أجد حداثياً واحداً عطف على أيِّ شيء إسلامي أو إيماني ، أو ذكر أديباً مسلماً أو شاعراً مسلماً بخير .
هنالك خوف من أنَّ بعض الإبداعات غير الملتزمة قد تكون باباً لتغذية الفتنة وصرف النفوس عن الإيمان، بما تحمل من زخرف اللفظ. كم صرفت قصائد نزار الفتيان والفتيات عن العفّة وألهبت فيهم الشهوات.
ولذلك أرى أن يحكم على كلِّ إبداع وحده، ويحكم عليه بميزان إيمانيٍّ عادل.
انظر كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل الإعلام باباً لشعراء كفار قريش، وكانوا مبدعين ومن فحول الشعراء ! ولكنه فتح باب الإعلام لشعراء الإسلام وحملة رسالته والمجاهدين في سبيل الله .
ــــــــــ
شَوْقُ الجهَاد وجلاَلُ النَّصر
في أفغانستان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَأَسكُبُ الشَّوقَ مِنْ جَفْنٍ ومن كَبِدِ ... ... ومِنْ رُؤىً وَصَلَتْ عَهْداً مضىَ بِغَدِ
... ...(1/1155)
الذكْرْياتُ عَلَى أَطْلاَلِها نَهَضَتْ ... ... تُعَانِقُ المجدَ شَوْقَ الأُمِّ لِلْوَلَدِ
... ...
هُنَا اللَّيالي التي فَارَقْتُها زَمَناً ... ... عَادَتْ تُحَدِّثُ عَنْ أَهْلي وعَنْ بَلَديَ
... ...
" كَابُول " داري وإنْ شَطَّ المَزَارُ فُما ... ... يُقَرِّبُ الدَّار إِلا لَهْفَةُ الكَبِدِ
... ...
فَحيْثُما كَانَ ذكْرُ الله عُدْتُ إِلى ... ... حَبْلٍ مِن الله مَوْصولٍ ومُنْعَقِدِ
... ...
أَنا انتسابي إلى الإِسلام : كُلّ هَوَى ... ... ماضٍ ويبقى هوى ديني ومُعْتَقَدِي
... ...
لله دَرُّكِ يا " كَابولُ " أَيُّ شَذاً ... ... أَحْلَى مِنَ الدَّمِ دفَّاقاً مِنَ الوُرُدِ (1)
... ...
أَزكى مِنَ الوَرْدِ فَوَّاحاً بِرَوضته ... ... أَغْنَى مِنَ النَّبْع فَوَّاراً على جَدَدَ (2)
... ...
رَحِيقُهُ : في سبيل الله ، نَفْحَتُه ... ... نَصْرٌ على عِزَّةٍ قَعْسَاءَ لم تَحِدِ (3)
... ...
كَأَنَّهُ عَبَقٌ ، والسَّاحُ تَنْشُرُهُ ... ... مِلءَ الزَّمانِ، عَلَى الآفاق ، في النُّجُدِ
... ...
لله تَسكُبُه الأبْطَالُ صَاعِدةً ... ... عَلَى مَدَارِجِها آفَاق ، مُجْتَهِدِ
... ...
إِلى الجِنَان ! إِلى الفردَوس وثْبَتُها ... ... تَدُقُّ أَبوابها دقًّا بكلّ يَدِ
... ...
للنَّاسِ إِن أَظْلَمُوا نُورٌ بِهِ وإِذا ... ... مَالُوا فمِنْهُ جَلاءُ الحقِّ و السَّدَدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ
... ...
فَقفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ(1/1156)
... ...
فَقِفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إِلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
* * ... ... * *
جَلاَلُ نَصْرِكِ آياتٌ مبيِّنةٌ ... ... للِمؤْمِنين وغَيْظُ الحَاقِدِ النَّكِدِ
... ...
عَشْرٌ مَضتْ ! والدَّمُ القَاني يُفَجِّرهُ ... ... مِن الوَرِيد وَفَاءُ العَهْدِ وَالعُدَدِ
... ...
لقَدْ تَجَاوَزْتِ شَكْوَانا و واقِعَنَا ... ... وَقُمْتِ مِنْ غَفْوَةٍ رَكْضاً إِلى كَبَد (4)
... ...
إِلى الميَادِين يُجْلَى في مَلاحمها ... ... حقُّ ويُحْسَمُ مِنْ أَمْرٍ ومِنْ عُقَدِ
... ...
هُناكَ بَيْنَ اللَّظى صُغْتِ السِّياسَة لا ... ... بَيْنَ الأرائِكِ والأطْبَاقِ والحَفَد (5)
... ...
هُنَاكَ صُغْتِ على الميْدَانِ فَلسفَةً ... ... تَقُولُ إِن شِئتَ نَصْرَاً قُمْ لَهُ وجُدِ
... ...
وَعُذْ بِربِّكَ لا تُشْرِكْ به أَحداً ... ... وَمنْ يَعُذْ بِسِوى الرَّحمن لم يَسُدِ
* * ... ... * *
1412هـ
1991م ... ... ...
--------------------
• ملحمة الجهاد الأفغاني .
(1) الوُردُ أصلها الوُرْد وهي جمع الورد وهو الشجر أو الزهرة ، ومن كل شيء بين الحمرة والصفرة .
(2) جَدَدَ : الأرض الغليظة المستوية .
(3) قعساء : الثابت من العز .
(4) كبد : مشقة .
(5) الحَفَدْ : الأعوان والخَدَم
ــــــــــ
وما النصر إلا من عند الله(1/1157)
حسين بن محمود
في مقالة سابقة "حديث نفس" كتبت عنواناً جانبياً "مات أُسامة ... لا عجب" وكان التجاوب والتفاعل مع العنوان أكبر مما كنت أتصور (خاصة بعد أن تم نقل المقالة إلى المنتديات) ، حيث عتب كثير من الإخوة عليّ ذِكر موت أُسامة ، وإن كنت ذكرته على سبيل المجاز وليس الإخبار .. و علت التساؤلات والإستنكارات وكثر القيل والقال ، فرأيت أنه من المناسب كتابة هذه الكلمات لتوضيح بعض الأُمور المهمات التي استفدتها من هذه الردود:
أولاً: يدل هذا التفاعل الكبير على الحب العظيم الذي تكنه الجماهير الإسلامية لهذا الرجل .. فلم نرى هذا الحرص على التثبت حتى عندما نُقل إلينا خبر موت كبار علماء هذه الأمة أو قادتها .. عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إذا أحب اللَّه تعالى العبد نادى جبريل إن اللَّه يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .. فالحمد لله على فضله ..
ثانياً: دحض مزاعم من يدعي بأن المسلمين ليسوا مع أسامة ، ولا يرون ما يرى ، أو أنهم لا يقرونه على أفعاله وأقواله .. أقول: إن كان كلامكم هذا صحيحاً ، فمن أين هذا الحب والحرص على حياة الرجل !! لقد حاول بعض المغرضين التقليل من شأنه حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق .. وحاول البعض التهوين من أمره وإنكار فضله !! فنقول لهؤلاء وأمثالهم:
وليس بقولك من هذا بضائره ........ العربُ تعرف من أنكرت والعجم
وأكبر دليل على هذا الكلام ما حصل في القمة العربية ، حيث لم تلقى هذه القمة أي إهتمام شعبي من قبل الشعوب المسلمة [إذا استثنينا المسيرات (أو المسرحيات) "الرسمية" في بعض الدول] .. لم يكن هناك اهتمام بفحوى المؤتمر ولا "بالمؤتمِرين" (بكسر الميم) .. لا أعرف أحد من العامة تابع هذه القمة على شاشات التلفاز ، بينما تمسمر الناس في العالم كله على شاشات التلفاز ليسمعوا كلام أبي عبدالله أسامة وكأن على رؤوسهم الطير ، وعلت هتافات الله أكبر في بلاد الإسلام بعد ذلك القسم التاريخي الذي أطلقه هذا الرجل المجاهد فكان كالقنبلة أقضّت مضاجع فئران البيت الأبيض الذي يتسول على عتبات بابه الملوك والحكام ..
ثالثاً: اهتمام شباب الأمة بأخبار الجهاد والمجاهدين ، فكل الناس الآن يعرفون أسامة والملا عمر ، وانتقل هذا الإهتمام إلى مجاهدي الشيشان وغيرهم من المجاهدين في الأرض. لقد أصبح الجهاد حديث عدد كبير من شباب المسلمين ، وحتى الغير ملتزمين منهم .. لقد تغير مفهوم القوى العظمى عند كثير من المسلمين ورجعت إلى كثير منهم الثقة بالله ثم بقدراتهم كمسلمين ..
رابعاً: تحري الشباب وتثبتهم من الأخبار ، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم يدل على درجة عالية من الوعي ، فالحمد لله ..(1/1158)
هذه الحرب اللتي ظن كثير من المسلمين أنها شر كلها ، هي ليست كذلك: فكم من مسلمٍ رجع إلى الله بعد هذه الحرب ، كم تارك صلاة بدأ يرتاد المساجد ، وكم من غافلٍ عن قضايا المسلمين أصبح يتابعها صباح مساء ، وهذا ليس نقل بل خبرٌ يقين .. كم من عالمٍ كان يجهله الناس فعرفوه بعد هذه الأحداث: كم من المسلمين كانوا يعرفون الجبل الشامخ الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي رحمه الله ، أبا الله إلا أن يعْرِفه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، هذا الرجل الذي ذكّر المسلمين بسيرة سلفهم الصالح .. فرحمة الله عليه ..
خامساً: وهي نقطة سلبية ، وهي في غاية الأهمية: لاحظت التعلق الشديد من قبل بعض الإخوة بابن لادن ، وكأن النصر لا يأتي إذا مات أُسامة .. يجب أن يعي الشباب المسلم بأن هذا الأمر لا يتعلق بأسامة أو غيره من آحاد المسلمين ، إن الأمر أكبر من أُسامة ومن معه .. إن الإسلام أكبر من أن تقف عجلته بموت شخص (وهذا ما حاول أبو عبدالله التركيز عليه في مقابلاته)..
لما أُشيع موت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد وبدى من بعض الصحابة اليأس والإحباط الشديد .. أنزل الله سبحانه وتعالى "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- قام أبوبكر رضي الله عنه في الناس خطيباً ، فقال "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .. ثم تلا هذه الآيات" .. فإذا كانت الراية لم تسقط بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف تسقط بموت غيره !!
أُذكِّر إخواني في الله بأن الموت حق ، وكل إنسان يموت .. كل إنسان يموت .. ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت !! والإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم ..
ليس من عقيدتنا التعلق بالرجال ، إنما هذا شأن أهل البدع ، أما نحن فأصحاب مبدأ نُحب من يتبعه ونناصره ونُعاونه ، ولاكن لا نتعلق به .. فالحذر الحذر ..
وأُبشر الشباب المسلم بأن الجهاد في هذه الأُمة ماضٍ "حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجّال". بأُسامة أو بغير أُسامة ... وأنا لا أبخس هذا المجاهد فضله ، فهو عندي كما قال الشاعر:
وسَلي الفوارِسَ يُخْبروكِ بِهِمَّتي ........ ومواقِفي في الحربِ حينَ أطاها
وأزيدُها من نارِ حربيَ شُعْلةً ................ وأُثيرُها حتى تَدُورُ رَحاها
وأكُرُّ فيهم في لَهيبِ شُعاعِها ............... وأكونُ أوّلَ واقِدٍ بصَلاها
وأكونُ أوّلَ ضاربٍ بِمُهَنّدٍ ............. يُفري الجماجِمَ لا يُريدُ سِواها
وأكونُ أوّلَ فارسٍ يَغشى الوغى ............. فأقودُ أوّلَ فارسٍ يَغْشاها
والخيْلُ تَعلَمُ والفوارِسُ أنني .............. شيْخُ الحُروبِ وكَهْلُها وفَتاها(1/1159)
إن لهذا المجاهد شرف عظيم في هذه الأمة في زمان صغُرت فيه الهمة ، فهو حقاً شيخ الحروب وكهلها وفتاها .. رجلٌ يقاتل الكفار منذ ثلاثة وعشرين عاماً ، في زمن قل فيه الرجال .. إذا كان في الناس خادم الحرمين فهذا ابن خادم المساجد الثلاثة .. إن كان في الناس من يُحترم لمنصبه أو لماله ، فهذا فرض احترامه على الدنيا بأفعاله .. هذا ابن إيمان اليمن ، وحكمة اليمن ، ورقة اليمن .. هذا ابن همة الشام ، وعزيمة الشام ، ونجدة الشام .. هذا ابن الحجاز مهبط الوحي وأرض الرسالة .. فكأنه ربط الشام واليمن بحبل الإيمان وعقد منه عقدتين على منارتين في الحرمين .. نسأل الله أن يثلِّثهما بعقدة على منارة المسجد الأقصى ..
وصَفه من يعرفه بأنه: عابدٌ ، زاهدٌ ، شهمٌ ، كريمٌ ، خلوق ، شجاع ، متواضع ، صاحب مروءة ، سهل ، ليّن ، لا يُجالسه أحد إلا أحبه ، يحب المؤمنين ويُبغض الكافرين ، عالي الهمة ، بشوش ، كثير الصمت ، قليل الكلام .. قال عنه شيخ المجاهدين في عصره ومجدد حركة الجهاد وفكرِه ، الشيخ عبدالله عزام رحمه الله: "الأخ أبو عبد الله أسامة بن محمد بن لادن، أدعو الله أن يبارك له في أهله وماله ونرجو الله أن يكثر من أمثاله، ولله أشهد أني لم أجد له نظيرا في العالم الإسلامي، فنرجو الله أن يحفظ له دينه وماله وأن يبارك في حياته" .. وقال في مناسبة أُخرى: "هذا رجلٌ بأُمة" ..
أقول: يكفيه أنه رجُلْ .. نعم رجل .. وقف وقفة الرجال ، قال للظالم "لا" .. رجلٌ لم يخف في الله لومة لائم .. ابن الوغى ، وأبوه ، وعمه ، وابن أخيه .. نصر الله به الموحدين ، وارغم به أُنوف الكافرين ، وأعز الله به هذا الدين .. إن لم يكن هذا هو الشرف ، فقولوا لي بالله عليكم: ما الشرف !!
ولكن هذا الدين عظيمٌ عظيم .. أعظم من أن يُحدّ في شخص أو بضعة أشخاص .. وربما تبين لنا الآن سبب عزل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه .. ولو كان عمر حياً لربما عزل أُسامة خشية فتنة الناس به (أُسامة يشبه خالداً في بعض فعله وليس في فضله) .. ولكن الفتوحات لم تتوقف بعزل خالد ، بل أدى أبو عبيدة رضي الله عنه دوره في الفتح على أتم وجه .. وقد رأينا في أفغانستان كيف أن بعض المجاهدين القدامى انتكسوا على أعقابهم ، فكان هذا سبباً لظهور قادة جدد - لم نكن نعرفهم - حملوا على أكتافهم مهمة نصرة هذا الدين .. ولولا انتكاسة القوم ما عرفناهم .. فمن منا كان يعرف الملا عمر !! " فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا " ..
وأطمْئن أحبتي بأن أمريكا لا تقتل أُسامة ، إنما الذي يتوفاه هو اللهُ سبحانه وتعالى: في اللحظة التي قدّرها ، وفي المكان الذي قدّره ، وعلى الوجه الذي قدّره ، بالسبب الذي قدّره جلّ في عُلاه .. إن مات أُسامة بعد هزيمة الصليبيين (بإذن الله) فهذا ما نرجوه من الله ، وحتى تقر عيني أبي عبدالله ، وإن(1/1160)
مات قبل ذلك ، فالله مولانا من قبل ومن بعد فـ "نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ " (الأنفال 40) .. نسأل الله أن يحفظه وإخوانه ليغيظ بهم اعدائه ..
فليعلم كل إنسان بأننا إذا اتكلنا على أنفسنا أو على غيرنا من البشر ، أوكَلَنا الله إلى من اتكلنا عليه .. فمن ينصرنا إذا تخلى اللهُ عنا وقد قال سبحانه " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ " .. أما اذا توكلنا على الله وعملنا لنُصرة دينه على الوجه الذي يرضاه عنا ، كفانا الله أعدائنا "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق: 3) .. " وعلى الله فليتوكل المؤمنون" (آل عمران : 122 ) ..
"رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" (الممتحنة: 4) .. والله أعلم ..
كتبه:
حسين بن محمود
ــــــــــ
مقوّمات النصر
ـــ د.محمود الربداوي ـ رئيس التحرير
قليلةٌ هي المؤسسات الفكرية والعسكرية، وكذلك قليلون هم الأفراد والمؤرخون الذين تناولوا بالبحث وإحياء الذكرى لقائدٍ عربي بالغ الأهمية بين قادة العالم، بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً هجريّاً على وفاته. وهو خالد بن الوليد.
كنتُ أتمنى لو أن العرب لم يحتفلوا بوفاته، وإنما أطمح أن يحتفلوا بولادته، فولادته أجدر بالاحتفال؛ لأنها جاءت إلى الدنيا بعبقريٍّ من عباقرة فنون الحرب، وإحكام الخطط الاستراتيجية، لم تخرِّجه كلية عسكرية، ولم يتدرب في أكاديمية من أكاديميات الأركان، وإنما وُهب القيادة فطرةً، فكان النصر حليفه في كل المعارك التي خاضها بنجاح. فقضى على كبريات الامبراطوريات في عالم القرون الوسطى: الامبراطورية الفارسية والامبراطورية البيزنطية، ولكنَّ المفكرين أعرضوا عن الاحتفال بولادته؛ لأنها حدثتْ سنة 586م أي قبل أن يكون للعرب تأريخٌ هجريٌّ تُنسَب إليه ولادته، فعندما اصطلح الناس على بداية الهجرة كان عمره حوالي 36 سنة.
صحيح أن هذا القائد العبقري- كما أطلق عليه عباس محمود العقاد عندما أدرجه في سلسلة العبقريات التي كتب عنها- هذا القائد خالد بن الوليد وُلِد بمكة، ولكنْ يشرِّف هذا القطر العربي السوري أنه احتوى جثمانه سنة 21 هجرية، فظفرتْ مدينة حمص باحتضان رُفاته، ولذلك لم يكن غريباً بل ظاهرة وفاء واعتزاز أن يتنادى مفكرو حمص وكُتّابها لإحياء ذكرى هذا القائد الفذ بأبحاثٍ من جوانب عبقريته، ومن الاعتراف بعظمة هذا القائد، والاعتزاز بالدور الذي قام به في خدمة العروبة والإسلام، وبالمكتسبات التي تركها لهذه الأمة، أن أقامت جامعة حلب بالتعاون مع جمعية العاديات في الفترة ما بين 29 و31 من تشرين الأول سنة 2002 الندوة الدولية بعنوان (خالد بن(1/1161)
الوليد- رؤية معاصرة) تهدف هذه الندوة إلى تحريض الروح الجهادية، وإرادة المقاومة والصمود في أجيالنا من خلال استعراض واستذكار هذه المعاني في شخصية خالد بن الوليد، صحيح أنه كُتب الكثير عن شخصية هذا القائد العظيم من قِبَل مؤرِّخين وعسكريين وسياسيين وأدباء وعلماء نفس وعلماء اجتماع ومُحلّلي نصوص من عرب ومستشرقين، ولكنْ ما زال الزمان والمصادر التاريخية تتكشف عن جوانب منه ما زالت غائبة عنا، أو مهمّشة غيّبها أناس من أعداء هذه الأمة، ساءهم أن يتحدَّثوا بإنصاف عن الدور الذي حقّقه هذا الرجل فانتزع منهم هذه الأرض التي عاش عليها العرب وتعيش عليها الأجيال العربية منذ أربعة عشر قرناً ونيّف. ثم جاء الجهلة من أبناء الأمة العربية وتابعوهم على مقولاتهم المُغرِضة، فكان هذا التاريخ المشوّه الذي نخشى أن يصبح حقائق مقرَّرة عند الأجيال العربية في قادمات الأيام. عندما أحببتُ ألا تفوتني هذه المناسبة من غير أن أشارك بكتابة بحثٍ عن جانب من جوانب خالد بن الوليد في معركة اليرموك، وأحسِب أن أحداً لم يتطرق إليه في حدود علمي، باستثناء كتابين لجنرالين عظيمين: أولهما الجنرال أكرم الباكستاني الجنسية
وثانيهما العماد الأول مصطفى طلاس العربي الجنسية فجذبتني القراءة في كتب التاريخ، والمرء يسعد للاطلاع على المواقف المشرِّفة في تاريخه، ويطرب لما حقّقه أبطال من أجداده، فيدفعه حب الاستطلاع والفضول العلمي أن يسْتَكْنِه سر النصر في شخصية هذا القائد الذي لم يُهزَم في معركة قط، فوجدتُ سر نجاحه في العناصر الأربعة التالية:
آ-الشجاعة، وهذه صفة فطرية، وهبة من الله، تلعب الوراثة- كما يقول علماء النفس- دوراً كبيراً في نقلها من السلف إلى الخلف، وتعطيها لإنسان وتحرم منها آخر، يتّصف بها الرجل كما تتّصف بها المرأة، ولا فرق فيها بين سيِّد وعبد، كما لمحنا في تاريخنا الجاهلي والإسلامي، وقد تتجلى الشجاعة في الجسد عند أناس، أو تتجلى في الرأي والفكر عند أناس آخرين، ولما كانت هذه الشجاعة فطرية فإن الأحداث والأيام والمعارك تنمِّيها وتصقلها. وممارسة الحرب، وخوض المعارك من شأنها أن تؤصل الشجاعة في الشجاع، وتؤكد فيه نزعة الإقدام، ومبارزة الخصوم، بقلبٍ جسور، وعزيمة صادقة، وهذه الخصائص تمركزت في خالد كما تحدثنا نشأته الأولى، حتى وصفه الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) بأنه سيف الله المسلول.
ب-الرأي المحرك للقدرة على التخطيط الحرْبي، ووضع القرار الحكيم، وحسن إدارة المعارك، والحكمة البعيدة أو بُعد النظر في تعبئة الجيوش، وترتيب الصفوف وتوزيع المهمات القتالية، وحسن اختيار قادة الفيالق والسرايا والكتائب وإسناد المهمات لمن يستطيع النهوض بها حسب الرتب العسكرية والحشود القبائلية والعشائرية طبقاً لما هو متعارَف عليه في مجتمع ذلك الزمان. وباختصار حسن رسم (التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي) كما هو متعارَف عليه في المصطلح العسكري المعاصر، أو كما كانوا يُسندون لخالد إدارة (القُبّة والأعِنّة) في المصطلح العسكري القديم.(1/1162)
فإنَّ الباحث ليتملَّكه الإعجاب من رجلٍ قاد جموعاً غالبيتها من بدو الصحراء، من الأعراب المتمردين على النظام، ولا يعرفون من سنن الحرب إلا الغزو الفوضوي الذي ألفوه في جاهليتهم، والذين لم تمكنهم صحراؤهم من امتلاك الأسلحة إلا البسيطة منها، فنظمهم خالد ورتبهم عسكرياً، وعبَّأهم كراديس وخيالة ورجَّالة وميمنة وميسرة وقلباً وساقة، وقابل بهم جيوشاً نظامية مدرّبة، فقهر بهم أكبر امبراطوريتين عُرفتا في ذلك العصر، هذا الرأي المدبِّر مع الخاصة الأولى الشجاعة كأنه هو الذي أفصح عن وصفه المتنبي بعد قرنين ونصف عندما قال في مطلع قصيدته المشهورة:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أوّلٌ، وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرّةٍ
بلغتْ من العلياء كل مكانِ
وكأن المتنبي عناه بهذه القصيدة الرائعة عندما قال فيها:
رفعتْ بك العربُ العمادَ وصيَّرتْ
قِمم الملوك مواقد النيرانِ
أنساب فخرِهم إليك، وإنما
أنساب أصلِهم إلى عدنانِ
إن السيوفَ مع الذين قلوبهم
كقلوبهنَّ إذا التقى الجمعانِ
فإذا رأيتك حار دونك ناظري
وإذا مدحتك حار فيك لساني
جـ-عقيدة الجهاد في الإسلام:
فمنذ أن دخل خالد في الإسلام سنة 8 هجرية لم يسلِم ويحسُن إسلامُه فحسب، بل تغلغلتْ العقيدة في صميم قلبه، وآمن أن الإسلام ليس للعرب فقط، وإنما للناس كافة، فآمن أكثر من غيره بوجوب نشر الإسلام في أقطار الأرض، ومن هنا انطلق خارج مكة والمدينة، فكانت فتوحات العراق والشام، فكانت بغرض نشر العقيدة التي تأصلت في وجدانه، والتي تؤججها الرغبة في الجهاد والاستشهاد، لا حباً في كسب الغنائم كما يفسر ذلك بعض محلّلي النصوص التاريخية، صحيح أن متاع الحياة الدنيا مرغوب، ولكن ثواب الآخرة هو المحرِّض الأكبر عند عامة المحاربين من المسلمين، وعلى رأسهم ابن الوليد.
د-مواتاة الظروف السياسية والاجتماعية(1/1163)
عندما برز العرب أمةً على مسرح الأحداث، وأخذ المسلمون في الإرهاص لتكوين أمة فتية، ودولة صاعدة، تأخذ مكانها تحت الشمس، كانت دولتا الفرس والروم قد هرِمتا، وقد دوَّختْ كل واحدة منهما الأخرى حتى لقد ذكر ذلك القرآن الكريم في سورة الروم. وكان المجتمع في كل من الدولتين الكبيرتين قد نخرته المفاسد الاجتماعية، وظلم الطبقة الحاكمة، وسوء استخدام السلطة، والفقر المستشري في الطبقة الدنيا، وتطلع الناس في هذين المجتمعين، بشغف شديد إلى العدل والمساواة والرحمة، وهذا ما يُبشِّر به الدين الجديد، دين الفاتحين؛ لذلك سعى الكثيرون من رعايا هاتين الدولتين العظيمتين إلى قبول دين الإسلام بطواعية، وفتحوا بلادهم للفاتحين الجدد، وإن كانت ضلوعهم تُكِنُّ غيرة على هؤلاء الفاتحين البدو بأنهم أقل من البلاد المفتوحة حضارة ومدنية، فصالحوا الجيوش التي اجتاحتهم، ودفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وقبلوا بالشروط العادلة التي اشترطها المسلمون، فكانت هذه الجماهير، معواناً للفاتحين وعلى رأسهم خالد بن الوليد، على فتح البلاد؛ للتخلص من الظلم الذي ران عليهم قروناً طويلة.
هذا القائد العظيم الذي يتمتع بكل هذه الخصائص، وما ذكرتُ إلا أبرزها يمضي الآن على وفاته أربعة عشر قرناً، حفزت هذه القرون مجلة التراث العربي أن تقدم ملفاً يذكّر بمآثر هذا القائد الباسل، الذي يشارك في إحياء ذكراه ثُلّة من الكتاب والأدباء العرب، فكتابنا الكريم يقول في القديم: { وذكّر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وفي الحديث قال شوقي: "فالذكر للإنسان عمرٌ ثاني". ...
ــــــــــ
من أسباب النصر
أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جيشا بقيادة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - لفتح بلاد فارس وكتب إليه عهدا هذا نصه :
1 - تقوى الله :
أما بعد : فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ، وأقوى المكيدة في الحرب .
2 - ترك المعاصي :
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم ، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ، ولولا ذلك لم تكن بهم قوة ، لأن عددنا ليس كعددهم ، وعدتنا ليست كعدتهم ، فإن استوينا في المعصية كان لهم علينا الفضل في القوة ، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا .
واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن عدونا شرّ منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا ، فرُبَّ قوم(1/1164)
سُلّط عليهم من هو شر منهم ، كما سُلّط على بني إسرائيل كفار المجوس - لما عملوا بالمعاصي ( وكما سلطت اليهود على العرب المسلمين الآن ) .
3 - الاستعانة بالله :
وسلوا الله النصر على أنفسكم ، كما تسألونه النصر على عدوكم ، وأسأل الله ذلك لنا ولكم " ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية " .
ــــــــــ
الصراع بين المسلمين واليهود وحتمية النصر عليهم
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (3 / 5098)
رقم الفتوى 18590 الصراع بين المسلمين واليهود وحتمية النصر عليهم
تاريخ الفتوى : 20 ربيع الثاني 1423
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم أما بعد:
- أنا عندي مشكله وهي أني أقوم العادة السرية يومين فقط مع أني أحاول كثيراً أن أتخلى عن هذه العادة ولكن لا استطيع فماذا أفعل؟
- أود محاضرة عن نهاية إسرائيل على أن تكون بأحاديث عن الرسوال الله صلى الله عليه وسلم.
وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الجواب عن حكم الاستمناء (العادة السرية) في فتوى سابقة برقم: 1087 ، وفتوى رقم: 7170 فليراجعها.
وأما عن نهاية إسرائيل، فإن الصراع بين اليهود والمسلمين لا يزال مستمراً منذ فجر الإسلام، ولا تزال الأيام دول بيننا وبينهم، وإن كان النصر في غالب الزمان لنا، لكن يوم يبتعد المسلمون عن أسباب النصر يكتب الله عز وجل الغلبة لليهود.
ونهاية اليهود قد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود".
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ(1/1165)
الحكمة من استنصار النبي ربه يوم بدر مع تحققه من النصر
رقم الفتوى 23968 تاريخ الفتوى : 12 شعبان 1423
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يدعو قبل غزوة بدر بقوله:"اللهم أنجزني ما وعدتني".
لم أجد كيف أفسر فائدة هذا الدعاء مع أن النبي يعرف أن الله لا يخلف وعده وأنه سينجزه ما وعده، فما هو التفسير لهذا يا شيخنا ؟ جزاكم الله خيراً....
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتضرع إلى ربه تعالى أن ينجز له وعده وينصر حزبه بالشاك في وعد الله، فهو القائل قبل المعركة: لكأني أنظر إلى مصارع القوم، وقام بتحديد مواضع مصارع بعضهم.
لكنه إنما قام بوظيفة العبودية، والتي يمثل الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ذروتها، فالثمن الذي استحق به الرسول صلى الله عليه وسلم النصر والتأييد هو عبودية الله التي اتخذت مظهرها الرائع في قيام النبي صلى الله عليه وسلم طول الليل يجأر إلى ربه داعياً وخاضعاً.
وقد أشار القرآن إلى هذه بقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9].
والقيام بوظيفة العبودية حق القيام هو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حربه وسلمه، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتسأله عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً. رواه البخاري.
فهل يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم هذا القيام لشك في مغفرة الله لذنبه المتقدم منه والمتأخر؟!
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
شروط النصر والتمكين للمسلمين
رقم الفتوى 27216 تاريخ الفتوى : 06 ذو القعدة 1423
السؤال(1/1166)
فضيلة الشيخ أريد منك أن تستخرج لي بعض الأحاديث النبوية الشريفة أو الاّيات القرآنية التي تدل على سبب انتصار المسليمن في غزواتهم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
ففي القرآن الكريم بيان شروط النصر والتمكين للمسلمين، وذلك في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
وقوله تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
فشروط التمكين في الآية الأولى هي:
1- الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه.
2- العمل الصالح.
3- تحقيق العبودية لله تعالى.
4- محاربة الشرك والبراءة منه ومن أهله.
وبينت الآية الثانية لوازم استمرار التمكين فجاء فيها:
1- إقامة الصلاة.
2- إيتاء الزكاة.
3- طاعة الرسول.
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أسباب النصر المادية:
- الإعداد، كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].
ولقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بكل حذافيره في كل مراحل دعوته وفي جميع غزواته، ففي الهجرة -مثلاً- لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً من الأمور إلا أعد له عدته وحسب حسابه، فقد أعد الرواحل والدليل واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه هو وصاحبه، واستخدم الحذر والكتمان.
وكذلك الأمر بالنسبة لغزواته بدر وأحد والأحزاب، وغيرها.
ومن أسباب النصر:(1/1167)
إعداد الأفراد الربانيين الذين يأخذون على عاتقهم إقامة الدين والجهاد، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول من بعثته، فحرص صلى الله عليه وسلم على إعداد أصحابه إعداداً ربانياً في هدوء وتدرج وسرية، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].
وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ [الكهف:28].
ومن أسباب النصر: محاربة أسباب الفرقة والأخذ بأصول الوحدة، وفي هذا يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
ومن أسباب النصر المادية التخطيط.. وهذا واضح جداً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الهجرة، والغزوات وغيرها.
وننصح السائل الرجوع إلى كتاب فقه التمكين للدكتور على الصلابي ففيه الكفاية.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
النصر ليس مرتبطا بظهور المهدي
تاريخ الفتوى : 18 ذو القعدة 1425 رقم الفتوى 57572
السؤال
متى يأتي نصر الله، وهل هذا النصر لن يأتي إلا عند أو أثناء ظهور المهدي؟ وهل المهدي هذا حقيقة فعلا، وإذا كان حقيقة هل اقترب ظهوره أم لم بحن وقته أفيدوني بارك الله فيكم ، أرجو إجابة واضحة وسريعة ؟ إنسان حيران-تائه -مكتئب-مؤمن بعض الشيء والحمد لله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المهدي ثبت أمره بعدة أحاديث، وقد اقترب ظهوره ولكننا لا نعلم متى يكون بالضبط، لأنه من الغيب.
وقد سبق الحديث عنه بالتفصيل في الفتوى رقم: 6573 .
ثم إن نصر الله للأمة المحمدية وتغيير حالها من ذل إلى عز ليس مرتبطا بالمهدي، بل إنه إذا عادت الأمة إلى الله تعالى غير ما بها كما حصل في عهد التتار وعهد احتلال الصليبيين للقدس سابقا.
وقد سبق بيان أسباب النصر في عدة فتاوى، فراجع منها الفتاوى التالية أرقامها: 32949 ، 32754 ، 41227 ، 9225 ، 27638 .(1/1168)
وراجع كتاب صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور سيد حسين عفاني والجزء الأول من السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
التمسك بالقرآن وتحقيق النصر
تاريخ الفتوى : 30 ذو القعدة 1425 رقم الفتوى 57997
السؤال
كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء في أن من يتخذ القرآن منهجاً لابد وأن يقود
العالم.
فلم يقتنع و قال لي أعطني أمثلة على ذلك غير عصر الخلفاء الراشدين؛ لأن تلك
النهضة في عصرهم قد تكون نظراً لشخصياتهم الفريدة و ليس لاتخاذهم القرآن
منهجاً.
فلم أستطع الرد نظراً لضعف المعلومات .
فالرجاء إرشادي إلى الرد المقنع في هذا الموضوع
و جزاكم الله كل خير،
أنس العطار
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعتقاد أن انتصار الإسلام أول مرة على يد جيل الصحابة كان بسبب طبيعة شخصياتهم الفريدة هو محض افتراء مفتقر إلى برهان، وعلى صاحبك أن يدلل على دعواه وليس أنت.
فمن المعروف تاريخيا أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا شيئا يذكر، كانوا بدوا يعيشون في الصحراء يعبدون الأحجار، ولا هم لهم إلا شرب الخمر وقرض الشعر والزنا وإقراض الناس بالربا ونحو ذلك، ولا يستحون من أي معرة!!
وكانوا يستخدمون قوتهم الحربية في الغدر بمن جاورهم من القبائل، وكانوا أذل أمة، فكانوا يرهبون الفرس في اليمن والعراق ويرهبون الروم في الشام، ولم يدر بخلدهم أن قوتهم ستضارع قوة الفرس والروم يوما فضلا عن أن تتفوق عليهم!!
فلما جاء الإسلام انقلبت حالهم من رعاة غنم إلى ساسة أمم، ومن قطاع طرق إلى قادة جيوش الفتح الإسلامي، ومن زناة إلى حماة أعراض، وفي ذلك يقول جعفر بن أبي طالب في حواره مع النجاشي :(1/1169)
كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان.. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
وعلى هذا، فإن نهضة المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين كانت بسبب تمسكهم بهذا الدين واستقامتهم عليه واعتزازهم به، وبإرخاص حياتهم في سبيل إعزازه، وإن ما نحن فيه من ذلة وهوان ليس راجعا إلى الإسلام، وإنما راجع لضعف إيمان المسلمين وقلة يقينهم وعدم تمسكهم بشرائعه.
هذا، ونبشرك بأن وعد الله لا يتخلف بتمكين المسلمين كما مكن الرعيل الأول من الخلفاء الراشدين والصحابة الطاهرين، ولكن باستيفاء شروط حققها المسلمون الأوائل. قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {النور: 55}.
والمسلمون الآن وقع فيهم من صنوف الشرك وعبادة غير الله ما حرموا بسببه نصر الله الذي آتاه للرعيل الأول
وقال الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {الحج: 40-41}.
ففي هذه الآية علق الله النصر على أربعة أمور بعد توحيده وعبادته وحده المذكور في الآية السابقة، وهذه الأمور هي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور غير متحققة في واقعنا، فإذا تحققت انتصرنا ونهضنا كما انتصروا ونهضوا.
ولمزيد من التفصيل في الموضوع نحيل السائل على الكتب التالية: هل نحن مسلمون، و واقعنا المعاصر، وكلاهما للأستاذ محمد قطب. وكتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وهو للشيخ أبي الحسن الندوي.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ(1/1170)
استعجال النصر.. الجائز والممنوع
تاريخ الفتوى : 20 جمادي الأولى 1426 رقم الفتوى 63928
السؤال
سؤالي هو: هل يجوز في الدعاء أن نقول يا رب.. متى نصرك.. يا رب.. متى نصرك، يا رب.. متى نصرك.. وذلك عندما نرى أحوال المسلمين اليوم وما يتعرضون له من قتل وانتهاك لحرماتهم؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا بأس بهذا الكلام إن كان على وجه طلب النصر والتمني له بأن يقول الداعي ذلك طلباً واستعجالاً لنصر الله، لا أن يقول ذلك شكا ولا ارتياباً، قال الألوسي في روح المعاني عند تفسيره قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {البقرة:214}، قال: زلزلوا أي أزعجوا إزعاجاً شديداً بأنواع البلايا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى وما تقتضيه حكمته والمؤمنون المقتدون بآثاره المهتدون بأنواره (متى يأتي) نصر الله طلباً وتمنياً له، واستطالة لمدة الشدة لا شكا وارتياباً. انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة، قال: وكما تكون الشدة ينزل النصر مثلها. انتهى، ولبيان آداب الدعاء يرجى الاطلاع على الفتوى رقم: 23599 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
طريق النصر على الشيطان والهوى
تاريخ الفتوى : 16 ربيع الثاني 1427 رقم الفتوى 74342
السؤال
أنا شاب في التاسعة عشر من عمري ومسلم والحمد لله، ولكني غير ملتزم بجميع أمور الدين، مثل الصلاة حيث إنني أصلي يوما وأقطع عشرة، وكما أنني أعاني من عادة الاستمناء التي رافقتني منذ سبع سنوات، وأنا أنوي الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والتوبة إليه، لكنني لا أستطيع إذ سرعان ما يشدني(1/1171)
الشيطان إليه ويمنعني من العودة، علماً بأنني أحرص على أن أظل ملتزماً بأخلاقي وأدبي مع الناس الذين حولي، وكما أنني من مستمعي الأغاني، ولكن ليس جميعها بل البعض منها التي لا أجد فيها الكلام الفاحش أو الموسيقى المؤذية للمشاعر، الرجاء المساعدة بأقرب وقت ممكن لأنني تائه ومحتار في أمري ولا أعرف ما أريده من هذه الحياة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعاً، وأن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى ويحفظنا وإياك مما يسخطه سبحانه وتعالى، واعلم أن الصلاة أمرها عظيم عند الله تعالى، ومكانتها كبيرة في الدين لا يخفي ذلك على أي مسلم: قال تعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ {البقرة:238}، وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا {النساء:103}، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {مريم:59}، وقال صلى الله عليه وسلم: ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة. كما في السنن وصحيح ابن حبان .
وقال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر. رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه .
وفي سنن ابن ماجه وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولا تترك صلاة مكتوبة، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وقال عبد الله بن شقيق : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: من لم يصل فهو كافر. رواه ابن عبد البر في التمهيد، ولا يخفى أن هذه العقوبة لمن ترك الصلاة بالكلية، أما من يصليها لكنه يتكاسل في أدائها، ويؤخرها عن وقتها، فقد توعده الله بالويل، فقال: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ {الماعون:4-5}، ونقول للسائل: لم لا تصلي؟ ألا تخاف من الله؟ ألا تخشى الموت؟
أما تعلم أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. رواه الترمذي وحسنه، و أبو داود و النسائي .
وماذا يكون جوابك لربك حين يسألك عن الصلاة؟
ألا تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة بالغرة والتحجيل من أثر الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمتي يدعون القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء. رواه البخاري و مسلم. و(الغرة) بياض الوجه، و(التحجيل) بياض في اليدين والرجلين.(1/1172)
كيف بالمرء حينما يأتي يوم القيامة، وليس عنده هذه العلامة، وهي من خصائص الأمة المحمدية، بل لقد وصف الله أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ {الفتح:29}، وقد تكلم العلماء باستفاضة عن عقوبة تارك الصلاة، كما في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي .
فعليك أخي الكريم -أن تتدبر الآيات وتتفحص تلك الأحاديث وأنت موقن مصدق، وداوم على التضرع إلى الله تعالى أن يلهمك رشدك، ويعينك على نفسك, ويوفقك للقيام بما افترضه عليك، والابتعاد عما يسخطه.
وأما الأغاني فإن كانت مصحوبة بالموسيقى والمعازف فهي محرمة، وقد سبق أن بينا أدلة ذلك ونقلنا كلام العلماء فيه في الفتاوى التالية أرقامها: 66001 ، 54316 ، 35708 ، 26409 .
وراجع في العادة السرية الفتوى رقم: 7170 ، والفتوى رقم: 52421 ، والفتوى رقم: 23868 مع إحالاتها، وراجع في الانتصار على الشيطان والهوى الفتاوى التالية أرقامها: 33860 ، 57544 ، 62833 ، 66041 ، 68468 .
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
ــــــــــ
علامات النصر والتمكين
المجيب أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -سابقاً-
التصنيف الفهرسة/ الاستشارات/ استشارات دعوية وإيمانية/اخرى
التاريخ 16/04/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
أرجو منكم أن تعطوني خمس أو ست من علامات النصر والتمكين، مع التوضيح لكل علامة منها بدليل من القرآن الكريم أو السنة. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اقرئي وتدبري هاتين الآيتين من سورة الحج، وستجدين فيهما خمس فوائد من علامات النصر للمؤمنين: "الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن(1/1173)
الله لقوي عزيز* الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" [الحج: 40-41].
فالعلامة الأولى لنصر المظلوم: تعدي الظالم وتكبره وغطرسته على المؤمنين المستضعفين.
والثانية: إقامة الصلاة والمداومة عليها.
الثالثة: إخراج الزكاة من الأموال المفروضة إلى مستحقيها.
والرابعة: الأمر بالمعروف، ويعني القيام بالدعوة إلى الله، وتبليغها للناس كافة.
الخامسة: النهي عن المنكر، ويعني الاحتساب على العصاة من المسلمين فيما بينهم، وإذا تدبرت ما قبل هاتين الآيتين وما بعدهما من الآيات ظهرت لك معانٍ كثيرة، أرجو الله أن ينفعك بها .والله الموفق.
ــــــــــ
التمسك بالإسلام حقا هو سبب النصر والنجاة في الآخرة
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده , وعلى آله وصحبه .
أما بعد : فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له , وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه , كما قال سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (1) وقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (2) وقال عز وجل : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (3) { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } (4) وقال تعالى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (5) الآية , وقال سبحانه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (6) فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له , وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما , كما تدل على أنه عز وجل إنما
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة هود الآية 1
(4) سورة هود الآية 2
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25
أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها , والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه , عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله , وإخلاص له في العمل , وتصديق بكل(1/1174)
ما أخبر به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله , فإن معناها : لا معبود حق إلا الله , فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يجب أن تكون لله وحده , وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات , ولقوله عز وجل : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } (1) الآية , وقوله عز وجل : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } (2) وقوله سبحانه : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } (3) { إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } (4) وقال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } (5) { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } (6) وقال عز وجل : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } (7) فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه , وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة الأحقاف الآية 5
(6) سورة الأحقاف الآية 6
(7) سورة المؤمنون الآية 117
وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم , ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له , وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل , ونفي الفلاح عن أهله , كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعا غيره , وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة , وأنه غافل عن دعائه إياه , وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه , ويتبرأ منها , ويعاديه عليها , فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه , وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم .
وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة , وأن العبادة بحق لله وحده , ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } (1) الآية من سورة الحج .(1/1175)
وذكر سبحانه في مواضع أخرى من كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة , وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم , كما قال عز وجل : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (2) وقال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (3) { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (4)
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الطلاق الآية 12
(3) سورة الجاثية الآية 21
(4) سورة الجاثية الآية 22
فالواجب على كل ذي لب أن ينظر فيما خلق له , وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده , وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة , وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها , لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام , وخلاصة دعوتهم , ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام , وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , ومقتضى هذا الإيمان , تصديقه صلى الله عليه وسلم في إخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه , وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام . وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا , لا يصح إسلامها ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله , وإخلاص العبادة له عز وجل , ومتابعة رسولها صلى الله عليه وسلم , وعدم الخروج عن شريعته , وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده , وأخبر أنه هو دينه , كما في قوله عز وجل : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) وقوله عز وجل : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (2) وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران :
أحدهما : أن لا يعبد إلا الله وحده , وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله .
الثاني : أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فالأول يبطل جميع
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 19(1/1176)
الآلهة المعبودة من دون الله , ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده , والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان , كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء , ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا , كما قال الله عز وجل : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } (1) { إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } (2) وقال سبحانه : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (3) وقال تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (4) وقال عز وجل { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (5) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (6) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (7)
وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله , وترشد الأمة حكومة وشعبها إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به , والحذر مما يخالفه , كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها , وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه , ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله ,
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الجاثية الآية 19
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 50
(5) سورة المائدة الآية 44
(6) سورة المائدة الآية 45
(7) سورة المائدة الآية 47
وينفذوا حكمه في عباده , ويخلصوا له القول والعمل , ويقفوا عند حدوده التي حدها لعباده , وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعز في الدنيا والآخرة , كما يفوزون بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب , والعز الغابر , كما قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (1) وقال عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } (2) وقال سبحانه : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (3) { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } (4) ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين وأخبر أن الكفار(1/1177)
لا يألون المسلمين خبالا , وأنهم يودون عنتهم , قال بعد ذلك : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (5)
وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون , وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق , وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ , وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه .
وإني لأنصح إخواني أهل العلم والقائمين بالدعوة إلى الله سبحانه بأن يعنوا بهذا الأصل العظيم ويكتبوا فيه ما أمكنهم من المقالات والرسائل حتى ينتشر ذلك بين الأنام ويعلمه الخاص والعام , لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه , ولما
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الأنفال الآية 29
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة آل عمران الآية 120
وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور , ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك .
ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية , والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها .
فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا , وأن يصلح قادتهم وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما يخالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه , وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين .
ــــــــــ
مؤتمر القمة الإسلامي وعوامل النصر (1)
مجموع فتاوى ابن باز - (3 / 341)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
أما بعد:(1/1178)
فإن من تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين؛ يجد فيه بيانا شافيا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته، ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها إلى عاملين أساسيين.
وهما الإيمان الصادق بالله ورسوله, والجهاد الصادق في سبيله, ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل والقيام بأوامره وترك نواهيه, كما يتضمن وجوب تحكيم الشريعة في كل أمور المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , كما يتضمن أيضا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة؛ ولجهاد من خرج عن الحق حتى يرجع إليه.
أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق فهو أيضا من موجبات الإيمان، ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضع كثيرة من كتابه، كذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه
__________
(1) مجلة التوحيد المصرية من صـ 11 - 15 .
ومسيس الحاجة إليه; لأن أكثر الخلق لا يردعه عن باطله مجرد الوعد والوعيد، بل لا بد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل, ومتى توافر هذان العاملان الأساسيان وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة؛ كان النصر حليفها وكتب الله لها التمكين في الأرض، والاستخلاف فيها وعد الله الذي لا يخلف، وسنته التي لا تبدل ، وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام، وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي يعرف صحة ما ذكرناه وأنه أمر واقع لا يمكن تجاهله وليس له سبب سوى ما ذكرنا آنفا من صدق الرعيل الأول في إيمانهم بالله ورسوله والجهاد في سبيله قولا وعملا وعقيدة.
وإليك أيها الأخ الكريم بعض الآيات الدالة على ما ذكرنا لتكون على بينة وبصيرة ولتقوم بما تستطيعه من الدعوة إلى سبيل ربك وتنبيه إخوانك المسلمين على أسباب النصر وعوامل الخذلان « ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم » (1) كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (2) وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه والجهاد لمن خالفه ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (3) { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } (4) وقال تعالى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } (5)(1/1179)
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3498),صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406),سنن أبو داود العلم (3661),مسند أحمد بن حنبل (5/333).
(2) سورة محمد الآية 7
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الروم الآية 47
ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله المصدق بأخباره المنتهي عن نواهيه المحكم لشريعته وقال عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } (1)
وقال عز وجل في بيان صفات المؤمنين والمتقين { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } (2)
تأمل يا أخي هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ثم حاسب نفسك بتطبيقها حتى تكون من المؤمنين الصادقين والمتقين الفائزين , ولا ريب أن الواجب على كل من ينتسب إلى الإسلام من ملك أو زعيم أو أمير أو غيرهم أن يحاسب نفسه وأن يجاهدها على التخلق بهذه الأخلاق الكريمة, والعمل بهذه الأعمال الصالحة, وأن يلزم من تحته من الشعوب بهذه الأخلاق والأعمال التي أوجبها الله على المسلمين, وأن يصدق في ذلك ويستعين بالله عليه وأن يولي الأخيار الذين يعينونه على تنفيذ أمر الله ورسوله حسب الإمكان وأن يبعد ضدهم حسب الإمكان وأن يتعاون مع غيره من الملوك والزعماء والأعيان في هذا الأمر الجليل الذي به عزتهم ونصرهم وتمكينهم في الأرض كما قال عز وجل: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (3)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة النور الآية 55(1/1180)
وقال سبحانه في سورة الأنفال آمرا لعباده بإعداد القوة: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } (1) وأمرهم بالحذر من الأعداء ومكايدهم فقال تعالى في سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } (2) وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } (3)
فانظر يا أخي هذا التعليم العظيم والتوجيه البليغ من فاطر الأرض والسماوات وعالم السرائر والخفيات الذي بيده تصريف قلوب الجميع وبيده أزمه الأمور وتصريفها يتضح لك من ذلك عناية الإسلام بالأسباب وحثه عليها، وتحذيره من إهمالها والغفلة عنها؛ ويتبين لك من ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة النساء الآية 102
يعرض عن الأسباب أو يتهاون بشأنها كما أنه لا يجوز له الاعتماد عليها بل يجب أن يكون اعتماده على الله وحده مؤمنا بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر وهذا هو حقيقة التوكل الشرعي وهو الأخذ بالأسباب والعناية بها مع الاعتماد على الله والتوكل عليه وقد نبه الله سبحانه على هذا المعنى في عدة آيات, منها قوله سبحانه { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } (1) { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (2) فذكر التقوى أولا وهي أعظم الأسباب لأن حقيقتها طاعة الله ورسوله في كل شيء ومن ذلك الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية والسياسية والعسكرية ثم ذكر التوكل فقال سبحانه: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (3) - أي كافيه - وقال عز وجل: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } (4) { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (5)
أما الجهاد الصادق فذكره الله سبحانه في عدة آيات ، وذكر ما يترتب عليه من النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة وبين صفات المجاهدين الصادقين ليتميزوا من غيرهم فقال تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (6) وقال(1/1181)
تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (7) { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (8) { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (9)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 9
(5) سورة الأنفال الآية 10
(6) سورة التوبة الآية 41
(7) سورة الأنفال الآية 45
(8) سورة الأنفال الآية 46
(9) سورة الأنفال الآية 47
فتأمل أيها المؤمن هذه الصفات العظيمة للمجاهد الصادق حتى يتضح لك حال المسلمين اليوم وحال المجاهدين السابقين وحتى تعرف سر نجاح أولئك وخذلان من بعدهم, وأنه لا سبيل إلى إدراك النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا بالتخلق بالأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها, وعلق بها النصر وقد أوضحها الله سبحانه في كتابه المبين في هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } (1) { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (2) { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (3) { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (4)
وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات أسباب النصر وردها سبحانه إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والفوز بالجنة في الآخرة والنصر في الدنيا والفتح القريب, وأخبر سبحانه أن المسلمين يحبون النصر والفتح؛ ولهذا قال: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } (5)
فإذا كان ملوكنا وزعماؤنا في مؤتمرهم هذا يرغبون رغبة صادقة في النصر والفتح القريب والسعادة في الدنيا والآخرة، وقد أوضح الله لهم السبيل وأبان لهم العوامل والأسباب المفضية إلى ذلك ؛ فما عليهم إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة مما سلف من تقصيرهم، وعدم قيامهم بما يجب عليهم من حق الله وحق(1/1182)
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة الصف الآية 13
عباده، وأن يتعاهدوا صادقين على الإيمان بالله ورسوله وتحكيم شريعته والاعتصام بحبله وجهادهم الأعداء صفا واحدا بكل ما أعطاهم الله من قوة وأن ينبذوا المبادئ المخالفة لشريعة الله وحقيقة دينه، وأن يعتمدوا عليه سبحانه لا على غيره من المعسكر الشرقي أو الغربي، وأن يأخذوا بالأسباب ويعدوا ما استطاعوا من القوة بكل وسيلة أباحها الشرع وأن يكونوا مستقلين ومنحازين عن سائر الكتل الكافرة من شرقية وغربية متميزين بإيمانهم بالله ورسوله واعتصامهم بدينه وتمسكهم بشريعته، وأما السلاح وأصناف العدة فلا بأس بتأمينها من كل طريق وبكل وسيلة لا تخالف الشرع المطهر .
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا المؤتمر مباركا وأن ينفع به عباده وأن يجمع به شمل المسلمين ويصلح به قادتهم ويوفق المجتمعين فيه لما فيه رضاه وعز دينه وذل أعدائه ورد الحق المسلوب إلى مستحقه ونبذ ما خالف الإسلام من مبادئ وأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان .
ــــــــــ
المجلس العشرون : في أسباب النصر الحقيقية
الحمد لله العظيم في قَدْره ، العزيز في قهره ، العالم بحال العبد في سره وجهره ، الجائد على المجاهد بنصره ، وعلى المتواضع من أجله برفعه ، يسمع صريف القلم عند خط سطره ، ويرى النمل يدب في فيافي قفره ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ، أحمده على القضاء حلوه ومره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقامةً لذكره ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالبر إلى الخلق في بره وبحره ، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر السابق بما وقر من الإيمان في صدره ، وعلى عمر معز الإسلام بحزمه وقهره ، وعلى عثمان ذي النورين الصابر من أمره على مره ، وعلى علي ابن عمه وصهره ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما جاد السحاب بقطره ، وسلم تسليما .
إخواني : لقد نصر الله المؤمنين في مواطن كثيرة في بدر والأحزاب والفتح وحنين وغيرها ، نصرهم الله وفاء بوعده : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الروم : 47 ] ، { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 - 52 ] ، نصرهم الله لأنهم قائمون بدينه وهو الظاهر على الأديان كلها ،(1/1183)
فمن تمسك به فهو ظاهر على الأمم كلها { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [ الصف : 9 ] , نصرَهم الله تعالى لأنهم قاموا بأسباب النصر الحقيقية المادية منها والمعنوية ، فكان عندهم من العزم ما برزوا به على أعدائهم أخذا بتوجيه الله تعالى لهم وتمشيا مع هديه وتثبيته إياهم { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 139 - 140 ] ، { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ النساء : 104 ] ، { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 35 ] .
فكانوا بهذه التقوية والتثبيت يسيرون بقوة وعزم وجد وأخذوا بكل نصيب من القوة امتثالا لقول ربهم سبحانه وتعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [ الأنفال : 60 ] ، من القوة النفسية الباطنة والقوة العسكرية الظاهرة نصرهم الله تعالى لأنهم قاموا بنصر دينه { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 40 - 41 ] ، ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات لفظية ومعنوية ، أما المؤكدات اللفظية فهي القسم المقدَّر ، لأن التقدير : والله لينصرن الله من ينصره ، وكذلك اللام والنون في لينصرن كلاهما يفيد التوكيد ، وأما التوكيد المعنوي ففي قوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] ، فهو سبحانه قوي لا يضعف وعزيز لا يذل وكل قوة وعزة تُضَادُّه فستكون ذلا وضعفا , وفي قوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 41 ] , تثبيت للمؤمن
عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده ، فإن عواقب الأمور لله وحده يُغَيِّر سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته .
وفي هاتين الآيتين بيان الأوصاف التي يُسْتَحَقُّ بها النصر , وهي أوصاف يتحلى بها المؤمن بعد التمكين في الأرض ، فلا يُغريه هذا التمكين بالأشَر والبطر والعلو والفساد ، وإنما يزيده قوة في دين الله وتمسكا به .
* الوصف الأول : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الحج : 41 ] ، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } [النور : 55 ] ، فإذا قام العبد بعبادة الله مخلصا له في أقواله وأفعاله لا يريد بها إلا وجه الله والدار الآخرة , ولا يريد بها جاها(1/1184)
ولا ثناء من الناس ولا مالا ولا شيئا من الدنيا ، واستمر على هذه العبادة المخلصة في السراء والضراء والشدة والرخاء مكَّنَ الله له في الأرض , وإذن فالتمكين في الأرض يستلزم وصفا سابقا عليه وهو عبادة الله وحده لا شريك له وبعد التمكين والإخلاص يكون .
* الوصف الثاني : وهو إقامة الصلاة بأن يؤدي الصلاة على الوجه المطلوب منه قائما بشروطها وأركانها وواجباتها , وتمام ذلك القيام بمستحَبَّاتها , فيحسن الطهور , ويقيم الركوع والسجود والقيام والقعود , ويحافظ على الوقت وعلى الجمعة والجماعات , ويحافظ على الخشوع وهو حضور القلب وسكون الجوارح , فإن الخشوع روح الصلاة ولبها , والصلاة بدون خشوع كالجسم بدون روح ، وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الرجل لينصرف وما كُتِبَ له إلا عُشْر صلاته تُسعها ثُمنها سُبعها سُدسها خُمسها رُبعها ثُلثها نِصفها » (1) .
الوصف الثالث : إيتاء الزكاة وآتوا الزكاة بأن يعطوها إلى مستحِقِّيها طَيِّبَة بها نفوسهم كاملة بدون نقص يبتغون بذلك فضلا ورضوانا ، فيزكون بذلك أنفسهم ، ويطهرون أموالهم ، وينفعون إخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم من ذوي الحاجات , وقد سبق بيان مستحِقِّي الزكاة الواجبة في المجلس السابع عشر .
_________
(1) رواه أبو داود والنسائي ، وقال العراقي : إسناده صحيح .
الوصف الرابع : الأمر بالمعروف وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ والمعروف : كل ما أمر الله به ورسوله من واجبات ومستحبات , يأمرون بذلك إحياء لشريعة الله وإصلاحا لعباده واستجلابا لرحمته ورضوانه , فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا , فكما أن المؤمن يحب لنفسه أن يكون قائما بطاعة ربه فكذلك يجب أن يحب لإخوانه من القيام بطاعة الله ما يحب لنفسه .
والأمر بالمعروف عن إيمان وتصديق أن يكون قائما بما أمر به عن إيمان واقتناع بفائدته وثمراته العاجلة والآجلة .
* الوصف الخامس : النهي عن المنكر { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } , والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله من كبائر الذنوب وصغائرها مما يتعلق بالعبادة أو الأخلاق أو المعاملة ، ينهون عن ذلك كله صيانة لدين الله وحماية لعباده واتقاء لأسباب الفساد والعقوبة .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها حتى لا تتفرق بها الأهواء وتتشتت بها المسالك , ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع القدرة { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ(1/1185)
وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 104 - 105 ] ، فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفَرَّق الناس شِيَعًا ، وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون ، وبه فُضِّلت هذه الأمة على غيرها { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 110 ] ، وبتركه { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }{ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [ المائدة : 78 - 79 ] ، فهذه الأوصاف الخمسة متى تحققت مع القيام بما أرشد الله إليه من الحزم والعزيمة وإعداد القوة الحسية حصل النصر بإذن لله { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 6 - 7 ] , فيحصل للأمة من نصر الله ما لم يخطر لهم على بال , وإن المؤمن الواثق بوعد الله ليعلم أن الأسباب المادية مهما قويت فليست بشيء بالنسبة إلى قوة الله الذي خلقها وأوجدها ، افتخرت عاد بقوتها وقالوا : من أشد منا قوة ؟ فقال الله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } [ فصلت : 15 - 16 ] ، وافتخر فرعون بِمُلْك مصر وأنهاره التي تجري من تحته فأغرقه الله بالماء الذي كان يفتخر بمثله ، وأورث ملكه موسى وقومه وهو الذي في نظر فرعون مهين ولا يكاد يُبِين .
وافتخرت قريش بعظمتها وجبروتها فخرجوا من ديارهم برؤسائهم وزعمائهم بطرا ورئاء الناس يقولون : لا نرجع حتى نقدم بدرا فننحر فيها الجزور ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فهُزِموا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شر هزيمة وسحبت جثثهم جِيَفًا في قليب بدر ، وصاروا حديث الناس في هذا العصر .
لو أخذنا بأسباب النصر وقمنا بواجب ديننا وكنا قدوة لا مقتدين ومتبوعين لا أتباعا لغيرنا ، وأخذنا بوسائل الحرب العصرية بصدق وإخلاص لنصرنا الله على أعدائنا كما نصر أسلافنا , صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [ الأحزاب : 62 ] .
اللهم هيئ لنا من أسباب النصر ما به نصرنا وعزتنا وكرامتنا ورفعة الإسلام وذل الكفر والعصيان ، إنك جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــ
أسباب النصر
أحمد بن صالح السديس(1/1186)
17/4/1424
بسم الله الرحمن الرحيم
حينَ بَعَثَ اللهُ رسولَه لم يجعلْ ذلك سبباً لتغيير سننِه في خلقِه، بل جعلَ الرسولَ والرِّسالةَ والأتباعَ يعانون ويبذِلُون في سبيلِ تحقيقِ ما إليه يسعَون ويصبُون. فعاشَ المسلمون سنواتٍ في مكَّةَ، قبلَ أنْ يؤذَنَ لهم بالهجرةِ إلى بلادٍ يأمَنُون فيها. عاشوا في مَكَّةَ، وهم قِلَّةٌ مُسْتَضْعَفَةٌ، والمشركون يسومون المستضعفين منهم سوءَ العذابِ، حتى جَرُّوهم على الرَّمْضَاءِ، ووضَعوا على صدورِهم العاريةِ الصخورَ الثقيلةَ الصمَّاءَ، وألهبوا جلودَهم بالنارِ والسِّيَاطِ. وزادَ البلاءُ حتى وَصَلَ إلى غيرِهم مِن أهلِ مكَّةَ، الذين ضُربوا، ولم يَرْقُبِ المشركون فيهم إلاً ولا ذِمَّةً، ولا رَحِمَاً أو رَحْمَةً.
وأُذِنَ للرسولِ الكريمِ بالهجرةِ إلى المدينةِ، بعدَ عشرِ سنواتٍ من الدعوةِ في مكةَ، فلمْ ينطلقْ في طريقِ الهجرةِ التي أمِرَ بها إلا بعدَ أنِ اسْتَعَدَّ للأمرِ، وتَزوَّدَ له؛ فاتَّخَذَ من الصدِّيق أبي بكرٍ رفيقاً، ومِن ابنِ عَمِّه الشُّجاعِ عليٍّ مُضَحِّياً ونصيراً، ومِن عبدالله بن أبي بكرٍ عَيناً ومُعيناً، ومِن رجُلٍ من بني عَدِيٍّ هادياً ودليلاً، واشترى الدَّابةَ اللازمةَ للرحلةِ، وخَرجَ من مكَّةَ مُسْتَتِراً، ومَكَثَ في الغارِ أياماً مُختَفِياً، واتخذَ الليلَ والظلامَ مَطيّةً وجَمَلاً. وانطلقَ مع صاحبِه، والمشركون يتبعون أثرَه، وقد امتلأتِ القِفَارُ بالباحثين عنه، في ظلِّ سيوفٍ مُشْرَعَةٍ، وأعْينٍ مُتيقِّظَةٍ، وأنْفُسٍ ثائرةٍ ملتهبةٍ. ومَكَثَ أياماً يواجهُ فيها المخَاطِرَ، ويقابلُ المصاعِبَ، حتى وَصَلَ إلى طيبةَ بغيتِه، فطافتْ به جُمُوعُ المستقبلين فَرِحَةً مُسْتَبشِرَةً، وتَسَابَقَ الناسُ إلى إكرامِه وحُسْنِ وِفَادتِه، ورَجَا كلٌّ منهم أنْ يكونَ الرسولُ ضيفاً له في بيته. لقد خرجَ الرسولُ من قومِه الأقاربِ وهم يكيدون له، ويرجون قتلَه، ووصلَ إلى قومٍ أباعِدَ وهم يُرحِّبون به، ويرجون بِرَّه، فما أحلى عاقبةَ الصبرِ والبذلِ وألذَّها!!
لقد كان الذي أسرى به ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى قادراً على أنْ يسْرِيَ به من مكةَ إلى المدينةِ في لَمْحِ البصرِ، ولكنّ المرادَ أنْ تتعلَّمَ الأمَّةُ أنّ عليها أنْ تبذِلَ في سبيلِ تحقيقِ غاياتِها ورغباتِها، وأنّ قَدْرَها على قَدْرِ هِمَّتِها، وأنّ الكُسَالى ليس لهم من النجاحِ نصيبٌ، وأنّ الأماني من غير سَعْيٍ وكدْحٍ رؤوسُ أموالِ المفاليسِ، وأنّها لا تُنالُ إلا على جسورٍ من التعَبِ، وأنّ النصرَ لا يكونُ بغير البذلِ والنَّصَبِ.
تَرْجُو النَّجَاةَ ولم تَسْلُكْ مَسَالِكَها إنَّ السفينَةَ لا تمشي على اليَبَسِ
هذا الدِّينُ يربِّي أبناءه على عزائمِ الأمورِ ومَعاليها؛ وعلى الترَفُّعِ عن صغائرِها وأدانيها. ومما يُربّى المسلمون عليه: الجِدُّ والاجتهادُ والنشاطُ، وقد قال اللهُ: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) (مريم: من الآية12)، فمَن جَدَّ وَجَدَ، ومَن زَرَعَ حَصَدَ، ومَن جالَ نالَ، ومَن سعى رَعَى، ومَن لم يركبِ الأهوالَ لم ينلِ الآمالَ. ومما يدعو إليه هذا الدِّينُ أنْ يتركَ المرءُ التوانيَ والتواكلَ، وأنْ يأخذَ بالأسبابِ والوسائلِ، ولا تزالُ مقولةُ "اعقلْها وتَوكَّلْ"(1) منارةً للعاملين الطامحين.(1/1187)
والأرضُ وإنْ كانت للهِ يورِثُها مَن يشاءُ مِن عبادِه، إلا أنه جَعَلَ العاقبةَ للمتقين. والنصرُ وإنْ كانَ بيدِه سبحانه، إلا أنه لا يهَبُهُ إلا للجادِّين الباذلين، الذين يسعَون لتحقيق أسبابِه. وحينَ يكونُ النصرُ من اللهِ سبحانه يكونُ نصراً ليس كمثلِه نصرٌ: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:160).
وفي زَحْمَةِ الآلامِ، وتطلُّعاتِ الآمَالِ، ينبغي أنْ ننسى ذلك السؤالَ: "متى نصرُ اللهِ؟"؛ بعدَ أنْ تيقنّا وقوعَه، وأنْ يبرزَ ما هو أهمُّ منه مِن السؤالِ: "كيف يتحقَّقُ نصرُ الله؟"؛ حتى نسعى لتحقيقِ أسبابِه، ونتَّصفَ بصفاتِ أهلِه، وتستبينَ سبيلُ المنتصرين.
إنّ مِن أهمِّ أسبابِ النصرِ: جمْعَ الكلمةِ، وتركَ التحزُّبِ والتفرُّقِ والاختلافِ، ففي التفرُّقِ والاختلافِ الضعفُ والفشلُ والهوانُ: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: من الآية46)، و((إنما يأكلُ الذئبُ القاصيةَ))(2). وإذا أرادَ العدوُّ بأمّةٍ سوءاً سَعَى إلى بَثِّ روحِ التنازُعِ والشِّقَاقِ، والفُرقَةِ والخِصَامِ.
والأمَّةُ حينَ تواجِهُ عدوَّها تحتاجُ إلى نَبْذِ خِلافَاتِها، وتوحيدِ راياتِها، والنظرِ بعينِ واحدةٍ إلى عدوِّها المتربِّصِ بها، المترقِّبِ لزلاتِها، وكما قيل: "إذا اتّحد الأشرارُ فعلى الأخيارِ أنْ يتّحدوا، وإلا سقطوا ضحيةً لهم".
عليها أنْ تَعِيَ أنّ الاجتماعَ أقوى أشكالِ الدِّفاعِ، وأنَّّ العدوَّ تنقطعُ منه في المجتمعين الأطماعُ، وأنَّ خمسةً مجتمعين أقوى من عشرةٍ متفرِّقين، وأنّ القومَ لن يعجزوا إذا تعاونوا، وأنّ ((يدَ اللهِ معَ الجماعةِ))(3)، وأنّ (اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)(الصف: الآية4).
ألم تَرَ أنَّ جَمْعَ القَومِ يُخْشَى وَأنَّ حَرِيمَ وَاحِدِهِمْ مُبَاحُ
وأنَّ القِدْحَ حينَ يكُونُ فَرْدَاً فيُهصَرُ لا يَكُونُ لَهُ اقْتِدَاحُ
وأنّكَ إنْ قَبَضْتَ بها جمِيعَاً أبَتْ مَا سُمْتَ وَاحِدَهَا القِدَاحُ
ولكنّ هذا الجمعَ للكلمةِ يجبُ ألا يكونَ على حسابِ المنهجِ والعقيدةِ؛ فإنّ اجتماعاً لا يقيمُ للمنهجِ والعقيدةِ قَدْراً ولا وَزناً اجتماعٌ مُهَدَّدٌ في كلِّ حينٍ بالسقوطِ والزوالِ، بل ربّما كان عدوُّ اليومِ أحدَ المجتمعين بالأمس!! فلا نأمَنُ عدوّاً، ولا نُصَدِّقُ صديقاً.
علينا أنْ ننقِّيَ الصفَّ المسلمَ المتحدَ من المنافقين؛ فهم أخطرُ مِن أعداءَ خارجيّين ظاهرين، وعلينا أنْ ننقيَه من الباطنيّين الخبثاءِ؛ فهم الذين كثيراً ما يتحالفون في الأزماتِ مع الأعداءِ، وعلينا أنْ ننقيَه من المشركين والكفَّارِ؛ فهم رؤوس الشرِّ والأشرارِ.(1/1188)
وقد أمرنا اللهُ أنْ يكونَ اعتصامُنا واجتماعُنا على دينِه وعهدِه، فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية103)، وأنْ يكونَ ولاؤنا وبراؤنا فيه، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة:57).
وقد عَرَفَ التاريخُ دولةً إسلاميةً قويةً في الأندلسِ، واجهتْ خلالَ عقودٍ طويلةٍ الصليبيين، وكانتِ المنتصرةَ عليهم في جُلِّ هذه المواضِعِ. ولكنَّها حين دَبَّ فيها الخلافُ، وانقسمتْ إلى طوائفَ ودُويلاتٍ، هان على العدوِّ أمرُها، فتمكَّنَ منها، ومَزَّقَ كِيَانَها، فصارتْ أثَرَاً بعدَ عينٍ. استشرتْ بينهمُ الخلافاتُ، حتى استعانَ بعضُهم على بعضٍ بالأعداءِ، وكان أوَّلُ مالٍ انتقلَ من بيتِ مالِ المسلمين في الأندلس إلى الفِرَنْجِ مالاً ساقه إليهم المهديُّ محمَّدُ بنُ هِشَامٍ، وهو أحَدُ الخلفاءِ؛ ليقفوا معه ضِدَّ أحدِ أبناءِ عمِّه الثائرين عليه؛ فكانت النتيجةُ بعدَ سِجَالٍ أنْ قُتِلَ المهديُّ، ولم تُغْنِ عنه الفِرَنْجَةُ شيئاً، فلا هو بدينِهِ، ولا هو بمُلكِهِ، ولا هو بحياتِهِ، فصارَ كالمُنْبَتِّ؛ لا ظَهْرَاً أبقى، ولا أرْضَاً قَطَعَ!!(4).
وإنّ لجمْعِ الكلمةِ وتوحيدِ الصفِّ وسائلَ تُعينُ عليه، ومِن أهمِّها:
تقريبُ العلماءِ الربانيين، وتشجيعُهم، وقَبولُ نُصْحِهم وتوجيهِهم، والصدورُ عن آرائهم؛ ذلك أنّ الأمَّةَ وثيقةُ الارتباطِ بعلمائها الصالحين، ودعاتِها المخلصين، وحينَ ترى لهم مكانةً وقَدْراً، فإنها تُبادِلُ مُكرِمَهم كَرامةً وفَضْلاً.
ولقد أدركَ بعضُ الأمراءِ والقادةِ مكانةَ العلماءِ والصالحين ودورَهم في النصرِ والتمكينِ، فهذا قتيبةُ بنُ مسلمٍ لما هاله أمرُ العدوِّ سألَ عن محمَّدِ بنِ واسعٍ، فقيل: هو ذاك في الميمنةِ، جامِحٌ على قَوسِه، يُبَصْبِصُ بأُصبَعِه(5) نحو السماءِ. فقالَ قتيبةُ: ((تلك الإصبَعُ أحَبُّ إليّ من مئةِ ألفِ سيفٍ شهيرٍ، وشابٍّ طريرٍ))(6). وقالَ مسلمةُ بنُ عبدِالملكِ أميرُ السَّرايا: ((برجاءَ بنِ حَيْوَةَ وبأمثالِه نُنصَرُ))(7). وقال صلاحُ الدِّين: ((ما فتحتُ البلادَ بالعساكرِ، بل أخذتُها برسائلِ القاضي الفاضلِ)).
ومِن وسائلِ جمعِ الكلمةِ: الشورى، وتركُ الاستبدادِ بالرأيِ؛ فمَن أعْجِبَ برأيِه ضَلَّ، ومَنِ استغنى بعلمِه زَلَّ، ومَن عُهِدَ منه طَلَبُ المشورةِ، كان أمرُه للناسِ أوثقَ قَبُولاً. وقبلَ غزوةِ بدرٍ كانَ الرسولُ عليه الصلاةُ والسلام يحثُّ الناسَ على الشورى، ويقبلُها منهم. وكان أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه يقولُ: ((ما رأيتُ أحداً قطُّ أكثرَ مشورةً لأصحابِه من رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم))( 8).
ومما يعينُ على جَمْعِ الكلمةِ: إشاعةُ العدلِ ومحاربةُ الظلمِ؛ فإنّ القلوبَ تأتلِفُ ـ دونَ إكراهٍ ـ حولَ مَن عُرِفَ عدلُه، وتنفِرُ ـ مَهما بُذِلَ ـ ممّنْ عُرِفَ ظلمُه، وظُلمُ المرءِ يصرعُه ولو بعدَ حينٍ.
والمظلومُ لا ينسى ظالِمَه، فنفسُه عليه تضطربُ، وقلبُه منه مشحونٌ، ويتربَّصُ به الدوائرَ. ومن أجلِ ذلك حَذَّرَ عليه الصلاة والسلام من دعوةِ المظلومِ، فقالَ: ((اتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس بينها وبين(1/1189)
الله حِجابٌ))(9). وفي المسندِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ)). وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ: ((إنّ اللهَ ينصرُ الدولةَ العادلةَ ولو كانتْ كافرةً، ويخذُلُ الدولةَ الظالمةَ ولو كانتْ مسلمةً)).
ومِن سبيلِ المنتصرين أنّ نفوسَهم أبِيَّةٌ، وهِمَّتَهم عَلِيَّةٌ، لا يقبلون بالدُّونِ، ولا تَحُطُّ من عِزَّتِهِمُ وعزيمتهم النَّكَبَاتُ والسُّنُون، وهم عن أسبابِ الهزيمةِ النفسيَّةِ بعيدون. فلم تمنعِ الأخطارُ ومواجهةُ الأهوالِ الرسولَ صلى اللهُ عليه وسلم أثناءَ هجرتِه، أنْ يقولَ لصاحبِه بقلبٍٍ امتلأ عزَّةً وثباتاً ويقيناً: ((ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟))(10).
وكان مِن وَصْفِ اللهِ للمؤمنين أنهم (اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) (آل عمران: من الآية172)، وأنّ الناسَ حينَ قالوا لهم مُخَوِّفين: إنّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، ازدَادَ إيمانُهم، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: من الآية173)، فاستجابتُهم للهِ ورسولِه رغمَ الشدائدِ لا تنقطِعُ، وعزيمتُهم رَغْمَ النَّكَسَاتِ لا تَضْمَحِلُّ.
ومِن أسبابِ النصرِ: إعدادُ القوى، والاستعدادُ للعِدا، وشحذُ الطاقاتِ والجهودِ. وهو ما أرشدَنا اللهُ إليه في كتابِه بقولِه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: من الآية60). وحينَ يكونُ هذا الإعدادُ جَادّاً، وبنوايا خالصةٍ، وبأيْدٍ نظيفةٍ أمينةٍ، فإنه يبذُرُ في نفسِ العدوِّ بَذْرَةَ الهزيمةِ.
وعلينا ونحنُ نُعِدُّ جيلََ النصرِ والتمكينِ أنْ نترُكَ الأمانيَ المجرَّدَةَ، والعواطفَ التي تحجُبُ عقولَنا، وعلينا أنْ نحوِّلَها إلى منطلقاتٍ لعملٍ جادٍّ وجهدٍ دؤوبٍ، لإعدادٍ قوَّةٍ تُرهِبُ أعداءنا. فالنصرُ لن يكونَ بمجرَّدِ التغني بأمجادِ الآباءِ، وفتوحاتِ الأجدادِ، وانتصاراتِ الأسلافِ؛ فهؤلاء لم ينالوا ما نالوه إلا بعدَ بذلٍ وإعدادٍ، وإننا ما لم نَسِرْ على خُطَاهم، فلن ننالَ نَوالَهم.
ومِن أعظمِ أسبابِ النصرِ: الجهادُ، الذي ما تركَه قومٌ إلا ذَلُّوا(11). إنه سِرُّ النصرِ ولُبُّه، وبه فَتَحَ الأوائلُ البلدانَ، ونشروا الإسلامَ، وردُّوا العُدوَانَ. مَا تَكَالبَتْ علينا الأمَمُ إلا بعد أنْ تركناه وأهملناه، ولم يتمادَ العِدَا في حربِنا إلا بعدَ أنْ حاربناه، وصارَ أعداؤنا يُدركون أثرَه في قوتنا أكثرَ مما أدركناه!!
الجهادُ الذي نجَحَ أعداؤنا في إقصائه عن مناهجِنا وتربيتِنا، ونجحوا في تشويهِ صورتِه الناصعةِ. وأُنسينا أنّ له غاياتٍ ساميةً، وأنه لا يكونُ جهاداً إذا اختلفتْ هذه الغاياتُ، وأنَّ أخلاقَ المجاهدين تمنعُهم حينَ القتالِ مِن أنْ يتعرَّضُوا لطفلٍ صغيرٍ، أو امرأةٍ، أو شيخٍ كبيرٍ، أو يحرقوا شجرةً، أو يفسدوا ثمرةً. وأنّه إرهابٌ لأعداءِ اللهِ، الذين نرى تجبُّرَهم وعُدوانَهم وبَغيَهم حينَ تركناه.
ولقد جاءنا عن نبيِّنا عليه الصلاةُ والسلامُ قولُه: ((بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي))(12).(1/1190)
إنّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ ذِروةُ(13) سَنَامِ الإسلامِ(14)، وأعظمُ التجاراتِ وأربحُها، وبه خيرُ الدنيا والآخرةِ، و (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (الصف: من الآية13). ولقد تحقَّقَ النصرُ لدولةِ الأيوبين لما قامتْ على الجهاد؛ فعَمَّ خيرُها، وعُرِفَ فضلُها، وصَدَّتِ الصليبيين، وردَّتهم على أعقابِهم خاسرين خائبين. وما بَلَغَ صلاحُ الدين ما بلغه من نصرٍ وشرفٍ وعزَّةٍ، إلا يومَ كانتْ له هِمَّةٌ عاليةٌ في الجِهادِ، فجَعَلَ ولايتَه سبباً في رفْعِ رايةِ الجهادِ، وتطليقِ الملذاتِ.
ومما يحتاجُه طالبُ النصرِ: الصبرُ والتقوى، وقد وَعَدَنا أصدقُ الواعدين بأنّ تحقيقَنا لذلك مَطْرَدَةٌ للكيدِ والضَّرَرِ: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية120).
إنّ مواجهةَ الخصومِ والجيوشِ تحتاجُ إلى صبرٍ على الأذى، وتَحَمُّلٍ لطولِ الطريقِ ووعورتِه؛ فأفضلُ العُدَّةِ الصبرُ على الشِّدَّةِ. كما تحتاجُ إلى تقوى تَحولُ بين الباحثِ عن النصرِ وبينَ الزَّلَلِ والخطأِ، فالهزائمُ العسكريَّةُ تبقى محدودةَ الضَّرَرِ ما لم تُغَيِّرِ القيمَ والمبادئَ والمُثُلَ. فالنصرُ مُحَالٌ مِن غيرِ صبرٍ وصَلاحٍ وجِلادٍ.
ومِن الصبرِ المهمِّ للنصرِ: ألا نستعجلَه، وأنْ نعملَ مِن أجلِ تحقيقِه، وإنْ طَالَ الوقتُ بنا. فالأحداثُ المتعاقبةُ الحاضرةُ توحي بأنّ الأمرَ قد يطولُ، وأنّ صاحِبَ النَّفَسِ الأطولِ هو الذي سينتصرُ، ولا يَعدَمُ الصبورُ الظَّفَرَ، وإنْ طَالَ به الزَّمَنُ.
ومِن سبيلِ المنتصرين أنّ الدنيا لم تَشغلْهم، كما شَغَلَتْ غيرَهم، وأنّ نفوسَهم متعلِّقَةٌ بالآخِرَةِ، وأنهم ممتثلون لأمرِ اللهِ، منتهون عن نهيِه. فمتى شَغَلَتِ الناسَ الدنيا مُنِعُوا النَّصرَ، وضُرِبَ عليهم الذُّلُّ، وقد حَذَّرَ مِن هذا الحالِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ((إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاً، لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ))(15).
إنّ جيلاً نشأَ عَلى الميوعَةِ والترفِ، وتَعَلَّقَ بالملذاتِ والمُتَعِ، لا يُنتظرُ منه أنْ يقفَ في وجهِ عَدُوٍّ غاشِمٍ، أو يكونَ نِدَّاً لمُعْتَدٍ ظالِِمٍ. بل إنّ مَن يطلبُ نصراً مِن مثلِ هذا الجيلِ مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ. وإنّ مِن الخيانةِ للأمّةِ أنْ يُسرفَ الأولياءُ في ترفيهِ أبنائهم ترفيهاً يجعلُهم أشدَّ الناسِ تعرُّضاً للمهالكِ حينَ ورودِها.
لقد عاشَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بعيداً عن الترفِ، وربّى على ذلك أصحابَه، وكان ذلك خُطوَةً في سبيلِ نصرٍ مبينٍ. رآه عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه يوماً وَقَدْ أَثَّرَ الحصيرُ فِي جَنْبِهِ، فَبكى وقال: إنّ كسرى وقيصرَ فيما هما فيه، وأنتَ رسولُ اللهِ! فَقَالَ: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهم الدنيا ولَنَا الآخِرَةُ؟))( 16). ورُوي عن عُمَرَ رضي اللهُ عنه قولُه: ((اخْشَوْشِنُوا؛ فإنّ النِّعمَ لا تدومُ)).
وحينَ يطغى حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ على غيرِه يتحوَّلُ الناسُ ـ مهما بَلَغَ عددُهم ـ إلى غُثاءٍ كغُثاءِ السيلِ، ليس لهم قيمةٌ ولا وَزنٌ، ويصبحون ألعوبةً بيدِ غيرِهِم من الأمَمِ(17).(1/1191)
ويبقى قبلَ هذا كلِّه ومعَه وبعدَه أنْ نَصْدُقَ في التجائنا إلى اللهِ، وأنْ نتضرَّعَ إليه بصدقٍ وإخلاصٍ، وأنْ نتسلَّحَ بالدُّعَاءِ؛ فهو خَيرُ سلاحٍ.
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ والمشركون أضعافُ المسلمين، اسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: ((اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ(18) هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ))، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ(19).
وهاجَتْ ريحٌ سوداءُ في عهدِ المهديِّ، فوجدَه حاجبُه ساجِداً على الترابِ يقولُ: ((اللهمّ لا تُشْمِّتْ بنا أعداءنا من الأممِ، ولا تُفْجِّعْ بنا نبيَّنا، اللهمّ إنْ كنتَ أخذتَ العامَّةَ بذنبي، فهذه ناصيتي بيدِك))، فما أتمَّ كلامَه حتى انجَلَتْ(20).
ثمّ إنّ الجادّين في طلبِ النصرِ وتحصيلِه، لا بُدَّ أنْ يسعَوا إلى تربيةِ الأجيالِ على هذه الأسبابِ، والبُعْدِ بهم عن أسبابِ الذُّلِّ والتبعيةِ والانهزامِ.
إنّ ظاهِرَ الأحداثِ يوحي بأنّ المرحلةَ القادمةَ مرحلةُ حربٍ فكريّةٍ، وهي حربٌ قد تكونُ أخطرَ بمراحلَ من الحربِ العسكريَّةِ. فالحربُ العسكريَّةُ قد تبعثُ روحَ المقاومةِ والمغالبةِ، وقد تُكْسِبُ الأمَّةَ تجارِبَ ومهاراتٍ لم تتعلَّمْها، ولم تتدرَّبْ من قبلُ عليها. أمّا الحربُ الفكريّةُ فإنّ نجاحَها يعني أنْ يذوبَ المنهزمون في المنتصرين، وأنْ يكونوا منهم، وأنْ يفقدوا هُويَّتَهم، وأنْ يُصابوا بداءِ الذّلِّةِ والتبعيَّةِ، وما أخطرَ مثلَ هذه الحالِ على الأمَّةِ وقيمِها!!
وكما أنّ الحربَ العسكريةَ تبدأُ بقَصْفٍ مُرَكَّز لمراكزِ القوّةِ لدى المقاومين؛ لِتُضعِفَ مقاومتَهم، وتنهارَ قوَّتُهم ـ فإنّ الحربَ الفكريةَ مثلُها في أنها تبدأُ في قصْفِ مراكزِ التوجيهِ والتربيةِ قصْفاً فكريّاً، حتى يسهُلَ فيما بعدُ السيطرةُ عليها، وتوجيهُ الجيلِ توجيهاً يقتلُ في نفسِه كراهَةَ المعتدي، ويئدُ في أعماقِه روحَ المقاومةِ، ويقضي على شعورِه بالتميُّزِ.
وقد أدركَ الأعداءُ هذه الحقيقةَ فسَعَوا جاهدين إلى إحداثِ انقلابٍ في المبادئ والمفاهيمِ، وتشويهِ صورةِ الدينِ، ووظَّفُوا في ذلك بعضَ أبناءِ جلدتِنا، وعاثتِ الفضائياتُ فَسَاداً وإفساداً في هذا الجيلِ، حتى ظَهَرَ جيلٌ لا يعرفُ سوى الملذاتِ، ولا يَقدرُ على التصرُّفِ في المُلِمَّاتِ. ومازالوا يسعَون إلى أكثرَ من هذا، ويطالبون بتنحيةِ الدِّينِ، وسُفُورِ مُربّيَةِ الأجيالِ، وتغييرِ المناهجِ، بدعوى تطويرِها.
ولذا فإنّ تحصينَ محاضِنِ التربيةِ، وتنقيتَها من الدُّخَلاءِ والعُمَلاءِ كفيلٌ بتحقيقِ النصرِ، ولو بعدَ حينٍ، وهو كفيلٌ بأنْ يَشِعَّ الضوءُ منها، ولو ادلهَمَّ الظلامُ، واحْلَوْلَكَ السّوادُ، واللهُ غالبٌ على أمرِه، ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون.
------------------------------
الهوامش :-(1/1192)
* - أحمد بن صالح السديس كلية اللغة العربية في الرياض
(1 ) سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع.
(2) سنن النسائي: كتاب الإمامة، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة.
( 3) سنن الترمذي: كتاب الفتن.
(4 ) انظر: سير أعلام النبلاء: 17/130.
(5 ) الإصبع، مثلثة الهمزة، ومع كل حركة تُثلَّث الباء: تسع لغات، والعاشر أُصْبُوع.
(6 ) سير أعلام النبلاء: 6/121.
(7 ) سير أعلام النبلاء: 4/561.
(8 ) سنن الترمذي: كتاب الجهاد.
(9 ) صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان.
(10 ) صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن، وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة.
(11 ) انظر: سنن أبي داود: كتاب البيوع.
(12 ) مسند الإمام أحمد عن ابن عمر، وانظر: صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير.
(13 ) ذِروة الشيء وذُروته: أعلاه.
(14 ) انظر: مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل، وسنن الترمذي: كتاب الإيمان، وسنن ابن ماجه: كتاب الفتن.
(15 ) سنن أبي داود: كتاب البيوع.
(16 ) صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن، وصحيح مسلم: كتاب الطلاق.
(17 ) انظر: مسند الإمام أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(18 ) ذكر النووي جواز ضمِّ أوله، على أنّ اسم الإشارة مفعول به، وفتحِه، على أنّ اسم الإشارة فاعل.
(19) صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير.
(20) سير أعلام النبلاء: 7/402.
المصدر http://www.almoslim.net/
ــــــــــ
القادم صعب و النصر حتمي و ما أحوجنا إلى الصبر
بقلم : الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
نحن اليوم على أعتاب مرحلة صعبة ، و هذا أمر طبيعي جداً ، فكلما ضاق الخناق على "شارون" كلما تفنّن في أساليب الإرهاب ، و كأني اليوم بالحبل يلتف على عنق أطماعه و أحلامه السياسية ،(1/1193)
فربما كان يتمنى أن يتوّج حياته التي أمضاها في خدمة المشروع الصهيوني بإنجاز صهيوني كبير و فريد ، و لا أقصد بذلك أن يصل كما يظن البعض إلى إبرام اتفاقية سلام مع الفلسطينيين ، فهذا أمر لا يفكّر به صاحب التاريخ الإرهابي الحافل بالمجازر و الاغتيالات ، و لكن الإنجاز الكبير في نظر "شارون" أن يقوم بإكراه الفلسطينيين على القبول بالوطن البديل الذي من وجهة نظره سيكون وطناً مؤقتاً سرعان ما تغتصبه و تبتلعه دولة الغصب و العدوان الصهيونية ليعود الشعب الفلسطيني يبحث من جديد عن وطن ، و أعني بالوطن البديل المملكة الأردنية الهاشمية ، لكي تصبح فلسطين من بحرها إلى نهرها دولة يهودية خالصة تعد نفسها لقفزات توسعية جديدة .
هذا الحلم لا زال يراود "شارون" و "نتنياهو" ، فالأخير يقول في كتابه "مكان بين الأمم" و ذلك في الصفحة 162من الترجمة العربية "و تمتد الأردن على أربعة أخماس المنطقة التي خصصتها عصبة الأمم وطناً قومياً لليهود" ، و يقول أيضاً في الصفحة 163 : "إنهم لا يكتفون بوجود دولة فلسطينية شرق الأردن التي تسيطر على معظم أراضي أرض (إسرائيل) و فيها أغلبية فلسطينية حاسمة" ، و يعني بذلك أن الفلسطينيين عندما يطالبون بدولة في الضفة و القطاع كما تفعل السلطة بأن عليهم ألا يطالبوا بذلك و يكتفوا بدولتهم شرقي النهر ، إذن هكذا ينظرون إلى الأردن أنها أرض (إسرائيلية) محتلة من قبل الفلسطينيين ، و لذلك فإقامة دولة فلسطينية من وجهة نظرهم يجب أن تكون شرقي النهر و ليس غربية ، و بما أن هذه الدولة كما يراها نتنياهو تقوم على أرض (إسرائيلية) محتلة من قبل العرب فإذن هي دولة مؤقتة ، فما أن يتمكّن اليهود من تحرير أرضهم المزعومة في الأردن ستزول تلك الدولة الفلسطينية ليبدأ الصراع من جديد و نحن في وضع أسوأ نبحث من جديد عن وطن .
هذا الحلم كان يداعب شارون أيضاً و هو يتحدث عن الدولة اليهودية في قمة العقبة فيقول "بصفتي رئيس وزراء (إسرائيل) مهد الشعب اليهودي" ، و من هذا القول يفهم أنه لا مكان للفلسطينيين في وطنهم فلسطين لأنها مهد الشعب اليهودي كما يؤمن "شارون" ، و عندما زلّ لسان "شارون" و نطق بكلمة الاحتلال فنهشته الأقلام الصهيونية إذا به يقول في اليوم التالي إنه لم يقل إن الأرض محتلة فهذه أرض (إسرائيل) المحررة متحدثاً عن الضفة الغربية و قطاع غزة .
و أمام هذه الأحلام و المطامع الصهيونية نكون أمام تحدٍّ كبير ، فإما أن نتشبث بأرضنا و مقدساتنا و هذا لا أشك أن له ثمناً من دمائنا و راحتنا و استقرارنا و أموالنا ، و إما أن نتنازل عن كلّ شيء تحت وطأة الإرهاب الصهيوني و الضغوط الدولية ، و لا أعتقد أن هناك من يقبل بالتسليم بما يريده الصهاينة الذين وضعوا لأنفسهم خطوطاً حمراء أملاً في تحقيق مشروعهم الصهيوني كما ذكرنا ، فلا يتوقع أحد أن يقبل "شارون" بما لم يقبل به "باراك" زعيم حزب العمل في "كامب ديفيد" ، و لن يقبل الشعب الفلسطيني اليوم بما رفضه أمس و دفع من أجل رفضه ذاك ثمناً باهظاً آلاف الشهداء ، و(1/1194)
عشرات الآلاف من المعتقلين و الجرحى ، و دمّرت حياته و بنيته التحتية و هو شامخ شموخ جبل النار يهتف بصوت عالٍ الموت و لا العار .
و أما الموقف الأمريكي البائس ، ففي أفضل صوره يقف صامتاً إزاء الجرائم الشارونية التي فاقت كلّ تصور ، و أما في أتعس صوره فنراه يقف مشجّعاً للإرهاب الصهيوني ، و محرّضاً على المزيد من سفك الدماء ، و مباركاً كلّ أشكال الإرهاب الذي يمارس ضد شعبنا الأعزل في فلسطين ، يضاف إلى ذلك ما تقوم به أمريكا من تحريض سافر للعالم بأسره ضد مقاومتنا المشروعة ، لقد كتب الكثير عن الموقف الأمريكي من قضية فلسطين ، و من الصراع القائم بين احتلال يريد أن يثبت جذوره ، و بين مقاومة فلسطينية مشروعة تبحث عن الحرية و الاستقلال ، و لقد توافقت الآراء في قراءة الموقف الأمريكي المنحاز تماماً لصالح العدوان و الاحتلال و الذي يصل إلى درجة قلب الحقائق و طمسها بطريقة مكشوفة ، فعندما يتحدّث "كولن باول" عن العوامل التي عكّرت أجواء السلام التي طفحت من قمة العقبة كما يزعم فيذكر عملية القدس التي نفّذتها كتائب عز الدين القسّام و يتجاهل بطريقة تدعو إلى الأسى ما قام به "شارون" من اغتيالات في طولكرم و غزة ، تلك الاغتيالات التي كانت السبب المباشر لتلك العملية البطولية الرادعة و التي كان لا بدّ منها لوقف شلال الدم الفلسطيني النازف على يد شارون و العصابات الصهيونية ، و لكن أمريكا ستبقى دائماً على موقفها الداعم و المبارك للممارسات الإرهابية الصهيونية ، و السبب في الموقف الأمريكي التوافق الأمريكي الصهيوني على المعتقدات التوراتية التي تتحكم في التصرفات الصهيونية ، كما أن هناك نزعة صليبية خطيرة لدى قادة البيت الأبيض تجعلهم دائماً في الخندق المعادي لأمتنا العربية و الإسلامية .
في ظلّ تلك المطامع الصهيونية و الدعم الأمريكي لتلك المطامع و ما تؤدّي إليه من ممارسات إرهابية صهيونية نستطيع الجزم بأننا أمام مرحلة صعبة ، مرحلة سيقدِم فيها الصهاينة على سفك المزيد من الدماء ، و تدمير المزيد من حياتنا اليومية بكافة صورها ، سيلقي "شارون" بكل ما لديه من أعمال إرهابية ، و لكن النتائج تحدّدها إرادة الشعب الفلسطيني و التي يمكننا أن نراهن عليها فثقتنا بها كبيرة جداً ، و كذلك تحدّدها إرادة المقاومة و استعدادها و جاهزيتها و هذه أيضاً ظني بها أنها لا تنهزم بإذن الله ، و أعتقد أنها قادرة على تجاوز العقبات التي تخلقها أمريكا لعرقلتها ، و هذا يعني أننا في المرحلة القادمة لن نعاني وحدنا فهل يفهم ذلك "شارون" ؟ أنا لا أعتقد أن من تمرّس على الإرهاب و غرّر به تاريخه الإجرامي يمكنه أن يفهم تلك الحقيقة ، و هنا سيبقى الصراع حتى يكون النصر ، فما أحوجنا إلى الصبر .
المصدر : http://www.alshaab.com
ــــــــــ
ووجدتُ من يؤخر النصر عن المسلمين !!(1/1195)
بينما كنت مهموماً أتابع أخبار المسلمين وما أصابهم من مصائب، خاطبتني نفسي قائلة: يا هذا، أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة، بل وأنت سبب رئيس في كل البلاء الذي نحن فيه! قلت لها: أيا نفسي كيف ذاك وأنا عبد ضعيف لا أملك سلطة ولا قوة، لو أمرت المسلمين ما ائتمروا ولو نصحتم ما انتصحوا..
فقاطعتني مسرعة، إنها ذنوبك ومعاصيك التي ملّ وكلّ ملك الشمال في تدوينها، إنها معاصيك التي بارزت بها الله ليل نهار.. إنه زهدك عن الواجبات وحرصك على المحرمات.. قلت لها: وماذا فعلت أنا حتى تلقين عليّ اللوم في تأخير النصر.. قالت: يا عبدالله والله لو جلست أعد لك ما تفعل الآن لمضى وقت طويل، فهل أنت ممن يصلون الفجر في جماعة؟ قلت: نعم أحياناً، ويفوتني في بعض المرات.. قالت مقاطعة: هذا هو التناقض بعينه، كيف تدّعي قدرتك على الجهاد ضد عدوّك، وقد فشلت في جهاد نفسك أولاً، في أمر لا يكلفك دماً ولا مالاً، لا يعدو كونه دقائق قليلة تبذلها في ركعتين مفروضتين من الله الواحد القهار.. كيف تطلب الجهاد، وأنت الذي تخبّط في أداء الصلوات المفروضة، وضيّع السنن الراتبة، ولم يقرأ ورده من القرآن، ونسي أذكار الصباح والمساء، ولم يتحصّن بغض البصر، ولم يكن بارّاً بوالديه، ولا واصلاً لرحمه؟ واستطردت: كيف تطلب تحكيم شريعة الله في بلادك، وأنت نفسك لم تحكمها في نفسك وبين أهل بيتك، فلم تتق الله فيهم، ولم تدعهم إلى الهدى، ولم تحرص على إطعامهم من حلال، وكنت من الذين قال الله فيهم: "ويحبون المال حباً جماً"، فكذبت وغششت وأخلفت الوعد فاستحققت الوعيد.. قلت لها مقاطعاً: ومالهذا وتأخير النصر؟ أيتأخر النصر في الأمة كلها بسبب واحد في المليار؟ قالت: آه ثم آه ثم آه، فقد استنسخت الدنيا مئات الملايين من أمثالك إلا من رحم الله.. كلهم ينتهجون نهجك فلا يعبأون بطاعة ولا يخافون معصية وتعلّل الجميع أنهم يطلبون النصر لأن بالأمة من هو أفضل منهم، لكن الحقيقة المؤلمة أن الجميع سواء إلا من رحم رب السماء.. أما علمت يا عبدالله أن الصحابة إذا استعجلوا النصر ولم يأتهم علموا أن بالجيش من أذنب ذنباً.. فما بالك بأمة واقعة في الذنوب من كبيرها إلى صغيرها ومن حقيرها إلى عظيمها.. ألا ترى ما يحيق بها في مشارق الأرض ومغاربها؟
بدأت قطرات الدمع تنساب على وجهي، فلم أكن أتصوّر ولو ليوم واحد وأنا ذاك الرجل الذي أحببت الله ورسوله وأحببت الإسلام وأهله، أنني قد أكون سبباً من أسباب هزيمة المسلمين.. أنني قد أكون شريكاً في أنهار الدماء المسلمة البريئة المنهمرة في كثير من بقاع الأرض.. لقد كان من السهل عليّ إلقاء اللوم، على حاكم وأمير، وعلى مسؤول ووزير، لكنني لم أفكر في عيبي وخطأي أولاً.. ولم أتدبّر قول الله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } فقلت لنفسي: الحمد لله الذي جعل لي نفساً لوّامة، يقسم الله بمثلها في القرآن إلى يوم القيامة.. فبماذا تنصحين؟ فقالت: ابدأ بنفسك، قم بالفروض فصل الصلوات الخمس في أوقاتها وادفع الزكاة وإياك وعقوق الوالدين، تحبّب(1/1196)
إلى الله بالسنن، لا تترك فرصة تتقرّب فيها إلى الله ولو كانت صغيرة إلا وفعلتها، وتذكر أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة، لا تدع إلى شيء وتأت بخلافه فلا تطالب بتطبيق الشريعة إلا إذا كنت مثالاً حياً على تطبيقها في بيتك وعملك، ولا تطالب برفع راية الجهاد وأنت الذي فشل في جهاد نفسه، ولا تلق اللوم على الآخرين تهرّباً من المسؤولية، بل أصلح نفسك وسينصلح حال غيرك، كن قدوة في كل مكان تذهب فيه.. إذا كنت تمضي وقتك ناقداً عيوب الناس، فتوقّف جزاك الله خيراً فالنقّاد كثر وابدأ بإصلاح نفسك.. وبعدها اسأل الله بصدق أن يؤتيك النصر أنت ومن معك، وكل من سار على نهجك، فتكون ممن قال الله فيهم: { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقداكم }.. واعلم أن كل معصية تعصي الله بها وكل طاعة تفرّط فيها هي دليل إدانة ضدّك في محكمة دماء المسلمين الأبرياء.. فرفعت رأسي مستغفراً الله على ما كان مني، ومسحت الدمع من على وجهي.. وقلت يا رب.. إنها التوبة إليك.. لقد تبت إليك.. ولنفتح صفحة حياة جديدة.. بدأتها بركعتين في جوف الليل.. أسأل الله أن يديم عليّ نعمتهما..
http://www.alahbab.net بتصرف يسير من :
ــــــــــ
حتى نستحق النصر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين. وبعد:
فإن حقيقتين عظيمتين لا بد للمصلحين ودعاة التغيير المنشود من إدراكهما وفهمهما حق الفهم:
الأولى: أن المستقبل لهذا الدين، والعاقبة للمتقين؛ جاءت بذلك النصوص الثابتة الجلية، ومن ذلك قول ربنا الجليل ـ سبحانه ـ: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
الثانية: أن الله ناصر من نصره، واستمسك بدينه، وخاذل من خذل دينه وعصى أمره واتبع هواه، يشهد لذلك قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]، وقوله: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] .
ولنا مع هاتين الحقيقتين الجليلتين عدة وقفات:
1 - أن لا يأس ولا قنوط؛ فعقيدتنا منصورة، وديننا ممكّن، وعلينا الجزم بذلك وعلمه علم اليقين؛ لنعيش بنفسية آملة متفائلة، تركز نظرها على النور، وتتجه للاجتماع على ضوئه.(1/1197)
ومع أن الفأل وحسن الظن بالله ـ تعالى ـ من أهم المقومات لمريد التغيير، إلا أن أهمية ذلك تزداد حين ندرك أن من أهم مرامي عدونا: إضعاف معنوياتنا، وغرس اليأس والإحباط في دواخلها، ليقتل الهمم، ويستأصل باعث المقاومة من نفوسنا؛ لأن الأمة اليائسة لا تصنع شيئاً.
2 - أن طاعة الله ـ تعالى ـ ولزوم شرعه هو مفتاح النصر وبوابة التمكين، وأنه لا سبيل لهذه الأمة لنيل الرفعة والظفر بالعزة إلا عبر ذلك. يقول الفاروق - رضي الله عنه -: «إنا كنا أذلّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام؛ فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به: أذلنا الله»(1).
وعليه فقد جعل الله - تعالى - عزنا وذلنا - معاشر المسلمين - بأيدينا لا بأيدي غيرنا، ومصداق ذلك من كتاب الله قوله - سبحانه -: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، فأعمالنا هي سبب ما أصابنا ويحلّ بنا، وهي نفسها باعث الإصلاح وشرطه، ومقوِّم التغيير المأمول، قال - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
3 - أن النصر يتخلف بانتفاء شروطه ووجود موانعه، والمتأمل في واقعنا يجد أن الإيمان ضعيف، وما يقدح في أصله أو كماله كثير، والأمة غارقة في بحور الشهوات والشبهات، وهي مع ذلك في غفلتها تهيم؛ فهي أكثر ما تكون تشتتاً وفرقة، وأبعد ما تكون عن إعداد العدة والأخذ بالأسباب.
وهي إنما يقوم على أمرها - في الغالب - أحد رجلين:
إما رجل ضعيف الإيمان، متعلق القلب بالدنيا وزخرفها، ممتلئ خوفاً وجبناً، مبادر إلى تحقيق ما يظنه مقصوداً للعدو قبل أن يطلب ذلك منه.
وإما آخر من أحفاد المنافقين الأوائل، رباه العدو على عينه؛ فهو طليعة من طلائعه، وأشد عداوة للأمة وثوابتها منه.
هذا من حيث العموم.
أما إذا جئت إلى أوساط الهداة ومبعث الأمل - العلماء والدعاة -؛ فمع كثرة خيرهم وعموم نفعهم إلا أنك تشاهد أمراضاً شتى، الواحد منها يعوق النصر ويمنع التمكين؛ فكيف بها مجتمعة؟ فأنت ترى في بعضهم قلة في الفقه، وضعفاً في النظر، أو تقصيراً في التبليغ والبيان، وطلباً للدنيا وتأكُّلاً باسم الدين، وفرقة وتشرذماً وتحزباً - في أحيان كثيرة - على غير الدين... وهلُمَّ جراً.
إنها بحق حالة مزرية، هي أبعد ما تكون عن استحقاق النصر وأهلية التمكين.
4 - مع شدة الضعف وعظم الهوان إلا أن الأمر لم يبلغ من السوء ما كان عليه الناس قبل البعثة النبوية الشريفة، والتي نظر الله فيها إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب(1)؛ إذ الأمة مع شدة المرض ما برحت حية لم تمت، وما زالت تملك كثيراً من مقومات القوة وعوامل التغيير التي لم تستثمر بالصورة المطلوبة بعد.(1/1198)
لكن كل ذلك لن يجدي ما لم ينهج المصلحون المنهج النبوي في التغيير.
وحين يتأمل المرء في حال هداة عصرنا ومناهجهم في التغيير يجدهم طرائق شتى؛ ففئات تأخذ جانباً من الجوانب المطلوبة للتغيير، وتضرب صفحاً عن بقية الجوانب.
وفئات تستعجل الطريق، فتختار مرحلة متقدمة من مراحل التغيير، قافزة على ما دونها من المراحل التي لا قيام للمرحلة المختارة إلا بها؛ فهذه تركز على الجهاد أسلوباً أوحد، وأنه لا سبيل غيره؛ لأنه ذروة سنام الإسلام. وتلك تتطلع إلى الحكم مرددة ما روي عن الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله ليَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»(2).
وفئات داخلها الخور والخوف فخشيت الأذى، أو ركنت إلى الدنيا وملذاتها، فأخذت تضخم حجم الخير الموجود وتتغافل عن ضده، وزين لها الشيطان سوء عملها، فأخذت ترى أن مدافعة الشر المستطير - حتى وإن كان بطريقة حكيمة وأسلوب حسن - إنما هو تعجل وتهور وخروج عن الجادة وتنكب عن الصراط السوي!!.
وكل هذه الطرائق - مهما حققت من خير - لن تقود إلى التغيير المنشود؛ لأنها أخذت ببعض الكتاب وتركت بعضه.
5 - يوجد عائقان متقابلان هما أعظم عوائق نجاح دعوات الإصلاح والتغيير: الاستعجال، والضعف والخور.
فأما الأول: فيقود إلى الهلكة مهما كان قصد صاحبه حسناً؛ لفقد الرفق والحكمة، وعدم إعطاء البعد الزمني حقه.
وأما الثاني: فيحول بين الإنسان والعمل ليلجأ بعدها ضعيف النفس إلى التسويغ لخوره والتأصيل لضعفه وإعطائه بعداً شرعياً.
ومن يتأمل في هدي نبينا محمد في التغيير يجد أنه بذل غاية وسعه في الإصلاح والتغيير بطريقة قوية وإصرار تنهدّ لثباته وشدته الجبال الرواسي.. كل ذلك في ظل تؤدة ورفق، وحكمة ظاهرة، وأخذ بالأسباب الشرعية، وإتيان للبيوت من أبوابها، فدعا وعلّم، وبنى وربّى، وآخى ووحد، وأقام دولة الإسلام التي من خلالها جاهد وأقام شرائع الإسلام في المجتمع.
ذلك كان هديه
فإذا أردنا لأمتنا فلاحاً ولأنفسنا نجاحاً فلنسلك مسلكه، ولْنسر على نهجه، فلن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به حال أولها.
6 - وفي ظل هذا الواقع المأساوي رغم وجود هذه الكوكبة المشرقة من العلماء الربانيين والدعاة الصادقين وأبناء الصحوة المباركة؛ فإن واجب الوقت - من حيث الجملة - هو بيان الحق والدعوة إليه، وتعليم الدين وتربية أبنائه عليه؛ حتى تُحمى البيضة، ويُحافظ على الهوية.(1/1199)
وفي سبيل تحقيق ذلك والتمكين له؛ يجب تجاوز الصعاب وتحمّل الأذى مهما بلغ الأمر.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
________________________________
(1) أخرجه الحاكم 1/130، في قصة قدوم عمر الشام، إبان فتح بيت المقدس، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين... ولم يخرجاه».
(1) كما في حديث أخرجه مسلم، في كتاب: صفة الجنة (2865).
(2) انظر: تاريخ بغداد 4/107، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/60 بهذا اللفظ مرفوعاً، ولا يصح مرفوعاً.
http://www.albayan-magazine.com المصدر :
ــــــــــ
أخلاق النصر عند المسلمين كما يحكيها راهب [سنت دنيس]
تحطمت الموجات المتلاحقة التي قام بها التتار في نهاية الأمر على صخور الإسلام الراسية. وجباله الشم العالية. وذاب الغزاة في مجتمعات المسلمين. واعتنقوا آخر الأمر الدين الذي جاءوا لإزالته من الوجود.
وأعلنت النصرانية حرباً ضارية على الأمة الإسلامية. وكانت حملات الصليبيين كالسيل الهادر تريد أن تمحو الإسلام من الوجود. ولقد بقيت أخبار الحملات الصليبية لطخة قذرة في جبين أمم النصارى. فقد كانت تلك الحروب صورة للتعصب المقيت. والحقد الدفين. والهمجية والرعونة. وقد هزم المسلمون في النهاية الصليبيين في ميدان القتال. وهزموهم في ميدان الأخلاق والعدل والنبل. وقد حَوَّلت الأعمال الرائعة ـ التي كان الصليبيون يرونها في المسلمين ـ جموعاً كبيرة منهم إلى الإسلام. فقد عرف هؤلاء أن ما هم فيه باطل وضلال. وعرفوا أنهم كانوا مخدوعين من قِبَل فئة من الذين استغلوهم لمصالحهم ومآربهم. وقد قارن هؤلاء بين إساءة أبناء ملتهم. وإحسان أعدائهم لهم في كثير من المناسبات. فكان ذلك باعثاً لهم؛ ليتعرفوا على دين أعدائهم المحسنين.
يروي السير توماس عن راهب من رهبان سنت دنيس [الرسالة الخالدة لعبد الرحمن عزام ص 316]. كان قسيساً في المعبد الخصوصي للملك لويس السابع. ورافقه في إحدى غزواته طائفة كبيرة. يقول هذا الراهب: " وفي طريق الصليبيين إلى القدس. عبر جبال الأناضول. التقوا بجيش المسلمين. فهُزِم الصليبيون شرَّ هزيمة. وكان ذلك في الممر الجبلي. [فريجيا] وذلك سنة 1148 م. ولم يصلوا إلى مرسى [أضاليا] إلا بشق الأنفس، ومنها استطاع القادرون بعد تلبية طلبات التجار اليونانيين الباهظة أن يرحلوا إلى أنطاكية بحراً. وقد دفعوا مبالغ طائلة. وتركوا خلفهم الجرحى والمرضى والحُجاج.(1/1200)
فدفع لويس خمسمائة مارك [أي عن كل فرد] لليونانيين على أن يعنوا بهؤلاء الضعفاء حتى يشفوا. وعلى أن يرافقهم حرس اليونانيين حتى يلحقوا بمن سبقهم.
فما كان من اليونانيين الغادرين إلا أن تربصوا حتى تباعد جيش الصليبيين. واتصلوا بالمسلمين الأتراك، وأخبروهم بما عليه الحجاج والجرحى. ممن تخلفوا من الوهن والعجز. ثم قعدوا ينظرون إلى إخوانهم في الدين ينال منهم البؤس والمرض وسهام المسلمين. ولما ضاق الصليبيون المتخلفون ذرعاً بما أصابهم. خرج ثلاثة آلاف أو أربعة من قلعتهم محاولين النجاة بأنفسهم فحصرهم المسلمين. وشدوا عليهم. ثم حملوا على المعسكرات الصليبية. وكان حال من خرج، ومن بقى في المعسكر ليس فيه أقل رجاء. ولم يُنقذوا إلا بما نزل في قلوب المسلمين من الرحمة. حين اطلعوا على ما فيه عدوهم من بأساء، وما أصابهم من ضراء رقَّت قلوبهم، وذابت نفوسهم رحمة لأعدائهم الصليبيين المساكين، فواسوا المريض، وأحسنوا للفقير، وأطعموا المسكين بسخاء وكرم، وبلغ من إحسان المسلمين أن بعضهم استرد بالشراء أو الحيلة أو القهر النقود الفرنساوية التي أخذها اليونان من الحجاج وردوها عليهم، ووزعوا على المحتاجين من الصليبيين، وقد كان الفرق واضحاً بين معاملة هؤلاء الكفار [يقصد المسلمين] للحجاج المسيحيين، ومعاملة اليونان الذين سخَّروا إخوانهم في الدين، ونهبوا أموالهم وضربوهم، كان الفرق عظيماً لدرجة حملت الصليبيين على اعتناق دين الأعداء المنقذين، ومن غير أن يُكْرَهُوا أو يُقْهَرُوا، لقد فروا من إخوانهم في الدين الذين أساءوا إليهم فلحق ثلاثة آلاف بالجيش الإسلامي بعد أن رجع عنهم، ودخلوا في دينه، لقد كانت الرحمة أشد قسوة من الخيانة، لقد أعطاهم المسلمون الخبز وسلبوهم الإيمان، واحسرتاه!!! لقد ارتدوا عن المسيحية من غير أن يجبر واحد منهم على ترك دينه " أهـ.
[يتحسر هذا المسكين على ترك باطلهم، وكان أحرى به أن يتحسر على إهلاكه نفسه بسبب كفره وضلاله].
http://www.islamic-mail.com المصدر:
ــــــــــ
الصوم.. وتربية الأمة على النصر
د. علي محيي الدين القرة
فكرت كثيراً في أسباب الانتصارات العظيمة التي تحققت في شهر رمضان المبارك بدءاً بغزوة بدر الكبرى، مروراً بفتح مكة المكرمة وانتصار طارق بن زياد في الأندلس، ومعركة عين جالوت ضد المغول والتتر إلى معركة العاشر من رمضان وتحطيم خط بارليف أمام صيحات الله أكبر، حتى إن عدد الانتصارات في هذا الشهر زادت على 185 انتصاراً وفتحاً غيرت مجرى التاريخ.
وتدبرت في الربط بين هذه الانتصارات وبين الشهر الفضيل فوصلت إلى الآتي:(1/1201)
أولاً: رمضان هو شهر الصبر، والنصر دائماً مع الصبر، والإعداد الجيد، والتخطيط الهادف، وليس مع التعجل والتسرع اللذين يضيعان كل شيء على مستوى الأفراد، والشعوب والأمم، فلم يعرف النصر من استعجل الشيء قبل أوانه، بل عوقب بحرمانه، ولم يعرف النصر من استجاب للإثارة، وسُحبت رجله إلى ساحة الوغى قبل أن يستكمل جوانب الإعداد، بل نالته شر الهزائم.
ولم يعرف النصر من لم يخلص النية، ولم يتبع سنن الله - تعالى - في النصر، بل اعتمد على الإثارة والشهرة والدعاية والتضحيم، بل انكشف أمره في ساحة القتال فلم ينفعه كل ذلك، وأصابته مصائب الفشل الذريع وآثاره الخطيرة.
من هنا فإن شهر الصبر له علاقة بالنصر، ولذلك ربط الله - تعالى - بينه وبين نصر الله ونزول ملائكته فقال - تعالى -: "بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى"لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" (126) (آل عمران)، حيث إن الصوم صبر على شهوتي البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل والشرب والمعاشرة الجنسية طوال نهار شهر كامل، مع الامتناع عن المحرمات (من الكذب والغيبة والسب وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من جميع المحرمات) بل الصبر حسبما يريده الإسلام يفرض على الصائم ألا يرد على من سبه، أو شتمه أو قاتله: "وإن امرؤ قاتله أو سابه أو شتمه فليقل إني صائم، إني صائم، إني صائم".
وبهذا الامتناع الإيجابي يروض الصوم الصائم خلال شهر كامل على الصبر والتحمل، كما يروضه على التحدي لشهواته وملذاته، فتصبح إرادته قوية بالله - تعالى -، غير خاضعة لأهوائه، ولا أهواء أحد، وهذا هو الارتباط الثاني، وذلك لأن المعارك لا تحسم في ساحة القتال فقط، بل تحسم في ساحة الصدور، وميدان النفس، فالنفوس المنهزمة داخلياً هي التي تنهزم في ساحة القتال، بل قد لا تجرؤ على الدخول في الساحة أصلاً، وتضحي بكل شيء في سبيل أهوائها وشهواتها ومصالحها.
ثانياً: الصبر يعلم الأمة التضحية بالشهوات في سبيل رضاء الله - تعالى -، ويعودها تجويع أنفسها في سبيل كرامتها، ومن هنا تسقط أمامها أكبر التحديات المتمثلة في التحدي الاقتصادي، فقد قال رئيس إحدى الدول العربية في معرض رده على عدم التحرك العربي أمام كل ما تفعله إسرائيل ووراءها أمريكا، قال:"كيف أحارب أمريكا و70% من الغذاء والحبوب يأتي من أمريكا؟!".
هنا يتدخل الصوم فينادي: لا وألف لا، فلن نخضع لشهوات البطن ونضيع كرامتنا وحقوقنا، فأنا أروض المسلم على أن يصوم ثلاثين يوماً، أي يوفر 50% من الغذاء بل أكثر من ذلك لو التزمت الأمة بمنهج الإسلام في الإنفاق (دون إسراف ولا تبذير).(1/1202)
ولكن مع الأسف، ضاع هذا الهدف النبيل في خضم تباهي المسلمين بالأكلات والمشروبات في شهر رمضان الفضيل، حيث يصرف الفرد على الغذاء ونحوه في هذا الشهر أضعاف ما يصرفه في بقية الشهور!.
الطريق إلى النصر
الآيات التي تحدثت عن الصوم حملت في طياتها برنامجاً كاملاً ومنهجاً متكاملاً للتربية الصحيحة للوصول بالأمة إلى النصر المبين، وهو ما يأتي:
أولاً: الإصلاح الداخلي:
ركزت آيات الصوم على إصلاح الإنسان من داخله، إصلاح نفسه، وقلبه وروحه من خلال ما يأتي:
أ- بيان أن المقصد الأساسي من الصوم هو"التقوى"فقال - تعالى -: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون 183 (البقرة) والتقوى محلها الصدر والنفس، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - "التقوى ههنا، التقوى ههنا"، وأشار إلى صدره المبارك - صلى الله عليه وسلم - .
فالتقوى هي استشعار رقابة الله على الإنسان في السر والعلن وفي جميع التصرفات والحركات والسكنات، وذلك هو الإحسان الذي هو قمة الدين، كما ورد في حديث جبريل الصحيح المتفق عليه:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وهو أن يصل الإنسان إلى إحدى المرحلتين الآتيتين، وهما:
1 مرحة القرب من الله - تعالى - (كأنك تراه) وحينئذ لا يجرؤ المسلم أن يقترب من أي ذنب، لأنه يستحي من الله حق الحياء، هذه هي مرتبة الأنبياء والصالحين، كما كان جواب يوسف - عليه السلام -، حينما قالت المرأة: هيت لك قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون 23(يوسف).
2 مرحلة الإيمان الجازم واليقين الراسخ بأن الله - تعالى - يرى الإنسان في جميع أحواله وتصرفاته وحركاته وسكناته، وحينئذ يستحي من الله - تعالى - أيضاً، فيمتنع عن المعاصي والذنوب، ومن المعلوم أن نصر الله لا يهدى لعاصٍ، بل لم ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم - في البداية يوم حنين بسب إعجاب بعض صحابته كما سجل القرآن ذلك ليكون عبرة لأولي الألباب فقال: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين 25 (التوبة).
ب بيان أن هناك هدفاً آخر من الصيام هو الوصول إلى عبادة الله وحده، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وفي تكبيره وشكره وتعظيمه فقال - تعالى -: ولتكبروا الله على"ما هداكم ولعلكم تشكرون 185 (البقرة)، والإكثار من الدعاء من خلال القرب من الله - تعالى -، والاستجابة له:(1/1203)
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 186 (البقرة). وهذا يعني أن الصوم الحقيقي يصل بالصائم إلى مرحلة عظيمة من الارتقاء الإيجابي حتى يكون تعظيمه لله وحده وليس لغيره، ولا يكون تعظيمه لبشر ولا لدولة ولا لسلطان، مهما كان، ويكون شكره لله - تعالى -، لا لغيره. ومشكلة المسلمين اليوم في هذا الجانب أن نفوس معظمهم منهزمة في الداخل، وجلة من الأعداء، خائفة على مصالحها الذاتية، ولذلك تعظم هؤلاء الأعداء وتخاف منهم. وبالتالي لم تحقق العبودية الكاملة التي يريدها الله - تعالى - من عباده، بأن يكون سجودهم وركوعهم وخضوعهم له وحده، دون شرك ولا رياء ولا نفاق.
وكذلك تبين هذه الآيات أن هدف الصيام.. الوصول بالإنسان إلى مرحلة الرشد لعلهم يرشدون 186 وذلك من خلال ترويضهم على التعبد لله - تعالى - فقط، وليس للأهواء أو الشهوات والرغبات والعواطف.
ثانياً: منهج التغيير الداخلي:
يترتب على الإصلاح الداخلي الذي أراده الله - تعالى - من الصوم من خلال ترويض الصائم على الصبر، وعلى التقوى، والتكبير، والشكر لله وحده التغيير النفسي المطلوب في قوله - تعالى -: إن الله لا يغير ما بقوم حتى"يغيروا ما بأنفسهم (الرعد:11).
فهذه السنة الإلهية قاضية بأن تغيير الأمة نحو الأحسن مرتبط بتغيير الأنفس تغييراً جذرياً من التردد إلى الإيمان الجازم، ومن الشرك والأوهام والخرافات إلى توحيد الله الخالص في ربوبيته، وألوهيته، ومن هزيمة الأنفس إلى عزيمتها وقوتها وإرادتها الصلبة المعتمدة على الله - تعالى -، ومن تعظيم غير الله إلى تعظيم الله وحده. فمنهج التغيير في الإسلام منهج شامل لتغيير الإنسان: فكره، وتصوراته، وإرادته وسلوكه.
ثالثاً: منهج التعامل:
تشكل آيات الصيام منهجاً متكاملاً في كيفية التعامل مع الدين وشعائره، ومع الخالق ومع المخلوقين جميعاً، وهو منهج رائع عظيم متوازن وسط، كما يتبين ذلك مما يلي:
1 التعامل مع الشعائر التعبدية بيسر وسهولة وبساطة، دون تشدد ولا تعقيد، على عكس ما كان متصوراً في السابق، من وجوب التعامل مع العبادات بشدة وقوة، حيث تضمنت هذه الآيات مجموعة من الرخص للصائم تبيح له الإفطار، كالمرض والسفر أو عدم الطاقة بسبب السن أو غيره، بل إن بعض الأعذار يسقط الصيام تماماً، فلا يجب قضاؤه، بل يوجب الفدية فقط وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين (البقرة 184)، ولا يكتفي الإسلام بهذه التخفيفات، بل يجعل منها قاعدة عامة، ومبدأ سارياً، وهو مبدأ رفع الحرج، وقاعدة التيسير فقال - تعالى -: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة: 185).(1/1204)
يفهم من ذلك بوضوح أن الإصلاح يأتي مع التيسير، وليس مع التشدد والتعسير، وأن الدين لا يقود الناس بالإكراه والقيود والسلاسل، بل بالحرية والدافع الذاتي والتقوى الداخلية. ولذلك شدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أولئك الذين لم يفطروا في السفر، عام فتح مكة، فوصفهم بالعصاة، لأنهم اتجهوا إلى منهج التشدد والغلو، والتنطع في الدين، الذي رفضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى مسلم وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة في رمضان، فقام حتى بلغ كراع الغميم، ثم عاد بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال - صلى الله عليه وسلم - :"أولئك العصاة".
إن العبادات في الإسلام تعتمد على تربية الضمير وتصفية النفس، وتهذيب الروح، ولذلك تنشئ حالة نفسية ذاتية تدفع صاحبها ذاتياً نحو حسن الأداء وحسن السلوك في الحياة، ولا يمكن أن تعتمد على المظاهر، بل لا يمكن للمظاهر أن يكون لها هذا الدور العظيم في إصلاح القلوب، وتغيير الإنسان نحو الأحسن.
2 التعبد في الإسلام لا يعني الترهب، والإسلام يدعو إلى الربانية لا الرهبانية: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77)، وإلى الجمع بين سعادتي الدنيا والآخرة وحسنتيهما: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار 201 (البقرة:201).
ولذا جاءت إباحة المعاشرة الزوجية في ليالي الصيام فقال - تعالى -: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى"نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى"يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون 187 (البقرة).
فهذا هو الإسلام، دين الوسطية، يعطي كل ذي حق حقه، وذلك هو الإسلام، الذي يراعي الاعتدال والتوازن في كل شيء، بلا إفراط ولا تفريط.
3 التعامل مع جميع النصوص الشرعية على سبيل التعبد لله، وليس على سبيل الانتقاء، لذلك بينت هذه الآيات أن الأخذ بيسر هذا الدين ورخَصه، من تعاليم الدين نفسه، كما أن الأخذ بعزائمه من تعاليمه كذلك.
4 أن يتعود المسلمون على تحمل بعضهم بعضاً، فيسع من يأخذ بالعزيمة أخاه الذي يأخذ بالرخصة، لذلك لا يجوز لمن يأخذ بالعزائم أن يعيب على أخيه الذي يأخذ بالرخص، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاب على هؤلاء الذين تشددوا فلم يفطروا بسبب السفر والجهاد الذي يحتاج إلى القوة البدنية، علاوة على القوة الإيمانية بالطبع، وهذا ما كان عليه الصحابة الكرام، - رضي الله(1/1205)
عنهم -، فقد ترجم البخاري باب: لم يعب أصحاب النبي ص بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار، ثم روى بسنده عن أنس - رضي الله عنه -، قال:"كنا نسافر مع النبي ص فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم" (صحيح البخاري، مع الفتح 4-186).
وما أحوجنا اليوم إلى هذا الأدب الجم في تعامل المسلمين مع بعضهم البعض، وفي أن يسع بعضهم بعضاً، وألا يهاجم بعضهم بعضاً بسبب أمر مختلف فيه، وأن يعود التآلف إليهم جميعاً للوصول إلى وحدة الأمة التي تمزقت بسبب البعد عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام.
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
ــــــــــ
بناء الأمم دعائم النهضة ومعالم النصر
محمد معجوز
إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا؛ وتنهض لمهمة كمهتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلق بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين... وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمات، وبغير ذلك تغلب على أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها.
والشباب المسلم الملتزم بإسلامه عدة المستقبل والدرع الواقية لأمتنا من كل عدوان مادي أو معنوي، وهذه النوعية من الرجال هم لبنات البناء الصلبة المتينة التي يقوم بها بناء الوطن، وبأمثالهم تقوم الأسرة المثالية التي تمثل ركيزة في بناء المجتمع، لذلك كان أهم عنصر في البناء، لكي يكون سليماً متيناً، بناء المواطن الصالح الذي هو ركيزة الانطلاق لمواجهة تخطيط أعداء الإسلام وما نشره في أوطاننا الإسلامية من ضياع وتدمير وضعف وتبعية وانتشار العلل والأمراض، وتولد ما يشبه اليأس من النهوض والإصلاح والنجاة من التردي.
والحقيقة أن بناء الأمم أمر ليس يسيراً إذا كان المطلوب قبل وضع أساس البناء إزالة الركام والمخلفات التي أدت إلى ضعف البناء وانهياره، ثم وضع الأساس العميق المتين الذي سيقوم عليه البناء الجديد، لذلك يقع على عاتق المسلمين المخلصين دور مهم في حمل الدعوة ونشرها حفاظاً على الصبغة والهوية الإسلامية للمجتمع المسلم وتأصيل جوانبها واستكمال أركانها عن طريق التربية والوعظ والإرشاد، والعمل على استمرار الصحوة الإسلامية وتعميقها وتوسيعها وتفعيلها والوصول بها إلى القطاعات المؤثرة.(1/1206)
وهناك دور آخر يتلخص في العمل على امتلاك الأمة أسباب القوة في جميع المجالات التي تمكنها من تحقيق رسالتها كما قال الله - تعالى -: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" (الأنفال:60). وذلك بتغيير كافة مؤسسات المجتمع وأفراده (رجالاً ونساء) وفق رؤية شاملة، تسعى لحل مشكلات الحاضر، وتعد للمستقبل، على هيئة برامج تفصيلية تعالج مشكلات الناس وهمومهم.
ويجب أن يتم ذلك العلاج بوضوح واقتناع بأنه لا بديل للحل الإسلامي؛ وأنه الحل الحتمي لأنه من عند الله خالق البشر الخبير بما فيه خيرهم ومنفعتهم، ثم إنه ليس موضع تجربة جديدة ولكن سبق تطبيقه وسعد به الناس أزماناً طويلة قبل تعرض أقطارنا العربية والإسلامية لتجارب مريرة قاسية بسبب تطبيق نظم أرضية مستوردة من صنع البشر، الأمر الذي جر على شعوبنا قدراً كبيراً من الشقاء والمعاناة والضعف وتدهور الأحوال والتبعية للدول الغنية المتحكمة. إننا نأمل أن يسود الاقتناع بفشل النظم الوضعية وأحقية الحل الإسلامي، بالحجة والدليل.
ولابد من التنبيه هنا إلى أنه لا يصلح لتحمل هذه الأعباء والقيام بهذه الأعمال إلا من رصدوا حياتهم لهذا الدين، أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يتقنون عملهم رجاء القبول فلا يقصرون ولا يتباطؤون، يبتغون وجه الله ولا يراؤون، لا يقوم بهذه الأعباء إلا من أعد نفسه، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق، وامتحنوها بالعمل القوي الشاق، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها، فإنه يسهل على كثيرين أن يتخيلوا ولكن ليس كل الخيال يدور بالبال يمكن تصويره باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثيراً من هذا القليل يستطيع العمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد والعمل المضني، وقد أثبتت الأحداث والأيام أنه بقدر الاهتمام بالتربية تتحقق الأصالة للحركة الإسلامية واستمراريتها ونموها.
والأمر الطبيعي أن يسير العمل لتحقيق التمكين لدين الله في الأرض بإقامة الخلافة الإسلامية وفقاً لتخطيط دقيق وألا يكون ارتجالياً أو ردود أفعال فيقسم الهدف الكبير إلى أهداف مرحلية وتوضع الخطة لكل منها والوسائل اللازمة ويتابع التنفيذ وهكذا، وذلك يلزمه دراسة الظروف المناخية ومعرفة الإمكانات المتاحة وتحديد المخلصين الذين يقومون بالتنفيذ، والمدة المناسبة لإتمام التنفيذ، وافتراض الاحتمالات المتوقعة التي قد تؤثر فيه وكيفية مواجهتها"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، والتطوير والتجديد أمر مطلوب يحث عليه الإسلام للترقي في أساليب العمل ووسائل الحياة:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وفتح له أبواباً كثيرة"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.."ويلزم الدعاة أن يضعوا في الاعتبار أنهم يتعاملون مع قلوب ونفوس، وأن القلوب بيد الله، فقد يتيسر فتح مغاليق بعضها ويستعصي البعض الآخر، والتوفيق من الله، فقد يجري الله خيراً كثيراً على يد فرد صادق مع الله، وقد لا يتحقق مثله على أيدي أفراد عديدين، فلابد من التغيير وإدراك ما تبقى(1/1207)
من الوقت، والعمل نحو جيل إسلامي فريد ووطن آمن؛ يأمن فيه الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه؛ فالأمر جد خطير، ولن يجدي الكلام وحده؟
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
ــــــــــ
بشائر النصر
الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
على النقيض تماما مما يظنه البعض فإن الأمة تحقق في هذه الأيام انتصارات عظيمة أذهلت العدو، هذه الانتصارات لم تترجم إلى انتصارات عسكرية بعد، ولكنها المقدمة التي لابد منها لإحراز النصر العسكري الذي لا يعدو كونه الجولة الأخيرة المتبقية التي تتوج النصر الذي تم إحرازه فعلا على أرض المعركة، ورب سائل يتساءل أين هذا النصر الذي تتحدث عنه وفلسطين كل فلسطين ترزح تحت الاحتلال، والأقصى في قبضة الصهاينة، والشعب الفلسطيني يشيع الجنازات في كل صباح، والأمة تُضرب في أفغانستان، وتُحاصر في العراق، ومعظم أقطارها تقع تحت التهديد، يحدق بها الخطر من كل جانب.
وللإجابة على ذلك علينا ألا ننسى أن هزيمتنا العسكرية هي ثمرة طبيعية لهزيمتنا الفكرية، ولولا الغزو الفكري الذي مكن الغرب من صناعة عملاء من بني جلدتنا انبهروا بحضارته فكانوا أكثر من الأعداء إضرارا بأمتهم وحضارتهم، انهزموا فكريا فشعروا بضآلتهم أمام الحضارة الغربية وما ملكت من عناصر القوة، ثم ما لبثوا أن عكسوا مشاعرهم تلك على واقع الأمة، وغاب عن أذهانهم ما تملك أمتهم من حضارة وإمكانات وطاقات لو أنهم فجروها ووظفوها لصالح نهضة الأمة من جديد لانتشلوها من وهدتها، ولكنها أصبحت في نظرهم أمة عاجزة ضعيفة لا تقوى على النهوض، فأعطوا ولاءهم لأعدائها ليصبحوا معاول هدم في يد الغرب الحاقد، فكانوا عاملا رئيسيا من عوامل الهزيمة العسكرية التي نعيشها اليوم.
ويعرف فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -الغزو الفكري قائلا (الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة. وهو أخطر من الغزو العسكري، لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه. وهو داء عضال يفتك بالأمم ويذهب شخصيتها ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيرا ً)، وإن الناظر لواقع الأمة لا يراها تخرج قيد أنملة(1/1208)
عن هذا التعريف، لأن الغزو الفكري قد خلق فينا شعوراً بالضعف وإحساساً بالتخلف، حتى فقدت الأمة ثقتها بنفسها وطاقاتها وقدراتها على المواجهة، وبدا همها الأول والأخير أن تتمكن من التأثير على نتائج الانتخابات لدى العدو، علها تسقط شارون أو تقصي بوش عن الحلبة السياسية، متجاهلة أن كل الصهاينة شارون وأن كل الأمريكان بوش، وناسية أو متناسية أن الذي يملك إخراجنا من واقع الهزيمة هو أن نغير نحن أنفسنا وإلا فسنبقى نلهث خلف السراب.
لقد أدرك العدو بعد خروجه منهزما من الحروب الصليبية أن القوة العسكرية لا يمكنها إلا أن تحقق نصرا محدودا بزمن، ولكن لتحقيق الغلبة الدائمة لابد من غزو العالم الإسلامي فكريا بعيدا عن استخدام الدبابات والطائرات وراجمات الصواريخ، فترك أعداؤنا الغزو الفضائي والغزو البري, وأحكموا قبضتهم على العالم الإسلامي بالغزو الفكري, فصرنا ننظر للغرب بأنه هو الأعلى وأنه هو الأكمل وأن ما عنده هو الأحسن، ونشعر في قرارة أنفسنا بالدونية والمهانة، ثم ما لبثنا أن سلمنا ديارنا، وأموالنا، وكرامتنا، بل ورقابنا للغرب، فأخذوا يعبثون بمقدراتنا، وينهبون خيراتنا، ويستخفون بعقولنا، ويجندون بعضنا لضرب رقاب بعضنا الآخر, وكل ذلك يجري على يد صنائع لهم من بني جلدتنا، استنكروا علينا أن نقف موقف عزة وكرامة، فحرّموا الحلال يوم حرّموا المقاومة، وأحلوا الحرام يوم أحلوا التنازل عن أرض المسلمين، وأخذ الغرب يرقب من بعيد هذه المعركة المحتدمة بين ضحايا غزوه الفكري وبين من تحصنوا بالإسلام فكانوا في منعة من الانهزام أمام الحضارة الغربية، ورفضوا بالتالي التسليم بالأمر الواقع, وأبوا إلا المواجهة، ولقد كانت الغلبة حتى عهد قريب لضحايا الغزو الفكري، مما أدى إلى استسلام الأمة وانهزامها أمام أعدائها، وأما اليوم فأستطيع القول أن الميزان بدأ يعتدل لصالح الوعي الإسلامي والصحوة الإسلامية التي باتت تمثل ضمير الأمة، مما جعل الشعوب تتحلل من واقع الهزيمة يوما بعد يوم، وكان الفضل في ذلك أولا لله سبحانه ثم للمجاهدين من أبناء الأمة في فلسطين ولبنان والفلبين والشيشان وكشمير وأفغانستان وكوسوفا والبوسنة والهرسك الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وأثبتوا أن الأمة قادرة على إحراز النصر في ميدان المواجهة إذا تمكنت من نفض غبار الهزيمة الفكرية.
ولقد أصاب الذهول أعداء هذه الأمة الذين جيشوا جيوشا جرارة من المبشرين والمستشرقين، وزودوهم بالمليارات من الدولارات، وأرقى ما توصلت له التكنولوجيا الحديثة من وسائل، ولكنهم صعقوا عندما رأوا أن الأمة بدأت تعود لأصالتها على يد المجاهدين الذين يفجرون أنفسهم في سبيل الله، إن خروج الأمة بهذه السرعة وبهذه القوة من واقع الهزيمة دفع بالصهاينة والغرب أن يلجأوا إلى استخدام القوة العسكرية من جديد وهذا أكبر دليل يقدمونه على فشلهم أو قل على هزيمتهم في معركة الفكر.(1/1209)
ومن هنا فإن انتصارنا على ضحايا الغزو الفكري الذين يسارعون في تحقيق ما يرضي العدو من شجب واستنكار لما يقوم به المجاهدون لهو الانتصار الحقيقي الذي سيقودنا لا محالة إلى النصر في المعركة العسكرية الفاصلة، وها نحن اليوم نلاحق فلول مرضى الغزو الفكري، فهم في انحسار دائم، حيث تنبهت الشعوب لحقيقة أمرهم، وهذه أول وأهم إرهاصات النصر العسكري القادم، فالنصر الفكري هو النصر الحقيقي الذي بدأت تطل بشائره.
http://www.forsan.net المصدر:
ــــــــــ
الإيمان والثقة بالله والصبر أقوى أسباب النصر
محمد محيي الدين
قال الله - تعالى -: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين * وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين * وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم * وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون * وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون" {الأنفال:3430}.
لقد كان من العجب العاجب أن تقوم قريش في وجه صاحب الدعوة إلى الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وهم أهله وعشيرته وذوو قرباه، وأحق الناس بالانتصار له، والذياد عنه؛ إن اعتدى عليه أحد، كان عجيبًا حقا أن يقوم هؤلاء بالتأليب عليه وتنفير الناس منه، وهم أولو العصبية وأصحاب الحمية التي ترى أنه لا وجود للقبيلة ما لم يأخذ كل واحد منها بنصرة أخيه على من يعترض له، ويضحي في سبيل ذلك بالنفس والمال إن اقتضى الأمر هذه التضحية.
وكان عجيبا أبلغ العجب أن تتمادى في مساءتة، وتبذل في سبيل ذلك الجهود الكبيرة. ثم لا تكتفي بالسخرية منه وممن اتبعه، ولا بتهديده وتهديد قرابته الأدنين بالمقاطعة والحرمان من الطعام والشراب، ولا بما فعلته من تشريد أنصاره عن أوطانهم، وإصابتهم في أنفسهم وفي أموالهم. وكان أعجب من هذا كله أن يصبر - صلى الله عليه وسلم - على أذاهم ويأمر أصحابه بالصبر، ويزيد في سماحة الخلق وكرم النفس، فيدعو الله أن يهديهم ويوفقهم إلى الاستجابة له؛ لأنه يحب لهم الخير، ويعلم أن الخير في اتباع هذا الدين الذي جاء به من عند الله. ولو كان محمد صلوات الله وسلامه عليه رجلا كعامة الرجال لأشفق على نفسه وعلى أصحابه الذين اتبعوه وعلى أعمامه الذين أخذوا أنفسهم بالانتصار له، وإن لم يتركوا دين آبائهم إلى دينه. ولخاف على نفسه وعلى هؤلاء وهؤلاء لجاجة قريش في أذاهم وافتنانها في التنكيل بهم. ولكن كان رجلا عظيم الثقة بأنه على حق يجب أن يخضع له البشر(1/1210)
جميعا. قوي الإيمان بأنه ليس ساحرًا ولا كاهنًا ولا شاعرًا ولا اعتراه بعض آلهة قومه بسوء كما كانوا يقولون عنه وأنه لا يتلقى هذا الوحي من الجن كما كان الكهان ولا يتعلمه عن بشر كما زعم قادة الإجرام ولكنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبه لينذر به قوما لدا. وكان مع هذا كله لا يشك في أن الله متم نوره. ومكمل به ما أراد للعالم من الصلاح والسعادة. لذلك لم تهن عزيمته. ولم تضعف قوته، ولم تفت في عضده الأحداث. بل كان كلما زادت قريش وأحلافها في أذاه والنكاية به محاولين صده عن سبيل ربه زاد هو مضاء في دعوته واستهانة بما يلقاه منهم بل كان ذلك أحلى في قلبه وأعذب أن يصبر لله، ويصابر في إعلاء كلمة الله، ويرفع لواء الحق الذي أحبه الله، ويزهق الباطل الذي يبغضه الله. ولو كان محمد صلوات الله عليه رجلا كعامة الرجال لملأ قلبه اليأس، فانصرف عن هذه الدعوة وألقى حملها عن ظهره، فقد لبث في
قومه ثلاثة عشر عامًا يدعو ويلح في دعوته، وينذر ويبالغ في إنذاره، فلم يستجب له إلا نفر قليل ليس فيهم صناديد قريش الذين تقتفي العامة آثارهم وتسير على ما يرسمون لها من طريق. وهؤلاء الذين آمنوا معه ليس في استطاعاتهم أن يدفعوا عنه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم. إذا أرادهم القوم بالسوء. ولكن كيف يطرق اليأس نفسه، وهي النفس المملوءة يقينا بأن الله غالب على أمره. والمفعمة ثقة بأن للحق يوما يظهر فيه على الباطل فيدمغه. وإذا كان أهل مكة لم يستجيبوا له، فلماذا لا يطلب النصر عند غيرهم ممن لا يكون قد ملئ حقدًا وحسدًا، ولا يكون فيه من الغرور والكبر ما عند أهل مكة، وليس له من الرياسة الزائفة ما يحرص عليه أهل مكة الذين كانوا يزعموا أنهم سادات الداعين، وهم في خوف أن تقضي هذه الدعوة الجديدة على رياستهم التي لا تعتمد إلا على الغرور والباطل.
ويبدو له هذا الخاطر خاطر أن يعرض على غير قريش من قبائل العرب دعوته التي بعثه الله بها رحمة للعالمين إلى سبل السلام وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ومبشرًا بما يستقبل الجزيرة من الفلاح والغلبة. بل بما يستقبل الإنسانية جمعاء من السعادة والرخاء إذا هم اتبعوه وسرعان ما يأخذ في امضاء هذا الخاطر. وكيف يتوانى ويتردد في إمضائه. أليس هو رسول الله إلى الناس كافة؟ أليس هو النور الذي حمل سراجه المنير نازلا من السماء لهداية البشر أجمعين؟ إذن فما باله لا يعرضه لأعين الناس جميعا، ويوجهه إلى قلوب الناس جميعا ليهتدي به من لم يصب عينه عشى الكبر والحسد ومن لم يطبع الله على قلبه، وكيف يتوانى ويتردد في إمضائه! أليس هؤلاء الذين حرص على أن يكونوا أول حملة هذا السراج قد خيبوا ظنه وضيعوا الكثير من آماله؟ فما باله إذن يؤثرهم ويقصر عليهم دعوته؟.
ها هو ذا يمضي إلى الطائف حيث تقيم ثقيف. وها هو ذا يجدُّ في البحث عن سادة ثقيف وأشرافهم وأهل الرأي فيهم، حتى يجد ثلاثة أخوة، هم يومئذ قادة القوم وأصحاب السلطان فيهم وهم عبدياليل، ومسعود، وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن ثقيف وها هو ذا يجلس إليهم فيدعوهم إلى الله ويكلمهم بما عنده، ويطلب إليهم نصرته والقيام معه على من خالفه من(1/1211)
قومه. فيواجهونه بما لا يحب فيقول له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. ويقول الآخر أما وجد الله أحدًا غيرك يرسله؟ ويقول الثالث: والله لا أكلمك أبدًا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله فينبغي أن لا أكلمك. فإذا يئس منهم ولم تبد له لائحة خير فيهم قال لهم:"أما إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني". يريد ألا يبلغ خبره قريشا فيعلموا هذه الخطة الجديدة فيأخذوا عليه أفواه الطرق ويغلقوا دونه قلوب الناس.
ولم يكن عند ثقيف بقية من كرم الخلق. فلم يقبلوا منه ما جاءهم به ولم تطب أنفسهم بالكتمان عنه بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ويحصبونه بالحصى، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة. وهما جالسان فيه. فعمد إلى ظل كرمة فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء ثقيف. حتى إذا اطمأن في مجلسه وتفرق عنه هؤلاء الأوشاب أخذ يناجي ربه."اللهم إليك أشكو ضعف قوتي. وقلة حيلتي. وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين. وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله". وأتى كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله - عز وجل - وعرض عليهم نفسه. فأبوا عليه. وأتى بطنا من بني كلب يقال لهم بنو عبد الله. فعرض عليهم نفسه فلم يقبلوا منه وأتى بني حنيفة فدعاهم إلى الله فلم يكن أحد أقبح عليه ردًا منهم.
اللهم غفرًا. هذا محمد رسولك وصفوتك من خلقك والداعي إلى صراطك المستقيم وسبيلك الذي رضيته لخلقك يبذل من نفسه كل جهد ولا يألو في إعلان ما أرسلته به، ولا يجد ناصرا ولا يلقي معينا؟. هؤلاء أقاربه قطعوا أواصر القربى ومزقوا كل وشائج الرحم وهلهلوا العواطف التي من شأنها عندهم وعند غيرهم أن تصل فيما بين الناس. وهؤلاء الأباعد يتجهمونه ويغرون به السفهاء والعبيد يصيحون به ويرجمونه بالأحجار ولا يرضون منه بما يرضى به أقل العرب استمساكا بأحسن الأخلاق أن يكتموا عنه ما أفضى به إليهم من دخيلة نفسه وهو مع كل هذه البلايا التي تكفي واحدة منها لزعزعة رواسي الجبال صابر مطمئن النفس عالم أنه ما جاء أحد بمثل ما جاء به إلا عودي وأوذي واثق أن العاقبة للمتقين. وليس يخاف شيئًا إلا أن يكون بك غضب عليه. فعفوك اللهم ورضاك وتأييدك أنه لا معين له سواك.
وتعلم قريش بما كان منه وما كان من ثقيف وكندة وبني حنيفة فيعلمون أنه فكر في الانتصار عليهم بقبائل العرب وأنه أخذ لذلك أهبته. فيحذر بعضهم بعضا ويتناذرون فيما بينهم فصاحة لسانه وشدة أسر بيانه. وما يكون لذلك ولغيره من خلال الخير التي جبله الله عليها من التأثير على الناس حتى(1/1212)
ائتمروا فيما بينهم إلا يتركوه يلقي أحدًا ممن يفد على مكة لزيارة البيت الحرام إلا حذروه أمره، ودسوا له ليجنبوه فيما زعموا الخديعة به، فكانوا لا يسمعون بقادم إلا تعرضوا له فقالوا: إنك قد قدمت بلادنا. وقد ظهر بيننا رجل أعضل بنا وفرق جماعتنا وشتت أمرنا. وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجه. وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا. وربما كثر الوافدون على مكة كما يكون في موسم الحج، فلم يستطيعوا أن يتحدثوا إلى الوافدين جميعا. فامكنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستطاع أن يلتقي بقوم من الوافدين وأن يعرض عليهم ما عنده، فما هو إلا أن يأخذ في الحديث اليوم حتى يكون الأمر قد بلغ قريشا فتراهم مسرعين إليه يفسدون عليه أمره، حدث عبد الله بن عباس:"إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف على منازل من العرب فيقول: يا بني فلان. إني رسول الله إليكم. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا. وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا وتصدقوا بي ومنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان وعليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان. إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم. وتسلخوا حلفاءكم من الجن من بني مالك بن اقيش. إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. قال عبد الله: فقلت
لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول فقال: هذا عمه عبد العزي بن عبد المطلب. وهو أبو لهب".
ولكن عين عين الله تلحظه في خطواته كلها، وقد كفل الله له أن يعصمه من الناس. وعنده من اليقين وقوة الإرادة وصادق المعرفة بأنه إذا عز المطلب هانت التضحية في سبيله. فهو لا يبالي محاولة أعداء الحق في إطفاء نوره. ولا يعبأ بما يلاقيه في سبيل بلوغ غايته. وإذا أراد الله انفاذ أمر هيأ له أسبابه. فسار في الطريق الموصلة إليه فلم يعترضه من عقابيل الناس شيء مهما يحكموا أمرها. فقد حدث في السنين الأخيرة من مقامه بمكة أربع حوادث كانت لها الأثر الفعال في عزة الإسلام والمسلمين، أولها أنه قدم مكة قوم من أهل المدينة من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ وأبو الحيسر أنس بن رافع يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فسمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم فجلس إليهم. فقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا: وما ذاك قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل علي الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ أي قوم. هذا والله خير مما جئتم له. فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فيضرب بها وجه إياس بن معاذ ويقول: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس. وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم.(1/1213)
وانصرفوا بعد ذلك إلى المدينة. ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن تُوفِّي، ويحدث قومه أنه حين حضرته الوفاة لم يزل يهلل الله - تعالى - ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فكان ذلك مبدأ لشعور أهل المدينة بالإسلام وبصاحب الدعوة إليه، فلما كان موسم الحج حدثت الثانية وخلاصتها أن قوما من الخزرج خرجوا لزيارة بيت الله فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض: وإنه والله للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه
إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم وقالوا له"إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم. فعسى أن يجمعهم الله بك: فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام. ففشا فيهم حتى لم تبق دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى إذا كان الموسم من قابل حدثت الثالثة فقدم مكة اثنا عشر رجلا من أهل المدينة من بني النجار وبني زريق بن عامر وبني عوف بن الخزرج وبني سالم بن عوف وبني سلمة وبني سواد بن غنم. وكل أولئك من الخزرج وبني عبد الأشهل وبني عمرو بن عوف وهما من الأوس فكانت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين هؤلاء النفر بيعة العقبة الأولى. بايعهم فيها على أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم. ولا يعصونه في معروف. فإن وفوا بذلك فلهم الجنة. وإن فعلوا من ذلك شيئًا فأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، فلما اعتزموا الانصراف إلى المدينة أرسل معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين. فكان مصعب في المدينة معلما لمن آمن بالله ورسوله. وكان مع ذلك داعية لمن لم يؤمن. فصدق في الدعوة إلى الله وأخلص في النيابة عن رسول الله. فأسلم على يديه جماعة من أهل المدينة منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل. فلما خالطت حلاوة الإيمان قلب سعد بن معاذ انطلق إلى نادى قومه فلما وقف عليهم قال"يا بني عبد الأشهل. كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا. وأوصلنا. وأفضلنا رأيا. وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام
حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فلم يمس في دور بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا دخل الإيمان إلى قلبه. فلما كانت الحجة القابلة حدثت الرابعة وهي بيعة العقبة الكبرى التي بايع النبي فيها أهل المدينة على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأعطاهم الرسول يده على أن يقيم بين أظهرهم ولا يعود إلى الإقامة بين أهل مكة وأن أظهره الله عليهم، وعلى أن ذمته ذمتهم وحرمته حرمتهم يحارب من حاربوا ويسالم من سالموا وأعطوه العهد على أنهم وافون له على نهكة الأموال وقتل الأشراف".(1/1214)
وتبلغ هذه الأخبار كلها قريشا فيهولها الأمر. ويفزعها أن يجد محمد والصبأة من أصحابه أعوانا في يثرب يصيبون بهم منعة إن يشاءوا. ثم يملك عليهم نواحي تفكيرهم أن يروا هؤلاء الصبأة يتسللون إلى إخوانهم في يثرب. فيدعون إلى اجتماع عام في دار الندوة يتشاورن فيما يأخذون وما يدعون من أمر هذا الذي أعياهم بصبره وحسن تجلده ويجتمعون فيكون منهم ما قص الله - تعالى - في كتابه الكريم في الآيات التي تلوت في صدر هذا الكلام اجتمعوا ليمكروا به. واختلفوا فيما يكون منهم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ووقع الذي حذروه وتخوفوه منه فخرج الرسول. وترك لهم البلد الحرام وهذا الحرم الآمن الذي أمن فيه كل شيء حتى الطير ولم يأمن فيه محمد ولا أصحاب محمد على أنفسهم ولا على أموالهم وهم أحق وأولى بهذا الأمن من كل أحد لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جاءهم بأمن الدنيا والآخرة.
وتحق على أهل هذه القرية الظالم أهلها بإخراجهم رسول الله وصحبه من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله تحق عليهم من بعد ذلك كلمة العذاب. فما كان الله - تعالى - ليعذبهم والرسول بين ظهرانيهم ويسلط عليهم ضروبا من عذاب الدنيا أهونها عليهم أن يأذن لرسوله في أن يقتلهم ويستبيح أموالهم أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله {الحج:39،40}، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم {التوبة:14،15}. وأشدها إيلاما لهم وحزا في نفوسهم أن تتناهى إليهم الأخبار يوما بعد يوم أن قبائل العرب تدخل في دين الله أفواجا وأن أصحاب محمد الذي أخرجوه قد صاروا جندًا كثيرًا، وما النصر إلا من عند الله.
والله من وراء القصد.
http://www.altawhed.com المصدر:
ــــــــــ
الانتفاضة شعلة النصر وبوابة الاستقلال
بكل تأكيد لم تكن انتفاضة الأقصى إلا تعبيراً جماهيرياً يعكس مدى الغضب والسخط والرغبة في الخلاص والإنعتاق وتحرير الأرض من غطرسة المحتل الصهيوني الغاشم الذي أثبت بكل وضوح وبالصورة والصوت أنه لا يعرف للقيم والمبادئ الإنسانية أي معنى وانه مجرم إرهابي ومعاد للبشرية وللسلام العادل والشامل..
وبالتالي فان الانتفاضة لم تأت بقرار سياسي بل إنها هي التي صاغت القرار السياسي الذي يؤكد على وجوب استمرارها وهي التي قطعت الطريق أمام كل من يفكر بالدعوة إلى وقفها وذلك من خلال قدرتها على تحريك الشارع والرأي العام العربي والعالمي وتوسيع دائرة التأييد والمناصرة والدعم(1/1215)
لقضيتنا الفلسطينية وفضح الكيان الصهيوني بالمشاهد الحية التي تظهر الوجه الإجرامي والوحشي لهذا الكيان الإرهابي الذي أمعن وتمادى في ممارساته القمعية والوحشية ضد الأطفال والشباب والشيوخ والنساء والممتلكات مستخدماً شتى ومختلف أنواع الأسلحة والقنابل والغازات والقذائف المدفعية والصاروخية المحرمة دولياً وخاصة منها المتفجر والإنشطاري والسام ومؤخراً شرع الجيش الصهيوني باستخدام نوع جديد من الغازات منها ما يخلف إعاقة دماغية وعصبية ومنها ما يؤدي إلى العقم ومنها ما يذيب الأجساد ويحللها كما حصل في مخيم جنين حيث شوهدت جثث الشهداء وكأنها من عصور غابرة.
إن الانتفاضة وإن تفجرت بشكل مباشر اثر زيارة السفاح والمجرم شارون التي قام بها إلى الحرم القدسي الشريف في الثامن والعشرين من شهر أيلول الماضي حيث هبت الجماهير منافحة ومدافعة بصدورها العارية عن حرمة وقدسية الأقصى المبارك وحالت دون دخول شارون إلى قبة الصخرة كما كان يخطط إلا أنها كانت تعبيراً عن القرار الفلسطيني في المضي قدماً في مسيرة الجهاد لتحرير الأرض والمقدسات من دنس المحتل الغاشم وهذا ما شكل دفعاً وقوة للانتفاضة وللمستوى السياسي الفلسطيني إذ أصبح التلازم مفروضاً وواجباً بين قرار الجماهير والقرار السياسي وكلاهما يؤكدان على أن هذه الانتفاضة ولدت لتبقى وأنها تمثل إرادة الشعب الفلسطيني كله على اختلاف مشاربه الفكرية والسياسية والدينية وأنها ليست حجر شطرنج بيد عابث أو لاعب أو هاو يحركها كيفما شاء ويوقفها متى أراد وواهم من يعتقد ذلك لأن الشعب والقيادة اجمعوا على أنها لم تولد بقرار لتنتهي بقرار وأنها ماضية ومستمرة ومتواصلة ومتطورة بأشكال مختلفة ومن هنا كانت الوحدة بأبهى صورها وأشكالها في العمل الجهادي والنضالي الذي يكفل للانتفاضة قوتها ويعمل على ضمان تحقيق أهدافها في التخلص من الاحتلال وتجسيد الاستقلال والحرية.
ان مئات الشهداء وآلاف الجرحى هم وقود هذه الانتفاضة وشعلتها التي تعاهد الشعب الفلسطيني على المضي قدماً في مسيرة الجهاد والمقاومة حتى كنس الاحتلال من أرضنا وتطهير المقدسات من رجسه ولن يثنينا عن عهدنا هذا كل أساليب القمع والقتل والوحشية الصهيونية بل أنها لن تزيدنا إصراراً وصلابةً وتأكيداً على حقنا في المقاومة والجهاد حتى اجتثاث الورم السرطاني من جسم وطننا وخاصرة امتنا وان على باراك وشارون وكذلك كلنتون وكل من يقف منحازاً مع الكيان الصهيوني أن يفهموا أن شعبنا لن يتراجع ولن يقر له جفن ولن يهدأ له بال حتى يرى أرضه قد تحررت من ظلم الظالمين ورجس الأنجاس وقمع الوحش الصهيوني فهذه ارض لا ولن يعمر فيها ظالم والصهاينة تمادوا في غيهم وغطرستهم وظلمهم وأنها البشارة في قرب نهايتهم بإذنه - تعالى -.
لقد ولى زمن الضعف وبزغ فجر الحرية وثار بركان الغضب حمماً ملتهبة في وجه المحتل والغاصب ولن يهدأ هذا البركان وفي أرضنا أثر من آثار هذا الوحش والمجرم والسرطان الصهيوني وأننا نعتقد أن(1/1216)
الانتفاضة قادرة على الاستمرار والتكيف مع كافة الظروف والممارسات والإجراءات الصعبة التي يقوم بها ويفرضها أعداؤنا الصهاينة وحلفاؤهم للضغط علينا لوقف انتفاضتنا المباركة وقدرة انتفاضتنا هي من قدرة وصمود وإصرار وإرادة شعبنا الذي قدم ويقدم في كل يوم اروع الأمثلة على التحدي والصمود والمواجهة من خلال إدراكه لحقيقة المعركة وطبيعتها ولحقيقة العدو وطبيعته ولحقيقة الصراع وطبيعته بشكل يجعله أكثر فهماً للمعادلة وبالتالي أكثر قناعةً وإيماناً بقرار وخيار المواجهة والمقاومة بمختلف أشكالها وبالإمكانيات المتاحة.
انه وحتى تقدم الانتفاضة ثمارها ويقطف الشعب هذه الثمار الطيبة فلا بد من أن تتوفر عدة شروط وعناصر تكون بمجموعها الفروع المغذية والجذور الثابتة لشموخ هذه الشجرة ذات الثمر الطيب ومن أهم هذه الشروط:
1- تعميق روح الوحدة الداخلية بترتيب البيت الفلسطيني من أجل حماية الجبهة الداخلية من الخلخلة والفتن وهذه المسؤولية تقع على عاتق السلطة إلى جانب كل التنظيمات والحركات والأحزاب والأطر والمؤسسات الأهلية والسياسية الفاعلة والمؤثرة وذلك من خلال طرح الخلافات الجانبية جانباً والعمل على كل ما من شأنه تفعيل وتطوير فعاليات الانتفاضة والقضاء على كل المظاهر السلبية والأخطاء التنظيمية والتكتيكية الميدانبة.
2- تحديد استراتيجية وطنية واضحة تشكل المنطلقات والأهداف الرئيسة للانتفاضة وتكون أساساً وواجهة لحقيقة الموقف والمطلب الفلسطيني المعلن إقليمياً دولياً وهذه الإستراتيجية يجب أن ترتكز على الحقوق الفلسطينية المشروعة في مقاومة الاحتلال وغطرسته سعياً لنيل الاستقلال وكنس الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطيني على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس وحق العودة للاجئين والنازحين والمبعدين وتحرير كافة الأسرى من سجون النازي الصهيوني.
3- التأكيد على العمق العربي والإسلامي في الصراع مع الكيان الصهيوني وضرورة الدعم العربي والإسلامي بكل السبل وخاصةً بعد أن تأكد الموقف المنحاز للإدارة الأمريكية إلى جانب إسرائيل وسياساتها القمعية والوحشة ضد شعبنا وبالتالي دفن والى الأبد أي أمل في التوصل لحل شامل وعادل مع الكيان الصهيوني عن طريق المفاوضات بل إن خيار المقاومة هو السبيل الأوحد لنيل الحقوق ودحر الاحتلال وهذا بالطبع أمر يستلزم موقفاً عربياً وإسلامياً جاداً يرقى إلى مستوى المسؤولية والحدث.
4- تكثيف النشاط الدبلوماسي من قبل القيادة الفلسطينية لفضح الجرائم الصهيونية وبيان مدى الاستهتار الصهيوني بكل الأعراف والقوانين والشرائع السماوية والأرضية والتأكيد على ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي قرارات وإجراءات تعمل على لجم وكبح جماح العمل الإجرامي والإرهابي لباراك وجيشه ولو اقتضى ذلك إرسال قوة من الحماية الدولية كما جرى الأمر في كثير من البلدان مع(1/1217)
التذكير بالاستياء الشعبي من مواقف مجلس الأمن والمجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة التي أصبح علمها ملطخاً بدماء الشهداء الفلسطينيين الذين حصدتهم الآلة الحربية الصهيونبة بيد باردة.
5- تشكيل لجان شعبية ورسمية طارئة على امتداد الوطن تكون مهمتها تأمين وتوفير سبل استمرارية الانتفاضة وتعزيز عرى وروابط التكافل والتضامن الاجتماعي من أجل مجابهة إجراءات القمع والحصار الصهيوني واثبات القدرة الفلسطينية على المجابهة والصمود لا بل والمبادرة الجريئة والنوعية في نطاق تطوير العمل الجهادي وتسخير كل الإمكانات المتوفرة والمتواضعة لصالح الانتفاضة وفعالياتها وذلك من خلال إشراك كل الشعب كل حسب إمكاناته وطاقاته وقدرته المادية والجسمية والمعنوية حتى تكتمل حلقات الفعل الفلسطيني.
6- تشكيل لجان وطواقم إعلامية وأكاديمية تعمل على تحليل وتفسير الخطاب الفلسطيني وتصديره إلى العالم بالصورة التي تشكل وجهاً آخر من أوجه المجابهة ومقارعة العدو وتفنيد كل المزاعم الصهيونية بالأدلة والبراهين والوثائق الحية الناطقة والمقرؤة التي عمل العدو الصهيوني على إقناع العالم الغربي بها على امتداد سنوات جثومه على أرضنا واحتلاله لها واثبات همجيته وإرهابه وقبل كل شيء وجوده غير الشرعي وعدم أحقيته في أي شبر من أرضنا فلسطين وانه مغتصب ومحتل عملت قوى الاستعمار الغربية على زرعه جسماً غريباً في خاصرة الأمة العربية والإسلامية تحقيقاً لمصالحها في المنطقة وما زالت هذه الدول تدعم هذا الجسم الغريب وتغذيه بكل عناصر القوة والتطور والتفوق النوعي.
هذه هي أهم وليست كل الشروط الواجب توفرها من اجل الحفاظ على شجرة الانتفاضة الطيبة شامخة وقوية وصامدة في وجه كل الأعاصير ورياح الدمار والسنة النيران وحمم البركان المستعرة التي تقذفها الآلة العسكرية الصهيونية من فوهات البنادق والمدافع والراجمات والدبابات والطائرات لتقتل وتجرح وتحرق وتدمر كل شيء حتى بسمة الأطفال وأمل الأشبال في العيش بأمن وأمان وسلام واطمئنان كباقي أطفال العالم.
http://www.al7aq.com المصدر:
ــــــــــ
الصبر واليقين طريق النصر والتمكين
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
حديثنا اليوم عن معادلة إيمانية نصها: "الصبر واليقين طريق النصر والتمكين ".(1/1218)
تلك المعادلة الإيمانية نطقت بها الآيات القرآنية، وشهدت بها الحوادث التاريخية، وصدقتها الوقائع الحاضرة، وتثبت كذلك في الوقائع المستقبلية.. ذلك أنها من سنن الله - عز وجل - ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
إن الإيمان إذا رسخ في القلب، وإن اليقين إذا تعمّق في النفس تولّد منه الصبر على ما يقّدره الله - عز وجل - من البلاء، وينبثق عن ذلك الثبات على نهج الرسل والأنبياء، ويؤسس كل ذلك على يقين راسخ برب الأرض والسماء، ثم لا يلبث الليل الطويل - من الظلم والعسف والطغيان - أن ينبلج بفجر النصر والعز والتمكين لأهل الأيمان، ولا تلبث القوى الأرضية - التي تتآمر على أهل الأيمان - أن تذهب ريحها، وتتفرق صفوفها، وأن يصبح بأسها بينها شديداً، وأن تكون حصاداً للأيدي المتوضئة تخلص منها البلاد والعباد وتدرأ شرورها عن هذه الحياة.
وإذا تأملنا في كتاب ربنا، وفي سيرة نبينا محمد صلي الله عليه وسلم، ثم نظرنا إلى واقعنا الذي نعيشه؛ فإننا نرى أن تشبث أهل الأيمان بإيمانهم وصبرهم على ما يلاقون في طريق الأيمان والدعوة والجهاد في سبيل الله وثباتهم دون تغيير ولاتبديل هو الذي يؤذن - بإذنه - سبحانه وتعالى- أن ينزل نصر الله - جل وعلا - وأن يعجّل به، وأن يعجّل بهزيمة أعداء الله - سبحانه وتعالى-.
والصبر واليقين هما عمادا الإمامة في الدين، والله - جل وعلا - يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
والله - سبحانه وتعالى- خاطب نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فاصبر إن وعد الله حق}.
الصبر لا يدوم، والثبات لا يستمر إلا عندما يكون القلب موصولاً بالله، والثقة عظيمة في نصر الله، واليقين لا يعتريه الشك في وعد الله - عز وجل -، وذلك يثبت المؤمن بإذن الله - عز وجل -، كما قال - سبحانه وتعالى-: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
وانظر إلى الأمر الرباني الذي يوصي أهل الأيمان بأن لا يحيدو عن نهجه قيد شعره، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا.. {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطو واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
إنه الصبر والمصابرة والمرابطة والاستمرار والثبات الموصول بيقين راسخ في الله - عز وجل -: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
ويأتي هذا الفلاح في صورة طمأنينة في القلوب، وسكينة في النفوس، وثبات في الأقدام، ووضوح في الحجة والبرهان في هذه الحياة الدنيا.
ثم كذلك يتجلى في صور من النصر، وفي صور من الظفر لم تكن تخطر على بال ولا ترتبط ولا تتلائم مع القوى الضعيفة والعدة القليلة لأهل الأيمان في مواجهة أهل الكفر والطغيان والعاقبة من بعد ذلك عند الله - عز وجل -: {جنات عرضها السماوات والأرض}.(1/1219)
وإذا أردنا إن نستقرئ الأحداث والشواهد من كتاب ربنا؛ فإننا نرى ذلك التصوير القرآني الفريد البديع، الذي يبيّن كيف ينبغي أن يرتبط المؤمن بإيمانه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة، مهما أدلهمت الظروف، ومهما تكالب الأعداء، ومهما حصل من أسباب هذه الحياة الدنيا يعيق عن المضي في طريق الله؛ فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يتراجع ولا أن يتخاذل مطلقاً.
انظر إلى الوصف الرباني لأهل الأيمان الصابرين {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالو إنا لله وإنا إليه راجعون} لم يلتفتوا إلى شرق ولا إلى غرب إذا حلت بهم النكبات، لم ينظروا إلى قوى الأرض ولكن التجأوا قوة رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض - سبحانه وتعالى-.
{الذين إذا أصابتهم مصيبة}لم يشكوا، لم يرتابوا، لم يغيروا، لم يبدلوا، لم ينافقوا، لم يداهنوا، لم يجاملوا في دين الله - عز وجل -، وإنما ظلت حبالهم موصولة بربهم، ويقينهم راسخ في دينهم، وثباتهم على كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، يقتفون في ذلك آثار الرسل والأنبياء {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
إنها المعادلة الإيمانية الآيات القرآنية، والسنة الربانية التي لا تتخلف ولا تتغير أبداً {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وانظر إلى قصة يوسف - عليه السلام - لترى هذه المعادلة الإيمانية واضحا ًفي قصة فردية، فإذا بيوسف - عليه السلام - من غيابة الجب وظلمته، إلى رحابة الأرض وسعتها، ثم إذا به من ذل الأسر إلى عزّ القصر، ثم بعد ذلك من ظلمة السجن إلى سدة الحكم.. ثبات وصبر وارتباط بالله، بإذنه - عزوجل - يفرج كل كرب، وينفس كل هم، ويزيل كل ضائقة
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وانظر إلى المثل الآخر في قصة جماعية، قصّها الله - جل وعلا - علينا من قصص الأمم الغابرة، وهي من أكثر القصص القرآنية تكرراً في كتاب الله - عز وجل -.. قصة فرعون، وهي متشعبة متعددة الجوانب متكاثرة في أسلوب عرضها في كتاب الله - سبحانه وتعالى-، ومن ذلك العرض الذي جاء إيجازه في بعض صور القران قوله - جل وعلا -: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.(1/1220)
هذه إرادة الله ولا راد لقضاءه وإرادته - سبحانه وتعالى- {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.
والله - سبحانه وتعالى- قد ذكر لنا من سيرة المصطفي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة كثيرة، غير أن منها مثلاً فريداً ظاهراً في هذا الأمر، في صبر أهل الإيمان ويقينهم بالله، وما يترتب على ذلك من النصر والتمكين لهم بإذن الله، وتتجلي هذه الصورة في أهل النفاق.. في ضعف يقينهم، وزوال أيمانهم، وفي حرصهم على دنياهم، وفي تخذيلهم للصفوف، وتفتيتهم لعرى الروابط في صفوف أهل الأيمان.. ذلكم هو الوصف القرآني لما كان من شأن الأحزاب الذين تألبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وليس أبلغ من وصف القرآن {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.
اجتمع عليهم شدة الخوف، مع شدة الجوع، مع شدة البرد، ولم يكن هناك بارقة أمل، ولم يكن هناك في نظر أهل الارض وأهل النظرات المادية مهرباً ولا منفذاً! إنما كان الفناء الماحق والهلاك المتحقق، وزلزلوا زلزالاً شديداً.
ثم يأتي وصف القرآن لأهل النفاق بعد إن مرت بهم هذه الظروف، فيقول - جل وعلا -: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}
كان أحدهم يقول: " إن محمد - صلى الله عليه وسلم - يعدكم بكنوز كسرى وقيصر، وإن أحدكم لا يستطيع إن يمضي خطوات ليقضي حاجته! ".
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا.. }.
أما لكم بهذه القوى المجتمعة والمؤامرات العظيمة والأسلحة الفتاكة والخطط المحكمة!
{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}
جبناً وخوفاً وهلعاً.. كفراً ونفاقاً، ولذلك جاء هذا الوصف القرآني يعري صورتهم، ويكشف حقيقتهم، ويضرب المثل بأشياعهم ونظرائهم في كل مجتمع إسلامي وفي كل زمان ومكان.. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً {14} وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
ذلك وصف أهل النفاق، فانظر إلى وصف أهل الصبر والإيمان واليقين، الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظل هذه المحنة العصيبة، وفي ظل محاصرة هذه القوى الرهيبة.. {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا(1/1221)
تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}
هذه مواقف المؤمنين.. هذه مواقف الصابرين.. هذه مواقف أهل اليقين، وهذه كلمات أهل الثبات، الذين لا يشكون لحظة في وعد الله، ولا يعتريهم التزعزع أو التردد في دين الله - عز وجل -، يظل الواحد منهم ثابتاً واقفاً راسخاً لا يتزعزع.. فعلى أي شيء انتهي الأمر؟ وبأي شيء انجلى الموقف؟
إنها الآيات القرآنية تذكر لنا في صورة رائعة مشرقة كيف كان نزول النصر، وكيف كان بداية التمكين، لم تردهم السيوف ولا القوى ولا الخطط، وإنما هي قوة الله - عز وجل -، وإنما هو نصر الله الذي تنزل {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.
هذا كتاب ربكم، وهذه سنة نبيكم، فهل أنتم في شك من دينكم؟
لابد أن نقوى اليقين بدين الله - عز وجل - وبوعد الله؛ إذ حيث تكالب الأعداء في هذا العصر فتّ ذلك في عضد بعض المؤمنين، وأضعف إيمانهم، والتمسوا الدنية في دينهم، وأعطوا التبعية لأعدائهم، ومنحوا بعض الذل والولاء والمداهنة لأعداء الله - عز وجل -.
وماذا بعد هذا؟ إنه مصير أهل النفاق يتكرر، أما إذا رجعت الأمة إلى ربها، وتذكرت ذلك الوصف القرآني {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
إذا مدّت الحبال مرة أخرى إلى الله.. إذا رفعت الأكفُّ مرة أخرى إلى الله.. إذا سجدت الجباه مرة أخرى ذله لله.. إذا ترابطت الصفوف وتوحدت الأمة على منهج الله؛ فإن نصر الله متنزل، وإن طريق التمكين ممهد.
لقد خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً، وجاهد بعد ذلك عشر سنين، وثبت - عليه الصلاة والسلام - ثم جاء بعد ذلك إلى مكة التي خرج منها مهاجراً عاد إليها فاتحاً وجاء بعصاه وهو يطيح بهذه الأصنام من حول الكعبة، ويقرأ قول الله - عز وجل -: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.
ولقد اعترى بعض صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - نوع مما يعتري النفوس البشرية، وجاءه خباب بن الأرت - وكان من المعذبين المضطهدين الصابرين في مكة وقال له: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟
فذكّره النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار ـ المنشار ـ فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط(1/1222)
بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)
ولذلك أريد أبيّن أن بعض مشاهد الواقع عندما يأذن الله - عز وجل - بأن تعود فئة من الأمة إلى ربها، وأن يسوق لها من الأحداث والمحن من يذكرها بحقيقة ضعفها وتقصيرها في إلتزامها دين الله - سبحانه وتعالى- أن ذلك يجسّد مره أخرى هذه المعادلة الإيمانية والسنة الربانية.
وانظروا إلى أحداث الأمة وإلى أشدّ قضاياها قساوة ومعاناة.. انظروا إلى كل الجرائم والفضائع التي تصبّ على المسلمين.. انظروا إلى بشاعة وفضاعة وقسوة أعداء دين الله - عز وجل -، ثم انظروا إلى ما انبثق في القلوب من صبره وما سكب ا لله عزوجل فيها من يقين، وما ثبت به الأقدام فلم تتزعزع والقلوب فلم تشك ولم ترتاب.
ثم انظروا إلى بعض الصور في هذه الوقائع: انظروا إلى إخواننا في البوسنة والهرسك.. انظروا إلى إخواننا في كشمير، إلى إخواننا في طاجكستان وفلسطين.. انظروا إلى شرق الأرض وغربها حيث يضطهد المسلمون، حيث يعذبون، حيث يحاربون.
انظروا.. فماذا ترى؟ قد يرى الرائي إذا نظر بغير منظار إيمان صورة سوداء أو شوهاء، ويدقّ في قلبه بأس عجيب، ويظن أن الأمر قد قضي، وأن الأمة لابد أن تتراجع وأن تتخاذل، وأن تعطي لأعدائها ما يشاؤون!
إلا أن الناظر بنظر الأيمان يرى مثل هذه الصور تتجلى من جديد.. إخواننا في البوسنة والهرسك الذين ظن الأعداء - الذين تكالبوا عليهم بصورة تشبه بل قد تكون أشد مما تكالب الأعداء يوم الأحزاب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءهم صرب وكروات، ومن ورائهم قوي عظمى، ومن ورائهم دول، ومن ورائهم حيل وسياسات ومؤامرات.. ومع ذلك مازال صمودهم وثباتهم بحمد الله - عز وجل - راسخاً! بل قد رجع كثير منهم إلى الله - عز وجل -، وأصبح لسان حالهم يردد: {إنا لله وإنا إليه راجعون}، وأصبح حالهم كأنه يمضى إلى تحقيق الوصف الرباني {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.
ولسان حالهم يذكرنا بما قص الله علينا من شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
هل ترونهم ينظرون إلى مدد من شرق أو غرب وهل تروهم يعتمدون على قوة مادية أو عسكرية.
ومع ذلك انظروا على ما فتح الله عليهم ومن النصر والإيمان، وقبل ذلك إلى ما سكب في قلوبهم من اليقين والطمأنينة، ومن رجوعهم إلى ربهم وصلتهم بمولاهم، وخضوعهم له - سبحانه وتعالى-..(1/1223)
وإذا بهم يرجعون إلى القرآن، وإلى حلق الذكر، وإذا بنسائهم يمضين في طريق فيه التذكر ولبس الحجاب.. وغير ذلك من الأمور.
ثم انظروا إلى ما فتح الله عليهم، فإذا بهم اليوم في الآونة الأخيرة ينتصرون، ويعجب المرء كيف ينتصر الضعفاء العزل المحاصرون الذين ليس في ديارهم ماء ولا كهرباء ولا كساء ولا غذاء، كيف يكون مثل هذا؟ كيف ينتصرون ويفتحون فآريس وخمس مدن وقرى كرواتيه، ويطردون عشرات الآلاف من أولئك الأراغل الأعداء؟
كيف يثبتون هذا الثبات في سراييفو العاصمة التي كل لحظة يتهدد أصحابها وسكانها الموت، إما برصاص وإما بقذاف وإما بجوع وإما بأية صورة من الصور.
يحصد الموت الناس حصداً، ومع ذلك تجد الواحد منهم يقول: " ثابتون صامدون، وبقضاء الله - عز وجل - راضون ".
وانظر إلى فضاعة أعداء الله - عز وجل - وإرهابهم وتطرفهم، وكل الأوصاف الذميمة التي يريدون إلصاقها زوراً وبهتاناً بأهل الإسلام والإيمان هي فيهم.
وكان الناس يذكرون الصرب، وأنهم ظلمة، وأنهم قساة، وأنهم طغاة، فجدد الكروات ما أنسى سيرة الصرب..
ونعلم قصة القرية التي أحرقوها عن بكرة أبيها ومن فيها من رجالها ونساها وأطفالها وبيوتها، حتي أذهلوا الناس والعالم أجمع، ومع ذلك ما فتّ ذلك في عضد أهل الأيمان، وما رفعوا أيديهم استسلاماً، وما قالو حسبنا هذا! وإنما قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل}.
وانظروا إلى إخواننا في كشمير اليوم، وهم قد حوصروا في أعظم مسجد من مساجدهم " مسجد حضرة أبال " يحاصره خمسة عشرة ألف جندي، والطائرات المروحية والقوات، ومنع التجول، وبعد ذلك يحصدون، وإذا بالحصاد في بضعة أسابيع يبلغ مئات، ومع ذلك ما يزالون صامدين، وما يزالون في أوج مواجهتهم وجهادهم، يتمسكون بالله - عز وجل - وبكتابه، وبهدى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ويثقون بالنصر ثقة ليس فيها شك.. حتى يقول قائد من قوادهم، وهو من زعماءهم الكبار: " إن الجهاد في كشمير ماضٍ في طريقة حتى نهايته المنطقية، وإن الشعب الكشميري قد وصل إلى منطقة اللا عودة ".
بل علماء الأيمان والإسلام في تلك الديار يحثون المؤمنين على الصبر والثبات والصمود، وعلى أن لا يضعفوا وأن لا يجبنوا أمام أعداء الله - عز وجل -، ويفتون بكفر من يكون عوناً للأعداء على المجاهدين والمسلمين في أرض كشمير المسلمة.
وانظروا إلى كل مكان، وانظروا إلى إخواننا في أرض الإسراء وما قد أثلجوا به صدورنا مما يظهرون من مظاهر القوة والاستعلاء {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.(1/1224)
صبر وثبات لا يتغير ولا يتبدل، مع استقامة على أمر الله وشرع الله والصياح والهتاف: " الله اكبر.. الله أكبر ".
والأيدي المرتفعة متوضئة، وهي ترفع في أيديها المصافح تغيرت بعض ملامح الأمة، فاصطلحت في بعض أحوالها وأشخاصها وديارها مع الله - عز وجل -، فجاءها بعض هذا النصر، وارتسمت لها بعض مسالك التمكين..
فالله الله في تجديد ما ذكر الله - سبحانه وتعالى- من هذه السنن، وأن تكون أوثق بالله - عز وجل -، أوثق بنصرة ووعده من كل شئ في هذه الارض ومن كل قوة في هذه الدنيا، والله لتعلمن نبأه بعد حين، والله منجز وعده، ومنزل نصره.
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
إذا تأمل العبد وجد الحكمة التي جاءت على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، تبين لنا الطريق وتعرفنا به، فلسنا في جهل وعماية، بل الأمر واضح بيّن.
فهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)
فليس الطريق مفروش بالورد، وليس على جانبيه أسباب الأمن والسلامة والسلام، وإنما هو الطريق الذي فيه ذلك البذل والصفق مع الله - عز وجل -: {اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ}
إنها السنة التي ذكرها الله - عز وجل - بقوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}
نعم أيها الأخوة نحن في وقت عصيب، وفي محنة شديدة، وإخواننا في مشارق الأرض ومغاربها يعانوا الأمرين من أعداء هذا الدين، الذين تظهر فيهم الآن صورة حقيقية واضحة لا غبش فيها، ولاشك فيها مطلقاً.. صورة تتجلى فيها صفات الكفر والكافرين؛ لما فيهم من عداء ومن قسوة ومن حقد حسد، ومن انعدام الإنسانية وانسلاخ الفطرة وانعدام كل معنى من المعاني الشريفة والقيم الفاضلة.. كل ذلك يتجسد واضحاً كما اخبرنا الله - عز وجل - به في قوله - جل وعلا -: {لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة}
والسؤال الذي يتبادر ألي أذهاننا، ونختم به هذه الوقفة هو ما دورنا؟ وماهي مهمتنا؟ هل نحن متفرجون أم نحن مشجعون؟(1/1225)
إن التشجيع لو أردنا أن نأخذه بمبدأ التشجيع الذي نعرفه في ميادين التشجيع المشهورة المعروفة هو في حقيقته موقف إيجابي، إن المشجعين نراهم بأم أعيننا لا يجلسون على مقاعدهم، بل كلما جرت حركة في الميدان تحركوا وقاموا، وإذا بهم أيضاً يهتفون، وإذا استدعي الأمر يغضبون، وإذا استدعي الأمر بعد ذلك ربما يتحركون وينصرون أو يشتبكون.
أن هذا لم يكن منهم إلا من تحريك قلوبهم وتحرقها وحماستها ومحبتها وغيرتها.. أفيكون ذلك في أمور من اللهو أو في أمور عارضة من أسباب هذه الحياة ومن زينتها ومن زخرفها، ولا يكون ذلك في أمر من أعظم أسس الحياة، ومن أعظم مهمات الإنسان المسلم في هذه الحياة في أمر دينه وأمته وإخوانه المسلمين!
إنه لابد إن تنبض هذه القلوب بالمحبة، وأن تمتلئ بالولاء والنصرة، وأن تعظم فيها الغيرة على دين الله والحرقة والأسى والحزن على أحول الأمة، ولا يكون ذلك ونحن ساهون لا هون، ونحن نملأ البطون ونضحك ملء أشداقنا، ونأكل ملء بطوننا، وننام ملء عيوننا.. فما ذلك حال المشجعين الذين نعرفهم؟
إن أولئك يسعون إلى الميادين لينظروا، فاسعوا إلى أن تعلموا أخبار إخوانكم، وأن تعرفوا أحوالهم، وأن تكونوا بعد ذلك ورائهم قلباً وقالباً، بدعاء في السحر وفي جوف الليل وفي أدبار الصلوات وفي سجودها، حتى يأذن الله - عز وجل - بأن ينصر وأن يُمكّن.
وكونوا أيضا مع إخوانكم بأموالكم وبدعمكم وبذلكم في سبيل الله - عز وجل -؛ فإن الجهاد بالمال من أعون أسباب النصر لهذه الأمة ولإخواننا المجاهدين والمضطهدين في كل مكان.
وليكن لنا من وراء ذلك أيضاً ما نتحرك به لنصرة هذا الدين، ببيان الدروس والعبر، وبيان المواقف المشرقة، وبيان المواقف البطولية الإستشهادية، التي يظهر فيها عيوب كفة القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة في مواقع شتى في أماكن عديدة.. إذا بنا نرى صوراً تنشرح لها صدور المؤمنين، ويفرح لها أهل الأيمان عندما نرى آلاف أم من أعداء الله وهم يخشون واحداً أو اثنين إذا كبر أحدهم، أو إذا صاح بآية من آيات القرآن الكريم، وإذا بالصفوف تنفلّ، وإذا بالجموع تتفرق، وإذا بواحد أو فئة قليلة تنصر بإذن الله - عز وجل - كما وعد الله - عز وجل - في كتابة الكريم.
لابد أن ننقل هذه الأخبار المفرحة حتى يزول بعض اليأس الذي عرى النفوس وغزى القلوب؛ فإن المؤمن لا ييأس من روح الله، ولا ييأس من روح الله لا القوم الكافرون والقانطون، وليس المؤمن بكافر ولا قانط، إنه واثق بنصر الله وثقته بالله - عز وجل - عظيمة.
ينبغي أن نلقن الأمة وأن نشيع في صفوفها هذه الدروس، وينبغي أن نرتقي بمستوانا ومستوى من حولنا ومستوى من حولنا عن سفاسف الأمور وصغائرها؛ فإنه لا يليق أن تكون الأمة محاصرة، وأن يكون أعداء الله قد جدوا لحربها وفي إنزال البلاء بها، ثم يكون انشغالنا بالدون من الأمور، وبالتافهة(1/1226)
من القضايا، دون أن تكون مهمتنا هي أن ننصر ديننا، وأن نحمي أمتنا، وأن نرعى نشأنا، وأن ننشئ جيلنا نشأة تجدد لنا ذكر أبى بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة وأئمة الأمة من سلفها رضوان الله عليهم.
إن بإمكاننا أن نظهر في نفوسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا نصر الله - عز وجل - فيتنزل علينا بإذنه - سبحانه وتعالى- النصر {إن تنصروا الله ينصركم}
ونصركم دين الله - عز وجل - يكون أول شيء باستقامتكم على أمره.. بالتزامكم حكمه.. باتباعكم هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثبات الثبات.. لاشك ولا ريب، ولا مداهنة ولا نفاق، ولا تراجع ولا ضعف، وإنما هو المضي وذلك هو الذي كان ويكون في كل وقت وآن، كلما ازدادت المحنة وكان الأيمان عظيماً كلما ازداد أثر هذا الإيمان وتجلت صورة وظهرت آثاره وأشرقت أنواره، فإذا بها تبدد بعد ذلك كلما يعتري النفوس من ضعف أو خور أو ذلة أو قنوط ويأس..
وذلك ما ينبغي أن يكون فيما بيننا، وأن نشيعه في صفوفنا؛ فإن هذه الأمة لم ولن تهزم قط مادامت متمسكة بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وفي أتون المحنة وشدتها في وقعة الأحزاب كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع خبر خيانة اليهود، وكان خبراً كالطعنة النجلاء من الخوف قال: (الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا).
البشارة بأنه علم أن الأمة مؤمنة بربها، وواثقة بالرسول؛ ولأنها أمة ملتحمة متلاصة متوحدة فلا خوف عليها من أعداءها، وإنما الخوف من أنفسنا.. من ضعف إيماننا.. من كثرة معاصينا.. من تفرق صفوفنا.. من مجاهرتنا بالمعصية لله - عز وجل -.. من إعطائنا ولاءنا لغير الله - سبحانه وتعالى-، ولغير عباد الله المؤمنين..
هنا يكمن الخطر، وهنا تأتي الثغرات.. فالله الله في دينكم، والله الله في نصرة إخوانكم، والله الله أن يؤتي هذا الدين من قبلكم، فليكن كل منكم على ثغرة، وليكن كل منكم قائم بأمر الله - عز وجل - في نفسه أهله ومجتمعه؛ حتى يعجّل الله - عز وجل - بالنصر والتمكين إنه الولي على ذلك والقادر عليه.
http://islameiat.com المصدر:
ــــــــــ
الجهاد طريق النصر
خالد الشريف
قانون الغاب الإسرائيلي لا يعرف الرحمة ولا الرأفة، قانون غاشم يقابل انتفاضة الحجر بالمدفع والرشاش ويواجه هتافات التنديد بالطائرات والدبابات، إنه قانون الإجرام اليهودي لا يختلف على مر(1/1227)
العصور ولا يتبدل عبر القرون من مذبحة دير ياسين إلى مجزرة تل الزعتر ومن مذبحة كفر قاسم إلى شهداء الأقصى إلى اغتيال الراكعين الساجدين في المسجد الإبراهيمي بالخليل إنها أيد ملوثة بدماء الأنبياء وقلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة. الشجر والحجر يشهدان على إرهابهم وإجرامهم في حق الإسلام والمسلمين فهؤلاء لم يتركوا حرمة إلا انتهكوها ولا براءة إلا اغتالوها لذلك سيشهد عليهم الحجر والشجر وسيناديان يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله. إن العالم كله يعلم أن اليهود مصاصو دماء والبشرية كلها تعرف أن اليهود قلوبهم تقطر حقداً على البشرية كلها وليس على المسلمين وحدهم لكن العالم يكتفي بالفرجة على المجازر وبمصمصة الشفاه على الضحايا أما العرب وأهل الإسلام فلا يعرفون سوى الشجب والاستنكار وحرق الأعلام الإسرائيلية. لكن طريق النصر غير ذلك، طريق العزة الذي رسمه الإسلام ووضحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطريق النصر هو الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام ومناط العزة والكرامة يقول الله - عز وجل - في كتابه العزيز في سورة الحج {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن لله من ينصره إن الله لقوي عزيز} ألا يكفي الأمة وهي ترفع راية الجهاد ضد القردة والخنازير من اليهود أنها تلقت الوعد والنصر من الله رب العالمين ولم تتلق الوعد والنصر من أمريكا أو من روسيا إنما تلقت التأييد والنصر من الله وحده والله لا يخلف وعده. إن جهاد إسرائيل اليوم أصبح ضرورة حتمية فضلاً عن أنه فريضة
ربانية فإسرائيل لن يكفيها فلسطين أو الأقصى إنما تسعى لتحقيق ملكها المنشود من الفرات إلى النيل فلا يوقف غطرستها ويحطم حلمها سوي الجهاد في سبيل الله فالجهاد هو السبيل الوحيد للثأر من قتلة الأطفال في الأراضي المحتلة، والجهاد هو الرد المناسب على من سفكوا دم الطفل الفلسطيني محمد جمال الدرة ولم يرحموا صراخه.
الجهاد هو الحل لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن قبل ومن بعد الجهاد هو طريق النصر.
http://www.almuhayed.com المصدر:
ــــــــــ
رمضان شهر النصر
زيد بن فالح
أمة الإسلام أمة صائمة مجاهدة تستفيد من مدرسة الصوم مدرسة الجهاد ويوم يضعف فيها وازع الصوم ستنحل فيها عزيمة الجهاد وطالما هي صائمة الصوم الحقيقي فهي مجاهدة ولهذا كانت معظم انتصارات المسلمين في رمضان.(1/1228)
ففي السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان وتم أعظم انتصار للإسلام على الشرك في أول مواجهة عسكرية وكان هذا الانتصار منعطفاً في سير التاريخ إذ مكن للدعوة وفرض سيطرة القلة المؤمنة وأثبتت وجودها بعد أن قمعت أعتى قلاع الشرك وأقواها.
وفي رمضان في اليوم الحادي والعشرين من السنة الثامنة للهجرة تم الفتح الأعظم فتح مكة على يد النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ خرج - صلى الله عليه وسلم - بعشرة آلاف من أصحابه يريد غزو قريش لما نقضوا صلح الحديبية فدخل مكة مؤزراً منصوراً دخلها خاضعاً لربه مطأطئا رأسه تواضعاً وتعظيماً لله رب العالمين وطاف بالبيت وكان على البيت وحوله ثلاثمائة وستون صنماً فجعل - صلى الله عليه وسلم - يطعنها بقوس في يده ويقول: ((جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً))، وبهذا الفتح العظيم فتح مكة سقطت دولة الأوثان وارتفعت رايات الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله - تعالى - قول الحق: ((إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً)).
وإلى غير ذلك من المعارك الفاصلة التي خاضها المسلمون في رمضان ضد أعدائهم ومن أهمها ما خاضه البطل المسلم صلاح الدين ضد الصليبيين ومعركة عين جالوت التي سحق فيها المسلمون زحف التتار الهمجي وفي زماننا الحاضر وعهدنا المعاصر وفي العاشر من رمضان سنة 1393هـ تقدم الجنود المصريون والمسلمون فعبروا قناة السويس ودمروا وهم يهللون ويكبرون خط بارليف أقوى خط دفاع عرفه العالم في القرن العشرين وقبل أن تتدخل القوى الكبرى ويتوقف القتال لصالح اليهود كان الجنود المسلمون قد اجتاحوا مواقع بني إسرائيل في معظم سيناء، ولئن كانت معركة العاشر من رمضان هذه لم تؤت إلا على قدر الجهد المبذول والنيات الدافعة فإن ذلك يؤكد أن القدس والمسجد الأقصى لن يحررها سوى جيش من المؤمنين الصادقين الذين لا يريدون إلا الموت في سبيل الله لا القومية المنتنة ولا الوطنية الزائفة، إن تلك المعارك والانتصارات في عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان والتي كانت في رمضان شهر العبادة والنصر هي أكبر حافز للمسلمين لكي يكرروا تلك الانتصارات ويعيدوا مسيرة السلف الصالح والتي تتم بالشجاعة والبطولة ولاسيما في هذه الأيام والتي يعيش فيها المسلمون والمسجد الأقصى تحت وطأة وتسلط اليهود الظالمين الجبناء.
حقاً إنهم جبناء! لقد أزعجهم وأقضى مضاجعهم المجاهدون رغم أنهم يملكون كافة أنواع الأسلحة المتطورة.
فهم يخافون من الإسلام والمسلمين يخافون من الجهاد والمجاهدين لقد أجري لقاء صحفي مع الخبيث ارييل شارون قبل فترة قصيرة فقال: إننا نخاف أن يخرج لنا صلاح الدين الثاني فقال له الصحفي: كيف يكون ذلك والمسلمون متفرقون ومختلفون فقال شارون: إن صلاح الدين الأول خرج وجاهد(1/1229)
في وقت كان فيه المسلمون يعانون من التفرق والاختلاف والتفكك فالله أكبر والحق ما شهدت به الأعداء، النصر قريب وآت بإذن الله فتفاءلوا أيها المسلمون واعلموا إن الله ناصرٌ دينه ومعل كلمته وهازم أعداءه قال - عز وجل -: ((إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)).
http://www.suhuf.net.sa المصدر:
ــــــــــ
مؤهلات النصر والتمكين
صلاح عبد المعبود
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن الذي يتطلع إلى تمكين الله - تعالى - للمؤمنين في الأرض، يحتاج إلى العزيمة التي لا يتطرق إليها وهن، وكذلك طرح اليأس والضعف جانبًا، فهذا سبيل المجاهدين وتلك غاية الصابرين والمؤمنين من أهل الثبات واليقين.
وما دامت الأمور بيد الله يغيرها كيف يشاء فإن اليأس بضاعة الكسالى وخائري العزائم، والله وعده حق وصدق، وما على أهل الإيمان إلا تحقيق الإيمان فهو مؤهل النصر والتمكين.
وإن الناظر إلى فجر الإسلام وأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الدين في مهده ليظن أنه لن تقوم لهذا الدين قائمة، ولا سيما أنه دين عالمي خالد، ولا نبي بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم الدين، فبعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة في مكة لم يتجاوز المؤمنون به المائة من العدد، ولكنه مع ذلك صبر هو ومن معه من المؤمنين، ولم يتسرب إلى قلوبهم يأس أو قنوط، فقد كانت ثقتهم في وعد الله لا حدود لها، وقد استقر في قلوبهم أن الحق منصور ولو بعد حين، فقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الهمة العالية والرجاء في الله وحده والاستعانة به والتعلق بجنابه والاحتماء بركنه وسلطانه وعدم الركون إلى الأسباب الظاهرة أو الاكتراث بقلتها أو كثرتها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "استعن بالله ولا تعجز". وقال في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".
{رواه مسلم}
النصر مع الصبر
والله - تعالى - يفيض على قلب عبده المؤمن الطمأنينة والسكينة على قدر المصيبة والبلاء، فإذا بالمؤمن يتحمل من المتاعب والمشاق ما لا يطيقه عشرات الرجال مجتمعين، ولا يصيغه الله هذه(1/1230)
الصياغة إلا إذا وجد منه حسن الإقبال والتوجه إليه في المنشط والمكره وصدق التوكل عليه في الصغيرة والكبيرة.
وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن النصر مع الصبر، والفرج من الكرب، وكلما استحكمت حلقات البلاء زاد إقبال المؤمنين على الله وطال وقوفهم على بابه وذلك هو بداية الفتح المبين، ولكن المسألة تتوقف على عنصر الزمن وحده، وهذا أمر موكول إلى الله - تعالى -، فإذا رأى منا خيرًا وهمة عالية في الدعوة إليه والتقرب منه وطول القيام بالليل بين يديه وكثرة البكاء والتضرع والدعاء، فستصير دفة الأمور إلى ما يحبه أولياؤه وعباده المؤمنون، وسيورثهم الأرض وما عليها، ويُمكِّن لهم فيها كما وعدهم - سبحانه - بقوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {النساء: 105- 107}، وإن الله أمرنا بالقيام على الشرط حتى يوفي لنا بالموعود، فإذا تأخر تحقيق الموعود فلا ينبغي لنا أن نتعجل وعد الله وإنما نطالب أنفسنا بالصدق في امتثال الأمر، فإذا صدقنا مع الله أعطانا ما وعدنا، والله لا يخلف الميعاد، فتأخير النصر منا وليس من الله، وإلا فكيف ينتظر الإجابة من سد طرقها بالمعاصي؟!
فمن ينشد مجتمعًا تضبطه شريعة الله وتتوق نفسه إلى حياة طيبة يقودها الإسلام ويضبط خطاها فلابد من التضحية بكل غال لتحقيق ذلك، فإن الأماني لا تصبح واقعًا ملموسًا إلا إذا كان وراءها تضحيات بمحبوبات النفس وشهوات الحياة. وإن الداعية إذا ضحى من أجل دينه وأخلص لله؛ لاقت دعوته قبولا، لأنه يدعو الناس إلى معروف يجتهد في تحصيله وينهاهم عن منكر قد نأى بنفسه وأهله عنه، فحينئذ لا يخالف قوله فعله، فيكون ذلك أرجى لطاعته وقبول النصح منه قناعة بأن هذا الداعي ليس بكاذب وأنه لا يدعو إلى أمور هو أبعد الناس منها.
إن الله - تعالى - جعل أوامره ونواهيه في حدود طاقة البشر، وما جعل علينا في الدين من حرج، وأخبرنا أن العبد إذا تقرب منه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، وإذا تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، وإذا أتاه يمشي أتاه هرولة، وفي هذا دلالة على أن العبد إذا قدم ما يستطيع من تضحية رجاء ثواب ربه وطمعًا في جنته فإن الله يتقبل منه ويعده بالمزيد ويمده بالعون والتأييد، فمن بذل لله ما يستطيعه رزقه الله ما لا يستطيعه، فما على العبد إلا البذل ما استطاع ابتغاء وجه ربه الكريم وبعد ذلك فالنتائج على الله وحده.
والله - تعالى - كما تعبدنا بالغايات فإنه تعبدنا أيضًا بالوسائل، فلا ينبغي لمؤمن أن يبتكر من عنده في دين الله شيئًا بزيادة ولا نقصان، فإن الله - تعالى - قد أتم النعمة وأكمل الدين ورضي لنا الإسلام دينًا.
التضحية وأثرها في بلوغ الغايات(1/1231)
والتضحية في حياة الأنبياء وأتباعهم أصل مشترك، فالأنبياء خرجوا إلى أقوامهم ليبشروهم وينذروهم في نواديهم ومجامعهم ويبلغوهم أوامر ربهم وقد تحملوا في سبيل ذلك صنوفًا من الأذى والبلاء من أناس قد تحجرت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فكم بذل الأنبياء من جهد، وعلى أتباع الأنبياء الإقتداء بهم والسير على سلوكهم.
وإن التضحية لها نور ينقدح في القلب فيزيل عنه غشاوة الباطل، فيرى الحق جليًا واضحًا لا غموض فيه، ومراتب الرجال توزن على قدر تضحياتهم من أجل الدين، فلا يصل إلى هذه القمة فصيح أو بليغ بفصاحته وبلاغته، ولكن الميزان الصحيح هو ميزان التضحية من أجل هذا الدين، والذي رجح به إيمان أبي بكر رضي الله عنه على إيمان الأمة بأسرها هو تضحيته الكاملة لنصرة دين الله، حتى إنه لو وضع إيمان أبي بكر في كفة وإيمان الأمة في كفة ليس فيها رسول الله لرجح إيمان أبي بكر فهو أول من ضحى من الرجال، ومواقفه لنصرة هذا الدين ليست من الخفاء بمكان.
فإذا أراد الله - تعالى - لدعوة أن تحيا وتدوم قيض لها من عباده المؤمنين الصالحين من يرويها بدمه ويفديها بنفسه، قال - تعالى -: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون {الحجرات: 15}، والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين {العنكبوت: 69}.
والله من وراء القصد.
http://www.altawhed.com المصدر:
ــــــــــ
انهيار " إسرائيل " لا يكفي لتحقيق النصر
كثيرًا ما يطرح هذا السؤال، وللإجابة عليه سنذكر بعض الإحصاءات ذات الدلالة الاجتماعية الخاصة بالتجمع الصهيوني، والتي تبين معدلات التآكل الداخلي.
من المعروف أن مؤسسة "الكيبوتس" كانت هي العمود الفقري للتجمع الصهيوني. فمعظم أعضاء النخبة السياسية الحاكمة - بل الثقافية - كانوا من خريجيها (حتى عام 1977). ولكن الكيبوتس تعرض لكثير من الأزمات وتغير طابعه العام، بل فقد شيئًا من طابعه الجماعي العسكري. وقد نشرت جريدة يديعوت أحرونوت (2 يناير/كانون الثاني 2000) ما يلي:
"أعلنت أمس هيئة مكافحة المخدرات أن تعاطي المخدرات الخفيفة في مزارع الكيبوتس قد تضاعف خلال خمس سنوات، حيث قام 23. 5% من أبناء الكيبوتس ممن تراوحت أعمارهم بين 18 - 30 سنة بتعاطي مخدرات خفيفة خلال عام 1998 مقابل 11. 4% تعاطوا الحشيش والماريجوانا خلال عامي 1992 - 1993. وكان البحث قد أجري في 22 كيبوتسًا، وشمل 662 فردًا بناء على طلب من هيئة مكافحة المخدرات(1/1232)
تفاقم الخمر والمخدرات
وماذا عن المجتمع "الإسرائيلي" ككل؟ أشارت معطيات جديدة نشرت في تل أبيب إلى تفاقم ظاهرتي معاقرة الخمر وتعاطي المخدرات بين صفوف تلاميذ المدارس "الإسرائيليين". وذكرت صحيفة معاريف (5 يونيو / حزيران 2000) أن استطلاعًا خاصًّا أجرته وزارة العمل والرفاهية الاجتماعية "الإسرائيلية" لحسابها مؤخرًا أظهر أن 37% من تلاميذ صفوف العاشر في المدارس "الإسرائيلية" معتادون على تناول الخمر، وأن 8% من التلاميذ المعتادين على "الشرب" أبلغوا أنهم يستهلكون مرارًا في المساء الواحد ست كؤوس من الخمر.
من جهة أخرى يتضح من معطيات صادرة عن "مجلس سلامة الطفل في "إسرائيل"" أن ارتفاعًا بنسبة 30% قد سجل خلال عام 1999 على عدد الشبان "الإسرائيليين" القاصرين الذين وجهت إليهم تهمة الاتجار بالمخدرات.. حيث قدم في عام 1998 ما مجموعه 417 لائحة اتهام ضد شبان ضُبطوا يمارسون تجارة المخدرات وحيازتها لغير أغراض الاستهلاك الذاتي، وقد ارتفع عدد لوائح الاتهام المماثلة الموجهة في عام 1999 إلى 556 لائحة اتهام".
تآكل الحياة العائلية
والحياة العائلية في التجمع الصهيوني في حالة تآكل، فقد ذكرت جريدة معاريف (25 يناير/كانون الثاني 2000) أن من بين كل 3 حالات زواج يكون مصير حالة منها الطلاق. وقد طرأت زيادة بنسبة 15% في عدد حالات الطلاق بإسرائيل منذ عام 1990. واستمرت هذه الزيادة أيضًا خلال السنة الميلادية الماضية، حيث سجلت زيادة بنسبة 1% في عدد حالات الطلاق (نحو 8. 604 حالات). وتتصدر منطقة تل أبيب "قائمة الطلاق"؛ حيث وقعت بها 3. 016 حالة طلاق عام 1999 بزيادة قدرها 21% مقابل عام 1998.
وقد ذكر ملحق هآرتس 9 مايو/ أيار 2000 أن عدد السيدات اللاتي أنجبن خارج إطار الزواج ارتفع من واحد لكل مائة حالة إنجاب في السبعينيات إلى 1. 8 لكل مائة حالة إنجاب في عام 1994. وفي نفس الشهر أشارت جريدة يديعوت أحرونوت إلى أنه قد طرأت زيادة بنسبة 50% في عدد حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الأسرة، كما طرأت زيادة بنسبة 25% في عدد حالات الجرائم الجنسية التي يتعرض لها الصغار خارج نطاق الأسرة في عام 1999.
معدلات عالية من العنف
والتآكل الأسري عادة ما يؤدي إلى تزايد معدلات العنف بين الأطفال والشباب. وبالفعل ذكرت جريدة يديعوت أحرونوت (24 مايو/ أيار 1999) أن الإحصاءات تشير إلى معدلات عالية من العنف في كل المجالات وجميع المراحل السنّية وكل شرائح السكان. وكشف كثير من التلاميذ عن تعرضهم للعنف اللفظي والبدني. ويعتبر العنف البدني هو الأكثر ذيوعًا بين تلاميذ المدارس الابتدائية،(1/1233)
بينما يقل معدله مع اقترابهم لسن البلوغ. واكتشف الباحثون أن الاعتداءات البدنية البسيطة هي الأكثر انتشارًا، وإن كان معدل السلوك المتطرف ليس هينًا.
وأضافت الصحيفة أن أكثر من 50% من تلاميذ الصفوف من السادس إلى العاشر كانوا مشتركين في العنف بصورة ما. وأكثر من 60% من التلاميذ اشتركوا في أعمال بلطجة تجاه زملاء لهم أو كانوا ضحايا لأعمال عنف. واشترك حوالي 15%: 20% في مستويات أكثر خطورة من العنف، وأصيب حوالي 14% خلال مشاجرات وكانوا في حاجة إلى علاج طبي.
وفي محاولة تفسير ظاهرة العنف نشر مقال في جريدة هاتسوفيه (7 إبريل/نيسان 2000) بعنوان "فناء مدرسة أم ساحة قتال؟ " يبين أن العنف بين الشباب لم يأتِ من فراغ، بل إنه تغذى من العنف ذي المستوى المرتفع في مجتمع البالغين، وبصفة خاصة من اللامبالاة تجاه مظاهر العنف في السلوك “الإسرائيلي”.
الشذوذ الجنسي أصبح مقبولا
ثم نأتي أخيرًا للشذوذ الجنسي، ورغم أن اليهودية الحاخامية التقليدية تحرّمه، فإن معظم المذاهب الدينية اليهودية المعاصرة مثل اليهودية الإصلاحية والمحافظة، قد تقبّلته وقنّنت له، بل أنشأت مدارس دينية خاصة لتخريج الحاخامات الشواذ جنسيًّا. وقد أبرم حاخام إصلاحي عقد زواج بين رجلين أمام حائط المبكى عام 1998، وكان هذا يُعَدّ انتصارًا لحرية الرأي.
والشذوذ الجنسي أصبح مقبولاً في المجتمع “الإسرائيلي”، فعلى سبيل المثال: بينيك الذي يلبس دبلة الزواج الآن، سيتزوج من صديقه العام المقبل. يقول بينيك (كما جاء في ملحق صحيفة هآرتس 14 إبريل / نيسان 2000): وضع الشواذ جنسيًّا في “إسرائيل” الآن أفضل من الناحية القانونية والتشريعية، وهو من أفضل الأوضاع على مستوى العالم. نحن متساوون تقريبًا مع الدول "المتقدمة" في العالم مثل: الدانمارك، وهولندا، فلا يوجد في “إسرائيل” قانون يمنع أن تكون شاذًا جنسيًّا، ولا يوجد قانون يمنع اللواط. بالعكس هناك قانون المساواة في فرص العمل تقوم المحاكم بدراسته ويردع أصحاب الأعمال عن التمييز ضد الشواذ. في كل مرة يحاولون التمييز ضدنا تصدر المحاكم حكمها لصالحنا. وبالإضافة إلى ذلك نحن في طريقنا نحو إصدار قوانين التبني التي تسمح للشواذ بتبني الأطفال. وهو يعتقد بأن الشواذ وحلفاءهم من أعضاء منظمات حقوق الإنسان سينجحون خلال عشر سنوات في أن يكون التشريع “الإسرائيلي” عادلاً تمامًا، بما في ذلك الاعتراف بالزواج بين الشواذ.
ولعل تقبل المجتمع “الإسرائيلي” للشذوذ الجنسي يظهر في أن عدد السحاقيات في “إسرائيل” اللاتي أنجبن أطفالاً (من خلال عمليات معملية مختلفة) هو الأعلى في العام (هآرتس 9 مايو /أيار2000)، ولعل هذا يعود إلى محاولة الجيب الاستيطاني تجاوز أزمته الديموغرافية.
ولكن.. الانهيار لن يأتي من الداخل!!(1/1234)
والآن بعد أن ذكرنا هذه الأرقام والإحصاءات يمكننا أن نطرح السؤال الذي طرحناه في بداية المقال، هل هذا يعني أن المجتمع "الإسرائيلي" سينهار من الداخل، كما يمني البعض نفسه؟ الإجابة على هذا ستكون بالنفي القاطع للأسباب التالية
مقومات حياة التجمع الصهيوني لا تنبع من داخله وإنما من خارجه، فهو مدعوم ماليًّا وعسكريًّا وسياسيًّا من الولايات المتحدة والعالم الغربي والجماعات اليهودية فيه؛ ولذا فهو لا يمكن أن ينهار من الداخل!.
يتسم المجتمع "الإسرائيلي" بالشفافية، وبالتالي حينما تتضح ظواهر سلبية فإنه يقوم بدراستها والتصدي لها أو التكيف معها
توجد مؤسسات ديمقراطية وعلمية يمكن لكل قطاعات السكان في التجمع الصهيوني أن يقدموا الحلول من خلالها
ثبت أن كثيرًا من المجتمعات يمكنها أن تعيش في حالة أزمة عشرات بل مئات السنين، طالما أنه لا يتحداها أحد من الخارج. وأعتقد أن الحاسوب (الكمبيوتر) يساهم في هذه العملية؛ إذ يمكن للإنسان المتفسخ بشريًّا أن يستمر في العمل من خلاله، وأن يطلق الصواريخ التي تصيب أهدافها بدقة بالغة حتى لو كان شاذًّا جنسيًّا أو تعاطَى الخمور والمخدرات في الليلة السابقة
إن القضاء على الجيب الاستيطاني لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجهاد اليومي المستمر ضده، وما نذكره من عوامل تآكل في التجمع الصهيوني هي عوامل يمكن توظيفها لصالحنا، كما أنها تبين لنا حدود عدونا وأنه ليس قوة ضخمة لا تُقهر، لكنها في حد ذاتها لا يمكنها أن تُودي به أو أن تؤدي إلى انهياره. يجب ألا تخدعنا الأرقام الصماء وألا نتصور أنها الحقيقة، فالأرقام مجرد حقائق، والحقيقة غير الحقائق، فهي ثمرة اجتهاد إنساني، وليس مجرد تلقٍّ ببغائي. واجتهادنا في قراءة الحقائق يؤكد أن الجهاد ضد العدو ضرورة.
والله أعلم.
10-4-2001
http://www.elmessiri.com المصدر:
ــــــــــ
عوامل النصر في القرآن الكريم
عبد العزيز التميمي
إن هذه الأمة أمة منصورة من ربها، موعودة بالتمكين والاستخلاف في الأرض بوعد الحق الذي لا يخلف، في آيات كثيرة من القرآن، كما قال الله - تعالى -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا(1/1235)
لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]. وقال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
ومهما تكالب أعداؤها، وأحكموا كيدهم، وأجمعوا أمرهم؛ لإطفاء نور الحق والهدى فلن يحظوا بذلك، وهيهات وقد قال الله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].
وقد بشرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الدين سينتشر في أنحاء الأرض قاطبة حتى يدخل كل بيت في المعمورة كما في حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزاً أو بذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر»(1).
إن هذه النصوص المبشرة جزء من عقيدتنا التي يجب أن نؤمن بها إيماناً تاماً لا تخالطه الشكوك ولا تساوره الظنون مهما طال ليل المحنة؛ فإن وعد الله آتٍ عما قريب {أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. بل إن هذا اليقين الكامل بنصر الله هو أحد عوامل النصر المهمة، ولذا ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما تشتد الكروب وتلم الخطوب يُذكِّر بهذه الحقيقة؛ فذلك يبعث الأمل ويحيى الهمم، ويجدد العزم على العمل، كما فعل في غزوة الأحزاب وقد رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فقد بشر أصحابه بفتح بلاد فارس والروم، كما بشر في حادثة الهجرة وهو مطارد خائف بفتح بلاد فارس، وكما طمأن صاحبه الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وهما في الغار بقوله: {لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
إن المؤمنين حينما تحيط بهم الملمات لا تزيدهم إلا ثباتاً ويقيناً وتسليماً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]. أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فما أسرع ما يتزلزلون ويشكون بصدق وعد الله عند أدنى محنة أو نازلة: «{وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12]. غير أن النصر الذي وعدت به هذه الأمة لا يناله إلا من أدى ثمنه وقام بأعبائه؛ فإذا وجدت أسبابه وانتفت موانعه تحقق النصر بإذن الله، وإن تخلف منها شيء فربما تخلف النصر، ولله عاقبة الأمور.(1/1236)
وقد تتبعت عوامل النصر في القرأن الكريم ـ حسب استطاعتي ـ المبثوثة في مواضع كثيرة، لا سيما في سورة آل عمران والأنفال، وسلكت فيها مسلك التفسير الموضوعي، مذكراً بها نفسي وإخواني في هذه المرحلة التي نتلمس فيها طريق النصر مع اشتداد ظلمة الليل وتوالي الكروب وتكالب الأعداء {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
العامل الأول: تقوى الله والإحسان في عبادته؛ وذلك بطاعته وترك معصيته:
وعد الله من اتقاه بأن ينصره على عدوه وتكون معية الله له الخاصة المقتضية للنصر والتأييد كما قال الله - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. [التوبة: 123].
فلما أمرهم بقتال المشركين جميعاً(1) وقتال من يليهم من الكفار وكان في ذلك من المشقة والتعب وبذل المال وتعريض النفس للتلف ما لا يخفى، مع احتمال غلبة جند الباطل وانتصارهم عليهم، أرشدهم إلى أنه معهم بنصره وتأييده وتوفيقه، يسددهم.. إذا هم اتقوه حق التقوى؛ فشرط النصر والتأييد هو التقوى، وقد صرح الله به في موضع آخر فقال: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124 - 125]. فالملائكة ستنزل لنتنصرهم إذا هم حققوا الشرط: الصبر والتقوى.
إن مؤامرات الأعداء ومكائدهم ومكرهم مهما كثرت وتنوعت ومهما بلغت من الإتقان لن تضر المسلمين ولا المجاهدين شيئاً إذا هم صبروا واتقوا(2)، كما قال الله - تعالى -: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]. فيتقي المسلمون كل ما حرم الله عليهم ومنه موالاة الكفار والركون إليهم والله كافيهم وهو حسبهم. وتجدر الإشارة هنا إلى آية قد تشكل على هذا المعنى وهي قوله - تعالى -: {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111]. حيث أثبت الضرر بالأذى ونفاه هناك؛ فكيف الجمع بينهما؟ قال الطاهر ابن عاشور: «وقوله: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، أي بذلك ينتفي الضر كله؛ لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذى؛ فالأذى ضر خفيف، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضر هيّناً؛ وذلك بالصبر على الأذى وقلة الاكتراث به مع الحذر منهم أن يتوسلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضراً عظيماً»(3).
وقد ختم الله الآية بقوله: {إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ليبين ـ والله أعلم ـ للمؤمنين أن كيد الاعداء مهما خفي ولطف فإن الله به محيط، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا(1/1237)
به؛ فتوكلوا عليه(4)، واستعينوا به؛ فسوف يكفيكم كيدهم. وقد أعقب الله هذه الآية بقصة غزوة أحد وما جرى فيها للمسلمين من وقوع المصيبة بهم لما ترك الرماة الصبر والتقوى، وذكَّر أنه نصرهم يوم بدر؛ فكأنه تذكير بأن وعده صادق؛ لما صبروا واتقوا نصرهم ببدر وهم أذلة، ولما خالف الرماة ذلك في أحد وقعت بهم المصيبة(5)؛ فالمشروط معلق بالشرط.
وحينما تصاب الأمة المسلمة بهزيمة فتتلمس طريق النصر كي تستعيد مجدها المفقود فإن من أهم مقومات النصر تقوى الله - تعالى - والإحسان في عبادته. وقد حكى الله ـ في وسط آيات غزوة أحد ـ قصة تلك الجماعة التي منيت بهزيمة على أيدي أعدائها فأخذت بأسباب(6) النصر فنصرها الله، وختم الآيات بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. ليبين أن من أحسن في عبادته أحسن الله إليه ونصره وجعل له من أمره مخرجاً، قال الله - تعالى -: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148].
العامل الثاني: الصبر والثبات:
وذلك بالثبات على التقوى، والثبات على القتال، وقد جعل الله الصبر والتقوى شرطاً للنصر كما سبق، وأثنى الله على الصابرين في الآيات الآنفة الذكر {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. وأخبر أنه معهم بنصره وتأييده، وأن الفئة المؤمنة تغلب مثليها من الكفار إذا كانت صابرة فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
وقد يلقى المسلم عدواً يصبر كما يصبر؛ فهو مأمور حينئذ بالمصابرة وهي (الصبر في وجه الصابر، وهذا أشد الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل؛ ذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديدٌ على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة وقِرْن له قد يساويه أو يفوقه، ثم إن هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتى يملَّ قِرْنُه، فإنه لا يجتني من صبره شيئاً؛ لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً وهي سبب نجاح الحرب(1)، قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
وقد ذكر الله في سورة آل عمران أسباباً كثيرة للنصر ثم ختمها بهذه الأية التي تأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة ليبين ـ والله أعلم ـ أن كل الأسباب المذكورة ما لم تقترن بصبر ومصابرة فإن النصر قد يتخلف. وإذا لم يكن ثَمَّ قتال مع الأعداء؛ فعليهم بالمرابطة وهي (ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد(1/1238)
وخشية أن يفجأهم العدو)(2). فهم بين حالتين: إما حرب فعليهم بالصبر والمصابرة، وإما في غير جهاد قائم فعليهم بأخذ الحذر والمرابطة.
العامل الثالث: نصرة الله:
إن الله غني عن أن ينصره أحد، أو يطلبه من أحد، وإنما طَلَبَه من عباده ابتلاء وامتحاناً ليتميز الصادق من غيره. (ونصرة الله هي نصرة دينه؛ فهو غني عن النصر في تنفيذ إرادته)(3)، كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4]. فينصر المؤمن دين الله في نفسه ويقيمها على الحق، ويقدم رضى الله على رغباته وشهواته، ويحكّم أمر الله في جميع شؤونه، وينصر دين الله في واقع الحياة فيسعى لتحكيم شرعه في كل مناحي الحياة بلا استثناء(4)، فإذا فعل المسلم ذلك فليبشر بنصر الله كما وعد الله. قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]. وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] وقال: {وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]. وجند الله هم أنصار الله الذين نصروا دينه(5).
وثمة بشارة اخرى لمن نصر الله ذكرها في سورة محمد بقوله: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. فوعدهم بالنصر ووعدهم بتثبيت الأقدام، (وتثبيت الأقدام يذهب الظن لأول وهلة أنه يسبق النصر ويكون سبباً فيه، وهذا صحيح، ولكن تأخير ذكره في العبادة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت، معنى التثبيت على النصر وتكاليفه؛ فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان وبين الحق والضلال؛ فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر، وفي عدم التراخي بعده والتهاون، وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء. وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر، ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن. والعلم لله)(6).
ولما عظم جزاء الناصرين لله كانت نصرة الله مطلباً نفسياً لا يدركه إلا القلة ممن أوقفوا نفوسهم لخدمة دين الله وإقامة شريعته في الحياة، ولذا جيء بالشرط {إن تَنصُرُوا}، وإنما (جيء في الشرط بحرف (إن) الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليجعل المطلوب به كالذي يشك في وفائه به)(7).
العامل الرابع: صدق النية في نصرة الله مع القدرة على إقامة دينه بعد النصر.
قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن(1/1239)
يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
فسنة الصراع بين الحق والباطل قائمة ولا بد للحق من قوة تدافع عنه وتذود عن حياضه، وقد وعد الله من فعل ذلك بصدق نية أن ينصره الله، وأنّى لقوة مهما بلغت أن تقف في وجه جند الحق ومعهم الله؟ {إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وتأمل كيف أعقب الله هذه الأية بقوله: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ} فكأن سؤالاً يتردد عن صفات الطائفة الموعودة بالنصر فكان الجواب: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ} وهذه الصفات التي ذكرها الله لهم يتبين منها الآتي:
1 - أنهم قوم صادقون مع الله لم يجاهدوا لطلب منصب ولا غنيمة ولا رياء ولا غيرها من مطامع الدنيا، بل خلصت نياتهم لله؛ ولا أدل على ذلك من إقامتهم شرع الله بعد انتصارهم. إن المرء قد يجاهد في زمن الشدة والمحنة مخلصاً لله؛ حتى إذا فتح الله عليه ونصره واقبلت عليه الدنيا ربما بدّل وغيّر، وطلب المنصب والرئاسة والجاه والشهرة؛ فالإخلاص يسير في زمن الشدة: {وَإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ} [الزمر: 8]، {فَإذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، لكنه عزيز في وقت الرخاء؛ حيث تنطلق النفوس على سجاياها فتظن أنها استغنت عن عون الله {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. إن الإخلاص مطلب رئيس لتنزُّل نصر الله {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، وتظل على هذا الإخلاص حتى بعد أن ينصرها الله {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}.
وإن لتأكيد القرآن على هذا المطلب أهدافاً في غاية الأهمية منها: أن الاخلاص حين يتمكن في النفوس فإن شؤون الجهاد تُدار وفق المصلحة الشرعية فقط بقطع النظر عن أي مصالح أخرى قد تُلبس لباس النصح لدين الله. ومنها أن الإخلاص حين يتمكن في النفوس فإن دائرة الخلاف بين النافرين لنصرة دين الله تتقلص إلى أدنى الدرجات الممكنة. وإن مما يندى له الجبين أن يرى المرء مشاريع خيرية ودعوية استهلكت منها الطاقات، وبذلت لها الأموال، وصرفت فيها الأوقات تذهب كثير من ثمراتها أدراج الرياح نتيجة نقص الإخلاص أو تلاشيه. والله المستعان.
2 - أن هؤلاء بعد نصرهم {أَقَامُوا الصَّلاةَ} فوثقوا صلتهم بالله، واستمر تعلقهم بربهم الذي نصرهم، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ}. فتعاونوا على سد خلة المحتاج وتفريج كربة المعوز فتحقق تكافلهم الاجتماعي {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} وهذا يشمل المعروف العام الذي يعرفه كل أحد؛ كما يشمل المعروف الخاص من دقائق الأحكام ونحوها الذي يعرفه العلماء على اختلاف مراتبهم(1)، وهذا يعني انتشار التعليم وتسهيل طرقه للناس، {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} بكل اشكاله وصوره سواء كانت هذه المنكرات من قبيل الشهوات أو من قبيل الشبهات كالمقولات والكتابات الفكرية المنحرفة.(1/1240)