المفَصَّلُ
في عواملِ النَّصر والهزيمةِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنَّة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ،القائل { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) }غافر : 51 - 52
والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، القائل"بُعِثْت بَيْنَ يَدَيَ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي , وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1)
وعلى آله وصحبه أجمعين ، الذين قال الله تعالى في حقهم : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } سورة الفتح 29
أما بعد :
فإنَّ الأحداث التي تجري في بلاد الإسلام ولاسيما في فلسطين عامة وغزة خاصة والعراق وغيرهما، مما لا نحسد عليها ، فإننا نرى أنهارا من الدماء تسفك بغير حق ، وأموالاً تنتهب ، وحرمات تنتهك ، وضربات موجعة يوجهها أعداء الإسلام للمسلمين شرقاً وغرباً .
وكثير من المسلمين اليوم قد أصيب بالإحباط الشديد مما يرى ويسمع ، ولا يعرف كيفية المخرج مما نحن فيه .
وقد تباينت مواقف الكتاب والباحثين إزاء ما يجري :
فمنهم من قال علينا بتقليد الغرب والأخذ بحضارته عجرها وبجرها عندئذ يزول الذل والهوان !!.
وقد قالوا ذلك بسبب انبهارهم بهذه الحضارة ،وفاتهم أن هذا من باب تقليد المغلوب للغالب ، وأن الحضارة الغربية لم تجلب للعالم سوى الدمار والخراب والشقاء .
وبعضهم دعا إلى توحيد العرب تحت راية القومية العربية ، للخروج من ذلك ، وفاتهم أن دعاة القومية العربية لم تجتمع كلمتهم يوماً واحداً ، ولما استلموا في بعض الدول سفكوا دماء بعضهم البعض ، وداسوا على العروبة بأقدامهم .
وما موقف الجامعة العربية إزاء قضايا الأمة المصيرية عنا ببعيد .
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة (5 / 313)(19747)عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وهو صحيح(1/1)
وبعضهم يستجدي أعداء الإسلام حتى يخففوا من وطأتهم علينا ،وهذا ما يفعله كثير من العملاء والخونة .
وبعضهم دعا للحوار مع الغرب وترك قتاله ومصادمته لعلهم يعطفون علينا ، فيمنون علينا ببعض فتات الديمقراطية والحرية .
وبعضهم يدعوا للهتافات والمظاهرات وتقديم بعض المساعدات المادية للمنكوبين ، وحرق أعلام الدول المعادية للإسلام والمسلمين ، ومقاطعة بعض البضائع التافهة التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، والعدو يزداد صلفاً وضراوة، وصدق فيهم قول الشاعر :
من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليهِ ... ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وبعضهم قد صدع بالحق فهنيئا لهم ، وبعضهم ذهب يمينا وشمالاً .
والصواب من القول أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
فلا بد من الرجوع لمصادرنا الأصيلة ، وقيمنا العليا ليس إلا ، ففيهما بيان كاف وشاف للداء والدواء ،فالقرآن والسنة سفينة النجاة لهذه الأمة ، فعلينا أن نستلهم منهما سعادتنا وعزتنا .
فلا بد من مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء ، والتوبة النصوح والرجوع إليه الله تعالى قبل فوات الأوان ، فالضعفاء لا يحترمهم أحد في هذه الأيام .
قال الشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله يصف مأساتنا :
1.- أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم
2. - أتلقاك وطرفي مطرق *** خجلاً من أمسك المنصرم
3.- أين دنياك التي أوحت إلى *** وترى كل يتيم النغم ؟
4.- كم تخطيت على أصدائه *** ملعب العز ومغنى الشمم
5.-وتهاديت كأني ساحب *** مئزري فوق جباه الأنجم
6.-أمتي كم غصة دامية *** خنقت نجوى علاك في فمي
7.- ألإسرائيل تعلو راية *** في حمى المهد وظل الحرم ؟
8.- كيف أغضيت على الذل ولم ولم تنفضي عنك غبار التهم ؟
9.- أو ما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو دم ؟
10.- اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دم اليتامى وابسمي
11.- ودعي القادة في أهوائها *** تتفانى في خسيس المغنم
12.- رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتّم
13.- لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
14.- أمتي كم صنم مجدته *** لم يكن يحمل طهر الصنم(1/2)
15.- لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدو الغنم
16.- فاحبسي الشكوى فلولاك لما *** كان في الحكم عبيد الدرهم
إذن: لابد لهذه الأمة أن تعرف أسباب النصر والهزيمة، وأن تتلمس واقعها هذا، والأمور التي أدت إلى نزولها إلى هذا الحضيض، وأن تحاول أن تنتشل نفسها، وأن تخرج إلى ما أراد الله لها من قيادة هذه الدنيا، ومن سيادة العالم أجمع ، وذلك بقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ...... [البقرة : 143] }
هذا وقد كتبت أبحاث عديدة عن أسباب النصر والهزيمة في عصرنا هذا ، لكنها مع أهميتها البالغة لم تستقص ما يتعلق بهذا الموضوع الجلل .
وقد حاولت استقصاءها في موسوعتي هذه ، من القرآن والسنَّة والتاريخ وأقوال العلماء .
وقد قسمتها للأبواب التالية :
الباب الأول ... - عوامل النصر والهزيمة العامة ، وفيه أربعة عشر مبحثاً .
الباب الثاني - شروطُ الاستخلافِ والتمكين في هذه الأرضِ ، وفيه مباحث عديدة .
الباب الثالث ... - عوامل النصر الخاصة في القرآن والسنة ، وفيه تسعون مبحثاً .
الباب الرابع ... - عوامل الهزيمة الخاصة في القرآن والسنة، وفيه ثمانية وأربعون مبحثاً
البابُ الخامس ... - النصر قادم بإذن الله تعالى، وفيه أربعة مباحث .
الباب السادس ... - تصحيح مفاهيم خاطئة في صراعنا مع اليهود والنصارى ، وفيه ستة عشر مبحثاً .
الباب السابع ... -بحوث ومقالات وخطب حول أسباب النصر والهزيمة،وفيه حوالي مائتين وثلاثة وعشرين مبحثاً ..
وأما طريقة عملي فيه ، فهو كما يلي :
شرح الآيات القرآنية بما يدلُّ على مرماها .
تخريج الأحاديث من مظانها في الأبواب الستة الأولى والحكم عليها بما يناسبها ، وغالبها تدور بين الصحة والحسن .
شرح غريب الحديث ، والتعليق على الحديث إذا لزم الأمر .
ذكر مصدر الأقوال في الباب السابع إما بذكر اسم صاحبه ، أو مصدره على النت ، وتركت هذا الباب كما هو دون تعليق عليه .
وقد قمت بفهرستها على برنامج الورد ليسهل الرجوع إليها ، وكذلك قمت بوضعها في الشاملة 3 مع فهرستها التامة ، وموافقتها للمطبوع ، وفد نافت صفحاتها على الألفي صفحة من القطع الكبير آملاً أن تكون زادا ومعيناً لا ينضب للجيل المعاصر ولمن بعده ، وسبباً من أسباب نصر هذه الأمة والتمكين لها في الأرض ، وما ذلك على الله بعزيز .(1/3)
سائلاً المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها جامعها وقارئها وناشرها والدال عليها في الدارين .
قال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة : 214] }
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 19 محرم لعام 1430 هـ الموافق ل 15/1/2009 م
- - - - - - - - - - - - - - -(1/4)
الباب الأول
عوامل النصر والهزيمة العامة
* الابتلاء والمحن سنة الدعوات :
وتنتهي هذه التوجيهات في سورة البقرة والتي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة . . تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب , وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات . . يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة , في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة , وليكونوا لها أهلا:أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم ; وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر ; وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة ; حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم , لم تزعزعهم شدة , ولم ترهبهم قوة , ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة . . استحقوا نصر الله , لأنهم يومئذ أمناء على دين الله , مأمونون على ما ائتمنوا عليه , صالحون لصيانته والذود عنه . واستحقوا الجنة لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف وتحررت من الذل , وتحررت من الحرص على الحياة أو على الدعة والرخاء . فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة , وارفع ما تكون عن عالم الطين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة. .
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى , وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها , وإلى سنته - سبحانه - في تربية عباده المختارين , الذين يكل إليهم رايته , وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته . وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . . إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه . من الرسول الموصول بالله , والمؤمنين الذين آمنوا بالله . إن سؤالهم: (متى نصر الله ?) ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة . ولن تكون إلا محنة فوق الوصف , تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب , فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: (متى نصر الله ?) . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . . عندئذ تتم كلمة الله , ويجيء النصر من الله:
(ألا إن نصر الله قريب) . .
إنه مدخر لمن يستحقونه . ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية . الذين يثبتون على البأساء والضراء . الذين يصمدون للزلزلة . الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة . الذين يستيقنون أن لا نصر(1/5)
إلا نصر الله , وعندما يشاء الله . وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها , فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله) , لا إلى أي حل آخر , ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله . ولا نصر إلا من عند الله .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة , مستحقين لها , جديرين بها , بعد الجهاد والامتحان , والصبر والثبات , والتجرد لله وحده , والشعور به وحده , وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة , ويرفعها على ذواتها , ويطهرها في بوتقة الألم , فيصفو عنصرها ويضيء , ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية , فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها . وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجا كما وقع , وكما يقع في كل قضية حق , يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق , حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه - حتى إذا لم يقع هذا - يقع ما هو أعظم منه في حقيقته . يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها , وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة , والحرص على الحياة نفسها في النهاية . . وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها , وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء . كسب يرجح جميع الآلام وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون , والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . . وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى , وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . . ومحنة وابتلاء . وصبر وثبات . . وتوجه إلى الله وحده . ثم يجيء النصر . ثم يجيء النعيم . .
ــــــــــــــ
* توجيهات عامة في سورة آل عمران :
هذا القرآن هو كتاب هذه الدعوة . هو روحها وباعثها . وهو قوامها وكيانها . وهو حارسها وراعيها . وهو بيانها وترجمانها . وهو دستورها ومنهجها . وهو في النهاية المرجع الذي تستمد منه الدعوة - كما يستمد منه الدعاة - وسائل العمل , ومناهج الحركة , وزاد الطريق . .
ولكن ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا , ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية , ذات وجود حقيقي ; ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة ; ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض ; وأديرت به معركة ضخمة في داخل النفس البشرية وفي رقعة من الأرض كذلك . معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات .(1/6)
وسيظل هنالك حاجز سميك بين قلوبنا وبين القرآن , طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة , لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه هذا الخلق المسمى بالإنسان , والتي تواجه هذه الأمة المسماة بالمسلمين ! بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية , ذات كينونة واقعية حية ; ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيا حيا , نشأ عنه وجود , ذو خصائص في حياة "الإنسان" بصفة عامة , وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومعجزة القرآن البارزة تكمن في أنه نزل لمواجهة واقع معين في حياة أمة معينة , في فترة من فترات التاريخ محددة , وخاض بهذه الأمة معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية كله معها , ولكنه - مع هذا - يعايش ويواجه ويملك أن يوجه الحياة الحاضرة , وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهة الجماعة المسلمة في شؤونها الجارية , وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها , وفي معركتها كذلك في داخل النفس , وفي عالم الضمير , بنفس الحيوية , ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك .
ولكي نحصل نحن من القرآن على قوته الفاعلة , وندرك حقيقة ما فيه من الحيوية الكامنة , ونتلقى منه التوجيه المدخر للجماعة المسلمة في كل جيل . . ينبغي أن نستحضر في تصورنا كينونة الجماعة المسلمة الأولى التي خوطبت بهذا القرآن أول مرة . . كينونتها وهي تتحرك في واقع الحياة , وتواجه الأحداث في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها ; وتتعامل مع أعدائها وأصدقائها ; وتتصارع مع شهواتها وأهوائها ; ويتنزل القرآن حينئذ ليواجه هذا كله , ويوجه خطاها في أرض المعركة الكبيرة:مع نفسها التي بين جنبيها , ومع أعدائها المتربصين بها في المدينة وفي مكة وفيما حولهما . . وفيما وراءهما كذلك . .
أجل . . يجب أن نعيش مع تلك الجماعة الأولى ; ونتمثلها في بشريتها الحقيقية , وفي حياتها الواقعية , وفي مشكلاتها الإنسانية ; ونتأمل قيادة القرآن لها قيادة مباشرة في شؤونها اليومية وفي أهدافها الكلية على السواء ; ونرى كيف يأخذ القرآن بيدها خطوة خطوة . وهي تعثر وتنهض . وتحيد وتستقيم . وتضعف وتقاوم . وتتألم وتحتمل . وترقى الدرج الصاعد في بطء ومشقة , وفي صبر ومجاهدة , تتجلى فيها كل خصائص الإنسان , وكل ضعف الإنسان , وكل طاقات الإنسان .
ومن ثم نشعر أننا نحن أيضا مخاطبون بالقرآن في مثل ما خوطبت به الجماعة الأولى . وأن بشريتنا التي نراها ونعرفها ونحسها بكل خصائصها , تملك الاستجابة للقرآن , والانتفاع بقيادته في ذات الطريق.
إننا بهذه النظرة سنرى القرآن حيا يعمل في حياة الجماعة المسلمة الأولى ; ويملك أن يعمل في حياتنا نحن أيضا . وسنحس أنه معنا اليوم وغدا . وأنه ليس مجرد تراتيل تعبدية مهومة بعيدة عن واقعنا المحدد , كما أنه ليس تاريخا مضى وانقضى وبطلت فاعليته وتفاعله مع الحياة البشرية .
إن القرآن حقيقة ذات كينونة مستمرة كهذا الكون ذاته . الكون كتاب الله المنظور . والقرآن كتاب الله المقروء . وكلاهما شهادة ودليل على صاحبه المبدع ; كما أن كليهما كائن ليعمل . . والكون(1/7)
بنواميسه ما زال يتحرك ويؤدي دوره الذي قدره له بارئه . الشمس ما زالت تجري في فلكها وتؤدي دورها , والقمر والأرض , وسائر النجوم والكواكب لا يمنعها تطاول الزمان من أداء دورها , وجدة هذا الدور في المحيط الكوني . . والقرآن كذلك أدى دوره للبشرية , وما يزال هو هو . فالإنسان ما يزال هوهو كذلك . ما يزال هو هو في حقيقته وفي أصل فطرته . وهذا القرآن هو خطاب الله لهذا الإنسان - فيمن خاطبهم الله به . خطاب لا يتغير , لأن الإنسان ذاته لم يتبدل خلقا آخر , مهما تكن الظروف والملابسات قد تبدلت من حوله , ومهما يكن هو قد تأثر وأثر في هذه الظروف والملابسات . . والقرآن يخاطبه في أصل فطرته وفي أصل حقيقته التي لا تبديل فيها ولا تغيير ; ويملك أن يوجه حياته اليوم وغدا لأنه معد لهذا , بما أنه خطاب الله الأخير ; وبما أن طبيعته كطبيعة هذا الكون ثابتة متحركة بدون تبديل .
وإذا كان من المضحك أن يقول قائل عن الشمس مثلا:هذا نجم قديم "رجعي ? " يحسن أن يستبدل به نجم جديد "تقدمي ! " أو أن هذا "الإنسان" مخلوق قديم "رجعي" يحسن أن يستبدل به كائن آخر "تقدمي" لعمارة هذه الأرض !!!
إذا كان من المضحك أن يقال هذا أو ذاك , فأولى أن يكون هذا هو الشأن في القرآن . خطاب الله الأخير للإنسان .
وهذه السورة تمثل قطاعا حيا من حياة الجماعة المسلمة في المدينة من بعد "غزوة بدر" - في السنة الثانية من الهجرة - إلى ما بعد "غزوة أحد" في السنة الثالثة . وما أحاط بهذه الحياة من ملابسات شتى في خلال هذه الفترة الزمنية . وفعل القرآن - إلى جانب الأحداث - في هذه الحياة , وتفاعله معها في شتى الجوانب .
والنصوص من القوة والحيوية بحيث تستحضر صورة هذه الفترة ; وصورة الحياة التي عاشتها الجماعة المسلمة ; وصورة الاشتباكات والملابسات التي أحاطت بهذه الحياة . مع استبطان السرائر والضمائر , وما يدب فيها من الخواطر , وما يشتجر فيها من المشاعر , حتى لكأن قارئها يعيش هذه الأحداث , ويعايش الأمة التي كانت تخوضها وتتفاعل وإياها . ولو أغمض الإنسان عينيه فلربما تراءت له - كما تراءت لي - شخوص الجماعة المسلمة رائحة غادية , بسماتها الظاهرة على الوجوه , ومشاعرها المستكنة في الضمائر . ومن حولها أعداؤها يتربصون بها , ويبيتون لها , ويلقون بينها بالفرية والشبهة , ويتحاقدون عليها , ويجمعون لها , ويلقونها في الميدان , وينهزمون أمامها - في أحد - ثم يكرون عليها فيوقعون بها . . وكل ما يجري في المعركة من حركة وكل ما يصاحب حركاتها من انفعال باطن وسمة ظاهرة . . والقرآن يتنزل ليواجه الكيد والدس , ويبطل الفرية والشبهة , ويثبت القلوب والأقدام , ويوجه الأرواح والأفكار , ويعقب على الحادث ويبرز منه العبرة , ويبني التصور ويزيل(1/8)
عنه الغبش , ويحذر الجماعة المسلمة من العدو الغادر والكيد الماكر , ويقود خطاها بين الأشواك والمصايد والأحابيل , قيادة الخبير بالفطرة العليم بما تكن الصدور . .
ومن وراء هذا كله تبقى التوجيهات والتلقينات التي احتوتها السورة خالصة طليقة من قيد الزمان والمكان , وقيد الظروف والملابسات , تواجه النفس البشرية , وتواجه الجماعة المسلمة - اليوم وغدا - وتواجه الإنسانية كلها , وكأنها تتنزل اللحظة لها , وتخاطبها في شأنها الحاضر , وتواجهها في واقعها الراهن . ذلك أنها تتناول أمورا وأحداثا ومشاعر وجدانية وحالات نفسية كأنما كانت ملحوظة في سياق السورة . . بل هي ملحوظة قطعا في تقدير العليم الخبير بالنفوس والأشياء والأمور.
ومن ثم يتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة في أي مكان وفي أي زمان . وهو دستور هذه الأمة في أي جيل ومن أي قبيل . وهو حادي الطريق وهادي السبيل على توالي القرون . . ذلك أنه خطاب الله الأخير لهذا الإنسان في جميع العصور . .
في هذه الفترة كانت الجماعة المسلمة في المدينة قد استقرت بعض الاستقرار في موطنها الجديد في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضت خطوة وراء الموقف الذي صورناه من قبل في هذه الظلال في مطلع استعراض "سورة البقرة " .
كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت ; وكتب الله فيها النصر للمسلمين على قريش . وكان هذا النصر بظروفه التي تم فيها والملابسات التي أحاطت به تبدو فيه رائحة المعجزة الخارقة . . ومن ثم اضطر رجل كعبد الله بن أبي بن سلول من عظماء الخزرج أن ينزل عن كبريائه وكراهته لهذا الدين ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وأن يكبت حقده وحسده للرسول الكريم ; وأن ينضم - منافقا - للجماعة المسلمة , وهو يقول:"هذا أمر قد توجه" . . أي ظهرت له وجهة هو ماض فيها لا يرده عنها راد !
بذلك وجدت بذرة النفاق في المدينة - أو تمت وأفرخت , فقد كان هناك قبل بدر من اضطروا لمنافقة أهلهم الذين دخلوا في الإسلام - وأصبحت مجموعة من الرجال , ومن ذوي المكانة فيهم , مضطرة إلى التظاهر بالإسلام , والانضمام إلى المجتمع المسلم , بينما هي تضمر في أنفسها الحقد والعداء للإسلام والمسلمين ; وتتربص بهم الدوائر ; وتتلمس الثغرات في الصف ; وتترقب الأحداث التي تضعضع قوى المسلمين أو تزعزع الصف المسلم , ليظهروا كوامن صدورهم , أو ليضربوا ضربة الإجهاز إذا كان ذلك في مكنتهم !
وقد وجد هؤلاء المنافقون حلفاء طبيعيين لهم في اليهود , الذين كانوا يجدون في أنفسهم من الحقد على الإسلام والمسلمين , وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام مثل ما يجد المنافقون بل أشد . وقد هددهم الإسلام تهديدا قويا في مكانتهم بين "الأميين" من العرب في المدينة ; وسد عليهم الثغرة التي كانوا ينفذون منها للعب بين الأوس والخزرج , بعدما أصبحوا بنعمة الله إخوانا , وفي ظل الإسلام صفا واحدا مرصوصا .(1/9)
وقد غص اليهود وشرقوا بانتصار المسلمين في بدر , وارتفع غليان حقدهم على الجماعة المسلمة , وانطلقوا بكل ما يملكون من دس وكيد وتآمر يحاولون تفتيت الصف الإسلامي , وإلقاء الحيرة في قلوب المسلمين , ونشر الشبهات والشكوك , في عقيدتهم وفي أنفسهم على السواء !
وفي هذه الفترة وقع حادث بني قينقاع فوضح العداء وسفر . . على الرغم مما كان بين اليهود والنبي - صلى الله عليه وسلم - من مواثيق أبرمها معهم عقب مقدمه إلى المدينة .
كذلك كان المشركون موتورين من هزيمتهم في بدر , يحسبون ألف حساب لانتصار محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعسكر المدينة , وللخطر الذي يتمثل إذن على تجارتهم وعلى مكانتهم وعلى وجودهم كذلك ! ومن ثم يتهيأون لدفع هذا الخطر الماحق قبل أن يصبح القضاء عليه مستحيلا .
وبينما كان أعداء المعسكر الإسلامي في عنفوان قوتهم وفي عنفوان حقدهم كذلك ! كان الصف المسلم ما يزال في أوائل نشأته بالمدينة . غير متناسق تماما . فيه الصفوة المختارة من السابقين من المهاجرين والأنصار ; ولكن فيه كذلك نفوس وشخصيات لم تنضج بعد . والجماعة كلها على العموم لم تنل من التجارب الواقعية ما يسوي النتوءات , ويوضح حقيقة الدعوة وحقيقة الظروف الملابسة لها , وحقيقة منهجها العملي وتكاليفه .
كان للمنافقين - وعلى رأسهم عبد الله بن أبي - مكانتهم في المجتمع , وروابطهم العائلية والقبلية لم تنفصم بعد ; ولم ينضج في نفوس المسلمين الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي أسرتهم وهي قبيلتهم وهي وشيجتهم التي لا وشيجة معها . ومن ثم كانت هناك خلخلة في الصف الإسلامي بسبب وجود مثل هذه العناصر مندمجة في الصف , مؤثرة في مقاديره .
وكان لليهود مكانتهم كذلك في المدينة , وارتباطاتهم الاقتصادية والتعهدية مع أهلها . ولم يتبين عداؤهم سافرا . ولم ينضج في نفوس المسلمين كذلك الشعور بأن عقيدتهم وحدها هي العهد وهي الوطن وهي أصل التعامل والتعاقد , وأنه لا بقاء لصلة ولا وشيجة إذا هي تعارضت مع العقيدة ! ومن ثم كانت لليهود فرصة للتوجيه والتشكيك والبلبلة . وكان هناك من يسمع لقولهم في الجماعة المسلمة ويتأثر به . وكان هناك من يدفع عنهم ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم من إجراءات لدفع كيدهم عن الصف المسلم [ كما حدث في شفاعة عبد الله بن أبي في بني قينقاع , وإغلاظه في هذا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ] .
ومن ناحية أخرى كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك النصر الكامل الباهر بأيسر الجهد والبذل . فقد خرج ذلك العدد القليل من المسلمين , غير مزودين بعدة ولا عتاد - إلا اليسير - فلاقوا ذلك الجحفل الضخم من قريش في عدتهم وعتادهم . ثم لم تلبث المعركة أن انجلت عن ذلك النصر المؤزر الباهر .(1/10)
وكان هذا النصر في الوقعة الأولى التي يلتقي فيها جند الله بجند الشرك قدرا من قدر الله . ندرك اليوم طرفا من حكمته . ولعله كان لتثبيت الدعوة الناشئة وتمكينها . بل لإثبات وجودها الفعلي على محك المعركة , لتأخذ بعد ذلك طريقها .
فأما المسلمون فلعلهم قد وقع في نفوسهم - من هذا النصر - أنه الشأن الطبيعي الذي لا شأن غيره . وأنه لا بد ملازمهم على أي حال في كل مراحل الطريق ! أليسوا بالمسلمين ? أليس أعداؤهم بالكافرين ? وإذن فهو النصر لا محالة حيثما التقى المسلمون بالكافرين !
غير أن سنة الله في النصر والهزيمة ليست بهذه الدرجة من البساطة والسذاجة , فلهذه السنة مقتضياتها في تكوين النفوس , وتكوين الصفوف , وإعداد العدة , واتباع المنهج , والتزام الطاعة والنظام , واليقظة لخوالج النفس ولحركات الميدان . . وهذا ما أراد الله أن يعلمهم إياه بالهزيمة في "غزوة أحد" على النحو الذي تعرضه السورة عرضا حيا مؤثرا عميقا , وتعرض أسبابه من تصرفات بعض المسلمين ; وتوجه في ظله العظات البناءة للنفس وللصف على السواء .
وحين نراجع غزوة أحد نجد أن تعليم المسلمين هذا الدرس قد كلفهم أهوالا وجراحات وشهداء من أعز الشهداء - على رأسهم حمزة رضي الله عنه وأرضاه - وكلفهم ما هو أشق من ذلك كله على نفوسهم . . كلفهم أن يروا رسولهم الحبيب تشج جبهته وتكسر سنة , ويسقط في الحفرة , ويغوص حلق المغفر في وجنته - صلى الله عليه وسلم - الأمر الذي لا يقوم بوزنه شيء في نفوس المسلمين !
ويسبق استعراض "غزوة أحد" وأحداثها في السورة قطاع كبير تستغرقه كله توجيهات متشعبة لتصفية التصور الإسلامي من كل شائبة ; ولتقرير حقيقة التوحيد جلية ناصعة , والرد على الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب , سواء منها ما هو ناشئ من انحرافاتهم هم في معتقداتهم , وما يتعمدون إلقاءه في الصف المسلم من شبهات ماكرة لخلخلة العقيدة وخلخلة الصف من وراء خلخلة العقيدة .
وتذكر عدة روايات أن الآيات من 1 - 83 نزلت في الحوار مع وفد نصارى نجران اليمن الذي قدم المدينة في السنة التاسعة للهجرة . ونحن نستبعد أن تكون السنة التاسعة هي زمن نزول هذه الآيات . فواضح من طبيعتها وجوها أنها نزلت في الفترة الأولى من الهجرة , حيث كانت الجماعة المسلمة بعد ناشئة . وكان لدسائس اليهود وغيرهم أثر شديد في كيانها وفي سلوكها .
وسواء صحت رواية أن الآيات نزلت في وفد نجران أم لم تصح ; فإنه واضح من الموضوع الذي تعالجه أنها تواجه شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلق منها بعيسى عليه السلام , وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص كما جاء به الإسلام . وتصحح لهم ما أصاب عقائدهم من انحراف وخلط وتشويه . وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها .
ولكن هذا الفصل يتضمن كذلك إشارات وتقريعات لليهود وتحذيرات للمسلمين من دسائس أهل الكتاب . وما كان يجاورهم في المدينة من أهل الكتاب ممن يمثل مثل هذا الخطر إلا اليهود .(1/11)
وعلى أية حال فإن هذا الفصل الذي يستغرق حوالي نصف السورة يصور جانبا من جوانب الصراع بين العقيدة الإسلامية والعقائد المنحرفة في الجزيرة كلها . . وهو ليس صراعا نظريا إنما هو الجانب النظري من المعركة الكبيرة الشاملة بين الجماعة المسلمة الناشئة وكل أعدائها الذين كانوا يتربصون بها , ويتحفزون من حولها , ويستخدمون في حربها كل الأسلحة وكل الوسائل . وفي أولها زعزعة العقيدة ! وهي في صميمها المعركة التي ما تزال ناشبة إلى هذه اللحظة بين الأمة المسلمة وأعدائها . . إنهم هم هم:الملحدون المنكرون , والصهيونية العالمية , والصليبية العالمية !!!
ومن مراجعة نصوص السورة يتبين أن الوسائل هي الوسائل كذلك ; والأهداف هي الأهداف . ويتجلى أن هذا القرآن هو قرآن هذه الدعوة , ومرجع هذه الأمة - اليوم وغدا - كما كان قرآنها ومرجعها بالأمس في نشأتها الأولى . وأنه لا يعرض عن استنصاح هذا الناصح واستشارة هذا المرجع في المعركة الناشبة اليوم إلا مدخول يعرض عن سلاح النصر في المعركة ; ويخدع نفسه أو يخدع الأمة , لخدمة أعدائها القدامى المحدثين في غفلة بلهاء أو في خبث لئيم !
ومن خلال المناقشات والجدل والاستعراض والتوجيه في هذا المقطع الأول يتبين موقف أهل الكتاب المنحرفين عن كتابهم , من الجماعة المسلمة والعقيدة الجديدة , ممثلا في أمثال هذه النصوص:
{هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (7) سورة آل عمران. .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (23) سورة آل عمران. .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (65) سورة آل عمران
{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (69) سورة آل عمران. .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} (70) سورة آل عمران. .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (71) سورة آل عمران. .
{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72) سورة آل عمران
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (73) سورة آل عمران. .(1/12)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75) سورة آل عمران. .
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (78) سورة آل عمران. .
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} (98) سورة آل عمران. .
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (99) سورة آل عمران.
{هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (119) سورة آل عمران.
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (120) سورة آل عمران) . .
وهكذا نرى أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الميدان بالسيف والرمح فحسب ; ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب . . إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها . كانوا يحاربونها بالدس والتشكيك , ونثر الشبهات وتدبير المناورات ! كانوا يعمدون أولا إلى عقيدتها الإيمانية التي منها انبثق كيانها , ومنها قام وجودها , فيعملون فيها معاول الهدم والتوهين . ذلك أنهم كانوا يدركون كما يدركون اليوم تماما - أن هذه الأمة لا تؤتى إلا من هذا المدخل ; ولا تهن إلا إذا وهنت عقيدتها ; ولا تهزم إلا إذا هزمت روحها ; ولا يبلغ أعداؤها منها شيئا وهي ممسكة بعروة الإيمان , مرتكنة إلى ركنه , سائرة على نهجه , حاملة لرايته , ممثلة لحزبه , منتسبة إليه , معتزة بهذا النسب وحده .
ومن هنا يبدو أن أعدى أعداء هذه الأمة هو الذي يلهيها عن عقيدتها الإيمانية , ويحيد بها عن منهج الله وطريقه , ويخدعها عن حقيقة أعدائها وحقيقة أهدافهم البعيدة .
إن المعركة بين الأمة المسلمة وبين أعدائها هي قبل كل شيء معركة هذه العقيدة . وحتى حين يريد أعداؤها أن يغلبوها على الأرض والمحصولات والاقتصاد والخامات , فإنهم يحاولون أولا أن يغلبوها على العقيدة , لأنهم يعلمون بالتجارب الطويلة أنهم لا يبلغون مما يريدون شيئا والأمة المسلمة مستمسكة بعقيدتها , ملتزمة بمنهجها , مدركة لكيد أعدائها . . ومن ثم يبذل هؤلاء الأعداء وعملاؤهم جهد الجبارين في خداع هذه الأمة عن حقيقة المعركة , ليفوزوا منها بعد ذلك بكل ما يريدون من استعمار واستغلال , وهم آمنون من عزمة العقيدة في الصدور !(1/13)
وكلما ارتقت وسائل الكيد لهذه العقيدة , والتشكيك فيها , والتوهين من عراها , استخدم أعداؤها هذه الوسائل المترقية الجديدة . ولكن لنفس الغاية القديمة: ({وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (69) سورة آل عمران . .
فهذه هي الغاية الثابتة الدفينة !
لهذا كان القرآن يدفع هذا السلاح المسموم أولا . . كان يأخذ الجماعة المسلمة بالتثبيت على الحق الذي هي عليه ; وينفي الشبهات والشكوك التي يلقيها أهل الكتاب ; ويجلو الحقيقة الكبيرة التي يتضمنها هذا الدين ; ويقنع الجماعة المسلمة بحقيقتها وقيمتها في هذه الأرض , ودورها ودور العقيدة التي تحملها في تاريخ البشرية .
وكان يأخذها بالتحذير من كيد الكائدين , ويكشف لها نواياهم المستترة ووسائلهم القذرة , وأهدافهم الخطرة , وأحقادهم على الإسلام والمسلمين , لاختصاصهم بهذا الفضل العظيم . .
وكان يأخذها بتقرير حقيقة القوى وموازينها في هذا الوجود . فيبين لها هزال أعدائها , وهوانهم على الله , وضلالهم وكفرهم بما أنزل الله إليهم من قبل وقتلهم الأنبياء . كما يبين لها أن الله معها , وهو مالك الملك المعز المذل وحده بلا شريك . وأنه سيأخذ الكفار [ وهو تعبير هنا عن اليهود ] بالعذاب والنكال ; كما أخذ المشركين في بدر منذ عهد قريب .
ومن هذه الحملة الطويلة التي اقتطفنا منها هذه الآيات , وتنوع توجيهاتها وتلقيناتها تتبين عدة أمور:
أولها:ضخامة الجهد الذي كان يبذله أهل الكتاب في المدينة وغيرها , وعمق الكيد وتنوع أساليبه , واستخدام جميع الوسائل لزعزعة العقيدة وخلخلة الصف المسلم من ورائها .
وثانيها:ضخامة الآثار التي كان هذا الجهد يتركها في النفوس وفي حياة الجماعة المسلمة , مما اقتضى هذا البيان الطويل المفصل المنوع المقاطع والأساليب .
وثالثها:هو ما نلمحه اليوم من وراء القرون الطويلة . من أن هؤلاء الأعداء هم الذين يلاحقون هذه الدعوة وأصحابها في الأرض كلها ; وهم الذين تواجههم هذه العقيدة وأهلها . ومن ثم اقتضت إرادة الحكيم الخبير أن يقيم هذا المشعل الهادي الضخم البعيد المطارح لتراه الأجيال المسلمة قويا واضحا عميق التركيز على كشف الأعداء التقليديين لهذه الأمة ولهذا الدين !
أما القطاع الثاني في السورة فهو خاص بغزوة أحد . وهو يشتمل كذلك على تقريرات في حقائق التصور الإسلامي والعقيدة الإيمانية . وعلى توجيهات في بناء الجماعة المسلمة على أساس تلك الحقائق . إلى جانب استعراض الأحداث والوقائع , والخواطر والمشاعر , استعراضا يتبين منه بجلاء حالة الجماعة المسلمة يومها وقطاعاتها المختلفة التي أشرنا إليها في أول هذا التمهيد .
وعلاقة هذا المقطع بالمقطع الأول في السورة ظاهرة . فهو يتولى عملية بناء التصور الإسلامي وتجليته - في مجال المعركة والحديد ساخن ! - كما يتولى عملية تثبيت هذه الجماعة على التكاليف المفروضة(1/14)
على أصحاب دعوة الحق في الأرض . مع تعليمهم سنة الله في النصر والهزيمة . ويربيهم بالتوجيهات القرآنية كما يربيهم بالأحداث الواقعية .
ــــــــــــــ(1/15)
* تعقيب القرآن الكريم على غزوة أحد :
من معركة الجدل والمناظرة , والبيان والتنوير , والتوجيه والتحذير - فيما سبق من السورة - ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان . . معركة أحد . .
وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده ; إنما كانت معركة كذلك في الضمير . . كانت معركة ميدانها أوسع الميادين . لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه . . ميدان النفس البشرية , وتصوراتها ومشاعرها , وأطماعها وشهواتها , ودوافعها وكوابحها , على العموم . . وكان القرآن هناك . يعالج هذه النفس بألطف وأعمق , وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال !
وكان النصر أولا , وكانت الهزيمة ثانيا , وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة . . انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن ; واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين . وتمحيص النفوس , وتمييز الصفوف , وانطلاق الجماعة المسلمة - بعد ذلك - متحررة من كثير من غبش التصور , وتميع القيم , وتأرجح المشاعر , في الصف المسلم . وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير , ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق , في القول والفعل , وفي الشعور والسلوك . ووضوح تكاليف الإيمان , وتكاليف الدعوة إليه , والحركة به , ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة , والاستعداد بالتجرد , والاستعداد بالتنظيم , والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله , والتوكل على الله وحده , في كل خطوة من خطوات الطريق , ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة , وفي الموت والحياة , وفي كل أمر وفي كل اتجاه
وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث , ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث , أكبر وأخطر - بما لا يقاس - من حصيلة النصر والغنيمة . . لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة . . وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة . . كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة . وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة . وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم , ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر . . كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية , حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة , تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين , لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية , والوعي والنضح , والتمحيص والتميز , والتنسيق والتنظيم . وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن . ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة !(1/16)
لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض , ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر:ميدان النفس , وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة . وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله , عن علم وعن حكمة , وعن خبرة , وعن بصيرة . وكان ما شاءه الله وما دبره . وكان فيه الخير العظيم , من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير .
ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها , والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع . . وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس , وتخليصها من غبش التصور , وتحريرها من ربقة الشهوات , وثقلة المطامع , وظلام الأحقاد , وظلمة الخطيئة , وضعف الحرص والشح . والرغبات الدفينة .
ولعل مما يلفت النظر أكثر , الكلام - في صدد التعقيب على معركة حربية - عن الربا والنهي عنه , وعن الشورى والأخذ بها , على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائح السيئة للمعركة !
ثم . . سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية , وفي الحياة الإنسانية , وتعدد نقط الحركة فيها , وتداخلها , وتكاملها العجيب . .
ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة , وهذا التداخل , وهذا التكامل . فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد , وتدبير حربي فحسب . . فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير , وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة . . إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير , وخلوصه , وتجرده , وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته , وتقعد به دون الفرار إلى الله ! وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة , وفق منهج الله القويم . المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها - لا في نظام الحكم وحده - وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي . والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام !
والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة , على إثر معركة لم تكن - كما قلنا - معركة في ميدان القتال وحده . إنما كانت معركة في الميدان الأكبر . ميدان النفس البشرية , وميدان الحياة الواقعية . . ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه ; وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه ; وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة ; وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس , وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار , والتوبة وعدم الإصرار ; فجعلها كلها مناط الرضوان . كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولين قلبه للناس . وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات . وعلى الأمانة التي تمنع الغلول . وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات . .(1/17)
عرج على هذا كله . لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع ; الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها . معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير . الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد , والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة .
وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله . ورده كله إلى محور واحد:محور العبادة لله , والعبودية له , والتوجه إليه في حساسية وتقوى . وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها , في كل حال من أحوالها . وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج . وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله , وتأثير كل حركة من حركات النفس , وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية .
وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة . فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية , والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد":إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب . والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب , والالتجاء إلى الله , والالتصاق بركنه الركين . والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله , والرجوع إلى كنفه من عدة النصر , وليست بمعزل عن الميدان ! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر ; والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي . وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر , فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة , والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك .
كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته . . حقيقة قدر الله . ورد الأمر إليه جملة . وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحا حاسما جازما . وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم , وخطئهم وإصابتهم , وطاعتهم ومعصيتهم , وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه . واعتبارهم بعد هذا كله ستارا للقدرة , وأداة للمشيئة , وقدرا من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه .
ثم . . في النهاية . . إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء . إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره , من خلال جهادها . وأجرها هي على الله . وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض . ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء . إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله . وكذلك الهزيمة . فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله , وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط , إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه ; لتمحيص النفوس , وتمييز الصفوف , وتجلية الحقائق , وإقرار القيم , وإقامة الموازين , وجلاء السنن للمستبصرين . .(1/18)
ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي ; ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني , في الانتصار على النفس , والغلبة على الهوى , والفوز على الشهوة . وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس . ليكون كل نصر نصرا لله ولمنهج الله . وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله . وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية . ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية . إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق . والحق واحد لا يتعدد . إنه منهج الله وحده . ولا حق في هذا الكون غيره . وانتصاره لا يتم حتى يتم أولا في ميدان النفس البشرية . وفي نظام الحياة الواقعية . وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها , ومن مطامعها وشهواتها , ومن أدرانها وأحقادها , ومن قيودها وأصفادها . وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق . وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها , لتكل الأمر كله إلى الله , بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة . وحين تحكم منهج الله في الأمر كله , وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها . حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصارا . في ميزان الله . وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية , الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة !
ومن ثم كان ذلك الازدواج , وكان ذلك الشمول , في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد , في ذلك الميدان الفسيح , الذي يعد ميدان القتال جانبا واحدا من جوانبه الكثيرة .
ــــــــــــــ(1/19)
* معالجة القرآن لأحداث الغزوة :
هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة , لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان , وإلا مخالفة عن الأمر , وإلا حركة من الهوى , وإلا لفتة من الشهوة ! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة ! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة , وفي تاريخ النفاق والهزيمة !
وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك , كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين . . وهذه وتلك أنشأت - وفق سنة الله وقدره - هذه النتائج التي ذاقها المسلمون ; وهذه التضحيات الجسام , التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف , ويرونها أشد ما نالهم من الآلام . وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا , وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف , وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها:مهمة القيادة الراشدة للبشرية , وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية . .
فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن .
إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ; ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ; ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه . .
وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل ; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ; ورسم سمات النفوس , وخلجات القلوب , وتصوير الجو الذي صاحبها ; والسنن الكونية التي تحكمها ; والمبادىء الباقية التي تقررها . وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات , والنتائج والاستدلالات . يبدأ السياق منها ; ثم يستطرد حولها ; ثم يعود إليها ; ثم يجول في أعماق الضمائر , وفي أغوار الحياة ; ويكرر هذا مرة بعد مرة , حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادىء , لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها , ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها . وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر , فجلاها . ونقاها , وأراحها في مواضعها , فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا , ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا . .
وينظر الإنسان في رقعة المعركة , وما وقع فيها - على سعته وتنوعه - ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني , وما تناوله من جوانب ; فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك , وأبقى على الزمن , وألصق بالقلوب , وأعمق في النفوس , وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية , وحاجات الجماعة الإسلامية , في كل موقف تتعرض له في هذا المجال , على تتابع الأجيال . فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة , والمبادىء المطلقة من وراء الحوادث المفردة , والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة , والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان . .(1/20)
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان , في أي زمان وفي أي مكان
ــــــــــــــ(1/21)
* التذكير بمعجزة النصر في بدر :
هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون - وقد كادوا - وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم . وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين . ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة ! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة , عن المصير الذي انتهت إليه , بسبب ذلك الخلل في الصف , وبسبب ذلك الغبش في التصور . .
وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة , يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر - معركة بدر - لتكون هذه أمام تلك , مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة , وأسباب النصر وأسباب الهزيمة . ثم - بعد ذلك - ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء . وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين , وفي جميع الأحوال:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) [آل عمران/123-129]) . .
والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما أسلفنا - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر . لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف , خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان , لحماية القافلة التي كانت معه , مزودين بالعدة والعتاد , والحرص على الأموال , والحمية للكرامة . وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة , لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة , إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة . وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم , ومنافقون لهم مكانتهم , ويهود يتربصون بهم . . وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة . ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة(1/22)
أنهم مهاجرون مطاردون من مكة , وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة !
فبهذا كله يذكرهم الله - سبحانه - ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف:
(ولقد نصركم الله ببدر . وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون) . .
إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات . وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله , الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان . فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال .
هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر . . ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم , كأنهم اللحظة فيها: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران/124-126]) . .
وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر , للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين , وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر , لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح ! وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلغه يومها ربه , لتثبيت قلوبهم وأقدامهم , وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم . . وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد . . إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم , والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة:
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) .
فالأن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه , وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر , وتطمئن به وتثبت . أما النصر فمنه مباشرة , ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: (ما جعله الله إلا بشرى لكم , ولتطمئن قلوبكم به , وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) . .
وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله , كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة:قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة , وإرادته الفاعلة , وقدره المباشر . وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة . وإنما هي أداة تحركها المشيئة . وتحقق بها ما تريده . (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) . .
وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي , وعلى تنقيتها من كل شائبة , وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة . . لتبقى الصلة(1/23)
المباشرة بين العبد والرب . بين قلب المؤمن وقدر الله . بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط . كما هي في عالم الحقيقة . .
وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن , المؤكدة بشتى أساليب التوكيد , استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين , على نحو بديع , هادئ , عميق , مستنير .
عرفوا أن الله هو الفاعل - وحده - وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب , وبذل الجهد , والوفاء بالتكاليف . . فاستيقنوا الحقيقة , وأطاعوا الأمر , في توازن شعوري وحركي عجيب !
ولكن هذا إنما جاء مع الزمن , ومع الأحداث , ومع التربية بالأحداث , والتربية بالتعقيب على الأحداث . . كهذا التعقيب , ونظائره الكثيرة , في هذه السورة . .
وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعدهم الملائكة مددا من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة - حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا . . ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل - من وراء نزول الملائكة - وهو الله . الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته , ويتحقق النصر بفعله وإذنه .
(الله العزيز الحكيم) . . فهو(العزيز) القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر . وهو(الحكيم) الذي يجري قدره وفق حكمته , والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة . .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء:
(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) [آل عمران/127-128]) . .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه , وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله , وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: (ليقطع طرفا من الذين كفروا) . .
فينقص من عددهم بالقتل , أو ينقص من أرضهم بالفتح , أو ينقص من سلطانهم بالقهر , أو ينقص من أموالهم بالغنيمة , أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
(أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) . . أي يصرفهم مهزومين أذلاء , فيعودوا خائبين مقهورين .
(أو يتوب عليهم) . .
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة , وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم , فيتوب الله عليهم من كفرهم , ويختم لهم بالإسلام والهداية . .(1/24)
(أو يعذبهم فإنهم ظالمون) . . يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر , وظلمهم بفتنة المسلمين , وظلمهم بالفساد في الأرض , وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله , وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرجه النص من مجال هذا الأمر , ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر:من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين , ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء , إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها:طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم , ثم ينفضوا أيديهم من النتائج , وأجرهم من الله على الوفاء , وعلى الولاء , وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: (ليس لك من الأمر شيء) فسيرد في السياق قول بعضهم: (هل لنا من الأمر من شيء ?) . . وقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم:إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث , وأكبر من شتى الاعتبارات . .
ويختم هذا التذكير ببدر , وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور , بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره . . يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير:وهو أن الأمر لله في الكون كله , ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء:
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . .
فهي المشيئة المطلقة , المستندة إلى الملكية المطلقة . وهو التصرف المطلق في شأن العباد , بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض . وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد , في المغفرة أو في العذاب . إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل , وبالرحمة والمغفرة . فشأنه - سبحانه - الرحمة والمغفرة: (والله غفور رحيم) . .
والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته , بالعودة إليه , ورد الأمر كله له , وأداء الواجب المفروض , وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب .
ــــــــــــــ(1/25)
* سنة الله في الابتلاء والتمحيص والتداول :
إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة , إنما هو حادث عابر , وراءه حكمة خاصة . . ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان . فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها . وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها:حكمة تمييز الصفوف , وتمحيص القلوب , واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ; ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه , ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ! ثم في النهاية محق الكافرين , بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين . . وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة .
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) [آل عمران/137-143])
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة , وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابيا , وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه , وأرهقه المشركون , وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس , وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر , حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم: أنى هذا ? وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون ?!
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعا في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف , والأمور لا تمضي جزافا , إنما هي تتبع هذه النواميس , فإذا هم درسوها , وأدركوا مغازيها , تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث , وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع , واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث , وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين , لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر , وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .
والسنن التي يشير إليها السياق هنا , ويوجه أبصارهم إليها هي:(1/27)
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر , وامتحان قوة الصبر على الشدائد , واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال , والمواساة في الشدة , والتأسية على القرح , الذي لم يصبهم وحدهم , إنما أصاب أعداءهم كذلك , وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا , وأهدى منهم طريقا ومنهجا , والعاقبة بعد لهم , والدائرة على الكافرين .
(قد خلت من قبلكم سنن , فسيروا في الأرض , فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) . .
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها , وحاضرها بماضيها , فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم , ولم تكن معارفهم , ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى , وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله , ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم ; فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها , فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة , ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان ! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها , في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية , إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية , وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله , واتسع له تصورها , ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة , فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة !
(قد خلت من قبلكم سنن) . . وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم , وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .
(فسيروا في الأرض) . . فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .
(فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) . . وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض , وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة . بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . .(1/28)
وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان: (هذا بيان للناس , وهدى وموعظة للمتقين) . . هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى , وتجد فيه الموعظة , وتنتفع به وتصل على هداه . . طائفة "المتقين" . .
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل , وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق , والقدرة على اختيار طريقه . . والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان , ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق , ومن هدى , ومن نور , ومن موعظة , ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر , وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون , وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة , وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة !
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين) . . لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده , وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله , وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها , الهداة لهذه البشرية كلها , وهم شاردون عن النهج , ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى , فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها , وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا , على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص: (إن يمسسكم قرح فقد(1/29)
مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله , قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون , وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين , حينما خرج الرماة على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج , وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف , إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله , لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض , وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا) . .
إن الشدة بعد الرخاء , والرخاء بعد الشدة , هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس , وطبائع القلوب , ودرجة الغبش فيها والصفاء , ودرجة الهلع فيها والصبر , ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط , ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين , ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم , وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده , وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء , وتجعله واقعا في حياة الناس , وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر , وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر , ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام , وتعاقب الشدة والرخاء , محك لا يخطىء , وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك , ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء , وتتجه إلى الله في الحالين , وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .(1/30)
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء , والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله , وتوكلا عليه , والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة , وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس , وفيما بعد تمييز الصفوف , وعلم الله للمؤمنين:
(ويتخذ منكم شهداء) . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين , ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء , وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة , ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله , ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه , ولا مطعن عليه , ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق , وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة , على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به , وتجردوا له , وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا , فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس , وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد , إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض , كما بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس , والذي بلغه عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج السائد والغالب والمطاع , وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .(1/31)
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله , فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب: (ويتخذ منكم شهداء . .) . .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
(والله لا يحب الظالمين) . . والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن: (إن الشرك لظلم عظيم) . . وفي الصحيحين عن ابن مسعود:أنه قال:قلت:يا رسول الله . أي الذنب أعظم ? قال:" أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين , يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد , لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد , وفي هذا تكون الشهادة ; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث , في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى , ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين , وستارا لقدرته في هلاك المكذبين: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس , وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية , وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب , وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق , بلا غبش ولا ضباب . .
وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه , ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها , وحقيقة ما استكن فيها من رواسب , لا تظهر إلا بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء , يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية , وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه , ليعاود المحاولة في سبكها من جديد , على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة , وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !(1/32)
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية , وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض . فمحصها هذا التمحيص , الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد , لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها , وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها: (ويمحق الكافرين) . .
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق , وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات , وفي النصر والهزيمة , وفي العمل والجزاء . ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره , وزاده الصبر على مشاق الطريق , وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) [آل عمران/142، 143]) . .
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت . فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان , وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
إنما هي التجربة الواقعية , والامتحان العملي . وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء , ثم الصبر على تكاليف الجهاد , وعلى معاناة البلاء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) . . (ويعلم الصابرين) . .
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون . إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا . التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر , ويختبر بها الإيمان . إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي:معاناة الاستقامة على أفق الإيمان . والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك , والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني:في النفس وفي الغير , ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات . والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . . والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها , في الطريق المحفوف بالمكاره . طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان !
(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) . .
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة , وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه . ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان , ووزن الحقيقة يواجهها في العيان . فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم , ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم , على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ,(1/33)
وقيمة الأمنية , وقيمة الوعد , في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة , والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة , إنما هو تحقيق الكلمة , وتجسيم الأمنية , والجهاد الحقيقي , والصبر على المعاناة . حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان الله - سبحانه - قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى , وبلا كد من المؤمنين ولا عناء . وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم - أو بدونهم - وتدمر على المشركين , كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . . إنما هي تربية الجماعة المسلمة , التي تعد لتتسلم قيادة البشرية . . البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها . . وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة . وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق , وثبات على الحق , وصبر على المعاناة , ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية , وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف , ووسائل العلاج . . ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة . وصبر على الشدة بعد الرخاء . وطعمها يومئذ لاذع مرير ! . .
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة , ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق , الذي ينوطه بها في هذه الأرض . وقد شاء - سبحانه - أن يجعل هذا الدور من نصيب "الإنسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض !
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه , بشتى الأسباب والوسائل , وشتى الملابسات والوقائع . . يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة , فتستبشر , وترتفع ثقتها بنفسها - في ظل العون الإلهي - وتجرب لذة النصر , وتصبر على نشوته , وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء , وعلى التزام التواضع والشكر لله . . ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة . فتلجأ إلى الله , وتعرف حقيقة قوتها الذاتية , وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله . وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي مع ذلك على الباطل , بما عندها من الحق المجرد ; وتعرف مواضع نقصها وضعفها , ومداخل شهواتها , ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . . وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . . ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة - على نحو ما نرى في هذه الآيات - وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين .
ــــــــــــــ(1/34)
* أهم أحداث المعركة وتصحيح التصور :
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ; واتخاذها محورا للتعقيبات , يتوخى بها تصحيح التصور , وتربية الضمائر , والتحذير من مزالق الطريق , والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد , وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ; بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها "بدر" بسياج من الرهبة , بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ; وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم , وأن ينفثوا سمومهم ; وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ; ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم , وإلقاء الرعب في قلبه ; ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة , حسب وعده لهم ; والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه , في صورة فائضة بالحيوية والحركة . ثم ما أعقب الهزيمة والفزع , من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ; بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين , الذين ساء ظنهم بالله سبحانه . ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف , في سير الأحداث سيرتها تلك , مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد . ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت والاستشهاد . ويردهم إلى حقيقة البعث , التي ينتهي إليها الناس . . ماتوا أو قتلوا . . وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ(1/35)
هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} [آل عمران/149-158]. .
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية , ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي , وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة , فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ; وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها , وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها . . من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس , البانية للتصور الصحيح .
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها , وهذه الحقائق كلها , في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب , وطاقات الأداء , وبخاصة من يعالجون منهم التعبير , ويعانون أسرار الأداء !
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) . .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح , ليثبطوا عزائمهم , ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد , ويصوروا لهم مخاوف القتال , وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب , وخلخلة الصفوف , وإشاعة عدم الثقة في القيادة ; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ; وتزيين الانسحاب منها , ومسالمة المنتصرين فيها ! مع إثارة المواجع الشخصية والآلام الفردية ; وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة , ثم لهدم كيان العقيدة , ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين !(1/36)
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة , وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار , ويكافح الباطل والمبطلين , وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين , محافظا على موقفه , ومحتفظا بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة , وتحت وطأة الجرح والقرح , أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم , وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه ! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الإمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء , والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان , لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين , والاستماع إليهم , والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته , وأن يستمع إلى وسوستهم , وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية , والارتداد على عقبيه إلى الكفر , ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته , وفي قيادته , غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته . فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية , ينبه الله المؤمنين لها , ويحذرهم إياها , وهو يناديهم باسم الإيمان: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين) .
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب , من الإيمان إلى الكفر ? وأي ربح يتحققق بعد خسارة الإيمان ?
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم , فهو وهم , يضرب السياق صفحا عنه , ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية: (بل الله مولاكم , وهو خير الناصرين) .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية , ويطلبون عندها النصرة . ومن كان الله مولاه , فما حاجته بولاية أحد من خلقه ? ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد ?
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين , ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم , بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا , ولم يجعل له قوة وقدرة . وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . ومأواهم النار , وبئس مثوى الظالمين) . .
والوعد من الله الجليل القادر القاهر , بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , كفيل بنهاية المعركة , وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه . .(1/37)
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان . فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم , ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم . ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين . حقيقة الشعور بولاية الله وحده , والثقة المطلقة بهذه الولاية , والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون , وأن الله غالب على أمره , وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه !
والتعامل مع وعد الله هذا , مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه , فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم !
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح . لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة . إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها , لأن الله لم يمنحها سلطانا .
والتعبير: (ما لم ينزل به سلطانا) ذو معنى عميق , وهو يصادفنا في القرآن كثيرا . مرة توصف به الآلهة المدعاة , ومرة توصف به العقائد الزائفة . . وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة , أو عقيدة , أو شخصية , أو منظمة . . إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر . هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من "الحق" أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون , ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون . وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود . وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية , مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش !
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى - في صور شتى - ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله - سبحانه - شيئا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها . وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها ; وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم ; وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم . . ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه , وواحدة منها !
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون ? إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد ; وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك ; ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع ; ولتعبده وحده حق عبادته بلا انداد . . فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل , فهو زائف باطل , مناقض للحق الكامن في بنية الكون . ومن ثم فهو واه هزيل , لا يحمل قوة ولا سلطانا , ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة ; بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة !
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا ; من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء , وهم أبدا خوارون ضعفاء ; وهم أبدا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان . .(1/38)
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل . . وكم من مرة وقف الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل . ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب , ويرتجف من كل حركة وكل صوت - وهو في حشده المسلح المحشود ! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل ; ولو كانت له الحشود , وكان للحق القلة , تصديقا لوعد الله الصادق: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) . .
ذلك في الدنيا . فأما في الآخرة . . فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين .
(ومأواهم النار . وبئس مثوى الظالمين !) . .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار , وتركوا وراءهم الغنائم , وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ; وتنازعوا فيما بينهم , وخالفوا عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها , في حيوية عجيبة: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}. .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة , ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان , ولا خاطرة في النفوس , ولا سمة في الوجوه , ولا خالجة في الضمائر , إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر , ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل , والهروب في دهش وذعر , ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للفارين المرتدين عن المعركة , المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس , وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة , تلك التوجيهات(1/39)
والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن , ومنهج القرآن التربوي العجيب: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة , حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين , أي يخمدون حسهم , أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال لهم:" لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
(حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون:منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ; ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين:فريقا يريد غنيمة الدنيا , وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة , ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله , فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها , فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ; كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ,فلا يمنحهم الله النصر أبدا , حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة , وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب , التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا , حتى نزل فينا يوم أحد: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ; ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره , وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ; ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) . .(1/40)
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين , وصرف الرماة عن ثغرة الجبل , وصرف المقاتلين عن الميدان , فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ; ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ; وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب , ومن تمحيص النفوس , وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها , وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب , ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
(ولقد عفا عنكم) . . عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ; وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة , وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله , والاستسلام له , وتسليم قيادكم لمشيئته: (والله ذو فضل على المؤمنين) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم , ما داموا سائرين على منهجه , مقرين بعبوديتهم له ; لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم , ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم , ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم) . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل , ومقدماته التي نشأ عنها , من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا , في اضطراب ورعب ودهش , لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم , ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح:إن محمدا قد قتل , فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفرارهم , غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم , وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم , وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم , وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم , وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض , وكل ما يصيبهم من مشقة: (فأثابكم غما بغم , لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) . .
والله المطلع على الخفايا , يعلم حقيقة أعمالكم , ودوافع حركاتكم: (والله خبير بما تعملون) . .(1/41)
ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها , وهرجها ومرجها , سكون عجيب . سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم , وثابوا إلى نبيهم . لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين !
والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم , حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) . .
وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين , ولو لحظة واحدة , يفعل في كيانهم فعل السحر , ويردهم خلقا جديدا , ويسكب في قلوبهم الطمأنينة , كما يسكب في كيانهم الراحة . بطريقة مجهولة الكنه والكيف ! أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة . فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة !
عَنْ أَبِي طَلْحَةَ ، قَالَ : رَمَقْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا إِلا وَهُوَ يَمَلُّ تَحْتَ جُحْفَتِهِ مِنَ النُّعَاسِ .(1)" . .
أما الطائفة الأخرى ; فهم ذوو الإيمان المزعزع , الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم , والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية , ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة , ولم يستسلموا بكليتهم لقدره , ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص , وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه , ولا قضاء منه - سبحانه - للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . يقولون:هل لنا من الأمر من شيء ?) . .
أن هذه العقيدة تعلم أصحابها - فيما تعلم - أن ليس لهم في أنفسهم شيء , فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له , ويتحركون له , ويقاتلون له , بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد , وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره , فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم , كائنا هذا القدر ما يكون .
فأما الذين تهمهم أنفسهم , وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم , ومحور اهتمامهم وانشغالهم . . فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان . ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع . طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم , فهم في قلق وفي أرجحة , يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم , ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ; وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير , ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم . . وهم لا يعرفون الله على حقيقته , فهم يظنون بالله غير الحق , كما تظن الجاهلية . ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه - سبحانه - مضيعهم في هذه المعركة , التي ليس لهم من أمرها شيء ,
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 497) ( 4575) صحيح(1/42)
وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا , والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ; إنما يدعهم فريسة لأعدائهم , ويتساءلون: (هل لنا من الأمر من شيء ?) .
وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة . . ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ; ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي . . ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت . .
وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم , يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه , ويرد على قولتهم: (هل لنا من الأمر من شيء ?) .
(قل:إن الأمر كله لله) . . فلا أمر لأحد . لا لهم ولا لغيرهم . ومن قبل قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (ليس لك من الأمر شيء) . فأمر هذا الدين , والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض , وهداية القلوب له . . كلها من أمر الله , وليس للبشر فيها من شيء , إلا أن يؤدوا واجبهم , ويفوا ببيعتهم , ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون !
ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) . .
فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس , حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ; وسؤالهم: (هل لنا من الأمر من شيء) . . يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه ! وأنهم ضحية سوء القيادة , وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير .
(يقولون:لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا) . .
وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة , حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة , وحينما تعاني آلام الهزيمة ! حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ; وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ; وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ; وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي ألقى بها في هذه المهلكة , وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها ! وهي لا يمكن - بهذا الغبش في التصور - أن ترى يد الله وراء الأحداث , ولا حكمته في الابتلاء . إنما المسألة كلها - في اعتبارها - خسارة في خسارة ! وضياع في ضياع !
هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله . لأمر الحياة والموت . ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء:
(قل:لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ,وليمحص ما في قلوبكم , والله عليم بذات الصدور) . .
قل لو كنتم في بيوتكم ; ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة , وكان أمركم كله لتقديركم . . لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . . إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر . وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه ! فإذا حم الأجل , سعى صاحبه(1/43)
بقدميه إليه , وجاء إلى مضجعه برجليه , لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم , ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم !
ويا للتعبير العجيب . . "إلى مضاجعهم" . . فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب , وتسكن فيه الخطى , وينتهي إليه الضاربون في الأرض . . مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه , إنما هو يدركهم ويملكهم ; ويتصرف في أمرهم كما يشاء . والاستسلام له أروح للقلب , وأهدأ للنفس , وأريح للضمير !
إنه قدر الله . ووراءه حكمته: (وليبتلي الله ما في صدوركم , وليمحص ما في قلوبكم) . .
فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور , ويصهر ما في القلوب , فينفي عنها الزيف والرياء , ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء . . فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور , ليظهر على حقيقته , وهو التطهير والتصفية للقلوب , فلا يبقى فيها دخل ولا زيف . وهو التصحيح والتجلية للتصور ; فلا يبقى فيه غبش ولا خلل: (والله عليم بذات الصدور) .
وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور , المختبئة فيها , المصاحبة لها , التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور ! والله عليم بذات الصدور هذه . ولكنه - سبحانه - يريد أن يكشفها للناس , ويكشفها لأصحابها أنفسهم , فقد لا يعلمونها من أنفسهم , حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم!
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة . إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ; فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها , فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ , واستزلهم فزلوا وسقطوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم , إن الله غفور حليم) . .
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم . فكان هذا هو الذي كسبوه , وهو الذي استزلهم الشيطان به
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة , فتفقد ثقتها في قوتها , ويضعف بالله ارتباطها , ويختل توازنها وتماسكها , وتصبح عرضة للوساوس والهواجس , بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه ! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس , فيقودها إلى الزلة بعد الزلة , وهي بعيدة عن الحمى الآمن , والركن الركين .
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء . الاستغفار الذي يردهم إلى الله , ويقوي صلتهم به , ويعفي قلوبهم من الأرجحة , ويطرد عنهم الوساوس , ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان , ثغرة الانقطاع عن الله , والبعد عن حماه . هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة , حتى ينقطع بهم في التيه , بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه !(1/44)
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم , فلم يدع الشيطان ينقطع بهم , فعفا عنهم . . ويعرفهم بنفسه - سبحانه - فهو غفور حليم . لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ; متى علم من نفوسهم التطلع إليه , والاتصال به ; ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق !
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة , وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر , مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا , وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى -:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة , أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة , والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ; ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد , مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم , واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات , ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها , للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها:سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله , متعرف إلى مشيئة الله , مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له , وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع , ولا يتلقى السراء بالزهو , ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ; ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا , أو ليستجلب كذا , بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة , كله قبل الإقدام والحركة ; فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج , فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ; موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ; وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ; ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم , وبين الإيجابية والتوكل , يستقيم عليه الخطو , ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة , فهو أبدا مستطار , أبدا في قلق ! أبدا في "لو" و "لولا" و "يا ليت" و "وا أسفاه" !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة , وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات , كلما مات لهم قريب وهو يضرب في(1/45)
الأرض ابتغاء الرزق , أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى:لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون , ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية , بسبب انقطاعهم عن الله , وعن قدره الجاري في الحياة .
(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) . . فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا , أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل , يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل , ونداء المضجع , وقدر الله , وسنته في الموت والحياة , ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين , ولفاءوا إلى الله راضين: (والله يحيي ويميت) . .
فبيده إعطاء الحياة , وبيده استرداد ما أعطى , في الموعد المضروب والأجل المرسوم , سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم , أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء , وعنده العروض , عن خبرة وعن علم وعن بصر: (والله بما تعملون بصير . .) . .
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ; فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى , واعتبارات أرقى في ميزان الله: (ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) . .
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد , وبهذا الاعتبار - خير من الحياة , وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار:من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته , وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية , ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله , ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق , وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .
وكلهم مرجوعون إلى الله , محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض , أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ; وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة:موت أو قتل في الموعد المحتوم , والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة , أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال !(1/46)
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة , وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ; وإلى ما وراء القدر من حكمة , وما وراء الابتلاء من جزاء . . وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة , وفيما صاحبها من ملابسات . .
ــــــــــــــ
* مسؤولية أحداث أحد وحكمتها :
ثم يمضي السياق خطوة في استعراض أحداث المعركة , والتعقيب عليها ; فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور , واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم - وهم المسلمون - مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة , وتصوغهم صياغة واقعية , تتعامل مع واقع الأمر , وطبيعة السنن , وجدية هذا الواقع الذي لا يحابي أحدا لا يأخذ بالسنن , ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة ; وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم , وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم ! . . ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية الحقيقة - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ; وبمشيئة الله الطليقة من وراء السنن والقوانين ; فيكشف لهم عن حكمة ما وقع , وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم , وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها ; وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها , وليمحص قلوبهم , ويميز صفوفهم , من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث . فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره . . وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) [آل عمران : 165-168]) . .
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه , حملة رايته , وأصحاب عقيدته . . ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ; وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم ; وباستكمال العدة التي في طاقتهم , وببذل الجهد الذي في وسعهم . . فهذه سنة الله . وسنة الله لا تحابي أحدا . . فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور , فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير . فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن لهم وأبطال الناموس . فإنما هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن , ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس . .(1/47)
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدرا كذلك , ولا يضيع هباء . فإن استسلامهم لله , وحملهم لرايته , وعزمهم على طاعته , والتزام منهجه . . من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيرا وبركة في النهاية - بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح - وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروسا وتجارب , تزيد في نقاء العقيدة , وتمحيص القلوب , وتطهير الصفوف ; وتؤهل للنصر الموعود ; وتنتهي بالخير والبركة . . ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته . بل تمدهم بزاد الطريق . مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصرامة معا يأخذ الله الجماعة المسلمة ; وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع ; ويكشف عن السبب القريب من أفعالها ; كما يكشف عن الحكمة البعيدة من قدره - سبحانه - يواجه المنافقين بحقيقة الموت , التي لا يعصم منها حذر ولا قعود: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير) . .
والمسلمون الذين أصيبوا في أحد بما أصيبوا ; والذين فقدوا سبعين من شهدائهم غير الجراح والآلام التي عانوها في هذا اليوم المرير ; والذين عز عليهم أن يصيبهم ما أصابهم , وهم المسلمون , وهم يجاهدون في سبيل الله , وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله . . المسلمون الذين أصيبوا بهذه المصيبة , كان قد سبق لهم أن أصابوا مثليها:أصابوا مثلها يوم بدر فقتلوا سبعين من صناديد قريش . وأصابوا مثلها يوم أحد في مطلع المعركة , حينما كانوا مستقيمين على أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يضعفوا أمام إغراء الغنائم . وقبل أن تهجس في أنفسهم الخواطر التي لا ينبغي أن تهجس في ضمائر المؤمنين !
ويذكرهم الله هذا كله , وهو يرد على دهشتهم المتسائلة , فيرجع ما حدث لهم إلى سببه المباشر القريب: (قل:هو من عند أنفسكم) . .
أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر . وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس . وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة . . فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم , وتقولون:كيف هذا ? هو من عند أنفسكم , بانطباق سنة الله عليكم , حين عرضتم أنفسكم لها . فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه , مسلما كان أو مشركا , ولا تنخرق محاباة له , فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء !
(إن الله على كل شيء قدير) . .
ومن مقتضى قدرته أن تنفذ سنته , وأن يحكم ناموسه , وأن تمضي الأمور وفق حكمه وإرادته , وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث .(1/48)
ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها . وقدر الله دائما من وراء كل أمر يحدث , ومن وراء كل حركة وكل نأمة , وكل انبثاقة في هذا الكون كله: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله . . .) . .
لم يقع مصادفة ولا جزافا , ولم يقع عبثا ولا سدى . فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون ; ومقدر لها علتها ونتائجها ; وهي في مجموعها - ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي - تحقق الحكمة الكامنة وراءها ; وتكمل "التصميم" النهائي للكون في مجموعة !
إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية , ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية . .
هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية . . وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة . وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها . . والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء - ومن بينها الإنسان - والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة , وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره , فتنطبق عليه , وتؤثر فيه . . ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر الله ومشيئته ; ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره . . وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل , ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره . فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس . ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها , كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة , ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة . . كلا . ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي . . فالإنسان ليس ندا لله , ولا عدوا له كذلك . والله - سبحانه - حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض , لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته - سبحانه - لا مناهضا لمشيئته , ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير . . ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر ; وأن يتحرك ويؤثر ; وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه ; وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم , وراحة وتعب , وسعادة وشقاوة . . وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته , قدر الله المحيط بكل شيء , في تناسق وتوازن . .
وهذا الذي وقع في غزوة أحد , مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل . فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة . فخالفوا هم عن سنته وشرطه , فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له . . ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد , فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف , وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور , ومن ضعف أو قصور . .(1/49)
وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين - من واء الألم والضر - وقد نالوه وفق سنة الله كذلك . فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه , يعينهم الله ويرعاهم , ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي - ولو ذاقوا مغبتها من الألم - لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد .
وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم , بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة , وهم يواجهون قدر الله , ويتعاملون مع سنته في الحياة ; وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده , وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء , وأن خطأهم وصوابهم - وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم - متساوق مع قدر الله وحكمته , وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله . . وليعلم المؤمنين , وليعلم الذين نافقوا , وقيل لهم:تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا , قالوا:لو نعلم قتالا لاتبعناكم . هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان . يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . والله أعلم بما يكتمون) . .
وهو يشير في هذه الآية إلى موقف عبد الله بن أبي بن سلول , وممن معه , ويسميهم:"الذين نافقوا" . . وقد كشفهم الله في هذه الموقعة , وميز الصف الإسلامي منهم . وقرر حقيقة موقفهم يومذاك: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) . . وهم غير صادقين في احتجاجهم بأنهم يرجعون لأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين . فلم يكن هذا هو السبب في حقيقة الأمر , وإنما هم: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) . . فقد كان في قلوبهم النفاق , الذي لا يجعلها خالصة للعقيدة , وإنما يجعل أشخاصهم واعتباراتها فوق العقيدة واعتباراتها . فالذي كان برأس النفاق - عبد الله بن أبي - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه يوم أحد . والذي كان به قبل هذا أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بالرسالة الإلهية حرمه ما كانوا يعدونه له من الرياسة فيهم , وجعل الرياسة لدين الله , ولحامل هذا الدين ! . . فهذا الذي كان في قلوبهم , والذي جعلهم يرجعون يوم أحد , والمشركون على أبواب المدينة , وجعلهم يرفضون الاستجابة إلى المسلم الصادق عبد الله بن عمرو بن حرام , وهو يقول لهم: (تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) محتجين بأنهم لا يعلمون أن هناك قتالا ! وهذا ما فضحهم الله به في هذه الآية: (والله أعلم بما يكتمون) . .
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس: (الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا) . .
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس , وبخاصة أن عبد الله بن أبي , كان ما يزال سيدا في قومه , ولم يكشف لهم نفاقه بعد , ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة , وهم يقولون: (لو أطاعونا ما قتلوا) . .(1/50)
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة , ويجعلون من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه مغرما ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله , ولحتمية الأجل , ولحقيقة الموت والحياة , وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع , الذي يرد كيدهم من ناحية , ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية: (قل:فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) . .
فالموت يصيب المجاهد والقاعد , والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود . . والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . . وهذا الواقع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم , فيرد كيدهم اللئيم , ويقر الحق في نصابه , ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة , تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . . فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ; وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ; وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها . . ثم يشير هذه الإشارة إلى "الذين نافقوا" . وفعلتهم وتصرفهم بعدها , وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح , وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة , وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم , ووزن الأعمال والأشخاص , ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح , بذلك الحس الإيماني الصحيح . .
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم , وبلبلة في الأفكار , كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . . فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ; وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ; وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح:"الذين نافقوا" والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة: (ألم تر إلى الذين نافقوا ?) , وعدم إبراز اسم(1/51)
كبيرهم أو شخصه , ليبقى نكره في:"الذين نافقوا" كما يستحق من يفعل فعلته , وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . . ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .
ــــــــــــــ(1/52)
* تسلية ومواساة بعد أحداث أحد :
وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب , إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن , من مسارعة الكفار إلى الكفر , ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف ! فإن هذا لن يضر الله شيئا . وإنما هي فتنة الله لهم , وقدر الله بهم , فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته ! وقد كان الهدى مبذولا لهم , فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء . . ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها:من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب , بالاختبار والابتلاء , فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به , ولا يطلع الناس عليه , فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر , وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين , ليتكشف المخبوء في القلوب , ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) [آل عمران : 176 - 179]) . .
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب , أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة , ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة !
هناك دائما الشبهة الكاذبة , أو الأمنية العاتبة:لماذا يا رب ? لماذا يصاب الحق وينجو الباطل ? لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل ? ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل , ويعود بالغلبة والغنيمة ? أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر ? وفيم تكون للباطل هذه الصولة ? وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة , وفيها فتنة للقلوب وهزة ?!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب:" أنى هذا ?! " . .(1/53)
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير , والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة , ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية , ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله:أمس واليوم وغدا . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك وبقاءه منتفشا فترة من الزمان , ليس معناه أن الله تاركه , أو أنه من القوة بحيث لا يغلب , أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا . .
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك , وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان , ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه ! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .
كلا . إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام , وليحمل أثقل الأوزار , ولينال أشد العذاب باستحقاق ! . . ويبتلى الحق , ليميز الخبيث من الطيب , ويعظم الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسارة للباطل , مضاعفا هذا وذاك ! هنا وهناك !
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , إنهم لن يضروا الله شيئا , يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم) . .
إنه يواسي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ; وهو يرى المغالين في الكفر , يسارعون فيه , ويمضون بعنف واندفاع وسرعة , كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه !
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية . فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية ; كأنه يجهد لنيل السبق فيه ! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف , أو من يهتف له من الإمام , إلى جائزة تنال !
وكان الحزن يساور قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسرة على هؤلاء العباد ; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار , وهو لا يملك لهم ردا , وهم لا يسمعون له نذارة ! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر , من الشر والأذى يصيب المسلمين , ويصيب دعوة الله , وسيرها بين الجماهير , التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية . . فلما أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا . . ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم . فيطمئن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويواسي قلبه , ويمسح عنه الحزن الذي يساوره .
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . إنهم لن يضروا الله شيئا) . .
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا . والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان . إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو ; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو . ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعاتق المسلمين جملة . . فالذين(1/54)
يسارعون في الكفر يحاربون الله , وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا . . وهم إذن لن يضروا دعوته . ولن يضروا حملة هذه الدعوة . مهما سارعوا في الكفر , ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين , وينتفشون غالبين , وهم أعداؤه المباشرون ?
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى !
(يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة) . . يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله ; وأن يحملوا وزرهم كله , وأن يستحقوا عذابهم كله , وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق !
(ولهم عذاب عظيم) . . ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة ? لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان .
(إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم) . . ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم . دلائله مبثوثة في صفحات الكون , وفي أعماق الفطرة . وأماراته قائمة في "تصميم" هذا الوجود العجيب , وفي تناسقه وتكامله الغريب , وقائمة كذلك في "تصميم" الفطرة المباشرة , وتجاوبها مع هذا الوجود , وشعورها باليد الصانعة , وبطابع الصنعة البارعة . . ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل , وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة , ومن جمال التناسق , ومن صلاحية للحياة والناس . .
أجل كان الإيمان مبذولا لهم , فباعوه واشتروا به الكفر , على علم وعن بينة , ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر , ليستنفدوا رصيدهم كله , ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة . ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا . فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء . ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا ; ولم يجعل في الباطل قوة . فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته , بهذه القوة الضئيلة الهزيلة , مهما انتفشت , ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين !
(ولهم عذاب أليم) . . أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من الآم !
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ولهم عذاب مهين) .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور , والشبهة التي تجول في بعض القلوب , والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح , وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق , متروكين لا يأخذهم العذاب , ممتعين في ظاهر الأمر , بالقوة والسلطة والمال والجاه ! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ; يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان , فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل , فيدع للباطل أن يحطم الحق , ولا يتدخل لنصرته ! أو يحسبون أن هذا الباطل حق , وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ?! أو(1/55)
يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض , وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين , يلجون في عتوهم , ويسارعون في كفرهم , ويلجون في طغيانهم , ويظنون أن الأمر قد استقام لهم , وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم !!!
وهذا كله وهم باطل , وظن بالله غير الحق , والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن . . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه , وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء , فإنما هي الفتنة ; وإنما هو الكيد المتين , وإنما هو الاستدراج البعيد: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) !
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة , بالابتلاء الموقظ , لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيرا , وقد اشتروا الكفر بالإيمان , وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء !
(ولهم عذاب مهين) . . والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء .
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير . فإذا أصابت أولياءه , فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف , وفضل الله على أوليائه المؤمنين .
وهكذا تستقر القلوب , وتطمئن النفوس , وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم .
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين , أن يميزهم من المنافقين , الذين اندسوا في الصفوف , تحت تأثير ملابسات شتى , ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم , ليميز الخبيث من الطيب , عن هذا الطريق:
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . وما كان الله ليطلعكم على الغيب . ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء . فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) . .
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته , وليس من فعل سنته , أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان , ومظهر الإسلام , بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان , ومن روح الإسلام . فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا , ولتحمل منهجا إلهيا عظيما , ولتنشىء في الأرض واقعا فريدا , ونظاما جديدا . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك , ويقتضي ألا يكون في(1/56)
الصف خلل , ولا في بنائه دخل . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة . .
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث . وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة . وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر . . ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب , ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة !
كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب , الذي استأثر به , فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب , وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس "مصمما" على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار . وهو مصمم هكذا بحكمة . مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض . وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب . ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم . لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه , ويصل كيانه بكيان هذا الكون . وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها , ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض , أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر , بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض !
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه , ولا من مقتضى حكمته , ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب ? وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم , وتجريده من الغبش , وتمحيصه من النفاق , وإعداده للدور الكوني العظيم , الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به ?
(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) . . وعن طريق الرسالة , وعن طريق الإيمان بها أو الكفر , وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة , وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد . . عن طريق هذا كله يتم شأن الله , وتتحقق سنته , ويميز الله الخبيث من الطيب , ويمحص القلوب , ويطهر النفوس . . ويكون من قدر الله ما يكون . .
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله , وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة . .
وامام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة , يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه , ويلوح لهم بفضل الله العظيم , الذي ينتظر المؤمنين .
(فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) . .
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب , بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان , خير خاتمة لاستعراض الأحداث في "أحد" والتعقيب على هذه الأحداث . .
ــــــــــــــ(1/57)
* دروس هامة من غزوة أحد :
وبعد . . فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة , يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال . فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها , ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
1- لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية , وفي طريقته في العمل في حياة البشر . وهي حقيقة أولية بسيطة , ولكنها كثيرا ما تنسى , أو لا تدرك ابتداء , فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين:في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية , وفي دوره أمس واليوم وغدا . .
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة ! دون اعتبار لطبيعة البشر , ولطاقتهم الفطرية , ولواقعهم المادي , في أية مرحلة من مراحل نموهم , وفي أية بيئة من بيئاتهم !
وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة , وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية , وحدود الواقع المادي للبشر . وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه , فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا , أو يؤثران في مدى استجابة الناس له , وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين , وجاذبية المطامع والشهوات , دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا . . حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها ! - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته ! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا !
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد , هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين , وطريقته , أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية , يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري , في حدود الطاقة البشرية , ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي , ويسير بهم إلى نهاية الطريق , في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية , ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه .
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة , في أية خطة , وفي أية خطوة , عن طبيعة فطرة الإنسان , وحدود طاقته , وواقعه المادي أيضا . وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا في بعض(1/58)
الفترات , وكما يمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها ; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري ; والتي تبذل فطرة الإنسان , وتنشئه نشأة أخرى , لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته , وواقعه المادي كله !
أليس هو من عند الله ? أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء ? فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية ? ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل ? ثم لماذا لا ينتصر دائما ? ولا ينتصر أصحابه دائما ? لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا ? ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا ?
وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها !
إن الله قادر - طبعا - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى . . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة . وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة . وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة . وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما , ولا تمحى , ولا تبدل , ولا تعطل . وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية . وشاء أن يبلغ "الإنسان" من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .
وليس لأحد من خلقه أن يسأله:لماذا شاء هذا ? ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها ! وليس لديه العلم , ولا إمكان العلم , بالنظام الكلي للكون , وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود , وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا "التصميم" الخاص !
و "لماذا ? " - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد , ولا يسأله كذلك ملحد جاد . . المؤمن لا يسأله , لأنه أكثر أدبا مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته - وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال . . والكافر لا يسأله , لأنه لا يعترف بالله ابتداء . فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته !
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع . لا هو مؤمن جاد , ولا هو ملحد جاد . . ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه !
وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر . إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها فهو مؤمن , أو ينكرها فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء !(1/59)
ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة ? ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة , لا تمحى , ولا تعدل , ولا تعطل ! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية ?
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة ; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية , ويفسر التاريخ البشري على ضوئها ; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية , ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس , بمجرد تنزله من عند الله . ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه . ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب , وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية . . إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر , تؤمن به إيمانا كاملا , وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة . . تجاهد الضعف البشري , والهوى البشري , والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين . وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر . على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا ; ولا تغفل واقعهم , ومقتضيات هذا الواقع , في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة ; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة . بقدر ما تبذل من الجهد ; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية ; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . . وقبل كل شيء , وقبل كل جهد , وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر:هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض . ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج , وثقتها به , وتوكلها عليه .
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته , وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة , وهو يربيها بأحداث معركة أحد ; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة . وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها . وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها ; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها - حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة ; وتعاني آلامها المريرة . ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة:(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم:أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير) . .(1/60)
ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة , بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء , الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري , ويتأثر بتصرف البشر إزاءه . . هو خير في عمومه , فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها . . ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية . . وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد , والصبر على الأذى , والصبر على الهزيمة , والصبر على النصر أيضا - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة - وحتى يتمحص القلب , ويتميز الصف , وتستقيم الجماعة على الطريق , وتمضي فيه راشدة صاعدة , متوكلة على الله .
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس ; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا , وهو قاعد آمن سالم ; وتتبين له حقائق في الناس , وفي الحياة , لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة ; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته , وبعاداته وطباعه , وبانفعالاته واستجاباته , ما لم يكن ليبلغه أبدا , بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة , حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء , وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته , وعلى حقيقة غايته ; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها . مدى احتمال كل لبنة , ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهو يربيها بالأحداث في "أحد" وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة . وهو يقول لها , بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله , وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا) . . وهو يقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) . ثم . . وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنة:(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله , وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين , وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .(1/61)
وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره وحكمته , من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات . . وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل , يستقر في النفس من وراء الأحداث , والتعقيب المنير على هذه الأحداث .
2- وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية , وطبيعة الجهد البشري , ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها - ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء , حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) . . وهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى ? نرى مجموعة من البشر , فيهم الضعف وفيهم النقص , وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم) . ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون , منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم) . . وفيهم من يقول الله عنهم:(إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا , والله وليهما , وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . . وفيهم من ينهزم وينكشف , وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم . فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . .
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق . كانوا في دور التربية والتكوين . ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر , مسلمين أمرهم لله , مرتضين قيادته , ومستسلمين لمنهجه . ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه , بل رحمهم وعفا عنهم ; وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عنهم , ويستغفر لهم , وأمره أن يشاورهم في الأمر , بعد كل ما وقع منهم , وبعد كل ما وقع من جراء المشورة ! نعم إنه - سبحانه -تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك , وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير . . ولكنه لم يطردهم خارج الصف , ولم يقل لهم:إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر , بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . . لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم , ورباهم بالابتلاء , ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء , والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات . في رحمة وفي عفو وفي سماحة ; كما يربت الكبير على الصغار ; وهم يكتوون بالنار , ليعرفوا ويدركوا وينضجوا . وكشف لهم ضعفهم , ومخبآت نفوسهم , لا ليفضحهم بها , ويرذلهم , ويحقرهم , ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا . ولكن ليأخذ بأيديهم , ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .(1/62)
ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية , وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة . وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح , يخرجون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هيابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهم:(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . .
ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا . . تغيرت معاملتهم , وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار . بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال ! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين , تلك المؤاخذة العسيرة , يجد الفرق واضحا في المعاملة ; ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة . كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد , والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق . . ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا . وظل فيهم الضعف , والنقص , والخطأ . ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج ; ولا يبدلها أو يعطلها , ولا يحملها ما لا تطيق . وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية , لتحاول وتبلغ , في ظل هذا المنهج الفريد . فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة , إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه . وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية . متخلفة في كل شيء . على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس . . وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي , مهما تكن قابعة في السفح . ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة , فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر . فهي ليست وليدة خارقة عابرة . إنما هي وليدة المنهج الإلهي , الذي يتحقق بالجهد البشري , في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير !
هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها , ومن الواقع المادي الذي هي فيه . ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان , إلى ذلك الأوج السامق . .
شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج . أن تؤمن به . وأن تستسلم له . وأن تتخذه قاعدة حياتها , وشعار حركتها , وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل
3 - وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة , وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان . الارتباط بين العقيدة والتصور والخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة .(1/63)
والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية . مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط , متكاملة في الوقت ذاته وشاملة . والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط . . وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي الشامل , الذي يأخذ الحياة جملة , ولا يأخذها مزقا وتفاريق . والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعا , ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة , في قبضته , فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة , لا تصيب النفس بالفصام , ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام .
ومن نماذج هذا التجميع , وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة , وأثرها في النصر والهزيمة . فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) . . كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) [آل عمران : 146 - 148]. .
وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة , توجيهها للتطهر والاستغفار:(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين , الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس , والله يحب المحسنين , والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم , ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) . . ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم:الاعتداء والمعصية:(ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) . .
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة , يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة , كما نجد الكلام عن "التقوى " وتصوير حالات المتقين , يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة . ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة . كما نجد الدعوة إلى ترك الربا , وإلى طاعة الله والرسول , وإلى العفو عن الناس , وكظم الغيظ , والإحسان , . . وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي إلهام .(1/64)
4 - وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث , وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات , ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة , ليصحح تأثره , ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح ! وهو لا يدع جانبا من الجوانب , ولا خاطرة من الخواطر , ولا تصورا من التصورات , ولا استجابة من الاستجابات , حتى يوجه إليها الأنظار ,ويسلط عليها الأنوار , ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة , ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية ; وبذلك يمحص الدخائل , وينظفها ويطهرها في وضح النور ; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم ; ويقر المبادئ التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين , وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة . . مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق . .
وننظر في التعقيب على غزوة أحد , فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف , وكل حركة , وكل خالجة ; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة ; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث . ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج . والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف , المسيرة للحادث , كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء ; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا , ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف , والتعقيب . فهو وصف حي , يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ , والإيحاء المثير .
5 - وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإلهي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع , مزاولته بالفعل , فهو لا يقدم مبادئ نظرية , ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته . وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة , هو موقفه إزاء مبدأ الشورى . .
لقد كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة , التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب , والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها , لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة , مستندا إلى رؤياه الصادقة ; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ; ولم يستشر أصحابه , أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة ! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع , وقد خرج من بيته , فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد !(1/65)
ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى . وأنفذ ما استقرت عليه , ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية , وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي , وتبعة العمل . لأن هذا في تقديره - صلى الله عليه وسلم - وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه , أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة , ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة . فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة , وحرمانها المعرفة , وحرمانها التربية !
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة . فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية , وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته ! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا , وإن حرمانها من مزاولة مبادى ء حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله , وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه , بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت , لأنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي , ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف . بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا !
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعال - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: (فاعف عنهم ,واستغفر لهم , وشاورهم في الأمر) .
كما أن المزاولة العملية للمبادىء النظرية تتجلى في تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين , واعتباره هذا ترددا وأرجحة . وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته , من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم , والشلل الحركي . فقال قولته التربوية المأثورة:" ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له " . . ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: (فإذا عزمت فتوكل على الله) . . فتطابق - في المنهج - التوجيه والتنفيذ . .
6 - وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .
إن منهج الله ثابت , وقيمه وموازينه ثابتة , والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج , ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك . ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج , ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة .
وحين يخطئ البشر في التصور أو السلوك , فإنه يصفهم بالخطأ . وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف . ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم !
ونتعلم نحن من هذا , أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادىء منهجها سليمة ناصعة قاطعة , وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي(1/66)
يستحقونه - أيا كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا , بتحريف المنهج , وتبديل قيمه وموازينه . فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف . . فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص . والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة . . وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام , وعلى تاريخ الإسلام ; إنما يحسب على أصحابه وحدهم , ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه:من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام . . إن تاريخ "الإسلام" ليس هو تاريخ "المسلمين" ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان ! إن تاريخ "الإسلام" هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام , في تصورات الناس وسلوكهم , وفي أوضاع حياتهم , ونظام مجتمعاتهم . . فالإسلام محور ثابت , تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت . فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار , أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا , فما للإسلام وما لهم يومئذ ? وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام , أو يفسر بها الإسلام ? بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام , وأبوا تطبيقه في حياتهم , وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم , لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين , ولا لأنهم يقولون بأفواههم:إنهم مسلمون ?!
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة , وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة , ويسجل عليها النقص والضعف , ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها , ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه . وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء !
ــــــــــــــ(1/67)
* في الطريق إلى بدر والفرق بين إرادة الله وإرادة المسلمين :
يأخذ سياق السورة ( الأنفال) في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها , وساءت أخلاقهم فيها - كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح - ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها , ومواقفهم فيها , ومشاعرهم تجاهها . . . فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله ; وأن كل ما كان فيها من أحداث , وكل ما نشأ عنها من نتائج - بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها - إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده . . أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً , لا يقاس إلى ما أراده الله لهم , وبهم , من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض . ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض , وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق . . ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً ; كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها ; ليروا أن ما يرونه هم , وما يكرهونه أو يحبونه , ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره , وهو يعلم عاقبة الأمور:
{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} [الأنفال : 5 - 14]. .
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول , ليعيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسمتها بينهم على السواء - بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه - ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة ; فيمتنع التنازع عليها , ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله , فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء ; وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم , ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم .(1/68)
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم , ومن إرادة الله لهم , وبهم , ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال ; وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب . . ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم . . من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها . . فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها ? وما الذي أراده الله لهم , وبهم ? وأين ما أرادوه مما أراده الله ? . . إنها نقلة بعيدة في واقع الأمر ; ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور !
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق , وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ; ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . .
إن رد الأنفال لله والرسول , وقسمتها بينهم على السواء , وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ; وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس معه في أمر القتال , بعدما أفلتت القافلة , وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال:يا رسول الله , امض لأمر الله , فنحن معك , والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ "(1). وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم , فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر , والذي قاله المقداد , والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد كره بعضهم القتال , وعارض فيه , لأنهم لم يستعدوا لقتال , إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ; فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها , وشجعانها وفرسانها , كرهوا لقاءها كراهية شديدة , هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) [الأنفال : 5 ، 6]) !
__________
(1) - انظر دلائل النبوة للبيهقي ( 874 ) ومجمع الزوائد ( 15683) صحيح بغيره(1/69)
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حَدَّثَهُ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ : إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نُخْرِجَ قِبَلَ هَذَا الْعِيرِ ؟ لَعَلَّ اللَّهُ يُغْنِمُنَاهَا ، فَقُلْنَا : نَعَمْ ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا ، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، قَالَ لَنَا : مَا تَرَوْنَ فِي الْقَوْمِ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ ؟ , فَقُلْنَا : لا وَاللَّهِ مَالَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا الْعِيرَ ، ثُمَّ قَالَ : مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ ؟ , فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ بن عَمْرٍو : إِذَنْ لا نَقُولُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، قَالَ : فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ لَوْ أَنَّا قُلْنَا كَمَا قَالَ الْمِقْدَادُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ : {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال : 5 ،6] ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بنانٍ} [الأنفال : 12] ، وَقَالَ : {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال : 7] ، وَالشَّوْكَةُ الْقَوْمُ وَغَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ الْعِيرُ ، فَلَمَّا وَعَدَنَا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْقَوْمُ وَإِمَّا الْعِيرُ طَابَتْ أَنْفُسُنَا ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلا لِيَنْظُرَ مَا قِبَلَ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ : رَأَيْتُ سَوَادًا وَلا أَدْرِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : هُمْ هَلُمُّوا أَنْ نَتَعَادَ ، فَفَعَلْنَا ، فَإِذَا نَحْنُ ثَلاثَ مِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَأَخْبَرَنَا رَسُولَ اللَّهِ بِعِدَّتِنَا ، فَسَّرَهُ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَقَالَ : عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ ، ثُمَّ إِنَّا اجْتَمَعْنَا مَعَ الْقَوْمِ فَصَفَفْنَا ، فَبَدَرَتْ مِنَّا بَادِرَةٌ أَمَامَ الصَّفِّ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ ، فَقَالَ : مَعِي ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ وَعْدَكَ ، فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشِيرَ عَلَيْكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَلُ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْشُدَهُ وَعْدَهُ ، فَقَالَ : يَا ابْنَ رَوَاحَةَ لأَنْشُدَنَّ اللَّهَ وَعْدَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ ، فَانْهَزَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال : 17] فَقَتَلْنَا وَأَسَرْنَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يَكُونَ لَكَ أَسْرَى ، فَإِنَّمَا نَحْنُ دَاعُونَ مُوَلِّفُونَ ، فَقُلْنَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ : إِنَّمَا يَحْمِلُ عُمَرُ عَلَى مَا قَالَ حَسَدًا لَنَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ اسْتَيْقَظَ ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُوا لِي عُمَرَ ، فَدُعِيَ لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .(1)
فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ , وما كرهوا من أجله القتال , حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) . . وذلك بعد ما تبين الحق , وعلموا أن الله
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (4 / 238) ( 3950) حسن(1/70)
وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعدما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى , وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم . كانت ما كانت . كانت العير أو كانت النفير . كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة .
وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ; ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغم من الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع ; فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ; ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق , وتواجه الخطر فعلاً , وتنتصر على الهزة الأولى ! . . لقد كان هؤلاء هم أهل بدر , الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة , فقال:اعملوا ما شئتم , فقد غفرت لكم " . . وهذا يكفي . .
ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } (7) سورة الأنفال. .
هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك . أما ما أراده الله لهم , وبهم , فكان أمراً آخر:
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) [الأنفال : 7 ، 8]) . .
لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة ; وأن تكون موقعة بين الحق والباطل , ليحق الحق ويثبته , ويبطل الباطل ويزهقه . وأراد أن يقطع دابر الكافرين , فيقتل منهم من يقتل , ويؤسر منهم من يؤسر , وتذل كبرياؤهم , وتخضد شوكتهم , وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله , ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله , وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض , وتحطيم طاغوت الطواغيت . وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال .
نعم . أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة ; وأن تصبح دولة ; وأن يصبح لها قوة وسلطان . . وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها . فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها ! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة , وليس بالمال والخيل والزاد . . . إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد . وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية , لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي . ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ; ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من(1/71)
القلة ويكن عدوها من الكثرة ; ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد . . وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان .
وينظر الناظر اليوم , وبعد اليوم , ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها . بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير . . ينظر فيرى الآماد المتطاولة ; ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم ; وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى . بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال , ولا بخيال !
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ? لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة -قصة غنيمة . قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة . قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل . قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد ; والحق في قلة من العدد , وضعف في الزاد والراحلة . قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله , وحين تتخلص من ضعفها الذاتي . بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي , وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها , قد انتصرت على نفسها , وانتصرت على من فيها , وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل ; فقلبت بيقينها ميزان الظاهر ; فإذا الحق راجح غالب .
ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلاً في التاريخ البشري . ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة ; وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة . . الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية . . ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان , لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها . فهي آية من آيات الله , وسنة من سننه الجارية في خلقه , ما دامت السماوات والأرض . . ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلاً أمام [ بدر ] وقيمها الحاسمة التي تقررها ; والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) [الأنفال : 7 ، 8]) . . .
إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع , قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر . ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه(1/72)
موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة , ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض , وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض , تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية . . .
ــــــــــــــ(1/73)
* حرمة الفرار من المعركة وقدر الله في النصر :
والآن . . وقد أعاد عليهم مشاهد الوقعة وملابساتها , وأراهم يد الله فيها وتدبيره , وعونه ومدده ,وعلموا منها أنهم لم يكونوا فيها سوى ستار لقدر الله وقدرته . . الله هو الذي أخرج رسوله من بيته بالحق - لم يخرجه بطراً ولا اعتداء ولا طغياناً - والله هو الذي اختار لهم إحدى الطائفتين لأمر يريده , من قطع دابر الكافرين(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) . . والله هو الذي أمدهم بألف من الملائكة مردفين . . والله هو الذي غشاهم النعاس أمنة منه , ونزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به , ويذهب عنهم رجز الشيطان , وليربط على قلوبهم ويثبت به الأقدام . . والله هو الذي أوحى إلى الملائكة ليثبتوا الذين آمنوا , وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب . . والله هو الذي أشرك الملائكة في المعركة وأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق وأن يضربوا من المشركين كل بنان . . والله هو الذي غنمهم الغنيمة ورزقهم من فضله بعد أن خرجوا بلا مال ولا ظهر ولا عتاد . .
الآن . . وقد استعرض السياق القرآني هذا كله , فأعاده حاضراً في قلوبهم , شاخصاً لأبصارهم . وهو يتضمن صورة من النصر الحاسم الذي لا يستند إلى تدبير بشري , ولا إلى قوة العدد ولا قوة العدة ; إنما يستند إلى تدبير الله وتقديره وعونه ومدده ; كما يستند إلى التوكل على الله وحده , والالتجاء إليه , والاستغاثة به , والسير مع تدبيره وتقديره . .
الآن . . وهذا المشهد حاضر في القلوب شاخص للأبصار . . الآن . . وفي أنسب اللحظات لاستجابة القلوب للتوجيه . . الآن يجيء الأمر للذين آمنوا - بصفتهم هذه - أن يثبتوا إذا لقوا الذين كفروا ; وألا يولوهم الأدبار من الهزيمة والفرار ; ما دام أن النصر والهزيمة موكولان إلى إرادة فوق إرادة الناس ; وإلى أسباب غير الأسباب الظاهرة التي يراها الناس ; وما دام أن الله هو الذي يدبر أمر المعركة - كما يدبر الأمر كله - وهو الذي يقتل الكفار بأيدي المؤمنين ; وهو الذي ينجح الرمية حين ترمى - وإنما المؤمنون ستار للقدرة يريد الله أن يجعل لهم ثواب الجهاد والبلاء فيه - وهو الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ويوهن تدبيرهم ويذيقهم العذاب في الدنيا والآخرة لأنهم شاقوا الله ورسوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) [الأنفال : 15 ، 18] }
ويبدو في التعبير القرآني شدة في التحذير ; وتغليظ في العقوبة ; وتهديد بغضب من الله ومأوى في النار: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار . ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله , ومأواه جهنم وبئس المصير . .(1/74)
والمعنى:يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا(زحفاً) أي متدانين متقاربين متواجهين ; فلا تفروا عنهم , إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب , حيث تختارون موقعاً أحسن , أو تدبرون خطة أحكم ; أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين , أو إلى قواعد المسلمين , لتعاودوا القتال . . وأن من تولى , وأعطى العدو دبره يوم الزحف فقد استحق ذلك العقاب:غضباً من الله ومأوى في جهنم . .
وقد وردت بعض الأقوال في اعتبار هذا الحكم خاصاً بأهل بدر , أو بالقتال الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاضره . ولكن الجمهور على أنها عامة , وأن التولي يوم الزحف كبيرة من السبع الموبقات .
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة , وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره , القاهر فوق عباده . . وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أنتبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله , فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً , وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . . ومن ثم هذا الحكم القاطع: (ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله , ومأواه جهنم وبئس المصير) .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ; وما فيه من إيماءات عجيبة: (فلا تولوهم الأدبار) . . (ومن يولهم يومئذ دبره) . . فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية , مع التقبيح والتشنيع , والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم: (فقد باء بغضب من الله) . . فالمهزوم مولٍّ ومعه (غضب من الله) يذهب به إلى مأواه: (ومأواه جهنم وبئس المصير) . .
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ; وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ; ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ; وتقتل لهم أعداءهم , وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء , ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه: (فلم تقتلوهم , ولكن الله قتلهم , وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم) . .
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجوه الكفار , وهو يقول:" شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .(1/75)
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر , بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
(إن الله سميع عليم) . . يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ; ويجعلكم ستارا لقدرته , متى علم منكم الخلوص له ; ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
(ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) . . وهذه أخرى بعد تلك الأولى ! إن التدبير لا ينتهي عند أن يقتل لكم أعداءكم بأيديكم , ويصيبهم برمية رسولكم , ويمنحكم حسن البلاء ليأجركم عليه . . إنما هو يضيف إليه توهين كيد الكافرين , وإضعاف تدبيرهم وتقديرهم . . فلا مجال إذن للخوف , ولا مجال إذن للهزيمة , ولا مجال إذن لأن يولي المؤمنون الأدبار عند لقاء الكفار . .
ويتصل السياق هنا بكل ملابسات المعركة . . فإذا كان الله هو الذي قتل المشركين , وهو الذي رماهم , وهو الذي أبلى المؤمنين فيها ذلك البلاء الحسن , وهو الذي أوهن كيد الكافرين . . فما النزاع والاختلاف إذن في الأنفال , والمعركة كلها أديرت بتدبير الله وبتقديره , وليس لهم فيها إلا أن كانوا ستارا لهذا التدبير والتقدير ?!
ــــــــــــــ
* استمرار المعركة بين الهدى والضلال :
تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة , وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر , وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة , المتصل بالله , الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة .
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين , بعد أن بلغ أقصاه , وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله , ووعدهم النصر والتمكين , على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج : 38-41]) . .(1/76)
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض , والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ; والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج , ويضرب غير متورع ; ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه , وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش , وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل , اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر , وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد , وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة , إلا ريثما يستعدون للمقاومة , ويتهيأون للدفاع , ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) . .
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتما: (إن الله لا يحب كل خوان كفور) . .
وأنه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلومون غير معتدين ولا متبطرين:
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) . . وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم: (وإن الله على نصرهم لقدير) . .
وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة , لا يعود خيرها عليهم وحدهم , إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها ; وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . وذلك فوق أنهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا:ربنا الله) . . وهي أصدق كلمة أن تقال , وأحق كلمة بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم . فهو البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين . وهو التجرد من كل هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم , إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون , لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض , التي تشتجر فيها الأطماع ; وتتعارض فيها المصالح ; وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع !
ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة . . حاجة العقيدة إلى الدفع عنها: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) . .(1/77)
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان , والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع , والصلوات أماكن العبادة لليهود . والمساجد أماكن العبادة للمسلمين .
وهي كلها معرضة للهدم - على قداستها وتخصيصها لعبادة الله - لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها , ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض . أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها , ويعتدون على أهلها . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول . ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه , بل لا بد من القوة تحميه وتدفع عنه . وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان !
ولا بد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة , وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة .
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون , واعتدى عليهم المبطلون , بأن الله يدافع عن الذين آمنوا , وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) . .
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه , ظاهر حتما على عدوه . . ففيم إذن يأذن لهم بالقتال ? وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد ? وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح , والجهد والمشقة , والتضحية والآلام . . . والعاقبة معروفة , والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة , ولا تضحية ولا ألم , ولا قتل ولا قتال ?
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا , وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة " الكسالى , الذين يجلسون في استرخاء , ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء , لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء , كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء !
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة , وأن يرتلوا القرآن , وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ; إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة , والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر ; وهي تدفع وتدافع , وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . . عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها ; ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات(1/78)
المشتركة ; ولتؤتي أقصى ما تملكه , وتبذل آخر ما تنطوي عليه ; وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها , واحتشاد كل قواها , وتوفز كل استعدادها , وتجمع كل طاقاتها , كي يتم نموها , ويكمل نضجها , وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء , والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين , يعطل تلك الطاقات عن الظهور , لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد طاقاتهم وتشحد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة , والكر والفر , والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم , ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة , وتدبير الأمور في جميع الحالات . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله , ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ; ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا:ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها , ولم يتم بعد تمامها , ولم تحشد بعد طاقاتها , ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا !
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة , وآخر ما تملكه من رصيد , فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا , لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها , فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .(1/79)
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله , وهي تعاني وتتألم وتبذل ; ولا تجد لها سندا إلا الله , ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه , أو تقاتل حمية لذاتها , أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله , بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير , يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا , ويذهب وحده هالكا , لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار !
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه , لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ; فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس , ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية !
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر , ولاستبقائه !
من أجل هذا كله , ومن أجل غيره مما يعلمه الله , قد يبطئ النصر , فتتضاعف التضحيات , وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه , وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة , وآتوا الزكاة , وأمروا بالمعروف , ونهوا عن المنكر ; ولله عاقبة الأمور) . .
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله , فيستحقون نصر الله , القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه ? إنهم هؤلاء:
(الذين إن مكناهم في الأرض) . . فحققنا لهم النصر , وثبتنا لهم الأمر . . (أقاموا الصلاة) . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به , واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . (وآتوا الزكاة) . . فأدوا حق المال , وانتصروا على شح النفس , وتطهروا من الحرص , وغلبوا وسوسة الشيطان , وسدوا خلة الجماعة , وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج , وحققوا لها صفة الجسم الحي - كما قال رسول الله(1/80)
صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
(وأمروا بالمعروف) . . فدعوا إلى الخير والصلاح , ودفعوا إليه الناس . . (ونهوا عن المنكر) . . فقاوموا الشر والفساد , وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره , ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
هؤلاء هم الذين ينصرون الله , إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة , معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . . والأمر بعد ذلك لله , يصرفه كيف يشاء , فيبدل الهزيمة نصرا , والنصر هزيمة , عندما تختل القوائم , أو تهمل التكاليف: (ولله عاقبة الأمور) . .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات , والمطامع والشهوات . .
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه . .
ــــــــــــــ
* نصر الله المؤمنين وغلبة الروم على الفرس وطبيعة الكفار :
قال تعالى : {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } [الروم : 1 - 7]. .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : " كَانَتْ فَارِسُ ظَاهِرَةٌ عَلَى الرُّومِ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابِ ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ : فَلَمَّا نَزَلَتْ الم غُلِبَتِ الرُّومُ إِلَى فِي بِضْعِ سِنِينَ قَالُوا : يَا أَبَا بَكْرٍ : إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ : " إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ " ، قَالَ : صَدَقَ ، قَالُوا : هَلْ لَكَ أَنْ نُقَامِرَكَ ؟ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصٍ ، إِلَى سَبْعِ سِنِينَ ، فَمَضَتِ السَّبْعُ ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ ، وَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : فَقَالَ : " مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ ؟ " قَالُوا : دُونَ الْعَشْرِ ، قَالَ : " اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ " قَالَ : فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ(1/81)
بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : الم غُلِبَتِ الرُّومُ إِلَى قَوْلِهِ : وَعْدَ اللَّهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ "(1)
وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية .
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان . ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال , والأمم لم تكن وثيقة الاربتاط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر . مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم ; وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب , وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان ; وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم , ويؤثر في قضية الكفر والإيمان . وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ; ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . منذ حوالي أربعة عشر قرنا . ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية ; ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان ; وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان .
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة , وحقيقة القضية ; فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر , فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة , مهما تنوعت العلل والأسباب .
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله , كما تبدو في قولة أبي بكر - رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد , والمشركون يعجبونه من قول صاحبه ; فما يزيد على أن يقول:صدق . ويراهنونه فيراهن وهو واثق . ثم يتحقق وعد الله , في الأجل الذي حدده: (في بضع سنين) . . وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن , حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله . وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل .
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر , من قول الله سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد) . . والمسارعة برد الأمر كله لله . في هذا الحادث وفي سواه . وتقرير هذه الحقيقة الكلية , لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف . فالنصر والهزيمة , وظهور الدول ودثورها , وضعفها وقوتها . شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال , مرده كله إلى الله , يصرفه كيف
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ ( 25561 ) فيه انقطاع(1/82)
شاء , وفق حكمته ووفق مراده . وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة , التي ليس لأحد عليها من سلطان ; ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة ; ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله . و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم .
(ألم . غلبت الروم في أدنى الأرض . وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) . .
(لله الأمر من قبل ومن بعد) . .
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) . .
ولقد صدق وعد الله , وفرح المؤمنون بنصر الله .
(ينصر من يشاء , وهو العزيز الرحيم) . .
فالأمر له من قبل ومن بعد . وهو ينصر من يشاء . لا مقيد لمشيئته سبحانه . والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب . فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب . والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة . وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف ; وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات . والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات , وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة .
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال . فهي ترد الأمر كله إلى الله . ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع . أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف , لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ ؟ قَالَ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ.(1)
. فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب , ورد الأمر بعد ذلك إلى الله .
(ينصر من يشاء , وهو العزيز الرحيم) . .
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع ; وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس ; وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء . (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف .
(وعد الله . لا يخلف الله وعده . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) . .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 510) ( 731) حسن(1/83)
ذلك النصر وعد من الله , فلابد من تحققه في واقع الحياة:(لا يخلف الله وعده) فوعده صادر عن إرادته الطليقة , وعن حكمته العميقة . وهو قادر على تحقيقه , لا راد لمشيئته , ولا معقب لحكمه , ولا يكون في الكون إلا ما يشاء .
وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولو بدا في الظاهر أنهم علماء , وأنهم يعرفون الكثير . ذلك أن علمهم سطحي , يتعلق بظواهر الحياة , ولا يتعمق سننها الثابتة , وقوانينها الأصيلة ; ولا يدرك نواميسها الكبرى , وارتباطاتها الوثيقة: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) . . ثم لا يتجاوزون هذا الظاهر ; ولا يرون ببصيرتهم ما وراءه .
وظاهر الحياة الدنيا محدود صغير , مهما بدا للناس واسعا شاملا , يستغرق جهودهم بعضه , ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة . والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل , تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه .
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ; ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه , يظل ينظر وكأنه لا يرى ; ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة , ولكنه لا يدرك حكمته , ولا يعيش بها ومعها . وأكثر الناس كذلك , لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود ; وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود . والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس . ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية .
(وهم عن الآخرة هم غافلون) . . فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة , وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة . والذين لا يدركون حكمة النشأة , ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة , ولا يقدرونها قدرها , ولا يحسبون حسابها , ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود , لا تتخلف مطلقا ولا تحيد .
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل ; وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم ; فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ; ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا , لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض . فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون . ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود . والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيره . ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة , وقدر زهيد من النصيب الضخم , وفصل صغير من الرواية الكبيرة !
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها , مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها . لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة , ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ; ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون . فلكل منهما ميزان ,(1/84)
ولكل منهما زاوية للنظر , ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال . . هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا ; وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن , ونواميس شاملة للظاهر والباطن , والغيب والشهادة , والدنيا والآخرة , والموت والحياة , والماضي والحاضر والمستقبل , وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء . . وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ; ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان . الخليفة في الأرض . المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله .(1)
? - - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - معظم هذا الباب مستقى من الظلال .(1/85)
الباب الثاني
شروطُ الاستخلافِ والتمكين في هذه الأرضِ
1-الدلالة اللغوية لكلمة "التمكين":
"التمكين" مصدر للفعل مكّن وهو من مزيد الثلاثي والأصل "مكَن" وقد وردت مادة "مكن" في كتب اللغة ولم تخرج عن أصل وضعها، قال الجوهري: ("مكن" مكنه الله من الشيء وأمكنه منه بمعنى، واستمكن الرجل من الشيء وتمكن منه بمعنى، وفلان لا يمكنه النهوض: أي لا يقدر عليه.
والمكْن: بيض الضب.. قال الكسائي: أمكنت الضبة جمعت بيضها في بطنها)(1)
وقال صاحب اللسان: (( مكن ) المَكْنُ والمَكِنُ بيضُ الضَّبَّةِ والجَرَادة ونحوهما قال أَبو الهِنْديّ واسمه عبد المؤمن بن عبد القُدُّوسِ ومَكْنُ الضِّبابِ طَعامُ العُرَيب ولا تشْتَهِيه نفُوسُ العَجَمْ واحدته مَكْنةٌ ومَكِنة بكسر الكاف وقد مَكِنَتِ الضَّبَّةُ وهي مَكُونٌ وأَمْكَنتْ وهي مُمْكِنٌ إذا جمعت البيض في جوفها والجَرادةُ مثلها الكسائي أَمْكَنَتِ الضَّبَّةُ جمعت بيضها في بطنها فهي مَكُونٌ وأَنشد ابن بري لرجل من بني عُقيل أَراد رَفِيقي أَنْ أَصيدَهُ ضَبَّةً مَكُوناً ومن خير الضِّباب مَكُونُها وفي حديث أَبي سعيد لقد كنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُهْدَى لأَحدنا الضَّبَّةُ المَكُونُ أَحَبُّ إليه من أَن يُهْدَى إليه دجاجةٌ سمينة المَكُونُ التي جمعت المَكْنَ وهو بيضها يقال ضبة مَكُونٌوضَبٌّ مَكُونٌ ومنه حديث أَبي رجاءٍ أَيُّما أَحبُّ إليك ضَبٌّمَكُون أَو كذا وكذا ؟ وقيل الضبَّةُ المَكُونُ التي على بيضها ويقال ضِبابٌ مِكانٌ قال الشاعر وقال تعَلَّمْ أَنها صَفَريَّةٌ مِكانٌ بما فيها الدَّبَى وجَنادِبُهْ الجوهري المَكِنَةُ بكسر الكاف واحدة المَكِنِ والمَكِناتِ وقوله - صلى الله عليه وسلم - أَقِرُّوا الطير على مَكِناتها ومَكُناتها بالضم قيل يعني بيضها على أَنه مستعار لها من الضبة لأَن المَكِنَ ليس للطير وقيل عَنى مَوَاضع الطير والمكنات في الأَصل بيض الضِّباب قال أَبو عبيد سأَلت عِدَّةً من الأَعراب عن مَكِناتِها فقالوا لا نعرف للطير مَكِناتٍ وإِنما هي وُكُنات إنما المَكِناتُ بيض الضِّبابِ قال أَبو عبيد وجائز في كلام العرب أَن يستعار مَكْنُ الضِّبابِ فيجعل للطير تشبيهاً بذلك كما قالوا مَشافر الحَبَشِ وإنما المَشافر للإبل وكقول زهير يصف الأَسد لدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاح مُقَذَّفٍ له لِبَدٌ أَظفارُه لم تُقَلَّمِ وإنما له المَخالِبُ قال وقيل في تفسير قوله أَقِرُّوا الطير على مَكِناتها يريد على أَمْكِنتها ومعناه الطير التي يزجر بها يقول لا تَزْجُرُوا الطير ولا تلتفتوا إليها أَقِرُّوها على مواضعها التي جعلها الله لها أَي لا تضر ولا تنفع ولا تَعْدُوا ذلك إلى غيره وقال شمر الصحيح في قوله على مَكِناتِها أَنها جمع المَكِنَة والمَكِنةُ التمكن تقول العرب إن بني فلان لذوو مَكِنةٍ من السلطان
__________
(1) - الصحاح (6/2205).(1/86)
أي تَمكُّنٍ فيقول أَقِرُّوا الطير على كل مَكِنةٍ ترَوْنَها عليها ودَعُوا التطير منها وهي مثل التَّبِعةِ مِنَ التَّتبُّعِ والطَّلِبةِ من التَّطلُّب قال الجوهري ويقال الناس على مَكِناتِهم أَي على استقامتهم قال ابن بري عند قول الجوهري في شرح هذا الحديث ويجوز أَن يراد به على أَمْكِنتها أَي على مواضعها التي جعلها الله تعالى لها)(1)
وقال صاحب المفردات عند مادة "مكن": (المكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي للشيء، وعند بعض المتكلمين أنه عرض، وهو اجتماع جسمين حاو ومحوي، وذلك أن يكون سطح الجسم الحاوي محيطا بالمحوي، فالمكان عندهم هو المناسبة بين هذين الجسمين. قال: {مكانا سوى} [طه/58]، {وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا} [الفرقان/13] ويقال: مكنته ومكنت له فتمكن، قال: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف/ 10]، {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف/26]، {أو لم نمكن لهم} [القصص/57]، {ونمكن لهم في الأرض} [القصص/6]، {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} [النور/55]، وقال: {في قرار مكين} [المؤمنون/13]. وأمكنت فلانا من فلان، ويقال: مكان ومكانة. قال تعالى: {اعملوا على مكانتكم} [هود/93] وقرئ: {على مكاناتكم} (وبها قرأ شعبة عن عاصم. انظر: الإتحاف ص 260)، وقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين} [التكوير/ 20] أي: متمكن ذي قدر ومنزلة. ومكنات الطير ومكناتها: مقاره، والمكن: بيض الضب، و {بيض مكنون} [الصافات/49]. قال الخليل (العين 5/387) : المكان مفعل من الكون، ولكثرته في الكلام أجري مجرى فعال (وهذا النقل عن التهذيب 10/294.
وقال ثعلب: يبطل أن يكون مكان فعالا؛ لأن العرب تقول: كن مكانك، وقم مكانك، واقعد مقعدك. فقد دل هذا على أنه مصدر من (كان) أو موضع منه. انظر: اللسان (مكن) )، فقيل: تمكن وتمسكن، نحو: تمنزل.).(2)
ومما سبق نخلص إلى أن مادة الكلمة قد استعملت بمعانٍ عديدة متقاربة لا تخرج عن أصل الاستعمال فقد استعملت بمعنى القدرة على الشيء والظفر به، وكذلك بمعنى السلطان والقدر والمنزلة.
ــــــــــــــــــــ
2- التمكين في اصطلاح القرآن الكريم:
__________
(1) - لسان العرب - (ج 13 / ص 412)
(2) - مفردات ألفاظ القرآن ـ نسخة محققة - (ج 2 / ص 382)(1/87)
وردت كلمة "التمكين" في القرآن الكريم باشتقاقاتها ثماني عشرة مرة، ولم يحدد لها القرآن اصطلاحاً خاصاً بل استعملها في المعاني التي ذكرت معاجم اللغة، وباستقراء الآيات التي وردت فيها اشتقاقات الكلمة يتبين لنا أن القرآن استعمل الكلمة على سبعة معانٍ هي الآتي:-
أولاً: التمكين بمعنى الملك والسلطان:-
قال _جل ذكره_ في شأن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (84) سورة الكهف ،قال ابن كثير رحمه الله: أَيْ أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا مُمَكَّنًا فِيهِ مِنْ جَمِيع مَا يُؤْتَى الْمُلُوك مِنْ التَّمْكِين وَالْجُنُود وَآلَات الْحَرْب وَالْحِصَارَات وَلِهَذَا مَلَكَ الْمَشَارِق وَالْمَغَارِب مِنْ الْأَرْض وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَاد وَخَضَعَتْ لَهُ مُلُوك الْعِبَاد وَخَدَمَتْهُ الْأُمَم مِنْ الْعَرَب وَالْعَجَم .(1)
ومن هذا القبيل قوله -تعالى-: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحج، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: (أي: ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض)(2).
ثانياً: التمكين بمعنى المنزلة عند الملك:
قال تعالى في شأن يوسف -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} (54) سورة يوسف، وقال تعالى في جبريل عليه السلام: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (20) سورة التكوير، وكذلك قال تعالى في شأن يوسف _على نبينا وعليه الصلاة والسلام-:{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة يوسف، ويفسر هذا التمكين أنه نصيب من الملك ومنزلة ذات قدر عند الملك قوله تعالى في آخر السورة على لسان يوسف -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (101) سورة يوسف.
ثالثاً: التمكين بمعنى التهيئة:
قال تعالى : { وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (57) سورة القصص أي ألم نجعل حرماً ذا أمن .(3)
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 9 / ص 225)
(2) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 539)
(3) - انظر فتح القدير (4/179).(1/88)
وقال تعالى في شأن يوسف -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (21) سورة يوسف، أي جعلنا هذا مقدمة وتهيئة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق .(1)
رابعاً: التمكين في نعم الدنيا ومعايشها:
قال تعالى : {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (6) سورة الأنعام. وقال تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون} (26) سورة الأحقاف، قال ابن كثير: رحمه الله: يَقُول تَعَالَى وَلَقَدْ مَكَّنَّا الْأُمَم السَّالِفَة فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد وَأَعْطَيْنَاهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ نُعْطِكُمْ مِثْله وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ ".(2)
خامساً: التمكين للدين:
وهو يعني القدرة على مزاولة شعائره في أمن وإظهارها دون منازع أو مشوش، قال _تعالى_ في سورة النور: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (55) سورة النور.
سادساً: التمكين بمعنى الظفر:
قال تعالى: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (71) سورة الأنفال، فأمكن بمعنى أظفر وأقدر(3).
سابعاً: التمكين بمعنى الثبوت والاستقرار: قال تعالى:{ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) } [المرسلات/20، 21]. أي ثابت مستقر.
ــــــــــــــــــــ
3- وعد القرآن بالتمكين لدعوة الحق:
__________
(1) - انظر تيسير الكريم الرحمن (15/4).
(2) - تفسير ابن كثير - (ج 15 / ص 262)
(3) - راجع لسان العرب (13/415).(1/89)
الوعد بالتمكين لدعوات المرسلين وأتباعهم من المؤمنين استفاضت به آيات التنزيل وكادت لا تذكر تحدياً بين الحق والباطل أو صراعاً أو دولة دالت بأتْباع الحق إلا وتعقبت ذلك الحال بالطمأنة بأن العاقبة للمتقين والنصر للمرسلين والغلبة للجند المؤمنين، قال سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) } سورة الأنبياء.
قال أكثر أهل التفسير: أي كتب الله ذلك عنده في اللوح المحفوظ وهو الذكر وجزم به _سبحانه_ بعد ذلك في "الزبور" وهو اسم جنس للكتاب المنزل على الأنبياء من التوراة والإنجيل والقرآن وما هو من جنسها.(1)
فالوعد إذن بالتمكين مؤكد غاية التوكيد مجزوم به من الله _سبحانه وتعالى_ في أم الكتاب عنده وفي سائر كتبه المنزلة، ولقد تكاثرت الآيات وتظاهرت على توكيده كذلك في القرآن الكريم، قال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) } [الصافات/171-174] ، وقال سبحانه وتعالى :{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (51) سورة غافر ، وقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) } [المجادلة/20، 21] ، وقال سبحانه : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) } [إبراهيم/13، 14].
والوعد بالتمكين يأتي أحياناً في الذكر الحكيم مجزوماً به ولكن ُيذكر فيه الرسل فقط، وأحياناً يُذكر الرسل والمؤمنون في سياق بعض آيات الوعد بالتمكين أو النصر، وتارة ثالثة يفرد ذكر المؤمنين فقط في سياق الآيات، ولا إشكال في ذلك أو عظيم تباين فالوعد للرسل ينسحب كذلك على المؤمنين باعتبار أن الرسل لا يمكن أن يجاهدوا أو يمكنوا إلا في أتباع من المؤمنين وكذلك الوعد للمؤمنين ينسحب على الرسل باعتبارهم من أهل الإيمان.
ــــــــــــــــــــ
4- وعدُ الرسل بالتمكين ومزاياه:
إننا نلحظ في القرآن مجيء الوعد بالنصر والغلبة والعاقبة والتمكين المذكور فيه الرسل أكثر وآكد ـ بمؤكدات لفظية ظاهرة ومعنوية ـ من الوعد بالتمكين والنصر المذكور فيه المؤمنون فقط، وما ذاك
__________
(1) - راجع تفسير ابن كثير (3/210).(1/90)
إلا أن دعوات الرسل خصوصاً من أمر منهم بقتال فلا يمكن أن يغلبه أعداؤه أبداً ألبتة بل النصر مجزوم به له ولأتباعه وهم الغالبون القاهرون، قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (21) سورة المجادلة . وهنا أكد الله سبحانه وتعالى غلبة الرسل بمؤكد ما بعده مؤكد فقد عطف الرسل على ذاته العلية (( أنا )) فتأكدت الغلبة كل تأكيد فالله معهم وهو غالب لا يغلب سبحانه، والتحقيق أن الأنبياء الذين ذكر القرآن أن أقوامهم قتلوهم أنهم لم يكونوا في قتال.(1)
أما من قاتل منهم فإنه لا يتصور بحال ولا يليق بحال العزيز القهار ذي الانتقام أن يكلف ويرسل رسولاً ويأمره بقتال ثم يقتل وهو لم ير ما وُعد من نصر والآية المذكورة شاهدة في هذا المعنى بذلك.
ومما يلحظ كذلك أن الآيات التي جاء فيها الوعد بالتمكين ونحوه وذُكِرَ لفظ الرسل فيها فهي في الغالب تجزم بالوعد دون تعليقه على أي عمل أو شرط أو تقديم يتقدم به الرسل لينالوا الوعد ويتحقق لهم؛ بينما الآيات التي يذكر فيها الوعد بالتمكين ونحوه للمؤمنين يعلق الوعد بالتمكين أو النصر أو نحوهما بأعمال وأحوال إذا هي تحققت تحقق لهم متعلقها من الموعود به من النصر والتمكين، وذلك أن الرسل على صلة مباشرة بالوحي فلا حاجة لتنبيههم لحالة أو صفة ليتحلوا بها وهم قد تحلوا بالصفات المؤهلة لنيلهم النصر منذ تأهلوا واستحقوا أن يكونوا موضع رسالات الله سبحانه وتعالى، وكذلك فهم لصلتهم المباشرة بالوحي وعناية الإله ورعايته لدعوتهم، لا يمكن أن يخطئوا الطريق أو يعشوا عن عوامل النصر وأسباب تحقق الوعد بالتمكين.
ــــــــــــــــــــ
5- وعدُ المؤمنين بالتمكين ومزاياه:
إنَّ أهل الإيمان من بعد الرسل فإنهم لا يلبثون بين فينة وأخرى حتى يقصروا عن أسباب النصر، وعوامل التمكين، أو يبحثون عنها أحياناً، ويخطئون الطريق إليها أحياناً، أو تفقد منهم صفات وأحوال هي حتمية لنيل النصر وإحقاق وعد الله لهم بالعاقبة، ولذلك جاء الوعد بالتمكين لهم معلقاً بصفات وأعمال وتقدمات يجب أن يحققها أهل الإيمان ليتحقق لهم وعد النصر والتمكين.
وإليك الآيات في ذلك فهي ظاهرة الدلالة واضحة في ترتيب الوعد لهم وتعلقه بأمور عدة بخلاف ما سبق سرده من آيات ذكر فيها الرسل، وذكر فيها الوعد لهم بالنصر والتمكين دون تعليق إلا نادراً :
__________
(1) - راجع بيان ذلك والاستدلال عليه في تفسير أضواء البيان (7/824).(1/91)
قال سبحانه وتعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (55) سورة النور.
فعلق الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور:
(أ ) وجود الجماعة المؤمنة وتحقق الإيمان فيها.
(ب) عمل الصالحات : من القيام بشرائع الدين وتنفيذ أوامر الله عملاً وليس ادعاءً فقط.
(ج) التزام نهج الصحابة، لقوله: (( منكم )) فالخطاب لهم وينسحب على من نهج نهجهم.
(د) انتفاء الشرك في العبادة: { يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } (55) سورة النور
وقال سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد.
وهنا علَّق الله سبحانه وتعالى نصره للمؤمنين بقيامهم بنصرة دينه سبحانه.
وقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) } [الصف/10-14] .
فرتب النصر والفتح هنا على الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس.
نتيجة تمايز الوعدين:
ومن خلال امتياز وعد الرسل بالتمكين عن وعد المؤمنين في القرآن بالميزتين السابقتين وهما:
1. كثرة المؤكدات اللفظية والمعنوية.
2. عدم تعليق الوعد بتمكينهم بشرط أو عمل كما في وعد المؤمنين.
من خلال ذلك نخرج بنتيجة هامة جداً وهي أن التزام منهج الرسل في نصرة الدين هو أعظم عوامل تمكين الجماعة المؤمنة من بعدهم، وذلك أن هذا الالتزام التزام لمنهج قد ضمن الله _سبحانه_ له التمكين وكتبه على نفسه وأكده أعظم تأكيد، ولم يعلقه بشرط أو أمر، مما يدل أنه منهج شامل متكامل يضم كل عوامل النصر والتمكين ويضمنها، فالثبات عليه هو جماع الأمر في تمكين المؤمنين ودعوتهم والسبب الأول والأخير في سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولقد بين الله جل وعلا هذا أتم البيان وجعل ذلك سنة لا تتخلف في نصر المؤمنين إذا ثبتوا على مناهج المرسلين وسماهم بذلك "المحسنين" قال تعالى عن الجموع الغفيرة من المؤمنين الذين ثبتوا بعد قتل النبي : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا(1/92)
وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } [آل عمران/146-148].
فتأمل قوله تعالى: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) أي كم من نبي قتل، فهذا ليس بحال نبي واحد ولا مجموعة بل كثرة، وهذا حال المؤمنين بعدهم وهذا حال نصر الله لهم فآتاهم الله (( ثواب الدنيا )) أي "النصر والظفر والعاقبة" مع حسن ثواب الآخرة كذلك.
وجعل هذا سبحانه سنة ثابتة في سورة الصافات للمؤمنين إذا ترسموا مناهج النبيين، فعقب على نصر نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس عليهم صلوات الله وسلامه ـ كلٌ على حدة ـ بقوله: { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) } [الصافات/80-82] أي نصر الله هذا لهم ليس خاصاً بهم فقط، وإنما لكل جماعة مؤمنة أحسنت على نهج إحسانهم وعبدت الله على حقيقة إيمانهم.
ومن هنا نعلم مدى الحكمة عند الصحابة وعظيم الحرص على الثبات على الحال التي فارقهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى في بناياتهم ومقتنياتهم وحالتهم المادية ـ عند كثير منهم ـ فكيف بحرصهم على البقاء على الدين والمعتقد والإيمان والمنهج وهو سبيل النصر العظيم في الدنيا، وسبيل النجاة في الآخرة. ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله تعالى_ في هذا المعنى كلاما لا أظن أن كلاما ـ بعد كلام الله ورسوله ـ أنفس منه ولا أجمل إذ قال : ( ... ولهذا كل من كان متبعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان الله معه بحسب هذا الاتباع ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (64) سورة الأنفال، أي حسبك وحسب من اتبعك ، فكل من اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جميع المؤمنين فالله حسبه ، وهذا معنى كون الله معه ، والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق ، والناقصة مع الناقص ، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه ، وهو معه ، وله نصيب من قوله تعالى : {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40) سورة التوبة، فإن هذا قلبه موافق للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن صحبه ببدنه ، والأصل في هذا القلب كما في الصحيحين
البخارى(4423 ) ومسلم (5041 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ « إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ « وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ » . .(1/93)
فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلهم معنى صحبته في الغزاة ، فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية .(1)
ــــــــــــــــــــ
6- قتلُ الأنبياء والوعد بالتمكين لهم :
قد سبق في مبحث "الوعد بالتمكين" ذكر وعد الله سبحانه في أم الكتاب عنده وفي الكتب المنزلة على الرسل بأن التمكين لهم والغلبة حظهم، وأنه سبحانه أكد ذلك الوعد بتوكيدات هي الغاية في التأكيد حقاً، ولكن تتفاجأ بديهة القارئ لكتاب الله ـ بعد أن يستشعر صدق الوعد ومثوله متحققاً ـ بقتل ذلك الموعود وعلى يدي أراذل الخلق ومجرمي الوقت، ومن المقتول ؟ النبي المرسل الداعي الموعود بالنصر والغلبة والحق الذي لا غبار عليه أن الوعد لم يتخلف فإن الله لا يخلف الميعاد، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، وأما النبي فقد قتل فعلاً، فقد قال سبحانه وتعالى عن أنبياء بني إسرائيل: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } (87) سورة البقرة. وقال عنهم سبحانه وتعالى :{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } (61) سورة البقرة. وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (21) سورة آل عمران.
ولإزالة الغموض وبيان الحق في هذه المسألة، وبيان أن وعد الله على تمامه سبحانه وتعالى رغم قتل النبي الموعود بالتمكين فلا بد من بيان ثلاث نقاط، وهي :
الأولى: أنه لم يقتل نبي من الأنبياء الذين أمروا بالقتال أبداً:
فلم يقتل نبي في قتال ، وإنما قتل الأنبياء الذين ذكر الله أنهم قتلوا في غير جهاد ولا قتال ، قال صاحب أضواء البيان رحمه الله تعالى :
" وقد دلت هذه الآية الكريمة ، وأمثالها من الآية كقوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171 - 173 ] أنه لن يقتل
__________
(1) - منهاج السنة ( 8/487ـ 488) طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود .(1/94)
نبي في جهاد قط ، لأن المقتول ليس بغالب ، لأن القتل قسم مقابل للغلبة ، كما بينه تعالى في قوله : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ } [ النساء : 74 ] الآية . وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] الآية . وقد نفى عن المنصور كونه مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } [ آل عمران : 160 ] .
وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] وقوله تعالى : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } [ آل عمران : 183 ] ليسوا مقتولين في جهاد ، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] ، على قراءة قتل بالبناء للمفعول ، هو ربيون لا ضمير النبي .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة آل عمران في الكلام على قوله : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] وذكرنا بعضه في الصافات في الكلام على قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] ".(1)
والحقيقة أن هذا الاستنباط الذي استنبطه العلامة الشنقيطي من دلالات الآيات والتوفيق بينها للخروج بهذه القطعية لينبئ عن براعة الرجل في تفسير القرآن بالقرآن، وكذلك يخرج ببرهان واضح في هذه المسألة، ويوافق ما قاله الحسن وسعيد بن جبير من أنه "ما قتل نبي في حرب قط" .
أما القراءة التي في قوله تعالى: { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (146) سورة آل عمران بدلاً من قراءة (( قاتل )) فهي قراءة سبعية، قرأ بها نافع وابن كثير وأبو عمرو، ومن العشرة يعقوب وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، إلا أن الآية لا تنص على أن النبي المقتول كان في قتال أو أمر به، وعليه فلا تخالف ما سبق تقريره في ذلك.
ــــــــــــــــــــ
7- الانتصارُ من قتلة الأنبياء:
إن دماء الأنبياء الذين يقتلون لا تذهب هدراً فوليها بالثأر هو الله سبحانه وتعالى، هم ومن كان قائماً في الناس يأمرهم بالقسط من المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: { إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (51) سورة غافر.
والرسل الذين قتلوا يكون نصرهم في الدنيا بالانتصار ممن قتلهم والانتقام منه، وقَالَ السُّدِّيّ:" لَمْ يَبْعَث اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رَسُولًا قَطُّ إِلَى قَوْم فَيَقْتُلُونَهُ أَوْ قَوْمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْحَقّ فَيُقْتَلُونَ
__________
(1) - أضواء البيان - (ج 8 / ص 165)(1/95)
فَيَذْهَب ذَلِكَ الْقَرْن حَتَّى يَبْعَث اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ مَنْ يَنْصُرهُمْ فَيَطْلُب بِدِمَائِهِمْ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ فَكَانَتْ الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤْمِنُونَ يُقْتَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مَنْصُورُونَ فِيهَا وَهَكَذَا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ وَكَذَّبَهُ وَعَادَاهُ فَجَعَلَ كَلِمَته هِيَ الْعُلْيَا وَدِينه هُوَ الظَّاهِر عَلَى سَائِر الْأَدْيَان "(1)
ولقد ذكر الإمام ابن جرير في تفسيره عند هذه الآية قتل الأنبياء ونصرهم المذكور في الآية وأجاب عليه بجوابين، أحدهما: قول السدي هذا، وقول السدي هذا من الانتصار لهم في الدنيا هو الجواب الأولى الذي عليه شواهد من القرآن والسنة، فقد قرن الله سبحانه وتعالى في موضعين من كتابه بين ضرب الذلة والمسكنة وبين قتل الأنبياء ، وجعل ضرب الذلة والمسكنة عقابا لقتلة الأنبياء . قال تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } (61) سورة البقرة، وكذلك فقد بين الله سبحانه وتعالى أن الذين يخرجون رسله من قراهم لا يلبثون إلا قليلاً حتى يحل بهم العذاب ، فقال سبحانه وتعالى: { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) } سورة الإسراء.
فإذا كانت هذه سنته سبحانه فيمن أخرج رسله من إحلال العذاب بهم بعد مدة يسيرة من إخراج الرسول، فما الحال إذن فيمن قتلوا رسولهم إلا أشد وأنكى والله عزيز ذو انتقام.
الثالثة: قتل النبي ليس قتلاً لدعوته وإنما لشخصه فقط: وأحياناً بل غالباً ما يكون قتل الداعي إلى أمر ما عاملاً في إلهاب الحماس في نفوس أنصاره والثبات على نهجه وسبباً في انتشار دعوته.وإليك الآيات وهي تبين ذلك، ونحن نوردها على قراءة البناء للمفعول في (قتل).
قال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } [آل عمران/146-148].
والله سبحانه وتعالى إنما بعث الرسل للدعوة إلى عبادته وإعلاء كلمته وإظهار دينه، لا للدعوة إلى أنفسهم وإبراز شخصياتهم وإظهارها، وهو سبحانه وتعالى حين وعدهم النصر والغلبة، لم يعدهم كذلك لأجل أشخاصهم، وإنما وعدهم لأجل ما يحملونه من دعوة حق، ومنهاج شريعة من عنده،
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 14 / ص 357)(1/96)
فبقاء دعوة الحق وانتشارها، ووجود من يحملها نصر لها وللداعي إليها، وإن كان قد مات أو قتل ذلك الداعي.وهذا نبي الله عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-، قد أزمع اليهود قتله وباؤوا بإثم قتله وإن كانوا لم يقتلوه ـ وذلك لتمام تصميمهم على هذا الإثم ـ رفعه الله إليه وتوفاه وجعل الذين اتبعوه فوق من كفر بدعوته وتربص به ظاهرين عليهم إلى يوم القيامة، فلم يتخلف شيء مما وعد الله به الرسل من ظهور الدين وتمام النصر والانتصار لهم، لم يتخلف شيء من ذلك في دعوة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (55) سورة آل عمران.
ــــــــــــــــــــ
8- أن تحمله جماعة من البشر وتضحي من أجله بالغالي والنفيس :
هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الدين، وطريقة عمله في حياة البشر... حقيقة أولية بسيطة... ولكنها مع بساطتها، كثيراً ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء. فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: حقيقته الذاتية وواقعه التاريخي. حاضرة ومستقبله كذلك!.
إن البعض ينتظر من هذا الدين- ما دام منزلاً من عند الله- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب! ودون أي اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أي مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم.
وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة، وحين يرون أن الطاقة البشرية المحدودة، والواقع المادي للحياة الإنسان ية ، يتفاعلان معه، فيتأثران به - في فترات - تأثراً واضحاً، على حين أنهما في فترات أخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه، فتقعد بالناس شهواتهم وأطماعهم، وضعفهم ونقصهم، دون تلبية هتاف هذا الدين، أو الاتجاه معه في طريقه..
حين يرون هذا فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها - ما دام هذا الدين منزلاً من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته. أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً!.
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.
إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهمإلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.(1/97)
وميزته الأساسية: انه لا يغفل لحظة، في أية خطة وفي أية خطوة عن فطرة الإنسان وحدود طاقته ، وواقع حياته المادي أيضاً. وأنه - في الوقت ذاته- يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة -إلى ما لم يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق . و في يسر وراحة وطمأنينة واعتدال.
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم إدراك طبيعة هذا الدين أو من نسيانها. ومن انتظار الخوارق المجهولة الأسباب على يديه...تلك الخوارق التي تبدل فطرة الإنسان ، ولا تبالي طاقاته المحدودة ، ولا تحفل واقعه المادي البيئي !
أليس هو من عند الله؟ أليس الله قادرا على كل شيء؟ فلماذا إذن يعمل هذا الدين - فقط- في حدود الطاقة البشرية المحدودة؟ وتتأثر نتائج عمله بالضعف البشري؟ بللماذا يحتاج أصلا إلى الجهد البشري؟ ثم...لماذا لا ينتصر دائماً، ولا ينتصر أصحابه دائماً؟لماذا تغلب ثقلة الضعف والشهوات والواقع المادي على رفرفته وشفافيته وانطلاقته أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه - وهم أهل الحق - أحياناً!!
وكلها - كما ترى - أسئلة وشبهات، تنبع ابتداء من عدم إدراك الحقيقة الأولية لطبيعة هذا الدين وطريقته... أو من نسيانها!.
إن الله قادر - طبعاً - على تبديل فطرة الإنسان ، عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه. ولكنه - سبحانه - شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والرغبة في الهدى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " ... وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً، ولا تمحى ولا تعطل: " و نفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها ".. وشاء أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "... " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " وشاء أن يبلغ الإنسان من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد، وما يُنفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم، وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله: "احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعملن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ".
وليس لأحد من خلق الله أن يسأله - سبحانه -لماذا شاء هذا كله على هذا النحو الذي أراده فكان. ليس لأحد من خلقه أن يسأله - سبحانه - ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً، وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم - بالنظام الكلي لهذا الكون؛ ومقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود.(1/98)
ولماذا ؟ - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله ملحد جاد ... المؤمن لا يسأله، لأنه أكثر أدباً مع الله - الذي يعرفه بذاته وصفاته وخصائصه - وأكثر معرفة بطبيعة إدراكه البشري وحدوده، وأنه لم يهيأ للعمل في هذا المجال ... والملحد الجاد لا يسأله، لأنه لا يعترف بالله ابتداء، فان هو اعتراف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته، وأنه : " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ". لأنه وحده المهيمن العليم بما يفعل.
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع. لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد. ومن ثم لا يجوز الاحتفال به، ولا أخذه مأخذ الجد... وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية وخصائصها. فالسبيل لتعليم هذا الجاهل ليس هو الإجابة المباشرة. إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية وخصائصها... حتى يعرفها ويسلم بها فهو مؤمن. أو يجحدها وينكرها فهو ملحد... وبهذا ينتهي الجدل... إلا أن يكون مراء !
والمسلم منهى عن المضي في الجدل حتى يكون مراء!.
والخلاصة التي ننتهي إليها من هذا الاستطراد في هذه الفقرة: هي أنه ليس لأحد من خلق الله أن يسأله - سبحانه -لماذا شاء أن يخلق " الإنسان " بهذه الفطرة ؟ ولماذا شاء أن يبقي فطرته هذه عاملة لا تمحى ولا تعطل ؟لماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي لحياته البشرية يتحقق عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية، والواقع المادي لحياته؟ ولم يشأ أن يجعله يتم بوسيلة خارقة، وبأسباب مبهمة غامضة!.
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقائق ويعرفها؛ ويراها وهي تعمل في واقع الحياة البشرية. ويفسر أحداث التاريخ البشري على ضوئها. فيفقه خط سيرها التاريخي من ناحية؛ ويعرف كيف يواجه هذا الخط ويوجهه من ناحية أخرى. ويعيش مع حكمة الله وقدره، فينطبع بهما الانطباع الصحيح من ناحية ثالثة.
هذا المنهج الإلهي، الذي يمثله "الإسلام " في صورته النهائية، كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتحقق في الأرض، وفي دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. لا يتحقق بكلمة: "كن" الإلهية، مباشرة لحظة تنزله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب.
إنما يتحقق بان تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه - بقدر طاقتها- وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك... تجاهد الضعف البشري والهوى البشري في داخل النفوس. وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى للوقوف في وجه الهدى... وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج،إلى الحد الذي تطيقه فطرة البشر، والذي يهيئه لهم واقعهم المادي. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً، ولا تغفل واقعهم، ومقتضياته في سير وتتابع مراحل هذا المنهج الإلهي... ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس(1/99)
الناس معها تارة. وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة.. بقدر ما تبذل من الجهد . وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال. وقبل كل شيء... بمقدار ما تمثل هي ذاتها من حقيقة هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي.
هذه هي طبيعة هذا الدين وطريقته... وهذه هي خطته الحركية ووسيلته.. وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهو يقول لها: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ". " والذين جاهدوا فينا يهدينهم سبلنا ".
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة في غزوة أحد حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذوات أنفسها في بعض مواقف الغزوة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل المناسبة في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن هذه الحقيقة الأولية أو نسيتها. وفهمت أن من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً! فقال لها الله سبحانه: " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم ". وقال لها. " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.. ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ".
ولقد تعلمت الجماعة المسلمة هذه الحقيقة في هذه الغزوة، لا بالكلام ولا بالعتاب، ولكن تعلمتها مع هذا بالدماء وبالآلام. ودفعت ثمنها غالياً: هزيمة بعد نصر. وخسارة بعد غنم. وجراحاً لم تكد تدع أحداً معافى. وشهداء كراماً فيهم سيد الشهداء حمزة - رضى الله عنه - وأغلى من ذلك كله وأشد وقعاً على الجماعة المسلمة كلها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الكريم، وكسر رباعيته في فمه، ووقوعه لجنبه في الحفر التي حفرها أبو عمرو الفاسق حليف قريش مكيدة للمسلمين، وجهد المشركين له -صلى الله عليه وسلم- وهم يطاردونه، وهو مفرد في نفر من أصحابه استشهدوا واحداً بعد واحد وهم يذودون عنه، ويترس أحدهم- أبو دجانة- بظهره عليه يقيه نبل المشركين، والنبل يقع في ظهره فلا يتحرك... حتى ثاب إليه المؤمنون من هزيمتهم وحيرتهم، وهم يتلقون هذا الدرس الشاق المرير!.
على أنه من الملاحظ الواضح أن ترك المنهج الإلهي للجهد البشري، يتولى تحقيقه في حدود الطاقة البشرية، يصلح النفوس البشرية، ويصلح الحياة البشرية.. نقول هذا لا لنعلل به مشيئة الله - سبحانه- في جعل الأمر على ما جعله. ولكن لنسجل - فقط - ملاحظة واقعية لآثار هذه المشيئة في حياة العباد.
ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم بالقلب بكراهة باطلهم وجاهليتهم والعزم على نقلهم منهاإلى الحق والإسلام . ومجاهدتهم باللسان(1/100)
بالتبليغ والبيان. ورفض باطلهم الزائف، وتقرير الحق الذي جاء به الإسلام . ومجاهدتهم باليد بالدفع والإزالة من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية والبطش الغشوم!..
وحتى يتعرض في تلك المجاهدة للابتلاء والأذى، والصبر على الابتلاء والأذى، والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضاً - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة. ثم يثبت ولا يرتاب، ويستقيم ولا يتلفت، ويمضي في طريق الإيمان راشداً صاعداً.
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس؛ وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة. ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة.
وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ". وأول ما تفسد: فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح، وتسترخي معه الهمة، ويتلفها الرخاء والطراوة،. ثم تأسن الحياة كلها بالركود. أو بالحركة في مجال الشهوات وحدها. كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء!
فهذه كذلك من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لقد جعل صلاح هذه الفطرة في المجاهدة لإقرار منهج الله للحياة البشرية، عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية كذلك.
ثم إن هذه المجاهدة ومن يصاحبها من الابتلاء، هي الوسيلة العملية لتمحيص الصفوف - بعد تمحيص النفوس - ولتنقية الجماعة من المعطلين والمعوقين والمرجفين، ومن ضعاف النفوس والقلوب، ومن المخادعين والمنافقين والمرائين.
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهي تتعرض للامتحان، وتتعرض للابتلاء، وتتكشف فيها خفايا النفوس، كما تتميز فيها الصفوف،. تحت مطارق الابتلاء ومشقة التجربة، ومرارة الآلام.
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يعقب على أحداث الغزوة. فيقول لها، رداً على سؤال المسلمين: " أنى هذا؟" "قل: هو من عند أنفسكم ".. ثم يعقب على هذا بقوله: " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله. وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ".. " وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب".. " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين "... كل ذلك ليستقر في حسهم أنه مع أن ما أصابهم كان بسبب تقصيرهم في تمثيل حقيقة الإيمان كاملة في مشاعرهم وتصرفاتهم في الغزوة.. فانه كذلك كان لخيرهم في النهاية بفضل الله عليهم، وتجاوزه عن تقصيرهم،(1/101)
واتخاذ نتائجه مادة لتعليمهم وتمحيصهم وتطهيرهم، وتمييز صفوفهم... وكله خير لأنفسهم ولحياتهم في نهاية المطاف...
ولا يتم تمام القول في طبيعة هذا الدين وطريقته، حتى نضيف إلى تلك الحقيقة التي نرجو أن نكون قد كشفنا عنها في هذا البيان... تكملة ضرورية لها لابد من بيانها كذلك:
إن كون هذا المنهج الإلهي متروك تحقيقه للجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في شتى المدارج، وشتى البيئات.. لا يعني استقلال الإنسان نهائياً بهذا الأمر، وانقطاعه عن قدرة الله وتدبيره، ومدده وعونه وتوفيقه وتيسيره.. فتصور الأمر على هذا النحو مخالف في أصوله لطبيعة التصور الإسلام ي.
ولقد بينا فيما سلف أن الله -سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "... وأنه يغير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".
وهذان النصان يوضحان لنا العلاقة بين الجهد البشري الذي يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والهدى والصلاح والفلاح.
فإرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ "الإنسان " بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه.
وقدر الله - مع ذلك كله - هو الذي يحيط بالناس والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في هذا الابتلاء.
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله - سبحانه- أن يعلمها للجماعة المسلمة. وهو يبين لها في التعقيب على غزوة أحد أسباب النصر وأسباب الهزيمة - من عملها - ثم يكشف لها عن حكمة الله من وراء الابتلاء كله، ومن وراء النصر والهزيمة: وعن تدبيره كذلك " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ". وليعرفهم سنته الشاملة. ومردها في النهاية إلى مشيئته الطليقة وقدره النافذ من وراء الأسباب والوقائع: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منك شهداء. والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين".
وإذن فهو - في النهاية - تدبير الله ومشيئته وقدره، ليتم ما يريده من وراء الأسباب والأحداث. وهو الأمر الذي لا يسأل عنه سبحانه: لأنه شأنه الإلهي، الذي لا يسأل عنه... وهذه هي حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم في النفس إلا باستقرارها فيها، واطمئنانها إليها... وهي التكملة التي لابد منها لما قررناه في هذا الفصل عن طبيعة هذا الدين وطريقته ... بلا تعارض بين طرقي هذه الحقيقة في حسن(1/102)
المسلم، الذي يتذوق قلبه حقيقة هذا الدين، كما أنزلها الله. ولا يعارضها بتصورات ومقررات ليست مستقاة من كتاب الله.
ــــــــــــــــــــ
9- أن يعي المسلمون معنى لا إله إلا الله :
العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة : أن لا إله إلا الله . والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية هذه العبودية - هو شطرها الثاني ، المتمثل في شهادة أن محمداً رسول الله .
والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها ، لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان ، وأركان الإسلام ، إنما هو مقتضى لها . فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات والتشريعات والتوجيهات الإسلامية ... إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده ، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلَّغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه .
والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضايتها جميعاً لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضايتها فيه لا يكون مسلماً .
ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها ، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة ، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة ، أو قامت على قاعدة أخرى معها ، أو عدة قواعد أجنبية عنها :
* إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ * ... [ يوسف : 40 ]
* مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ * .. [ النساء : 80 ]
هذا التقرير الموجز المطلق الحاسم يفيدنا في تحديد كلمة الفصل في قضايا أساسية في حقيقة هذا الدين ، وفي حركته الواقعية كذلك :
إنه يفيدنا أولاً في تحديد " طبيعة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثانياً في تحديد " منهج نشأة المجتمع المسلم " .
ويفيدنا ثالثاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة المجتمعات الجاهلية " .
ويفيدنا رابعاً في تحديد " منهج الإسلام في مواجهة واقع الحياة البشرية " .
وهي قضايا أساسية بالغة الخطورة في منهج الحركة الإسلامية قديماً وحديثاً .(1/103)
إن السمة الأولى المميزة لطبيعة ( المجتمع المسلم ) هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله .. هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله
وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، كما تتمثل في الشعائر التعبدية ، كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء .
فليس عبداً لله وحده من لا يعتقد بوحدانية الله سبحانه :
* وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * ... [ النحل : 51 - 52 ]
ليس عبداً لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحد غير الله - معه أو من دونه :
* قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * [ الأنعام : 162 - 163 ]
وليس عبداً لله وحده من يتلقى الشرائع القانونية من أحد سوى الله ، عن الطريق الذي بَلَّغَنَا الله به ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
* أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ * [ الشورى : 21 ]
* وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا * [ الحشر : 7 ]
هذا هو المجتمع المسلم . المجتمع الذي تتمثل العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم ، كما تتمثل في شعائرهم وعبادتهم ، كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم .. وأيما جانب من هذه الجوانب تخلف عن الوجود فقد تخلف الإسلام نفسه عن الوجود . لتخلف ركنه الأول ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
ولقد قلنا : إن العبودية لله تتمثل في " التصور الاعتقادي " .. فيحسن أن نقول ما هو التصور الاعتقادي الإسلامي .. إنه التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني ، والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه ، ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه - غيبه وشهوده - ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها - غيبها وشهودها - ولحقيقة نفسه .. أي لحقيقة الإنسان ذاته .. ثم يكيف على أساسه تعامله مع هذه الحقائق جميعاً ، تعامله مع ربه تعاملاً تتمثل فيه عبوديته لله وحده ، وتعامله مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها ، ومع أفراد النوع البشري وتشكيلاته تعاملاً يستمد أصوله من دين الله - كما بَلَّغَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحقيقاً لعبوديته لله وحده في هذا التعامل .. وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كله .
فإذا تقرر أن هذا هو " المجتمع المسلم " ، فكيف ينشأ هذا المجتمع ؟ ما منهج هذه النشأة ؟(1/104)
إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده ، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله ..
لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور ، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر .. ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع ..
ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة .. تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله - معه أو من دونه - وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله - معه أو دونه - وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله - معه أو من دونه . عندئذ - وعندئذ فقط - تكون هذه الجماعة مسلمة ، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلماً كذلك ..
فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله - على النحو الذي تقدم - فإنهم لا يكونون مسلمين .. وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً .. ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام ، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم - هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - لم تقم بشطريها
وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي ، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام .. ينبغي أن يتجه الاهتمام أولاً إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله - في أي صورة من صورها التي أسلفنا - وأن يتجمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة .. وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله ، اعتقاداً وعبادة وشريعة ، هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم ، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع بعقيدته وعبادته وشريعته التي تتمثل فيها العبودية لله وحده .. أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
هكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول .. وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة ، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .
إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله - معه أو من دونه - إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ثم من تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية ..
وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد ، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم ، ومواجه له بعقيدة جديدة ، ونظام للحياة جديد ، يقوم على أساس هذه العقيدة ، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه ..
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
وقد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد وقد لا ينضم ، كما أنه قد يهادن المجتمع المسلم الجديد أو يحاربه ، وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حرباً لا(1/105)
هوادة فيها ، سواء على طلائع هذا المجتمع في مرحلة نشوئه - وهو أفراد أو مجموعات - أو على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلاً - وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام ، إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، بغير استثناء .
وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم ، قوة الاعتقاد والتصور ، وقوة الخلق والبناء النفسي ، وقوة التنظيم والبناء الجماعي ، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويتغلب عليه ، أو على الأقل يصمد له !
ولكن ما هو " المجتمع الجاهلي " ؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته ؟
إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم !
وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية ..
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية .. أولاً : بإلحادها في الله - سبحانه - وبإنكار وجوده أصلاً ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى " المادة " أو " الطبيعة " ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج " ، ثانياً " : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! ثم ما يترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص " الإنسان " وذلك باعتبار أن " المطالب الأساسية " له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي : الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه " الإنساني " المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية اختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن " فرديته " وهي من أخص خصائص " إنسانيته " . هذه الفردية التي تتجلى في الملكية الفردية ، وفي اختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن " الذات " إلى آخر ما يميز " الإنسان " عن " الحيوان " أو عن " الآلة " إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيراً ما يهبط بالإنسان عن مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآلة !
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه - أولاً : بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه - وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى(1/106)
شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا باسم ( الشعب ) أو باسم ( الحزب ) أو باسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي بَلَّغها عنه رسله .
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً .. تدخل فيه هذه المجتمعات أولاً : بتصورها الاعتقادي المحرَّف ، الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها :
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * .. [ التوبة : 30 ]
* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ... [ المائدة : 63 ]
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ * ... [ المائدة : 64 ]
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ * ... [ المائدة : 18 ]
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الاعتقادية المنحرفة الضالة .. ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده ، بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ، لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه .. وقديماً وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه :
* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * .. [ التوبة : 31 ]
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ، بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ولا رهباناً .. وكلهم سواء .. وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها " مسلمة " ! .
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها . فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله ، فتدين(1/107)
بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها .. وكل مقومات حياتها تقريباً ! .
والله سبحانه يقول عن الحاكمين : * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * .. [ المائدة : 44 ]
ويقول عن المحكومين : * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ... * إلى أن يقول * ... فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * .. [ النساء : 60 - 65 ]
كما إنه - سبحانه - قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركاً كاتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلاً ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على " العلمية " باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ( ) وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! .. وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده ..
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة :
إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده . وهي من ثم تلتقي - مع سائر المجتمعات الأخرى - في صفة واحدة .. صفة " الجاهلية " ..
وهذا يقودنا إلى القضية الخطيرة وهي منهج الإسلام في مواجهة الواقع البشري كله .. اليوم وغداً وإلى آخر الزمان .. وهنا ينفعنا ما قررناه في الفقرة الأولى عن " طبيعة المجتمع المسلم " ، وقيامه على العبودية لله وحده في أمره كله .
إن تحديد هذه الطبيعة يجيب إجابة حاسمة عن هذا السؤال :
- ما الأصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية وتقوم عليه ؟ أهو دين الله ومنهجه للحياة ؟ أم هو الواقع البشري أيّاً كان ؟(1/108)
إن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة لا يتلعثم فيها ولا يتردد لحظة .. إن الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين الله ومنهجه للحياة .. إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي هي ركن الإسلام الأول ، لا تقوم ولا تؤدى إلا أن يكون هذا هو الأصل .. وأن العبودية لله وحده مع التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتحقق إلا أن يعترف بهذا الأصل ، ثم يتبع اتباعاً كاملاً بلا تلعثم ولا تردد :
* وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا * [ الحشر: 7 ]
ثم إن الإسلام يسأل :* أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ *
ويجيب :* وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * .. * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً * ..
والذي يعلم - والذي يخلق ويرزق كذلك - هو الذي يحكم .. ودينه الذي هو منهجه للحياة ، هو الأصل الذي ترجع إليه الحياة .. أما واقع البشر ونظرياتهم ومذاهبهم فهي تفسد وتنحرف ، وتقوم على علم البشر الذين لا يعلمون ، والذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً !
ودين الله ليس غامضاً ، ومنهجه للحياة ليس مائعاً .. فهو محدد بشطر الشهادة الثاني : محمد رسول الله ، فهو محصور فيما بَلَّغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من النصوص في الأُصول .. فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم ، ولا اجتهاد مع النص . وإن لم يكن هناك نص فهنا يجيء دور الاجتهاد - وفق أصوله المقررة في منهج الله ذاته . لا وفق الأهواء والرغبات - :
* فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ * .. [ النساء : 59 ]
والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة .. فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه : هذا شرع الله ، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة ، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا ( الشعب ) ولا ( الحزب ) ولا أي من البشر ، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطاناً باسم الله . كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم " الثيوقراطية " أو " الحكم المقدس " فليس شيء من هذا في الإسلام . وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما هنالك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله ..
إن كلمة " الدين للواقع " يساء فهمها ، ويساء استخدامها كذلك . نعم إن هذا الدين للواقع . ولكن أي واقع !
.. إنه الواقع الذي ينشئه هذا الدين نفسه ، وفق منهجه ، منطبقاً على الفطرة البشرية في سوائها ، ومحققاً للحاجات الإنسانية الحقيقية في شمولها . هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق :* أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * [ الملك : 14 ](1/109)
والدين لا يواجه الواقع أيا كان ليقرَّه ويبحث له عن سند منه ، وعن حكم شرعي يعلقه عليه كاللافتة المستعارة ! إنما يواجه الواقع ليزنه بميزانه ، فيقر منه ما يقر ، ويلغي منه ما يلغي ، وينشئ واقعاً غيره إن كان لا يرتضيه ، وواقعه الذي ينشئه هو الواقع . وهذا هو المعنى بأن الإسلام : " دين للواقع " .. أو ما يجب أن تعنيه في مفهومها الصحيح !
ولعله يثار هنا سؤال : " أليست مصلحة البشر هي التي يجب أن تصوغ واقعهم ؟ " ! .
ومرة أخرى نرجع إلى السؤال الذي يطرحه الإسلام ويجيب عليه : - ... * أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ * ؟
- ... * وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * !
إن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله ، كما أَنزله الله ، وكما بَلَّغه عنه رسول الله ..
فإذا بدا للبشر ذات يوم أن مصلحتهم في مخالفة ما شرع الله لهم ، فهم .. أولاً : " واهمون " فيما بدا لهم .
* إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ، أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * ... [ النجم :23-25 ]
وهم .. ثانياً : " كافرون " .. فما يدعي أحد أن المصلحة فيما يراه هو مخالفاً لما شرع الله ، ثم يبقى لحظة واحدة على هذا الدين . ومن أهل هذا الدين ! .
شَريعَةٌ كَوْنِيّة
إن الإسلام حين يقيم بناءه الإعتقادي في الضمير والواقع على أساس العبودية الكاملة لله وحده ، ويجعل هذه العبودية متمثلة في الاعتقاد والعبادة والشريعة على السواء ، باعتبار أن هذه العبودية الكاملة لله وحده - في صورتها هذه - هي المدلول العملي لشهادة أن لا إله إلا الله .. وأن التلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده هو المدلول العملي كذلك لشهادة أن محمداً رسول الله ...
إن الإسلام حين يقيم بناءه كله على هذا الأساس ، بحيث تمثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله منهج الحياة في الإسلام ، وتصور ملامح هذا المنهج ، وتقرر خصائصه .. إن الإسلام حين يقيم بناءه على هذا النحو الفريد الذي يفرقه عن جميع الأنظمة الأُخرى التي عرفتها البشرية .. إنما يرجع إلى أصل أشمل في تقريره عن الوجود كله ، لا عن الوجود الإنساني وحده . وإلى منهج للوجود كله لا منهج للحياة الإنسانية وحدها .
إن التصور الإسلامي يقوم على أساس أن هذا الوجود كله من خلق الله ، اتجهت إرادة الله إلى كونه فكان ، وأودعه الله - سبحانه - قوانينه التي يتحرك بها ، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها ، كما تتناسق بها حركته الكلية سواء .
* إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * [ النحل : 40 ] .(1/110)
* وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * .. [ الفرقان : 2 ] .
إن وراء هذا الوجود الكوني مشيئة تدبره ، وقدراً يحركه ، وناموساً ينسقه . هذا الناموس ينسق بين مفردات هذا الوجود كلها ، وينظم حركاتها جميعاً ، فلا تصطدم ، ولا تختل ، ولا تتعارض ، ولا تتوقف عن الحركة المنتظمة المستمرة - إلى ما شاءَ الله - كما إن هذا الوجود خاضع مستسلم للمشيئة التي تدبره ، والقدر الذي يحركه ، والناموس الذي ينسقه ، بحيث لا يخطر له في لحظة واحدة أن يتمرد على المشيئة ، أو أن يتنكر للقدر ، أو أن يخالف الناموس وهو لهذا كله صالح لا يدركه العطب والفساد إلا أن يشاء الله :
* إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * .. [ الأعراف : 54 ] .
والإنسان من هذا الوجود الكوني ، والقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن ذلك الناموس الذي يحكم الوجود كله .. لقد خلقه الله - كما خلق هذا الوجود - وهو في تكوينه المادي من طين هذه الأرض ، وما وهبه الله من خصائص زائدة على مادة الطين جعلت منه إنساناً ، إنما رزقه الله إياه مقدراً تقديراً ، وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الطبيعي الذي سنَّه الله له - رضى أم أبي - يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه - فهما يلتقيان ولكنهما لا يملكان أن يعطيا جنين وجوده - وهو يُولَد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة . وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه ، ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له . وهو يحس ويتألم ، ويجوع ويعطش ، يأكل ويشرب ، ويمثل الطعام والشراب .. وبالجملة يعيش .. وفق ناموس الله ، عن غير إرادة منه ولا اختيار ، شأنه في هذا شأن هذا الوجود الكوني وكل ما فيه وكل من فيه ، في الخضوع المطلق لمشيئة الله وقدره وناموسه ...
والله الذي خلق هذا الوجود الكوني وخلق الإنسان ، والذي أخضع الإنسان لنواميسه التي أخضع لها الوجود الكوني ..
هو - سبحانه - الذي سن للإنسان " شريعة " لتنظيم حياته الإرادية تنظيماً متناسقاً مع حياته الطبيعية . فالشريعة - على هذا الأساس - إن هي إلا قطاع من الناموس الإلهي العام الذي يحكم فطرة الإنسان ، وفطرة الوجود العام ، وينسقها كلها جملةً واحدة .
وما من كلمة من كلمات الله ، ولا أمر ولا نهي ، ولا وعد ولا وعيد ، ولا تشريع ولا توجيه .. . إلا هي شطر من الناموس العام ، وصادقة في ذاتها صدق القوانين التي نسميها القوانين الطبيعية - أي القوانين الإلهية الكونية - التي نراها تتحقق في كل لحظة ، بحكم ما في طبيعتها من حق أزلي أودعه الله فيها ، وهي تتحقق بقدر الله .(1/111)
و " الشريعة " التي سنَّها الله لتنظيم حياة البشر هي - من ثم - شريعة كونية . بمعنى أنها متصلة بناموس الكون العام ، ومتناسقة معه ..
ومن ثم فإن الالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق التناسق بين حياة الإنسان ، وحركة الكون الذي يعيش فيه .. بل من ضرورة تحقيق التناسق بين القوانين التي تحكم فطرة البشر المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم الظاهرة . وضرورة الالتئام بين الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان ..
ولما كان البشر لا يملكون أن يدركوا جميع السنن الكونية ، ولا أن يحيطوا بأطراف الناموس العام - ولا حتى بهذا الذي يحكم فطرتهم ذاتها ويخضعهم له - رضوا أم أبوا - فإنهم - من ثم - لا يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظاماً يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس وحركة الكون ، ولا حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياتهم الظاهرة . إنما يملك هذا خالق الكون وخالق البشر ، ومدبر أمره وأمرهم ، وفق الناموس الواحد الذي اختاره وارتضاه .
وكذلك يصبح العمل بشريعة الله واجباً لتحقيق ذلك التناسق ..
وذلك فوق وجوبه لتحقق الإسلام اعتقاداً . فلا وجود للإسلام في حياة فرد أو حياة جماعة ، إلا بإخلاص العبودية لله وحده ، وبالتلقي في كيفية هذه العبودية عن رسول الله وحده ، تحقيقاً لمدلول ركن الإسلام الأول : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
وفي تحقيق التناسق المطلق بين حياة البشر وناموس الكون كل الخير للبشر ، كما أن فيه الصيانة للحياة من الفساد .. إنهم - في هذه الحالة وحدها - يعيشون في سلام من أنفسهم .. فأما السلام مع الكون فينشأ من تطابق حركتهم مع حركة الكون ، وتطابق اتجاههم مع اتجاهه .. وأما السلام مع أنفسهم فينشأ من توافق حركتهم مع دوافع فطرتهم الصحيحة ، فلا تقوم المعركة بين المرء وفطرته ، لأن شريعة الله تنسق بين الحركة الظاهرة والفطرة المضمرة ، في يسر وهدوء .. وينشأ عن هذا التنسيق تنسيق آخر في ارتباط الناس ونشاطهم العام ، لأنهم جميعاً يسلكون حينئذ وفق منهج موحد ، هو طرف من الناموس الكوني العام .
كذلك يتحقق الخير للبشرية عن طريق إهتدائها وتعرفها في يسر إلى أسرار هذا الكون ، والطاقات المكنونة فيه والكنوز المذخورة في أطوائه ـ واستخدام هذا كله وفق شريعة الله ، لتحقيق الخير البشري العام ، بلا تعارض ولا اصطدام .
ومقابل شريعة الله هو أهواء البشر :
* وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ * ... [ المؤمنون : 71 ] .
ومن ثمَّ توحد النظرة الإسلامية بين الحق الذي يقوم عليه هذا الدين ، والحق الذي تقوم عليه السموات والأرض . ويصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، ويحاسب الله به ويجازي من يتعدونه .. فهو(1/112)
حق واحد لا يتعدد ، وهو الناموس الكوني العام الذي أراده الله لهذا الوجود في جميع الأحوال ، والذي يخضع له ويؤخذ به كل ما في الوجود من عوالم وأشياء وأحياء .
* لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ * ... [ الأنبياء : 10 - 20 ] .
وفطرة الإنسان تدرك هذا الحق في أعماقها ، فطبيعة تكوينه وطبيعة هذا الكون كله من حوله ، توحي إلى فطرته بأن هذا الوجود قائم على الحق ، وأن الحق أصيل فيه ، وأنه ثابت على الناموس ، لا يضطرب ، ولا تتفرق به السبل ، ولا تختلف دورته . ولا يصطدم بعضه ببعض ، ولا يسير وفق المصادفة العابرة والفلتة الشاردة ، ولا وفق الهوى المتقلب والرغبة الجامحة ! إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديراً ..
ومن ثم يقع الشقاق - أول ما يقع - بين الإنسان وفطرته عندما يحيد عن الحق الكامن في أعماقها ، تحت تأثير هواه ، وذلك عندما يتخذ شريعة لحياته مستمدة من هذا الهوى لا من شريعة الله ، وعندما لا يستسلم لله استسلام هذا الوجود الكوني الخاضع لمولاه !
ومثل هذا الشقاق يقع بين الأفراد والجماعات والأمم والأجيال ، كما يقع بين البشر والكون من حولهم ، فتنقلب قواه وذخائره وسائل تدمير وأسباب شقاء ، بدلاً من أن تكون وسائل عمران وأسباب سعادة لبني الإنسان .
وإذن فإن الهدف الظاهر من قيام شريعة الله في الأرض ليس مجرد العمل للآخرة . فالدنيا والآخرة معاً مرحلتان متكاملتان ، وشريعة الله هي التي تنسق بين المرحلتين في حياة هذا الإنسان . تنسق الحياة كلها مع الناموس الإلهي العام .
والتناسق مع الناموس لا يؤجْل سعادة الناس إلى الآخرة ، بل يجعلها واقعة ومتحققة في المرحلة الأولى كذلك ، ثم تتم تمامها وتبلغ كمالها في الدار الآخرة .
هذا هو أساس التصور الإسلامي للوجود كله ، وللوجود الإنساني في ظل ذلك الوجود العام ، وهو تصور يختلف في طبيعته اختلافاً جوهرياً عن كل تصور آخر عرفته البشرية ، ومن ثم تقوم عليه التزامات لا تقوم على أي تصور آخر في جميع الأنظمة والنظريات(1/113)
إن الالتزام بشريعة الله - في هذا التصور - هو مقتضى الارتباط التام بين حياة البشر وحياة الكون ، وبين الناموس الذي يحكم فطرة البشر ويحكم هذا الكون ، ثم ضرورة المطابقة بين هذا الناموس العام والشريعة التي تنظم حياة بني الإنسان ، وتتحقق بالتزامها عبودية البشر لله وحده ، كما أن عبودية هذا الكون لله وحده لا يدّعيها لنفسه إنسان .
وإلى ضرورة هذا التطابق والتناسق يشير الحوار الذي جرى بين إبراهيم - عليه السلام - أبي هذه الأمة المسلمة - وبين " نمرود " المتجبر المدعي بحق السلطان على العباد في الأرض ، والذي لم يستطع - مع ذلك - أن يدعي بحق السلطان على الأفلاك والأجرام في الكون ، وبهت أمام إبراهيم عليه السلام ، وهو يقول له : إن الذي يملك السلطان في الكون هو وحده الذي ينبغي أن يكون له السلطان في حياة البشر ، ولم يحر جواباً على هذا البرهان : * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * .. [ البقرة : 258 ] .
وصدق الله العظيم :
* أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * .. [ آل عمران : 83 ] . ( المعالم )
ــــــــــــــــــــ
10- الجماعةُ المناصرةُ:
مما لا شك فيه أن كل دعوة من الدعوات أياً كانت لا بد لها من جماعة تنهض بها وتناصرها، وأن وجود الجماعة هو العامل الأساس في قيام الدعوة ورسوخها وبقائها، ووجود الجماعة المناصرة لدعوة الحق هو أول عامل في تمكينها وتحقق العاقبة لها.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذا في كتابه وبين أن وجود الجماعة المؤمنة المناصرة هو التأييد منه سبحانه لدعوة الحق، والسبب الظاهر في تحقق النصر، قال سبحانه وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (62) سورة الأنفال، قال ابن كثير: " أَيْ جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَان بِك وَعَلَى طَاعَتك وَمُنَاصَرَتك وَمُؤَازَرَتك ".(1)
فالجماعة التي تكون عاملاً أساسياً في ظهور دعوة الحق وتمكينها، لا بد لها من أمرين:
1- أن تكون مؤمنة.
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 265)(1/114)
2- أن تكون مناصرة لدين الله حق المناصرة.
ومتى فقدت الجماعة هذين الأمرين أو أحدهما، أو نقصت في أحدهما، تخلف النصر والظهور، ولو كان ولاؤها لدين الله، ولا أدلَّ على ذلك مما حدث مع نبي الله موسى وأخيه هارون -على نبينا وعليهم الصلاة والسلام-، وهما يستحثان قومهما للدخول في الأرض التي كتبها الله لهم.
قال سبحانه وتعالى على لسان موسى:{ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (21) سورة المائدة، فعند التأمل في قوله " كتب لله لكم " نجد التعبير بكلمة (كتب) له غاية من التأكيد تفيد أن الأرض لهم قد كتبها الله في علم الأزل لهم وقدَّر أنها ستكون تحت تصرفهم - وبالفعل كانت لهم فيما بعد ودخلوها - ولكن نرى هنا كيف نكلت الجماعة المؤمنة عن نصرة أمر الله، وتحقيق ما كتب الله لهم، فامتنعت عن القتال، وتلكأت عن تنفيذ الأمر بمعاذير هي غاية في الجبن والهلع وعدم الثقة بوعد الله ورسوله، وسوء الأدب مع الله وأنبيائه :{ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } (24) سورة المائدة.
وعند فقدان المناصرة من الجماعة المؤمنة تأخر ذلك الوعد المكتوب بدخول بني إسرائيل ولم يتخلف في ذاته، وإنما تخلف أولئك الناكلون فلم يستحقوا أن ينالوا ما كُتِب لهم، وهنا نرى في وضوح كوضوح النهار كيف تنحطُّ الدعوةُ من مراتب عظيمة من التمكين، حين ينكلَ وينخذل أبناؤها من الجماعة المؤمنة، عن النصرة والتنفيذ لأوامر الله وما رضي الله لهم، عند ذلك قال نبي الله موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) }[المائدة/25، 26].
وهنا نلمس عبرة للمعتبرين ونراها. لقد أصبحت الأرض المكتوبة لهم محرمة عليهم جزاء إنخذالهم ونكولهم عن نصرة أمر الله ونبيه.وفي الجانب المشرق نرى كيف يكتب الله سبحانه وتعالى التمكين والرفعة للجماعة المؤمنة، حين تتبنى نصرة دين الله، ولو في ساعة العسرة، وكثرة المخالفين، وقلة المؤمنين، كيف يكتبه الله سبحانه وتعالى لهم ويحوطهم ويجعل الرفعة لهم، أبد الآبدين إلى يوم الدين، وهذا جليٌّ واضحٌ ناصعٌ في دعوة نبي الله عيسى -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-.
قال تعالى: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا(1/115)
وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) } [آل عمران].
إن تبني نصرة دعوة الحق في ظروف صعبة كهذه محاطة بالعداء لمن انتمى إليها؛ العداء الظاهر والمكر الغادر من جانب آخر، عداء حتى لنبي يرونه أمام أعينهم يحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويبلغ العداء بهم لدعوته رغم ما يرونه من آيات بيده لا يمكن أن تأتي إلا من عند الله أن يسعوا لقتله وصلبه، هذا كله منصب على الداعي رغم ما معه من الآيات، فما بالك بما سيناله من انتمى إلى دعوته أو انحاز إليها من العداء والنكال، إن مثل هذا الحال ليجعل من المستحيل أو العسير حتى التفكير في الانضمام للدعوة والإيمان بها.وهنا يأتي موقف النصرة ظاهراً رغم كل هذه الأحوال؛ يأتي قوياً مدوياً { نحن أنصار الله } على مسامع الملأ ورغم كيدهم وعدائهم ومكرهم، وهنا عبرة كذلك يجب ألا تنسى وأن تكون موضع الاهتمام، وهي أن تبني نصرة الدين في ظروف تشير إلى أن الهلاك محدق بمن انضمَّ إليه - فضلاً عمن ناصره - سببٌ مباشر في حصول أسباب غيبية من الله وظاهرة تجعل أولئك المناصرين للدعوة - يوم لا ناصر لها من قبل الناس وكل لها عدو - في أعلى مراتب الظهور والغلبة والنصر.
قال تعالى: { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (26) سورة الأنفال،
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف ، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين ، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله!
وحض سبحانه وتعالى المؤمنين على نصرة دينه، ووعدهم عليها بالنصر والتمكين، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد.
وقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } (14) سورة الصف
ــــــــــــــــــــ
11- اتباع الطريق الصحيح لإقامة الدولة الإسلامية(1/116)
إن الجهاد والعزة قرينان، كما أن ترك الجهاد وذل الأمة بتكالب الأعداء عليها ونهبهم لخيراتها قرينان، وإنما سُلط الذل على الأمة عقوبة من الله تعالى، لا لأن الكفار أقوى من المسلمين في العدد والعدة ولكن لركون المسلمين إلى الدنيا وانغماسهم في المحرمات كربا العينة وتركهم للواجبات كالجهاد في سبيل الله.
فتأمل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
تجد أن هذا الحديث يصور واقع الأمة المرير، لتركها لرسالتها وانشغالها بالدنيا وارتكابها للمحرمات، فكانت النتيجة العقوبة من الله تعالى بتسليط الذل عليها الذي لا ينزعه الله تعالى ويرفعه إلا بعودة الأمة إلى دينها وشريعة ربها التي لا صلاح لها ولا فلاح في الدنيا والآخرة إلا بهذا الدين العظيم الذي من عظمته وكمال أحكامه أن شرع الله فيه الجهاد لمنع الفساد في الأرض.
ولهذا نبه الله تعالى إلى هذا الفضل بقوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً).
وقال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
إن الضعف وترك الجهاد مطمعة للأعداء في خيرات الأمة وأراضيها، فعندما سرى الوهن في قلوب كثير من المسلمين فأحبوا الدنيا وكرهوا القتال تكالب عليهم الأعداء من كل صوب يأخذون خيراتهم وديارهم ويسومونهم سوء العذاب.
كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) قيل: يا رسول الله أمن قلة يومئد؟ قال: (لا..ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب أعدائكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت).
وفي رواية: قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ( حبكم للدنيا وكراهيتكم للقتال).
وفي هذا الحديث وسابقه أن الوهن الذي ألقي في القلوب هو عقوبة من الله تعالى لميل الأمة إلى الدنيا وتخليها عن حمل الرسالة والجهاد في سبيل الله لا لأن الكفار سبقوها بالعدة والعدد.
إن الأمة الإسلامية تملك مقومات النصر، وعندها أسبابه ولكنها لم تعمل بها ولم تقم بها حق القيام، فالنصر لا يُنال إلا من عند الله فقد قال تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، وقال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
والله تعالى وعدنا بالنصر إذا قمنا بأسباب النصر حق القيام؛ فنصرنا دين الله تعالى وحكمنا شرعه في أنفسنا وأهلينا وفي جميع شؤون حياتنا قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(1/117)
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).فإذا أقمنا شرع الله فينا كما أمر الله تعالى حينئذ يتحقق لنا ما وعدنا ربنا تبارك وتعالى من النصر والتمكين.قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).
- - - - - - - - - - - - - - - -(1/118)
الباب الثالث
عوامل النصر الخاصة في القرآن والسنة
1- الإيمانُ المطلقُ :
قال تعالى في سورة البقرة : { الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} }
لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ ( الكِتَابُ ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بِحَزمٍ وَإيمانٍ وإِذعَانٍ بما لاَ يَقَعُ تَحْتَ حَواسِّهِمْ ( الغَيْبِ ) فَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَبِمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَلِقَائِهِ ، وَبِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . وَهُمْ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِهَا وَيُتِمُّونَ - بِخُشُوعٍ تَامٍّ ، وَحُضُورِ قَلْبٍ - رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَتِلاوَتَهَا ، وَيُنْفِقُونَ ممَّا رَزَقَهُمُ اللهُ في وُجُوهِ الخَيرِ ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ .
وَهؤلاءِ المُتَّقُونَ هُمُ الذينَ يُصَدِّقُونَ بما جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَبمَا أُنزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ ، لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ ، وَلا يَجْحَدُونَ بما جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِصِدْقِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُوَّاتُ مِنَ البَعْثِ وَالحِسَابِ في الآخِرَةِ .
فَهؤُلاءِ المُتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ : مِنْ إِيمَانٍ باللهِ ، وَإِيمَانٍ بِالبَعْثِ وَالحِسَابِ ، وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ، وَتَأْدِيةِ الزَّكَاةِ . . . هُمْ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ ، وَهُمُ المُفْلِحُونَ الفَائِزُونَ الذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوهُ بعدَ السَّعيِ الحَثِيثِ فِي الحُصُولِ عَليهِ ، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا اجْتَنَبُوهُ ..
لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى ، ويحذر أن يكون على ضلالة ، أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره ، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقياً ، خائفاً ، حساساً ، مهيأ للتلقي . . ورد أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له : أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى! قال : فما عملت؟ قال : شمرت واجتهدت . قال : فذلك التقوى . .
فذلك التقوى . . حساسية في الضمير ، وشفافية في الشعور ، وخشية مستمرة ، وحذر دائم ، وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات ، وأشواك المطامع والمطامح ، وأشواك المخاوف والهواجس ، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء ، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعاً ولا ضراً . وعشرات غيرها من الأشواك!(1/119)
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين : { الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، وبالآخرة هم يوقنون } ..
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة . الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب ، والقيام بالفرائض ، والإيمان بالرسل كافة ، واليقين بعد ذلك بالآخرة . . هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية ، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة ، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعاً ، ولتهيمن على البشرية جميعاً ، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة ، شاملة للشعور والعمل ، والإيمان والنظام.
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها ، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا . .{ الذين يؤمنون بالغيب } . . فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها ، وصدر عنها هذا الوجود؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات .
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان ، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول .
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له ، وما لم توهب القدرة للإحاطة به ، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه . إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ، وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب(1/120)
الذي لا تحيط به العقول . فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها ، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة ، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول
. فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا ، ومحاولة عابثة أخيرا . فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال . وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال . . ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى ، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق ، لزمه - احتراما لمنطقه ذاته - أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل؛ وأن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن ، والغيب والشهادة . . وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون ، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين .لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا « تقدمية » وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة ، صفة : { الذين يؤمنون بالغيب } والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!
{ ويقيمون الصلاة } . . فيتجهون بالعبادة لله وحده ، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد ، وعبادة الأشياء . يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد؛ والقلب الذي يسجد لله حقاً ، ويتصل به على مدار الليل والنهار ، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود ، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض ، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق . . وهذا كله مصدر قوة للضمير ، كما أنه مصدر تحرج وتقوى ، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية ، وجعلها ربانية التصور ، ربانية الشعور ، ربانية السلوك .
{ ومما رزقناهم ينفقون } . . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب ونيوب!
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول(1/121)
الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناده لفاطمة بنت قيس « إن في المال حقاً سوى الزكاة » . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة .
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } . . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام .{ وبالآخرة هم يوقنون } . . وهذه خاتمة السمات . الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة ، والمبدأ بالمصير ، والعمل بالجزاء؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملاً ، وأنه لم يخلق عبثاً ، ولن يترك سدى؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره ، ليطمئن قلبه ، وتستقر بلابله ، ويفيء إلى العمل الصالح ، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف .واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة ، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب . بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود ، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء ، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك ، وراء هذا الحيز الصغير المحدود .
-------------
وقال تعالى : { الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } [لقمان/1-6]
هذِهِ هِيَ آياتُ القُرآنِ الحَكِيمِ بَيَاناً وَتَفْصِيلاً .وَهِيَ تَهدِي مِنَ الزِّيغِ الذينَ أَحْسَنُوا العَمَلَ واتَّبَعُوا الشَّرِيعَةَ ، وتَشْفِيهِمْ من الشَّكِ والضَّلاَلَةِ . ثُمَّ يُعَرَّفُ اللهُ تَعَالى هؤُلاءِ الذينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ ، وَيَهْتَدُونَ بالقُرآن ، فَيَقُولُ : إِنَّهُم الذِينَ يَقِيمُونَ الصَّلاَةَ عَلَى وَجْهِهَا الأَكْمَلِ ، ويُتِمُونَّها بِخُشُوعِها وَرُكُوعِها وَسُجُودِها ، وَيُؤدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ عَلى أَموالِهِم ، وَيُؤْمِنُونَ إيماناً ثَابِتاً رَاسِخاً بِأَنَّ اللهَ سَيَْعَثُ الخَلاَئِقَ في الآخِرَة ، وأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وأَنَهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ . وَهَؤُلاءِ الذينَ اتَّصَفُوا بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ ، هُمْ عَلَى بَيِِّنَةٍ ونُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَهؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِمَا أَمَّلُوا مِنْ ثَوابِ اللهِ يومَ القِيَامَةِ ، فَرَبَحَتْ صَفْقَتُهُمْ .
ذا الكتاب الحكيم . أو آياته . { هدى ورحمة للمحسنين } فهذه حاله الأصيلة الدائمة . . أن يكون هدى ورحمة للمحسنين . هدى يهديهم إلى الطريق الواصل الذي لا يضل سالكوه . ورحمة بما(1/122)
يسكبه الهدى في القلب من راحة وطمأنينة وقرار؛ وما يقود إليه من كسب وخير وفلاح؛ وبما يعقده من الصلات والروابط بين قلوب المهتدين به؛ ثم بين هذه القلوب ونواميس الكون الذي تعيش فيه ، والقيم والأحوال والأحداث التي تتعارف عليها القلوب المهتدية ، وتتعارف الفطر التي لا تزيغ . .والمحسنون هم : { الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم يوقنون } . . وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملاً تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك ، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب ، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة . . وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري ، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون . ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان . . واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري ، وتطلعه إلى ما عند الله ، واستعلائه على أوهاق الأرض ، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور ، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة ، وتصطلح نفوسهم عليه ، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق .وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز . إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة ، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين!
وأولئك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يوقنون بالآخرة . . { أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون } . ومن هُدي فقد أفلح ، فهو سائر على النور ، واصل إلى الغاية ، ناج من الضلال في الدنيا ، ومن عواقب الضلال في الآخرة؛ وهو مطمئن في رحلته على هذا الكوكب تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود؛ فيحس بالأنس والراحة والتجاوب مع كل كائن في الوجود .أولئك المهتدون بالكتاب وآياته ، المحسنون ، المقيمون للصلاة ، المؤتون للزكاة ، الموقنون بالآخرة ، المفلحون في الدنيا والآخرة . .
ــــــــــــــــــــ
2- الإيمان العميق بالله تعالى :
قال تعالى : * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* (41) سورة الأنفال(1/123)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ طَرِيقَةَ قِسْمَةِ المَغَانِمِ التِي يَغْنَمُها المُسْلِمُونَ فِي الحَرْبِ . وَالغَنِيمَةِ هِيَ المَالُ المَأْخُوذُ مِنَ الكُفَّارِ بِإِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ . أَمَّا الفَيْءُ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ( أَيْ بُدُونِ حَرْبٍ أَوْ بِدُونِ خُرُوجِ جُيُوشِ المُسْلِمِينَ إلَى الأَعْدَاءِ : كَالأَمْوَالِ التِي يُصَالِحُونَ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُوتُونَ عَنْهَا دُونَ وَارِثٍ لَهُمْ ، وَالخَرَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) .
يَقُولُ تَعَالَى : اعْلَمُوا يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلَّ مَا غَنِمْتُمُوهُ مِنَ الكُفَّارِ المُحَارِبِينَ فَاجْعَلُوا أوَّلاً خُمْسَهُ للهِ تَعَالَى لِيُنْفِقَ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الدَّينِ العَامَّةِ : كَالدَّعْوَةِ لِلإِسْلاَمِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ ، وَعِمَارَةِ الكَعْبَةِ وَكِسْوَتِها ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ لِلرَّسُولِ كِفَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَنِسَائِهِ مُدَّةَ سَنَةٍ ، ثُمَّ أعْطُوا مِنْهُ ذَوِي القُرْبَى مِنْ أهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ نَسَباً وَوَلاءً ( وَقَدْ خَصَّ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أَخِيهِ المُطَّلِبِ المُسْلِمِينَ ) ، ثُمَّ المُحْتَاجِينَ مِنْ سَائِرِ المُسْلِمِينَ ، وَهُمُ اليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ ، وَابْنُ السَّبِيلِ ( وَهُوَ المُجْتَازُ الذِي نَفِدَتْ نَفَقَتُهُ ) . وَهَذا الخُمْسُ يُدْفَعُ لِلإمَامِ ( بَعْدَ الرَّسُولِ ) لِيَصْرِفَهُ فِي الوُجُوهِ المُبَيَّنَةِ فِي الآيَةِ .
وَاليَتَامَى - هُمْ أَيْتَامُ المُسْلِمِينَ - وَقِيلَ : إِنَّ النَّصَّ عَامٌّ يَعُمُّ الأَغْنِيَاءَ مِنَ الأَيْتَامِ وَالفُقَرَاءَ .
المَسَاكِينِ - هُمُ المُحْتَاجُونَ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَسُدُّونَ بِهِ خَلَّتَهُمْ .
وَابْنِ السَّبِيلِ - هُوَ المُسَافِرُ أَوْ المُريدُ السَّفَرَ مَسَافَةَ القّصْرِ ( أَيْ المَسَافَةُ التِي يُبَاحُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلاَةِ ) وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُهً فِي سَفَرِهِ .
أَمَّا الأَخْمَاسُ الأَرْبَعَةُ البَاقِيَةُ فَهِيَ لِلْمُقَاتِلِينَ فَاعْلَمُوا ذَلِكَ ، وَاعْمَلُوا بِهِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقّاً ، وَآمَنْتُمْ بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آيَاتِ التَّثْبِيتِ وَالمَدَدِ يَوْمَ الفُرْقَانِ الذِي فَرَقْنَا فِيهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، وَالإِيمَانِ وَالكُفْرِ ، وَهُوَ اليَوْمُ الذِي الْتَقَى فِيهِ جَمْعُكُمْ مَعْ جَمْعِ المُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ ، وَاللهُ عَظِيمُ القُدْرَةِ عَلَى كُلِّ شَيءٍ .
إن للإيمان إمارات تدل عليه ; والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله , وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان , على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ; فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ; كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .
وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه , ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد , عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات , ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية , كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ; وصار النبز بالكفر , ودفع هذا النبز , لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ; إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من(1/124)
ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ; ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . .
أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر:رفض ما شرع الله , والحكم بغير ما أنزل الله , والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) . .
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ; وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ; وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ; وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ; وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله , وتحت راية الله , طاعة لله ; يحكمونه في أرواحهم , ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . .
فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله:(يسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول , فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين . .) .
حتى إذا استسلموا لأمر الله , وارتضوا حكمه ذاك , فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة , ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . .
عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة , وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح , فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ; إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ; كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ;ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . .
هو شرط الإيمان , وهو مقتضى الإيمان . .
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .(1/125)
وهكذا تتواتر النصوص , لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .
ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله:(عبدنا) في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء , وأمر الخمس المتبقي أخيراً: (إن كنتم آمنتم بالله , وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) . .
إنه وصف موحٍ . .
إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ; وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ; فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبليغ عن الله , كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .
وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . .
أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى , والعاصم من العبودية للعباد . . وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له , إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه .
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده , يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ; فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع "الإنسان" من بين سائر الأنواع ; وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب , وإذا هم كالأنعام بل هم أضل , وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . .
يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم , يصرفون حياتهم وفق هواهم , ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر , مشوبة بحب الاستعلاء , كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !
ويقعون في عبودية "الحتميات" التي يقال لهم:إنه لا قبل لهم بها , وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . "حتمية التاريخ" . . و "حتمية الاقتصاد" . .
و "حتمية التطور" وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين "الإنسان" في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه , ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !
ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) . .
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .(1/126)
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . .
ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض , وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير , وفي عبودية الكون كله:سمائه وأرضه , أشيائه وأحيائه , لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد , ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ; ويغشي على ذلك الحق الأصيل ; ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء , وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . .
فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ; حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ; وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق , على أبعاد وآماد:كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . .
فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور , وفي الخلق والسلوك , وفي العبادة والعبودية ; وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . .
فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء , وللقيم والأوضاع , وللشرائع والقوانين , وللتقاليد والعادات . . .
وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه , ولا مشرع إلا إياه . .
فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ; وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ; وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية:
عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . .
والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة , ومنهجا جديدا للوجود الإنساني , ونظاما جديداً للمجتمع , وشكلاً جديداً للدولة . .
بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته , ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . .
الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع , لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه , تتمثل في(1/127)
شعائر تعبدية لله , وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد , والمنهج الجديد , والدولة الجديدة , والمجتمع الجديد , في واقع الحياة ; وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ; ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . .
فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . .
هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . .
هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ; تأثرت به سواء في دار الإسلام أم في خارجها , سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . .
والصليبيون الذين زحفوا من الغرب , ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه , قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ; وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم , بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ; وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ; وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . .
وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام , أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ; وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة , حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غر هؤلاء دينهم) . .
وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ; ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ; فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية , لا لمجرد السلاح والعتاد ; وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية , لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ; وأن هذا ليس كلاماً يقال , إنما هو واقع متحقق للعيان .(1/128)
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) .
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين , إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ; ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا: (ليحق الحق ويبطل الباطل) . .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . .
إن الحق لا يحق , وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان "النظري" للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد "النظري" بأن هذا حق وهذا باطل . .
إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ; وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق , وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا , ويهزم جند الباطل ويندحروا . .
فهذا الدين منهج حركي واقعي , لا مجرد "نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ; وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة , ومن وراء إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بيته بالحق ; ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته , تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . .
وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ; حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين !
حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !
وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .
(والله على كل شيء قدير) . . وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . .
مثل لا يجادل فيه مجادل , ولا يماري فيه ممار . .
مثل من الواقع المشهود , الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير
ــــــــــــــــــــ(1/129)
3-العملُ الصالحُ :
قال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55} النور }
هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِهِ خُلَفَاءَ فِي الأَرْضِ ، وَأَئِمَّةً لِلنَّاسِ ، وَأَنَّهُ سَيُبَدِّلُهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسَ أَمْناً وَحُكْماً فِيهِمْ . وَقَدْ أَمْضَى المُسْلِمُونَ عَشْرَ سِنِينَ فِي مَكَّةَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ سِرّاً ، وَهُمْ خَائِفُونَ لاَ يُؤْمَرونَ بِالقِتَالِ ، حَتَّى أُمِرُوا بالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ ، وَأُمِرُوا بِالقِتَالِ ، فَكَانُوا خَائِفِينَ يُمْسُونَ بالسِّلاَحِ ، وَيُصْبِحُونَ بالسَّلاحِ ، فَصَبُروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ . ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأَمَنُ فِيهِ ، وَنَضَعُ السِّلاَحَ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - : لَنْ تَصْبِروا إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُم فِي المَلأ العَظِيمِ مُحْتَبياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ ) .وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ .
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُ المُؤْمِنِينَ فِي الأَرْضِ ، كَمَا اسْتَخَلَفَ المُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِم ، وَسَيَكُونُ لَهُم الأَمْرُ . وَحَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَمَنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ ، وَجَحَدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْباً عَظِيماً ..
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ الْمَدِينَةَ وَآوَتْهُمُ الأَنْصَارُ ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ كَانُوا لاَ يَبِيتُونَ إِلاَّ بِالسِّلاحِ وَلا يُصْبِحُونَ إِلاَّ فِيهِ ، فَقَالُوا : تَرَوْنَ أَنَّا نَعِيشُ حَتَّى نَبِيتَ آمِنَيْنِ مُطْمَئِنَّيْنِ لاَ نَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ ؟ فَنَزَلَتْ : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ إِلَى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ "المستدرك(1).
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلفهم في الأرض . وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم . وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا . . ذلك وعد الله . ووعد الله حق . ووعد الله واقع . ولن يخلف الله وعده . . فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله . فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في
__________
(1) - (ج 3 / ص 169) برقم (3512) وهو حديث حسن(1/130)
الصغيرة والكبيرة ، لا يبقى معها هوى في النفس ، ولا شهوة في القلب ، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله .
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله ، بخواطر نفسه ، وخلجات قلبه . وأشواق روحه ، وميول فطرته ، وحركات جسمه ، ولفتات جوارحه ، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً . . يتوجه بهذا كله إلى الله . . يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن : { يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } والشرك مداخل وألوان ، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله .
ذلك الإيمان منهج حياة كامل ، يتضمن كل ما أمر الله به ، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب ، وإعداد العدة ، والأخذ بالوسائل ، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض . .
أمانة الاستخلاف . .
فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟
إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم . . إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء؛ وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه؛ وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض ، اللائق بخليقة أكرمها الله .
إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح ، لا على الهدم والإفساد . وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة ، لا على الظلم والقهر . وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري ، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وهذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله؛ ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها الله . . فاما الذين يملكون فيفسدون في الأرض ، وينشرون فيها البغي والجور ، وينحدرون بها إلى مدارج الحيوان . . فهؤلاء ليسوا مستخلفين في الأرض . إنما هم مبتلون بما هم فيه ، أو مبتلى بهم غيرهم ، ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها الله .
آية هذا الفهم لحقيقة الاستخلاف قوله تعالى بعده : { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } . . وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ، كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها . فقد وعدهم الله إذن أن يستخلفهم في الأرض ، وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على الأرض . ودينهم يأمر بالإصلاح ، ويأمر بالعدل ، ويأمر بالاستعلاء على شهوات الأرض . . ويأمر بعمارة هذه الأرض ، والانتفاع بكل ما أودعها الله من ثروة ، ومن رصيد ، ومن طاقة ، مع التوجه بكل نشاط فيها إلى الله .(1/131)
{ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } . . ولقد كانوا خائفين ، لا يأمنون ، ولا يضعون سلاحهم أبداً حتى بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قاعدة الإسلام الأولى بالمدينة .
وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله " وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنّهم فِي الْأَرْض كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينهمْ الَّذِينَ اِرْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْد خَوْفهمْ أَمْنًا " الْآيَة قَالَ كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه بِمَكَّة نَحْوًا مِنْ عَشْر سِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّه وَحْده وَإِلَى عِبَادَته وَحْده لَا شَرِيك لَهُ سِرًّا وَهُمْ خَائِفُونَ لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ حَتَّى أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَقَدِمُوهَا فَأَمَرَهُمْ اللَّه بِالْقِتَالِ فَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ فِي السِّلَاح وَيُصْبِحُونَ فِي السِّلَاح فَصَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَة قَالَ يَا رَسُول اللَّه : أَبَد الدَّهْر نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا ؟ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْم نَأْمَن فِيهِ وَنَضَع عَنَّا السِّلَاح ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : " لَنْ تَصْبِرُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِس الرَّجُل مِنْكُمْ فِي الْمَلَإِ الْعَظِيم مُحْتَبِيًا لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَة " وَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة فَأَظْهَرَ اللَّه نَبِيّه عَلَى جَزِيرَة الْعَرَب فَآمَنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاح ثُمَّ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَبَضَ نَبِيّه - صلى الله عليه وسلم - فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَة أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان حَتَّى وَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ فَأُدْخِلَ عَلَيْهِمْ الْخَوْف فَاِتَّخَذُوا الْحُجْزَة وَالشَّرْط وَغَيَّرُوا فَغُيِّرَ بِهِمْ .
إن الإسلام منهاج حياة كامل؛ فهو ينظم حياة الإنسان في كل أطوارها ومراحلها ، وفي كل علاقاتها وارتباطاتها ، وفي كل حركاتها وسكناتها . ومن ثم يتولى بيان الآداب اليومية الصغيرة ، كما يتولى بيان التكاليف العامة الكبيرة؛ وينسق بينها جميعاً ، ويتجه بها إلى الله في النهاية .
لقد تحقق وعد الله مرة . وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله:
(يعبدونني لا يشركون بي شيئا) . .
لا من الآلهة ولا من الشهوات . ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا . ووعد الله مذخور لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة . إنما يبطى ء النصر والاستخلاف والتمكين والأمن . لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة ; حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء , وجازت الابتلاء , وخافت فطلبت الأمن , وذلت فطلبت العزة , وتخلفت فطلبت الاستخلاف . .
كل ذلك بوسائله التي أرادها الله , وبشروطه التي قررها الله . .
تحقق وعد الله الذي لا يتخلف , ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا .
ــــــــــــــــــــ
4- إقامةُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر :(1/132)
قال تعالى في سورة الحج: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41} }
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ المُؤْمِنينَ المَظْلُومِينَ فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الذِينَ إِذَا مَكَنَّ اللهُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ، وَحَقَّقَ لَهُمُ النَّصْرَ والغَلَبَةَ ، وَجَعَلَ لَهُمُ العَاقِبَة ، عَمِلُوا بِأمْرِ اللهِ ، وَاجْتَنُبوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ ، فَأَقَامُوا الصَّلاَةَ ، وأَدَّوهَا حَقَّ أَدَائِها ، وَدَفَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَأَمَرُوا بالمعْرُوفِ ، وَحَثُّوا النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَمَا يُرْضِي الله ، وَنَهَوْا المُتَجَاوِزِينَ عَلَى حُدُودِ اللهِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ . وَعِنْدَ اللهِ حِسَابُ النَّاسِ جَميعاً فِي نِهَايَةِ المَطَافِ ، وَلَهُ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ، فَيجْزِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ ..
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح .
وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر ، وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ ان يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } . .وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتماً : { إن الله لا يحب كل خوان كفور } . .وأنه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلمون غير معتدين ولا متبطرين : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } . .
وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم : { وان الله على نصرهم لقدير } . .
وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، لا يعود خيرها عليهم وحدهم ، إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها؛ وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . وذلك فوق انهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } . . وهي أصدق كلمة أن تقال ، وأحق كلمة بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم . فهو البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين . وهو التجرد من كل(1/133)
هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم ، إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون ، لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض ، التي تشتجر فيها الأطماع؛ وتتعارض فيها المصالح؛ وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع!
ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة . . حاجة العقيدة إلى الدفع عنها : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } . .
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان ، والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع ، والصلوات أماكن العبادة لليهود . والمساجد أماكن العبادة للمسلمين .
وهي كلها معرضة للهدم على قداستها وتخصيصها لعبادة الله لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها ، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض . أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول .
ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لا بد من القوة تحميه وتدفع عنه . وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان!
ولا بد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة ، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة .
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين :{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور } . .فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر حتماً على عدوه . . ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . . والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من « التنابلة » الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه(1/134)
للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . . عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانياً لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات . . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطال لحكمة يريدها الله .
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!(1/135)
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه .
وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » .
قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه : { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر؛ ولله عاقبة الأمور } . .
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء :(1/136)
{ الذين إن مكناهم في الأرض } . . فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . . { أقاموا الصلاة } . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . { وآتوا الزكاة } . . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » . { وأمروا بالمعروف } . . فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . . { ونهوا عن المنكر } . . فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه
.ــــــــــــــــــــ
5- الاعتصامُ بحبل الله ووحدة الصف وعدم الفرقة :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} آل عمران }
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَذَلِكَ بِأنْ يُطاعَ فَلاَ يُعْصَى ، وَأنْ يُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ ، وَأنْ يُذْكَرَ فَلا يُنْسَى ، وَيَقُولُ لَهُمْ : حَافِظُوا عَلَى الإِسْلاَمِ في حَيَاتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيهِ ، فَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيءٍ بُعِثَ عَلَيهِ .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِ اللهِ ، أيْ بِعَهْدِهِ وَدِينِهِ وَذِمَّتِهِ وَقُرْآنِهِ ، وَمَا أمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الإِلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ وَالاجْتِمَاعِ ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ ، وَيَطْلُبُ إلَيْهِمْ أنْ يَذْكُرُوا نِعْمَتَهُ عَلَيهِمْ إذْ ألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَآخَى بَيْنَهُم بَعْدَ العَدَاوَةِ المُسْتَحْكِمَةِ ، وَالفُرْقَةِ التِي كَانَتْ بَيْنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى مِثْلِ شَفِيرِ النَّارِ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ وَاقْتِتَالِهِمْ ، فَهَدَاهُمُ اللهُ وَأَنْقَذَهُمْ .
وَكَمَا بَيَّنَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ، فِي هَذِهِ الآيَاتِ ، مَا يُضْمِرُهُ لَهُمُ اليَهُودُ مِنْ شَرٍّ وَخِدَاعٍ وَغِشٍّ ، وَمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي حَالِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ كُفْرٍ وَفُرْقَةٍ وَاقْتِتَالٍ ، وَمَا صَارُوا إليهِ بِفَضْلِ الإِسْلاَمِ مِنْ وَحْدَةٍ وَإِخَاءٍ ، كَذَلِكَ يُبَيِّن سَائِرَ حُجَجِهِ فِي تَنْزِيلِهِ عَلَى رَسُولِهِ ، لِيُعِدَّهُمْ لِلاهْتِدَاءِ الدَّائِمِ ، حَتَّى لا يَعُودُوا إلى عَمَلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالعَدَاوَةِ وَالاقْتِتَالِ .(1/137)
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ عَنْ أنْ يَكُونُوا كَأهْلِ الكِتَابِ الذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ ، وَكَانُوا شِيعاً تَذْهَبُ كُل شِيعَةٍ مِنْهَا مَذْهَباً تَدْعُو إليهِ ، وَتُخَطِّئُ غَيْرَها ، وَلِذَلِكَ تَعَادَوْا وَاقْتَتَلُوا .
وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ ، وَتَتَّجِهُ إلى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَمَا تَفَرَّقُوا ، وَلَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَهَؤُلاءِ المُخْتَلِفُونَ المُتَفَرِّقُونَ لَهُمْ عَذَابٌ وَخُسْرَانٌ فِي الدُّنيا ، وَعَذَابٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ ..
إنهما ركيزتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة ، وتؤدي بهما دورها الشاق العظيم . فإذا انهارت واحدة منهما لم تكن هناك جماعة مسلمة ، ولم يكن هنالك دور لها تؤديه :
ركيزة الإيمان والتقوى أولاً . . التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل . . التقوى الدائمة اليقظة التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر حتى يبلغ الكتاب أجله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } . .
اتقوا الله - كما يحق له أن يتقى - وهي هكذا بدون تحديد تدع القلب مجتهداً في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها . وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق ، وجدّت له أشواق . وكلما اقترب بتقواه من الله ، تيقظ شوقه إلى مقام أرفع مما بلغ ، وإلى مرتبة وراء ما ارتقى . وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ فيه قلبه فلا ينام!
{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } . .والموت غيب لا يدري إنسان متى يدركه . فمن أراد ألا يموت إلا مسلماً فسبيله أن يكون منذ اللحظة مسلماً ، وأن يكون في كل لحظة مسلماً . وذكر الإسلام بعد التقوى يشي بمعناه الواسع : الاستسلام . الاستسلام لله ، طاعة له ، واتباعاً لمنهجه ، واحتكاماً إلى كتابه . وهو المعنى الذي تقرره السورة كلها في كل موضع منها ، على نحو ما أسلفنا .
هذه هي الركيزة الأولى التي تقوم عليها الجماعة المسلمة لتحقق وجودها وتؤدي دورها . إذ أنه بدون هذه الركيزة يكون كل تجمع تجمعاً جاهلياً . ولا يكون هناك منهج لله تتجمع عليه أمة ، إنما تكون هناك مناهج جاهلية . ولا تكون هناك قيادة راشدة في الأرض للبشرية ، إنما تكون القيادة للجاهلية .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخواناً . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } . .فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . .(1/138)
أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة!
{ واعتمصوا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } . .هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائماً . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية « أعداء » . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعاً . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً . وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .
{ واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم ينعمته إخواناً } . .
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً - الركيزة الثانية - : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : « القلب » . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : { فألف بين قلوبكم } فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهداً حياً متحركاً تتحرك معه القلوب : { وكنتم على شفا حفرة من النار } .. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة! وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، عَظِيمَ الْكُفْرِ ، شَدِيدَ الضِّغْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ ، عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ . فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأَلَقَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَالَ : قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ ، وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارِ فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ وَكَانَ مَعَهُ ، فَقَالَ : اعْمِدْ إِلَيْهِمْ ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا(1/139)
تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ . وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَكَانَ الظُّفُرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ ، فَفَعَلَ ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكَبِ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ ، فَتَقَاوَلَا ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً ، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ ، وَقَالُوا : قَدْ فَعَلْنَا ، السِّلَاحَ السِّلَاحَ ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ - وَالظَّاهِرَةُ : الْحَرَّةُ - فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَتَحَاوَرَ النَّاسُ ، فَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهَ اللَّهَ ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأْكَرَمُكُمْ بِهِ ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا " فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْعَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَامِعِينَ مُطِيعِينَ ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللَّهِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا الْآيَةَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ : أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَقِيلَ : إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ جَمَاعَةُ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيَّامَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ وَالنَّصَارَى ، وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ بِإِخْبَارِهِمْ مَنْ سَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، هَلْ يَجِدُونَ ذِكْرَهُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ "(1).
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية : { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ( 6859) حسن مرسل(1/140)
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغداً في الصف المسلم ، في كل مكان!
أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
.ــــــــــــــــــــ
6- يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين :
قال تعالى في سورة المائدة { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} }
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَيَقُولُ إنَّ الذِينَ يَرْتَدَّونَ عَنْ دِينِهِمْ مِنَ الإيِمَانِ إلى الكُفْرِ ، وَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ نُصْرَةِ دِينِهِ ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ ، فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَبْدِلُ بِهِمْ مَنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، وَأَشَدُّ مَنَعَةً ، وَأَقْوَمُ سَبِيلاً ، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، يَتَّصِفُونَ بِصِفَاتِ المُؤْمِنِينَ وَهِيَ : العِزَّةُ عَلَى الكَافِرِينَ ، وَالرَّحْمَةُ وَالتَّوَاضُعُ مَعَ المُؤْمِنِينَ ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلاَ يَرُدُّهُمْ رَادٌّ عَنْ إذاعَةِ أَمْرِ اللهِ ، وَإِقَامَةِ حُدُودِهِ ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ . وَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاِت كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ كَبِيراً ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ ، عَلِيمٌ بِمَنْ يِسْتَحِقُّ ذَلِكَ فَيُعْطِيهِ ، مِمَّنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ فَيَحْرِمُهُ إيَّاهُ.
( وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ النَّاسَ سَيَرْتَدُّونَ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَأَنَّ عُصْبَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ ، مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، سَيَقُومُونَ بِمُحَارَبَةِ المُرْتَدِّينَ ، وَأَنَّهُمْ سَيَثْبُتُونَ فِي حَرْبِهِمْ حَتَّى يُتِمُّ اللهُ نَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .
يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى مُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيُسَاعِدُونَ المُحْتَاجِينَ مِنَ الضُعَفَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَهُمْ دَائِمُونَ الرُّكُوعِ للهِ .(1/141)
نَزَلْت هَذِهِ الآيَةُ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ بَرِئ مِنْ مُوَالاةِ اليَهُودِ ، وَرَضِيَ بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ .
وَكُلُّ مَنْ رَضِي بِمُوَالاَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالمُؤمِنِينَ هُوَ مُفْلِحٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، وَهُوَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ فَِي حِزْبِ اللهِ ، وَحِزْبِ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ ، وَلاَ يُغْلَبُ مَنْ يَتَوَالاَّهُمُ اللهُ .
إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا - على هذه الصورة . وفي هذا المقام - ينصرف - ابتداء - إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام . وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم , منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) . .
وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول . .
يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق , وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار , يجمع بينهم على هذا النحو , الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء , وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار , لا تتعلق بقضية الولاء , إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء . .
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه , فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه , أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين , يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) . .
إن اختيار الله للعصبة المؤمنة , لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض , وتمكين سلطانه في حياة البشر , وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم , وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم , وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة . .
إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته . فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة . .
فهو وذاك , والله غنى عنه - وعن العالمين . والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم .
والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا , صورة واضحة السمات قوية الملامح , وضيئة جذابة حبيبة للقلوب: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) . .
فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم . .
الحب . . هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش . .
هو الذي يربط القوم بربهم الودود .
وحب الله لعبد من عبيده , أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله - سبحانه - بصفاته كما وصف نفسه , وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها . .(1/142)
أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي . .
الذي يعرف من هو الله . . من هو صانع هذا الكون الهائل , وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير !
من هو في عظمته . ومن هو في قدرته . ومن هو في تفرده . ومن هو في ملكوته . .
من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب . .
والعبد من صنع يديه - سبحانه - وهو الجليل العظيم , الحي الدائم , الأزلى الأبدي , الأول والآخر والظاهر والباطن .
وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها . .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما , وفضلا غامرا جزيلا , فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد , الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه . .
هو إنعام هائل عظيم . . وفضل غامر جزيل .
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه , فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين . .
وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين - وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل - ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد , وهي تقول:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد , والحب من العبد للمنعم المتفضل , يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض , وينطبع في كل حي وفي كل شيء , فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود , ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب . .
والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب . .
وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة . .
إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل:(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا) . .
(إن ربي رحيم ودود) . .(وهو الغفور الودود) . .
(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) . .(1/143)
(والذين آمنوا أشد حبا لله) . .
(قل:إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) . . وغيرها كثير . .
وعجبا لقوم يمرون على هذا كله , ليقولوا:إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف , يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر , وعذاب وعقاب , وجفوة وانقطاع . . .
لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله , فيربط بين الله والناس , في هذا الازدواج !
إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية , لا تجفف ذلك الندى الحبيب ,بين الله والعبيد , فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل , وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد , وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية . .
إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين .
وهنا - في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين - يرد ذلك النص العجيب:
(يحبهم ويحبونه) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو , الذي يحتاج إليه القلب المؤمن , وهو يضطلع بهذا العبء الشاق . شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل . .
ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات: (أذلة على المؤمنين) . .
وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين . .
فالمؤمن ذلول للمؤمن . . غير عصي عليه ولا صعب . هين لين . . ميسر مستجيب .
سمح ودود . . وهذه هي الذلة للمؤمنين .
وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة . إنما هي الأخوة , ترفع الحواجز , وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس , فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين .
إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه . فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه , فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به . . وماذا يبقى له في نفسه دونهم , وقد اجتمعوا في الله إخوانا ; يحبهم ويحبونه , ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه ?!
(أعزة على الكافرين) . . فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء . .
ولهذه الخصائص هنا موضع . . إنها ليست العزة للذات , ولا الاستعلاء للنفس . إنما هي العزة للعقيدة , والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين . إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير , وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين !
ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ; وبغلبة قوة الله على تلك القوى ; وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية . .(1/144)
فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك , في أثناء الطريق الطويل . .
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) . .
فالجهاد في سبيل الله , لإقرار منهج الله في الأرض , وإعلان سلطانه على البشر , وتحكيم شريعته في الحياة , لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس . . هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم . .
في سبيل الله . لتحقيق منهج الله , وتقرير سلطانه , وتنفيذ شريعته , وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق . . وليس لهم في هذا الأمر شيء , وليس لأنفسهم من هذا حظ , إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك . .
وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . .
وفيم الخوف من لوم الناس , وهم قد ضمنوا حب رب الناس ? وفيم الوقوف عند مألوف الناس , وعرف الجيل , ومتعارف الجاهلية , وهم يتبعون سنة الله , ويعرضون منهج الله للحياة ? إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ; ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ; أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناسوشهواتهم وقيمهم ; وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته , فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون . كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ; وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان , وكائنة "حضارة " هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون !
إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ; ولما يفعل الناس ; ولما يملك الناس ; ولما يصطلح عليه الناس ; ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين . .
لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم . . إنه منهج الله وشريعته وحكمه . . فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ; ولو كان عرف ملايين الملايين , ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون !
إنه ليست قيمة أي وضع , أو أي عرف , أو أي تقليد , أو أية قيمة . .
أنه موجود ; وأنه واقع ; وأن ملايين البشر يعتنقونه , ويعيشون به , ويتخذونه قاعدة حياتهم . . فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي . إنما قيمة أي وضع , وأي عرف , وأي تقليد , وأية قيمة , أن يكون لها أصل في منهج الله , الذي منه - وحده - تستمد القيم والموازين . .
ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم . . فهذه سمة المؤمنين المختارين . .(1/145)
ثم إن ذلك الاختيار من الله , وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين , وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم , وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم , والسير على هداه في جهادهم . . ذلك كله من فضل الله .
(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله واسع عليم) .
يعطي عن سعة , ويعطي عن علم . . وما أوسع هذا العطاء ; الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير .
ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ; ويبين لهم من يتولون: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا , الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) . .
هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ; ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور . .
ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك !
لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة . ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان !
فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون) . .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . .
والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .(1/146)
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . .
فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . .
إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء , بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة , كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك . ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ; إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ; ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء [ مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال ] . .
وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب . .
جو الزكاة والطهارة والنماء . .
وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ; فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله . .
وهذا هو الإسلام . .
(وهم راكعون) . . ذلك شأنهم , كأنه الحالة الأصلية لهم . .
ومن ثم لم يقف عند قوله: (يقيمون الصلاة) . . فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل . إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم . فأبرز سمة لهم هي هذه السمة , وبها يعرفون . .
وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات !
والله يعد الذين آمنوا - في مقابل الثقة به , والالتجاء إليه , والولاء له وحده - ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية . .
ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله . . يعدهم النصر والغلبة: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) . .
وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها . .
وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ; وبعد التحذير من الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى , وارتدادا عن الدين . .
وهنا لفتة قرآنية مطردة . .(1/147)
فالله - سبحانه - يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير ! لا لأنه سيغلب , أو سيمكن له في الأرض ; فهذه ثمرات تأتي في حينها ; وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ; لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين . . والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم . لا شيء لذواتهم وأشخاصهم . وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم , ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم ! فيكون لهم ثواب الجهد فيه ; وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض , وصلاح الأرض بهذا التمكين . . كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ; وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم - وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة - فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ; وتخطي العقبة , والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة , فيكون لهم ثواب الجهاد , وثواب التمكين لدين الله , وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين .
كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال , بحالة الجماعة المسلمة يومذاك , وحاجتها إلى هذه البشريات . بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله . . مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة . ثم تخلص لنا هذه القاعدة ; التي لا تتعلق بزمان ولا مكان . .
فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف . وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف . فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون . .
ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق !
وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق !
ــــــــــــــــــــ
7- بالجهاد في سبيل الله تلك الفريضة الشاقة
قال تعالى : *كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ* (216) سورة البقرة
كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ عَلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ لِحِمَايَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ دَاخِلِهِ ، كَذلِكَ فَرَضَ اللهُ الجِهَادَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، وَمُحَارَبَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ ، لِيَكُفُّوا عَنْ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ شَرَّ أَعْدَائِها . وَالجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الأُمَّةِ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ ، وَالجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَزا أَوْ قَعَدَ ، فَالقَاعِدُ عَلَيهِ أَنْ يُعينَ إِذا اسْتَعَانَ بِهِ النَّاسُ ، وَأَنْ يُغيثَ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ ، وَأَنْ يَنْفِرَ إِذا اسُتُنْفِرَ .
وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الجِهَادَ فِيهِ كُرْهٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَى الأَنْفُسِ ، مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ، إِلَى مَخَاطِرِ الحُرُوبِ وَمَا فِيهَا مِنَ جَرْحٍ وَقَتْلٍ وَأَسْرٍ ، وَتَرْكٍ لِلْعِيَالِ ، وَتَرْكٍ لِلتِّجَارَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالعَمَلِ . . إلخ ، وَلكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الخَيْرُ لأَنَّهُ قَدْ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ بِالأَعْدَاءِ ، وَالاستِيلاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَبِلاَدِهِمْ .(1/148)
وَقَدْ يُحِبُّ المَرْءُ شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَمِنْهُ القُعُودُ عَنِ الجِهَادِ ، فَقَدْ يَعْقُبُهُ استِيلاءُ الأَعْدَاءِ عَلَى البِلادِ وَالحُكْمِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُها العِبَادُ .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم , وللجماعة المسلمة , وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ; فلا ينكر مشقة هذه الفريضة , ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة , ولا يصادمها , ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر , ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ; ولكن وراءه حكمة تهون مشقته , وتسيغ مرارته , وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . .
عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ; ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . .
إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة , المطلع على العواقب المستورة , هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة , وتتفتح منافذ الرجاء , ويستروح القلب في الهاجرة , ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة , لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية , ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة , ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ; ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة , ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها , ويعترف بمشقة ما كتب عليها , ويعذرها ويقدرها ; ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي الإسلام الفطرة , فلا تمل التكليف , ولا تجزع عند الصدمة الأولى , ولا تخور عند المشقة البادية , ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة , فقد يكمن فيها الخير بعد الضر , واليسر بعد العسر , والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب , والتمويه الخادع . . فهو حق أن(1/149)
تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ? وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ? وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ?!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون , وتقلب الأمور , وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر , يعمل ويرجو ويطمع ويخاف , ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل , وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . .
فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان !
إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . .
هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . .
وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني , لا يقف عند حد القتال , فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس , ويكون من ورائه الخير . .
إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . .
لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها , ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت , ولقاهم المقاتلة من قريش !
وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين !
وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ? والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال:أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت , وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . .(1/150)
قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . .) . .
وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ; ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء , بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
ــــــــــــــــــــ
8- لا يوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولَه :
قال تعالى في سورة المجادلة { : إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ {21} لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22} }
إِنَّ الذِينَ يُخَالِفُونَ أَوَامِرَ اللهِ ، وَيُعَادُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ القِيَامِ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، هُمْ فِي جُمْلَةِ أَهْلِ الذِّلَّةِ ، لأنَّ الغَلَبَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَسَيُلاَقُونَ الذِّلَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالقَتْلِ والأَسْرِ وَالإِخْرَاجِ ، وَفِي الآخِرَةِ بِالخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
وَقَدْ قَضَى اللهُ تَعَالَى ، وَحَكَمَ فِي أُمِّ الكِتَابِ ، بِأَنَّ النَّصْرَ والغَلَبَةَ سَتَكُونُ لَهُ تَعَالَى ، وَلِرَسُولِهِ وِلِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَقَضَاءُ اللهِ نَافِذٌ لاَ مَحَالَةَ ، وَلاَ رَادَّ لَهُ ، وَاللهُ قَوِيٌ لاَ يُقْهَرُ ، عَزِيزٌ لاَ يُغَالَبُ .
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ، وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ ، لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ ، وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ ، وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ ، وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ ، هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى ، وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ ،(1/151)
وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ ، وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ . وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ ، وَجُنْدُهُ ، وَحِزْبُهُ ، وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ ، وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ..
. وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق .
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض ; ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية , وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد . وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض - كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية - فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة . فضلا على أن فترات الإلحاد والوثنية إلى زوال مؤكد , لأنها غير صالحة للبقاء . والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد .
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة . فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة , فهذا الواقع هو الباطل الزائل . الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة . لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم .
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة , من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة , بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية . ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين , يحميهم من الانهيار , ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها , ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه . . حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى . يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل !!
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود , وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون , وأن الله ورسله هم الغالبون . وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون . ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون !
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون , أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس:(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله , ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو(1/152)
إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه , ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون) . .
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان , والانحياز النهائي للصف المتميز , والتجرد من كل عائق وكل جاذب , والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد .
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) . .
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه , وما يجمع إنسان في قلب واحد ودين:ودا لله ورسوله وودا لأعداء الله ورسوله ! فإما إيمان أو لا إيمان . أما هما معا فلا يجتمعان .
(ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) . .
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان . إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين:لواء الله ولواء الشيطان . والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان . فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد . ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر . وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن . وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير . وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم . متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة . وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله .
(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) . .فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن . فلا زوال له ولا اندثار , ولا انطماس فيه ولا غموض !
(وأيدهم بروح منه) . .وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله . وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق , ويصلهم بمصدر القوة والإشراق .
(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) . .جزاء ما تجردوا في الأرض من كل رابطة وآصرة ; ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من أعراضها الفانية .
(رضي الله عنهم ورضوا عنه) . .وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة , ترسم حالة المؤمنين هؤلاء , في مقام عال رفيع . وفي جو راض وديع . . ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم . انقطعوا عن كل شيء ووصلوا أنفسهم به ; فتقبلهم في كنفه , وأفسح لهم في جنابه , وأشعرهم برضاه . فرضوا . رضيت نفوسهم هذا القرب وأنست به واطمأنت إليه . .
(أولئك حزب الله) . .فهم جماعته . المتجمعة تحت لوائه . المتحركة بقيادته . المهتدية بهديه . المحققة لمنهجه . الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه . فهي قدر من قدر الله .(1/153)
(ألا إن حزب الله هم المفلحون) .ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون ?
وهكذا تنقسم البشرية إلى حزبين اثنين:حزب الله وحزب الشيطان . وإلى رايتين اثنتين:راية الحق وراية الباطل . فإما أن يكون الفرد من حزب الله فهو واقف تحت راية الحق , وإما أن يكون من حزب الشيطان فهو واقف تحت راية الباطل . . وهما صفان متميزان لا يختلطان ولا يتميعان !!
لا نسب ولا صهر , ولا أهل ولا قرابة , ولا وطن ولا جنس , ولا عصبية ولا قومية . . أنما هي العقيدة , والعقيدة وحدها . فمن انحاز إلى حزب الله ووقف تحت راية الحق فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله . تختلف ألوانهم وتختلف أوطانهم , وتختلف عشائرهم وتختلف أسرهم , ولكنهم يلتقون في الرابطة التي تؤلف حزب الله , فتذوب الفوارق كلها تحت الراية الواحدة . ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت رايةالباطل , فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة . لا من أرض , ولا من جنس , ولا من وطن ولا من لون , ولا من عشيرة ولا من نسب ولا من صهر . . لقد أنبتت الوشيجة الأولى التي تقوم عليها هذه الوشائج فأنبتت هذه الوشائج جميعا . .
ومع إيحاء هذه الآية بأنه كان هناك في الجماعة المسلمة من تشده أواصر الدم والقرابة وجواذب المصلحة والصداقة , مما تعالجه هذه الآية في النفوس , وهي تضع ميزان الإيمان بهذا الحسم الجازم , والمفاضلة القاطعة . . إلا أنها في الوقت ذاته ترسم صورة لطائفة كانت قائمة كذلك في الجماعة المسلمة , ممن تجردوا وخلصوا ووصلوا إلى ذلك المقام .
وهذه الصورة هي أنسب ختام للسورة التي بدأت بتصوير رعاية الله وعنايته بهذه الأمة في واقعة المرأة الفقيرة التي سمع الله لها وهي تجادل رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شأنها وشأن زوجها !
فالانقطاع لله الذي يرعى هذه الأمة مثل هذه الرعاية هو الاستجابة الطبيعية . والمفاضلة بين حزب الله وحزب الشيطان هي الأمر الذي لا ينبغي غيره للأمة التي اختارها الله للدور الكوني الذي كلفها إياه .
ــــــــــــــــــــ
9- الإيثارُ :
قال تعالى في سورة الحشر: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9}
أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ ، حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ ، وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ ، وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ ، كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ(1/154)
فِي دُورِهِمْ ، وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ . وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ ، وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ، لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ . وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ ، وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ .
( رُوِيَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ حُسْنَ مُوَاسَاةٍ فِي قَليلٍ ، وَلاَ حُسْنَ بَذْلٍ فِي كَثِيرٍ ، لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ ، وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَأ ، حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ . قَالَ : لاَ . مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ ، وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ ) .
وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ المُقِلِّ " . ( البُخَارِيُّ ) .
وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ ، فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُحَّ قَدْ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَطُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " ) .. (مسلم)
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم فِي قَوْله تَعَالَى " وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا " يَعْنِي مِمَّا أُوتُوا الْمُهَاجِرُونَ قَالَ وَتَكَلَّمَ فِي أَمْوَال بَنِي النَّضِير بَعْض مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْأَنْصَار فَعَاتَبَهُمْ اللَّه فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى " وَمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُوله مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلَا رِكَاب وَلَكِنَّ اللَّه يُسَلِّط رُسُله عَلَى مَنْ يَشَاء وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " قَالَ : وَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ إِخْوَانكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ " فَقَالُوا أَمْوَالنَا بَيْننَا قَطَائِع فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " أَوَغَيْر ذَلِكَ " قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ " هُمْ قَوْم لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَل فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمْ الثَّمَر " فَقَالُوا نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه .
وَقَوْله تَعَالَى" وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة " يَعْنِي حَاجَة أَيْ يُقَدِّمُونَ الْمَحَاوِيج عَلَى حَاجَة أَنْفُسهمْ وَيَبْدَءُونَ بِالنَّاسِ قَبْلهمْ فِي حَال اِحْتِيَاجهمْ إِلَى ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ " أَفْضَل الصَّدَقَة جَهْد الْمُقِلّ " وَهَذَا الْمَقَام أَعْلَى مِنْ حَال الَّذِينَ وَصَفَ اللَّه بِقَوْلِهِ تَعَالَى " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه " وَقَوْله " وَآتَى الْمَال عَلَى حُبّه " فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَصَدَّقُوا وَهُمْ يُحِبُّونَ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ وَقَدْ لَا يَكُون لَهُمْ حَاجَة إِلَيْهِ وَلَا ضَرُورَة بِهِ وَهَؤُلَاءِ آثَرُوا عَلَى أَنْفُسهمْ مَعَ خَصَاصَتهمْ وَحَاجَتهمْ إِلَى مَا أَنْفَقُوهُ وَمِنْ هَذَا الْمَقَام تَصَدَّقَ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِجَمِيعِ مَاله فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " مَا أَبْقَيْت لِأَهْلِك ؟ فَقَالَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَبْقَيْت لَهُمْ اللَّه وَرَسُوله وَهَكَذَا الْمَاء الَّذِي عُرِضَ عَلَى عِكْرِمَة وَأَصْحَابه يَوْم الْيَرْمُوك فَكُلّ مِنْهُمْ يَأْمُر بِدَفْعِهِ إِلَى صَاحِبه وَهُوَ جَرِيح مُثْقَل أَحْوَج مَا يَكُون إِلَى الْمَاء فَرَدَّهُ الْآخَر إِلَى الثَّالِث فَمَا وَصَلَ إِلَى الثَّالِث حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرهمْ وَلَمْ يَشْرَبهُ أَحَد مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ(1/155)
وَقَالَ الْبُخَارِيّ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم بْن كَثِير حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة حَدَّثَنَا فُضَيْل بْن غَزْوَان حَدَّثَنَا أَبُو حَازِم الْأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَتَى رَجُل لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه أَصَابَنِي الْجَهْد فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِد عِنْدهنَّ شَيْئًا فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " أَلَا رَجُل يُضَيِّف هَذَا اللَّيْلَة رَحِمَهُ اللَّه " فَقَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ أَنَا يَا رَسُول اللَّه فَذَهَبَ إِلَى أَهْله فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذَا ضَيْف رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا فَقَالَتْ وَاَللَّه مَا عِنْدِي إِلَّا قُوت الصِّبْيَة قَالَ فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَة الْعَشَاء فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاج وَنَطْوِي بُطُوننَا اللَّيْلَة فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُل عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ " لَقَدْ عَجِبَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ ضَحِكَ - مِنْ فُلَان وَفُلَانَة " وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى" وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة " وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع آخَر وَمُسْلِم وَالنَّسَائِيّ مِنْ طُرُق عَنْ فُضَيْل بْن غَزْوَان بِهِ وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ تَسْمِيَة هَذَا الْأَنْصَارِيّ بِأَبِي طَلْحَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .
وَقَوْله تَعَالَى " وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" أَيْ مَنْ سَلِمَ مِنْ الشُّحّ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ قَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن قَيْس الْفَرَّاء عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مِقْسَم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " إِيَّاكُمْ وَالظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الشُّحّ فَإِنَّ الشُّحّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمهمْ " اِنْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِم فَرَوَاهُ عَنْ الْقَعْنَبِيّ عَنْ دَاوُد بْن قَيْس بِهِ .وَقَالَ الْأَعْمَش وَشُعْبَة عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث عَنْ زُهَيْر بْن الْأَقْمَر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " اِتَّقُوا الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْم ظُلُمَات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقُوا الْفُحْش فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْفُحْش وَلَا التَّفَحُّش وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا " وَرَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيق شُعْبَة وَالنَّسَائِيّ مِنْ طَرِيق الْأَعْمَش كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة بِهِ وَقَالَ اللَّيْث عَنْ يَزِيد بْن الْهَادّ عَنْ سُهَيْل بْن أَبِي صَالِح عَنْ صَفْوَان بْن أَبِي يَزِيد عَنْ الْقَعْقَاع بْن الْجُلَاح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول : " لَا يَجْتَمِع غُبَار فِي سَبِيل اللَّه وَدُخَان جَهَنَّم فِي جَوْف عَبْد أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِع الشُّحّ وَالْإِيمَان فِي قَلْب عَبْد أَبَدًا " وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم ثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدَة بْن سُلَيْمَان أَخْبَرَنَا اِبْن الْمُبَارَك حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيّ عَنْ جَامِع بْن شَدَّاد عَنْ الْأَسْوَد بْن هِلَال قَالَ جَاءَ رَجُل إِلَى عَبْد اللَّه فَقَالَ يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن إِنِّي أَخَاف أَنْ أَكُون قَدْ هَلَكْت فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ سَمِعْت اللَّه يَقُول " وَمَنْ يُوقَ شُحّ نَفْسه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " وَأَنَا رَجُل شَحِيح لَا أَكَاد أَنْ أُخْرِج مِنْ يَدِي شَيْئًا فَقَالَ عَبْد اللَّه : لَيْسَ ذَلِكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن إِنَّمَا الشُّحّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن أَنْ تَأْكُل مَال أَخِيك ظُلْمًا وَلَكِنْ ذَاكَ الْبُخْل وَبِئْسَ الشَّيْء الْبُخْل .
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ طَارِق بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِي الْهَيَّاج الْأَسَدِيّ قَالَ كُنْت أَطُوف بِالْبَيْتِ فَرَأَيْت رَجُلًا يَقُول اللَّهُمَّ قِنِي شُحّ نَفْسِي لَا يَزِيد عَلَى ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ فَقَالَ إِنِّي إِذَا(1/156)
وُقِيت شُحّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِق وَلَمْ أَزْنِ وَلَمْ أَفْعَل وَإِذَا الرَّجُل عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَوَاهُ اِبْن جَرِير وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِسْحَق حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن عَبْد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِيّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش حَدَّثَنَا مُجَمِّع ابْن جَارِيَة الْأَنْصَارِيّ عَنْ عَمّه يَزِيد بْن جَارِيَة عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ " بَرِيء مِنْ الشُّحّ مَنْ أَدَّى الزَّكَاة وَقَرَى الضَّيْف وَأَعْطَى فِي النَّائِبَة .
------------
لم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين . بهذا الحب الكريم . وبهذا البذل السخي . وبهذه المشاركة الرضية . وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء . حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة . لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين! { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } . . مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع ، ومن مال يختصون به كهذا الفيء ، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من هذا . ولا يقول : حسداً ولا ضيقاً ، إنما يقول : { شيئاً } . مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم ، فلا تجد شيئاً أصلاً .{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
. والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا . وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيراً . وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديماً وحديثاً .{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } . . فهذا الشح . شح النفس . وهو المعوق عن كل خير . لأن الخير بذل في صورة من الصور . بذل في المال . وبذل في العاطفة . وبذل في الجهد . وبذل في الحياة عند الاقتضاء . وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائماً أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي . ومن يوق شح نفسه ، فقد وقي هذا المعوّق عن الخير ، فانطلق إليه معطياً باذلاً كريماً . وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه .
ــــــــــــــــــــ
10- الرحمةُ الشاملةُ :
قال تعالى في سورة الفتح { : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا {29} }
إِن مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً ، بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ ، وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ ، فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ ، وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ ، مُخْلِصِينَ فيها للهِ ، مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ ، يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ(1/157)
وَرِضْوَانَهُ ، تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ ، فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ ، وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ . وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ ، فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى الغِلْظَةِ ، وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ ، وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ ، بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ ، وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ ، وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - : « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ » سنن أبى داود(1).
وفي صحيح مسلم (6751 )عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى »
وفي صحيح البخارى (481 )عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » . وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : { تراهم ركعاً سجداً } . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . . { ذلك مثلهم في التوراة } . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . { كزرع أخرج شطأه } { فآزره } . . { فاستغلظ } { فاستوى على سوقه } . { يعجب الزراع } . . : { ليغظ بهم الكفار } . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : { محمد رسول الله } . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة .وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم
__________
(1) - سنن أبى داود برقم (4943 ) وسنن الترمذى برقم (2049 ) صحيح(1/158)
واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعاً . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . قد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : { تراهم ركعاً سجداً } . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم؛ فعبر عنها تعبيراً يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعاً سجداً .واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : { سيماهم في وجوهم من أثر السجود } . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما في النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : { من أثر السجود } . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوراى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلاً . وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ، ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : {ذلك مثلهم في التوارة } . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بما قبل أن يجيئوا إليها .{ ومثلهم في الإنجيل } . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم : { كزرع أخرج شطأه } . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه ، من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . { فآزره } . أو أن العود آزر(1/159)
فرخه فشده . { فاستغلظ } الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . { فاستوى على سوقه } لا معوجا ومحنيا .
وقال تعالى : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (17) سورة البلد
وَقَوْله تَعَالَى " وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" أَيْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ صَالِحًا الْمُتَوَاصِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاس وَعَلَى الرَّحْمَة بِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الشَّرِيف " الرَّاحِمُونَ يَرْحَمهُمْ الرَّحْمَن اِرْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْض يَرْحَمكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء " وَفِي الْحَدِيث الْآخَر " لَا يَرْحَم اللَّه مَنْ لَا يَرْحَم النَّاس " وَقَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ اِبْن عَامِر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو يَرْوِيه قَالَ : مَنْ لَمْ يَرْحَم صَغِيرنَا وَيَعْرِف حَقّ كَبِيرنَا فَلَيْسَ مِنَّا .والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة ، ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة ، وتواصيها على معنى الصبر ، وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه ، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك؛ ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل؛ ويقوي بعضها بعضاً فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائماً على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت ، ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام؛ ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهميته في تحقيق هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحاً كاملاً . .
وأولئك الذين يقتحمون العقبة كما وصفها القرآن وحددها { أولئك أصحاب الميمنة } . . وهم أصحاب اليمين كما جاء في مواضع أخرى . أو أنهم أصحاب اليمين والحظ والسعادة . . وكلا المعنيين متصل في المفهوم الإيماني .
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى ..
نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .(1/160)
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً ، لعلنا نهتدي إلى سرِّه
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ ..
ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميًّا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكَّل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان ..
ولكن الله - سبحانه - تكفل بحفظ الذِّكْر ، و علم أن هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمكن أن تؤتي ثمارها . فاختاره إلى جواره بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الرسالة ، وأبقى هذا الدِّين من بعده إلى آخر الزمان ..
وإذن فإن غيبة شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها
فلنبحث إذن وراء سبب آخر . لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الأول ، فلعل شيئاً قد تغير فيه . ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه ، فلعل شيئاً قد تغير فيه كذلك .
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خُلقه القرآن " ( ) .
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ، ويتكيفون به ، ويتخرجون عليه ، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ، ولا ثقافة ، ولا علم ، ولا مؤلفات ، ولا دراسات .. كلا ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه ، أو على امتداده . وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها ، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم . وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك . وحضارات أخرى قاصية ودانية : حضارة الهند وحضارة الصين إلخ . وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها ، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة .. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وإنما كان ذلك عن " تصميم " مرسوم ، ونهج مقصود . يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة . وقوله : " إنه والله لو كان موسى حيًّا بين أظهركم ما حلَّ له إلا أن يتبعني " ( ) .(1/161)
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده ، لتخلص نفوسهم له وحده . ويستقيم عودهم على منهجه وحده . ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب . خالص العقل . خالص التصور . خالص الشعور . خالص التكوين من أى مؤثر آخر غير المنهج الإلهي ، الذي يتضمنه القرآن الكريم .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد ..
ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . !
صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًّا من عوامل ذلك الاختلاف البيِّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع . ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
إنهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع ، ولا بقصد التذوق والمتاع . لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة ، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولاً يملأ به جعبته . إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها ، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته ، يتلقى ذلك الأمر ليعمل به فور سماعه ، كما يتلقى الجندي في الميدان " الأمر اليومي " ليعمل به فور تلقيه !
ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة ، لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه ، فكان يكتفي بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
هذا الشعور .. شعور التلقي للتنفيذ ..
كان يفتح لهم من القرآن آفاقًا من المتاع وآفاقًا من المعرفة ، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع ، وكان ييسر لهم العمل ، ويخفف عنهم ثقل التكاليف ، ويخلط القرآن بذواتهم ، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي ، وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف ، إنما تتحول آثارًا وأحداثًا تحوِّل خط سير الحياة .(1/162)
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل . إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي ، ولا كتاب أدب وفن ، ولا كتاب قصة وتاريخ - وإن كان هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاح حياة . منهاجًا إلهيًّا خالصًا . وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقًا ، يتلو بعضه بعضًا : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ]
لم ينزل هذا القرآن جملة ، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة ، ووفق النمو المطَّرِد في الأفكار والتصورات ، والنمو المُطَّرِد في المجتمع والحياة ، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية . وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم ، وتصوِّر لهم ما هم فيه من الأمر ، وترسم لهم منهج العمل في الموقف ، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك ، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم ، وتعرِّفُه لهم بصفاته المؤثرة في الكون ، فيحسون حينئذ أنهم يعيشون مع الملأ الأعلى ، تحت عين الله ، في رحاب القدرة . ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم ، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم .
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام !
وبهذا الإحساس كان يتلقى هَدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة ..
شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني .
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .(1/163)
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته .
وكان هذا مفرق الطريق ، وكان بدء السير في الطريق الجديد ، السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ، ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه . ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من أذى وفتنة ، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى ، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي ، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم . كل ما حولنا جاهلية ..
تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ، ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرًا إسلاميًا ..
هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا ، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا ، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة .
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها . لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال ، النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة . نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق ، وجود الله سبحانه ..
ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة ، وقيمنا وأخلاقنا ، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة .
ولا بد أن نرجع إليه - حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل ، لا بشعور الدراسة والمتاع . نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون ، لنكون . وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن ، وبمشاهد القيامة في القرآن .. وبالمنطق الوجداني في القرآن ..
وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع . ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول . إن هدفنا الأول أن نعرف :
ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟(1/164)
كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد أن تكون أخلاقنا وأوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية .. في خاصة نفوسنا ..
ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له ، فهو بهذه الصفة ..
صفة الجاهلية .. غير قابل لأن نصطلح معه . إن مهمتنا أن نغيِّر من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيرًا .
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع . مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه . هذا الواقع الذي يصطدم اصطدامًا أساسيًا بالمنهج الإسلامي ، وبالتصور الإسلامي ، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش .
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته ، وألا نعدِّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق . كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق ، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلقى في هذا عنتًا ومشقة ، وستفرض علينا تضحيات باهظة ، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي ، ونصره على منهج الجاهلية .
وإنه لمن الخير أن ندرك دائمًا طبيعة منهجنا ، وطبيعة موقفنا ، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد ..(( معالم في الطريق ))
ــــــــــــــــــــ
11- الإصلاح بين المسلمين إذا تناعوا :
قال تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات/9-11]
وإذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمنينَ فَأصِلِحُوا - يا أيُّها المُؤْمِنُونَ - بَينَهما بالعَدْلِ ، وذَلِكَ بالدَّعْوةِ إِلى حُكْمِ اللهِ ، وَالرِّضَا بِمَا فيهِ ، فإذا أبَتْ إِحْدَى هَاتِينِ الطَّائِفَتَينِ الإِجَابَةَ إلى حُكْمِ اللهِ ، وَتَجَاوَزَتْ حُدُودَ العَدْلِ ، وأَجَابتِ الاخْرى ، فَقَاتِلُوا التي تَعْتَدِي وَتأبى الإِجَابَةَ إلى حُكْمُ اللهِ ، حَتَّى تَرْجِعَ إليهِ وَتَخْضَعَ لَهُ ، فَإِنْ رَجَعَت الطَّائِفَةُ البَاغِيةُ إلى الرِّضا بِحُكْم اللهِ ، فَأصْلِحُوا بَينَهما بالعَدْلِ ، وَاعْدِلُوا في(1/165)
حُكْمِكُم فإنَّ اللهَ يُحبُّ العَادِلينَ ، وَيَجزِيِهْم أحْسَنَ الجَزَاءِ . المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدِّينِ ، ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ " ) .
فأصْلِحُوا بَينَ الأخَوينِ المُتَقَاتِلَينِ ، أو الطَّائِفَتَين المُتَقَاتِلَتَين كَما تُصْلِحُونَ بين الأخَوينِ منَ النَّسَبِ ، وَاتْقُوا اللهَ في جَميعِ أمُورِكُم لَعَل اللهَ يَرْحَمُكُم وَيَصْفَحُ عَمَا سَلَفَ مِنْكُم مِنْ ذُنُوبٍ وَهَفَواتٍ .
وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك ، تحت النزوات والاندفاعات . تأتي تعقيباً على تبين خبر الفاسق ، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة ، قبل التثبت والاستيقان .
وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات ، أم كان تشريعاً لتلافي مثل هذه الحالة ، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق . ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح . والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح .
والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين . ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما ، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى ، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب .وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعاً - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين . فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معاً برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن ، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله . وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين ، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه ، وأدى إلى الخصام والقتال فإذا تم قبول البغاة لحكم الله ، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلباً لرضاه { إن الله يحب المقسطين } .
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم ، والتي جمعتهم بعد تفرق ، وألفت بينهم بعد خصام؛ وتذكيرهم بتقوى الله ، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } . .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة ، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف ، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة . وهو إجراء صارم وحازم كذلك .ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه ، وألا يقتل أسير ، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة ، وألقى السلاح ، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة . لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم ، وإنما هو ردهم إلى الصف ، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية .(1/166)
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة ، وأنه إذا بويع لإمام ، وجب قتل الثاني ، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام . وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم . وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة . وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص : « ربما رأوا الإمام مكتفياً بمن معه مستغنياً عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك » . . . والاحتمال الأول أرجح ، تدل عليه بعض أقوالهم المروية . كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام .ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة بين بلاد المسلمين ، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد ، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه . أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه . وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية ، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال .وواضح أن هذا النظام ، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، نظام له السبق من حيث الزمن في كل محاولات البشرية في هذا الطريق . وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق ، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ، ولا يتعلق به نقص أو قصور . . ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج ، وتكبو وتتعثر . وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم!
ــــــــــــــــــــ
12- السمعُ والطاعة والإنفاق في سبيل الله :
قال تعالى في سورة التغابن: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16} }
فَابْذُلُوا فِي تَقْوَى اللهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنَ الجَهْدِ وَالطَّاقَةِ ." وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَمَا نَهِيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،وَقَوْله تَعَالَى " وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا " أَيْ كُونُوا مُنْقَادِينَ لِمَا يَأْمُركُمْ اللَّه بِهِ وَرَسُوله وَلَا تَحِيدُوا عَنْهُ يَمْنَة وَلَا يَسْرَة وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْن يَدَيْ اللَّه وَرَسُوله وَلَا تَتَخَلَّفُوا عَمَّا بِهِ أُمِرْتُمْ .وَلَا تَرْكَبُوا مَا عَنْهُ زُجِرْتُمْ وَقَوْله تَعَالَى " وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ "(1/167)
أَيْ وَابْذُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّه عَلَى الْأَقَارِب وَالْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَذَوِي الْحَاجَات وَأَحْسِنُوا إِلَى خَلْق اللَّه كَمَا أَحْسَنَ اللَّه إِلَيْكُمْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنْ لَا تَفْعَلُوا يَكُنْ شَرًّا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقَوْله تَعَالَى " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسه فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ"وَمَنْ يَبْتَعِدْ عَنِ البُخْلِ وَالحِرْصِ عَلَى المَالِ ، يَكُنْ مِنَ الفَائِزِينَ
وفي هذا القيد: (ما استطعتم) يتجلى لطف الله بعباده , وعلمه بمدى طاقاتهم في تقواه وطاعته . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فالطاعة في الأمر ليس لها حدود , ومن ثم يقبل فيها ما يستطاع . أما النهي فلا تجزئة فيه فيطلب بكامله دون نقصان . ويهيب بهم إلى الإنفاق: (وأنفقوا خيرا لأنفسكم) . .فهم ينفقون لأنفسهم . وهو يأمرهم أن ينفقوا الخير لأنفسهم . فيجعل ما ينفقونه كأنه نفقة مباشرة لذواتهم , ويعدها الخير لهم حين يفعلون .ويريهم شح النفس بلاء ملازما . السعيد السعيد من يخلص منه ويوقاه ; والوقاية منه فضل من الله: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . .ثم يمضي في إغرائهم بالبذل وتحبيبهم في الإنفاق , فيسمي إنفاقهم قرضا لله . ومن ذا الذي لا يربح هذه الفرصة التي يقرض فيها مولاه ? وهو يأخذ القرض فيضاعفه ويغفر به , ويشكر المقرض , ويحلم عليه حين يقصر في شكره . وهو الله !
(إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم . والله شكور حليم) . .وتبارك الله . ما أكرمه ! وما أعظمه ! وهو ينشئ العبد ثم يرزقه . ثم يسأله فضل ما أعطاه . قرضا . يضاعفه . . ثم . . يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه ! ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه . . ! يالله !!!
إن الله يعلمنا - بصفاته - كيف نتسامى على نقصنا وضعفنا , ونتطلع إلى أعلى دائما لنراه - سبحانه - ونحاول أن نقلده في حدود طاقتنا الصغيرة المحدودة . وقد نفخ الله في الإنسان من روحه . فجعله مشتاقا أبدا إلى تحقيق المثل الأعلى في حدود طاقته وطبيعته , ومن ثم تبقى الآفاق العليا مفتوحة دائما ليتطلع هذا المخلوق إلى الكمال المستطاع , ويحاول الارتفاع درجة بعد درجة , حتى يلقى الله بما يحبه له ويرضاه .
ــــــــــــــــــــ
13- تغييرُ ما بالنفس من شر إلى خير:
قال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ {11} الرعد }
لِلْعَبْدِ مَلاَئِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ ، وَيَحْفَظُونَهُ مِنَ المَضَارِّ فِي نَوْمِهِ ، وَفِي حَالِ يَقَظَتِهِ ، بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ ، فَلاَ يَصِلُ إِلَيْهِ شَيءٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ ، وَإِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ ، مِنْ(1/168)
خَيْرٍ إِلَى سُوءٍ ، إِلاَّ إِذَا غَيَّرُوا مَا هُمْ عَلَيهِ ، وَلا يُغَيِّرُ اللهُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ سُوءٍ إِلَى خَيْرٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بَأَنْفُسِهِمْ .
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُصِيبَ قَوْماً بِشَرٍّ عِقَاباً لَهُمْ ، فَلاَ رَادَّ لإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ يَنْصُرُهُمْ مِنْ دُوْنِ اللهِ ، أَوْ يَرُدُّ قَضَاءَ اللهِ عَنْهُمْ ..
إن الله - تعالى - قد اقتضت سنته ، أنه - سبحانه - لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية؛ ومن جميل إلى قبيح ، ومن صلاح إلى فساد .
وإذا أراد - سبحانه - بقوم سوءا من عذاب أو هلاك ما يشبهها بسبب إيثارهم الغى على الرشد ، فلا راد لقضائه ، ولا دافع لعذابه .
وما لهم من دونه - سبحانه - من وال أى من ناصر ينصرهم منه - سبحانه - ويرفع عنهم عقابه ، ويلى أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد .
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله فى شئون عباده ، وتحذير شديد لهم من الإِصرار على الشرك والمعاصى وجحود النعمة ، فإنه - سبحانه - لا يعصم الناس من عذابه عاصم . ولا يدفعه دافع .فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم . فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزاً أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة . . إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقاً له في الزمان بالقياس إليهم . وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم.
والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك إلى جانب التبعة دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
ــــــــــــــــــــ
14- التواصي بالحق والتواصي بالصبر :
قال تعالى : {وَالْعَصْرِ ( 1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3)} سورة العصر
يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بِالدَّهْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَعِبَرٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى قَدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ .(1/169)
إِنَّ الإِنْسَانَ لَخَاسِرٌ فِي أَعْمَالِهِ . وَأَعْمَالُهُ مَصْدَرُ شَقَائِهِ ، وَهِيَ التِي تُوقِعُهُ فِي الهَلاَكِ ( وَهَذَا هُوَ جَوَابُ القَسَمِ )
قَالَ تَعَالَى : إِنَّ بَنِي الإِنْسَانِ خَاسِرُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ إِلاَّ الذِينَ اعْتَقَدُوا اعْتِقَاداً صَحِيحاً بِوُجُودِ اللهِ وَوحْدَانِيتِهِ ، وَبِمَا أَنْزِلَ مِنَ الكُتُبِ عَلَى رُسُلِهِ الكِرَامِ ثُمَّ عَمِلُوا صَالِحَةً تُرْضِي اللهَ ، وَاجْتَنَبُوا مَا حَرَّمَ اللهُ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِالصَّبْرِ عَنِ المَعَاصِي التِي تَشْتَاقُ إِلَيهَا النُّفُوسُ الضَّعِيفَةُ ، وَبِالصَّبْرِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ التِي يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ القِيَامُ بِهَا . . فَهؤُلاَءِ المُسْتَثْنَوْنَ هُمُ الرَّابِحُونَ الفَائِزُونَ .
إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . .
التعبد لإله واحد ، يرفع الإنسان عن العبودية لسواه ، ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد ، فلا يذل لأحد ، ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . والانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقاً ذاتياً ، لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه ، وكل ما يربطه بالله ، أو بالوجود ، أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة ، وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه ، وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها ، وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة .
. ولو كان فرداً واحداً ، لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق ، وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتها الناصعة ، مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد ، وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نوراً ، والروح طمأنينة ، والنفس أنساً وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق ، والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء!
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلته عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع ، ويتجه إلى هدف ، ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله ، فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح ، والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأَجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله ، يرفع من اعتباره في نظر نفسه ، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه ، ويرده إلى منبت حقير ، ويفصل(1/170)
بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة!
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني ، فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع ، ليس فيه ما يستغرب ، ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء!
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما ، ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله سبحانه في أطواء حسه إحساساً يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه!
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم ، يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة ، وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية ، ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب ، إنما هي كذلك تبعة جماعية ، وتبعة تجاه الخير في ذاته ، وإزاء البشرية جميعاً . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله ، فيكبر في عين نفسه ، ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود ، وعليه تبعة في نظام هذا الوجود ..
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا وهو بعض إيحاءات الإيمان واختيار ما عند الله ، وهو خير وأبقى . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة ، والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير ، ولأن الله يريده ، ولا عليه ألا يدرّ الخير خيراً على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت سبحانه - ولا ينسى ، ولا يغفل شيئاً من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجاً موصولاً ، لا دفعة طارئة ، ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية ، أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية ، أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه(1/171)
وتحقيق أطماعه ، وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير ، وشهود انتصار الحق على الباطل! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجاً أساسياً كاملاً .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير ، الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير ، وتتعلق به كل ثمرة من ثماره ، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته ، صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية ، وليس لها امتداد أو دوام!
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء ، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال ، ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون ، وتنسلك في طريق واحد ، وفي حركة واحدة ، لها دافع معلوم ، ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل ، ولا يشد إلى هذا المحور ، ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء } وجاء في سورة النور : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله ، ما لم يستند إلى الإيمان ، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود ، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني ، وتناسقه مع فطرة الكون كله ، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله .
فهو يعيش في هذا الكون ، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان ، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل ، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى ، وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا خسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران!
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان ، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك ، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه(1/172)
الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً . وإلا فهو غير موجود!
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة عمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشاً وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منة قوة بناء كبرى في صميم الحياة .وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير ، متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح ، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح؛ فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة أو الجماعة المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن ..
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة : هوى النفس ، ومنطق المصلحة ، وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة ، وظلم الظلمة ، وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية ، والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية ، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين وهو الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح ، وحراسة الحق والعدل ، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس ، وجهاد الغير . والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل ، وانطماس المعالم ، وبعد النهاية!(1/173)
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة ، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف ، ووحدة المتجه ، وتساند الجميع ، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها ، ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران ، فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا قبل الآخرة يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها؛ مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . . هذا والمسلمون أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير ، وأشدهم إعراضاً عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم ، وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم ، وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع الي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله ، راية الإيمان ، لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيراً قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله ، لا شريك له ، المسماة باسم الله لا شريك له ، الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم : « ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ » . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله ، وتحت عنوان « عهد القيادة الإسلامية » : « الأئمة المسلمون وخصائصهم » :« ظهر المسلمون ، وتزعموا العالم ، وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ، وساروا بالإنسانية سيراً حثيثاً متزناً عادلاً ، وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم ، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم » .« أولاً : أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية ، فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم ، ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء ، وقد جعل الله لهم نوراً يمشون به في الناس ، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟ } وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى ، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } ثانياً : أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ، بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر ، بل مكثوا زمناً طويلاً تحت تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وإشرافه الدقيق ، يزكيهم ويؤدبهم ، ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله ، وعدم الاستشراف للإمارة(1/174)
والحرص عليها . يقول : » إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ، أو أحداً حرص عليه « .ولا يزال يقرع سمعهم : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب ، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ، ويزكوا أنفسهم ، وينشروا دعاية لها ، وينفقوا الأموال سعياً وراءها . فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد؛ بل عدوه أمانة في عنقهم ، وامتحاناً من الله؛ ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ، ومسؤولون عن الدقيق والجليل ، وتذكروا دائماً قول الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وقوله . . { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، ليبلوكم فيما آتاكم } » ثالثاً : إنهم لم يكونوا خدمة جنس ، ورسل شعب أو وطن ، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده؛ ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان ، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً ، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها ، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد : الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام
فالأمم عندهم سواء ، والناس عندهم سواء الناس كلهم من آدم ، وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر وقد ضرب ابنه مصرياً وافتخر بآبائه قائلاً : خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحراراً أمهاتهم؟ فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد ، ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسباً ولوناً ووطناً ، بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد ، وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر ، وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب حتى المضطهدة منها في القديم أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة ، وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد ، بل إن كثيراً من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل ، وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
« رابعاً : إن الإنسان جسم وروح ، وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح ، لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقياً متزناً عادلاً حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نمواً متناسباً لائقاً بها ، ويتغذى غذاء صالحاً ، ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة ألبتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن(1/175)
فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة ، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية ، وأصحاب عقول سليمة راجحة ، وعلوم صحيحة نافعة » . .
إلى أن يقول تحت عنوان : « دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة » :
« وكذلك كان ، فلم نعرف دوراً من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور دور الخلافة الراشدة فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم ، وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها ، تسود فيها المثل الخلقية العليا ، وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم ، وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة ، ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة ، فتقل الجنايات ، وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها ، وتحسن علاقة الفرد بالفرد ، والفرد بالجماعة ، وعلاقة الجماعة بالفرد .وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه ، ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . « .هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع » سورة العصر « قواعده ، وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .فأين منها هذا الضياع الذي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان ، والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر ، والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور ، وإذا هي كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل ، وفي الحياة الباقية ، وفي عالم الحقيقة . . هناك الربح والخسر : ربح الجنة والرضوان ، أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له ، أو يرتكس فتهدر آدميته ، وينتهي إلى أن يكون حجراً في القيمة ودون الحجر في الراحة : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً } وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة ، التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم(1/176)
متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة » والعصر « ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي ، يتعاهدان على الإيمان والصلاح ، ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . .
ــــــــــــــــــــ
15- الخوفُ من الوعيد :
قال تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) [إبراهيم/10-14] }
قَالَ الرُّسُلُ لِهَؤلاءِ المُكَذِّبِينَ ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ شَكَّهُمْ فِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ : أَفِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ شَكٌّ؟ فَإِنَّ الفِطْرَةَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ ، وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الإِقْرَارِ بِهِ ، لِذَلِكَ كَانَ الاعْتِرَافُ بِهِ ضَرُورِيّاً فِي الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ فَتَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ المُوصِلْ إَلى وُجُودِ اللهِ ، وَلِذَلِكَ لَفَتَ الرُّسُلُ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ ، فَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمُبْدِعُهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ ، وَهُوَ تَعَالَى يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِرَكُمْ فِي الدُّنْيا إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ ( مُسَمَّى ) . فَقَالَتِ الأُمَمُ لِلرُّسُلِ : كَيْفَ نَتْبَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكُمْ أَنَّكُمْ رُسُلُ اللهِ ، فَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا ، وَلَمْ نَرَ مِنْكَ مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِكُمْ ، فَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فَأْتُونَا بِبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ وَاضِحٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُونَ .فَقَالَتْ لَهُمْ الرُّسُلُ : صَحيحٌ أَنَّنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ يََمنُّ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَيُؤْتِيهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكُمْ بِمَا سَأَلْتُمُوهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ وَالخَوَارِقِ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، فَهُوَ الذِي يَأْتِي بِالمُعْجِزَاتِ ، وَيَأْذَنُ بِهَا ، وَالمُؤْمِنُونَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، فَلْنَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ عَلَى كُفْرِكُمْ ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّانَا .(1/177)
وَبَعْدَ أَنْ أَجَابَهُم الأَنْبِيَاءُ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ ، أَخَذَ المُشْرِكُونَ يُخَوِفُونَهُمْ ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ بِالانْتِقَامِ وَالإِيذَاءِ ، فَقَالَ لَهُمُ الأَنْبِيَاءُ إِنَّنَا لاَ نَخَافُ تَهْدِيدَكُمْ ، بَلْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ لاَ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَقَدْ هَدَانَا لأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا؟ وَسَنَصْبِرُ عَلَى مَا أَلْحَقْتُمُوهُ بِنَا مِنَ الأَذَى بِأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ ، وَمَنْ تَوَكّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ .
وَلَمَّا عَجَزَ رُؤُوسُ الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ عَنْ مُقَارَعَةِ الحُجَّةِ بِالحُجَّةِ ، عَمَدُوا إِلى تَهْدِيدِ الرُّسُلِ بِالنَّفْيِ وَالإِخْرَاجِ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، إِنْ لَمْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى الرُّسُلِ : أَنَّهُ تَعَالَى سَيُهْلِكُ هؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ الظَّالِمِينَ .وَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ : أَنَّهُ سَيُسْكِنُهُمْ أَرْضَ الكَافِرِينَ وَدِيَارَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَذا جَزَاءٌ عَادِلٌ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَخَافَ مَا خَوَّفَهُ بِهِ رَبُّهُ ، وَمَا تَوَعَّدَهُ بِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ .
هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية . . إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها . ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها . وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها . فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل ، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية . لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم؛ ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم ، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي ، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل . وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله ، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه ، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى ،وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة ، ولا يبقى مجال لحجة؛ ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية . .إن التجمع الجاهلي بطبيعة تركيبه العضوي لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله ، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي ، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي ، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع . هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره . . لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . .
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل ، وإن كانوا طغاة متجبرين : { فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم . ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } .ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائماً بعد مفاصلة الرسل لقومهم . . بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها . . وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة . وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين(1/178)
عقيدة ومنهجاً وقيادة وتجمعاً . . عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة ، ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين ، ولتمكن للمؤمنين في الأرض ، ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين . . ولا يكون هذا التدخل أبداً والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي ، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته ، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة .
{ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين } . .نون العظمة ونون التوكيد . . كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد . لنهلكن المتجبرين المهددين ، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسول وللناس بهذا التهديد . .{ ولنسكننكم الأرض من بعدهم } . .لا محاباة ولا جزافاً ، إنما هي السنة الجارية العادلة : { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } . .ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي ، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر . وخاف وعيد ، فحسب حسابه ، واتقى أسبابه ، فلم يفسد في الأرض ، ولم يظلم في الناس ، فهو من ثم يستحق الاستخلاف ، ويناله باستحقاق .
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة قوة الطغاة الظالمين بالقوة الجبارة الطامة قوة الجبار المهيمن المتكبر فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين .
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف , ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله - سبحانه - في صف . ودعا كلاهما بالنصر والفتح . .
وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
(واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد . يتجرعه ولا يكاد يسيغه , ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت , ومن ورائه عذاب غليظ) . .
والمشهد هنا عجيب . إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد . مشهد الخيبة في هذه الأرض . ولكنه يقف هذا الموقف , ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها , وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم . يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها , ولا يكاد يسيغه , لقذارته ومرارته , والتقزز والتكره باديان نكاد نلمحها من خلال الكلمات !
ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان , ولكنه لا يموت , ليستكمل عذابه . ومن ورائه عذاب غليظ . .
إنه مشهد عجيب , يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع . وتشترك كلمة(غليظ) في تفظيع المشهد , تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين .
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة , وإخلاص الدين لله - أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية , أي الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا(1/179)
بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية ; وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية . وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص , يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي ; وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد , ومن ناحية القيادة , ومن ناحية الولاء . . الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان . .
وعندما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية ; كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له . .
فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام !
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام !
المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر . فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة , أو تعدد الأرباب , ومن ثم يدين فيه العباد للعباد . والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية ; ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد . .
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي , في أول الأمر وهو في دور التكوين , ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه , وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده . .
لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح , فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام . .
ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام ! . .
إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح ; ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد !
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها , فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت , لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام ! . .
إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة , وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة . .
(وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) . .
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم , أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص . إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم , ويندمجوا في تجمعهم , ويذوبوا في هذا التجمع . أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم . .(1/180)
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي , ولا أن يذوبوا فيه , ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . .
هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي . .
ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام . .
ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات -:حسنا ! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم !!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي , لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه . . وليس في ذلك اختيار . .
إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . .
هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده ; وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار !
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال . وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين ; والفصل بينهم وبين قومهم بالحق , لا يقع ولا يكون , إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم ; وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم . . فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي , ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته . .
وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين . .
وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله , وهم واعون مقدرون . .
ــــــــــــــــــــ
16- التوكل على الله تعالى في شئون حياتهم
قال تعالى :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) } [آل عمران/159، 160]
وقال تعالى :{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} [النساء/80، 81](1/181)
وقال تعالى :{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) }[الأعراف/88، 89]
وقال تعالى :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال/2-5]
وقال تعالى :{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) } [الأنفال/49، 50]
وقال تعالى :{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة/128، 129]
وقال تعالى :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)} [يونس/71]
وقال تعالى :{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) } [يونس/84-87]
وقال تعالى :{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) } [هود/50-56]
وقال تعالى :{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) } [هود/87، 88](1/182)
وقال تعالى :{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) }[يوسف/67]
وفي التوكل على الله , وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج ,ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض , وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات . . وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين , وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه - صلى الله عليه وسلم - على ما لا يريد , وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى . . حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع . لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله . درس الشورى . ثم العزم والمضي . مع التوكل على الله والاستسلام لقدره . وأن يعلمهم أن للشورى وقتها , ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد . فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي . . إنما هو رأي وشورى . وعزم ومضاء . وتوكل على الله , يحبه الله:(إن الله يحب المتوكلين) . .
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون . بل هي التي تميز المؤمنين . . والتوكل على الله , ورد الأمر إليه في النهاية , هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية . وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة:حقيقة أن مرد الأمر كله لله , وأن الله فعال لما يريد .
ولتقرير حقيقة التوكل على الله , وإقامتها على أصولها الثابتة , يمضي السياق فيقرر أن القوة الفاعلة في النصر والخذلان هي قوة الله , فعندها يلتمس النصر , ومنها تتقى الهزيمة , وإليها يكون التوجه , وعليها يكون التوكل , بعد اتخاذ العدة , ونفض الأيدي من العواقب , وتعليقها بقدر الله:(إن ينصركم الله فلا غالب لكم , وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ? وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . إن التصور الإسلامي يتسم بالتوازن المطلق بين تقرير الفاعلية المطلقة لقدر الله - سبحانه - وتحقق هذا القدر في الحياة الإنسانية من خلال نشاط الإنسان وفاعليته وعمله . . إن سنة الله تجري بترتيب النتائج على الأسباب . ولكن الأسباب ليست هي التي "تنشىء" النتائج . فالفاعل المؤثر هو الله . والله يرتب النتائج على الأسباب بقدره ومشيئته . . ومن ثم يطلب إلى الإنسان أن يؤدي واجبه , وأن يبذل جهده , وأن يفي بالتزاماته . وبقدر ما يوفي بذلك كله يرتب الله النتائج ويحققها . . وهكذا تظل النتائج والعواقب متعلقة بمشيئة الله وقدره . هو وحده الذي يأذن لها بالوجود حين يشاء , وكيفما يشاء . . وهكذا يتوازن تصور المسلم وعمله . فهو يعمل ويبذل ما في طوقه ; وهو يتعلق في نتيجة عمله وجهده بقدر الله ومشيئته . ولا حتمية في تصوره بين النتائج والأسباب . فهو لا يحتم أمرا بعينه على الله !
وهنا في قضية النصر والخذلان , بوصفهما نتيجتين للمعركة - أية معركة - يرد المسلمين إلى قدر الله ومشيئته ; ويعلقهم بإرادة الله وقدرته:إن ينصرهم الله فلا غالب لهم . وأن يخذلهم فلا ناصر لهم(1/183)
من بعده . . وهي الحقيقة الكلية المطلقة في هذا الوجود . حيث لا قوة إلا قوة الله , ولا قدرة إلا قدرته , ولا مشيئة إلا مشيئته . وعنها تصدر الأشياء والأحداث . . ولكن هذه الحقيقة الكلية المطلقة لا تعفي المسلمين من اتباع المنهج , وطاعة التوجيه , والنهوض بالتكاليف , وبذلك الجهد , والتوكل بعد هذا كله على الله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
وبذلك يخلص تصور المسلم من التماس شيء من عند غير الله ; ويتصل قلبه مباشرة بالقوة الفاعلة في هذا الوجود ; فينفض يده من كل الأشباح الزائفة والأسباب الباطلة للنصرة والحماية والالتجاء ; ويتوكل على الله وحده في أحداث النتائج , وتحقيق المصاير , وتدبير الأمر بحكمته , وتقبل ما يجيء به قدر الله في اطمئنان أيا كان .إنه التوازن العجيب , الذي لا يعرفه القلب البشري إلا في الإسلام .
----------
(وعلى ربهم يتوكلون) . .عليه وحده . . كما يفيده بناء العبارة . لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه . . أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير:" أي لا يرجون سواه , ولا يقصدون إلا إياه , ولا يلوذون إلا بجنابه , ولا يطلبون الحوائج إلا منه , ولا يرغبون إلا إليه , ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب , ولهذا قال سعيد ابن جبير:التوكل على الله جماع الإيمان " . .وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ; وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد , توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه . والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله !
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب . فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ; ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها . إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله . ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن . . اتخاذ السبب عبادة بالطاعة . وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله . . وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها ; وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها .ولقد ظلت الجاهلية "العلمية ! " الحديثة تلج فيها تسميه "حتمية القوانين الطبيعية " . ذلك لتنفي "قدر الله" وتنفي "غيب الله" . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها , أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي ! ولجأت إلى نظرية "الاحتمالات" في عالم المادة . فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً . وبقي "الغيب" سراً مختوماً . وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة ; وبقي قول الله - سبحانه - (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) هو القانون الحتمي الوحيد , الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون , بقدره النافذ الطليق !(1/184)
يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات: "لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق , أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً , وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته , وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول , وأن لا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] . . أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن , هو أنالحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها الحالة [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول:إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر احتمالاً من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالاً من [ د ] . . . وهكذا . بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين:أي الحالات تتبع الآخرى . لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث , فأمره موكول إلى الأقدار . مهما تكن حقيقة هذه الأقدار"
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة , لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء . وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث . وهو وحده الحقيقة المستيقنة . والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية ! . . وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ; ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية , وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله ; والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية ! . . إنها نقلة التحرر العقلي , والتحرر الشعوري , والتحرر السياسي , والتحرر الاجتماعي , والتحرر الأخلاقي . . . إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه . . . وما يمكن أن يتحرر "الإنسان" أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب "الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس . أو عبوديته لإرادة [ الطبيعة ! ] فكل "حتمية " غير إرادة الله وقدره , هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره . . ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده , واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه . . والتصور الإعتقادي في الإسلام كل متكامل . ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .
------------
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل:إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين , فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ; فهم يرون ظواهر الأمور , دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ; ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة , والثقة في الله , والتوكل عليه , واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله(1/185)
تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم , مغرورين بدينهم , واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ; والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من "الواقع" الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى , ويوازن بينها موازنة صحيحة: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) . .هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ; وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة , ويقرر النتيجة , ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض , عن العصبة المسلمة يوم بدر: (غر هؤلاء دينهم) . . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ; وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ; وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ; وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ; وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت , وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر , وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة , وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ; فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن , ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ; فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين:النصر والغلب , أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ; فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ; وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه , وأن ترى بنور الله وهداه , وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة , وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله , وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) . .. . وصدق الله العظيم . .
(وعلى ربهم يتوكلون) . .وهذا التقديم والتأخير في تركيب الجملة يفيد قصر التوكل على ربهم دون سواه . والإيمان بالله الواحد يقتضي التوكل عليه دون سواه . فهذا هو التوحيد في أول صورة من صوره . إن المؤمن يؤمن بالله وصفاته , ويستيقن أنه لا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلا بمشيئته , وأنه لا شيء يقع في هذا الوجود إلا بإذنه . ومن ثم يقصر توكله عليه , ولا يتوجه في فعل ولا ترك(1/186)
لمن عداه . وهذا الشعور ضروري لكل أحد , كي يقف رافع الرأس لا يحني رأسه إلا لله . مطمئن القلب لا يرجو ولا يرهب أحدا إلا الله . ثابت الجأش في الضراء ; قرير النفس في السراء , لا تستطيره نعماء ولا بأساء . . ولكن هذا الشعور أشد ضرورة للقائد , الذي يحتمل تبعة ارتياد الطريق
ــــــــــــــــــــ
17- الهجرة في الله :
قال تعالى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) } [النحل/41، 42]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الجَزَاءِ الذِي أَعَدَّهُ لِلمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِهِ ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ ، وَهُمُ الذِينَ فَارَقُوا الدَّارَ وَالإِخْوَانَ وَالخِلاَّنَ ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ وَحُسْنِ جَزَائِهِ : فَقَالَ إِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالمُجَازَاةِ الحَسَنَةِ فِي الدَّارِ الدُّنْيا وَفِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، فَأَكْرَمَهُمُ اللهُ بِالسَّكَنِ فِي المَدِينَةِ ، وَآتَاهُمُ الرِّزْقَ وَالحَلاَلَ الطَّيِّبَ ، وَجَعَلَهُمْ سَادَةً وَأُمَرَاءَ ، وَسَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِمَّا آتَاهُمْ فِي الدُّنْيا . وَلَوْ كَانَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الهِجْرَةِ يَعْلَمُونَ مَا ادَّخَرَ اللهُ ، لِمَنْ أَطَاعَهُ ، وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ ، مِنْ عَظِيمِ الثَّوَابِ ، لَمَا تَأَخَّرُوا عَنِ اللَّحَاقِ بِهِمْ .وَهَؤُلاَءِ المُهَاجِرُونَ هُمُ الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ ، وَاحْتَمَلُوهُ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ ، الذِي أَحْسَنَ لَهُمْ العَاقِبَةَ ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ، وتعروا عما يملكون وعما يحبون ، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم . . هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا . وقد عانوا الظلم وفارقوه . فإذا كانوا قد خسروا الديار ف { لنبوّئنهم في الدنيا حسنة } ولنسكننهم خيرا مما فقدوا { ولأجر الآخرة أكبر } لو كان الناس يعلمون . هؤلاء { الذين صبروا } واحتملوا ما احتملوا { وعلى ربهم يتوكلون } لا يشركون به أحدا في الاعتماد والتوجه والتكلان .
--------------
وقال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) }[العنكبوت/56-59]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤمِنينَ بالهِجْرَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لا يَقْدِرُونَ فيهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ إِلى مَكَانٍ آخَرَ مِنْ أَرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ ، يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ إِقَامَةَ شَعائِرِ دِينِهِمْ كَمَا أًَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ .(1/187)
( وَجَاءَ فِي الحَديثِ : " البِلاَدُ بِلاَدُ اللهِ ، وَالعِبَادُ عِبَادُ اللهِ ، حَيْثُما أَصَبْتَ خَيْراً فإَقِمْ " ( أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ ) وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِككُمُ المَوْتُ ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَحَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، فَالمَوْتُ آتٍ لا مَحَالَةَ ، وَلا مَفَرَّ مِنْهُ وَلا مَهْرَبَ ، ثُمّ تُرْجَعُونَ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعِنْدَهُ الحِسَابُ والجَزَاءُ .
وَالذِينَ آمَنُوا باللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ، وَعَمِلُوا بِمَ أَمَرهُمُ اللهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ ، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، فإِنّهُ تَعَالى يَعِدُهُمْ وَعْداً حَقّاً أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُمْ في الجَنَّةِ قُصُوراً ، وأَمَاكِنَ مُرتَفِعَةً ( غُرَفاً ) تَجْرِي في أَرْضِها الأَنْهَارُ وَسَيبْقَونَ فِيها خَالدِين ، أَبداً ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا .وَمَا حَصَلُوا عَلَيهِ مِنْ جَزاءٍ كَرِيمٍ هُوَ نِعْمَ الأَجْرُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحاً . وَهؤُلاءِ العََامِلُون ، الذينَ فَازُوا بِغُرفاتِ الجَنَّةِ ، هُمُ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ ، وَعَلَى شَدَائِدِ الهِجْرَةِ ، وَعَلَى الجِهَادِ في سَبِيل اللهِ ، وَتًَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمُ في جَمِيعِ أَعْمَالِهِم .
إن خالق هذه القلوب ، الخبير بمداخلها ، العليم بخفاياها ، العارف بما يهجس فيها ، وما يستكن في حناياها . . إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب : يا عبادي الذين آمنوا : يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها . لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها . بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها : { يا عبادي } . .هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية : { إن أرضي واسعة } . .
أنتم عبادي . وهذه أرضي . وهي واسعة . فسيحة تسعكم . فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق ، الذي تفتنون فيه عن دينكم ، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة ، ناجين بدينكم ، أحراراً في عبادتكم { فإياي فاعبدون } .
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة . ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين : بالنداء الحبيب القريب : { يا عبادي } وبالسعة في الأرض : { إن أرضي واسعة } وما دامت كلها أرض الله ، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه .ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها . فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة . خطر الموت الكامن في محاولة الخروج وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة ، ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة . ومن هنا تجيء اللمسة الثانية : { كل نفس ذائقة الموت . ثم إلينا ترجعون } . .فالموت حتم في كل مكان ، فلا داعي أن يحسبوا حسابه ، وهم لا يعلمون أسبابه . وإلى الله المرجع والمآب . فهم مهاجرون إليه ، في أرضه الواسعة ، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف .وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة . فمن ذا يساوره الخوف ، أو يهجس في ضميره القلق ، بعد هذه اللمسات؟(1/188)
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده؛ بل يكشف عما أعده لهم هناك . وإنهم ليفارقون وطناً فلهم في الأرض عنه سعة . ويفارقون بيوتاً فلهم في الجنة منها عوض . عوض من نوعها وأعظم منها : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها } .وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله : { نعم أجر العاملين ، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون }
وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب ، في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع
ــــــــــــــــــــ
18- الإيمان بالقضاء والقدر :
قال تعالى :{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة/50، 51]
وَهَؤُلاَءِ تَسُوؤُهُمْ أَيَّةُ حَسَنَةٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ فَتْحٍ يُصِيبُهُ الرَّسُولُ وَالمُسْلِمُونَ ، وَإِذَا أَصَابَتِ الرَُّسولَ وَالمُؤْمِنِينَ مُصِيبَةٌ ، أَوْ شِدَّةٌ ، يَقُولُونَ قَدِ احْتَظْنَا لأَمْرِنَا ، وَأَخَذْنَا حِذْرَنَا إِذْ تَخَلَّفْنَا عَنِ القِتَالِ ، وَلَمْ نُلْقِ بَأَيْدِينَا إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى أَهْلِهِمْ فَرِحِينَ بِمَا اجْتَنَبُوهُ مِنَ المَصَائِبِ ، وَبِالشَّمَاتَةِ بِالنَّبِيَِّ وَالمُسْلِمِينَ . قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَصَائِبِ ، وَتَسُوؤُهُم النِّعْمَةُ الَّتِي تُصْيبُ المُسْلِمِينَ : نَحْنُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَا قَدّرَهُ لَنَا سَيَأْتِينَا ، وَلَيْسَ لَهُ مَانِعٌ وَلاَ دَافِعٌ . وَنَحْنُ مُتَوَكّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، فَلاَ نَيْأسُ عِنْدَ الشِّدَّةِ ، وَلاَ نَبْطَرُ عِنْدَ النِّعْمَةِ .
إنهم لا يريدون بالرسول خيراً ولا بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً : { إن تصبك حسنة تسؤهم } . .وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة : { وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل } . .واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو!
{ ويتولوا وهم فرحون } . .بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء .ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور ، ويحسبون البلاء شراً في كل حال ، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود . وقد خلت قلوبهم من التسليم لله ، والرضى بقدره ، واعتقاد الخير فيه . والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى ، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله ، وأن الله ناصر له ومعين :{ قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .والله قد كتب للمؤمنين النصر ، ووعدهم به في النهاية ، فمهما يصبهم من شدة ، ومهما يلاقوا من ابتلاء؛ فهو(1/189)
إعداد للنصر الموعود ، ليناله المؤمنون عن بينة ، وبعد تمحيص ، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله ، نصراً عزيزاً لا رخيصاً ، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء ، صابرة على كل تضحية . والله هو الناصر وهو المعين : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } . .والاعتقاد بقدر الله ، والتوكل الكامل على الله ، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق . فذلك أمر الله الصريح : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . . . } وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله ، ومن لا يأخذ بالأسباب ، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحداً ، ولا تراعي خاطر إنسان!
ــــــــــــــــــــ
19- أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل :
قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا . وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَمَانَاتِ الوَاجِبَةِ عَلى الإِنْسَانِ : مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ( مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ . . . ) وَمِنْ حُقُوقِ العِبَادِ ( كَالوَدَائِعِ وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ عَلَيهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِيَدِ أَصْحَابِهَا وَثَائِقَ وَبَيَنَاتٍ عَلَيهَا ) . هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ حِجَابَةُ الكَعْبَةِ . وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِالكَعْبَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَأَخَذَ مِنْهُ مُفْتَاحَ الكَعْبَةِ وَدَخَلَها . فَجَاءَهُ العَبَّاسُ ( وَقِيلَ بَلْ جَاءَهُ عَلِي ) فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، اجْمَعْ لَنَا حَجَابَةَ الكَعْبَةِ مَعَ السِّقَايَةِ . فَدَعَا رَسُولَ اللهِ بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيهِ المُفْتَاحَ ، وَخَرَجَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ .
وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالعَدْلِ ، وَأَنْ يَكُونَ العَدْلُ عَاماً لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ ، وَلِكُلِّ أحَدٍ ، وَأنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ العَدْلِ حِقْدٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ أوْ عَدَاؤةٌ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَيَعِظُ بِهِ المُؤْمِنِينَ ، هُوَ الشَّرْعُ الكَامِلُ ، وَفِيهِ خَيْرُهُمْ ، وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ ..
وعَنِ الْبَرَاءِ ، قَالَ :" إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ، قَالَ : الأَمَانَةُ فِي الصَّلاَةِ , وَالأَمَانَةُ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَاتِ , وَالأَمَانَةُ فِي الْكَيْلِ , وَالأَمَانَةُ فِي الْوَزْنِ , وَأَعْظَمُ ذَلِكَ فِي الْوَدَائِعِ "مصنف ابن أبي شيبة(1).
عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ الْمَكِّىِّ قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ لِفُلاَنٍ نَفَقَةَ أَيْتَامٍ كَانَ وَلِيَّهُمْ فَغَالَطُوهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا إِلَيْهِمْ فَأَدْرَكْتُ لَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ مِثْلَيْهَا. قَالَ قُلْتُ أَقْبِضُ الأَلْفَ الَّذِى ذَهَبُوا بِهِ مِنْكَ قَالَ لاَ
__________
(1) - (ج 13 / ص 204) برقم (34763)(1/190)
حَدَّثَنِى أَبِى أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ » سنن أبى داود(1)
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها : أداء الأمانات إلى أهلها . والحكم بين « الناس » بالعدل . على منهج الله وتعليمه .
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى . . الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها « الإنسان » . . أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه . فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة . فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به ، والاهتداء إليه ، ومعرفته ، وعبادته ، وطاعته . وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه . والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته ، وإلى عقله ، وإلى معرفته ، وإلى إرادته ، وإلى اتجاهه ، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله ، بعون من الله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات .
ومن هذه الأمانة الكبرى ، تنبثق سائر الأمانات ، التي يأمر الله أن تؤدى :
ومن هذه الأمانات : أمانة الشهادة لهذا الدين . . الشهادة له في النفس أولاً بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له . ترجمة حية في شعورها وسلوكها . حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس . فيقولوا : ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه؛ وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون .
. والشهادة له بدعوة الناس إليه ، وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه ، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك ، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان . وهي إحدى الأمانات . . ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض؛ منهجاً للجماعة المؤمنة؛ ومنهجاً للبشرية جميعاً . . المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة ، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة . فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات؛ بعد الإيمان الذاتي . ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة . . ومن ثم ف « الجهاد ماض إلى يوم القيامة » على هذا الأساس . . أداء لإحدى الأمانات . .
ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا ما سبق - أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم : أمانة المعاملات والودائع المادية . وأمانة النصيحة للراعي وللرعية . وأمانة القيام على الأطفال الناشئة . وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها . . . وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال . . فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن
__________
(1) - برقم (3536 ) صحيح(1/191)
تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال . .فأما الحكم بالعدل بين « الناس » فالنص يطلقه هكذا عدلاً شاملاً « بين الناس » جميعاً . لا عدلاً بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب . ولا عدلاً مع أهل الكتاب ، دون سائر الناس . . وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه « إنساناً » . فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني . وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعاً : مؤمنين وكفاراً . أصدقاء وأعداء . سوداً وبيضاً . عرباً وعجماً . والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام ، وإلا في حكم المسلمين ، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية . . والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة؛ فلم تذق له طعماً قط ، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعاً . لأنهم « ناس »! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه « الناس »!
وذلك هو أساس الحكم في الإسلام؛ كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي .والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها؛ والحكم بين الناس بالعدل؛ هو التذكير بأنه من وعظ الله - سبحانه - وتوجيهه . ونعم ما يعظ الله به ويوجه : { إن الله نعما يعظكم به } . .ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه . فالأصل في تركيب الجملة : إنه نعم ما يعظكم الله به .. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة ، فيجعله « اسم إن » ويجعل نعم ما « نعما » ومتعلقاتها ، في مكان « خبر إن » بعد حذف الخبر . . ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به . .
ثم إنها لم تكن « عظة » إنما كانت « أمراً » . . ولكن التعبير يسميه عظة . لأن العظة أبلغ إلى القلب ، وأسرع إلى الوجدان ، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة الحياء!
ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية؛ يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه :{ إن الله كان سميعاً بصيراً } والتناسق بين المأمور به من التكاليف؛ وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس؛ وبين كون الله سبحانه « سميعاً بصيراً » مناسبة واضحة ولطيفة معاً . . فالله يسمع ويبصر ، قضايا العدل وقضايا الأمانة . والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير ، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر ، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر . وأخيراً فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور.وبعد فالأمانة والعدل . . ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما؟ في كل مجال في الحياة ، وفي كل نشاط للحياة؟
أنترك مدلول الأمانة والعدل؛ ووسائل تطبيقها وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم - أو أهواؤهم؟(1/192)
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان : هذا حق . . ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات ، متأثراً بشتى المؤثرات . . ليس هناك ما يسمى « العقل البشري » كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك ، وعقل فلان وعلان ، وعقول هذه المجموعة من البشر ، في مكان ما وفي زمان ما . . وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى؛ تميل بها من هنا ، وتميل بها من هناك . .ولا بد من ميزان ثابت ، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة؛ فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها . ومدى الشطط والغلو ، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات . وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان ، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان . . الميزان الثابت ، الذي لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بشتى المؤثرات . .ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين . . فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها . فتختل جميع القيم . . ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم .
ــــــــــــــــــــ
20- القيام بأعمال البرِّ كلها
قال تعالى : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة
بَعْدَ أَن حَوَّلَ اللهُ قِبْلَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلى البَيتِ الحَرامِ ، شَقَّ ذلِكَ عَلَى نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ، وَأَخَذَ اليَهُودُ فِي الدَّسِّ والنَّقْدِ بُغْيَةَ زَعْزَعَةِ ثِقةِ المُسِلِمِينَ بِرَبِّهِمْ وَنَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَوْضَحَ اللهُ فِي عَدَدٍ مِنَ الآيَاتِ حِكْمَتِهِ مِنْ ذلِكَ ، وَهِيَ : أَنَّ المُرَادَ أَسَاساً هُوَ طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ ، وَالتَّوَجُّهِ حَيثُما أَمَرَ وَوَجَّهَ ، فَهذا هُوَ البِرُّ وَالتَّقوَى وَالإِيمَانُ الكَامِلُ ، وَليسَ فِي التَّوجُّهِ نَحْوَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ بِحَدِّ ذَاتِهِ طَاعَةٌ ولا بِرٌّ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ شَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ . فَالبِرُّ يَقُومُ بِالإِيمَانِ بِاللهِ ، وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلاَئِكَةِ ، وَالكِتَابِ المُنْزَلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَالإيمَانِ بِالنَّبِيِّينَ الذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ إِلى النَّاسِ ، وَبِإِنْفَاقِ المَالِ فِي طَاعَتِهِ - وَالإِنْسَانُ حَيٌ سَلِيمٌ صَحِيحٌ يَأْملُ العَيْشَ ، وَيَخْشَى الفَقْرَ - عَلَى ذَوِي قُرْبَاهُ ، وَعَلَى اليَتَامَى الذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ ، وَهُمْ صِغَارٌ غَيْرُ قَادِرِينَ عَلَى الكَسْبِ ، وَعَلى المَسَاكِينِ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ فِي قُوتِهِمْ وَمَسْكِنِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ ، وَعَلَى ابنِ السَّبيلِ - وَهُوَ المُسَافِرُ المُجْتَازُ الذِي نَفَدَتْ نَفَقَتُهُ - وَعَلَى مَنْ يُريدُ سَفَراً فِي طَاعَةِ اللهِ فَيُعطَى مَا يَكْفِيهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَّابِهِ ، وَعَلَى السَّائِلِينَ الذِينَ يَتَعرَّضُونَ لِلسُّؤالِ ، وَعَلَى العَبيدِ المُكَاتَبِينَ الذِين لاَ يَجِدُونَ مَا يُؤَدُّونَهُ في كِتَابَتِهِمْ .(1/193)
كَمَا أَنَّ البِرَّ يَقُومُ : بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ ( وَإِتمَامِ أَفْعَالِهَا بِخُشُوعٍ تَامِّ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْمَامِ رُكُوعِهِا وَسُجُودِها ) ، وَبِدَفْعِ الزَّكَاةِ ، وَبِالتَّمسُّكِ بالعُهُودِ والمَواثِيقِ وَعَدَمِ النَّكْثِ بِها ، وَبِالصَّبرِ فِي البَأْسَاءِ - أَيْ فِي حَالِ الفَقْرِ - وَفِي الضَّرَّاءِ - أَيْ فِي حَالِ المَرَضِ - ، وَالصَّبرِ حِينَ البَأْسِ - أَيْ فِي حَالَةِ القِتالِ وَلِقَاءِ الأَعْدَاءِ- .
فَالذِينَ اتَّصَفُوا بِالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ هُمُ البَرَرَةُ الذِينَ صَدقُوا فِي إِيمَانِهِمْ ، وَفَازُوا بِرِضَا اللهِ .
( وَقَدْ نَصَبَ اللهُ تَعَالَى الصَّابِرينَ عَلَى المَدْحِ والثَّناءِ عَلَى الصَّبرِ ، وَالحَثِّ عَليهِ لِشِدَّتِهِ ، وَصُعُوبَةِ احِتِمَالِهِ عَلَى النُّفُوسِ ) .
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصداً مستقيماً ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعاً وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائماً تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقيناً منه بأن عبيد أنفسهم(1/194)
هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات! . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم براً ولا رعاية .. وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضناً بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلاً بأهل ، ومالاً بمال ، وصلة بصلة ، وقراراً بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملاً ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقاً في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته .
وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهراً وباطناً جسماً وعقلاً وروحاً . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم . وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسماً وعقلاً وروحاً في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضاً بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضرورياً لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهراً لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعاً في ترابط واتساق . يجعلها قياماً وركوعاً وسجوداً تحقيقاً لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبراً وتفكيراً في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلاماً لله تحقيقا لنشاط(1/195)
الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة .
وإيتاء الزكاة؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقاً في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .
والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيراً؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعاً قلقاً لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعاً مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعاً أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسراً . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .
ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة { الصابرين } وصفاً في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : « وأخص الصابرين » . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلاً لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم .(1/196)
وتضع على هذا كله عنواناً واحداً هو « البر » أو هو « جماع الخير » أو هو « الإيمان » كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم : { أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون } .
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد!
ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع . وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان
ــــــــــــــــــــ
21- نصرةُ دين الله :
قال تعالى في سورة محمد { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }
يَحُثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلَى الجِهَادِ ، وَيُعْلِمُهُمْ بَأنَّه يَنْصُرُهُمْ إذا أخْلَصُوا النيَّةَ في قِتَالِ أعدائِهِ ، فَيَقُولُ لَهُمْ : إنَّهُمْ إذا نَصَرُوا دِينَ اللهِ نَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى أعْدائِهِمْ ، وثَّبتَ أقْدَامَهُمْ في الحَرْبِ وَفي الدِّينِ ..
وكيف ينصر المؤمنون الله ، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت؟
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئاً ، شركاً ظاهراً أو خفياً ، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولا شيئاً ، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها ، وسرها وعلانيتها ، ونشاطها كله وخلجاتها . . فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة ، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة . ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ، فهذا نصر الله في واقع الحياة .ونقف لحظة أمام قوله تعالى : { والذين قتلوا في سبيل الله } . . وقوله : { إن تنصروا الله } . .وفي كلتا الحالتين . حالة القتل . وحالة النصرة . يشترط أن يكون هذا لله وفي(1/197)
سبيل الله . وهي لفتة بديهية ، ولكن كثيراً من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال . وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص ، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
إنه لا جهاد ، ولا شهادة ، ولا جنة ، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده ، والموت في سبيله وحده ، والنصرة له وحده ، في ذات النفس وفي منهج الحياة .
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا . وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.وليس هنالك من راية أخرى ، أو هدف آخر ، يجاهد في سبيله من يجاهد ، ويستشهد دونه من يستشهد ، فيحق له وعد الله بالجنة . إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف . من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية ، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة ، وألا يلبسوا برايتهم راية ، ولا يخلطوا بتصورهم تصوراً غريباً على طبيعة العقيدة .لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا . العليا في النفس والضمير . والعليا في الخلق والسلوك . والعليا في الأوضاع والنظم . والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة . وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان . وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد .وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام . وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف .وإذا عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف ، فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهية الأولى في شرط الله . .
وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا . فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام . وعد الله لا يخلفه . فإذا تخلف فترة؛ فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت . وذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم - فترة - نصر الله .
ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير : { ينصركم . ويثبت أقدامكم } . .
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر ، ويكون سبباً فيه . وهذا صحيح . ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت . معنى التثبيت على النصر(1/198)
وتكاليفه . فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان ، وبين الحق والضلال . فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة . للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر . وفي عدم التراخي بعده والتهاون . وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء . ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء . وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر . ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن . والعلم لله .{ والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم } . .وذلك عكس النصر وتثبيت الأقدام . فالدعاء بالتعس قضاء من الله سبحانه بالتعاسة والخيبة والخذلان وإضلال الأعمال ضياع بعد ذلك وفناء . .
{ ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } . .وهو تصوير لما يعتمل في قلوبهم ويختلج في نفوسهم من الكراهية لما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه . وهذا هو الذي يدفع بهم إلى الكفر والعناد والخصومة والملاحاة . وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة التي تكره بطبعها ذلك النهج السليم القويم ، وتصادمه من داخلها ، بحكم مغايرة طبيعتها لطبيعته . وهي نفوس يلتقي بها الإنسان كثيراً في كل زمان وفي كل مكان ، ويحسن منها النفرة والكراهية لهذا الدين وما يتصل به؛ حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره كما لو كانت قد لذعتها العقارب! وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث! ولعلنا نشاهد في هذه الأيام حالة من هذا الطراز لا تخفى على الملاحظة!
وكان جزاء هذه الكراهية لما أنزل الله ، أن أحبط الله أعمالهم . وإحباط الأعمال تعبير تصوري على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير . فالحبوط انتفاخ بطون الماشية عند أكلها نوعاً من المرعى سام . ينتهي بها إلى الموت والهلاك . وكذلك انتفخت أعمالهم وورمت وانبعجت . . ثم انتهت إلى الهلاك والضياع! إنها صورة وحركة ، ونهاية مطابقة لحال من كرهوا ما أنزل الله ثم تعاجبوا بالأعمال الضخام .
المنتفخة كبطون الأنعام ، حين ترعى من ذلك النبت السام!
ــــــــــــــــــــ
22- الإيمانُ الحقُّ :
قال تعالى في سورة غافر: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ {51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {52} }
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ، إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ ، وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ :(1/199)
- إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم ، كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ .
- وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ ، وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ ، وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ ، كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ .
- وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ ، بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ ، كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ .
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ ، بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ.
فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية . ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة . وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان .
إن وعد الله قاطع جازم : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . } . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل!
ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير .
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها!
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى .
وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! . . والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في(1/200)
الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه . يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين . من المسلمين . وكثير من غير المسلمين!
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال .
ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا!
على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه .وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا . ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها . وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله . وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحسن أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله
ــــــــــــــــــــ
23- الثباتُ عند لقاء العدو والإكثار من ذكر الله ...
قال تعالى في سورة آل عمران : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47 }(1/201)
يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ ، وَيَأمُرُهُمْ بِذِكِرِ اللهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ ، وَتَثْبُتَ نُفُوسُهُمْ ، وَهَذَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الفَوْزِ وَالنَّصْرِ عَلَى الأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيا ، وَمِنْ أَسْبَابِ الفَوْزِ بِالفَلاَحِ وَبِرِضْوَانِ اللهِ فِي الآخِرَةِ .
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ المُشْرِكِينَ ، وَبِالإِخْلاَصِ لَهُ ، وَبِبَذْلِ الجُهْدِ فِي القِتَالِ ، وَبِذِكْرِ اللهِ كَثِيراً لِتَطْمَئِنَّ النُّفُوسُ وَتَهْدَأَ ، وَيُزَايلَهَا الخَوْفُ وَالتَّرَدُّدُ وَالقَلَقُ ، كَمَا أمَرَهُمْ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِ ، إِنْجَاحاً لِلْخُطَّةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ فِي المَعْرَكَةِ . ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِألاَّ يَتَنَازَعُوا ، وَلاَ يَخْتَلِفُوا ، لأنَّ فِي التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ الفَشَلَ وَالخُذْلاَنَ وَضَيَاعَ مَا حَقَّقَهُ المُسْلِمُونَ فِي المَعْرَكَةِ { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . ثُمَّ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ الصَّبْرِ ، لأنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .
وَعَلَيْكُمْ ، أَيُّها المُؤْمِنُونَ ، أَنْ تَمْتَثِلُوا لِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ رَبُّكُمْ مِنْ طَاعَتِهِ تَعَالَى ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ الكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِمَا ، وَلاَ تَكُونُوا كَأَعْدَائِكُمْ المُشْرِكِينَ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ ، وَمُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ . . وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِ الإِسْلاَمِ ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ ، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ..
هذه هي عوامل النصر الحقيقية : الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون ، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين : الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها ، ولا حياة له سواها؟!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة ، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي .
ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة ، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي ، قولهم : { وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين } ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل ، وهي تواجه جالوت وجنوده : { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت(1/202)
أقدامناً وانصرنا على القوم الكافرين } ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة : { وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين } ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة؛ فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في « أحد »؛ فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم ، كان هذا التعليم حاضراً في نفوسها : { الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل } إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى : إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها ، فهي معركة لله ، لتقرير ألوهيته في الأرض ، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية؛ وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة ، ولا للمغنم ، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة؛ يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله ، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء؛ فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } . . . فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر ، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع « الذات » في كفة ، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداء! .
. ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات « الضبط » التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها ، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي تجاهد لله ، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .{ واصبروا ، إن الله مع الصابرين } . .وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب و الفلاح . .ويبقى التعليم الأخير : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط } . .يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في(1/203)
غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله؛ تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر ، وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده ، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير « الإنسان » في « الأرض » من كل عبودية لغير الله ، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم ، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة ، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد؛ وفي إقامة منهجه في الحياة؛ وفي إعلاء كلمته في الأرض؛ وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة؛ يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها؛ كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله : وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه :{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط } .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل ، وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير ، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه .وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل : « لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم ثلاثاً ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونشرب الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبداً » . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال : « واقوماه! هذا عمل عمرو بن هشام ( يعني أبا جهل ) كره أن يرجع ، لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم ، إن أصاب محمد النفير ذللنا » . . وصحت فراسة أبي سفيان ، وأصاب محمد - صلى الله عليه وسلم - النفير؛ وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله؛ وكانت بدر قاصمة الظهر لهم : { والله بما يعملون محيط } . .لا يفوته منهم شيء ، لا يعجزه من قوتهم شيء ، وهو محيط بهم وبما يعملون .ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقال : لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ، وقال : إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب } . .ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار؛ ليس من بينها حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما رواه مالك في الموطأ : حدثنا أحمد بن الفرج ،(1/204)
قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، قال : حدثنا مالك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما رئي إبليس يوماً هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك ما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى يوم بدر! » قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر؟ قال : « أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة » .وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ، وهو ضعيف الحديث ، والخبر مرسل .فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري :
* حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم .
فقال الشيطان للمشركين : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس ، فلما رآه ، وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، تزعم أنك لنا جار؟ قال : { إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب } وذلك حين رأى الملائكة .
*حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف كنانة ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
* حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } إلى قوله : { شديد العقاب } قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة ، وقال : { إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } . . وكذب والله عدو الله ، ما به مخافة الله ، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .(1/205)
وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم؛ وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي رأى أحدهما الآخر - { نكص على عقبيهِ وقال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب } . . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم ، ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم ، والتي قال لهم بها : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك ..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب؛ ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
بعد ، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، ويشجعهم على الخروج ، ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف ، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون؛ وهم يرونها تواجه جحافل المشركين ، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة؛ ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة ، مخدوعين بدينهم ، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم } . .والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل : إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين ، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة!
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ فهم يرون ظواهر الأمور ، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها؛ ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة ، والثقة في الله ، والتوكل عليه ، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم ، مغرورين بدينهم ، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها!
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه؛ والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من « الواقع » الحقيقي! الواقع الذي يشمل جميع القوى ، ويوازن بينها موازنة صحيحة : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } . .هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه؛ وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه! وهذا ما يرجح الكفة ، ويقرر النتيجة ، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، عن العصبة المسلمة يوم بدر : { غر هؤلاء دينهم } . . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في(1/206)
عنفوانه؛ وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين؛ وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة؛ وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله؛ وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت ، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر ، وتستخف بالخطر! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة ، وللأخطار الواضحة .. إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها؛ فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً؛ فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين : النصر والغلب ، أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف؛ فهناك الله . . وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض!
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة؛ وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه ، وأن ترى بنور الله وهداه ، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة ، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله ، وأن تلقي بالها دائماً إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين .{ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } . . . . وصدق الله العظيم . .
ــــــــــــــــــــ
24- الاعتزاز بالله ورسوله :
قال تعالى : {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون
وَيَقَولُ هَؤُلاَءِ المَنَافِقُونَ : إِذَا رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ فَإِنَّنَا سَنُخْرِجُ المُؤْمِنِينَ مِنْهَا ، لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ هُم الأَقْوِيَاءَ الأَعِزَّاءَ فِيهَا لَكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ ، وَوَفْرَةِ مَالِهِمْ ، وَأَنَّ المُؤْمِنِينَ ضِعَافٌ قَلِيلُو العَدَدِ .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ قَائِلاً : إِنَّ العِزَّةَ للهِ وَحْدَهُ ، فَهُوَ ذُو الجَلاَلِ والعِزَّةِ ، ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ مِنْ بِعْدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ يَسْتَغِزُّونَ بِعِزِّ اللهِ ، وَبِنَصْرِهِ ، فَهُمْ أَعِزَةٌ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ العِزَّةَ بِوَفْرَةِ المَالِ وَكَثْرَةِ النَّاصِرِ . ( وَروِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ - وَكَانَ مُؤْمِناً مُخْلِصاً فِي إِيْمَانِهِ - لَمَّا سَمِعَ مَقَالَةَ أَبِيهِ هَذِهِ اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَوَقَفَ بِبَابِ المَدِينَةِ ، وَلَمْ يَسْمَحْ لأَبِيهِ أَنْ يَدْخُلَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ بِالدُّخُولِ ، ثُمَّ قَالَ لأَبِيهِ : عَلَيَّ لله أَلاَّ أُغْمِدَ سَيْفِي حَتَّى تَقُولَ : مُحَمَّدٌ الأَعَزُّ ، وَأَنَّا الأَذَلُّ .فَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى قَالَ : ثُمَّ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ بالدُّخُولِ إِلَى المَدِينَةِ فَدَخَلَ ) .ويضم الله سبحانه رسوله والمؤمنين إلى جانبه ، ويضفي(1/207)
عليهم من عزته ، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول : ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز!
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .{ ولكن المنافقين لا يعلمون } . .وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟
----------------
إن الأمة مهما بحثت عن سعادتها وإعادة مكانتها فلن تجد ذلك بدون الجهاد في سبيل الله 0 فقد جعله الله سبباً لتمكين الدين في الأرض وتحطيم عروش الطغاة من البشر وإذلال المنافقين وكسر شوكتهم وإرهاباً للأعداء مهما اتسعت ممالكهم وعظمت قوتهم 0 ومن ظن غير ذلك فقد افترى على الله الكذب وسلك طريقاً غير طريق المؤمنين وبقي يراوح في مكانه
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة
ولم يُعلم في تاريخ هذه الأمة أنها عظمت بين الأمم بدون الجهاد في سبيل الله. ثم اعلم وفقك الله أن الجهاد هو استفراغ الوسع والطاقة وتحمل المشقة والصبر عليها في الدعوة إلى الله تعالى حسب ما يقتضيه حال المدعو من الحجة والبيان وبذل الأموال أو المحاربة بالسيف والسنان وبكل ما يمكن أن يجاهد به في كل مكان وزمان. وهو نوعان: جهاد طلب وابتداء وجهاد دفع.
فالأول:
هو غزو الكفار في بلادهم فدعوتهم إلى الإسلام فإن أبو أخذت منهم الجزية فإن امتنعوا وجب قتالهم وهذا ما درج عليه سلف هذه الأمة حيث وصلت الجيوش الإسلامية إلى شتى بقاع الأرض وانتشر الإسلام في أرجائها وتوزعت أشلاء المجاهدين في أنحائها جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
ففي صحيح مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِى خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ « اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَ لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى(1/208)
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْغَنِيمَةِ وَالْفَىْءِ شَىْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ ».
والثاني: جهاد الدفع وذلك حينما يدخل العدو في بلاد المسلمين فيستولي عليها أو تجهز لقتالهم فإنه والحالة هذه يجب على المسلمين قتالهم حتى يندفع شرهم ويرد كيدهم.
وفي كلتا الحالتين هو فرض من فروض الدين وواجب من واجباته شرعة الله سبحانه وتعالى لمصارمة العدو وإدخاله في دين الإسلام.
قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (البقرة:216).
وقال تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (التوبة:5).
وقال سبحانه وتعالى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:191).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
وقال عز من قائل (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة:14).
وفي سنن أبي داود عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ». (صحيح)
وعند النسائي عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ».(صحيح)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لأَبِى بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.(1/209)
وعند أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَالصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ وَالصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ ». ((حسن لغيره ))
وروى الترمذي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ لَوِ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِى هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ فِى بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ اغْزُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وروى ابن أبي شيبه في مصنفه 19545-حَدَّثَنَا عَبْدَةُ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اُغْزُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا. (( صحيح مرسل ))
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " جَاهِدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنَ الهَمِّ وَالْغَمِّ "(1)
وعَنْ سُبَيْعٍ قَالَ أَرْسَلُونِى مِنْ مَاءٍ إِلَى الْكُوفَةِ أَشْتَرِى الدَّوَابَّ فَأَتَيْنَا الْكُنَاسَةَ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ جَمْعٌ - قَالَ - فَأَمَّا صَاحِبِى فَانْطَلَقَ إِلَى الدَّوَابِّ وَأَمَّا أَنَا فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ حُذَيْفَةُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْخَيْرِ وَأَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ شَرٌّ قَالَ « نَعَمْ ». قُلْتُ فَمَا الْعِصْمَةُ مِنْهُ قَالَ « السَّيْفُ ». أَحْسَبُ أَبُو التَّيَّاحِ يَقُولُ السَّيْفُ. أَحْسَبُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « ثُمَّ تَكُونُ هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ ». قَالَ قُلْتُ « ثُمَّ مَاذَا ». قَالَ ثُمَّ تَكُونُ دُعَاةُ الضَّلاَلَةِ - قَالَ - فَإِنْ رَأَيْتَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةَ اللَّهِ فِى الأَرْضِ فَالْزَمْهُ وَإِنْ نَهَكَ جِسْمَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَاهْرَبْ فِى الأَرْضِ وَلَوْ أَنْ تَمُوتَ وَأَنْتَ عَاضٌّ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ ». قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ ». قَالَ قُلْتُ فِيمَ يَجِىءُ بِهِ مَعَهُ قَالَ بِنَهَرٍ أَوْ قَالَ مَاءٍ وَنَارٍ فَمَنْ دَخَلَ نَهْرَهُ حُطَّ أَجْرُهُ وَوَجَبَ وِزْرُهُ وَمَنْ دَخَلَ نَارَهُ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ »(2).
-------------
ومع هذه النصوص القطعية في الأمر بالجهاد في سبيل الله يخرج علينا أقوام يزعمون أن هذا الوقت لا يصلح فيه تطبيق مثل تلك النصوص ويرون الاكتفاء بالدعوة إلى الله عن طريق حلقات العلم وإقامة المناشط الدعوية ظناً منهم أن هذا الوقت أشبه ما يكون بالزمن المكي بل يرون أن هذا العمل هو الجهاد الحقيقي الذي يجب على كافة المصلحين أن يهتموا به غاية الاهتمام إلى غير ذلك من التوهمات
__________
(1) - مسند أحمد ( 23348) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد ( 24138) حسن -الجذل : أصل الشجرة = الفلو : المُهْر الصغير إذا فطم(1/210)
التي لا تمت إلى الدين بصلة حيث أن التربية لا تكون بدون الجهاد فقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على ذلك في وقت وجيز ثم أمرهم بحمل الرايات لقتال العدو.
ولست أختلف مع هؤلاء في أن الدعوة إلى الله من الجهاد إلا أن مسلكهم هذا يجب أن يكون مطابقاً للعهد المكي حيث أن دعوته - صلى الله عليه وسلم - قائمة بين الكفار وعبدة الأصنام ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يعيش بين المسلمين كما هي حالنا اليوم ولهذا وجب على العلماء والدعاة من المصلحين أن يجمعوا بين الأمرين الدعوة والجهاد.
وأما ما يستدل به هؤلاء على طريقتهم تلك فإنما هو مجرد اجتهاد غير مبني على أصل شرعي وقد يعتقد بعضهم أن ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حينما رجع من عزوة تبوك رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر يدل على وجوب الدعوة إلى الله وأنها أهم من الجهاد بالسيف مع أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ { رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ } فَلَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَفْعَالِهِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (95) سورة النساء، وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) [التوبة : 19 ، 22] } ..
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاَّمٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَّمٍ قَالَ حَدَّثَنِى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ رَجُلٌ مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أُسْقِىَ الْحَاجَّ. وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَعْمَلَ عَمَلاً بَعْدَ الإِسْلاَمِ إِلاَّ أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ. فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا(1/211)
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) الآيَةَ إِلَى آخِرِهَا.(1)
. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى عَمْرٍو الشَّيْبَانِىِّ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا » . قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ . قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ » . قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » . فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى(2)..
وَفِي الصَّحِيحَ عَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ، قَالَ « إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِى سَبِيلِهِ » . قُلْتُ فَأَىُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ « أَغْلاَهَا ثَمَنًا ، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا » . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ « تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ » . قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ . قَالَ « تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ »(3)..
وَفِي الصَّحِيحَ عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ . قَالَ « لاَ أَجِدُهُ - قَالَ - هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ » . قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِى طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ . أ.هـ(4)..
وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ . قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ »(5).
ولا يشك عاقل أن جهاد النفس وتربيتها على الإيمان أنه من أعظم مقومات النصر إذ أن الهزيمة سببها الوقوع في المعصية لكن ليس معنى ذلك أن يترك الجهاد لهذه الحجة.
قال ابن القيم رحمه الله عند قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) : "علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد
__________
(1) - صحيح مسلم( 4979 )
(2) - صحيح البخارى ( 2782 ) وصحيح مسلم( 264 )
(3) - صحيح البخارى(2518 ) - الأخرق : الجاهل بما يجب أن يعمله ولم يكن فى يديه صنعة يكتسب بها
(4) - صحيح البخارى( 2785 ) وانظر مجموع الفتاوى - (11 / 197-199)
(5) - مسند أحمد ( 24138) حسن -الجذل : أصل الشجرة = الفلو : المُهْر الصغير إذا فطم(1/212)
الشيطان وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل به من الجهاد:
قال الجنيد رحمه الله : (والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطناً فمن نصر عليها نصر على عدوه ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه.. إلى أن قال: ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة ولهذا قال الأوزاعي وابن المبارك " إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر " يعني أهل الجهاد فإن الله يقول (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)] أ.هـ.
فعلى القائلين بعدم وجوب الجهاد أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يقولوا على الله إلا الحق فإن القول بعدمه ليس له أصل ،وسأذكر بعض الأدلة الواردة في الوعيد الشديد على من لا يرى الجهاد تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:38-39).
وروى النسائي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِىِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ وَوَضَعُوا السِّلاَحَ وَقَالُوا لاَ جِهَادَ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَجْهِهِ وَقَالَ « كَذَبُوا الآنَ الآنَ جَاءَ الْقِتَالُ وَلاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُوحَى إِلَىَّ أَنِّى مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِى أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ » (صحيح).
وفي سنن النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « ثَلاَثَةٌ مِنْ أَصْلِ الإِيمَانِ : الْكَفُّ عَمَّنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ تُكَفِّرْهُ بِذَنْبٍ وَلاَ تُخْرِجْهُ مِنَ الإِسْلاَمِ بِعَمَلٍ وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِىَ اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِى الدَّجَّالَ لاَ يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلاَ عَدْلُ عَادِلٍ وَالإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ ».
وفي سنن أبي داود عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ». (صحيح)(1/213)
وفي مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ». -.
وروى ابن ماجة عَنْ أَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِى أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ».(حسن)
وما ذكرته هنا من النصوص في هذا المعنى إنما هو قليل من كثير، ولكن أين من ينتفع بما جاء عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟
وأين من يقتدي بسلف هذه الأمة في رفع لواء التوحيد وإعلاء كلمه الله؟
ومن الذي يؤثر الباقي على الفاني ويبيع دنياه بأخراه؟
فاحذروا أيها القاعدون المتقاعسون المخذلون المرجفون من مقت الله لكم وسخطه عليكم، فإن الجهاد في سبيل الله شريعة ماضية إلى يوم القيامة. فعليكم بالتوبة إلى الله والإنابة إليه قبل العرض عليه والحساب بين يديه.
ومع الأسف أن الأمر لم يتوقف على القول بترك الجهاد فحسب بل تعدى ذلك إلى إيذاء المؤمنين المجاهدين والنيل منهم ووصفهم بأنهم إرهابيون حسب ما يراه اليهود والنصارى وأعداء الدين أو أنهم لا يفقهون حقيقة الإسلام أو أنهم خارجون على ولاتهم ومجتمعاتهم فنصبوا لهم العدى وجعلوا يتتبعونهم في كل مكان لأجل تسليمهم إلى العدالة المزعومة فيصبون عليهم جام غضبهم من سجن وتعذيب نكاية لهم ولما قاموا به من نصرة لدين الله عز وجل
أما يعلم هؤلاء أن الله عز وجل لهم بالمرصاد لما يتعاملون به مع حزبه وجنده الذين قال الله فيهم: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج:38).
أما يفيق هؤلاء مما هم سادرون فيه من إيذاء وتنكيل بالمؤمنين أم إنهم قد استبطئوا العذاب والانتقام للمظلومين فويل لهم ثم ويل لهم يوم يجمع الله الأولين والآخرين فيقتص للمظلوم من الظالم، أليس الله عز وجل قد تولى محاربة من حارب المؤمنين وتعذيبهم بالعذاب المهين؟ أين هؤلاء من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما فيهما من الوعيد الشديد على من تعرض المؤمنين وقام بإيذائهم؟ .
وهذه جملة من نصوص الكتاب والسنة أوردها تحذيراً لهؤلاء من الاستمرار فيما هم فيه وتنبيهاً لغافلهم، قال تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (وإن كان أذيه المؤمنين عظيمة وإثمها عظيماً ولهذا قال فيها: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي بغير جناية منهم(1/214)
موجبة للأذى (فَقَدِ احْتَمَلُوا) على ظهورهم (بُهْتَاناً) حيث آذوهم بغير سبب (وَإِثْماً مُبِيناً) حيث تعدوا عليهم وانتهكوا حرمة الله باحترامها].
وفي الظلال : ( وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يومذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات , بنشر قالة السوء عنهم , وتدبير المؤامرات لهم , وإشاعة التهم ضدهم .
وهو عام في كل زمان وفي كل مكان . والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين , والمنافقين , والذين في قلوبهم مرض . والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد , ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان . وهو أصدق القائلين . )
وقال عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10).
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ............... » رواه البخاري.
وقال أبو داود - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الأَنْصَارِىَّ يَقُولاَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِى مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِى مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِى مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِى مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ ».
وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ..... »
ففي هذين الحديثين دليل على وجوب احترام المسلم وعدم خذلانه وإيذاءه.
وفي سنن أبي داود عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ كَذَا وَكَذَا فَضَيَّقَ النَّاسُ الْمَنَازِلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ فَبَعَثَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنَادِيًا يُنَادِى فِى النَّاسِ أَنَّ مَنْ ضَيَّقَ مَنْزِلاً أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا فَلاَ جِهَادَ لَهُ.
وفي المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال : يكون أمراء يعذبونكم و يعذبهم الله وقال الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم
فبهذه النصوص وغيرها يتبين عظم جرم المعتدي على عباد الله المؤمنين وأن مصيره إلى العذاب الأليم فاحذروا يا من نذرتم أنفسكم لمطاردة أولياء الله وتعذيبهم والزج بهم في غياهب السجون فإن الله يمهل ولا يهمل، وفي البخاري عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ » . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .(1/215)
وفي مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ».
وفي البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ « اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ » .
وما أرى هذه الجيوش الصليبية التي قد كشرت عن أنيابها وجاءت لتعلن حقدها الدفين إلا من جراء ما هو حاصل من الظلم والبطش بالمؤمنين والتلبس بكثير من المعاصي التي هي سبب في انتقام الله وسطوته على من تعدى حدوده وارتكب محارمه قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11).
وقال عز وجل (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).
فاحذروا أن تجروا الأمة إلى الدمار وإشعال الفتن التي ربما عز إطفاؤها وفقدت القدرة على إخمادها
فالجهاد ليس جريمة يحاسب عليها المرء ويدان بها بل الجريمة أن يترك الجهاد ويتعقب المجاهدون لا لشيء إلا لما قاموا به من هذا الأمر العظيم الذي تحدث عنه القرآن في أكثر من خمس مائه آية وجاءت الأحاديث التي لا تحصى تبين حكمه وفضله وما للمجاهدين عند الله من المنزلة العظيمة بل توعد الله من ترك الجهاد بالذل والهوان وتسليط العدو والعذاب في الآخرة كما قال تعالى عن المنافقين (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).
فتأمل قوله تعالى (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاًً) لما اعتذروا له - صلى الله عليه وسلم - من شدة الحر كيف كان الجواب لهذا الاعتذار الذي لا يغني عنهم من الله شيئاً وقد نهى الله عز وجل عن تقديم محبة الآباء والأبناء وغيرهم على محبة الجهاد وأن من فعل ذلك يحكم عليه بالفسق
قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة
وأن من تقاعس عن الجهاد والنفرة في سبيل الله يعذبه الله العذاب الأليم
قال تعالى : {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (39) سورة التوبة
وتأمل الأحاديث المذكورة قريباً يتبين لك ما توعد الله به الناكصين والمتخاذلين عنه فضلاً أن يتربصوا بأهلة الدوائر ويصفونهم بالأوصاف الشنيعة
ــــــــــــــــــــ(1/216)
25-الإنابةُ إلى الله :
قال تعالى في سورة الزمر: { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُم الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) }
يَسْتَحِثُّ اللهُ تَعَالَى الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَى المُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ ، وَيَقُولُ لَهُم : ارْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ بِالتَّوْبَةِ ، والعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ بِكُمْ نِقَمُهُ ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ العَذَابُ ، وَحِينَئِذٍ لاَ تَجِدُونَ مَن ْيَنْصُرُكُمْ مِنْ بَأَسِ الله . وَلاَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَهُ ..
ثُمَّ يَأَمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ( وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَى عِبَادِهِ ) ، وَبِاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ ، مِنْ قَبلِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِم العَذَاب فَجْأَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ، وَلاَ يَنْتَظِرُونَ وَقُوعَهُ حِينَ يَغْشَاهُمْ .
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالإِيمَانِ وبِالرُّجُوعِ إِلَيهِ تَعَالَى لِكَيلاَ يَأْتِيَ يَومُ القَيَامَةِ ، فَتَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ حِينَ تَرَى صِدْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلَ : يَا حَسْرَتِي عَلَى تَقْصِيرِي فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَعَلى سُخْرِيتِي وَاسْتِهْزَائِي بِرَسُولِ اللهِ ، وَبَمَا جَاءَنِي بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ .
أَوْ تَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ حِينَ تَرَى العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ : لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي وَأَرْشَدَنِي إِلَى دِينِهِ وَطَاعَتِهِ ، لَكُنْتُ فِي الدُّنْيَا مِمّن اتَّقَى اللهَ ، وَتَرَكَ الشِّرْكَ ، وَأَقْلَعَ عَنِ ارْتِكَابِ المَعَاصِي .
أَوْ تَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ المُذْنِبَةِ حِينَ تَرَى العَذَابَ يَومَ القِيَامَةِ : لَيْتَ لِي رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا فَاتَّبعَ الرُّسُلَ ، وَأَكُونَ مِنَ المُهْتَدِينَ المُحْسِنينَ فِي أَعَمَالِهِمْ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُتَبَاطِئِينَ فِي التَّوْبَةِ : إِنَّ رَدَّهُ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ الأَنْفُسِ التِي تَتَمَنَّى المُنَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَتَتَحَسَّرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ قُصُورٍ ، هُوَ أَنَّهُ لاَ فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ اليَومَ ، فَقَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فِي الدُّنْيَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِي تُذَكِّرُكَ وَتَدْعُوكَ وَتُنذِرُكَ فَكَذَّبْتَ بِهَا ، وَاسْتَكْبَرْتَ عَنْ قَبُولِهَا ، وَكُنْتَ مِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الكُفْرِ .الإنابة . والإسلام . والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام . . هذا هو كل شيء . بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب . وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق . من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب . ومن أراد الإنابة من الضالين , فلينب . ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم . وليأت . . ليأت وليدخل فالباب مفتوح . والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب !(1/217)
وهيا . هيا قبل فوات الأوان . هيا (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) . . فما هنالك من نصير . هيا فالوقت غير مضمون . وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار . هيا .(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) . . وهو هذا القرآن بين أيديكم . . (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) . .هيا قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة , وعلى التفريط في حق الله , وعلى السخرية بوعد الله:أن تقول نفس:يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . وإن كنت لمن الساخرين أو تقول إن الله كتب عليَّ الضلال ولو كتب عليَّ الهدى لاهتديت واتقيت:(أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) . .وهي علالة لا أصل لها . فالفرصة ها هي ذي سانحة , ووسائل الهدى ما تزال حاضرة . وباب التوبة ها هو ذا مفتوح !
(أو تقول حين ترى العذاب:لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) . .وهي أمنية لا تنال . فإذا انتهت هذه الحياة فلا كرة ولا رجوع . وها أنتم أولاء في دار العمل . وهي فرصة واحدة إذا انقضت لا تعود . وستسألون عنها مع التبكيت والترذيل: (بلى . قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) !
ــــــــــــــــــــ
26- أن يكونوا جنداً للرحمن :
قال تعالى في سورة الصافات : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ {171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ {172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ {173} }
وَلَقَدْ سَبَقَ وَعْدُ اللهِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ أَنَّ العَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم المُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
وَأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَزِّرُهُمْ وَيُذِلُّ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ اللهِ .وَإِنَّ جُنْدَ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، سَتَكُونَ لَهُمْ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي الحَرْبِ .
وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ ، وَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ ، وَانْتَظِرْ مُدَّةً قَلِيلةً ، فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَكَ العَاقِبَةَ ، والنَّصْرَ والغَلَبَةَ
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها .وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون(1/218)
وإن جنده لهم الغالبون .هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } .وعند إعلان هذا الوعد القاطع ، وهذه الكلمة السابقة ، يأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى عنهم ، ويدعهم لوعد الله وكلمته ، ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة ، ويدعهم ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون : { فتول عنهم حتى حين . وأبصرهم فسوف يبصرون . أفبعذابنا يستعجلون؟ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . وتول عنهم حتى حين . وأبصر فسوف يبصرون } . .فتول عنهم ، وأعرض ولا تحفلهم؛ ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد الله فيك وفيهم .
ــــــــــــــــــــ
27- بذلُ الجهد الكامل لهداية الكفار واليأس من إصلاحهم :(1/219)
قال تعالى في سورة يوسف : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} }
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلاً قَبْلَهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَرَاخَى نَصْرُ اللهِ عَنِ الرُّسُلِ ، وَأَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ ، حَتَّى إِذَا زُلْزِلَتِ النُّفُوسُ ، وَاسْتَشْعَرَتِ القُنُوطَ وَاليَأْسَ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي نَصْرُ اللهِ ، فَيُنَجِّي مَنْ يَشَاءُ اللهُ إِنْجَاءَهُ ، وَيُهْلِكُ مَنْ يَشَاءُ إِهْلاَكَهُ ، وَلاَ يَرُدُّ أَحَدٌ بَأْسَ اللهِ وَعِقَابَهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( كُذِبُوا ) قَرَاءَتَانِ :
الأُولَى - ( كُذِّبُوا ) - بِضَمِّ الكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَقْرَؤُهَا عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - وَمَعْنَاهَا : إِنَّ الرُّسُلَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ ، وَلَنْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ ، وَيَئِسُوا مِنْ قَوْمِهِم الكَافِرِينَ .
وَالثَّانِيَةُ - ( كُذِبُوا ) - بِضَمِ الكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَمَعْنَاهَا : إِنَّهُ لَمَّا يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ ، جَاءَ نَصْرُ اللهِ فَأَيَّدَ الرُّسُلَ .فَفِي القِرَاءَةِ الأُوْلَى : يَشْعُرُ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ كُذِّبُوا مِنْ قِبَلِ أَقْوَامِهِمْ .
وَفِي القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ : يُدْرِكُ القَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ ..
إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله . . . ؟ } ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق .في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً : { جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يردُّ بأسنا عن(1/220)
القوم المجرمين } . .تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمراً ماحقاً لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً . فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء .والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدَّعوها ، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة!
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً . وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً . ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 345) : " فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا } الْآيَةُ : قِرَاءَتَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ . وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقْرَأُ بِالتَّثْقِيلِ وَتُنْكِرُ التَّخْفِيفَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ - وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِهِ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُخَفَّفَةً قَالَتْ - مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا - قُلْت : فَمَا هَذَا النَّصْرُ - { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } بِمَنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لَعَمْرِي لَقَدْ(1/221)
اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جريج سَمِعْت ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } خَفِيفَةً ذَهَبَ بِهَا هُنَالِكَ وَتَلَا { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَلَقِيت عُرْوَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ : مَعَاذَ اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلَّا عَلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ مَنْ مَعَهُمْ يُكَذِّبُهُمْ ؛ فَكَانَتْ تَقْرَؤُهَا : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مُثَقَّلَةً . فَعَائِشَةُ جَعَلَتْ اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ وَظَنَّهُمْ التَّكْذِيبَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى ثَابِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهَا وَقَدْ تَأَوَّلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا إنَّمَا فِيهَا اسْتِبْطَاءُ النَّصْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ تُبْطِئُ لِطَلَبِ التَّعْجِيلِ . وَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ : { إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } وَالظَّنُّ لَا يُرَادُ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ كَمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَيُسَمُّونَ الِاعْتِقَادَ الْمَرْجُوحَ وَهْمًا بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } . فَالِاعْتِقَادُ الْمَرْجُوحُ هُوَ ظَنٌّ وَهُوَ وَهْمٌ وَهَذَا الْبَابُ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ } وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي هِيَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يُحْرَقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ : أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ . } فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي هِيَ تَعْرِضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ يَضْعُفُ بِهِ الْإِيمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا يُزِيلُهُ . وَالْيَقِينُ فِي الْقَلْبِ لَهُ مَرَاتِبُ وَمِنْهُ مَا هُوَ عَفْوٌ يُعْفَى عَنْ صَاحِبِهِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ يَقْتَرِنُ بِهِ صَرِيحُ الْإِيمَانِ . وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ؛ وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْت الدَّاعِيَ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } } وَقَدْ تَرَكَ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ قَوْلِهِ : " بِالشَّكِّ " لَمَّا خَافَ فِيهَا مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ النَّاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى } وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - شَكًّا لِذَلِكَ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا : يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ فَلَا يَطْمَئِنُّ فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ(1/222)
كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِهِمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَفِي قَصَصِ هَذِهِ الْأُمُورِ عِبْرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْتَلَوْا بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَيْأَسُوا إذَا اُبْتُلُوا بِذَلِكَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَكَانَتْ الْعَاقِبَةُ إلَى خَيْرٍ فَلْيَتَيَقَّنْ الْمُرْتَابُ وَيَتُوبُ الْمُذْنِبُ وَيَقْوَى إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِهَا يَصِحُّ الاتساء بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ . } وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الْمُرْسَلِينَ الَّتِي فِيهَا تَسْلِيَةٌ وَتَثْبِيتٌ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } وَلَنَا لِأَنَّهُ أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ . } وَإِذَا كَانَ الاتساء بِهِمْ مَشْرُوعًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا فَمِنْ الْمَشْرُوعِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ وَالثِّقَةُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ظَنٌّ مِنْ الظُّنُونِ وَطَلَبُ مَزِيدِ الْآيَاتِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ للاتساء وَالِاقْتِدَاءِ دُونَ مَا كَانَ الْمَتْبُوعُ مَعْصُومًا مُطْلَقًا . فَيَقُولُ التَّابِعُ : أَنَا لَسْت مِنْ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ بِذَنْبِ فَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَيْأَسَ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالِاقْتِدَاءِ ؛ لِمَا أَتَى بِهِ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَابِعَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعِصْمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ مَجْبُورٌ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ مَعَهُ الْمُتَابَعَةُ كَمَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَذْنَبَ وَأَجْرَمَ ثُمَّ تَابَ وَنَدِمَ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ مَا ظَلَمَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَصَ تَوْبَةِ الْأَنْبِيَاءِ لِنَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي الْمَتَابِ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا فَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهَا وَلَمْ يَتُوبُوا مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ . فَأَمَّا مَا نُهُوا عَنْهُ وَتَابُوا مِنْهُ فَلَيْسَ بِدُونِ الْمَنْسُوخِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَا أُمِرُوا بِهِ أُبِيحَ لَهُمْ ثُمَّ نُسِخَ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُتَابَعَةُ ؛ فَمَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ أَحْرَى وَأَوْلَى . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قَدْ يَكُونُونَ ظَنُّوا فِي الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ ؛ فَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَيْهِمْ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَإِذَا ظَنَّ بِالْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَيْسَ هُوَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَكَانَ كَذِبًا مِنْ جِهَةِ ظَنٍّ فِي الْخَبَرِ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ . فَأَمَّا الشَّكُّ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ فَهَذَا لَا يَكُونُ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ هُنَا شَيْئَانِ : " أَحَدُهُمَا " اسْتِيئَاسُ الرُّسُلِ . و " الثَّانِي " ظَنُّ أَنَّهُمْ كُذِبُوا . وَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَ " الظَّنِّ " فَأَمَّا لَفْظُ ( اسْتَيْأَسُوا فَإِنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } وَلَمْ يَقُلْ يَئِسَ الرُّسُلُ وَلَا ذَكَرَ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ . } وَقَدْ يُقَالُ : الِاسْتِيئَاسُ لَيْسَ هُوَ الْإِيَاسُ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَيْأَسُوا مِنْهُ(1/223)
بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَ كَبِيرِهِمْ : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْجُو أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ وَحُكْمُهُ هُنَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَخْلِيصنَا لِيُوسُفَ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَحُكْمُهُ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ قُعُودَهُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : ف " الْيَأْسُ " يَكُونُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَلَمْ يَجِئْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إنَّا إذًا لَظَالِمُونَ } فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَتَغَيَّرُ عَزْمُهُ وَنِيَّتُهُ وَمَا أَكْثَرَ تَقْلِيبَ الْقُلُوبِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْأَمْرُ بِغَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ يَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالْعَادَاتُ قَدْ جَرَتْ بِهَذَا عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ مَنْ قَالَ لَا يُعْطِيهِ . فَقَدْ يُعْطِيهِ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَقَدْ يَمُوتُ عَنْهُ فَيَخْرُجُ وَالْعَالَمُ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا . " الْوَجْهُ الثَّانِي " قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ : { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } . فَنَهَاهُمْ عَنْ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ الِاسْتِيئَاسِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا كَافِرِينَ فَهَذَا هُوَ " الْوَجْهُ الثَّالِثُ " أَيْضًا . وَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ { لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَأْسٌ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَأَنْ يَقَعُوا فِي الِاسْتِيئَاسِ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ مَا دَامُوا مُؤْمِنِينَ لَا يَيْأَسُونَ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ ذِكْرَ الْمُسْتَيْئِسِينَ وَأَنَّ الْفَرَحَ جَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَيْأَسَ الْمُؤْمِنُ ؛ وَلِهَذَا فِيهَا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الْإِخْوَةِ مِنْ أَخِي يُوسُفَ وَذِكْرُ اسْتِيئَاسِ الرُّسُلِ يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ جَمِيعًا . " الْوَجْهُ الرَّابِعُ " أَنَّ الِاسْتِيئَاسَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْيَأْسِ وَالِاسْتِفْعَالُ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : يَكُونُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مِنْ الْغَيْرِ فَالِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِفْهَامُ وَالِاسْتِعْلَامُ يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ يُقَالُ : اسْتَخْرَجْت الْمَالَ مِنْ غَيْرِي وَكَذَلِكَ اسْتَفْهَمْت وَلَا يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِيئَاسِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَطْلُبُ الْيَأْسَ وَيَسْتَدْعِيهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتَيْأَسَ فِعْلٌ لَازِمٌ لَا مُتَّعَدٌ . وَيَكُونُ لِلِاسْتِفْعَالِ لِصَيْرُورَةِ الْمُسْتَفْعِلِ عَلَى صِفَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ كَقَوْلِهِمْ : اسْتَحْجَرَ الطِّينُ أَيْ صَارَ كَالْحَجَرِ . وَاسْتَنْوَقَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ كَالنَّاقَةِ . وَأَمَّا النَّظَرُ فِيمَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ } . وَأَمَّا الرُّسُلُ فَلَمْ يَذْكُرْ مَا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ بَلْ أَطْلَقَ وَصْفَهُمْ بِالِاسْتِيئَاسِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِأَنَّهُمْ اسْتَيْأَسُوا مِمَّا وُعِدُوا بِهِ وَأُخْبِرُوا بِكَوْنِهِ وَلَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ . وَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } لَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَضْلًا عَنْ بَاطِنِهِ : أَنَّهُ حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِثْلُ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الظَّنِّ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ بَلْ يُسَمَّى ظَنًّا مَا هُوَ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ عَنْ الظَّانِّ ؛ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مَرْجُوحًا فِي نَفْسِهِ . وَاسْمُ الْيَقِينِ وَالرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ الْقَلْبِ وَعَمَلَهُ وَتَصْدِيقَهُ وَعَدَمَ تَصْدِيقِهِ وَسَكِينَتَهُ وَعَدَمَ(1/224)
سَكِينَتِهِ لَيْسَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ فَقَطْ كَمَا يَحْسَبُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ كَمَا نَبَّهْنَا [ عَلَيْهِ ] فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } . فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اسْتِيئَاسِهِمْ مُطْلَقًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ إذَا وَعَدَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ مُطْلَقٍ - كَمَا هُوَ غَالِبُ إخباراته - لَمْ يُقَيِّدْ زَمَانَهُ وَلَا مَكَانَهُ وَلَا سَنَتَهُ وَلَا صِفَتَهُ فَكَثِيرًا مَا يَعْتَقِدُ النَّاسُ فِي الْمَوْعُودِ بِهِ صِفَاتٍ أُخْرَى لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا خِطَابُ الْحَقِّ بَلْ اعْتَقَدُوهَا بِأَسْبَابِ أُخْرَى كَمَا اعْتَقَدَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ إخْبَارَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَيَطُوفُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مُعْتَمِرًا وَرَجَا أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ وَيَطُوفَ وَيَسْعَى . فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ ذَلِكَ الْعَامَ - لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى قَاضَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصُّلْحِ الْمَشْهُورِ - بَقِيَ فِي قَلْبِ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى { قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَلَمْ تُخْبِرْنَا أَنَّا نَدْخُلُ الْبَيْتَ وَنَطُوفُ ؟ قَالَ : بَلَى . فَأَخْبَرْتُك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ . قَالَ : لَا . قَالَ : فَإِنَّك دَاخِلُهُ وَمُطَوِّفٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ عِلْمًا وَإِيمَانًا مِنْ عُمَرَ حَتَّى تَابَ عُمَرُ مِمَّا صَدَرَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحَدِّثًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - { قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ الَّذِي ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ ؛ وَلَكِنْ مَزِيَّةُ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مُتَابَعَةً لِلرَّسُولِ وَعِلْمًا وَإِيمَانًا بِمَا جَاءَ بِهِ دَرَجَتُهُ فَوْقَ دَرَجَتِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلَ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْمُتَابَعَةِ لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ فَهُوَ مُعَلِّمٌ لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبٌ لِلْمُحَدِّثِ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ لَهُ مِنْ رَبِّهِ إلْهَامٌ وَخِطَابٌ كَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُعَلِّمًا لِعُمَرِ وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَيْثُ قَالَ لَهُ : فَأَخْبَرَك أَنَّك تَدْخُلُهُ هَذَا الْعَامَ ؟ قَالَ : لَا قَالَ إنَّك آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ . فَبَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ أَنَّ وَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتِ وَكَوْنُهُ سَعَى فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَقَصَدَهُ لَا يُوجِبُ أَنْ يَعْنِيَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ؛ بَلْ يَكُونُ غَيْرُهُ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكُونَ كَمَا قَصَدَهُ ؛ بَلْ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَيِّدَهُ عَمَّا يَقْصِدُهُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا قَصَدَهُ كَمَا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُخُولِهِمْ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ خَبَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ صَادِقٌ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَيَتَحَقَّقَ . وَكَذَلِكَ ظَنُّ النَّبِيِّ كَمَا { قَالَ فِي تَأْبِيرِ النَّخْلِ : إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } فَاسْتِيئَاسُ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ دُخُولِ ذَلِكَ هُوَ اسْتِيئَاسٌ مِمَّا ظَنُّوهُ مَوْعُودًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْعُودًا بِهِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا [ ظَنُّوهُ ] فَقَدْ يَظُنُّونَ فِيمَا وَعَدُوهُ تَعْيِينًا وَصِفَاتٍ وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنُّوهُ فَيَيْأَسُونَ مِمَّا ظَنُّوهُ فِي الْوَعْدِ لَا مِنْ تَعْيِينِ الْوَعْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { رَأَيْت أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَدْ أَسْلَمَ ؛ فَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدٌ ظَنُّوهُ هُوَ فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَوْمِ يُلَقِّحُونَ : فَقَالَ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا هَذَا لَصَلَحَ قَالَ : فَخَرَجَ سَبْتًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِفَحْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْت : كَذَا وَكَذَا . قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ }(1/225)
وَرُوِيَ أَيْضًا { عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرَرْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْمِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ فَقَالَ : يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَتُلَقَّحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ . فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ : إنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنَّنِي ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا إذَا حَدَّثَنَا بِشَيْءِ عَنْ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ بِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ أَتْقَانَا لِلَّهِ وَأَعْلَمُنَا بِمَا يُتَّقَى وَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَا يُحَدِّثُنَا عَنْ اللَّهِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ اللَّهُ بِوَعْدِ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ هُوَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَصْدِيقِنَا وَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَشُكَّ فِيهِ وَهُوَ - بِأَبِي - أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ لَا يَشُكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَظُنُّ ظَنًّا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا ظَنَنْت ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ } وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُ بِهِ مُطْلَقًا فَمُسْتَنَدُهُ ظُنُونٌ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ : { مَا قَصَرْت الصَّلَاةَ وَلَا نَسِيت } . وَقَدْ يَظُنُّ الشَّيْءَ ثُمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى جَلِيَّتِهِ كَمَا وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُمُورٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - [ وَهَمَّ أَنْ ] يَغْزُوَهُمْ لَمَّا ظَنَّ صِدْقَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي أبيرق الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } وَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ قَوْمٌ تَرَكُوا السَّارِقَ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ وَأَخْرَجُوا الْبَرِيءَ ؛ فَظَنَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صِدْقَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَقَالَ فِي حَدِيثِ قَصْرِ الصَّلَاةِ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فَقَالُوا : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فَأَخْبَرَ عَنْ مُوجَبِ ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ . { وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَا أَنْسَى لِأَسُنَّ } وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } شَامِلٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } الْآيَاتُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بينا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ : هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ بنورين أُوتِيتهمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَك : فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيته } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ آدَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } دَخَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ مِثْلُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا قَالَ : فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ قَدْ فَعَلْت إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : قَدْ فَعَلْت } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا(1/226)
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرَّكْبِ فَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا اقْتَرَاهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ : أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَثَرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا سُبْحَانَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قَبْلِنَا } قَالَ : نَعَمْ : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ : نَعَمْ . إلَى آخِرِ السُّورَةِ قَالَ : نَعَمْ } . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَكَيْفَ فِي الْخَبَرِ ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } فَنَفْسُ مَا يَعِدُ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَا يَمْتَرُونَ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ قَدْ يَكُونُ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِلنَّاسِ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ؛ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّمَنِّيَ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْقُرْآنُ كَمَا عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ السَّلَفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَظُنُّونَ } وَأَمَّا مَنْ أَوَّلَ النَّهْيَ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ فَذَاكَ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ ؛ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّوْعَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ فِي التَّفْسِيرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَمُرَادُ الْآيَةِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } . وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ فِي مُجَرَّدِ الْقَلْبِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ النَّبِيُّ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي ظَنِّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بَعْضُهُ النَّخْلُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ . وَإِذَا كَانَ التَّمَنِّي لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْقَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : " الْأَوَّلُ " أَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ فِي سَمْعِ الْمُسْتَمِعِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ بِمَنْعِ جَوَازِ الْإِلْقَاءِ فِي كَلَامِهِ . و " الثَّانِي " - وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - أَنَّ الْإِلْقَاءَ فِي نَفْسِ التِّلَاوَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَسِيَاقُهَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُوَ خَطَأٌ وَغَلَطٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ بِشَيْءِ فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ } وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالصِّدْقُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْكَذِبِ وَنَفْيَ الْخَطَأِ فِيهِ . فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ(1/227)
وَأَقَرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا أَنْ يَقَعَ الْإِلْقَاءُ فِي تَبْلِيغِهِ فَرُّوا مِنْ هَذَا وَقَصَدُوا خَيْرًا وَأَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يُقَالُ لَهُمْ : أَلْقَى ثُمَّ أَحْكَمَ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ النَّسْخَ لِمَنْ بَلَغَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ إذًا مُوقِنٌ مُصَدِّقٌ بِرَفْعِ قَوْلٍ سَبَقَ لِسَانُهُ بِهِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ إخْبَارِهِ بِرَفْعِهِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي النَّسْخِ : { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فَظَنُّهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا هُوَ يَتَّبِعُ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ مَعْنَى الْوَعْدِ وَهَذَا جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . إذَا لَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِسَائِرِ الْأُصُولِ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ [ ذَلِكَ ] أَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لَيْسَ بِأَعْظَمِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَإِذَا كَانَ مِنْ الْجَائِزِ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنْ يَظُنُّوا شَيْئًا ثُمَّ يَتَبَيَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ بِخِلَافِهِ ؛ فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى حَتَّى إنَّ بَابَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ ظَنُّ خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخِطَابِ إذَا نَفَوْهُ قَبْلَ الْخِطَابِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادًا مُطَابِقًا لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ وَبَابُ الْوَعْدِ إذَا لَمْ يُخْبَرُوا بِهِ قَدْ يَظُنُّونَ انْتِفَاءَهُ كَمَا ظَنَّ الْخَلِيلُ جَوَازَ الْمَغْفِرَةِ لِأَبِيهِ حَتَّى اسْتَغْفَرَ لَهُ وَنُهِينَا عَنْ الِاقْتِدَاءِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي طَالِبٍ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك } وَحَتَّى اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ وَحَتَّى صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ يَرْجُو لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الْآيَةُ . وَقَالَ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لن يغفر الله لهم } فَإِذَا كَانَ صَلَّى عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ رَاجِيًا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا سَوَّغَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُرْوَى فِي بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ . بِخِلَافِ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ أَنَّهُ صِدْقٌ ؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ الْخَبَرُ كَذِبًا لَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ ؛ لَا سِيَّمَا بِلَا عِلْمٍ كَمَا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِثُبُوتِهِ بِلَا عِلْمٍ ؛ إذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ . مَنَابِتُ النَّاسِ اللَّفْظُ تَعْيِينُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْحَدِيثِ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْطَالًا لِمَا هُوَ حَقٌّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } وَهَذَا الْبَابُ وَهُوَ " بَابُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ " هُوَ فِي الْكِتَابِ بِأَسْمَاءِ مُطْلَقَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ وَالْمُحْسِنِينَ فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَظُنُّ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ وَيَكُونُ اللَّفْظُ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْوَعْدِ لَا فِي اعْتِقَادِ صَدْقِ الْوَعْدِ فِي نَفْسِهِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } وَقَوْلِهِ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } الْآيَتَيْنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَالَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّ لِلنَّصْرِ وَإِنَّ جُنْدَ اللَّهِ الْغَالِبُونَ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَا لَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ فَالظَّنُّ الْمُخْطِئُ فَهِمَ(1/228)
ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا أَكْثَرُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعَ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا لَا يَحْصُرُ الْغَلَطَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ الْآدَمِيِّينَ ؛ لَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ لَا يُقِرُّونَ ؛ بَلْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ وَغَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا . وَلِهَذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَأْمُرُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِتَصْدِيقِ الْوَعْدِ وَالْإِيمَانِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَجِيءَ الْوَقْتُ وَمِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِزَوَالِ الذُّنُوبِ الَّتِي بِهَا تَحْقِيقُ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْوَعْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } الْآيَةُ . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ".
ــــــــــــــــــــ
28- الصبرُ على أذى الكفار في حال الضعف :
قال تعالى في سورة الأنعام : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ {34} }
يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ رَسُولِهِ إلى مَا لاَقَاهُ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ تَكْذِيبِ أَقْوَامِهِمْ لَهُمْ ، فَصَبَرُوا عَلَى الإِيذَاءِ وَالتَّكْذِيبِ ، حَتَّى جَاءَ نَصْرُ اللهِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : فَعَلَيْكَ أيُّهَا الرَّسُولُ أنْ تَتَأَسَى بِهِمْ ، وَتَصْبِرَ ، فَكَمَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ مَنْ سَبَقَكَ مِنَ الرُّسُلِ ، كَذَلِكَ سَيَنْصُرُكَ اللهُ عَلَى أَعْدَائِكَ الكَافِرِينَ ، وَلاَ مُبَدِّلَ لَكَلِمَاتِ اللهِ التِي قَضَى فِيهَا أنَّ النَّصْرَ وَالعَاقِبَةَ سَتَكُونَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَلَقَدْ جَاءَكَ أيُّهَا الرَّسُولُ نَبَأُ نَصْرِ اللهِ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَادَاهُمْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ نَبَأِ المُرْسَلِينَ قَبْلَكَ ، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ لَكَ ، وَتَثْبِيتٌ .
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب . . مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام . يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء . . والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد . . والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق . . إن نصر الله دائماً في نهاية الطريق :{ ولقد كذبت رسل من قبلك ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ، ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين } . .كلمات يقولها الله - سبحانه - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . . كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية . . وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقهم واضحاً ، ودورهم محدداً ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق . . .(1/229)
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة . كما أنها كذلك وحدة . وحدة لا تتجزأ . . دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى . . وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى . . وسنة تجري بالنصر في النهاية . . ولكنها تجيء في موعدها . لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حباً في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة .. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله . فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه . ولا مبدل لكلماته . سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم .إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية . .
إن طريق الدعوة إلى الله شاق , محفوف بالمكاره , ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه , إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله , وفق علمه وحكمته , وهو غيب لا يعلم موعده أحد - حتى ولا الرسول - والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين:من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة في أول الأمر , والحرب والأذى اللذين يعلنان على الدعاة . .
ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه , وعرف طعمه , والحماسة للحق والرغبة في استعلانه ! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق !
والتوجيه القرآني في هذه الموجه من السياق يعالج هذه المشقة من جانبيها . .
ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته , يعلمون علم اليقين أن ما يدعون إليه هو الحق , وأن الرسول الذي جاء به من عندالله صادق . ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون , ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا , لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب ! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه , وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له , متى كانت هذه الفطرة حية , وأجهزة الاستقبال فيها صالحة: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . .
فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة وهم موتى وهو صم وبكم في الظلمات . والرسول لا يسمع الموتى ولا يسمع الصم الدعاء . والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى . فذلك من شأن الله . . هذا كله من جانب , ومن الجانب الآخر , فإن نصر الله آت لا ريب فيه . .
كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله , وكما أن سنة الله لا تستعجل , وكلماته لا تتبدل , من ناحية مجيء النصر في النهاية , فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم . .(1/230)
والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة , وصبره على الأذى بلا تململ , ويقينه في العاقبة بلا شك . .
كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم .
ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ , والمضي في الطريق , والصبر على مشاق الطريق . .
أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته . .
والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل , ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب , كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب . .
إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية , وحسابه ليس على عدد المهتدين , إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم , وما استقام كما أمر . .
وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس . . (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . . (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) . .
(إنما يستجيب الذين يسمعون) وقد بينا من قبل علاقة مشيئة الله الطليقة في الهدى والضلال باتجاه الناس وجهادهم . بما فيه الكفاية .
من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين , أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة , في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ; ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم . .
ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق - وفق مألوف زمانهم ومستوى مداركهم كما حكى عنهم القرآن في مواضع منه شتى , منها في هذه السورة (وقالوا:لولا أنزل عليه ملك !) . . (وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه) . .
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) . .
وفي السور الأخرى ما هو أشد إثارة للعجب من هذه الاقتراحات . ذلك كالذي حكاه عنهم في سورة الإسراء: (وقالوا:لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا , أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف , أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه !) . .
وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق , لولا أنزل إليه ملك , فيكون معه نذيرا . أو يلقى إليه كنز , أو تكون له جنة يأكل منها ! . .(1/231)
والتوجيه القرآني المباشر في هذه الموجه من السورة نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون . وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم:(وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية , ولو شاء الله لجمعهم على الهدى , فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون , والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون) . .
وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ! قيل لهم: قل:إنما الآيات عند الله , وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة , ونذرهم في طغيانهم يعمهون . .
ليعلموا أولاأن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق , ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون , وأنهم موتى , وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما اسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لاتتبدل , وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم !
وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني . .
إنه ليس خاصا بزمن , ولا محصورا في حادث , ولا مقيدا باقتراح معين . فالزمن يتغير , وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر . . إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة "نظرية مذهبية " على الورق كالذي يجدونه في النظريات المذهبية الأرضية الصغيرة , التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ; ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات ! . .
وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع لا علاقة لها بإلاسلام [ لأن أهل هذه الجاهلية يقولون:إن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة ! ] وتنظم لهم هذه الأوضاع ; بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت , ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . .
وكلها محاولات ذليلة , لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة , التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله !
وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى , ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . .
كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . .(1/232)
ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة ! . .
إن "الاشتراكية " مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر ; قابل للصواب والخطأ . وإن "الديمقراطية " نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك , يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا . .
والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي , والنظام الاجتماعي الاقتصادي , والنظام التنفيذي والتشكيلي . .
وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . .
فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر ? بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد ?! . .
لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه . . يتخذونهم أولياء:
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . .) فهذا هو الشرك ! فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين لا يستشفعون لأنفسهم عند الله بأولياء من عبيده , ولكنهم - ويا للنكر والبشاعة ! - يستشفعون لله - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم ?!
إن الإسلام هو الإسلام . والاشتراكية هي الاشتراكية . والديمقراطية هي الديمقراطية . . ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له , والصفة التي وصفه بها . . وهذه وتلك من مناهج البشر . ومن تجارب البشر . .
وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس . .
ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله , أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب . وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله !
على أننا نسأل هؤلاء الذين هان عليهم دينهم , ولم يقدروا الله حق قدره . .
إذا كنتم تقدمون الإسلام اليوم للناس باسم الاشتراكية , وباسم الديمقراطية , لأن هذين زيان من أزياء الاتجاهات المعاصرة . فلقد كانت الرأسمالية في فترة من الفترات هي الزي المحبوب عند الناس وهم يخرجون بها من النظام الإقطاعي !
كما كانالحكم المطلق في فترة من الفترات هو الزي المطلوب في فترة التجميع القومي للولايات المتناثرة كما في ألمانيا وإيطاليا أيام بسمرك وماتزيني مثلا ! وغدا من يدري ماذا يكون الزي الشائع(1/233)
من الأنظمة الاجتماعية الأرضية وأنظمة الحكم التي يضعها العبيد للعبيد , فكيف يا ترى ستقولون غدا عن الإسلام ? لتقدموه للناس في الثوب الذي يحبه الناس ?!
إن التوجيه القرآني في هذه الموجة التي نحن بصددها - وفي غيرها كذلك - يشمل هذا كله . . إنه يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه ; فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ; ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ; ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته . .
إن الله غني عن العالمين . ومن لم يستجب لدينه عبودية له , وانسلاخا من العبودية لسواه , فلا حاجة لهذا الدين به , كما أنه لا حاجة لله - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة .
ثم إنه إذا كان لهذا الدين أصالته من ناحية مقوماته وخصائصه , التي يريد الله أن تسود البشرية . فإن له كذلك أصالته في منهجه في العمل , وفي أسلوبه في خطاب الفطرة البشرية . . إن الذي نزل هذا الدين بمقوماته وخصائصه , وبمنهجه الحركي وأسلوبه , هو - سبحانه - الذي خلق الإنسان , ويعلم ما توسوس به نفسه . .
وفي هذه الموجة من السورة نموذج من مخاطبته للفطرة الإنسانية . .
نموذج من نماذج متنوعة شتى . . فهو يربط الفطرة البشرية بالوجود الكوني , ويدع الإيقاعات الكونية تواجه الفطرة البشرية , ويثير انتباه الكينونة البشرية لتلقي هذه الإيقاعات . .
وهو يعلم أنها تستجيب لها متى بلغتها بعمقها وقوتها: (إنما يستجيب الذين يسمعون) . .
والنموذج الذي يواجهنا في هذه الموجة هو:
(وقالوا:لولا نزل عليه آية من ربه ! قل:إن الله قادر على أن ينزل آية . ولكن أكثرهم لا يعلمون) . .
وفي هذه الآية يحكي قول الذين يكذبون ويعارضون ويطلبون خارقة يراها جيلهم وتنتهي . . ثم يلمس قلوبهم بما يكمن وراء هذا الاقتراح لو أجيب !
إنه الأخذ والتدمير !
والله قادر على أن ينزل الآية . .
ولكن رحمته هي التي اقتضت ألا ينزلها , وحكمته هي التي اقتضت ألا يستجيب لهم فيها . .
وفجأة ينقلهم من هذا الركن الضيق في التصور والتفكير , إلى الكون الواسع . إلى الآيات الكبرى من حولهم . الآيات التي تتضاءل دونها تلك الآية التي يطلبونها . الآيات الباقية في صلب الكون للأجيال كلها من قبلهم ومن بعدهم تراها:
(وما من دابة في الأرض , ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم . ما فرطنا في الكتاب من شيء . ثم إلى ربهم يحشرون) . .
وهي حقيقة هائلة . .
هي حقيقة تستطيع ملاحظتهم وحدها حينذاك - حيث لم يكن لهم علم منظم - أن تشهد بها . .(1/234)
حقيقة تجمع الحيوان والطير والحشرات من حولهم في أمم . .
لها سماتها وخصائصها وتنظيماتها كذلك . . وهي الحقيقة التي تتسع مساحة رؤيتها كلما تقدم علم البشر , ولكن علمهم لا يزيد شيئا على أصلها !
وإلى جانبها الحقيقة الغيبية الموصولة بها , وهي إحاطة علم الله اللدني بكل شيء , وتدبير الله لكل شيء . .
وهي الحقيقة التي تشهد بها تلك الحقيقة المشهودة . .
فأين تذهب الخارقة المادية التي كانوا يطلبون , أمام الخارقة الكبرى التي يرونها حيثما امتدت أبصارهم وملاحظتهم وقلوبهم فيما كان وفيما سيكون ?
إن المنهج القرآني - في هذا النموذج - لا يزيد على أن يربط الفطرة بالوجود , وأن يفتح النوافذ بين الوجود والفطرة , وأن يدع هذا الوجود الهائل العجيب يوقع إيقاعاته الهائلة العميقة في الكيان الإنساني . .
إنه لا يقدم للفطرة جدلا لاهوتيا ذهنيا نظريا . ولا يقدم لها جدلا كلاميا [ كعلم التوحيد ] الغريب على المنهج الإسلامي . ولا يقدم لها فلسفة عقلية أو حسية , إنما يقدم لها هذا الوجود الواقعي - بعالميه عالم الغيب وعالم الشهادة - ويدعها تتفاعل معه وتتجاوب , وتتلقى عنه وتستجيب , ولكن في ظل منهج ضابط لا يدعها - وهي تتلقى من الوجود - تضل في المتاهات والدروب .
ثم يختم الفقرة بالتعقيب على موقف المكذبين بهذه الآيات الكبرى:
(والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله , ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) . .
فيقرر حقيقة حالة المكذبين وطبيعتهم . .
إنهم صم وبكم في الظلمات . .
ويقرر سنة الله في الهدى والضلال . .
إنها تعلق مشيئة الله بهذا أو ذاك , وفق الفطرة التي فطر الله عليها العباد .
بذلك تلتئم جوانب التصور الإسلامي للأمر كله . إلى جانب وضوح المنهج في الدعوة , وتقرير موقف صاحب الدعوة , وهو يتحرك بهذه العقيدة , ويواجه النفوس البشرية في كل حال وفي كل جيل . .
--------------
وقال تعالى : ( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (ابراهيم:12) وَبَعْدَ أَنْ أَجَابَهُم الأَنْبِيَاءُ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ ، أَخَذَ المُشْرِكُونَ يُخَوِفُونَهُمْ ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ بِالانْتِقَامِ وَالإِيذَاءِ(1/235)
، فَقَالَ لَهُمُ الأَنْبِيَاءُ إِنَّنَا لاَ نَخَافُ تَهْدِيدَكُمْ ، بَلْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ لاَ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَقَدْ هَدَانَا لأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا؟ وَسَنَصْبِرُ عَلَى مَا أَلْحَقْتُمُوهُ بِنَا مِنَ الأَذَى بِأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ ، وَمَنْ تَوَكّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ ..
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد ، لا تبلغ الإشارة مداه ، ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه . . .
. ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! . . إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح؛ ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد!
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها ، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت ، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! . . إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة؛ وكذلك لم يخدع الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة . .{ وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا } . .فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم ، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص . إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم ، ويندمجوا في تجمعهم ، ويذوبوا في هذا التجمع . أو أن يطردوهم بعيداً وينفوهم من أرضهم . .ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي ، ولا أن يذوبوا فيه ، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص . . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي . . ولم يقولوا كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام . . ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات : حسناً! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي ، لا بد ان يتبعه حتماً تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه . . وليس في ذلك اختيار . . إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات . . هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساساً بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده؛ وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسطان . كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في الجاهلية خادماً للتجمع الجاهلي لا خادماً لإسلامه كما يظن الأغرار!
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال . وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين؛ والفصل بينهم وبين قومهم بالحق ، لا يقع ولا يكون ، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم؛ وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم . . فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي ، ذائبون في أوضاعه عاملون في(1/236)
تشكيلاته . . وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين . . وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله ، وهم واعون مقدرون . .
-------------------
وقال تعالى : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35]
فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلى مَا تُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَومِكَ لَكَ ، كَمَا صَبَرَ أَصْحَابُ القُوَّةِ والثِّبَاتِ ، مِنَ الرُّسُلِ الذِينَ سَبَقُوكَ ، عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوامِهِمْ لَهُمْ حِينَما أَبْلَغُوهُمْ دَعْوَةَ اللهِ إِلى الإِيمَانِ بِهِ . وَلا تَسْتَعْجِلْ بِسُؤَالِ رَبِّكَ أَنْ يُنزِلَ بِهِم العَذَابَ ، فَهُوَ واقعٌ بِهِمْ لا مَحَالَةَ . وَأِنَّهُمْ حِينَما يَنْزِلُ بِهِم العَذَابُ يَومَ القِيَامَةََ يَرَوْنَ أَنَّ مُدَّةَ لَبِثِهِمْ في الدُّنيا ( أَوْ في قُبُورِهِمْ ) كَانَتْ قَصِيرةً ، حَتَّى لَيَحْسَبُوها سَاعَةً مِنْ نَهارٍ .
وَهذا الذِي وُعِظْتُم بِهِ لكَافٍ في المَوعِظَةِ ، وَلاَ يَهلِكُ بالعَذابِ إِلا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، لأَنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ ..وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم ; وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال , والمعاني والإيحاءات , والقضايا والقيم .
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل لهم . .
توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي احتمل ما احتمل , وعانى من قومه ما عانى . وهو الذي نشأ يتيما , وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد . الأب . والأم . والجد . والعم . والزوج الوفية الحنون . وخلص لله ولدعوته مجردا من كل شاغل . كما هو مجرد من كل سند أو ظهير . وهو الذي لقي من أقاربه من المشركين أشد مما لاقى من الأبعدين . وهو الذي خرج مرة ومرة ومرة يستنصر القبائل والأفراد فرد في كل مرة بلا نصرة . وفي بعض المرات باستهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة حتى تدمى قدماه الطاهرتان , فما يزيد على أن يتوجه إلى ربه بذلك الابتهال الخاشع النبيل .
وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربه: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . .
ألا إنه لطريق شاق طريق هذه الدعوة . وطريق مرير . حتى لتحتاج نفس كنفس محمد - صلى الله عليه وسلم - في تجردها وانقطاعها للدعوة , وفي ثباتها وصلابتها , وفي صفائها وشفافيتها . تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين .
نعم . وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة , وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر . وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم .(فاصبر . كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم(1/237)
تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية . . ثم تطمين: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) .
إنه أمد قصير . ساعة من نهار . وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الأخرة . وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار . . ثم يلاقون المصير المحتوم . ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم . وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم: (بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) . .لا . وما الله يريد ظلما للعباد . لا . وليصبر الداعية على ما يلقاه . فما هي إلا ساعة من نهار . ثم يكون ما يكون . .
ــــــــــــــــــــ
29- الصبر على البلاء :
قال تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة : 155 - 157]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ ، وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ ، وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ ، وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ . . . فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ ، وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ .
وَيُبَشِّرُ اللهُ الصَّابِرِينَ بِحُسْنِ العَاقِبَةِ فِي أُمُورِهِمْ .
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ ، وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا ، وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ : إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ ، أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ ، وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ . وَفي الحَدِيثِ : " مَنِ استَرجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَهُ ، وَأَحْسَنَ عَاقِبَتَهُ ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضَاهُ " ( أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ )
يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ ، وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ ، وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ ، وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ .
لا بد من تربية النفوس بالبلاء , ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد , وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . .
لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة , كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها(1/238)
عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها , وكلما بذلوا من أجلها . .
كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . .
إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم:لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء , ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها , مقدرين لها , مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ; وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون , والران عن القلوب .
وأهم من هذا كله , أو القاعدة لهذا كله . .
الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها , وتتوارى الأوهام وهي شتى , ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سندا إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات , وتتفتح البصيرة , وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح . . والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق: (وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون) . .
إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . .
لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . .
التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة , وبالتصور الصحيح .
هؤلاء هم الصابرون . . الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل . .
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة , وأولئك هم المهتدون) . .
صلوات من ربهم . .
يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . .(1/239)
ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . . وكل أمر من هذه هائل عظيم . .
وبعد . . فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي . التعبئة في مواجهة المشقة والجهد , والاستشهاد والقتل , والجوع والخوف , ونقص الأموال والأنفس والثمرات . التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف .
إن الله يضع هذا كله في كفة . ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا . . صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . .
إنه لا يعدهم هنا نصرا , ولا يعدهم هنا تمكينا , ولا يعدهم هنا مغانم , ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته . .
لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها وأكبر من حياتها . فكان من ثم يجردها من كل غاية , ومن كل هدف ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته . .
كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون . .
هذا هو الهدف , وهذه هي الغاية , وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها . . فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم , إنما هو لدعوة الله التي يحملونها .
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء . جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات . وجزاء على الخوف والجوع والشدة . وجزاء على القتل والشهادة . .
إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء . أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور . .
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب , وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين .
ــــــــــــــــــــ
30- الاستغاثةُ بالله تعالى :
قال تعالى في سورة الأنفال: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {10} }
حِينَمَا التَقَتِ الفِئَتَانِ ، المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ فِي سَاحَةِ المَعْرَكَةِ ، وَجَدَ المُسْلِمُونَ المُشْرِكِينَ كَثِيرِي العَدَدِ ، فَاسْتَغَاثَ الرَّسُولُ بِرَبِّهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أنْجِزْنِي وَعْدَكَ الذِي وَعَدْتَنِي . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ(1/240)
الآيَةَ الكَرِيمَةَ . وَفِيهَا يُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِدُعَائِهِ وَدُعَاءِ المُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ سَيَمُدُّهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَأْتُونَهُمْ مَدَداً يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، أَيْ يَأتي بَعْضُهُمْ إِثْرَ بَعْضٍ .
وَيَذْكُرُ تَعَالَى : أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ إِرْسَالَ المَلاَئِكَةِ لإِمْدَادِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ إلاَّ بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ، وَتَطْمِيناً لِقُلُوبِهِمْ ، بِأنَّهُمْ سَيَنْتَصِرُونَ ، وَتَثْبِيتاً لأَقْدَامِهِمْ أَثْنَاءَ القِتَالِ ، لأنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِهِمْ بِدُونِ ذَلِكَ ، لأنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَحْدَهُ ، فَهُوَ العَزِيزُ الجَانِبِ ، الحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ ..
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَاسْتَقْبَلَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ « اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِى مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِى اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِى الأَرْضِ ». فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ فَحَدَّثَنِى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِى أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومُ. فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ الأَنْصَارِىُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ». فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا أَسَرُوا الأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ « مَا تَرَوْنَ فِى هَؤُلاَءِ الأُسَارَى ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ». قُلْتُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِى رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّى أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنِّى مِنْ فُلاَنٍ - نَسِيبًا لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِى مِنْ أَىِّ شَىْءٍ تَبْكِى أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَبْكِى لِلَّذِى عَرَضَ عَلَىَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَىَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ». شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ(1/241)
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ) إِلَى قَوْلِهِ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا) فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ. صحيح مسلم(1)
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن!
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : « اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً » قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل :{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين}
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . ونحن - على طريقتنا في الظلال- نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أَنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين } . . فهذا عددهم . . { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } . . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيها الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .قال البخاري : باب شهود الملائكة بدرا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال : « من أفضل المسلمين » - أو كلمة نحوها - قال : « وكذلك من شهد بدراً من الملائكة » . . ( انفرد بإخراجه البخاري ) . . .{ إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم } . .لقد استجاب لهم ربهم
__________
(1) - برقم (4687 ) - خطم : ظهر أثر الضربة فيه =الصناديد : جمع صنديد وهو كل عظيم شريف رئيس متغلب(1/242)
وهم يستغيثون ، وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين . . ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله؛ إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة ، إنما يرد الأمر كله إليه - سبحانه - تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره . فهذه الاستجابة ، وهذا المدد ، وهذا الإخبار به . . . كل ذلك لم يكن إلا بشرى ، ولتطمئن به القلوب . أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون . . هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا ، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً . .
لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية؛ وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي ، وأن يمضوا في طاعة أمر الله ، واثقين بنصر الله . . كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم . . وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة ، وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي . . وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة . ثم يجيء النصر من عند الله وحده . حيث لا يملك النصر غيره . وهو « العزيز » القادر الغالب على أمره . وهو « الحكيم » الذي يحل كل أمر محله .
وفي كتاب فقه السيرة :- أهمية التضرع الى الله تعالى وشدة الإستعانة به :
لقد رأينا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يطمئن أصحابه بأن النصر لهم ' حتى أنه كان يشير الى أماكن متفرقة من الأرض ويقول : هذا مصرع فلان ' وهذا مصرع فلان ' ولقد وقع الأمر كما أخبر عليه الصلاة و السلام ' فما تزحزح أحد فى مقتله عن موضع يده كما ورد فى الحديث الصحيح .
ومع ذلك فقد رأيناه يقف طوال ليلة الجمعة فى العريش الذى أقيم له يجأر إلى الله تعالى داعياً متضرعاً ' باسطاً كفيه الى السماء يناشد الله عز وجل أن يؤتيه نصره الذى وعد حتى سقط عنه رداؤه وأشفق عليه أبو بكر الصديق ' والتزمه قائلا : كفى يا رسول الله ' إن الله منجز لك ما وعد ' فلماذا كل هذه الضراعة ما دام أنه مطمئن الى درجة أنه قال : لكأنى أنظر الى مصارع القوم ' وأنه حدد مصارع بعضهم على الأرض ؟
والجواب : أن إطمئنان النبى - صلى الله عليه وسلم - و إيمانه بالنصر ' إنما كان تصديقاً منه للوعد الذى وعد الله به رسوله ' ولا شك ان الله لا يخلف الميعاد ' وربما أوحى إليه خبر النصر فى تلك الموقعة .
أما الإستغراق فى التضرع و الدعاء و بسط الكف الى السماء ' فتلك هى وظيفة العبودية التى خلق من أجلها أفنسان ' وذلك هو ثمن النصر فى كل حال .
فما النصر- مهما توافرت الوسائل و الأسباب - إلا من عند الله تعالى و بتوفيقه ' والله عز وجل لا يريد منا إلا أن نكون عبيداً له بالطبع و الإختيار ' وما تقرب متقرب الى الله بصف أعظم من صفة العبودية'وما إستأهل إنسان بواسطة من الوسائط إستجابة دعاء من الله تعالى ' كمن إستأهل ذلك بواسطة ذل العبودية يتزىّ ويتبرقع به بين يدى الله تعالى .(1/243)
وما كل أنواع المصائب و المحن المختلفة التى تهدد الإنسان فى هذه الحياة أو تنزل به ' إلا أسباب وعوامل تنبهه لعبوديته ' وتصرف آماله وفكره الى عظمة الله سبحانه وتعالى وباهر قدرته ' كى يفر إليه سبحانه وتعالى ويبسط أمامه ضعفه و عبوديته ' ويستجير به من كل فتنة وبلاء ' وإذا إستيقظ الإنسان فى حياته لهذه الحقيقة وانصبغ سلوكه بها ' فقد وصل الى الحد الذى أمر الله عباده جميعاً أن يقفوا عنده وينتهوا إليه .
فهذه العبودية التى إتخذت مظهرها الرائع فى طول دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - وشدة ضراعته و مناشدته لربه أن يؤتيه النصر ' هى الثمن الذى إستحق به ذلك التاييد الإلهى العظيم فى تلك المعركة ' وقد نصت على ذلك الآية الكريمة إذ تقول :( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ' ويقينا منه - صلى الله عليه وسلم - بهذه العبودية لله عز وجل ' كان واثقاً بالنصر مطمئناً الى أن العاقبة للمسلمين ' ثم قارن مظهر هذه العبودية التى تجلت فى موقفه - صلى الله عليه وسلم - ونتائج ذلك ' مع مظهر ذلك الطغيان والتجبر الذى تجلى فى موقف أبى جهل حينما قال : لن نرجع حتى نرد ماء بدر فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ' وتسمع بنا العرب و بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا ' ونتائج ذلك التجبر و الجبروت ... !
لقد كانت نتيجة العبودية و الخضوع لله تعالى عزة قعساء ومجداً شامخاً خضع لهما جبين الدنيا باسرها ' ولقد كانت نتيجة الطغيان و الجبروت الزائفين قبراً من الضيعة و الهوان أقيم لأربابهما حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر وتعزف عليهم القيان ' وتلك هى سنة اله فى الكون كلما تلاقت العبوديةلله حالصة مع جبروت و طغيان زائفين .
- الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر :
إنطوت بدر على معجزة من أعظم معجزات التأييد و النصر للمسلمين الصادقين ' فقد أمدّ الله المسلمين فيها بملائكة يقاتلون معهم ' وهذه حقيقة ثبتت بدلالة صريحة من الكتاب و السنة الصحيحة ' روى ابن هشام أن النبى صلى اله عليه وسلم خفق خفقة فى العريش ثم إنتبه فقال :( أبشر يا أبا بكر ' أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على النقع ) ورواه البخارى أيضاً بلفظ قريب منه .
ومن أوضح الأدلة القاطعة على أن التعبير بالملائكة فى بيان الله عز وجل ليس المقصود به ما يتوهمه البعض من المدد الروحى أو القوة المعنوية أو نحو ذلك - أقول من أوضح الأدلة القاطعة على بطلان هذا الوهم ' ضبط البيان الإلهى الملائكة بعدد محدود وهو الألف ' فى قوله تعالى :( فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) إذ العدد من مستلزمات الكم المنفصل فى الأشياء ' ولا يكون ذلك إلا فى الأشياء المادية المحسوسة .(1/244)
ومن هنا نعلم أن تقييد ا لبيان الإلهى الملائكة بعدد معين ينطوى على حكم باهرة من أجلها قطع السبيل على من يريد تناول الآية ' ويفسر الملائكة بالمعنى الذى يروق له وهو مجرد الدعم المعنوى .
ثم إن نزول الملائكة للقتال مع المسلمين ' إنما هو مجرد تطمين لقلوبهم ' واستجابة حسية لشدة إستغاثتهم إقتضاها أنهم يقفون مع أول تجربة قتال فى سبيل الله ' لأناس يبلغون ثلاثة أضعافهم فى العدة و العدد 'وإلا فإن النصر من عند الله وحده ' وليس للملائكة أى تأثير ذاتى فى ذلك ' ومن أجل بيان هذه الحقيقة قال الله تعالى معللا نزول الملائكة :( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم ' وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) .
ــــــــــــــــــــ
31- عدمُ الخوف إلا من الله :
قال تعالى في سورة آل عمران : { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175} }
بَعْدَ أنِ انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ يَوْمَ أحُدٍ مُتَّجِهَةً إلَى مَكَّةَ ، نَدِمَتْ عَلَى الانْصِرَافِ قَبْلَ اسْتِئْصَالِ شَأفَةِ المُسْلِمِينَ ، وَالقَضَاءِ عَلَيْهِمْ ، فَفَكَّرُوا فِي العَوْدَةِ إلى المَدِينَةِ .
وَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ ، فَنَدَبَ المُسْلِمِينَ لِلْخُرُوجِ وَرَاءَ المُشْرِكِينَ لِيَثْنِيَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي العَوْدَةِ ، وَأمَرَ بِألاَّ يَخْرُجَ مَعَهُ إلاَّ مَنْ شَهِدَ أحُداً ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ إلَى الخُرُوجِ مَعَهُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيهِ مِنْ جِرَاحٍ
وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مَنْ أحْسَنَ مِنْ هَؤُلاءِ المُسْتَجِيبِينَ لِلْرَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَاتَّقَى أجْراً عَظِيماً .
وَخَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ : إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ ، وَاخْشَوْهُمْ ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ : إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ .
فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ ) ، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ(1/245)
( خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ ) .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ . وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً ، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ . وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ ..
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) قَالَتْ لِعُرْوَةَ يَا ابْنَ أُخْتِى كَانَ أَبُوكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا قَالَ « مَنْ يَذْهَبُ فِى إِثْرِهِمْ » . فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً ، قَالَ كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ . صحيح البخارى(1)
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة ومرارة الهزيمة وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا فقل عددهم فوق ما هم مثخنون بالجراح!
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول { من بعد ما أصابهم القرح } ونزل بهم الضر وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى وتومىء إلى حقائق كبرى نشير إلى شيء منها :
فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم هو شعور الهزيمة وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش وتعقبها كي يقر في أخلادهم أنها تجربة وابتلاء
__________
(1) - برقم (4077 )(1/246)
وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء إنما هي واحدة وتمضي ولهم الكرة عليهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله والرسول .ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته .فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشاً أنها لم تنل من المسلمين منالاً . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء أن يشعر المسلمين وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها ولا يقدمونها فداها
لقد كان هذا أمراً جديداً في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنون - بقيام هذا الأمر الجديد وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة : صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هوّل المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا - : { الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل } . .هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلاناً قوياً عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة : قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحداً قال : شهدنا أحداً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي ، فرجعنا جريحين . فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ - والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جراحاً منه فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس .فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك(1/247)
بالجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج معه . .وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلاً وترضى به وحده وتكتفي وتزداد إيماناً به في ساعة الشدة وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس : { حسبنا الله ونعم الوكيل } . .ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه المكتفين به المتجردين له :{ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله } .فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .{ بنعمة من الله وفضل } . .فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء : نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله لأن هذا هو الأصل الكبير الذي يرجع إليه كل فضل وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل!
{ والله ذو فضل عظيم } . .بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله صورتهم هذه وموقفهم هذا وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جداً كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزاً عنيفاً . أطار الغبش وأيقظ القلوب وثبت الأقدام وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .نعم . وكان فضل الله عظيماً في الابتلاء المرير . .وأخيراً يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان وأن يبطلوا محاولته .فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ولا يخشوهم بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر الذي ينبغي أن يخاف : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } .إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ودفعهم عن الشر والفساد .والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر وأن يتبدى قوياً قادراً قاهراً بطاشاً جباراً لا تقف في وجهه معارضة ولا يصمد له مدافع ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت(1/248)
ستار الخوف والرهبة وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه! يقلبون المعروف منكراً والمنكر معروفاً وينشرون الفساد والباطل والضلال ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له وجلاء الحق الذي يطمسونه . .والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان : { فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين } . .وأخيراً يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن من مسارعة الكفار إلى الكفر ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئاً . وإنما هي فتنة الله لهم وقدر الله بهم فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولاً لهم فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثماً مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء .
ــــــــــــــــــــ
32- عدم الفرار من المعركة :
قال تعالى في سورة الأنفال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16} }
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ فِي المَعْرَكَةِ ، وَبِمُوَاجَهَةِ الكَافِرِينَ بِقُلُوبٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ وَتَوْلِيَةِ الظُّهُورِ لِلأَعْدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الكَافِرُونَ أَكْثَرَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَدَداً ، لأنَّ الفِرَارَ يُحْدِثُ الوَهَنَ فِي الجَيْشِ الإِسْلاَمِي المُقَاتِلِ .
وَلَكِنَّهُ تَعَالَى سَمَحَ لِلْمُقَاتِلِ بِحُرِّيَّةِ الحَرَكَةِ أَثْنَاءِ المَعْرَكَةِ ، كَأنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ فِي المَعْرَكَةِ إلى مَكَانٍ آخَرَ ، لِنُصْرَةِ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ، أَوْ لِسَدِّ ثَغْرَةٍ نَفَذَ مِنْهَا العَدُوُّ ، فَالمُهِمُّ هُوَ أَنْ يَكُونَ هَدَفُ المُقَاتِلِ(1/249)
المُسْلِمِ النَّصْرَ أَوِ الشَّهَادَةِ ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِ القِيَادَةِ . أَمَّا الذِينَ يَتْرُكُونَ المَعْرَكَةَ فِرَاراً وَهَرَباً مِنَ المَوْتِ ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذَابِ الألِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وفي صحيح البخارى ( 2766 )ِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُنَّ قَالَ « الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ » .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا { إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } زاحفين نحوكم لقتالكم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } أى . فلا تفروا منهم ، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين ، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة ، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا ، ومقبلا غير مدبر .
فالمراد من تولية الأدبار : الانهزام ، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه . وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار ، تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا منه ، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين .
ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين فقال - تعالى - : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
وقوله : { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة فى القتال وهو منصوب على الحالية .
وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام . تقول : حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك . وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها .
والفئة : الجماعة من الناس . سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض فى التعاضد والتناصر . من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة .
والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون المؤمن عند توليته منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها فى حاجة إليه .
وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها .
وقد توعد - سبحانه - الذى ينهزم أمام الأعداء فى غير هاتين الحالتين بقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .أى : ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذى يأوى إليه فى الآخرة جهنم وبئس المصير هى .وقوله : { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله . . . } جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم .
هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
1- وجوب مصابرة العدو ، والثبات فى وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه .(1/250)
قال الآلوسى : فى الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز . أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اجتنبوا السبع الموبقات - أى المهلكات - قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
ثم قال : وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر فى غير ما حديث .
2- أن الخطاب فى الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر . قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلف المفسرون فى أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق؟
فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر . قالوا : والسبب فى اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر . . وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم
والقول الثانى : أن الحكم المذكور فى هذه الآية كان عاماً فى جميع الحروب بديل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ } عام فيتناول جميع الصور . أقصى ما فى الباب أنه نزل فى واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وهذا القول الثانى هو الذى نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين فى كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها .
3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين . أى أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو لمتحيز ثابت لم ينسخ .
وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : " سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التى فى الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى - : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ . . . } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم .
وقال آخرون : بل هذه الآية حكمها عام فى كل من ولى الدبر عن العدو منهزما .
وأولى التأويلين بالصواب فى هذه الآية عندى : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت فى أهل بدر . وحكمها ثابت فى جميع المؤمنين . وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإِسلام ، وأن(1/251)
من ولادهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه .
وإنما قلنا : هى محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا فى غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله فى غير النسخ وجه ، إلا بحجة التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .
ــــــــــــــــــــ
33- شعورهم بانهم مظلومون وسعيهم لإزالة الظلم :
قال تعالى :{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) } [الحج : 39 ، 40]
هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الجِهَادِ ، وَقَدْ نَزلَتْ بَعْدَ خُروجِ النًَّبِيِّ عليهِ السَّلاَمُ وَأَصْحَابِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ . يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ ظَلَمُوا المُسْلِمينَ فِي مَكَّةَ ، وأَخْرَجُوهُم مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرٍ حَقٍّ ، وَلاَ ذَنْبَ لَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله ، وَقَالُوا : رَبُّنَا اللهُ . وَلِذَلِكَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى للمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ المُشْرِكِينَ ، دَفْعً لأَذَاهُم ، وإِضْعَافاً لِشَوْكَتِهِم ، وتَشْجِيعاً لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ عَلَى الالْتِحَاقِ بِالمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا قُوَّةً تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِها ، وَتُرِهِبُ أعْدَاءَهَا الكفَّارَ ، وإِنَّ اللهَ قَادِرٌ وَحْدَهُ عَلَى نَصْرِ المُسْلِمِينَ دُونَ عَوْنٍ مِنْهَمْ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُريدُ مِنَ المُؤْمِنيِنَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُم فِي طَاعَةِ رَبِّهِم ، وأَن يَقُومُوا بِواجِبِهِم فِي الدِّفَاعِ عَنْ أًَنْفِسِهِم وَدِينِهِِ .
وقال السعدي :
كان المسلمون في أول الإسلام ممنوعين من قتال الكفار، ومأمورين بالصبر عليهم، لحكمة إلهية، فلما هاجروا إلى المدينة، وأوذوا، وحصل لهم منعة وقوة، أذن لهم بالقتال، قال تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } يفهم منه أنهم كانوا قبل ممنوعين، فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلون، وإنما أذن لهم، لأنهم ظلموا، بمنعهم من دينهم، وأذيتهم عليه، وإخراجهم من ديارهم.
{ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } فليستنصروه، وليستعينوا به، ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي: ألجئوا إلى الخروج بالأذية والفتنة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا } أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم { أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي: إلا أنهم وحدوا الله، وعبدوه مخلصين له الدين، فإن كان هذا ذنبا، فهو ذنبهم كقوله تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وهذا يدل(1/252)
على حكمة الجهاد، وأن المقصود منه إقامة دين الله، وذب الكفار المؤذين للمؤمنين، البادئين لهم بالاعتداء، عن ظلمهم واعتدائهم، والتمكن من عبادة الله، وإقامة الشرائع الظاهرة، ولهذا قال: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين، { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } أي: لهدمت هذه المعابد الكبار، لطوائف أهل الكتاب، معابد اليهود والنصارى، والمساجد للمسلمين، { يُذْكَرَ فِيهَا } أي: في هذه المعابد { اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } تقام فيها الصلوات، وتتلى فيها كتب الله، ويذكر فيها اسم الله بأنواع الذكر، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لاستولى الكفار على المسلمين، فخربوا معابدهم، وفتنوهم عن دينهم، فدل هذا، أن الجهاد مشروع، لأجل دفع الصائل والمؤذي، ومقصود لغيره، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله، وعمرت مساجدها، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها، من فضائل المجاهدين وببركتهم، دفع الله عنها الكافرين، قال الله تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }
فإن قلت: نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة، وحكومة غير منظمة، مع أنهم لا يدان لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج، بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم عامرة، وأهلها آمنون مطمئنون، مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها، والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت هذه المعابد، ونحن لا نشاهد دفعا.
أجيب بأن هذا السؤال والاستشكال، داخل في عموم هذه الآية وفرد من أفرادها، فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها، وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت ولايتها، وداخل في حكمها، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة، وجزء من أجزاء الحكومة، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها، أو مالها، أو عملها، أو خدمتها، فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب، الدينية والدنيوية، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها، وتفقد بعض أركانها، فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم، خصوصا المساجد، فإنها -ولله الحمد- في غاية الانتظام، حتى في عواصم الدول الكبار.
وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين، مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة، فتبقى الحكومة المسلمة، التي لا تقدر تدافع عن نفسها، سالمة من [كثير] ضررهم، لقيام الحسد عندهم، فلا يقدر أحدهم أن يمد يده عليها، خوفا من احتمائها بالآخر، مع أن الله تعالى لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين، ما قد وعد به في كتابه.
وقد ظهرت -ولله الحمد- أسبابه [بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ العمل] فنحمده ونسأله أن يتم نعمته، ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي: يقوم بنصر دينه، مخلصا له في ذلك، يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا.(1/253)
{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: كامل القوة، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق، وأخذ بنواصيهم، فأبشروا، يا معشر المسلمين، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم، وقوي عدد عدوكم وعدتهم فإن ركنكم القوي العزيز، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون، فاعملوا بالأسباب المأمور بها، ثم اطلبوا منه نصركم، فلا بد أن ينصركم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وقوموا، أيها المسلمون، بحق الإيمان والعمل الصالح، فقد { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }
ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } أي: ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض، { أَقَامُوا الصَّلاةَ } في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات.
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم خصوصا، وعلى رعيتهم عموما، آتوها أهلها، الذين هم أهلها، { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا من حقوق الله، وحقوق الآدميين، { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } كل منكر شرعا وعقلا معروف قبحه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به.
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } أي: جميع الأمور، ترجع إلى الله، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى، فمن سلطه الله على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومن تسلط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصل له ملك موقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشئومة، وعاقبته مذمومة.
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح .
وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .(1/254)
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر ، وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ ان يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } . .
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتماً : { إن الله لا يحب كل خوان كفور } . .
وأنه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلمون غير معتدين ولا متبطرين : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } . .
وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم : { وان الله على نصرهم لقدير } . .
وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، لا يعود خيرها عليهم وحدهم ، إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها؛ وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . وذلك فوق انهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } . . وهي أصدق كلمة أن تقال ، وأحق كلمة بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم . فهو البغي المطلق الذي لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين . وهو التجرد من كل هدف شخصي من ناحية المعتدى عليهم ، إنما هي العقيدة وحدها من أجلها يخرجون ، لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض ، التي تشتجر فيها الأطماع؛ وتتعارض فيها المصالح؛ وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع!
ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة . . حاجة العقيدة إلى الدفع عنها : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } . .
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان ، والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع ، والصلوات أماكن العبادة لليهود . والمساجد أماكن العبادة للمسلمين .
وهي كلها معرضة للهدم على قداستها وتخصيصها لعبادة الله لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها ، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض . أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول .(1/255)
ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لا بد من القوة تحميه وتدفع عنه . وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان!
ولا بد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة ، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة .
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين عليهم من الكفار الخائنين :
{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور } . .
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر حتماً على عدوه . . ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . . والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من « التنابلة » الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . . عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .(1/256)
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانياً لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور في جميع الحالات . . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
ــــــــــــــ
34- اليقينُ بوعد الله تعالى :
قال تعالى في سورة الأحزاب : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {22} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {23} لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا {24} وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا {25} وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا {26} وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا {27} }
وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الصّادِقُونَ فِي إِيمَانِهِم الأحزابَ ، يُحْدِقُونَ بالمدِينةِ ، قَالُوا : هَذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الابتلاءِ والاختبار وَالامتِحَانِ بالشَّدَائِدِ ، الذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ القَرِيبُ . وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ في النَّصْرِ والثَّوَابِ ، كَمَا صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ في الابتِلاءِ والاخْتِبَارِ ، وَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلا صَبْراً عَلى البَلاءِ ، وَتَصْدِيقاً بِتَحْقِيقِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَتَسليماً لِلقَضَاءِ .
( وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنُونَ قَوْلَهُ تَعَالى فِي سُورَةِ البَقَرَةِ : مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وَزَلزلوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .(1/257)
لَمَّا ذَكَر اللهُ تَعَالى أَنَّ المُنَافِقينَ نَقَضٌوا العَهْدَ ، وَصَفَ المُؤمنينَ بأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلى المُحَافَظَةِ عَلَى العَهْدِ وَالمِيثَاق ، وَأَنَّ مِنْهُمْ رِجَالاً أَوْفُوا بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيهِ مِنَ الصَّبْرِ في الشِّدَّةِ وَالبَأْسَاءِ ، فَاسْتُشْهِدَ بَعْضُهُمْ في بَدْرٍ ، وَبَعْضُهُمْ اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ ، وَبَعْضُهُمْ لَقِيَ وَجْهَ رَبِّهِ فِي غَيرِ هذِينِ المَوْقِفَينِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَضَى عَلَى الوَفَاءِ للهِ بِالعَهْدِ ، وَمَا غَيَّرُوا وَمَا بَدَّلُوا .
( رُوِيَ أَنَّ هذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنسِ بْنِ النَّصْرِ الذِي قُتِلَ يَوْمَ أَحُدٍِ ، وَكَانَ غَابَ عَنْ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : لَئِنْ أَرَاني الله تَعَالَى مَشْهَداً مَعَ رَسُولِ اللهِ ، فِيمَا بَعدُ ، لَيَرَينَّ اللهُ تَعَالى مَا أصْنَعُ ) . ( وَقِيلَ إِنَّها نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَحَمْزَةُ بَنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتُوا وَقَاتَلُوا حَتى يُسْتَشْهَدُوا ) .
وَاللهُ تَعَالَى يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالخَوْفِ وَالزَّلْزَلَةِ لِيَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ، وَيُظْهِرَ أَمْرَ كُلٍّ مِنْهُما جَلِيّاً وَاضِحاً ، فَيَجْزِي أَهْلَ الصِّدْقِ بِصِدْقِهِمْ بِما عَاهَدُوا الله عَلَيهِ ، وَيُعَذِّبَ المَنَافِقِينَ النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ ، المُخَالِفِينَ لأَوِامِرِ رَبِّهِمْ ، إِذا اسْتَمَرُّوا عَلى نِفَاقِهِمْ ، حَتَّى يَلْقَوْهُ ، أَمَّا إِذا تَابُوا وَعِمِلُوا صَالِحاً فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ سَيِّئَاتٍ وَآثامٍ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ ، وَرَحْمَتُهُ لِعِبَادِهِ هِيَ الغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ .
وَرَدَّ اللهُ المُشْرِكينَ ، مِنْ قَرَيْشٍ وَغَطْفَانَ وَأسَدٍ وسُلَيْمٍ ، بِغَيْظِهِمْ لِقْوتِ مَا أَمَلُوهُ مِنَ الظَّفَرِ بِمُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ ، وَالفَوْزِ بالغَنائِمِ ، وَلَمْ يَحْتَجِ المُؤْمِنُونَ إِلى مُنَازَلَتِهِمْ لإِجْبَارِهِمْ عَلَى الانْسِحَابِ ، وَإِنَّما سَلَّطَ الله عَلَيهِمْ رِيحاً ، وَأْرْسَلَ عَلَيهِمْ مَلائِكَتَهُ يُلْقُونَ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَانْسَحَبُوا مَخْذُولِينَ مَفْلُولِينَ فَكَفَى اللهُ المُؤْمِنينَ شَرَّ القِتالِ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ ، وَهزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ . وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ، لاَ يُغْلَبُ وَلاَ يُضَامُ . لَمَّا قَدِمَتِ الأَحْزَابُ إٍِلى المَدِينةِ كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَبَيْنَ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ عَهْدٌ وَمُوَادَعَةٌ ، فَجَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ - زَعيمُ يَهُودِ بَني النَّضِيرِ - وَكَانَ مَعَ قَوْمِهِ مَعَ الأحْزاب ، - إٍِلى بَنِي قُرَيْظَةَ يَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمُشَارَكَةِ الأَحْزَابِ فِي مُحَارَبَةِ المُسْلِميِنَ ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمينَ . وَلَمَّا هَزَمَ الله الأَحْزَابَ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَسيرَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُعاقِبَهُمْ عَلَى غَدْرِهِمْ ، وَنَقْضِهِمْ العَهْدَ . وَبَعْدَ حَرْبٍ دَامَتْ خَمْسَةً وعِشْرِينَ يَوْماً اضْطَرُّوا إِلى النُّزُولِ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وَكَانَ حَلِيفاً لَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَاسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اللهِ - وَكَانَ فِي المَدِينةِ يَشْتَكِي مِنْ جُرْحٍ أَصَابَهُ - فَحَكَمْ سَعْدٌ بِأَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ ، وَتُسْبَى الذُّرِّيَّةُ وَالأَمْوالُ .وَلِذَلكَ قَالَ اللهُ تَعَالى : إِنَّهُ قَذَفَ فِي قُلُوبِ بَنِي قُرَيْظَةَ الرُّعْبَ ( الذِينَ ظَاهَرُوا الأحْزَابَ مِنْ أَهلِ الكِتَابِ ) ، وَأْنْزَلَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ ( صَيَاصِيهِمْ ) عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ ، فَقَتَلَ المُسْلِمُونَ فَرِيقاً ، وَأَسَرُوا فَرِيقاً .وَأَوْرَثَ اللهُ المُؤمِنينَ أَرْضَ بَني قُرَيَْةَ ، وَنَخِيلَهُمْ ، وَمَزارِعَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، وَمَوَاشِيَهُمْ ، وَأَوْرَثَ اللهُ المُؤْمنينَ الأَرَاضيَ التي فَتَحُوها فِيما بَعْدُ ، مِنْ أَراضي اليَهودِ والمُشْرِكِينَ وَغَيرِهم ، في(1/258)
الجَزِيرةِ العَرَبيَّةِ وَخَارِجِها ، وَهِيَ أراضٍ لَمْ يَسْبَقْ لِلمْؤمِنينَ أَنْ وطِئَتْها أَقْدَامُهُمْ مِنْ قبلُ ، واللهُ تَعَالى قَادِرٌ عَلى ذَلِكَ ، فَلا يَتَعَذَّرُ عَليهِ شيءٌ ..
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالاً شديداً ، كما قال عنهم أصدق القائلين : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً } . .لقد كانوا ناساً من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية؛ وبشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . « والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة » . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحداً لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب }وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا : { هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله } . . { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً }
{ هذا ما وعدنا الله ورسوله } . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر : { وصدق الله ورسوله } . . صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } . .لقد كانوا ناساً من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشراً ، ولا يتحولوا جنساً آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجراً . . كانوا ناساً من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا مع هذا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله؛ وتمنعهم من السقوط؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . .(1/259)
وكانوا بهذا وذاك نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشراً ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة وضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلاً } هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله : { وكان عهد الله مسؤولاً } . .روى الإمام أحمد بإسناده عن ثابت قال : « عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه! لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله عز وجل ما أصنع .قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس رضي الله عنه يا أبا عمرو . أين واهاً لريح الجنة! إني أجده دون أحد . قال : فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته عمتي الرُّبيِّع ابنة النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال : فنزلت هذه الآية : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . الخ } قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . ( ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ) . وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان ، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق . لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.
ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله : { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم . إن الله كان غفوراً رحيماً}(1/260)
ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد ليرد الأمر كله إلى الله ، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع . فليس شيء منها عبثاً ولا مصادفة . إنما تقع وفق حكمة مقدرة ، وتدبير قاصد . وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب . وفيها تتجلى رحمة الله بعباده . ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر :{ إن الله كان غفوراً رحيماً} ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزاً } . .وقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره . فأسند إلى الله تعالى إسناداً مباشراً كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريراً لهذه الحقيقة ، وتثبيتاً لها في القلوب؛ وإيضاحاً للتصور الإسلامي الصحيح .
ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم . بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً .وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وأرضاً لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديراً } . .فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين . .
إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة . وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطاً عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدواً ، ولا يمدوا يداً بأذى .ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول . وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة . كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة . فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه!
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبدالله بن سلام . ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه . ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود . فطلب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا : سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا . فخرج عندئذ عبدالله بن سلام إليهم ، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به . فوقعوا فيه ، وقالوا قالة السوء ، وحذروا منه أحياء اليهود . وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني(1/261)
والسياسي . فاعتزموا الكيد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كيداً لا هوادة فيه .ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود!
لقد بدأت في أول الأمر حرباً باردة ، بتعبير أيامنا هذه . بدأت حرب دعاية ضد محمد عليه الصلاة والسلام وضد الإسلام . واتخدوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله . اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة . واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض . بين الأوس والخزرج مرة ، وبين الأنصار والمهاجرين مرة . واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين . واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين . . وأخيراً أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين ، كالذي حدث في غزوة الأحزاب . .
وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة . وكان لكل منها شأن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع المسلمين .فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود ، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته ، بعدما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم .
وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال :
وكان « من حديث بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال : يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم » قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة . إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس .
وذكر ابن هشام عن طريق عبدالله بن جعفر قال : كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها ، فصاحت . فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهودياً ، وشدت يهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع .
وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال :« فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه ، فقام عبدالله بن أبيَّ بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في مواليّ وكانوا حلفاء الخزرج قال : فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد أحسن في مواليّ . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني . وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللاً . ثم قال : » ويحك! أرسلني . « قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في(1/262)
مواليّ . أربع مائة حاسر . وثلاث مائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود . تحصدهم في غداة واحدة . إني والله امرؤ أخشى الدوائر . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم لك» .
وكان عبدالله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه . فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة ، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح .
وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة .وأما بنو النضير ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم . فلما أتاهم قالوا : نعم يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه . ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟
ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة ، فألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة . وأمر بالتهيؤ لحربهم . فتحصنوا منه في الحصون . وأرسل إليهم عبدالله ابن أبي ابن سلول ( رأس النفاق ) أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم . إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم . ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم . وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال . وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح . ففعل . فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام . ومن أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب . . هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب .
والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة . وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلباً على المسلمين مع المشركين ، بتحريض من زعماء بني النضير ، وحيي بن أخطب على رأسهم . وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة .
ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين ، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من « أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انتهى إليه الخبر ، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومعهما عبدالله بن رواحة ، وخوات بن جبير رضي الله عنهم فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس . وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس » . ( مما يصور ما كان يتوقعه صلى الله عيله وسلم من وقع الخبر في النفوس ) .« فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم . نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا(1/263)
عقد! . . ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتلميح لا بالتصريح . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر . أبشروا يا معشر المسلمين
. ( تثبيتاً للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف ) .
ويقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء؛ واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم . حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين . . الخ .
فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب .فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره . ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيراً؛ وكفى الله المؤمنين القتال . . رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة منصوراً ، ووضع الناس السلاح ، « فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وعثاء المرابطة ، في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال : » أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : « نعم » . قال : « ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم » . ثم قال : « إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة » وكانت على أميال من المدينة . وذلك بعد صلاة الظهر . وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة « فسار الناس في الطريق ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل المسير . وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يعنف واحداً من الفريقين .
وتبعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم ( صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى . . ) رضي الله عنه وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نازلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة . فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية . واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبدالله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك . ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله ( وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع ) أيام الخندق؛ فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكحله ، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب؛ وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقنا لها؛ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها؛ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .
فاستجاب الله تعالى دعاءه . وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم ، طلباً من تلقاء أنفسهم
فعند ذلك استدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ليحكم فيهم . فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ، يقولون : يا سعد إنهم مواليك ، فأحسن عليهم . ويرققونه عليهم ويعطفونه . وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم . فعرفوا أنه غير مستبقيهم!(1/264)
فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « قال رسول الله : » قوموا إلى سيدكم « فقام إليه المسلمون فأنزلوه؛ إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ، ليكون أنفذ لحكمه فيهم .
فلما جلس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك . فاحكم فيهم بما شئت « فقال رضي الله عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال : - صلى الله عليه وسلم - : » نعم « . قال : وعلى من في هذه الخيمة؟ قال : » نعم « . قال : وعلى من ها هنا ( وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معرض بوجهه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالاً وإكراماً وإعظاماً ) . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » نعم « . فقال رضي الله عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذريتهم وأموالهم . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة » ( أي سماوات ) .ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأخاديد فخدت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم . وكانوا ما بين السبع مائة ، والثماني مائة . وسبي من لم ينبت ( كناية عن البلوغ ) مع النساء والأموال . وفيهم حيي بن أخطب . وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم .
ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود ، وضعفت حركة النفاق في المدينة؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم ، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون . وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين ، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم .
----------------
وقال تعالى : { وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) }[غافر/53-55]
وَلَقَدْ أَعْطَينَا مُوسَى الشَّرَائِعَ والمُعْجِزَاتِ التِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ ، وَأَنْزَلْنَا عَلَيهِ التَّوْرَاةَ ، وَفِيهَا مَا يَهْدِي بِهِ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَتَوَارَثُوهُ خَلَفاً مِنْ سَلَفٍ .
وَجَعَلْنَا التَّوْرَاةَ هُدًى يَهْتَدِي بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَحْكَامِهَا ، وَتَذْكِرَةً لأَوْلِي العُقُولِ السَّلِيمَةِ والأَفْهَامِ المُسْتَقِيمَةِ ( لأُوُلي الأَلْبَابِ ) .
فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ لأَمْرِ رَبِّكَ ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَأَيْقِنْ بِأَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَكَ ، وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ عَلَى مِنْ عَادَاكَ وَعَانَدَكَ ، وَكَفَرَ بِرِسَالَتِكَ ، وَسَلْ رَبَّكَ المَغْفِرَةِ لِذَنْبِكَ ، والصَّفْحَ عَنْكَ ، وَصَلِّ فِي طَرَفِيْ النِّهَارِ ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فِي الصِّبَاحِ والمَسَاءِ .
وكان هذا نموذجاً من من نماذج نصر الله . إيتاء الكتاب والهدى . ووراثة الكتاب والهدى . وهذا النموذج الذي ضربه الله مثلاً في قصة موسى , يكشف لنا رقعة فسيحة , نرى فيها صورة خاصة من صور النصر تشير إلى الإتجاه .(1/265)
وهنا يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع , توجيهاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كانوا معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة . ولكل من يأتي بعدهم من أمته , ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه:
(فاصبر . إن وعد الله حق . واستغفر لذنبك , وسبح بحمد ربك , بالعشي والإبكار) . .
الإيقاع الأخير . . الدعوة إلى الصبر . . الصبر على التكذيب . والصبر على الأذى . والصبر على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان . والصبر على طباع الناس وأخلاقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك . والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال . والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد تجيء من جانب الأصدقاء قبل أن تجيء من جانب الأعداء !
(فاصبر . إن وعد الله حق) . . مهما يطل الأمد , ومهما تتعقد الأمور , ومهما تتقلب الأسباب . إنه وعد من يملك التحقيق , ومن وعد لأنه أراد .
وفي الطريق , خذ زاد الطريق: (واستغفر لذنبك , وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) . .
هذا هو الزاد , في طريق الصبر الطويل الشاق . استغفار للذنب , وتسبيح بحمد الرب . والاستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب , وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد . وتطهير للقلب وزكاة . وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب , فتعقبها الصورة الأخرى في واقع الحياة .
واختيار العشي والإبكار . إما كناية عن الوقت كله - فهذان طرفاه - وإما لأنهما آنان يصفو فيهما القلب , ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر الله .
هذا هو المنهج الذي اختاره الله لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد . ولا بد لكل معركة من عدة ومن زاد . .
-------------------
وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) }[غافر/77]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّبْرِ عَلَى تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَ مِنْ قَوْمِهِ ، فَإِنَّ اللهَ سَيُنْجِزُ وَعْدَهُ ، وَسَيُظْهِرُهُ بِأَعْدَائِهِ ، وَسَيُنْزِلُ العِقَابَ بِالمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ . ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : إِمَّ أَنْ يُرِيَهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْضَ الذِي يَعِدُهُمْ مِنَ العَذَاب والنَّقْمَةِ ، كَالقَتْلِ والأَسْرِ فِي بَدْرٍ ، فَذَلِكَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَفَّاهُ اللهُ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِم عُقُوبَتَهُ وَعَذَابَهُ فَإِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ فِي الآخِرَةِ عِقَاباً شَدِيداً حِينَمَا يُرْجَعُونَ إِلَيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق . إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود ، يقال له ما مفهومه : أد واجبك وقف عنده . فأما النتائج فليست من(1/266)
أمرك . حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى . يؤدي واجبه ويمضي . فالأمر ليس أمره . والقضية ليست قضيته . إن الأمر كله لله . والله يفعل به ما يريد .يا لله! يا للمرتقى العالي .
ويا للأدب الكامل . الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة . في شخص رسوله الكريم .
وإنه لأمر شاق على النفس البشرية . أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة . ألعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة . فلم يكن هذا تكراراً للأمر الذي سبق فيها . إنما كان توجيهاً إلى صبر من لون جديد . ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب ?!
إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته , بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء , أمر شديد على النفس صعيب . ولكنه الأدب الإلهي العالي , والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين , وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب , حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين !
ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين . فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب , التي تبدو بريئة في أول الأمر , ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم !
ــــــــــــــــــــ
35- وجوبُ الإعداد والاستعداد للمعركة :
قال تعالى في سورة الأنفال : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {60} }
يَأْمُرُ اللهُ المُسْلِمِينَ باِلاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ ، وَبِإِعْدَادِ آلاتِهَا لِمُقَاتَلَةِ الكُفَّارِ ، وَدَفْعِ العُدْوَانِ ، وَحِفْظِ الأَنْفُسِ ، وَالحَقِّ وَالفَضِيلَةِ ، حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالاسْتِطَاعَةِ : مِنْ خَيْلٍ وَسِلاَحٍ وَعُدَدٍ وَمُؤَنٍ وَتَدْرِيبٍ وَعِلْمٍ وَكُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ القُوَّةِ التِي تُمَكِّنُ الأُمَّةَ مِنْ مُقَاوَمَةِ خُصُومِهَا ، بِحَسَبِ مَفْهُومِ العَصْرِ ، وَذَلِكَ لإِرْهَابِ الكُفَّارِ - مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ غَيْرِهِمْ - أَعَدَاءِ اللهِ ، وَأَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ ، وَلإِرْهَابِ الأَعْدَاءِ الآخَرِينَ مِنْ مُنَافِقِينَ وَيَهُودٍ يُجَاوِرُونَ المُسْلِمِينَ فِي المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَغَيْرِهِمْ ، مِمَّنْ لاَ يَعْلَمُهُمْ رَسُولُ اللهِ وَالمُسْلِمُونَ ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُهُمْ . وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّ كُلَّ نَفَقَةٍ يُنْفِقُونَهَا فِي الجِهَادِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ ، سَتُوَفَّى إِلَيْهِمْ بِالتَّمَامِ وَالكَمَالِ ، وَلاَ يَبْخَسُ اللهُ أَحَداً مِنْهُمْ شَيْئاً ..(1/267)
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد؛ والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها؛ ويخص { رباط الخيل } لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - والمهم هو عموم التوجيه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في « الأرض » لتحرير « الإنسان » . .
وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة : أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها؛ فلا يصدوا عنها ، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . .
والأمر الثاني : إن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على « دار الإسلام » التي تحميها تلك القوة . .
والأمر الثالث : أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي ، وهو ينطلق لتحرير « الإنسان » كله في « الأرض » : كلها . . والأمر الرابع : أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية ، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيماً للشعائر ، ثم تنتهي مهمته! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير « الإنسان » في « الأرض » من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي .(1/268)
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص القرآني يقول : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } . فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها .كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة .{ ترهبون به عدو الله وعدوكم ، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } . .فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم .وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالاً ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله : { وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } . .وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصاً لله { في سبيل الله } لتحقيق كلمة الله ، ابتغاء رضوان الله .ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الأولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب الموجودة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.
وعلينا أن نعلم حقيقة مهمة وهي: أنه لم يلتق ولم يحصل يوم من الأيام أن كانت قوة المسلمين أقوى من قوة الكافرين، فالكافرون دائماً هم الأكثر، والكافرون دائماً هم الأقوى من ناحية العدة والعتاد، ولكن جانب الإيمان يرجح المسلمين على عدوهم ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا استبطأ النصر من قادته كتب لهم:'إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين فلعلكم أحدثتم أمراً'. يذكرهم لعلكم أحدثتم شيئاً فراجعوا أنفسكم، هل أخللتم بشيء من أسباب النصر.(1/269)
وفعل الأسباب وإعداد العدة ينقسم لأمور كثيرة جداً لعل أهمها:
أ إعداد الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة: هذه هو أهمها وأولها، فتعد هذه القوة التي هي الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة بالإيمان والعمل الصالح أولاً، وينقى الصف المؤمن من غير هؤلاء، ولذلك بمجرد أن تطالع كتب 'الفقه الإسلامي' تجدهم يقولون: وعلى القائد أن يمنع المخذل والمرجف من أن يسير مع الجيش؛ لأن هذا منافق لا يستطيع أن يواجه الكفار إذا حمي الوطيس.
فإذن: لابد من إعداد الجندي المؤمن الذي يذكر الله كثيراً، والذي يحافظ على طاعة ربه، ويجتنب ما نهاه الله عنه، والذي نصب عينيه أن يموت شهيداً ليدخل الجنة بفضل الله. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِى سُفْيَانَ فَجَاءَ وَمَا فِى الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِى وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لاَ أَدْرِى مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَكَلَّمَ فَقَالَ « إِنَّ لَنَا طَلِبَةً فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا ». فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِى ظُهْرَانِهِمْ فِى عُلْوِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ « لاَ إِلاَّ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا ». فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ ». فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِىُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ». قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا ». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِى هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ - قَالَ - فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.. رواه مسلم(1).
إذن إذا وجد مثل هذا النموذج الذي يقدم على الموت، فإنه سيوهب لنا النصر، وستوهب لنا الحياة، وسنحصل على الحسنيين .
ب الأمر الآخر في إعداد العدة إعداد العدة العسكرية: بالعتاد.. بالأجهزة.. بما نستطيع من قوة فنعد ذلك ونجهزه، حتى لا يبقى سبب من أسباب النصر في استطاعتنا إلا وفعلناه، فإذا أعددنا تلك العدة، فإن القلوب تنام وهي مطمئنة مرتاحة .
أما اليوم فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف ، فأهملوا فرضاً من فروض الكفاية ، فأصحبت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ، ولذا تعانى اليوم من غصته ما تعانى .
__________
(1) - صحيح مسلم ( 5024 )- العين : الجاسوس(1/270)
وكيف لا يطمع العدو فى بلاد الإِسلام ، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها مما يشترى من بلاط العدو؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها ، فتعد العدة التى أمر الله بها لأعدائه ، وتتلافى ما فرطت قبل أن يداهم العدو ما بقى منها بخيله ورجله . . ؟
إن القوة التى طلب الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء ، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين أقوياء . كإعداد الجيوش المدربة ، والأسلحة المتنوعة التى تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة .
وما روى من تفسيره القوة - التى وردت فى الآية - بالرمى ، فإنما هو على سبيل المثال ، ولأن الرمى كان فى ذلك الوت أقوى ما يتقوى به .
قال الفخر الرازى عند تفسيره للآية ، والمراد بالقوة هنا ما يكون سبباً لحصول القوة ، وذكروا فيه وجوها :
الأول : المراد من القوة أنواح الأسلحة .
الثانى : روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على المنبر وقال : " ألا إن القوة الرمى " قالها ثلاثاً .
الثالث : قال بعضهم : القوة هى الحصون .
الرابع : قال أصحاب المعانى : الأولى أن يقال : هذا عام فى كل ما يتقوى به على حرب العدو ، ولك ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " القوة هى الرمى " لا ينفى كون غير الرمى معتبراً . كما أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " الحج عرفه " " والندم توبة " لا ينفى اعتبار غيره . بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا هنا .
وهذه الآية تدر على أن الاستعداد للجهاد بالنبل ، والسلاح ، وتعليم الفروسية ، والرمى فريضة إلا أنه من فرض الكفايات .
إن رباط الخيل للجهاد فى سبيل الله فضله عظيم ، وثوابه كبير فقد كانت الخيل هى خير ما عرف العرب من وسائل الانتقال فى الحرب وأسرعها ، وما زالت الخيل لها قيمتها فى بعض أنواع الحروب .
قال القرطبى ، فإن قيل : إن قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } كان يكفى ، فلماذا خص الخيل بالذكر؟
قيل له : إن الخيل لما كانت أصل الحرب وأوزارها الى عقد الخير فى نواصيها ، وهى أقوى القوة ، وأشد العدة ، وحصون الفرسان ، وبها يجال فى الميدان ، لما كانت كذلك خصها بالذكر تشريفاً ، وأقسم بغبارها تكريماً ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } وقال الإِمام ابن العربى : وأما رباط الخيل هو فضل عظيم ومنزلة شريفة .(1/271)
روى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الخيل ثلاثة ، لرجل ستر ، ولرجل أجر ، وعلى رجل وزر . فأما الذى هى عليه وزر رجل ربطها رياء وفخراً ونواء لأهل الإِسلام - أى : مناوأة ومعاداة - فهى عليه وزر " .
وأما الذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله ، فأطال لها فى مرج أو روضة ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شئ إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات . .
وروى البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوى ناصية فرس بأصبعيه وهو يقول : " الخير معقود فى نواصى الخيل إلى يوم القيامة " " .
ت ومن العدة أيضاً: إعداد الأموال اللازمة: فإن الأموال الآن أصبحت عماد الجهاد، بل هي عماد الجهاد منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أشرف وجوه الإِنفاق فى سبيل الله أن يبذل المسلم ما يستطيع بذله فى الجهاد الذى هو ذروة سنام الإِسلام ، والذى ما تركه قوم إلا ذلوا . . وألقوا بأنفسهم فى التهلكة . .
ولقد بشرت الآية الكريمة المنفقين فى سبيل الله ، بأنه - سبحانه - سيجازيهم على إنفاقهم جزاء وافيا لا نقص معه ولا ظلم .
قال - تعالى - { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } وفى الحديث الشريف الذى رواه الترمذى عن أبى يحيى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أنفق نفقة فى سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف " .
ولعل الجميع يتذكر أن عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- بِأَلْفِ دِينَارٍ - قَالَ الْحَسَنُ بْنُ وَاقِعٍ وَكَانَ فِى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِى فِى كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِى حِجْرِهِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا فِى حِجْرِهِ وَيَقُولُ « مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ». مَرَّتَيْنِ. رواه الترمذي(1)
هذه جائزته لماذا؟ لأن المال هو عصب الجهاد، فلا بد أيضاً أن تعد الأمة الأموال اللازمة للجهاد في سبيل الله .
ث ومن إعداد العدة: ألا يغفل المسلمون عن معرفة عدوهم وعن قدراته:
فعَنْ عَلِىٍّ، رَضِى اللَّه عَنْه، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا، وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا، سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بِئْرٌ، فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ
__________
(1) - سنن الترمذى( 4066) حسن(1/272)
أَبِى مُعَيْطٍ، فَأَمَّا الْقُرَشِىُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَهَدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى، ثُمَّ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ؟ فَقَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبِعَهَا ..." رواه أحمد(1).
فَأَعَدَّ لذلك عدته، فهذا واجب من واجبات المسلمين، فلا يستهينوا بعدوهم، واحتقار العدو ليس من شأن المسلمين بل إننا نبحث عن مكامن القوة ومواطن الضعف فيه، ثم نستنصر بالله جل وعلا عليه، ومع ذلك علينا أن نتأمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ] رواه البخاري ومسلم.أي أننا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا عليهم وأن يخذلهم، حتى ولو لم نلتق بهم ولم نقاتلهم .
ج- أن المقصود من إعداد العدة فى الإِسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا فى الاعتداء على المسلمين ، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين فى ديارهم ، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحداً سواه - عز وجل . .
وليس المقصود بأعداد العدة إرهاب المسالمين ، أو العدوان على الآمنين ، أو القهر والإِذلال للناس واستغلالهم فيما يغضب الله - تعالى - .
ولذلك وجدنا الآية صريحة فى بيان المقصود من هذا الإِعداد ، وهو - كما عبرت عنه { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } .
وهناك آيات أخرى صريحة فى بيان سبب مشروعيته القتال فى الإِسلام ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } وقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } والخلاصة : أن من تتبع آيات القرآن الواردة فى القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال فى الإِسم ينحصر فى رد العدوان ، وحماية الدعوة الإِسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية العقدية ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان .
ما المقصود بالإعداد للجهاد؟
المقصود إعدادان: إعداد مادي وإعداد إيماني، ولا يجوز قصر الإعداد على أحدهما. أما الإعداد المادي: فهو المشار إليه في آية الأنفال، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي
__________
(1) - غاية المقصد فى زوائد المسند ( 2686 ) صحيح(1/273)
سَبِيلِ اللَّهِ}(1)، وقد ورد تفسير هذه الآية مرفوعا بما لا يدع مجالا لتأويلها أو حملها على غير المراد، فقد روى مسلم أن عقبة بن عامر قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية ثم قال: «ألا إن القوة الرمي» ثلاثا.
فلا يجوز حمل هذه الآية على الإعداد الإيماني والتربية، والإعداد المادي يشمل إعداد الرجال والسلاح والمال. والآية السابقة ذكرت السلاح والمال صراحة والرجال إشارة، وقد ورد الأمر بإعداد الرجال في آيات أخر، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}(2)، وكقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}(3)، وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ...}(4).
وقد سبق تفصيل هذا في الباب الثاني من هذه الرسالة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية إنه إذا سقط الجهاد للعجز وجب الإستعداد بإعداد القوة ورباط الخيل(5). وقد جعل الله سبحانه هذا الإعداد من علامات صدق الإيمان وفيصلا بين المؤمن والمنافق في قوله تعالى {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}(6). فبين الله سبحانه أن ترك المنافقين إعداد العدة كان بسابق الخذلان القدري لهم منه سبحانه، وأن هذا كان رحمة منه سبحانه للمؤمنين الصادقين فلو خرج معهم هؤلاء المنافقون لما كان منهم إلا الإفساد والفتن، خاصة وأن بعض المؤمنين يُحسنون الظن بهؤلاء المنافقين {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فينشأ من هذا فساد كبير. هذا فيما يتعلق بالإعداد المادي.
أما الإعداد الإيماني (التربية) فلا منه أيضا، وقد سبق ذكر أدلته في هذا الفصل بما يغني عن الإعادة، وهذا الإعداد في غاية التشعب بعدد شعب الإيمان الظاهر منها والباطن، العلمي منها والعملي، وله أثر مباشر في النصر أو الخذلان القدري كما سبق في الأصول الخمسة ولكن هناك بعض التحفظات فيما يتعلق بالإعداد وهي:
?
__________
(1) - سورة الأنفال، الآية: 60
(2) - الأنفال، الآية: 65
(3) - سورة النساء، الآية: 84
(4) - سورة الصف، الآية: 14
(5) - مجموع الفتاوى ج 28 ص 259
(6) - سورة التوبة، الآيتان: 46 ـ 47.(1/274)
ألا تُحْمَل آية الإعداد بالأنفال على التربية، فقد ورد تفسيرها مرفوعا بما يُبْطِل تأويلها، أما التربية فلها أدلة أخر سبق بيانها. وأقبح من هذا من يُقْصِر الإعداد على الإيماني دون المادي، فهذا مكذب بآيات الله.
? ألا تتخذ التربية ذريعة للقعود عن الجهاد، خاصة الجهاد العيني (فرض عين)، وهذا هو أهم التحفظات فيما يتعلق بالتربية. وهذا يحملنا إلى الشق الثاني من هذا التنبيه.ثانيا: هل العدالة من شروط وجوب الجهاد؟
فالذين يقولون لا نجاهد حتى نستوفي التربية الإيمانية، نسألهم سؤالين:
السؤال الأول: هل الغرض من هذه التربية الوصول بالفرد المسلم إلى مرتبة العدالة الشرعية أم إلى مرتبة أعلى؟.
السؤال الثاني: هل العدالة من شروط وجوب الجهاد؟ بمعنى أنه هل لا يجوز للمسلم أن يجاهد حتى يكون عدلا؟ وهل يسقط وجوب الجهاد عن الفاسق؟.
ونذكر أولا تعريف العدالة فنقول: [هي استواء أحوالِه في دينه، وقيل من لم تظهر منه رِيبة... ويعتبر لها شيئان: 1 = الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحرم بأن لا يأتي كبيرة ولا يُدمن على صغيرة. 2 = استعمال المروءة بفعل ما يُجَمِّله ويُزَيِّنه وترك ما يدنسه ويشينه](1).
ثم نذكر شروط وجوب الجهاد ـ وقد سبقت في الملحق السابق ـ وهي (الإسلام والبلوغ والعقل والذكورية والسلامة من الضرر والحرية ووجود النفقة وإذن الوالدين وإذن الدائن)(2)، وهذا في الجهاد الكفائي أما العيني فالشروط هي الخمسة الأُوَل فقط. وكما ترى فإن العدالة ليست من هذه الشروط.
فإذا ثبت أن العدالة ليست شرطا لوجوب الجهاد، سقط قول من يقول لابد من التربية للوصول بالمسلم إلى رتبة العدالة قبل أن يجاهد، وبالتالي يسقط قول من يشترط رتبة أعلى من العدالة.
بل قد صرح الفقهاء بعكس ذلك، أي أنه يجوز الاستعانة بالفاسق والمنافق في الغزو، فقد قال الشوكاني: [قال في البحر: وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بابن أُبَيّ وأصحابه، وتجوز الاستعانة بالفُساق على الكفار إجماعا، وعلى البغاة عندنا لاستعانة عَلِيّ - عليه السلام - بالأشعث. أ هـ](3).
__________
(1) - منار السبيل شرح الدليل ط المكتب الإسلامي 1404هـ ج 2 ص 487، 488
(2) - المغني والشرح الكبير ج 10 ص 366، 381، 384
(3) - نيل الأوطار ج 8 ص 44(1/275)
وقال في المجموع: [قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن: الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول، وسائر الآية الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين، وأيضا فإن الفساق إذا جاهدوا فَهُم مطيعون في ذلك)(1).
وقال ابن حزم ـ بعدما ذكر حديث «إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم» وحديث «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ـ قال: [فهذا يبيح الاستعانة على أهل الحرب بأمثالهم وعلى أهل البغي بأمثالهم من المسلمين الفجار الذين لا خلاق لهم، وأيضا فإن الفاسق مفترض عليه من الجهاد ومن دفع أهل البغي كالذي افترض على المؤمن الفاضل فلا يحل منعهم من ذلك، بل الغرض أن يُدْعَوا إلى ذلك](2).
وقد سبق في الباب الثالث من هذه الرسالة بحث مسألة الغزو مع الأمير الفاجر على التفصيل، فإن جاز الخروج مع الفاجر متبوعا، فخروجه تابعا أولى.
وقد أسهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا، ومما نقلته عنه في الباب الثالث قوله: [فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية في رضوان الله وإعزاز كلمته وإقامة دينه، وطاعة رسوله، وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم في بعض الأمور، وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه: كان الواجب أيضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما، فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعتها.
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لاخلاق لهم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكر كثير الفجور، فأنه لابد من أحد أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الإسلام، وإن لم يمكن إقامة جميعها، فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه ـ إلى أن قال رحمه الله ـ فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة، وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم: عَلِمَ أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد، كهؤلاء القوم المسئول عنهم، مع كل أمير وطائفة وهي أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة
__________
(1) - المجموع شرح المهذب ج 19 ص 279
(2) - المحلى ج 11 ص 113، 114(1/276)
التي يغزو معها على شيء من معاصي ا لله، بل يطيعهم في طاعة الله، ولا يطيعهم في معصية الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا. وهي واجبة على كل مكلف. وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريق المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا](1).
قلت: وقد أَخَذَتْ هذه المسألة من الاستقرار ما جعلها تُدَوَّن ضمن مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما نقلته عن شرح العقيدة الطحاوية في الباب الثالث، ومما ورد فيه (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يُبطلهما شيء ولا ينقضهما)(2).
مما سبق ترى أن الجهاد مع الفاسق متبوعا كان أم تابعا جائز إجماعا، وقد يجب إذا لم يمكن دفع الكفار إلا بالجهاد مع الفساق كما قال ابن تيمية رحمه الله في كلامه السابق.
والأصل في هذه المسألة هو أن الجهاد مخاطب به الذين آمنوا كما قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ}(3)، وغيرها من الآيات، فهذه الآية خطاب للمؤمنين بالجهاد، ومن هؤلاء من له ذنوب {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فدلت الآية على أن إلمام المؤمن بالذنوب لا يُسقْط مخاطبته بالجهاد. والفاسق وإن عظمت ذنوبه فإنه لا يسلب الإيمان بالكلية، فإن معه مطلق الإيمان (أي الحد الأدنى منه) الموجب لتكليفه بالشرائع، وإن لم يكن معه الإيمان المطلق (أي الكامل) واجتماع الطاعة والمعصية في العبد من عقيدة أهل السنة، وهذا مستفاد من القاعدة العمة وهي أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ـ وقد سبق بيان هذا ـ ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري عن عمر - رضي الله عنه - (أن رجلا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب حِمَارا، وكان يُضْحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جَلَدَه في الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجُلِد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تلعنه، فوالله ما علمت، إنه يحب الله ورسوله»)، فهذا الصحابي رغم معصيته بشرب الخمر إلا أن معه من الطاعة كمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) - مجموع الفتاوى ج 28 ص 506 ـ 508
(2) - شرح العقيدة الطحاوية ط المكتب الإسلامي 1403هـ ص 437
(3) - سورة الصف، الآيات: 10 ـ 11 ـ 12(1/277)
وهذه المحبة من أعظم شعب الإيمان، وتأمل منزلتها في آية إبطال الأعذار الثمانية بسورة التوبة {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...} الآية.
ثم إن صاحب المعصية له نفع خاص من الجهاد وذلك لتكفير ذنوبه. كما قال ابن تيمية رحمه الله معقبا على آية الصف السابقة [ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد، فإن الله - عز وجل - يغفر ذنوبه، كما أخبر الله في كتابه بقوله سبحانه وتعالى {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه في سبيل الله عن أصحابه، فإن ذلك طريق حسنة إلى خلاصه مع ما يحصل له من أجر الجهاد](1).
مما سبق تعلم أن الفسق لا يُسقط التكليف بالجهاد، فالفاسق خاطب شرعا بالجهاد كالصالح العادل، وسبق ما نقله الشوكاني من جواز ـ وليس وجوب ـ الاستعانة بالفاسق والمنافق إجماعا. فإذا ثبت الجواز آل الأمر إلى اعتبار المنافع والمفاسد المترتبة على خروجه في الجهاد فأيتهما غلبت فالحكم لها. أي إذا كانت منفعة خروجه أعظم من مفسدته، سُمِحَ له بالخروج وعكسه بعكسه.
ومن هذا ما قاله ابن قدامة [ولا يستصحب الأمير معه مُخَذِّلا وهو الذي يثبط الناس عن الغزو... ولا مُرْجِفا وهو الذي يقول قد هلكت سرية المسلمين وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار... ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار... ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد](2)، وهذا كله يرجع إلى قوله تعالى {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}(3)، وقوله تعالى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}(4)، ومحصل ذلك أنه يُمنع من الجهاد من فيه تخذيل أو إفساد للصف أو خيانة، فهذا عظيم المفسدة وإن كان فيه بعض النفع.
فإذا سمح الأمير للفاسق العاصي ـ الذي منفعته أعظم من فسقه ـ بالخروج للجهاد، فهذا لا يعني إقراره على فسقه ومعصيته، بل يأمره بالمعروف تعليما ونصحا، وينهاه عن المنكر زجرا وعقوبة، وهذا معناه ممارسة التربية الإيمانية أثناء الجهاد، ولا نقول يؤجل الجهاد حتى ننتهي من التربية الإيمانية فهذه لانهاية لها إلا بالموت لقوله تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(5)، واليقين هو الموت كما
__________
(1) - مجموع الفتاوى ج 28 ص 421، 422
(2) - المغني والشرح الكبير ج 10 ص 372، وقد سبق في مسألة (المحافظة على وحدة الجماعة) وتجد مثل هذا في المجموع شرح المهذب ج 19 ص 278 ـ 280
(3) - سورة التوبة، الآيتان: 46 ـ 47.
(4) - سورة التوبة، الآية: 83
(5) - سورة الحجر، الآية: 99(1/278)
في التفسير، وقد يحين الأجل ولم يُحَصِّل العبد إلا قدرا يسيرا من هذه التربية، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(1)، فهذه هي المنازل الإيمانية لأتباع الرسل وورثة الكتاب.
ويمكنني أن ألخص ما سبق فيما يلي:
1 = الإعداد الإيماني (التربية) واجب ومقوم أساسي من مقومات النصر، وقد سبق تفصيل هذا، خاصة ما يتعلق بأثر المعاصي في الخذلان، وأن معصية البعض تضر الكل إذا تركوا الإنكار، وهذا هو الحال الأمثل الذي إن وُجِدَ فيها ونعمت.
2 = ومع ذلك نقول إن الجهاد لا يؤجل من أجل الإعداد الإيماني ـ وإن كان يؤجل من أجل الإستعداد المادي عند العجز ـ خاصة إذا كان الجهاد فرض عين وأخص من الجهاد العيني ما إذا نزل العدو ببلد المسلمين، وهو حال كثير من البلدان الآن، فمثل هذا الجهاد واجب عيني مُضَيَّق الوقت، وتأجيل مثل هذا الجهاد العيني يؤدي إلى ضرر وفساد، فأي فتنة أعظم من حلول الكافرين بعقر بلاد المسلمين يفرضون عليهم أحكام الكفر ويسعون في إفساد المسلمين وفتنتهم عن دينهم بشتى وسائل المكر، فمن قال بتأجيل جهاد هؤلاء حتى يتسنى تربية من يرغب في الجهاد، فصاحب هذه المقولة لا يدرك أن عوامل الهدم أضعاف عوامل البناء، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}(2)، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}(3)، كذلك فإنه لا يدرك أن الكافرين لن يُبقوا على أي وسيلة من وسائل التربية الصالحة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(4)، فلولا دفع الله تعالى للكافرين بالمجاهدين في سبيله لما بقي مكان صالح لعبادة الله سبحانه، ولذلك وصف ابن القيم رحمه الله المجاهدين بقوله: [قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه وإعلاء كلمته ودفع أعداءه، وهم شركاء لكل من يحمونه بسيوفهم في أعمالهم التي يعملونها وإن باتوا في ديارهم، ولهم مثل أجور من عَبَدَ الله بسبب جهادهم وفتوحهم فإنهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نَزَّل التسبب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تَبِعَه](5).
__________
(1) - سورة فاطر، الآية: 32
(2) - سورة البقرة، الآية: 217
(3) - سورة البقرة، الآية: 120
(4) - سورة الحج، الآية: 40
(5) - طريق الهجرتين ط دار الكتب العلمية 1403 هـ ص 355(1/279)
3 = إذا اكتمل للمسلمين الإعداد المادي قدر الاستطاعة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مع مظنة الظفر فيجب الشروع في الجهاد ولا يؤجل من أجل إكمال الإعداد الإيماني، وهذا معناه أنه عند العجز عن الجهاد يجب السعي في الإعدادين المادي والإيماني معا، فمن سعى في الإعداد الإيماني وترك المادي أو أَجَّله، فقد أثم لترك المأمور به {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
4 = الإعداد الإيماني تجب ممارسه في كل المراحل قبل الشروع في الجهاد وخلاله، وكما قلت من قبل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صفة لازمة للمسلمين قبل التمكين وبعده، وخير أنواع التربية تلك التي تمارس أثناء الجهاد حيث يَغْلُب على الناس القرب من الله تعالى في هذه الحالة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان دائم التوجيه لأصحابه مع قيامهم بالجهاد، وما قال أحد نؤجل الجهاد حتى تكتمل التربية، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد»(1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لسرية عبد الله بن حذافة: «لو دخلوها ماخرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف»(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد: «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله»(3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية»(4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الغزوات: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»(5)، كذلك فقد وقعت قصة الإفك بعد إحدى الغزوات وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حد القذف على من خاضوا فيها ومنهم من شهد بدرا وهو مِسْطَح بن أُثاثة ومنهم شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت(6). ولهذا فقد يكون الرجل كاملا فاضلا مشهودا له بالجنة يعنا ويقع في الكبائر كمسطح بن أُثاثة وحاطب بن أبي بلثعة رضي الله عنهما، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن حاطب: «أو ليس من أهل بدر؟ وما يدريك لعل الله اطلع على عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة»(7)، وقال ابن حجر: [إن المؤمن ولو بلغ بالصلاح أن يُقطع له بالجنة لا يُعصم من الوقوع في الذنب لأن حاطبا دخل فيمن أوجب الله لهم الجنة ووقع منه ما وقع](8). وأمثلة هذا كثيرة. فالتربية الإيمانية تمارس أثناء الجهاد ولا يؤجل الجهاد من أجلها. فهي ـ كما سبق ـ لا تنتهي إلا بموت العبد، والله سبحانه يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء.
__________
(1) - رواه البخاري.
(2) - رواه البخاري.
(3) - متفق عليه.
(4) - رواه البخاري.
(5) - رواه البخاري.
(6) - انظر فتح الباري ج 8 ص 478 ـ 479
(7) - رواه البخاري حديث 6936
(8) - فتح الباري ج 12 ص 310(1/280)
5 = العدالة ليست من شروط وجوب الجهاد، ويجوز للفاسق أن يخرج للجهاد تابعا (جنديا) إذا كانت منفعته للجهاد أعظم من مفسدته، كما سبق تفصيله، ويُمنع من فيه إفساد أو خيانة.
6 = إنه لا يعيب طائفة من المسلمين أن يكون بين صفوفها بعض العصاة، إنما يعيبها أن تقرهم على المعاصي ولا تأخذهم بطاعة الله تعالى أمرا ونهيا، إذ إن الخطأ والمعصية لا تنفك عن الإنسان، وقد أقام - صلى الله عليه وسلم - حدود الزنا والقذف والخمر والسرقة والحرابة في حياته صلى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون معه في الغزو كما سبق في أوائل هذه الرسالة، ولم يقل أحد لا نجاهد طالما في الصفوف عصاة أو منافقون. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يأتي عليكم يوم إلا والذي بعده شر منه»(1). والمقصد من هذا أنه إذا وجد بعض العصاة في طائفة مجاهدة قائمة بأمر الله فإن هذا ليس بمبرر لترك الجهاد معها بحجة أن بها بعض العصاة.
7 = فإن عدمت مثل هذه الطائفة المشار إليها أعلاه (وهي الطائفة الصالحة التي تضم بعض العصاة) ولم يمكن الجهاد إلا مع أمي فاجر أو مع عسكر كثير الفجور، فالجهاد معهم واجب ـ كما قال ابن تيمية ـ لدفع أعظم المفسدتين وهي مفسدة الكافرين ـ وهذه هي تقوى الله المستطاعة للعبد {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(2)، فإنه لا توجد مفسدة أعظم من استيلاء الكفار على بلاد المسلمين وما يترتب على ذلك من الردة الإجبارية لعموم المسلمين إلا من رحم الله إنه هو الغفور الرحيم، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(3). فإن خرج المسلم مع أمير فاجر أو عسكر كثير الفجور، فإنه يعاونهم على البر والتقوى ولا يعاونهم على الإثم والعدوان، يطيعهم في الطاعة ويعصيهم في المعصية، ويبذل النصح لهم عسى الله تعالى أن يُصلح به. وقال ابن تيمية رحمه الله في موضع آخر: [فإن تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل](4).
__________
(1) - رواه البخاري عن أنس.
(2) - سورة التغابن، الآية: 16
(3) - سورة البقرة، الآية: 217
(4) - مجموع الفتاوى 28 / 212(1/281)
وقال الشاطبي: [وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه، قال مالك: "لو تُرِكَ ذلك لكان ضررا على المسلمين؟ فالجهاد ضروري، والوالي فيه ضروري، والعدالة فيه مكملة للضروري، والمُكَمِّل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يُعْتَبر"](1).
ولأبي محمد بن حزم كلام شديد في النكير على من يَنْهَى عن جهاد الكفار مع الأمير الفاجر، قال ابن حزم: [ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم من أجل فسق رجل مسلم لا يُحَاسَب غيره بفسقه](2).
قلت: وقد سبق في الباب الثالث بيان أن الأمير الفاجر الذي يُغْزَى معه ـ إن عُدِمَ غيره ـ هو من كان فجوره في نفسه، ومن كان فجوره دون الكفر.
ومما سبق ترى يا أخي المسلم أن القول بأنه لا نجاهد حتى نطلب العلم الشرعي أو حتى نستكمل التربية الإيمانية، وإلزام كل مسلم بهذا، هو قول يفضي إلى استئصال دين الإسلام.
وكما قلت في الرد على شبهة الشيخ الألباني، فإن العلم والتربية حق ونحن ندعو الناس إليهما، مع مراعاة ما يلي:
أ = أنهما ـ العلم والتربية ليسا من شروط وجوب الجهاد، بمعنى أنه لا يصح أن ننهى أحدا عن الجهاد حتى يتعلم دينه أو يزكي نفسه، اللهم إلا العلم العيني الخاص بالجهاد كعلم مشروعية الجهاد ومعرفة الراية التي يقاتل تحتها.
ب = إن طريق الخلاص من حياة الذل التي يحياها المسلمون هو طريق الجهاد، كما في حديث ثوبان مرفوعا «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ...»، وحديث ابن عمر مرفوعا «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ...»، وقد سبقا، وهذا الجهاد نراه واجبا على معظم المسلمين خاصة جهاد الحكام المرتدين، ومن هنا فإننا نعتبر العلم والتربية جزء من الإعداد للجهاد من أجل تكوين طائفة مجاهدة على علم ودين، ولا نعتبر العلم والتربية بدون الجهاد طريقا للخلاص كما سبق في الرد على شبهة الشيخ الألباني.(العمدة في إعداد العدة )
ــــــــــــــــــــ
36- بذلُ الغالي والنفيس في سبيل الله :
قال تعالى في سورة التوبة : { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
__________
(1) - الموافقات 2 / 15
(2) - المحلى 7 / 300(1/282)
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112} }
يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الجِهَادِ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ ، فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَيُقْتَلُونَ هُمْ ، وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ ، وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ .
ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ ، وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ .
وَهُنَا يُعَدِّدُ اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ ، وَهُمُ : التَّائِبُونَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها ، التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ ، القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، وَالمُحَافِظُونَ عَلَيهَا ، وَالحَامِدُ نَ للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ ، السَّائِحُونَ فِي الأَرْضِ ، لِلاعْتِبَارَِ وَ الاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ العِبَرِ وَ الآيَاتِ ، ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى السَّائِحِينَ هُنَا الصَّائِمُونَ ) وَالمُصَلُّونَ . وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ ، بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ ، وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ ، مَعَ العِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ ، وَيَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ ( أَيْ إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ ) . وَيُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ..
إنها صفقة مشتراة , لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء , وفق ما يفرض ووفق ما يحدد , وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم , لا يتلفت ولا يتخير , ولا يناقش ولا يجادل , ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام . .
والثمن:هو الجنة . .
والطريق:هو الجهاد والقتل والقتال . .
والنهاية:هي النصر أو الاستشهاد: (إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون) . .
من بايع على هذا . من أمضى عقد الصفقة . من ارتضى الثمن ووفى . فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا . . ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً ، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال ، وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنه كرم هذا لإنسان فجعله مريداً؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع الله - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة : . . شر البهيمة . . { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة(1/283)
وهم لا يتقون } كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } . .
عونك اللهم! فإن العقد رهيب . . وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم « مسلمين » في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد .ولا يقتلون . ولا يقتلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال!
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم ، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم . كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها . لتحويلها إلى حركة منظورة ، لا إلى صورة متأملة . . هكذا أدركها عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - في بيعة العقبة الثانية . قال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني ليلة العقبة ) - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم » قال : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال : « الجنة » قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل .هكذا . . « ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل » . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها ، وأمضى عقدها ، ولم يعد إلى مرد من سبيل : « لا نقيل ولا نستقيل » فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة : ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من الله؟ أليس الله هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن وعداً قديماً في كل كتبه :{ وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } . .{ ومن أوفى بعهده من الله؟ } . أجل! ومن أوفى بعهده من الله؟
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه . ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . . إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . . ولا بد لدين الله أن ينطلق في « الأرض » كلها لتحرير « الإنسان » كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل(1/284)
طريقاً! . . وما دام في « الأرض » كفر . وما دام في « الأرض » باطل . وما دامت في « الأرض » عبودية لغير الله تذل كرامة « الإنسان » فالجهاد في سبيل الله ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء .وإلا فليس بالإيمان : و « من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق » ( رواه الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ) .
{ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم } .استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله ، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً ، كما وعد الله . . وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء . فالنفس إلى موت ، والمال إلى فوت . سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب . كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذه الطريق أو ذاك!
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله . ينتصر - إذ انتصر - لإعلاء كلمته ، وتقرير دينه ، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه . ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله ، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة . ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض ، والإيمان ينتصر فيه على الألم ، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة .
إن هذا وحده كسب . كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم ، وانتصار العقيدة فيه على الحياة . . فإذا أضيفت إلى ذلك كله . . الجنة . . فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال : { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم فيه ، وذلك هو الفوز العظيم } .ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية : { وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن} فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . . وهو لا يدع مجالاً للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ، يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد ، وتحرير « الإنسان » في « الأرض » من العبودية للعباد . كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد . . ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في « الأرض » لتحقيق إعلانه العام بتحرير « الإنسان » أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها - في حتمية لافكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري ، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد!
فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل .فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .(1/285)
إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . . وهو قليل . . أضيف إليه الكثير!
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين ، لنصر إلههم وديانته وعبادته! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله .فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد . . ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم! - وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ : إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن . . فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال!
إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . كل مؤمن على الإطلاق . منذ كانت الرسل ، ومنذ كان دين الله . .ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال . والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة ، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة : { التائبون . العابدون . السائحون . الراكعون الساجدون . الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . والحافظون لحدود الله }
{ التائبون } . . مما أسلفوا ، العائدون إلى الله مستغفرين . والتوبة شعور بالندم على ما مضى ، وتوجه إلى الله فيما بقي ، وكف عن الذنب ، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك ، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح .{ العابدون } . . المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية ، إقراراً بالربوبية . . صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع . فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية .
{ الحامدون } . . الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة ، وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء . في السراء للشكر على ظاهر النعمة ، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة .
وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه ، مهما خفي على العباد إدراكه .(1/286)
{ السائحون } . . وتختلف الروايات فيهم . فمنها ما يقول : إنهم المهاجرون . ومنها ما يقول : إنهم المجاهدون . ومنها ما يقول : إنهم المتنقلون في طلب العلم . ومنهم من يقول : إنهم الصائمون . . ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه ، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض : ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك! . . . } فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد . فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله ، وإدراك حكمته في خلقه ، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق . لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار . ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك . .{ الراكعون الساجدون } . . الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
{ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } . . وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله ، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه ، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه . . ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده ، وشريعة الله وحدها هي الحاكمية فيه ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر ، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم . والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر . وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله . . والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله ، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة . فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي . ولم ينفقوا قط جهدهم ، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع . فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر ، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!
{ والحافظون لحدود الله } . . وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس .ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها . . ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم . ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله؛ وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل(1/287)
شرع لم يأذن به الله . . والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع . ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه . . كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته . وهذه هي صفاتها ومميزاتها : توبة ترد العبد إلى الله ، وتكفه عن الذنب ، وتدفعه إلى العمل الصالح . وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته . وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق . وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة . وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين ، ويصونها من التهجم والانتهاك
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة ، واشترى منها الأنفس والأموال ، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسوله ورسالاته . قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله؛ وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل ، وبين الإسلام والجاهلية ، وبين الشريعة والطاغوت ، وبين الهدى والضلال .وليست الحياة لهواً ولعباً . وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً . وليست الحياة سلامة ذليلة ، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . . إنما الحياة هي هذه : كفاح في سبيل الحق ، وجهاد في سبيل الخير ، وانتصار لإعلاء كلمة الله ، أو استشهاد كذلك في سبيل الله . . ثم الجنة والرضوان . .هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } وصدق الله . وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . .
ــــــــــــــــــــ
37- النظرُ في السُّنَن الربانية:
قال تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} آل عمران }
يُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَصَابِهِمْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ فَيَقُولُ لَهُمْ : لَقَدْ جَرَى عَلَى أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ مِنَ الأُمَمِ الغَابِرَةِ نَحُوٌ مِمَّا جَرَى لَكُمْ يَوْمَ أحُدٍ ، فَأُصِيبُوا وَقُتِلُوا وَهُزِمُوا . . وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ كَانَتْ لَهُمْ ، وَالدَّائِرَةَ كَانَتْ عَلَى الكَافِرِينَ . . . وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ مَا التَقَى الإِيمَانُ وَالشِّرْكُ إلاّ نَصَرَ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ ، وَأَعْلَى رَايَةَ الإِيْمَانِ ، وَهَزَمَ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ ، وَنَكَّسَ أَعْلاَمَهُ(1/288)
. وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الحَقِيقَةِ هُمُ المُؤْمِنُونَ فَسِيرُوا يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ فِي الأَرْضِ ، وَتَأَمَّلُوا فِيمَا حَلَّ بِالأُمَمِ السَّابِقَةِ .
وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ بَيَانٌ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً ، فَالإِرْشَادُ عَامٌّ لِلنَّاسِ ، وَحُجَّةٌ عَلَى المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ ، ( وَذَلِكَ يَدْحَضُ مَا قَالَهُ المُشْرِكُونَ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ رَسُولاً حَقّاً لَمَا غُلِبَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ ) . فَهَذا البَيَانُ وَالهُدَى يُرشِدَانِ إلَى أنَّ سُنَنَ اللهِ حَاكِمَةٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ ، كَمَا هِيَ حَاكِمَةٌ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ ، فَمَا مِنْ قَائِدٍ يُخَالِفُهُ جُنْدُهُ ، وَيَتْرُكُونَ حِمَايَةَ الثَّغْرِ الذِي عُهِدَ إلَيهِمْ بِحِمَايَتِهِ ، إلاّ كَانَ جَيْشُهُ عُرْضَةً لِلْهَزِيمَةِ .وَهَذَا البَيَانُ هُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فَيَعْتَبِرُونَ .
وَلاَ تَضْعَفُوا عَنِ الجِهَادِ ، وَمَا يَتَطَلَّبُهُ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ وَالإِعْدَادِ ، بِسَبَبِ مِا أَصَابَكُمْ مِنَ الفَشَلِ وَالجِرَاحِ يَوْمَ أحُدٍ ، وَلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَقَدْتُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، فَإِنَّ العَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ سَيَكُونَانِ لَكُمْ إذَا تَمَسَّكْتُمْ بِحَبْلِ اللهِ ، وَرَاعَيْتُمْ تَعَالِيمَهُ ، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ أنْ يَجْعَلَ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .إنْ كُنْتُمْ قَدْ أَصَابَتْكُمْ جِرَاحٌ ، وَقُتِلَ مِنْكُمْ رِجَالٌ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَدْ أَصَابَ أَعْدَاءَكُمْ قَرِيبٌ مِمَّا أَصَابَكُمْ ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَقْعُدُوا وَتَتَقَاعَسُوا عَنِ الجِهَادِ بِسَبَبِ مَا أَصَابَكُمْ ، فَالمُشْرِكُونَ قَدْ سَبَقَ أنْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ أَنْتُمْ فِي أحُدٍ ، فَلَمْ يَتَقَاعَسُوا ، وَلَمْ يَقْعُدُوا عَنِ الإِعْدَادِ لِلْحَرْبِ وَمُبَاشَرَتِهَا ، وَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ ، فَكَيْفَ تَتَرَدَّدُونَ وَأَنْتُمْ عَلَى حَقٍّ ، وَاللهُ وَعَدَكُمْ نَصْرَهُ ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ لَكُمْ؟ وَمِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى مُدَاوَلَةُ الأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ ، فَمَرَّةً تَكُونُ الغَلبَةُ لِلْبَاطِلِ عَلَى الحَقِّ ، إذَا أَعَدَّ لَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَاطُوا ، وَتَرَاخَى أَهْلُ الحَقِّ ، وَمَرَّةً تَكُونُ الغَلَبَةُ لِلْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ . وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ تَكُونُ دَائِماً لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ . وَاللهُ تَعَالَى يَبْتَلِي المُؤْمِنينَ لِيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ ، وَلِيَتّخِذَ مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالاً يُكْرِمُهُمْ بِالشَّهَادَةِ ..
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة . أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير . قتل منهم سبعون صحابياً وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح . . وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : « أنى هذا؟ » وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟!
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور . فهم ليسوا بدعاً في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً ، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها ، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث ، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث ، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي(1/289)
الطريق . ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ، لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول .والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين .
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً ، والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين .
{ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } . .إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها . وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة . لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . .
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم ; فضلاً على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلاً على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعاً . . وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان . على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال . . فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور . . فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة!
{ قد خلت من قبلكم سنن } . .وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم .{ فسيروا في الأرض } . .فالأرض كلها وحدة . والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر .{ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . .وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي(1/290)
يتناقلها خلفهم هناك . . ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة .
بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل . . وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة : إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً . ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة . وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير . وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير .وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان :
{ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } . .هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه . . طائفة { المتقين } . .إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها . . والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال . . إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه . . لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى . . ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات . تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة . . . إنما هي للمؤمنين وللمتقين . فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة . . واحتمال مشقات الطريق . . وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة . . لا مجرد العلم والمعرفة . . فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعاً لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفاً من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة!
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت :{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين } . .لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون . وإن(1/291)
كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص :
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله .وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقاً لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوماً ولأولئك يوماً . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا } . .
إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح!
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون!
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعاً في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي(1/292)
تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله وتوكلاً عليه والتصاقاً بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين :{ ويتخذ منكم شهداء } . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال!
وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . لا يقال له إنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء .فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في(1/293)
سبيله فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيداً . . ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب : { ويتخذ منكم شهداء . . } . .وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع!
{ والله لا يحب الظالمين } . .والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن : { إن الشرك لظلم عظيم } وفي الصحيحين « عن ابن مسعود : أنه قال : قلت : يا رسول الله . أي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . » .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين : { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . .والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير . . إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب . .وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها . وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير!
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير : محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية .ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص . . ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة!
والله - سبحانه - كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض(1/294)
فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها : { ويمحق الكافرين } . .تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ، وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
ــــــــــــــــــــ
38- وجوبُ التعلُّق بالمبدأ وليس بالأشخاص :
لأنَّ المبدأ لا يضل ولكن الأشخاص قد يضلون أو يحبسون أو يشردون في الأرض أو يقتلون.
وهذه نقطة جوهرية في صميم هذه الرسالة الخالدة ، وقد ترك كثير من الصحابة الجهاد في غزوة أحد لما سمعوا بمقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الناس اليوم أذا قتل الداعية أو سجن أو انحرف تخلوا عن الدعوة ويئسوا من رحمة الله تعالى وهذا أمر خطير يتعلق بعقيدة المسلم تجاه هذه الرسالة الخاتمة .
قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144) لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ
فعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ - قَالَ إِسْمَاعِيلُ : يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ : وَاللهِ ، مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَتْ : وَقَالَ عُمَرُ : وَاللهِ ، مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلاَّ ذَاكَ ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ، فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ ، قَالَ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ يُذِيقُكَ اللهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ ، فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكْرٍ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَقَالَ : أَلاَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ ، وَقَالَ : "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وَقَالَ : "وَمَا مُحَمَّدٌ(1/295)
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) قَالَ : فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ "(1)
إن البشر إلى فناء , والعقيدة إلى بقاء , ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس , من الرسل والدعاة على مدار التاريخ .
وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة , وبهذه الآية , أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء فقط ليومىء إليه , ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق , كما أومأ إليه من قبله من الرسل , ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم , فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر , ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة , وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة , وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة , التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتل , فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون !
وكأنما كان الله - سبحانه - يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب , وأن يصلهم به هو , وبدعوته الباقية , قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول .
ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهرا سيفه , يهدد به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إلا أبو بكر , الموصول القلب بصاحبه , وبقدر الله فيه , الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع , فإذا هم يثوبون ويرجعون !
ــــــــــــــــــــ
39- الاقتداءُ بالصالحين من السلف الصالح :
كالإقتداء بسحرة فرعون لما عرفوا الحق آمنوا به وثبتوا عليه والإقتداء بصاحب يس الذي قدم نفسه سخية في سبيل الله وغيرهم كثير ، قال تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى (3668) والمسند الجامع - (ج 14 / ص 86)(10641)(1/296)
قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) (آل عمران)
فِي هَذِهِ الآيَةِ يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَمَّا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ يَوْمَ أحُدٍ ، فَقَالَ لَهُمْ : كَمْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ وَهُوَ يُقَاتِلُ ، وَكَانَ مَعَه جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٌ ( رِبِّيُّونَ ) مِمَّنْ آمَنُوا بِهِ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، فَمَا وَهِنُوا ، وَمَا ضَعُفُوا بَعْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ ، وَمَا اسْتَكَانُوا ، وَمَا اسَتَذَلُّوا لِمَا أصَابَهُمْ فِي الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ دِينِهِ ، وَإِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى قِتَالِ الأَعْدَاءِ ، وَلَمْ يَهْرُبُوا مُوَلِّينَ الأَدْبَارَ ، لأنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ فِي سَبِيلِ نَبِيِّهِمْ ، فَعَلَيْكُمْ أيُّهَا المُسْلِمُونَ أنْ تَعْتَبِرُوا بِأولَئِكَ الرِّبِّيِّينَ ، وَتَصْبِرُوا كَمَا صَبَرُوا فَإنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ ، وَسُنَّتَهُ فِي خَلْقِهِ وَاحِدَةٌ ..
فَاحْتَسَبَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ ( الرِّبِّيُّونَ ) اللهَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الخَطْبِ ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ عِنْدَ نُزُولِ الكَوَارِث إلاَ الدُّعَاءُ إلَى اللهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُمْ بِجِهَادِهِمْ مَا كَانُوا ألمُّوا بِهِ مِنْ ذنُوبٍ ، وَتَجَاوُزَوا فِيهِ حُدُودَ الشَّرائعِ ، وَأن يُثَبِّتَ أقْدَامَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ القَوِيمِ ، حَتَّى لا تُزَحْزِحَهُم الفِتَنُ ، وَلاَ يَعْرُوهُمُ الفَشَلُ حِينَ مُقَابَلَةِ الأعْدَاءِ فِي سَاحَةِ الحَرْبِ .
فَآتَاهُمُ اللهُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى الأَعْدَاءِ ، وَهُمَا ثَوَابُ الدُّنْيا ، وَجَمَعَ لَهُمْ ، إلَى ذَلِكَ الظَّفَرِ ، حُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ ، وَهُوَ الفَوْزُ بِرُضْوَانِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ ، لأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ سُنَّتَهُ فِي أَرْضِهِ ، وَيُظْهِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِخِلاَفَةِ اللهِ فِيهَا .(1)
لقد كانت الهزيمة في « أحد » ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين ، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد ، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه!
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة ، وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحاً لتصورهم ، وإعداداً لهم . فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ، لا يحدد فيه نبياً ولا يحدد فيه قوماً . إنما يربطهم بموكب الإيمان; ويعلمهم أدب المؤمنين; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير : { وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } . .. . وكم من نبي قاتلت معه
__________
(1) - انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/204)(1/297)
جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح ، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين . .
{ والله يحب الصابرين } . .الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء . فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم . صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه . ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله . . لا لتطلب النصر أول ما تطلب - وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس - ولكن لتطلب العفو والمغفرة ، ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء : { وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } ..إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء . بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء . . لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة . لقد كانوا أكثر أدباً مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله . فلم يطلبوا منه - سبحانه - إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام . . والنصر على الكفار . فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . . إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً أعطاهم الله من عنده كل شيء . أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة . وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه : { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } . .
وشهد لهم - سبحانه - بالإحسان . فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب : { والله يحب المحسنين } . .وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي . وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة . وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل . .
---------------
وقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
يَحُثُّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلَى الاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والتَّأَسِّي بِهِ فِي صَبْرِهِ وَمَصَابَرَتِهِ وَمُرَابِطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ فَقَالَ لِلَّذِينَ أَظْهَرُوا الضَّجَرَ وَتَزَلْوَلُوا واضْطَربُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الأَحْزابِ : هَلاَّ اقْتَدَيْتُمْ(1/298)
بِرَسُولِ اللهِ ، وتَأَسَّيْتُمْ بِشَمَائِلِهِ فَلَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إِنْ كُنْتُمْ تَبْتَغُونَ ثَوابَ اللهِ ، وَتَخَافُونَ عِقَابَهُ ، وَتَذْكُرونَ اللهَ ذِكْراً كَثيراً ، فَذِكْرُ اللهِ يُؤَدِّي إِلى أُسْوَةٌ حَسَنٌ - قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ ..
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة؛ ويذكر الله ولا ينساه .
ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال . إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل في الخندق مع المسلمين . يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية : « كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمه ، وسماه عمراً . فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج :_سماه من بعد جعيل عمراً __ وكان للبائس يوماً ظهراً__
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة » عمرو « ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » عمراً « . وإذا مروا بكلمة » ظهر « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ظهراً »
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء .
ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .
« وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب . فقال - صلى الله عليه وسلم - » أما إنه نعم الغلام! « وغلبته عيناه فنام في الخندق . وكان القر شديداً . فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر . فلما قام فزع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك «! ثم قال : » من له علم بسلاح هذا الغلام «؟ فقال عمارة : يا رسول الله هو عندي . فقال : » فرده عليه « . ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعباً! »
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيراً أو كبيراً . كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة : « يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! » ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف . .
ثم كانت روحه - صلى الله عليه وسلم - تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين .(1/299)
قال ابن إسحاق : « وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريب مني . فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال : » أوَ قد رأيت ذلك يا سلمان «؟ قال : قلت . نعم : قال : أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق »
وجاء في « إمتاع الأسماع للمقريزي » أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان . رضي الله عنهما
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط .
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائداً من استطلاع خبر الأحزاب؛ وقد أخذه القر الشديد؛ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه . فإذا هو في صلاته واتصاله بربه ، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه صلوات الله وسلامه عليه بين رجليه ، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو .ويمضي في صلاته . حتى ينتهي ، فينبئه حذيفة النبأ ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه - صلى الله عليه وسلم - فبعث حذيفة يبصر أخبارها!
أما أخبار شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصة كلها ، ولا حاجة بنا إلى نقلها ، فهي مستفيضة معروفة .
وصدق الله العظيم : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيراً } . .
وفي مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 419)
فَصْلٌ فَإِذَا تَبَيَّنَ بَعْضُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِنْسَانُ " سُورَةَ الْأَحْزَابِ " وَعَرَفَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمَغَازِي : كَيْفَ كَانَتْ صِفَةُ الْوَاقِعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْحَادِثَةَ بِتِلْكَ : وُجِدَ مِصْدَاقُ مَا ذَكَرْنَا . وَأَنَّ النَّاسَ انْقَسَمُوا فِي هَذِهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ . كَمَا انْقَسَمُوا فِي تِلْكَ . وَتَبَيَّنَ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ . افْتَتَحَ اللَّهُ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا قَوْلَهُ : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } . فَأَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ - الَّتِي هِيَ سُنَّتُهُ - وَبِأَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ . فَبِالْأَوْلَى يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } . وَبِالثَّانِيَةِ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ(1/300)
} وَقَوْلُهُ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } . وهذا وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي جَمِيعِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ أَوْكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ؛ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَأْيِيدِ قَوِيٍّ مِنْ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ سَنَامَ الْعَمَلِ وَانْتَظَمَ سَنَامُ جَمِيعِ الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ . فَفِيهِ سَنَامُ الْمَحَبَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَفِيهِ سَنَامُ التَّوَكُّلِ وَسَنَامُ الصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وَقَالَ { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ وَالْيَقِينُ - اللَّذَيْنِ هَمَّا أَصْلُ التَّوَكُّلِ - يُوجِبَانِ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } . وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } . وَفِي الْجِهَادِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الزُّهْدِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الدَّارِ الدُّنْيَا . وَفِيهِ أَيْضًا : حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا فِي سَبِيلِ الرِّيَاسَةِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْمَالِ وَلَا فِي سَبِيلِ الْحَمِيَّةِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ قَاتَلَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَأَعْظَمُ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ : تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَالْمَالِ لِلْمَعْبُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . وَ ( الْجَنَّةُ اسْمٌ لِلدَّارِ الَّتِي حَوَتْ كُلَّ نَعِيمٍ ) . أَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى اللَّهِ إلَى مَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِمَّا قَدْ نَعْرِفُهُ وَقَدْ لَا نَعْرِفُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - { أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } . فَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ أَسْبَابِ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذَا . ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . كَانَ مُخْتَصَرُ الْقِصَّةِ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَحَزَّبَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ وَجَاءُوا بِجُمُوعِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَسْتَأْصِلُوا الْمُؤْمِنِينَ . فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَحُلَفَاؤُهَا مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَأَشْجَعَ وَفَزَارَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَبَائِلِ نَجْدٍ . وَاجْتَمَعَتْ أَيْضًا الْيَهُودُ : مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ . فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَجْلَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْحَشْرِ " . فَجَاءُوا فِي الْأَحْزَابِ إلَى قُرَيْظَةَ وَهْم مُعَاهِدُونَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُجَاوِرُونَ لَهُ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ - فَلَمْ يَزَالُوا بِهِمْ حَتَّى نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ الْعَهْدَ وَدَخَلُوا فِي الْأَحْزَابِ . فَاجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ الْعَظِيمَةُ وَهُمْ بِقَدْرِ الْمُسْلِمِينَ(1/301)
مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الذُّرِّيَّةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ وَهِيَ مِثْلُ الجواسق وَلَمْ يَنْقُلْهُمْ إلَى مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَجَعَلَ ظَهْرَهُمْ إلَى سَلْعٍ - وَهُوَ الْجَبَلُ الْقَرِيبُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ وَالشَّامِ - وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ خَنْدَقًا . وَالْعَدُوُّ قَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مِنْ الْعَالِيَةِ وَالسَّافِلَةِ . وَكَانَ عَدُوًّا شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَتْ نِكَايَتُهُ فِيهِمْ أَعْظَمَ النِّكَايَاتِ . وَفِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحَزَّبَ هَذَا الْعَدُوُّ مِنْ مَغُولٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ التُّرْكِ وَمِنْ فُرْسٍ وَمُسْتَعْرِبَةٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَجْنَاسِ الْمُرْتَدَّةِ وَمِنْ نَصَارَى الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ . وَنَزَلَ هَذَا الْعَدُوُّ بِجَانِبِ دِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَيْنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ مَعَ قِلَّةِ مَنْ بِإِزَائِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَمَقْصُودُهُمْ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الدَّارِ وَاصْطِلَامُ أَهْلِهَا . كَمَا نَزَلَ أُولَئِكَ بِنُوَاحِي الْمَدِينَةِ بِإِزَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَدَامَ الْحِصَارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَ الْخَنْدَقِ - عَلَى مَا قِيلَ - بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . وَقِيلَ : عِشْرِينَ لَيْلَةً . وَهَذَا الْعَدُوُّ عَبَرَ الْفُرَاتَ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَكَانَ أَوَّلُ انْصِرَافِهِ رَاجِعًا عَنْ حَلَبَ لَمَّا رَجَعَ مُقَدِّمُهُمْ الْكَبِيرُ قازان بِمَنْ مَعَهُ : يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِي أَوْ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَ الْعَسْكَرُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ . وَاجْتَمَعَ بِهِمْ الدَّاعِي وَخَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ . وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَلْقَى مِنْ الِاهْتِمَامِ وَالْعَزْمِ : أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ عَدُوِّهِمْ الرَّوْعَ وَالِانْصِرَافَ . وَكَانَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَرْدٌ شَدِيدٌ وَرِيحٌ شَدِيدَةٌ مُنْكِرَةٌ بِهَا صَرَفَ اللَّهُ الْأَحْزَابَ عَنْ الْمَدِينَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ أَكْثَرَ اللَّهُ فِيهِ الثَّلْجَ وَالْمَطَرَ وَالْبَرْدَ عَلَى خِلَافِ أَكْثَرِ الْعَادَاتِ . حَتَّى كَرِهَ أَكْثَرُ النَّاسِ ذَلِكَ . وَكُنَّا نَقُولُ لَهُمْ : لَا تَكْرَهُوا ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ . وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي صَرَفَ اللَّهُ بِهِ الْعَدُوَّ ؛ فَإِنَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِمْ الثَّلْجُ وَالْمَطَرُ وَالْبَرْدُ حَتَّى هَلَكَ مِنْ خَيْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ . وَهَلَكَ أَيْضًا مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَظَهَرَ فِيهِمْ وَفِي بَقِيَّةِ خَيْلِهِمْ مِنْ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِسَبَبِ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ مَا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ مَعَهُ بِقِتَالِ . حَتَّى بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ كِبَارِ الْمُقْدِمِينَ فِي أَرْضِ الشَّامِ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَنَا : أَعَدَوْنَا فِي الثَّلْجِ إلَى شَعَرِهِ وَنَحْنُ قُعُودٌ لَا نَأْخُذُهُمْ ؟ وَحَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا صَيْدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَوْ يَصْطَادُونَهُمْ ؛ لَكِنْ فِي تَأْخِيرِ اللَّهِ اصْطِيَادَهُمْ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ . وَقَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . وَهَكَذَا هَذَا الْعَامُ . جَاءَ الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَتِي عُلُوِّ الشَّامِ وَهُوَ شَمَالُ الْفُرَاتِ . وَهُوَ قِبْلِيِّ الْفُرَاتِ . فَزَاغَتْ الْأَبْصَارُ زَيْغًا عَظِيمًا وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ؛ لِعَظْمِ الْبَلَاءِ ؛ لَا سِيَّمَا لَمَّا اسْتَفَاضَ الْخَبَرُ بِانْصِرَافِ الْعَسْكَرِ إلَى مِصْرَ وَتَقَرَّبَ الْعَدُوُّ وَتَوَجَّهَهُ إلَى دِمَشْقَ . وَظَنَّ النَّاسُ بِاَللَّهِ الظَّنُونَا . هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ حَتَّى يصطلموا أَهْلَ الشَّامِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ لَوْ وَقَفُوا لَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً وَأَحَاطُوا بِهِمْ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ مَا بَقِيَتْ تُسْكَنُ وَلَا بَقِيَتْ تَكُونُ تَحْتَ مَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا يَظُنُّ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهَا ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى مِصْرَ(1/302)
فَيَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا فَلَا يَقِفُ قُدَّامَهُمْ أَحَدٌ فَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالْفِرَارِ إلَى الْيَمَنِ وَنَحْوِهَا . وَهَذَا - إذَا أَحْسَنَ ظَنَّهُ - قَالَ : إنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا الْعَامَ كَمَا مَلَكُوهَا عَامَ هُولَاكُو سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ . ثُمَّ قَدْ يَخْرُجُ الْعَسْكَرُ مِنْ مِصْرَ فَيَسْتَنْقِذُهَا مِنْهُمْ كَمَا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَامَ . وَهَذَا ظَنُّ خِيَارِهِمْ . وَهَذَا يَظُنُّ أَنَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ أَهْلُ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَأَهْلُ التَّحْدِيثِ وَالْمُبَشِّرَاتُ أَمَانِي كَاذِبَةٌ وَخُرَافَاتٌ لَاغِيَةٌ . وَهَذَا قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ حَتَّى يَمُرَّ الظَّنُّ بِفُؤَادِهِ مَرَّ السَّحَابِ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ يَتَفَهَّمُ وَلَا لِسَانٌ يَتَكَلَّمُ . وَهَذَا قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَمَارَاتُ وَتَقَابَلَتْ عِنْدَهُ الْإِرَادَاتُ ؛ لَا سِيَّمَا وَهُوَ لَا يُفَرِّقُ مِنْ الْمُبَشِّرَاتِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ . وَلَا يُمَيِّزُ فِي التَّحْدِيثِ بَيْنَ الْمُخْطِئِ وَالصَّائِبِ . وَلَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ الْأَثَرِيَّةَ مَعْرِفَةَ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهَا وَقَدْ سَمِعَهَا سَمَاعَ الْعِبَرِ ثُمَّ قَدْ لَا يَتَفَطَّنُ لِوُجُوهِ دَلَالَتِهَا الْخَفِيَّةِ وَلَا يَهْتَدِي لِدَفْعِ مَا يَتَخَيَّلُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لَهَا فِي بَادِئِ الرَّوِيَّةِ . فَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ الْحِيرَةُ عَلَى مَنْ كَانَ مُتَّسِمًا بِالِاهْتِدَاءِ وَتَرَاجَمَتْ بِهِ الْآرَاءُ تَرَاجِمَ الصِّبْيَانِ بِالْحَصْبَاءِ . { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } . ابْتَلَاهُمْ اللَّهُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ الَّذِي يُكَفِّرُ بِهِ خَطِيئَاتِهِمْ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَاتِهِمْ وَزُلْزِلُوا بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الرَّجَفَاتِ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } . وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ فِيمَا وَعَدَهُمْ أَهْلُ الْوِرَاثَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْخِلَافَةُ الرسالية وَحِزْبُ اللَّهِ الْمُحَدِّثُونَ عَنْهُ . حَتَّى حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . فَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ مَضَى التَّنْبِيهُ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ . فَذَكَرُوا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } . وَذَكَرَ اللَّهُ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي مَوَاضِعَ . فَقَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ } . وَالْمَرَضُ فِي الْقَلْبِ كَالْمَرَضِ فِي الْجَسَدِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ إحَالَةٌ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مَرَضٌ يُحِيلُهُ عَنْ الصِّحَّةِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُوتَ الْقَلْبُ سَوَاءٌ أَفْسَدَ إحْسَاسَ الْقَلْبِ وَإِدْرَاكَهُ أَوْ أَفَسَدَ عَمَلَهُ وَحَرَكَتَهُ . وَذَلِكَ - كَمَا فَسَّرُوهُ - : هُوَ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ ؛ إمَّا بِضَعْفِ عِلْمِ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادِهِ وَإِمَّا بِضَعْفِ عَمَلِهِ وَحَرَكَتِهِ . فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ ضَعُفَ تَصْدِيقُهُ وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْجُبْنُ وَالْفَزَعُ ؛ فَإِنَّ أَدْوَاءَ الْقَلْبِ مِنْ الشَّهْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْحَسَدِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا أَمْرَاضٌ . وَكَذَلِكَ الْجَهْلُ وَالشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ الَّتِي فِيهِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلٌ : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } هُوَ إرَادَةُ الْفُجُورِ وَشَهْوَةُ الزِّنَا كَمَا فَسَّرُوهُ بِهِ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - { وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ } . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { إنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ } . وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ } . وَلَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا لِمَرَضِ فِي قَلْبِهِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ خَوْفَهُ مِنْ بَعْضِ(1/303)
الْوُلَاةِ فَقَالَ : لَوْ صَحَحْت لَمْ تَخَفْ أَحَدًا . أَيْ خَوْفُك مِنْ أَجْلِ زَوَالِ الصِّحَّةِ مِنْ قَلْبِك . وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ لَا يَخَافُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ ؛ بَلْ لَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فَقَالَ : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ . وَقَالَ لِعُمُومِ بَنِي إسْرَائِيلَ تَنْبِيهًا لَنَا : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } . وَقَالَ : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } . وَقَالَ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ } وَقَالَ : { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ } . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } - عَلَى أَنَّ الْمَرَضَ وَالنِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ يُوجِبُ الرَّيْبَ فِي الْأَنْبَاءِ الصَّادِقَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَمْنَ الْإِنْسَانِ : مِنْ الْخَوْفِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهَا كَانَتْ غُرُورًا لَهُمْ كَمَا وَقَعَ فِي حَادِثَتِنَا هَذِهِ سَوَاءٌ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا } وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عَسْكَرَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ سَلْعٍ وَجَعَلَ الْخَنْدَقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : لَا مُقَامَ لَكُمْ هُنَا ؛ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ . فَارْجِعُوا إلَى الْمَدِينَةِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ فَارْجِعُوا إلَى دِينِ الشِّرْكِ . وَقِيلَ : لَا مُقَامَ لَكُمْ عَلَى الْقِتَالِ فَارْجِعُوا إلَى الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِجَارَةِ بِهِمْ . وَهَكَذَا لَمَّا قَدِمَ هَذَا الْعَدُوُّ كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ قَالَ : مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ . وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ : مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ ؛ بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ . فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الثَّلَاثُ قَدْ قِيلَتْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ . كَمَا قِيلَتْ فِي تِلْكَ . وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ لِأَهْلِ دِمَشْقَ خَاصَّةً وَالشَّامِ عَامَّةً : لَا مُقَامَ لَكُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ . وَنَفْيُ الْمُقَامِ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُقَامِ . وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُرِئَتْ بِالضَّمِّ أَيْضًا . فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُومَ بِالْمَكَانِ فَكَيْفَ يُقِيمُ بِهِ ؟ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ يَقُولُونَ - وَالنَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ سَلْعٍ دَاخِلُ الْخَنْدَقِ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي آطَامِّ الْمَدِينَةِ - : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ . أَيْ مَكْشُوفَةٌ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ . - وَأَصْلُ الْعَوْرَةِ : الْخَالِي الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَسِتْرٍ . يُقَالُ : اعْوَرَّ مَجْلِسُك إذَا ذَهَبَ سِتْرُهُ أَوْ سَقَطَ جِدَارُهُ . وَمِنْهُ عَوْرَةُ الْعَدُوِّ - . وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحُسْنُ : أَيْ ضَائِعَةٌ تُخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقُ . وَقَالَ قتادة : قَالُوا : بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ فَلَا نَأْمَنُ عَلَى أَهْلِنَا فائذن لَنَا أَنْ نَذْهَبَ إلَيْهَا لِحِفْظِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } لِأَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهَا { إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } فَهُمْ يَقْصِدُونَ الْفِرَارَ مِنْ الْجِهَادِ(1/304)
وَيَحْتَجُّونَ بِحُجَّةِ الْعَائِلَةِ . وَهَكَذَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . صَارُوا يَفِرُّونَ مِنْ الثَّغْرِ إلَى الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَإِلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمِصْرِ . وَيَقُولُونَ : مَا مَقْصُودُنَا إلَّا حِفْظَ الْعِيَالِ وَمَا يُمْكِنُ إرْسَالُهُمْ مَعَ غَيْرِنَا . وَهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ . فَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ جَعْلُهُمْ فِي حِصْنِ دِمَشْقَ لَوْ دَنَا الْعَدُوُّ . كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ إرْسَالُهُمْ وَالْمُقَامُ لِلْجِهَادِ . فَكَيْفَ بِمَنْ فَرَّ بَعْدَ إرْسَالِ عِيَالِهِ ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلَّا يَسِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا ثُمَّ طَلَبَتْ مِنْهُمْ الْفِتْنَةَ - وَهِيَ الِافْتِتَانُ عَنْ الدِّينِ بِالْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ - لَأُعْطُوا الْفِتْنَةَ . وَلَجَئُوهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَدُوُّ الْمُنَافِقُ الْمُجْرِمُ . ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ مُوَافَقَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ - وَتِلْكَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ - لَكَانُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ . كَمَا سَاعَدَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي أَقْوَامٌ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَا بَيْنَ تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمَاتٍ إمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ وَإِمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ . كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَشُرْبِ الْخُمُورِ وَسَبِّ السَّلَفِ وَسَبِّ جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّجَسُّسِ لَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَدَلَّالَتِهِمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ . وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَتَعْذِيبِهِمْ وَتَقْوِيَةِ دَوْلَتِهِمْ الْمَلْعُونَةِ وَإِرْجَافِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتْنَةِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ عَاهَدُوا ثُمَّ نَكَثُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . فَإِنَّ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَامِ : فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ مَنْ عَاهَدَ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا يَفِرَّ ثُمَّ فَرَّ مُنْهَزِمًا لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ . ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْفِرَارَ لَا يَنْفَعُ لَا مِنْ الْمَوْتِ وَلَا مِنْ الْقَتْلِ . فَالْفِرَارُ مِنْ الْمَوْتِ كَالْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { إذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } وَالْفِرَارُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْفِرَارِ مِنْ الْجِهَادِ . وَحَرْفُ " لَنْ " يَنْفِي الْفِعْلَ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْفِعْلُ نَكِرَةٌ . وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِهَا . فَاقْتَضَى ذَلِكَ : أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَبَدًا . وَهَذَا خَبَرُ اللَّهِ الصَّادِقِ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ فَقَدْ كَذَبَ اللَّهَ فِي خَبَرِهِ . وَالتَّجْرِبَةُ تَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرُّوا فِي هَذَا الْعَامِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ فِرَارُهُمْ ؛ بَلْ خَسِرُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا وَتَفَاوَتُوا فِي الْمَصَائِبِ . وَالْمُرَابِطُونَ الثَّابِتُونَ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا حَتَّى الْمَوْتُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ كَثُرَ فِيهِمْ . وَقَلَّ فِي الْمُقِيمِينَ . فَمَا مَنَعَ الْهَرَبُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالطَّالِبُونَ لِلْعَدُوِّ وَالْمُعَاقِبُونَ لَهُ لَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا قُتِلَ ؛ بَلْ الْمَوْتُ قَلَّ فِي الْبَلَدِ مِنْ حِينِ خَرَجَ الْفَارُّونَ . وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إلَّا قَلِيلًا } يَقُولُ : لَوْ كَانَ الْفِرَارُ يَنْفَعُكُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ إلَّا حَيَاةً قَلِيلَةً ثُمَّ تَمُوتُونَ . فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَمْقَى أَنَّهُ قَالَ : فَنَحْنُ نُرِيدُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ . وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ يُمَتَّعُونَ بِالْفِرَارِ قَلِيلًا . لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَبَدًا . ثُمَّ ذَكَرَ(1/305)
جَوَابًا ثَانِيًا . أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَنْفَعُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ . ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّ الْفَارَّ يَأْتِيهِ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَيَأْتِي الثَّابِتُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ الْمَسَرَّةِ . فَقَالَ : { قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } . وَنَظِيرُهُ : قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ آيَاتِ الْجِهَادِ : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . فَمَضْمُونُ الْأَمْرِ : أَنَّ الْمَنَايَا مَحْتُومَةٌ فَكَمْ مَنْ حَضَرَ الصُّفُوفَ فَسَلَّمَ وَكَمْ مِمَّنْ فَرَّ مِنْ الْمَنِيَّةِ فَصَادَفَتْهُ كَمَا قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - لَمَّا اُحْتُضِرَ - لَقَدْ حَضَرْت كَذَا وَكَذَا صَفًّا وَأَنَّ بِبَدَنِي بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفِ وَطَعْنَةٍ بِرُمْحِ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمِ . وهأنذا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ . فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَرْجِعُ مِنْ الْخَنْدَقِ فَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ قَالُوا لَهُ : وَيْحَك اجْلِسْ فَلَا تَخْرُجْ . وَيَكْتُبُونَ بِذَلِكَ إلَى إخْوَانِهِمْ الَّذِينَ بِالْعَسْكَرِ : أَنْ ائْتُونَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَنْتَظِرُكُمْ . يُثَبِّطُونَهُمْ عَنْ الْقِتَالِ . وَكَانُوا لَا يَأْتُونَ الْعَسْكَرَ إلَّا أَلَّا يَجِدُوا بُدًّا . فَيَأْتُونَ الْعَسْكَرَ لِيَرَى النَّاسُ وُجُوهَهُمْ . فَإِذَا غَفَلَ عَنْهُمْ عَادُوا إلَى الْمَدِينَةِ . فَانْصَرَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعِنْدَهُ شِوَاءٌ وَنَبِيذٌ . فَقَالَ : أَنْتَ هَهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ ؟ فَقَالَ : هَلُمَّ إلَيَّ فَقَدْ أُحِيطَ بِك وَبِصَاحِبِك . فَوَصَفَ الْمُثَبِّطِينَ عَنْ الْجِهَادِ - وَهُمْ صِنْفَانِ - بِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَكُونُوا فِي بَلَدِ الْغُزَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ كَانُوا فِيهِ عَوَّقُوهُمْ عَنْ الْجِهَادِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِهِمَا . وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِهِ رَاسَلُوهُمْ أَوْ كَاتَبُوهُمْ : بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِ الْغُزَاةِ لِيَكُونُوا مَعَهُمْ بِالْحُصُونِ أَوْ بِالْبُعْدِ . كَمَا جَرَى فِي هَذِهِ الْغُزَاةِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَرِ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا صَارُوا يُعَوِّقُونَ مَنْ أَرَادَ الْغَزْوَ وَأَقْوَامًا بُعِثُوا مِنْ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ وَغَيْرِهَا إلَى إخْوَانِهِمْ : هَلُمَّ إلَيْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أَيّ بُخَلَاءَ عَلَيْكُمْ بِالْقِتَالِ مَعَكُمْ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : بُخَلَاءُ عَلَيْكُمْ بِالْخَيْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ . وَهَذِهِ حَالُ مَنْ بَخِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَوْ شَحَّ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِ اللَّهِ : مِنْ نَصْرِهِ وَرِزْقِهِ الَّذِي يُجْرِيهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ . فَإِنَّ أَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِهِمْ وَأَقْوَامًا يَشُحُّونَ بِمَعْرُوفِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ . وَهُمْ الْحُسَّادُ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ يُشْبِهُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَقْتَ النَّزْعِ . فَإِنَّهُ يَخَافُ وَيُذْهِلُ عَقْلَهُ وَيَشْخَصُ بَصَرُهُ وَلَا يَطْرِفُ . فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ الْقَتْلَ . { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ " صَلَقُوكُمْ " وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْكَلَامِ الْمُؤْذِي . وَمِنْهُ " الصَّالِقَةُ " وَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْمُصِيبَةِ . يُقَالُ : صَلَقَهُ وَسَلَقَهُ - وَقَدْ قَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ بِهَا ؛ لَكِنَّهَا خَارِجَةٌ(1/306)
عَنْ الْمُصْحَفِ - إذَا خَاطَبَهُ خِطَابًا شَدِيدًا قَوِيًّا . وَيُقَالُ : خَطِيبٌ مِسْلَاقٌ : إذَا كَانَ بَلِيغًا فِي خُطْبَتِهِ ؛ لَكِنَّ الشِّدَّةَ هُنَا فِي الشَّرِّ لَا فِي الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } وَهَذَا السَّلْقُ بِالْأَلْسِنَةِ الْحَادَّةِ يَكُونُ بِوُجُوهِ : تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ : هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ مَقَالَةُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ أَشَرْتُمْ عَلَيْنَا بِالْمُقَامِ هُنَا وَالثَّبَاتِ بِهَذَا الثَّغْرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَإِلَّا فَلَوْ كُنَّا سَافَرْنَا قَبْلَ هَذَا لَمَا أَصَابَنَا هَذَا . وَتَارَةً يَقُولُونَ - أَنْتُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ - تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَا . عقل لَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ . وَتَارَةً يَقُولُونَ : أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَالْمَالِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَكُمْ . قَالَ قتادة : إنْ كَانَ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَسَطُوا أَلْسِنَتَهُمْ فِيكُمْ . يَقُولُونَ : أَعْطُونَا فَلَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا . فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأَخْذَلُهُمْ لِلْحَقِّ . وَأَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فأشح قَوْمٍ . وَقِيلَ : أَشِحَّةٌ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ بُخَلَاءُ بِهِ لَا يَنْفَعُونَ لَا بِنُفُوسِهِمْ وَلَا بِأَمْوَالِهِمْ . وَأَصْلُ الشُّحِّ : شِدَّةُ الْحِرْصِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْبُخْلُ وَالظُّلْمُ : مَنْ مَنَعَ الْحَقَّ وَأَخَذَ الْبَاطِلَ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } ؟ فَهَؤُلَاءِ أَشِحَّاءُ عَلَى إخْوَانِهِمْ أَيْ بُخَلَاءُ عَلَيْهِمْ وَأَشِحَّاءُ عَلَى الْخَيْرِ أَيْ حُرَّاصٌ عَلَيْهِ . فَلَا يُنْفِقُونَهُ . كَمَا قَالَ : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إلَّا قَلِيلًا } . فَوَصَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لِفَرْطِ خَوْفِهِمْ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ الْبَلَدِ . وَهَذِهِ حَالُ الْجَبَانِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ . فَإِنَّ قَلْبَهُ يُبَادِرُ إلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ الْمُخَوِّفِ وَتَكْذِيبِ خَبَرِ الْأَمْنِ . الْوَصْفُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا جَاءُوا تَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا بَيْنَكُمْ ؛ بَلْ يَكُونُونَ فِي الْبَادِيَةِ بَيْنَ الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ : إيش خَبَرُ الْمَدِينَةِ ؟ وإيش جَرَى لِلنَّاسِ ؟ . وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَحْزَابَ إذَا أَتَوْا وَهُمْ فِيكُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا إلَّا قَلِيلًا . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلَاثُ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَعْرِفُهُ مِنْهُمْ مِنْ خَبَرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِينَ يُبْتَلَوْنَ بِالْعَدُوِّ كَمَا اُبْتُلِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَهُمْ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ حَيْثُ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُ . فَلْيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ وَلَا يَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ نِقَمٌ لِصَاحِبِهَا وَإِهَانَةٌ لَهُ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا اُبْتُلِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ الْخَلَائِقِ ؛ بَلْ بِهَا يُنَالُ الدَّرَجَاتُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا يُكَفِّرُ اللَّهُ الْخَطَايَا لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَإِلَّا فَقَدْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِي حَقِّهِ(1/307)
عَذَابًا . كَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ اللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مُنْكِرًا عَلَى مَنْ حَسَبَ خِلَافَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُبْتَلَوْا مِثْلُ هَذِهِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بـ " الْبَأْسَاءِ " وَهِيَ الْحَاجَةُ وَالْفَاقَةُ . وَ " الضَّرَّاءُ " وَهِيَ الْوَجَعُ وَالْمَرَضُ . وَ " الزِّلْزَالُ " وَهِيَ زَلْزَلَةُ الْعَدُوِّ . فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَابُ عَامَ الْخَنْدَقِ فَرَأَوْهُمْ . قَالُوا : { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ ابْتَلَاهُمْ بِالزِّلْزَالِ . وَأَتَاهُمْ مِثْلَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا زَادَهُمْ إلَّا إيمَانًا وَتَسْلِيمًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَقْوَامٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ : قَالُوا ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوْ عَاشَ . وَ " النَّحْبُ " النَّذْرُ وَالْعَهْدُ . وَأَصْلُهُ مِنْ النَّحِيبِ . وَهُوَ الصَّوْتُ . وَمِنْهُ : الِانْتِحَابُ فِي الْبُكَاءِ وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْعَهْدِ . ثُمَّ لَمَّا كَانَ عَهْدُهُمْ هُوَ نَذْرُهُمْ الصِّدْقُ فِي اللِّقَاءِ - وَمَنْ صَدَقَ فِي اللِّقَاءِ فَقَدْ يُقْتَلُ - صَارَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ { قَضَى نَحْبَهُ } أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّحْبُ : نَذْرُ الصِّدْقِ فِي جَمِيعِ الْمُوَاطِنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيهِ إلَّا بِالْمَوْتِ . وَقَضَاءُ النَّحْبِ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ أَكْمَلَ الْوَفَاءَ . وَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُطْلَقًا : بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ . { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } قَضَاءَهُ إذَا كَانَ قَدْ وَفَى الْبَعْضَ فَهُوَ يَنْتَظِرُ تَمَامَ الْعَهْدِ . وَأَصْلُ الْقَضَاءِ : الْإِتْمَامُ وَالْإِكْمَالُ . { لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } . بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْأَحْزَابِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ حَيْثُ صَدَقُوا فِي إيمَانِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . فَحَصَرَ الْإِيمَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ الصَّادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا ؛ لَا مَنْ قَالَ كَمَا قَالَتْ الْأَعْرَابُ : آمَنَّا وَالْإِيمَانُ لَمْ يَدْخُلْ فِي قُلُوبِهِمْ ؛ بَلْ انْقَادُوا وَاسْتَسْلَمُوا . وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَإِمَّا أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . فَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى النَّاسَ بِهَذِهِ الْفِتْنَةِ لِيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَهُمْ الثَّابِتُونَ الصَّابِرُونَ لِيَنْصُرُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ . وَنَحْنُ نَرْجُو مِنْ اللَّهِ أَنْ يَتُوبَ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْمُومِينَ ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ نَدِمَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ . وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ عَرْضُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً . لَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا
-----------------(1/308)
وقال تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4) أَفَلاَ تَأَسَّى هَؤُلاَءِ الذِينَ يُوَادُّونَ الكَافِرِينَ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَصْحَابِهِ المُؤْمِنينَ ، حِينَ قَالُوا لِقَوْمِهِم الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ : إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الآلِهَةِ وَالأَنْدَادِ ، وَجََحَدْنَا ما أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَأَنْكَرْنَا عِبَادَتَكُمْ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ حِجَارَةٍ وَأَوْثَانٍ وَأَصْنَامٍ ، وَقَدْ أَعْلَنَّا الحَرْبَ عَلَيْكُمْ ، فَلاَ هَوَادَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، وَسَنَبْقَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَتُوَحِّدُوهُ ، وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وَتَتَخَلَّصُوا مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ .وَلَكُمْ فِي أَبْيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسَّوْنَ بِهَا ، وَتَعْتَبِرُونَ بِهَا فِي مَسْلَكِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ ، وَلاَ تَسْتَثْنُوا مِنْ تَصَرُّفَاتِ إِبْرَاهِيمَ التِي تَقْتَدُونَ بِهَا إِلاَّ اسْتْغْفَارَهُ لأَبِيهِ الذِي بَقِيَ مُقِيماً عَلَى الكُفْرِ ، فَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ : إِنَّهُ سَيَسْتَغْفِرُ لَهُ اللهَ ، وَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ . وَلَكِنَّ هَذَا القَوْلَ صَدَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمِ حِينَمَا وَعَدَهُ أَبُوهُ بِأَنَّهُ سَيُؤْمِنُ بِاللهِ ، وَيَتْبَعُهُ فِيمَا يَعْبُدُ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّ عَدُوٌ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ .وَحِينَمَا فَارَقَ إِبْرَاهِيمُ وَالمُؤْمِنُونُ مَعَهُ قَوْمَهُمْ لَجَؤُوا إِلَى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ قَائِلِينَ : رَبَّنَا إِنَّنَا اعْتَمَدْنَا عَلَيْكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا ( تَوَكَّلْنَا ) ، وَرَجَعْنَا إِلَيكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ ذُنُوبِنَا ، وَإِلَيكَ مَصِيرُنَا حِينَ تَبْعَثُنَا مِنْ قُبُورِنَا لِلْعََرْضِ وَالحِسَابِ . فَاقْتَدُوا بِهِمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ ، وَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ ..
ينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان ، وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : { إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } . .فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة(1/309)
وآصرة الإيمان . وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : { لأستغفرن لك } . .فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . . كما جاء في سورة أخرى .ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال : { وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . .
وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه : { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم ، إذ يقولون : لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور ، حين يتمكن الباطل من الحق ، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات .والمؤمن يصبر للابتلاء ، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء :{ واغفر لنا } . .يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه ، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه ، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه ، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء :
{ ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } . .العزيز : القادر على الفعل ، الحكيم : فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :{ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه سبحانه { فإن الله هو الغني الحميد } . .وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ،(1/310)
ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة . ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام ، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين . . ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم ، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان .
ــــــــــــــــــــ
40- عدم التطلع إلى أية لعاعة من لعاعات الدنيا
وذلك لأنها تفقدهم دورهم الحقيقي في هذه الأرض المهم مرضاة الله تعالى ليس إلا، فعَنْ عَامِرٍ قَالَ انْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ: « لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلاَ يُطِيلُ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْناً وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ ». فَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وَلأَصْحَابِكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ. قَالَ فَقَالَ: « أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِى وَلأَصْحَابِى أَنْ تُؤْوُنَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ». قَالُوا فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ قَالَ « لَكُمُ الْجَنَّةُ ». قَالُوا فَلَكَ ذَلِكَ. مسند أحمد(1)
التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
__________
(1) - 4/120 ( 17543 ) وهو صحيح مرسل(1/311)
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء: وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال , بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب , وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت , آتاها النصر في الأرض , وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة , مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ; ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة , تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
ــــــــــــــــــــ
41- أن يكون القتال في سبيل الله وإنقاذ المستضعفين ليس إلا :
قال تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ(1/312)
الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) (النساء) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الحَيَاةَ الدُّنْيا ، وَيَبْذُلَهَا ، وَيَجْعَلَهَا ثَمَناً للآخِرَةِ ، لأنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَعَزَّ دِينَ اللهِ ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيا . وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَظْفَرْ بِهِ عَدُوُّهُ وَيَقْتُلُهُ ، أَوْ يَظْفَرْ هُوَ بِعَدُوِّهِ ، فَإنَّ اللهَ سَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً مِنْ عِنْدِهِ .
( وَفِي هَذِهِ الآيَةِ إَشَارَةً إلَى أَنَّ هَمَّ المُقَاتِلِ المُسْلِمِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الظَّفَرَ أَوِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَعَلَيْهِ أنْ لاَ يُفَكِّرَ فِي الهَرَبِ وَالنَّجَاةِ بِالنَّفْسِ ، فَالهَرَبُ لاَ يُنَجِّي مِنْ قَدَرِ اللهِ ، وَفِيهِ غَضَبُ اللهِ وَسَخَطُهُ ) ..
يُحَرِّضُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ ، وَفِي سَبِيلِ إِنْقَاذِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المَوْجُودِينَ فِي مَكَّةَ ، مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، المُتَبَرِّمِينَ بِالمَقَامِ فِيهَا ، وَيَقُولُ لَهُمْ : أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِتُقِيمُوا التَّوْحِيدَ ، وَتَنْصُرُوا العَدْلَ وَالحَقَّ ، وَفِي سَبِيلِ إنْقَاذِ إِخْوَانِكُمُ المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ يَسْتَذِلُّهُمُ الطُّغَاةُ الكَفَرَةُ فِي مَكَّةَ ، وَهُمْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ تِلْكَ البَلْدةِ ( القَرْيَةِ ) الظَّالِمِ أّهْلُها ، وَأنْ يُسَخِّرَ لَهُمْ مِنْ عِنْدِهِ مَنْ يَنْصُرُهُمْ ، وَيُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ .
الذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَنَشْرِ دِينِهِ ، لاَ يَبْتَغُونَ غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ . أمَّا الذِينَ كَفَرُوا ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ( الطَّاغُوتِ ) ، الذِينَ يُزَيِّنُ لَهُمُ الكُفْرَ ، وَيُمَنِّيهِمُ النَّصْرَ . وَكَيْدُ الشَّيْطَانِ ضَعيفٌ ، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَوْلِيَائِهِ . أمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَهُمُ الأَعِزَّةُ ، لأنَّ اللهَ حَامِيهِمْ وَنَاصِرُهُمْ وَمُعِزُّهُمْ ، وَلِذَلِكَ فَعَلَى المُؤْمِنِينَ ، أَوْلِيَاءِ اللهِ ، أنْ لاَ يَخَافُوا أَعْدَاءَهُمُ الكُفَّارَ ، لأنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ .
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالاً إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي!
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض؛ ولا للاستيلاء على السكان .. لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات ، والأسواق للمنتجات؛ أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات!
إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة ، ولا لمجد أمة ، ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج ، وعدله المطلق « بين الناس » مع ترك كل فرد حراً في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله ، بقصد إعلاء كلمة الله ، وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيداً . وينال(1/313)
مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى « شهيداً » ولا ينتظر أجره عند الله ، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه « شهيد » يفترون على الله الكذب؛ ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله!
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم؛ في كلتا الحالتين : سواء من يُقتل في سبيل الله؛ ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً : { ومن يقاتل في - سبيل الله - فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس؛ وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم؛ في كلتا الحالتين . وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل ، وما ترجوه من الغنيمة كذلك! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئاً إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا ( ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالباً بمعنى يبيع ) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه؟!
فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم؛ في كلتا الحالتين : سواء من يُقتل في سبيل الله؛ ومن يَغلب في سبيل الله أيضاً : { ومن يقاتل في - سبيل الله - فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } . .بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس؛ وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم؛ في كلتا الحالتين . وأن يهوّن عليها ما تخشاه من القتل ، وما ترجوه من الغنيمة كذلك! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئاً إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا ( ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالباً بمعنى يبيع ) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه؟!
ثم يلتفت السياق إلى المسلمين . يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين؛ إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها . يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس ، وحساسية القلوب؛ تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم؛ وهم يتطلعون إلى الخلاص ، ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجاً من دار الظلم والعدوان . . يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد ، وشرف الغاية ، ونبل الهدف ، في هذا القتال ، الذي يدعوهم أن ينفروا إليه ، غير متثاقلين ولا مبطئين .(1/314)
وذلك في أسلوب تحضيضي؛ يستنكر البطء والقعود : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان . الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً ، واجعل لنا من لدنك نصيراً؟ } . .وكيف تقعدون عن القتال في سبيل الله؛ واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم ، وكرامة المؤمن ، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق؟ هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة؛ لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم ، والفتنة في دينهم . والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض ، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني ، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض ، وحق المال والأرض!
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف ، مشهد مؤثر مثير . لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد . وهو وحده يكفي . لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات . . وهو أسلوب عميق الوقع ، بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس .ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن : إن { هذه القرية الظالم أهلها } التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب ، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها ، هي « مكة » وطن المهاجرين ، الذين يُدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها . ويدعو المسلمون المستضعفون هذه الدعوة الحادة للخروج منه!
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام - حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه؛ وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم ، وعذبوا في عقيدتهم . . بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم « دار حرب » . . دار حرب ، هم لا يدافعون عنها ، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها . . إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته . ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه؛ وأرضه التي يدفع عنها هي « دار الإسلام » التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجاً للحياة . . وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي ، تنضح به الجاهليات ، ولا يعرفه الإسلام
ثم لمسة نفسية أخرى ، لاستنهاض الهمم ، واستجاشة العزائم ، وإنارة الطريق ، وتحديد القيم والغايات والأهداف ، التي يعمل لها كل فريق : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } . .
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف ، وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين :{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } . .
{ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } ..الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ لتحقيق منهجه ، وإقرار شريعته ، وإقامة العدل « بين الناس » باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافاً بأن الله(1/315)
وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم :والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله!
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم ، وشتى مناهجهم ، وشتى شرائعهم ، وشتى طرائقهم ، وشتى قيمهم ، وشتى موازينهم . . . فكلهم أولياء الشيطان .ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان :{ فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة ، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله ، ليس لأنفسهم منها نصيب ، ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم ، ولا لجنسهم ، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده ، ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوماً أهل باطل؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله؛ ولتغليب ظلم البشر- وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله ، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .كذلك يخوضون المعركة ، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوماً ، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . . إن كيد الشيطان كان ضعيفاً . .
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين ، وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب ، ورأى بعينيه النصر؛ فهو واثق من الأجر العظيم
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه ، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال؛ فهي كثيرة مشهورة . . ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب ، في أقصر فترة عرفت في التاريخ؛ فقد كان هذا التصور جانباً من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة ، على المعسكرات المعادية . . ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفاً من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين ، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين؛ فأمسوا مهزومين!
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته .فلم يكن الأمر هيناً . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهداً موصولاً ، لمعالجة شح النفس ، وحرصها على الحياة -(1/316)
بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . . وفي الدرس بقية من هذا العلاج ، وذلك الجهد الموصول .
-----------------
وقال تعالى : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) }سورة التوبة
قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَصَائِبِ ، وَتَسُوؤُهُم النِّعْمَةُ الَّتِي تُصْيبُ المُسْلِمِينَ : نَحْنُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَا قَدّرَهُ لَنَا سَيَأْتِينَا ، وَلَيْسَ لَهُ مَانِعٌ وَلاَ دَافِعٌ . وَنَحْنُ مُتَوَكّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، فَلاَ نَيْأسُ عِنْدَ الشِّدَّةِ ، وَلاَ نَبْطَرُ عِنْدَ النِّعْمَةِ.
وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ : هَلْ تَتَرَبَّصُونَ بِنَا ، وَتَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقَعَ لَنَا ، إِلاَّ وَاحِدَةٌ مِنِ اثْنَتَيْنِ : وَكِلْتَاهُمَا خَيْرٌ لَنَا وَفِيهِمَا حَسَنَةٌ : شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ظَفْرٌ . أَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا نَنْتَظِرُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ عَذَابُ اللهِ ، أَوْ أَنْ يُسَلِّطَنَا عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ فَنُذِيقَكُمْ بَأْسَنَا .
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال . النصر الذي تعلو به كلمة الله ، فهو جزاؤهم في هذه الأرض . أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله . وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين . . { فتربصوا إنا معكم متربصون } والعاقبة معروفة . . والعاقبة للمؤمنين .
ــــــــــــــــــــ
42- عدمُ الخوف إلا من الله وحده مهما بلغت الشدائد
قال تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) (آل عمران)
خَافَتْ قُرَيشٌ أنْ يَجْمَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهْلَ المَدِينَةِ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي المَعْرَكَةِ ، وَيَخْرُجَ وَرَاءَهُمْ ، فَأَرْسَلُوا إلَيهِ بَعْضَ نَاقِلِي الأخْبَارِ لِيُهَوِّلُوا عَلَيهِ ، لِيَكُفَّ عَنِ اللِّحَاقِ بِهِمْ ، وَقَالَ نَاقِلُوا الأَخْبَار لِلْمُسْلِمِينَ : إنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ( النَّاسَ ) قَدْ حَشَدُوا لَكُمْ ، وَجَمَعُوا قُوَاهُمْ ، فَاحْذَرُوهُمْ ، وَاخْشَوْهُمْ ، فَلَمْ يَزِدْ هَذَا القَوْلُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ - الذِينَ اسْتَجَابُوا لِلْرَسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُلَبِّينَ دَعْوَتَهُ ، رَاغِبِينَ فِي نَيْلِ رِضْوَانِ رَبِّهِمْ وَنَصْرِهِ - إلاَّ إِيمَاناً بِرَبِهِمْ ، وَثِقَةً بِوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ وَأجْرِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى مُخَاطِبِيِهِمْ قَائِلِينَ : إِنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ، وَهُوَ حَسْبُهُمْ .(1/317)
فَلَمَّا تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ كَفَاهُمُ اللهُ مَا أَهَمَّهُمْ وَأَغَمَّهُمْ ، وَرَدَّ عَنْهُمْ بَأسَ النَّاسِ ( الكَافِرِينَ ) ، فَرَجَعُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوْءٌ ، وَقَدْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللهِ ، وَعَظِيمِ فَضْلِهِ ، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ
( خَرَجَ المُسْلِمُونَ مَعَ الرَّسُولِ إلى مَوْقِعٍ يُعْرَفُ بِحَمْراءِ الأَسَدِ ، وَأرْسَلَ إلى المُشْرِكِينَ رُسُلاً يُحَذِّرُونَهُمْ ، فَخَافَتْ قُرَيْشٌ وَتَابَعَتْ سَيْرَهَا نَحْوَ مَكَّةَ ) .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ وَاعَدَ َرسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَدْراً مِنَ العَامِ القَابِلِ ، فَخَرَجَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُسْلِمِينَ إلَى بَدْرٍ فِي المَوْعِدِ المُحَدَّدِ ، وَتَخَلَّفَتْ قُرَيْشٌ ، فَاشْتَرَى رَسُولَ اللهِ عِيْراً مَرَّتْ بِهِمْ فِي المَوْسِمِ ، ثُمَّ بَاعَهَا فَرَبِحَ ، وَوَزَّعَ الرِّبْحَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَانْقَلَبُوا مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الثَّانِيَةِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ، وَنَالُوا رِضْوَانَ اللهِ ، وَحَصَلُوا عَلَى فَضْلِهِ فِي الرِّبْحِ . وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ .
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، أنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الذِي يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ المُشْرِكِينَ ، وَيُوهِمُكُمْ أَنَّهُمْ ذَوُو بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَهُوَ الذِي قَالَ لَكُمْ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَلاَ تَخَافُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ ، وَالْجَؤُوا إِلَيهِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً ، فَإِنَّهُ كَافِيكُمْ إِيَّاهُمْ ، وَنَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ . وَخَافُوهُ هُوَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى الخُذْلاَنِ ، وَعَلَى الضَّرِّ وَالنَّفْعِ .
وهم الذين قال لهم بعض المشركين: إن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا أمرهم على الرجوع إليكم لاستئصالكم، فاحذروهم واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، فزادهم ذلك التخويف يقينًا وتصديقًا بوعد الله لهم، ولم يَثْنِهم ذلك عن عزمهم، فساروا إلى حيث شاء الله، وقالوا: حسبنا الله أي: كافينا، ونِعْم الوكيل المفوَّض إليه تدبير عباده. استجابوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح) , ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومئ إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول.
ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . . ولعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض ،حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس(1/318)
لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة . ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -: (الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل) . . هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت إعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة .
ــــــــــــــــــــ
43- يقينُهم -مهما كانوا ضعفاء- أنهم على الحقِّ وعدوهم على الباطل :
قال تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:12) قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرينَ - وَهُمْ هُنَا اليَهُودُ - : إنَّهُمْ سَيُغْلَبُونَ فِي الدُّنيا وَيُحْشَرونَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيُسَاقُونَ إلى جَهَنَّمَ ، لِتَكُونَ لَهُمْ مَهْداً وَفِرَاشاً ، وَبِئْسَ المَهْدُ وَالفِرَاشُ . ( هَذِهِ الآيةُ نَزَلَتْ فِي يَهُودِ بَني قَيْنُقَاع . فَبَعْدَ أنْ نَصَرَ اللهُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، جَمَعَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - يَهُودَ المَدِينةِ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ أسْلِمُوا قَبْلَ أنْ يُصِيبَكُمْ اللهُ بِمَا أصَابَ بِهِ قُرَيْشاً .فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ لاَ يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أنَّكَ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيشٍ لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ ، إنَّكَ وَاللهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أنَّا نَحْنُ النًّاسُ ، وَأنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا . فَأنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ والتي بَعْدَهَا ، وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ فَقَتَلَ المُسْلِمُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَأجْلَوا بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاع ، وَفَتُحُوا خَيْبَرَ ).
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله , قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ , وسنة ماضية لم تتوقف . وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن الله ; ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله , المدبر بحكمته , المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة . (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر , لتبرز العبرة , وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !(1/319)
---------------
وقال تعالى : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (197) آل عمران لاَ تَنْظُرْ إلَى مَا أتْرِفَ فِيهِ هَؤُلاءِ الكُفَّارُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالغَبْطَةِ وَالسُّرُورِ . وَلاَ تَعْجَبْ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ فِي الأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّكَسُّبِ ثُمَّ عَوْدَتِهُمْ سَالِمِينَ إلَى أَهْلِيهِمْ وَدِيَارِهِمْ .
فَإنَّهُ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ ، يَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، ثمَّ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَهْدُ
وتقلب الذين كفروا في البلاد ، مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ، ومن مظاهر المكانة والسلطان ، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين؛ وهم يعانون الشظف والحرمان ، ويعانون الأذى والجهد ، ويعانون المطاردة أو الجهاد .. وكلها مشقات وأهوال ، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة ، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ، والباطل وأهله في منجاة ، بل في مسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضلالاً وبطراً ولجاجاً في الشر والفساد .هنا تأتي هذه اللمسة : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد ، فهو جهنم . . وبئس المهاد!
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله :{ جنات تجري من تحتها الأنهار } . . { خالدين فيها } . . { نزلاً من عند الله } . . { وما عند الله خير للأبرار } . .وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ، وهذا النصيب في كفة ، أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب!
إن الله - سبحانه - في موضع التربية ، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الأعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض ، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى ، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .إنه يعدهم هنا شيئاً واحداً هو { ما عند الله } . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة : التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله - وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون ، ويكلوا أمرها إليه ، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها!
هذه العقيدة : عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض ، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك!(1/320)
ثم يقع النصر ، ويقع التمكين ، ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة . ليس جزءاً من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة؛ وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية ، إلا حين تجردوا هذا التجرد ، ووفوا هذا الوفاء :قال محمد بن كعب القرظي وغيره : « قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبة ( ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة إليهم ) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال » أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم « . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال » الجنة « . . قالوا : ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل » .هكذا . . « الجنة » والجنة فقط لم يقل : النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة!
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين؛ أنهي أمرها ، وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها!
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض ، وزمام القيادة ، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ، وكل رغباتها ، وكل شهواتها ، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها ، والمنهج الذي تحققه ، والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
فالثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
ــــــــــــــــــــ
44- كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:(1/321)
من أهم أسباب النصر التي ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها , كيف ذلك؟
الأمة- أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] من هم يا رب؟
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا: تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
ــــــــــــــــــــ
45- عدمُ الاكتراث بالذينَ لا يوقنون :
قال تعالى : {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (60) سورة الروم
فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُؤلاءِ المُشْرِكِينَ ، وَلا تَلْتَفِتْ إلى تَكذِيبِهِم وَمُكَابَرَتِهِمْ ، وبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، فَإِنَّهُ وَعَدَكَ النَّصْرَ والظَّفَرَ ، وسَيُنْجِزُ لَكَ وَعْدَهُ ، وَلا يَحْمِلَنَّكَ الذِين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ ( لاَ يُوقِنُونَ ) عَلى الخِفَّةِ والانْفِعَالِ ، فَيَصْرِفُوكَ بذلِكَ عَمَّا أَمَرَكَ بهِ رَبُّكَ مِنْ إِبْلاَغِ رسَالاَتِهِ إِلى النَّاسِ .
ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على هؤلاء الجاهلين ، فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } .
أى : إذا كان الأمر وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين ، فاصبر على أذاهم ، وعلى جهالاتهم ، فإن وعد الله - تعالى - بنصرك عليهم حق لا شك فى ذلك .(1/322)
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } أى : ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون صحة ما تتلوا عليهم من آيات ، ولا بما يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون بصحة ما تتلوا عليهم من آيات ، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير .
فالصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية والثقة بوعد الله الحق والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين مهما يطل هذا الطريق ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم.
وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين ونصر المؤمنين تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله ; والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون فيتناسق البدء والختام وتنتهي السورة وفي القلب منا إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب واليقين الثابت الذي لا يخون
ــــــــــــــــــــ
46- وجوبُ الصبر و المصابرة والمرابطة والتقوى:
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ أنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الذِي ارْتَضَاهُ اللهُ لَهُمْ ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ ، فَلاَ يَدَعُونَهُ لِشِدَّةٍ وِلاَ لِرَخَاءٍ ، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ . وَالمُرَابَطَةِ هِيَ المَرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ لِلْغَزْوِ وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيهَا " .
وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه الْمَدِينِيّ حَدَّثَنَا مَالِك بْن زَيْد بْن أَسْلَم قَالَ : كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَة إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يَذْكُر لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّوم وَمَا يَتَخَوَّف مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر : أَمَّا بَعْد فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِل بِعَبْدٍ مُؤْمِن مِنْ مَنْزِلَة شِدَّة يَجْعَل اللَّه لَهُ بَعْدهَا فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " وَهَكَذَا رَوَى الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم اِبْن أَبِي سُكَيْنَة قَالَ : أَمْلَى عَلَيَّ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك هَذِهِ الْأَبْيَات بِطَرَسُوس وَوَدَّعْته لِلْخُرُوجِ وَأَنْشَدَهَا مَعِي إِلَى الْفُضَيْل بْن عِيَاض فِي سَنَة سَبْعِينَ وَمِائَة وَفِي رِوَايَة سَنَة سَبْع وَسَبْعِينَ وَمِائَة.
يَا عَابِد الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتنَا ... لَعَلِمْت أَنَّك فِي الْعِبَادَة تَلْعَب
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خَدّه بِدُمُوعِهِ ... فَنُحُورنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّب(1/323)
أَوْ كَانَ يُتْعِب خَيْلَهُ فِي بَاطِل ... فَخُيُولنَا يَوْم الصَّبِيحَة تَتْعَب
رِيح الْعَبِير لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرنَا ... رَهْج السَّنَابِك وَالْغُبَار الْأَطْيَب
وَلَقَدْ أَتَانَا مِنْ مَقَال نَبِيّنَا ... قَوْل صَحِيح صَادِق لَا يُكْذَب
لَا يَسْتَوِي غُبَار خَيْل اللَّه فِي ... أَنْف اِمْرِئٍ وَدُخَان نَار تَلْهَبُ
هَذَا كِتَاب اللَّه يَنْطِق بَيْننَا ... لَيْسَ الشَّهِيد بِمَيِّتٍ لَا يُكْذَب
وفي مسند أبي عوانة (6013 ) عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ مُرَابِطٌ، جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ،( صحيح).
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحياناً في الخير ، وقلة الرجاء أحياناً في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر(1/324)
، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصراراً وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس .
وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان!
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعاً . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . . هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام!!
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل؛ ويحرسه أن يضعف؛ ويحرسه أن يعتدي؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار : { لعلكم تفلحون } . وصدق الله العظيم .
ــــــــــــــــــــ(1/325)
47-وجوبُ الاستعانة بالصبر والصلاة :
قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45)
وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالاسْتِعَانَةِ عَلَى أَدَاءِ التَّكَالِيفِ ، وَمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ ، بِالصَّبْرِ عَلَى الفَرَائِضِ ، وَضَبْطِ النَّفْسِ عَنِ المَعَاصِي ، وَبِالصَّلاةِ ، لَعَلَّهُمْ يَبْلُغُونَ مَا يُؤمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ . وَيُنَبِّهُهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَنَّ القِيَامَ بِهذِهِ الوَصِيَّةِ التِي يَطْلبُ مِنَ النَّاسِ الأَخْذَ بِهَا مِنْ صَبْرٍ وَصَلاةٍ . . . أَمْرٌ شَاقٌ ثَقِيلٌ عَلَى النُّفُوسِ ، إِلاَّ النُّفُوسَ المُؤْمِنَةَ الخَاشِعَةَ المُسْتَكِينَةَ لِطَاعَةِ اللهِ ، المُتَذَلِّلَةَ مِنْ مَخَافَتِهِ .
يتكرر ذكر الصبر في القرآن كثيرا ; ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع ; والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات ; والذي يتطلب أن تبقى النفس مشدودة الأعصاب , مجندة القوى , يقظة للمداخل والمخارج . .
ولا بد من الصبر في هذا كله . .
لا بد من الصبر على الطاعات , والصبر عن المعاصي , والصبر على جهاد المشاقين لله , والصبر على الكيد بشتى صنوفه , والصبر على بطء النصر , والصبر على بعد الشقة , والصبر على انتفاش الباطل , والصبر على قلة الناصر , والصبر على طول الطريق الشائك , والصبر على التواء النفوس , وضلال القلوب , وثقلة العناد , ومضاضة الإعراض . .
وحين يطول الأمد , ويشق الجهد , قد يضعف الصبر , أو ينفد , إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر ; فهي المعين الذي لا ينضب , والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة , والزاد الذي يزود القلب ; فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر , الرضى والبشاشة , والطمأنينة , والثقة , واليقين .
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى , يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع , وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود , ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب , ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا , ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
هنا تبدو قيمة الصلاة . .
إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي(1/326)
الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة , إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . .
إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب . صلة يستمد منها القلب قوة , وتحس فيها الروح صلة ; وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا . .
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة , وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام
وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق , وريا في الهجير , ومددا حين ينقطع المدد , ورصيدا حين ينفد الرصيد . .
واليقين بلقاء الله - واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة - واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور . .
هو مناط الصبر والاحتمال ; وهو مناط التقوى والحساسية . كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم:قيم الدنيا وقيم الآخرة . ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا , وعرضا هزيلا ; وبدت الآخرة على حقيقتها , التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها . وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة , توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع . .
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة . والعبادة فيه ذات أسرار . ومن أسرارها أنها زاد الطريق . وأنها مدد الروح . وأنها جلاء القلب . وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر . .
إن الله سبحانه حينما انتدب محمدا - صلى الله عليه وسلم - للدور الكبير الشاق الثقيل , قال له:
(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) . .
فكان الإعداد للقول الثقيل , والتكليف الشاق , والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن . .
إنها العبادة التي تفتح القلب , وتوثق الصلة , وتيسر الأمر , وتشرق بالنور , وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان .
ومن ثم يوجه الله المؤمنين هنا وهم على أبواب المشقات العظام . .
إلى الصبر وإلى الصلاة . .
ثم يجيء التعقيب بعد هذا التوجيه: (إن الله مع الصابرين) . .
معهم , يؤيدهم , ويثبتهم , ويقويهم , ويؤنسهم , ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم , ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة , وقوتهم الضعيفة , إنما يمدهم حين ينفد زادهم , ويجدد عزيمتهم حين(1/327)
تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين) .
والأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها لمناسبته للسياق القرآني هنا في إعداد الجماعة المسلمة لحمل عبئها والقيام بدورها:
ففي صحيح البخارى( 3612 ) عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ « كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » . .
وفي صحيح البخارى( 3477 ) عن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِى فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » ..
وفي مسند الطيالسي ( 1988)عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرَاهُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ ، أَوْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ.( صحيح).
ــــــــــــــــــــ
48- تحملُّ الأذى الشديد في سبيل الله تعالى وعدمُ الوهن في طلب الكفار
قال تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104)
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالجِدِّ فِي قِتَالِ الأَعْدَاءِ ، وَفِي طَلَبِهِمْ وَيُنَبِّهُهُمْ إلى أَنَّهُمْ إنْ كَانَتْ تُصِيبُهُمْ جِرَاحٌ ، وَيَأْلَمُونَ مِنْهَا ، فَإِنَّ أَعْدَاءَهُمْ تُصِيبُهُمْ أَيْضاً جِرَاحٌ ، وَيَأْلَمُونَ مِنْهَا . وَالفَارِقُ الوَحِيدُ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ أنَّ المُؤْمِنَ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ المَثُوبَةَ وَالأَجْرَ ، وَالنَّصْرَ وَالتَّأيِيدَ ، وَإِعْلاَءَ كَلِمَةِ اللهِ ، التِي وَعَدَهُ اللهُ بِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ، فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ ، وَالكَافِرِ لا يَنْتَظِرُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ ، وَاللهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ فِيمَا يَفْرِضُهُ وَيُقَدِّرُهُ ..
إنهن كلمات معدودات . يضعن الخطوط الحاسمة ، ويكشفن عن الشقة البعيدة ، بين جبهتي الصراع
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة . . ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه . . إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء . . ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء . . إن المؤمنين(1/328)
يتوجهون إلى الله بجهادهم ، ويرتقبون عنده جزاءهم . . فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون ، لا يتجهون لله ، ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة . .
فإذا أصر الكفار على المعركة ، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصراراً ، وإذا احتمل الكفار آلامها ، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام . وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال ، وتعقب آثارهم ، حتى لا تبقى لهم قوة ، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح .
فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة ، ويربو الألم على الاحتمال . ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد . هنالك يأتي المدد من هذا المعين ، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم .
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة . معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين . لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل .
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة . . ولكن القاعدة لا تتغير . فالباطل لا يكون بعافية أبداً ، حتى ولو كان غالباً! إنه يلاقي الآلام من داخله . من تناقضه الداخلي؛ ومن صراع بعضه مع بعض . ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء .وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار . وأن تعلم أنها إن كانت تألم ، فإن عدوها كذلك يألم . والألم أنواع . والقرح ألوان . . { وترجون من الله ما لا يرجون } . . وهذا هو العزاء العميق . وهذا هو مفرق الطريق . .{ وكان الله عليماً حكيماً } . .يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب . ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح . .
------------
وقد تكلم الإمام الرازى عن الحكمة فى مداولة الأيام بين الناس فقال ما ملخصه : واعمل أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله - تعالى - ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :
الأول : إنه - سبحانه - لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين فى جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطرارى بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله .(1/329)
والثانى : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى ، فيكون تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدباً ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه " .
ووجه آخر وهو شحذ عزائم المؤمنين فى اتخاذ وسائل النصر فلا يركنوا إلى إيمانهم ويتركوا العمل بالأسباب .ثم كشفت السورة الكريمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث فى غزوة أحد ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس فقال - تعالى - { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } .
أى فعلنا ما فعلنا فى أحد ، واقتضت حكمتنا أن نداول الأيام بينكم وبين عدوكم ، ليظهر أمركم - أيها المؤمنون - ، وليتميز قوى الإيمانى من ضعيفه .فمعنى علم الله هو تحقيق ما قدره فى الأزل فيعلمه الناس ، ويعلمه الله - تعالى - واقعا حاضرا ، وذلك لأن العلم الغيبيى لا يتربت عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحس .قال صاحب الكشاف : وقوله { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } فيه وجهان : أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا والمعنى : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف فعلنا ذلك . وهو من باب التمثيل . بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله - عز وجل - لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها .
والثاني : أنه تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه والمعنى : وفعلنا ذلك ليكون كيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم بأن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله فى ذلك من المصالح ما هو غافل عنه "
وقوله { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } بيان لحكمة أخرى لما أصاب المسلمين يوم أحد .
أى : وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم فى التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله ، والدفاع عن الحق . وهو - سبحانه - يحب الشهداء من عباده ، ويرفعهم إلى أعلا الدرجات ، وأسمى المنازل .قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي يكرمكم بالشهادة ، أي ليقتل قوم منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم . وقيل : لهذا قيل شهيد .
وقيل : سمى شهيداً لأنه مشهود له بالجنة . وقيل : سمى شهيدا ، لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم ، فالشهيد بمعنى الشاهد أى الحاضر للجنة . والشهادة فضلها عظيم ويكفيك فى فضلها قوله - تعالى - { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } الآية . وفى الحديث الشريف " أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون فى قبورهم إلا الشهيد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة "(1/330)
وقوله - تعالى - { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جملة معترضة لتقدير مضمون ما قبلها .أى : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته .
ثم ذكر - سبحانه - حكمتين أخريين لما جرى للمؤمنين فى غزوة أحد فقال : { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين } .وقوله { وَلِيُمَحِّصَ } من المحص بمعنى التنقية والتخليص . يقال : محصت الذهب بالنار ومحصته إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث .أو من التمحيص بمعنى الابتلاء والاختبار .وقوله { وَيَمْحَقَ } من المحق وهو محو الشىء والذهاب به ، وأصله نقص الشىء قليلا قليلا حتى يفنى . يقال : محق فلان هذا الطعام إذا نقصه حتى أفناه ومنه المحاق ، لأخر الشهر ، لأن الهلال يبلغ أقصى مدى النقصان فيختفى .والمعنى : ولقد فعل - سبحانه - ما فعل فى غزوة أحد ، لكى يطهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب ، ويخلصهم من المنافقين المندسين بينهم ، ولكى يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم وبطرهم .فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذكر اربع حكم لما حدث للمؤمنين فى غزوة أحد وهيى : تحقق علم الله - تعالى - وإظهاره للمؤمنين ، وإكرام بعضهم بالشهادة التى توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات ، وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين ، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدا رويدا .
ــــــــــــــــــــ
49- أن يكون القتال في سبيل الله :
قال تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة
هذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي القِتَالِ فِي المَدِينَةِ . قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَبِثَ بَعْدَ هذِهِ الآيَةِ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ ، وَيَكُفَّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ ، حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ ، وَجَاءَ فِيها : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وَهذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَّةِ ، فَقَدْ خَافَ المُسْلِمُونَ أَنْ لا تَفِيَ لَهُمْ قُرَيْشٌ بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَصُدَّهُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ بِالقُوَّةِ وَتُقَاتِلَهُمْ ، وَكَرِهَ المُسْلِمُونَ القِتَالَ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ ، وَفِي البَلَدِ الحَرَامِ .
وَفِي هذِهِ الآيَةِ يَأْذَنُ اللهُ لِلْمُؤْمِنينَ فِي قِتَالِ المُشْرِكِينَ إِعْزَازاً لِدِينِ اللهِ ، وَإِعلاءً لِكَلِمَتِهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا فِي ذلِكَ ، وَأَنْ لا يَبْدَؤُوهُمْ بِالقِتَالِ .
( وَيَدْخُلُ فِي الاعْتِدَاءِ ارْتِكَابُ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ كَالمُثْلَةِ فِي القَتْلِى ، وَالغُلُولِ ( وَهُوَ إِخْفَاءُ شَيءٍ مِنَ المَغْنَمِ ) ، وَقَتْلِ النِّسِاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيوخِ ، وَأَصْحَابِ الصَّوامِعِ ، وَتَحْرِيقِ الأَشْجَارِ ، وَقَتْلِ الحَيَوانِ لِغَيرِ مَصْلَحَةٍ ) .(1/331)
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال , والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) . .
إنه القتال لله , لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة . القتال في سبيل الله . لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض , ولا في سبيل المغانم والمكاسب ; ولا في سبيل الأسواق والخامات ; ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس . . إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام , القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض , وإقرار منهجه في الحياة , وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم , أو أن يجرفهم الضلال والفساد , وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام , وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام .
ومع تحديد الهدف , تحديد المدى: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) . .
والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة , كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين . .
كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام , ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء . .
تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام , وتأباها تقوى الإسلام .
وهذه طائفة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصايا أصحابه , تكشف عن طبيعة هذه الآداب , التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:
ففي صحيح البخارى ( 3015 )عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِى بَعْضِ مَغَازِى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
وفي صحيح البخارى ( 2559 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ » . .
وفي صحيح البخارى( 3016 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَعْثٍ فَقَالَ « إِنْ وَجَدْتُمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ » ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ « إِنِّى أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلاَنًا وَفُلاَنًا ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا » . .
وفي سنن أبى داود ( 2668 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الإِيمَانِ ».( حسن).
وفي صحيح البخارى( 2474 ) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِىَّ قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ . .(1/332)
وفي سنن أبى داود ( 2689 ) عَنِ ابْنِ تِعْلَى قَالَ غَزَوْنَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَأُتِىَ بِأَرْبَعَةِ أَعْلاَجٍ مِنَ الْعَدُوِّ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا صَبْرًا. قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ لَنَا غَيْرُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ فِى هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ بِالنَّبْلِ صَبْرًا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ دَجَاجَةٌ مَا صَبَرْتُهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَعْتَقَ أَرْبَعَ رِقَابٍ. (حسن) -الأعلاج : جمع العلج وهو الشديد القوى على العمل.
وفي سنن أبى داود( 5082 ) عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مُسْلِمٍ التَّمِيمِىّ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ نَحْوَهُ إِلَى قَوْلِهِ « جِوَارٌ مِنْهَا ». إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ فِيهِمَا « قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا ». قَالَ عَلِىُّ بْنُ سَهْلٍ فِيهِ إِنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ وَقَالَ عَلِىٌّ وَابْنُ الْمُصَفَّى بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى سَرِيَّةٍ فَلَمَّا بَلَغْنَا الْمُغَارَ اسْتَحْثَثْتُ فَرَسِى فَسَبَقْتُ أَصْحَابِى وَتَلَقَّانِى الْحَىُّ بِالرَّنِينِ فَقُلْتُ لَهُمْ قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُحْرَزُوا فَقَالُوهَا فَلاَمَنِى أَصْحَابِى وَقَالُوا حَرَمْتَنَا الْغَنِيمَةَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرُوهُ بِالَّذِى صَنَعْتُ فَدَعَانِى فَحَسَّنَ لِى مَا صَنَعْتُ وَقَالَ « أَمَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ لَكَ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ كَذَا وَكَذَا ». قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا نَسِيتُ الثَّوَابَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا إِنِّى سَأَكْتُبُ لَكَ بِالْوَصَاةِ بَعْدِى ». قَالَ فَفَعَلَ وَخَتَمَ عَلَيْهِ فَدَفَعَهُ إِلَىَّ وَقَالَ لِى ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَاهُمْ " (حسن)
وفي سنن أبى داود ( 2614 )عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِى خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَقَالَ « إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمُ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يُجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِى يَجْرِى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِى الْفَىْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تُنْزِلْهُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ مَا يَحْكُمُ اللَّهُ فِيهِمْ وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ ». (صحيح).
وفي موطأ مالك (971 ) عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ فَخَرَجَ يَمْشِى مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ - وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْبَاعِ - فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لأَبِى بَكْرٍ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ إِنِّى أَحْتَسِبُ خُطَاىَ هَذِهِ فِى(1/333)
سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنَ الشَّعَرِ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ وَإِنِّى مُوصِيكَ بِعَشْرٍ لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلاَ صَبِيًّا وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأْكُلَةٍ وَلاَ تَحْرِقَنَّ نَحْلاً وَلاَ تُفَرِّقَنَّهُ وَلاَ تَغْلُلْ وَلاَ تَجْبُنْ. ( حسن لغيره ) -فحص : حلق رأسه.
وفي مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ ( 939 ) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَعَثَ أُمَرَاءَ الْجُنُودِ نَحْوَ الشَّامِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اغْزُوَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ ، وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَجْبُنُوا وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَلَا تُغْرِقُنَّ نَخْلًا وَلَا تُحَرِّقُنَّهَا وَلَا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً وَلَا شَجَرَةً تُثْمِرُ وَلَا تَهْدِمُوا بَيْعَةً " ( صحيح لغيره)
وفي السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ ( 15440 ) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ " أَنْ يَدْعُوَهُمْ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، وَيُنَبِّئَهُمْ بِالَّذِي لَهُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِمْ ، وَيَحْرِصَ عَلَى هُدَاهُمْ ، فَمَنْ أَجَابَهُ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ، أَحْمَرِهِمْ وَأَسْوَدِهِمْ ، كَانَ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ، بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَاتِلُ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ ، فَإِذَا أَجَابَ الْمَدْعُوُّ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَصَدَقَ إِيمَانُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَسِيبَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَرْجِعُ عَنْهُ أَنْ يَقْتُلَهُ " ( صحيح لغيره)
وفي السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ ( 16628 ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَعَثَ الْجُنُودَ نَحْوَ الشَّامِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَشُرَحْبِيلَ ابْنَ حَسَنَةَ ، قَالَ : لَمَّا رَكِبُوا مَشَى أَبُو بَكْرٍ مَعَ أُمَرَاءِ جُنُودِهِ يُوَدِّعُهُمْ حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ ، فَقَالُوا : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ، أَتَمْشِي وَنَحْنُ رُكْبَانٌ ؟ فَقَالَ : " إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . ثُمَّ جَعَلَ يُوصِيهِمْ ، فَقَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ ، اغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ ، وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَغْدِرُوا ، وَلَا تَجْبُنُوا ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَلَا تَعْصُوا مَا تُؤْمَرُونَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَادْعُوهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ ، ادْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ ، ثُمَّ ادْعُوهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ ، فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّ لَهُمْ مِثْلَ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَارُوا دَارَهُمْ عَلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ شَيْءٌ حَتَّى يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَاتِلُوهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَلَا تُغْرِقُنَّ نَخْلًا(1/334)
وَلَا تَحْرِقُنَّهَا ، وَلَا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً ، وَلَا شَجَرَةً تُثْمِرُ ، وَلَا تَهْدِمُوا بَيْعَةً ، وَلَا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلَا الشُّيُوخَ وَلَا النِّسَاءَ ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ فَدَعُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ اتَّخَذَ الشَّيْطَانُ فِي رُءُوسِهِمْ أَفْحَاصًا ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ أُولَئِكَ فَاضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " .( حسن لغيره )
فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام ; وهذه هي آدابه فيها ; وهذه هي أهدافه منها . . وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم , ولا تعتدوا , إن الله لا يحب المعتدين) . .
وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم . فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه . ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل . .
ولما فار الغضب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بحرق فلان وفلان [ رجلين من قريش ] عاد فنهى عن حرقهما , لأنه لا يحرق بالنار إلا الله .
ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم , وأخرجوهم من ديارهم , والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة , وفي أي مكان وجدوهم . باستثناء المسجد الحرام . إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال . وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم , مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم , وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه . فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) . .
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي , أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله , وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد , ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر , ويحسنها للناس بوسائل التوجيه ; بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها .
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة , وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية . .
هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام , ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني . فغاية الوجود الإنساني هي العبادة [ ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله ] . وأكرم ما في الإنسان حرية(1/335)
الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية , ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة , يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته . ومن ثم يدفعه بالقتل . .
لذلك لم يقل:وقاتلوهم . إنما قال:(واقتلوهم) . .
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) . . أي حيث وجدتموهم .
في أية حالة كانوا عليها ; وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .
ولا قتال عند المسجد الحرام , الذي كتب الله له الأمن , وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم [ عليه السلام ] وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام . . لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته , فيبدءون بقتال المسلمين عنده . وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم . . فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين , الذين يفتنون الناس عن دينهم , ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام , الذي عاشوا في جواره آمنين .
(فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) . .
والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته , هو الانتهاء عن الكفر , لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين . فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون . ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته . فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان , لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان .
وما أعظم الإسلام , وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة , ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم , الذي قتلوا منه وفتنوا , وفعلو بأهله الأفاعيل !!!
وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله , وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام , وتسلط عليهم فيه المغريات والمضللات والمفسدات . وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه , ويهابه أعداؤه , فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة , ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة . . والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة ; وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) . .
وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة , وهي التي كانت تفتن الناس , وتمنع أن يكون الدين لله , فإن النص عام الدلالة , مستمر التوجيه . والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين , وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله , والاستجابة لها عند الاقتناع , والاحتفاظ بها في أمان . والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة ; وتطلق الناس أحرارا من قهرها , يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله .(1/336)
وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة , بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل . . هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام ; وينشىء مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام . ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته , وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة , فترجح كفة العقيدة . كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء "الإنسان" . . إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه , ويؤذون مسلما بسبب إسلامه . أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله . .
وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم , وأن تقتلهم حيث وجدتهم (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) . .
وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما . وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى العصور . .
وما يزال الأذي والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان . .
وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور , وفي أي شكل من الأشكال , مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل ; وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام , فكان ميلادا جديدا للإنسان . .
فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم ; وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم ; فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين: (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) .
ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية . وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين .
ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام:
(الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم , واتقوا الله , واعلموا أن الله مع المتقين) . .
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام . وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان ; كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان . تصان فيها الدماء , والحرمات والأموال , ولا يمس فيها حي بسوء . فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها , فجزاؤه أن يحرم هو منها . والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته , فالحرمات قصاص . . ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها . فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) . .(1/337)
بلا تجاوز ولا مغالاة . . والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم . وقد كانوا يعلمون - كما تقدم - أنهم إنما ينصرون بعون الله . فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين . بعد أمرهم بالتقوى . .
وفي هذا الضمان كل الضمان . .
ــــــــــــــــــــ
50- المواظبةُ على طاعة الله بكل أشكالها في السِّرِّ والعلَن :
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78) سورة الحج
يأمُر اللهُ المؤمِنِينَ بِعِبََادَتِهِ ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاةِ ، وَبِالرُّكُوع والسجُودٍِِِ له ، وَبِفِعْلِِ الخَيْرِ ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُوصِلُُهُمْ إلَى الخَيْرِ ، لَعَلََّ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْْ إِلَى الخَيْرِ واللفَلاََحِ فيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِِ .
يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ : بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم ، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم ، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ ( وَنَصَبَ مِلَّةِ ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) ، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ، وَفي هَذَا القُرْآنِ ( مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ) . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا ، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم ، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها ، وَدفْعُ الزَّكَاةِ ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ .
( وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ " ) . " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا : بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا ، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا " ..(1/338)
وفي هاتين الآيتين يجمع المنهاج الذي رسمه الله لهذه الأمة ، ويلخص تكاليفها التي ناطها بها ، ويقرر مكانها الذي قدره لها ، ويثبت جذورها في الماضي والحاضر والمستقبل ، متى استقامت على النهج الذي أراده لها الله .
إنه يبدأ بأمر الذين آمنوا بالركوع والسجود . وهما ركنا الصلاة البارزان . ويكني عن الصلاة بالركوع والسجود ليمنحها صورة بارزة ، وحركة ظاهرة في التعبير ، ترسمها مشهداً شاخصاً ، وهيئة منظورة . لأن التعبير على هذا النحو أوقع أثراً وأقوى استجاشة للشعور .ويثني بالأمر العام بالعبادة . هي أشمل من الصلاة . فعبادة الله تشمل الفرائض كلها وتزيد عليها كذلك كل عمل وكل حركة وكل خالجة يتوجه بها الفرد إلى الله . فكل نشاط الإنسان في الحياة يمكن أن يتحول إلى عبادة متى توجه القلب به إلى الله . حتى لذائذه التي ينالها من طيبات الحياة بلفتة صغيرة تصبح عبادات تكتب له بها حسنات . وما عليه إلا أن يذكر الله الذي أنعم بها ، وينوي بها أن يتقوى على طاعته وعبادته فإذا هي عبادات وحسنات ، ولم يتحول في طبيعتها شيء ، ولكن تحول القصد منها والاتجاه!
ويختم بفعل الخير عامة ، في التعامل مع الناس بعد التعامل مع الله بالصلاة والعبادة ..يأمر الأمة المسلمة بهذا رجاء أن تفلح . فهذه هي أسباب الفلاح . . العبادة تصلها بالله فتقوم حياتها على قاعدة ثابتة وطريق واصل . وفعل الخير يؤدي إلى استقامة الحياة ، الجماعية على قاعدة من الإيمان وأصالة الاتجاه .
فإذا استعدت الأمة المسلمة بهذه العدة من الصلة بالله واستقامة الحياة ، فاستقام ضميرها واستقامت حياتها . . نهضت بالتبعة الشاقة :{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . وهو تعبير شامل جامع دقيق ، يصور تكليفاً ضخماً ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء .
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : { هو اجتباكم } . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالاً للتخلي عنها أو الفرار! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء!
وهو تكليف محفوف برحمة الله : { وما جعلنا عليكم في الدين من حرج } . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ في تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم!(1/339)
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : { ملة أبيكم إبراهيم } وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم عليه السلام فلم تنتقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .وقد سمى الله هذه الأمة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك القرآن : { هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا } . .والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : { ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهدآء على الناس } . . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .
ــــــــــــــــــــ
51- وجوبُ التحلي بمكارم الأخلاق :
قال تعالى :{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} سورة الرعد
لا يَسْتَوِي المُهْتَدِي مِنَ النَّاسِ ، الذِي يَعْلَمُ أَنَّ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقُّ ، الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ ، مَعَ الضَّالِّ ، الذِي لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ ، لأنَّهُ يَكُونُ كَالأَعْمَى لاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ ، وَلاَ يَفْهَمُهُ ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ إِلَيْهِ ، وَلاَ صَدَّقَ بِهِ وَلاَ انْتَفَعَ . ؟ فَالذِينَ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ ، وَالبَصَائِرِ المُدْرِكَةِ ( أُولُو الأَلْبَابِ ) .
وَالمُهْتَدُونَ الذِينَ سَتَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ ، فِي الدُّنْيا وَالآخِرَى ، هُمُ الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدُوا ، وَلاَ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ مَعَ عِبَادِهِ ، وَلاَ يَغْدُرُونَ بِذِمَّةٍ ، وَلا يَفْجُرُونَ وَلاَ يَخُونُونَ .وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ ، وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى ، وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ ، وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ ،(1/340)
وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ .وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصْبِرُونَ عَنِ ارْتِكَابِ المَحَارِمِ وَالمَآثِمِ ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ مُقَارَفَتِهَا طَاعةً للهِ ، وَتَقَرُّباً إِلَيْهِ ، وَطَمَعاً بِمَرْضَاتِهِ وَجَزيلِ ثَوَابِهِ ، وَيُؤَدُّونَ الصَّلاةَ حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ عَلَى مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ ، مِنْ أَقْرِبَاءَ وَمُحْتَاجِينَ وَسَائِلِينَ . . فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ ، لاَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الأَحْوَالِ ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالجَمِيلِ صَبْراً ، وَاحْتِمَالاً وَحِلْماً وَعَفْواً ، فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ حُسْنُ العَاقِبَةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .وَتِلْكَ العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ هِيَ دُخُولُ جَنَاتِ عَدْنٍ ، وَالإِقَامَةُ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، لاَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا . وَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَبْنَاءِ الصَّالِحِينَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ ، لِتَقَرَّ بِهِمْ أَعْيُنُهُمْ؛ وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ مُسْلِمِينَ مُهَنِّئِينَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ ، وَبِرِضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ .
وَتَقُولُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، وَأَمْنٌ دَائِمٌ لَكُمْ ، لَقَدْ صَبَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَاحْتَمَلْتُمُ المَشَاقَّ وَالآلاَمَ ، فَفُزْتُمْ بِرِضْوَانِ اللهِ ، فَنَعِمَتْ عَاقِبَتُكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ..
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل حركة؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة؛ ويقيمون الصلاة؛ وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وحده؛ والتي تتبع من ثم مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! . . إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله ، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله ..وآية هذا الذي نقوله استمداداً من النص القرآني هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! . . وسواء في ذلك أشكال(1/341)
الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .إن المسلم يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي؛ غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط؛ ولم ترتفع « إنسانيتها » قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .
هذه بعض المعالم البارزة في هذه السورة ، وقفنا عندها هذه الوقفات التي لا تبلغ مداها ، ولكنها تشير إليها .
ــــــــــــــــــــ
52- المسارعةُ بالتوبة من الذنوب والآثام :
قال تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( 133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 135) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 136) سورة آل عمران
َيَنْدُبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلَى القِيَامِ بِالأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ ، وَإلى المُسَارَعَةِ فِي فِعْلِ الخَيْرَاتِ ، لِيَنَالُوا مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ ، وَجَنَّتَهُ الوَاسِعَةَ العَرِيضَةَ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ ، الذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ .
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ صِفَاتِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ : إِنَّهُمُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ ، فِي الرَّخَاءِ ( السَّرَاءِ ) ، وَفِي الشِّدَّةِ ( الضَرَّاءِ ) ، وَفِي الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ ، وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ ،(1/342)
لاَ يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ مَرْضَاتِهِ ، وَإِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ غَيْظَهُمْ إذَا ثَارَ ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ . وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يَتَفَضَّلُونَ عَلَى عِبَادِهِ البَائِسِينَ ، وَيُوَاسُونَهُمْ شُكْراً للهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ . ( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ مَلأَ اللهُ جَوْفَهُ أَمْناً وَإِيمَاناً " ) .
وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ إذَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِعْلَ قَبيحٌ يَتَعَدَّى أثرُهُ إلَى غَيْرِهِمْ ( كَغَيبَةِ إِنْسَانٍ ) ، أَو صَدَرَ عَنْهُمْ ذَنْبٌ يَكُونُ مُقْتَصِراً عَلَيْهِمْ ( كَشُرْبِ خَمْرٍ وَنَحْوَهُ ) ، ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ ، وَعَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ ، فَرَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ ، طَالِبِينَ مَغْفِرَتَهُ ، وَلَمْ يُقِيمُوا عَلى القَبِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مَنْ تَابَ إلَى اللهِ ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَغَفَرَ لَهُ .
وَالمُتَّقُونَ المُتَمَتِّعُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَيهَا بِالمَغْفِرَةِ ، وَبِالأَمْرِ مِنَ العِقَابِ ، وَلَهُمْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا أَبَداً ، وَالجَنَّةُ خَيْرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ المُؤْمِنُونَ العَامِلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَاتِ
سارعوا فهي هناك : المغفرة والجنة . . { أعدت للمتقين } . .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين : { الذين ينفقون في السراء والضراء } . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص; ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال إلا دافع أقوى من شهوة المال وربقة الحرص وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق الذي تشف به الروح وتخلص وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكرراً كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
{ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } . .كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات .فالغيظ انفعال بشري تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .(1/343)
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في آفاق النور والبرد في القلب والسلام في الضمير .
{ والله يحب المحسنين } . .والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله { يحب } المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير!
والجماعة التي يحبها الله وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة وجماعة متآخية وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق!
ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين :{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . .
يا لسماحة هذا الدين! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم . ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا :
إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين . . ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين { الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } . . والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها . ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله . ولا تجعلهم في ذيل القافلة . . قافلة المؤمنين . . إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة . . مرتبة { المتقين } . . على شرط واحد . شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته . . أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء . . وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله والاستسلام له في النهاية .
فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله .إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحياناً إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع . يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه . حين يرتكب(1/344)
الفاحشة . . المعصية الكبيرة . . وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له رباً يغفر . . وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير . . إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر . فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه والحبل في يده . ما دام يذكر الله ولا ينساه ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته .إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ولا يلقيه منبوذاً حائراً في التيه! ولا يدعه مطروداً خائفاً من المآب . . إنه يطمعه في المغفرة ويدله على الطريق ويأخذ بيده المرتعشة ويسند خطوته المتعثرة وينير له الطريق ليفيء إلى الحمى الآمن ويثوب إلى الكنف الأمين .شيء واحد يتطلبه : ألا يجف قلبه وتظلم روحه فينسى الله . . وما دام يذكر الله . ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي . ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي . ما دام في قلبه ذلك الندى البليل . . فسيطلع النور في روحه من جديد وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد وستنبت البذرة الهامدة من جديد .إن طفلك الذي يخطئ ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار . . سيروح آبقاً شارداً لا يثوب إلى الدار أبداً . فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يداً حانية تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة . . فإنه سيعود!
وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه . . فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة وبجانب الثقلة رفرفة وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية . . فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد . ما دام يذكر الله ولا ينساه ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة »
والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص ولا يمجد العاثر الهابط ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف « الواقعية »! إنما هو يقيل عثرة الضعف ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار .
فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار موصدة في وجوههم الأسوار!
وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها . ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها .. . . هؤلاء المتقون ما لهم؟ { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين } ..فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية . كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس . . إنما هم عاملون . { ونعم أجر العاملين } . . المغفرة من ربهم ، والجنة(1/345)
تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله . . فهنالك عمل في أغوار النفس وهنالك عمل في ظاهر الحياة . وكلاهما عمل وكلاهما حركة وكلاهما نماء .
ــــــــــــــــــــ
53- اللجوءُ إلى الله تعالى ولا سيما عند الشدائد :
قال تعالى : قال تعالى : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } [الأنبياء/87-90]
يَذْكُرُ اللهُ تَعالى قِصَّةَ يونُسَ عليهِ السلامُ ( وهوَ ذو النُّونِ أيْ صاحبُ الحُوت ) ، وكانَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ نَبِياً إلى أَهْل نينَوَى فَدَعَاهُمْ إلى عِبَادةِ اللهِ وَحدَهُ فَأَبَوْا ، وَتَمَادَوْا في كُفْرِهم ، فَخَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِهِم مُغَاضِباً لَهُمْ ، وأَتْذَرَهُمْ بأنَّ العَذَابَ وَاقِعٌُ بِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّام ، فَلما تَحَقَّقُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَعِلمُوا أنَّ النبيَّ لا يَكْذِبُ ، خًَرَجُوا مِنَ البلدِ بأطْفَالِهم وأنْعامِهم ومَوَاشِيهِم ، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إلى اللهِ تَعَالى ، وَجأَرُوا إليهِ بالدُّعَاءِ ، فَرَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ العَذابَ ، وصَرَفَهُ عَنْهُم ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى .
أمَّا يونسُ فإنَّه تَرَكَ قَوْمَه مُغَاضِباً لَهُم ، وذَهَبَ فَرَكِبَ في سَفِينَةٍ فَاضْطَرَبَتْ وَخافَ مَنْ فِيها مِنْ غَرَقِها ، فاقْتَرعُوا على رَجُل يُلقُونهُ مِنْ بينِهم في الماءِ يَتَخفَّفُونَ مِنهُ ، فوقَعَتِ القُرْعَةُ على يُونُسَ ، فَأَبَوْا أنْ يُلْقُوهُ ، ثُمَّ أعادُوا القُرْعَةَ فَوَقَعَتْ علَيْهِ ، فَأَبَوْا ، ثمَّ أعَادُوا للمرةِ الثّالثةِ فَوَقَعَتْ عليه ، فَتَجَرَّدَ يُونُسُ مِنْ ثِيَابِهِ ، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في المَاءِ ، فالْتَقَمَهُ الحُوتُ ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ بصَاحِبِ الحُوتِ ( ذُو النُّونِ ) .
وكانَ يُونسُ يَظُنُّ أنَّ الله لَنْ يُضَيِّقَ عليْهِ في بَطْنِ الحُوتِ ، ( أو أنهُ تَعالى لنْ يَقْدِرَ عليه أَنْ يَكُونَ فِي بَطْن الحُوتِ ) فَكَانَ في بَطْنِ الحوتِ في ظُلْمَةٍ ، وفي أعْمَاقِ البَحْرِ في ظُلمَةٍ ، وفي ظَلاَمِ الليلِ في ظُلْمَةٍ ، ولذلك قَالَ تَعالى : { فنادى فِي الظلمات } ودَعاَ رَبَّهُ قائلاً : لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ .
وَقَوْله " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمّ " أَيْ أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْن الْحُوت وَتِلْكَ الظُّلُمَات" وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِد وَدَعَوْنَا مُنِيبِينَ إِلَيْنَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء فِي حَال الْبَلَاء فَقَدْ جَاءَ التَّرْغِيب فِي الدُّعَاء بِهِ عَنْ سَيِّد الْأَنْبِيَاء
قد سمي ذا النون أي صاحب الحوت لأن الحوت التقمه ثم نبذه ، وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدراً ، وغادرهم مغاضباً ، ولم يصبر على معاناة الدعوة(1/346)
معهم . ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى كثيرة ، والأقوام متعددون . وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين .
ذلك معنى { فظن أن لن نقدر عليه } أي أن لن نضيق عليه .
وقاده غضبه الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها . حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق . فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه . فالتقمه الحوت ، مضيقاً عليه أشد الضيق! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } . فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه . ولفظه الحوت على الساحل . ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات . فحسبنا هذا في هذا السياق .
إن في هذه الحلقة من قصة يونس عليه السلام لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .
إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدراً بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضباً ، ضيق الصدر ، حرج النفس؛ فاوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبيه مضايقات المكذبين . لولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه . لما فرج الله عنه هذا الضيق . ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه .
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا بتكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقاً . ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا
إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة .
. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب!
إن طريق الدعوات ليس هيناً ليناً . واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جيمع المراكز الحساسة . ومن محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلاً تاماً في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها . وإن(1/347)
الإنسان ليدهش أحياناً وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!
وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهاباً وإياباً فتخطئ المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك . فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام!
إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد ان يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد الف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال!
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس . . إنه عمل مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدئ الأعصاب . . ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين؟!
إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية! فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون!
إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .
وإن في قصة ذي النون لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه .
وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .
وإن رحمة الله لذي النون واستجابة دعائه المنيب في الظلمات لبشرى للمؤمنين :{ كذلك ننجي المؤمنين}
ثم إشارة إلى قصة زكريا ويحيى عليهما السلام واستجابة الله لزكريا دعاه :{ وزكريآ إذ نادى ربه . رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين . فاستجبنا له ، ووهبنا له يحيى ، وأصلحنا له زوجه . إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ، ويدعوننا رغباً ورهباً ، وكانوا لنا خاشعين } . .
وقصة مولد يحيى سبقت مفصلة في سورة مريم وفي سورة آل عمران . وهي ترد هنا متناسقة مع السياق . فتبدأ بدعاء زكريا : { رب لا تذرني فرداً } بلا عقب يقوم على الهيكل : وكان زكريا قائماً على هيكل العبادة في بني إسرائيل قبل مولد عيسى عليه السلام ولا ينسى زكريا أن الله هو وارث العقيدة ووارث المال : { وأنت خير الوارثين } إنما هو يريد من ذريته من يحسن الخلافة بعده في أهله ودينه وماله .وماله . لأن الخلق ستار القدرة في الأرض .
وكانت الاستجابة سريعة ومباشرة: (فاستجبنا له , ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) وكانت عقيما لا تصلح للنسل . . ويختصر السياق تفصيلات هذا كله ليصل مباشرة إلى استجابة الله للدعاء .(1/348)
(إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) . . فسارع الله في استجابة الدعاء .(ويدعوننا رغبا ورهبا) . . رغبة في الرضوان ورهبة للغضب . فقلوبهم وثيقة الصلة دائمة التطلع . (وكانوا لنا خاشعين) . . لا متكبرين ولا متجبرين . .بهذه الصفات في زكريا وزوجه وابنهما يحيى استحق الوالدان أن ينعم عليهما بالابن الصالح . فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه .
----------------
وقال تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة
قَالَ أَعْرَابِيٌّ : يَا رَسُولَ اللهِ : أَقَرِيبٌ رَبُّنا فَنُنَاجِيهِ ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَةَ ، وَفِي الحَدِيثِ : " القُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذا سَأَلْتُمُ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ "
ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالاسْتِجَابَةِ إِليهِ ، وَبِالقِيَامِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الِإيمَانِ وَالعِبَادَاتِ ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ . . لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ مِنَ المُهْتَدِينَ الرَّاشِدِينَ .
فإني قريب . . أجيب دعوة الداع إذا دعان . . أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود ، وظل هذا القرب ، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .
إضافة العباد إليه ، والرد المباشر عليهم منه . . لم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل أسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } . .إنها آية عجيبة . . آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة ، والود المؤنس ، والرضى المطمئن ، والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ ، وقربى ندية ، وملاذ أمين وقرار مكين .وفي ظل هذا الأنس الحبيب ، وهذا القرب الودود ، وهذه الاستجابة الوحية . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له ، والإيمان به ، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح . { فليستجيبوا لي ، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } . .فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك .. وهي الرشد والهدى والصلاح . فالله غني عن العالمين .
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد . فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد ، ولا ينتهي إلى رشاد . واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون . وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه . فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم .
----------------(1/349)
وقال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) } سورة الأنفال
حِينَمَا التَقَتِ الفِئَتَانِ ، المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ فِي سَاحَةِ المَعْرَكَةِ ، وَجَدَ المُسْلِمُونَ المُشْرِكِينَ كَثِيرِي العَدَدِ ، فَاسْتَغَاثَ الرَّسُولُ بِرَبِّهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أنْجِزْنِي وَعْدَكَ الذِي وَعَدْتَنِي . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ . وَفِيهَا يُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِدُعَائِهِ وَدُعَاءِ المُسْلِمِينَ ، وَأَنَّهُ سَيَمُدُّهُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَأْتُونَهُمْ مَدَداً يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، أَيْ يَأتي بَعْضُهُمْ إِثْرَ بَعْضٍ .
وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيها الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري : باب شهود الملائكة بدرا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال : « من أفضل المسلمين » - أو كلمة نحوها - قال : « وكذلك من شهد بدراً من الملائكة » . . ( انفرد بإخراجه البخاري ) . . .
{ إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم } . .
لقد استجاب لهم ربهم وهم يستغيثون ، وأنبأهم أنه ممدهم بألف من الملائكة مردفين . . ومع عظمة هذا الأمر ودلالته على قيمة هذه العصبة وقيمة هذا الدين في ميزان الله؛ إلا أن الله سبحانه لا يدع المسلمين يفهمون أن هناك سبباً ينشئ نتيجة ، إنما يرد الأمر كله إليه - سبحانه - تصحيحاً لعقيدة المسلم وتصوره . فهذه الاستجابة ، وهذا المدد ، وهذا الإخبار به . . . كل ذلك لم يكن إلا بشرى ، ولتطمئن به القلوب . أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ولا يكون . . هذه هي الحقيقة الاعتقادية التي يقررها السياق القرآني هنا ، حتى لا يتعلق قلب المسلم بسبب من الأسباب أصلاً . .لقد كان حسب المسلمين أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية؛ وأن يغالبوا الهزة الأولى التي أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعي ، وأن يمضوا في طاعة أمر الله ، واثقين بنصر الله . . كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تصرفهم وتدبرهم . . وما عدا هذا فكان بشارة مطمئنة ، وتثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر الواقعي . . وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة . ثم يجيء النصر من عند الله وحده . حيث لا يملك النصر غيره . وهو « العزيز » القادر الغالب على أمره . وهو « الحكيم » الذي يحل كل أمر محله .
----------------(1/350)
وقال تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (77) سورة الفرقان
قُلْ يا محمدُ لهؤلاءِ الذينَ أُرْسِلْتَ إليهم : إنَّ الفائزينَ بِنِعَمِ الله الجَليلةِ ، التي يَتَنَافَسُ فيها المُتنافِسُونَ إِنما نَالُوها بما ذُكِرَ من الصِّفاتِ الحميدةِ التي اتَّصَفُوا بها ، وَلَوْلاها لم يَهْتَمَّ بهم ربُّهم ، ولم يَعْتَدَّ . ولذلكَ فإنَّهُ لا يَعْبَأُ بِكُمْ إذا لم تَعْبُدُوه ، فما خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إِلا لِيَعْبُدُوا ربَّهُمْ ويُطِيعُوه وحْدَه لا شريكَ له ، وما دُمْتُمْ قد خَالَفْتُم أمرَ ربِّكم ، وَعَصَيْتُمْ حُكْمَهُ ، وكَذَّبْتُم رَسُولَهُ ، فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَر تَكْذِيبِكُمْ ، وهو العقابُ الذي لا مَنَاصَ منهُ ، فاسْتَعِدُّوا له ، وهَيِّئُوا أنفسَكُمْ لذلكَ اليومِ العصيبِ ، وهو آتٍ قَريبٌ .
فما قومه ? وما هذه البشرية كلها , لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله . وتتضرع إليه . كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون ?
من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل . والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض . والأمة واحدة من أمم هذه الأرض . والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله ?
وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا ; ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه ! وهو هين هين , ضعيف ضعيف , قاصر قاصر . إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد , وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله ; وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان . فضلا من الله الذي كرم هذا الإنسان وأسجد له الملائكة , ليعرفه ويتصل به ويتعبد له , فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة ; وإلا فهو لقي ضائع , لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان !
(قل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) . . وفي التعبير سند للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإعزاز: (قل:ما يعبأ بكم ربي) . فأنا في جواره وحماه . هو ربي وأنا عبده . فما أنتم بغير الإيمان به , والانضمام إلى عباده ? إنكم حصب جهنم (فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) .
وفي الدعاء للطبراني( 957 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ ، فَانْصَرَفَ فَأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي أَوْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ " ( حسن)(1/351)
وفي صحيح مسلم( 4687) عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ، يَقُولُ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، ح وحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، وَاللَّفْظُ لَهُ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ " ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ : فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ : أَقْدِمْ حَيْزُومُ ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ ، وَشُقَّ وَجْهُهُ ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " صَدَقْتَ ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ " ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ : " مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ " قُلْتُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا ، فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ "
وفي مصنف ابن أبي شيبة(38138) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ : هَلْ كُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ ؟ فَقَالَ : أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ مَا وَلَّى , وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنَ النَّاسِ وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ , وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ , قَالَ :(1/352)
فَانْكَشَفُوا , فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ هُنَالِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بَغْلَتَهُ , فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ : " أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ . أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ . اللَّهُمَّ نَصْرُكَ " قَالَ : كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ , وَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي يُحَاذِي بِهِ "( صحيح)
ــــــــــــــــــــ
54- إيثارُ حبِّ الله ورسوله على كل شيء
قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) } [آل عمران/31-33]
هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ حِينَ دَعَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَعْبَ بنَ الأشْرَفِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ اليَهُودِ إلى الإِيمَانِ ، فَقَالوا : ( نَحْنُ أبْنَاءُ اللهِ وَأحِبَّاؤُهُ ) . فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ ، وَفِيهَا يَأمُرُ اللهُ نَبيَّهُ الكَرِيمَ بِأنْ يَقُولَ لَهُمْ : مَنِ ادَّعَى حُبَّ اللهِ دُونَ أن يَتَّبعَ شَرْعَ مُحَمَّدٍ ، فَهُوَ غَيْرُ صَادِقٍ ، فَدِينُ اللهِ وَاحِدٌ ، وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ ، وَالأدْيَانُ يَصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضاً وَيُكَمِّلُها .وَجَاءَ دِينُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لِيَخْتِمَ الأدْيَانَ السَّابِقَةَ وَيُكَمِّلَها ، فَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَدَّعِي أحَدٌ حُبَّ اللهِ ، وَهُوَ يَكْفُرُ بِشَرْعِهِ وَمَا أنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِه . وَمَنْ يَتَّبعْ شَرْعَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَيُخْلِصْ فِي ذَلِكَ يُحْبِبْهُ اللهُ ، وَاتِّبَاعِ أمْرِهِ . وَاللهُ كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِعِبَادِهِ ، عَظِيمُ الرَّحْمَةِ بِهِمْ . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " .
-------------
هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة حَاكِمَة عَلَى كُلّ مَنْ اِدَّعَى مَحَبَّة اللَّه وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَة الْمُحَمَّدِيَّة فَإِنَّهُ كَاذِب فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْس الْأَمْر حَتَّى يَتَّبِع الشَّرْع الْمُحَمَّدِيّ وَالدِّين النَّبَوِيّ فِي جَمِيع أَقْوَاله وَأَفْعَاله كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ " وَلِهَذَا قَالَ " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه " أَيْ يَحْصُل لَكُمْ فَوْق مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتكُمْ إِيَّاهُ وَهُوَ مَحَبَّته إِيَّاكُمْ وَهُوَ أَعْظَم مِنْ الْأَوَّل كَمَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْحُكَمَاء : لَيْسَ الشَّأْن أَنْ تُحِبّ إِنَّمَا الشَّأْن أَنْ تُحَبّ .
وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْره مِنْ السَّلَف : زَعَمَ قَوْم أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّه فَابْتَلَاهُمْ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه "
مَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِكُلِّ أَحَد مِنْ خَاصّ وَعَامّ " قُلْ أَطِيعُوا اللَّه وَالرَّسُول فَإِنْ تَوَلَّوْا " أَيْ تُخَالِفُوا عَنْ أَمْره " فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْكَافِرِينَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَته فِي الطَّرِيقَة كُفْر وَاَللَّه لَا يُحِبّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ وَإِنْ اِدَّعَى وَزَعَمَ فِي نَفْسه أَنَّهُ مُحِبّ لِلَّهِ وَيَتَقَرَّب إِلَيْهِ حَتَّى يُتَابِع الرَّسُول النَّبِيّ الْأُمِّيّ خَاتَم الرُّسُل وَرَسُول اللَّه إِلَى جَمِيع الثَّقَلَيْنِ الْجِنّ وَالْإِنْس الَّذِي لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاء بَلْ الْمُرْسَلُونَ بَلْ أُولُو الْعَزْم مِنْهُمْ فِي زَمَانه مَا وَسِعَهُمْ إِلَّا اِتِّبَاعه وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَاتِّبَاع شَرِيعَته .(1/353)
إن حب الله ليس دعوى باللسان ، ولا هياماً بالوجدان ، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله ، والسير على هداه ، وتحقيق منهجه في الحياة . . وإن الإيمان ليس كلمات تقال ، ولا مشاعر تجيش ، ولا شعائر تقام . ولكنه طاعة لله والرسول ، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول . .
يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى : « هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية . فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : » من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « .ويقول عن الآية الثانية : { قل أطيعوا الله والرسول . فإن تولوا } . . أي تخالفوا عن أمره - { فإن الله لا يحب الكافرين } . . فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ..ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه : زاد المعاد في هدى خير العباد :« ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وأنه صادق ، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام . . علم أن الإسلام أمر وراء ذلك ، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط . ولا المعرفة والإقرار فقط بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً . . »
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها . . حقيقة الطاعة لشريعة الله ، والاتباع لرسول الله ، والتحاكم إلى كتاب الله . . وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام . توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها ، وتطوّعهم لأمرها ، وتنفذ فيهم شرعها ، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها . ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعاً ، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله . وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير .
--------------
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (165) سورة البقرة
وَمَعَ قِيَامِ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الكُفَّارِ يَتَّخِذُونَ للهِ شُرَكَاءَ وَأَمْثَالاً ( أَنْدَاداً ) يَعْبُدُونَهُمْ مَعَهُ ، وَيُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ ، وَهُوَ اللهُ الذِي لاَ مَثِيلَ لَهُ ، وَلاَ شَرِيكَ مَعَهُ . أَمَّا الذِينَ آمَنُوا فَإِنَّهُم يَعْبُدُونَ اللهُ وَحْدَهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، وَيُحِبُّونَهُ وَحْدَهُ ، وَهُمْ أَشَدُّ حُبَاً للهِ مِنْ أَيِّ شَيءٍ آخَرَ . وَحِينَ يَرَى المُشْرِكُونَ العَذَابَ الشَّديدَ الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالكُفَّارِ ، فَتَتَقَطَّعُ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، وَلاَ تُغْنِي عَنْهُم الأَنْدَادُ ، يُدْرِكُونَ حِينَئِذٍ أنَّ القُوَّةَ جَميعَهَا للهِ ، وَأَنَّ الحُكْمَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ .(1/354)
من الناس من يتخذ من دون الله انداداً . . كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجاراً وأشجاراً ، أو نجوماً وكواكب ، أو ملائكة وشياطين . . وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات . . وكلها شرك خفي أو ظاهر ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله ، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله ، فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله؟
إن المؤمنين لا يحبون شيئاً حبهم لله . لا أنفسهم ولا سواهم . لا أشخاصاً ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيماً من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس :{ والذين آمنوا أشد حباً لله } . .أشد حباً لله ، حباً مطلقاً من كل موازنة ، ومن كل قيد . أشد حباً لله من كل حب يتجهون به إلى سواه .
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل ، فوق أنه تعبير صادق . فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب . صلة الوشيجة القلبية ، والتجاذب الروحي . صلة المودة والقربى . صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود
{ ولو يرى الذين ظلموا - إذ يرون العذاب - أن القوة لله جميعاً ، وأن الله شديد العذاب . إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب . وقال الذين اتبعوا : لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا! كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، وما هم بخارجين من النار } . .أولئك الذين اتخذوا من دون الله انداداً . فظلموا الحق ، وظلموا أنفسهم . . لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين! لو يرون لرأوا { أن القوة لله جميعاً } فلا شركاء ولا أنداد . . { وأن الله شديد العذاب } .لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين . ورأوا العذاب . فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب ، وانشغل كل بنفسه تابعاً كان أم متبوعاً . وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها ، وعجزت عن وقاية أنفسها فضلاً عن وقاية تابعيها . وظهرت حقيقة الألوهية الواحدة والقدرة الواحدة ، وكذب القيادات الضالة وضعفها وعجزها أمام الله وأمام العذاب .
ــــــــــــــــــــ
55- لا يلهيهم شيءٌ عن أداء رسالتهم في الأرض
قال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) } سورة النور(1/355)
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مَثَلَ نُورِهِ لِعِبَادِهِ ، وَهِدَايَتَهُ إِيَّاهُمْ ، أَرَادَ هُنَا بَيَانَ حَالِ مَنْ اهْتَدَوا بِذَلِكَ النُّورِ ، وَصِفَاتِهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّ حَالَ هَؤُلاءِ المُهْتَدِينَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ ( كاللَّغْو والرَّفثِ فِي الحَدِيثِ ) كَمَثَلِ القَنْدِيلِ فِي المِصْبَاحِ المُضِيءِ ، الدُّرِي المُقَام فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ التي أُقِيمَتْ لِعِبَادَة اللهِ تَعَالَى فِيهَا ، وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مُنَزَّهَةٌ ، يَقُومُ فِيهَا بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ يُنَزِّهُونَ الله تَعَالَى فِيهَا وَيُقَدِّسُونَه فِي أَوائِلِ النَّهَارِ ( الغُدُوِّ ) وَفِي آخِرِهِ ( الآصَالِ ) .
وَهَؤُلاءِ الرِّجَالُ ، الذينَ يَعْمُرُونَ بُيُوتَ اللهِ ، هُمُ رِجَالٌ أَصْحَابُ هِمَمٍ وَعَزَائِمَ لاَ يُلْهِيهِمْ شَيءٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ، وإِقَامِ الصَّلاَةِ : لاَ تِجَارَةٌ ، وَلاَ بَيْعٌ ، وَلاَ تَشْغَلُهُم الدُّنْيا وَزُخْرُفُهَا ، وَزِينَتُها ، وَمَلاذُّهَا ، وَلاَ بَيْعُها ، ولاَ رِبْحُها . . عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الذي عَنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُمْ وأَنْفَعُ مِمَا بِأَيْدِيهِمْ ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ طَاعَةَ رَبِّهِمْ وَمَحَبَّتَه عَلَى مُرَادِهِم وَمَحَبَّتِهِمْ ، فَلاَ شَيءَ يُلْهِيهِم عَنْ أَنْ يُؤدُّوا الصَّلاَةَ فِي وَقْتِهَا ، لأَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَومَ القِيَامَةِ الذي تتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ ، وَعِظَمِ الهَوْلِ .
وَهَؤُلاَءِ هُمُ الذينُ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالَى حَسَنَاتِهِمْ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، فَيُضَاعِفُ لَهُمُ الحَسَنَاتِ ( وَيَزِيدُهُم مِنْ فَضْلِهِ ) ، وَهُوَ تَعَالَى يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَبِدُونَ تَحْدِيدٍ فَهُوَ الكَرِيمُ الجَوَادُ .
بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله : { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى .و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " .والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس .
أى : هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخرة ، وفى غير ذلك من الأوقات .وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات .وقوله - تعالى - : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } مدح وتكريم لهؤلاء الرجال .
أى : يسبح الله - تعالى - فى تلك المساجد بالغدو والآصال ، رجال من شأنهم ومن صفاتهم ، أنهم لا يشغلهم ، " تجارة " مهما عظمت ، " ولا بيع " ، مهما اشتدت حاجتهم إليه " عن ذكر الله " أى : عن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده وطاعته .(1/356)
ولا تشغلهم - أيضا - هذه التجارات والبيوع عن " إقام الصلاة " فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وعن " إيتاء الزكاة " للمستحقين لها .
وذلك لأنهم " يخافون يوما " هائلا شديدا هو يوم القيامة الذى " تتقلب فيه القلوب والأبصار " أى تضطرب فيه القلوب والأبصار فلا تثبت من شدة الهول والفزع .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى حملتهم على الإكثار من هذه الطاعات فقال { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } .أى : إنهم يكثرون من تسبيح الله بالغدو والآصال ، دون أن يشغلهم عن ذلك أى شاغل ، لأنهم يرجون منه - سبحانه - أن يجزيهم أحسن الجزاء على أعمالهم ، وأن يزيدهم من فضله وإحسانه ، بما يليق بكرمه وامتنانه ." والله " - تعالى - " يرزق من يشاء " أن يرزقه " بغير حساب " أى : بدون حدود ، ولا قيود ، وبدون حصر لما يعطيه ، لأن خزائنه لا تنقص ولا تنفد ، حتى يحتاج إلى عد وحساب لما يخرج منها .فالجملة الكريمة تذييل قصد به التقرير للزيادة التى يتطلع إليها هؤلاء الرجال الصالحون ، ووعد منه - عز وجل - بأنه سيرزقهم رزقا يزيد عما يتوقعونه .
وبذلك نرى الآيات قد طوفت بنا مع نور الله - عز وجل - ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذى جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار ، الذين يكثرون من طاعة الله - تعالى - فى بيوته التى أمر برفعها ، دون أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وبشرتهم بالعطاء الواسع الذى سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه .
ــــــــــــــــــــ
56- تلاوة كتاب الله حق تلاوته
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } سورة فاطر
إِنَ عِبَادَ اللهِ المُؤْمِنينَ الذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ : مِنْ إِقامَةِ الصَّلاةِ وأَدائها بِخُشُوعِها ، وَإِتْمَامِها بِرُكُوعِها وسُجُودِها ، وَمِنَ الإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ سِراً وَعَلاَنِيةً فِي سَبيلِ اللهِ عَلَى الفُقَراءِ والمُحْتَاجِينَ ، وفيمَا فِيهِ خيرُ الجَمَاعَةِ المُسلِمَةِ ، إِنَّ هؤلاءِ العِبَادَ المُؤْمِنينَ ، الذِينَ يَقُومُونَ بِذَلِكَ ، يَرْجُونَ الثَّوَابَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ ، عِنْدَ اللهِ ، وَسَتَكُونُ تِجَارَتُهُمْ رَابِحَةً عِندَ اللهِ ، وَلَنْ تَكْسُدَ .
وَيَرْجُونَ أَنْ يَحْزِيَهُمُ اللهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى عَلَى أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةِ ، وَأَنْ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، فَيَتجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهَفَواتِهِمْ ، وَيَضَاعِفَ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى سَبعِمِئَةِ ضِعْفٍ ، وَاللهُ تَعَالى غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ ، شَكُورٌ لِلْقَلِيلِ مِنَ الأَعمالِ الصَّالِحةِ .(1/357)
وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت . تعني تلاوته عن تدبر ، ينتهي إلى إدراك وتأثر ، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك . ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة ، وبالإنفاق سراً وعلانية من رزق الله . ثم رجاؤهم بكل هذا { تجارة لن تبور } . . فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون . ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح . يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة؛ ويتاجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة . . تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم ، وزيادتهم من فضل الله . { إنه غفور شكور } . . يغفر التقصير ويشكر الأداء . وشكره تعالى كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء . ولكن التعبير يوحي للبشر بشكر المنعم . تشبهاً واستحياء . فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!
وفي صحيح البخارى(5027 )عَنْ عُثْمَانَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ » .
وفي سنن الترمذى(3162 ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفي سنن الترمذى( 3176)عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِى عَنْ مَسْأَلَتِى أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِى السَّائِلِينَ وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ». قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وفي صحيح مسلم (1898 )عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ ».
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ ، وَذِكْرِ اللهِ ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ " رواه ابن حبان في صحيحه في حديث طويل(361 ) وهو حسن لغيره
وفي مصنف ابن أبي شيبة(30677)عَن زُبَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللهِ : الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ومَاحِلٌ مُصَدَّقٌ ، فَمَنْ جَعَلَهُ إمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ قَادَهُ إِلَى النَّارِ.( صحيح )
وفي صحيح ابن حبان(124) عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : الْقُرْآنُ مُشَفَّعٌ ، وَمَا حِلٌ مُصَدَّقٌ ، مَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ.ماحل بكسر الحاء المهملة أي ساع وقيل خصم مجادل(1/358)
وفي سنن أبى داود (1455 )عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِى بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِى عَمِلَ بِهَذَا ».( حسن لغيره)
وفي صحيح البخارى(73 ) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ، فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا » .
ــــــــــــــــــــ
57- التجارةُ التي تنجي من العذاب الأليم :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف/10-14]}
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ بِاللهِ ، وَالمُصَدِّقُونَ بِرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَآيَاتِهِ ، أَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلِّكُمْ عَلَى صَفَقَةٍ رَابِحَةٍ ، وَتِجَارَةٍ نَافِعَةٍ ، تَفُوزُونَ فِيهَا بِالرِّبْحِ العَظِيمِ ، وَتْنْقِذُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ الأَلِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟
وَهِذِهِ الصَّفَقَةُ هِيَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَتَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَتَصَدِّقُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا أَنْزَلَهَ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ وَتُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ رَفْعِ كَلِمَةِ اللهِ ، وَعِزَّةِ دِينِهِ ، بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَكُمْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ فِي الدُّنْيَا : مِنَ النَّفْسِ وَالمَالِ وَالزَّوْجِ وَالوَلَدِ ، هَذَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّهُ اللهَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ المُجَاهِدِينَ فِي الآخِرَةِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ .
وَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ سَتَرَ اللهُ ذُنُوبِكُمْ وَمَحَاهَا ، وَأَدْخَلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا ، وَأَسْكَنَكُمْ مَسَاكِنَ طَيِبةً تَقَرُّ بِهَا العُيُونَ ، وَهَذا هُوَ مُنْتَهَى ما تَصْبُوا إِليهِ النُّفُوسُ ، وَهُوَ الفَوْزُ الذِي لاَ فَوْزَ أَعْظَمَ مِنْهُ
وَلَكُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ، مَعَ الفَوْزِ فِي الآخِرَةِ ، الذِي وَعَدَكُمْ اللهُ بِهِ ، نِعْمَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَها ، وَهِيَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، تَجْنُونَ مَغَانِمَهُ ، وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُؤْمِنينَ بِهَذَا الجَزَاءِ
وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل , واستفهام وجواب , وتقديم وتأخير , صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية .(1/359)
يبدأ بالنداء باسم الإيمان: يا أيها الذين آمنوا . . يليه الاستفهام الموحي . فالله - سبحانه - هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ?) . .
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة ? وهنا تنتهي هذه الآية , وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق . ثم يجيء الجواب وقد ترقبته القلوب والأسماع: (تؤمنون بالله ورسوله) . . وهم مؤمنون بالله ورسوله . فتشرق قلوبهم عند سماع شطر الجواب هذا المتحقق فيهم ! (وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) . . وهو الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السورة , يجيء في هذا الأسلوب , ويكرر هذا التكرار , ويساق في هذا السياق . فقد علم الله أن النفس البشرية في حاجة إلى هذا التكرار , وهذا التنويع , وهذه الموحيات , لتنهض بهذا التكليف الشاق , الضروري الذي لا مفر منه لإقامة هذا المنهج وحراسته في الأرض . . . ثم يعقب على عرض هذه التجارة التي دلهم عليها بالتحسين والتزيين: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) . . فعلم الحقيقة يقود من يعلم إلى ذلك الخير الأكيد . . ثم يفصل هذا الخير في آية تالية مستقلة , لأن التفصيل بعد الإجمال يشوق القلب إليه , ويقره في الحس ويمكن له: (يغفر لكم ذنوبكم) . . وهذه وحدها تكفي . فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء ? أو يدخر في سبيلها شيئا ? ولكن فضل الله ليست له حدود: (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن) . . وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة - حتى حين يفقد هذه الحياة كلها - ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه المساكن في نعيم مقيم . . وحقا . . (ذلك الفوز العظيم) . .وكأنما ينتهي هنا حساب التجارة الرابحة . وإنه لربح ضخم هائل أن يعطي المؤمن الدنيا ويأخذ الآخرة . فالذي يتجر بالدرهم فيكسب عشرة يغبطه كل من في السوق . فكيف بمن يتجر في أيام قليلة معدودة في هذه الأرض , ومتاع محدود في هذه الحياة الدنيا , فيكسب به خلودا لا يعلم له نهاية إلا ما شاء الله , ومتاعا غير مقطوع ولا ممنوع ?
لقد تمت المبايعة على هذه الصفقة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - ليلة العقبة . قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"اشترط لربك ولنفسك ما شئت" . فقال - صلى الله عليه وسلم - :" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا , وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " قالوا:" ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل" !
ولكن فضل الله عظيم . وهو يعلم من تلك النفوس أنها تتعلق بشيء قريب في هذه الأرض , يناسب تركيبها البشري المحدود . وهو يستجيب لها فيبشرها بما قدره في علمه المكنون من إظهار هذا الدين في الأرض , وتحقيق منهجه وهيمنته على الحياة في ذلك الجيل:(وأخرى تحبونها:نصر من الله وفتح قريب . وبشر المؤمنين) . .وهنا تبلغ الصفقة ذروة الربح الذي لا يعطيه إلا الله . الله الذي لا تنفد خزائنه , والذي لا ممسك لرحمته . فهي المغفرة والجنات والمساكن الطيبة والنعيم المقيم في الآخرة .(1/360)
وفوقها . . فوق البيعة الرابحة والصفقة الكاسبة النصر والفتح القريب . . فمن الذي يدله الله على هذه التجارة ثم يتقاعس عنها أو يحيد ?!
وهنا يعن للنفس خاطر أمام هذا الترغيب والتحبيب . . إن المؤمن الذي يدرك حقيقة التصور الإيماني للكون والحياة ; ويعيش بقلبه في هذا التصور ; ويطلع على آفاقه وآماده ; ثم ينظر للحياة بغير إيمان , في حدودها الضيقة الصغيرة , وفي مستوياتها الهابطة الواطية , وفي اهتماماتها الهزيلة الزهيدة . . هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة واحدة بغير ذلك الإيمان , ولا يتردد لحظة واحدة في الجهاد لتحقيق ذلك التصور الضخم الوسيع الرفيع في عالم الواقع , ليعيش فيه , وليرى الناس من حوله يعيشون فيه كذلك . . ولعله لا يطلب على جهاده هذا أجرا خارجا عن ذاته . فهو ذاته أجر . . هذا الجهاد . . وما يسكبه في القلب من رضى وارتياح . ثم إنه لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان . ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان . فهو مدفوع دفعا إلى الجهاد . كائنا مصيره فيه ما يكون . .ولكن الله - سبحانه - يعلم أن النفس تضعف , وأن الاندفاع يهبط , وأن الجهد يكل وأن حب السلامة قد يهبط بتلك المشاعر كلها ويقودها إلى الرضى بالواقع الهابط . .ومن ثم يجاهد القرآن هذه النفس ذلك الجهاد ; ويعالجها ذلك العلاج , ويهتف لها بالموحيات والمؤثرات ذلك الهتاف المتكرر المتنوع , في شتى المناسبات . ولا يكلها إلى مجرد الإيمان , ولا إلى نداء واحد باسم هذا الإيمان .
ــــــــــــــــــــ
58- أن يكونوا أنصاراً لله :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) }[الصف/14]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِأَنْ يَكُونُوا أَنْصَاراً للهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ : بِأَقْوالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ ، كَمَا اسْتَجَابَ الحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى حِينَمَا سَأَلَهُمْ : مَنْ يُعِينُني فِي الدُّعْوَةِ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ لَهُ الحُوَارِيُّونَ : إِنَّهُمْ أَنْصَارُ اللهِ ، وَإِنَّهُمْ سَيُعِينُونَهُ وَسَيُؤَازِرُونَهُ فِيمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ إِبْلاَغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ ، فآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِرِسَالَةِ عِيسَى ، وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَجَحَدَتْ نُبُوَّتَهُ ، وَرَمَتْهُ وَأَمَّهُ بالبُهْتَانِ ، وَغَلَتْ فِرَقٌ مِنْهُمْ فِي عِيسَى ، فَقَالُوا : إِنَّهُ اللهُ ، أَوْ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ ، أَوْ إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ، وَرَفَعُوهُ مَرْتَبةِ النُّبُوَّةِ . فَأَيَّدَ اللهُ المُؤْمِنينَ المُخْلِصِينَ بِرِسَالَةِ عِيسَى بِنَصْرِهِ ، وَأَظْهََرَهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ .
والحواريون هم تلاميذ المسيح - عليه السلام - قيل:الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به , وينقطعون للتلقي عنه . وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه .(1/361)
والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة , فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من السورة .
(يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) . . في هذا الموضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله . وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيرا للرب ?! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم . . كونوا أنصار الله , (كما قال عيسى بن مريم للحواريين:من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون:نحن أنصار الله) . . فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم . وعيسى جاء ليبشر بالنبي الجديد والدين الأخير . . فما أجدر أتباع محمد أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم , كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت ! وهذه هي اللمسة الواضحة في عرض هذا الحوار في هذا السياق .
وماذا كانت العاقبة ?
(فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة , فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) . .
وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين:إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام هم المسيحيون إطلاقا من استقام ومن دخلت في عقيدته الانحرافات , وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ . وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد . ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان . أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير ; وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ . وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في هذا السياق .
والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها , وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير , الأمناء على منهج الله في الأرض , ورثة العقيدة والرسالة الإلهية . المختارين لهذه المهمة الكبرى . استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه (كما قال عيسى بن مريم للحواريين:من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون:نحن أنصار الله) . . والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين .
إنها الجولة الأخيرة في السورة , واللمسة الأخيرة في السياق ; وهي ذات لون وذات طعم يناسبان جو السورة وسياقها , مع ما فيها من تجدد في اللون وتنوع في المذاق .
ــــــــــــــــــــ
59- إقامةُ العدل بكل أشكاله وصوره(1/362)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) } [المائدة/8، 9]
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِيَكُنْ هَمَّكُمْ وَدَأبُكُمُ التِزَامَ الحَقِّ فِي أَنْفُسِكُمْ ( بِدُونِ اعْتِدَاءٍ عَلَى أَحَدٍ ) ، وَفِي غَيْرِكُمْ ( بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ابْتَغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَحْدَهُ ، لاَ لأجْلِ إِرْضَاءِ النَّاسِ ، وَاكْتِسَابِ السُّمْعَةِ الحَسَنَةِ عِنْدَهُمْ ) ، وَكُونُوا شُهَدَاءَ بِالعَدْلِ ( القِسْطِ ) ، دُونَ مُحَابَاةٍ لِمَشْهُودٍ لَهُ ، وَلاَ لِمَشْهُودٍ عَلَيهِ ، فَالعَدْلُ مِيزَانُ الحُقُوقِ ، وَمَتَى وَقعَ الجُورُ فِي أُمًّةٍ ، زَالَتِ الثِّقَةُ مِنْ نُفُوسِ النَّاسِ ، وَانْتَشَرَتِ المُفَاسِدُ ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُ المُجْتَمَعِ . وَلاَ تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتُكُمُ الشَّدِيدَةُ لِقَوْمٍ ، وَبُغْضُكُمْ لَهُمْ عَلَى عَدَمِ العَدْلِ فِي أَمْرِ الشَّهَادَةِ لَهُمْ بِحَقِّهِمْ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ حَقٍّ ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الحُكْمِ لَهُمْ بِذَلِكَ ، فَالمُؤْمِنُ يُؤْثِرُ العَدْلَ علَى الجُورِ وَالمُحَابَاةِ . ثُمَّ يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ السَّابِقَ بِضَرُورَةِ إِقَامَةِ العَدْلِ ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالقِسْطِ فَيَقُولُ : اعْدِلُوا لأنَّ العَدْلَ أَقْرَبُ لِتَقْوَى اللهِ ، وَأبْعَدُ عَنْ سَخْطِهِ ، وَاتَّقُوا سَخَطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لأنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا ، وَاحْذَرُوا أنْ يُجَازِيَكُمْ بِالعَدْلِ عَلَى تَرْكِكُمُ القِيَامَ بِالعَدْلِ .
وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . . وَعَمِلُوا الأعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي يَرْضَاهَا رَبُّهُمْ ( مِثْلَ العَدْلِ ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ ، وَالنَّهِي عنِ المُنْكَرِ ، وَمُرَاعَاةِ جَانِبِ اللهِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي رَوَابِطِهِم الاجْتِمَاعِيَّةِ ) ، بِأنَّهُ سَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَيُثِيبُهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ ، وَهُوَ الجَزَاءُ المُضَاعَفُ عَلى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، فَضْلاً مِنْهُ وَرَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ .
لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء . وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم . فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل . . وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق . فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء . فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين!
والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة . فيقدم له بما يعين عليه :{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله . . . } ويعقب عليه بما يعين عليه أيضاً :{ واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون } . .(1/363)
إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط ، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله . حين تقوم لله ، متجردة عن كل ما عداه . وحين تستشعر تقواه ، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور .
وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ، ويثبتها عليه . وما غير القيام لله ، والتعامل معه مباشرة ، والتجرد من كل اعتبار آخر ، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى .
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين ، كما يكفله لهم هذا الدين؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر؛ وأن يتعاملوا معه ، متجردين عن كل اعتبار .
وبهذه المقوّمات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعاً - معتنقيه وغير معتنقيه - أن يتمتعوا في ظله بالعدل؛ وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه ، يتعاملون فيها مع ربهم ، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن . .
وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية . مهما يكن فيها من مشقة وجهاد .
ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة؛ وأدت تكاليفها هذه؛ يوم استقامت على الإسلام . ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا ، ولكنها كانت واقعاً من الواقع في حياتها اليومية ، واقعاً لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة . . والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة . تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية ، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجاً في عالم الواقع يؤدى ببساطة ، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة .
. إنها لم تكن مثلاً عليا خيالية ، ولا نماذج كذلك فردية . إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقاً آخر سواه .وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها - بما فيها جاهلية العصور الحديثة - ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر ، ومناهج يصنعها الناس للناس . ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة
إن الناس قد يعرفون المبادىء؛ ويهتفون بها . . ولكن هذا شيء ، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر . . وهذه المبادىء التي يهتف بها الناس للناس طبيعي ، ألا تتحقق في عالم الواقع . . فليس المهم أن يُدعى الناس إلى المبادىء؛ ولكن المهم هو من يدعوهم إليها . . المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة . . المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر . . المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادىء . .(1/364)
وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادىء التي تدعو إليها ، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله ، فما يقوله فلان وعلان علام يستند؟ وأي سلطان له على النفوس والضمائر؟ وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادىء؟
يهتف ألف هاتف بالعدل . وبالتطهر . وبالتحرر . وبالتسامي . وبالسماحة . وبالحب . وبالتضحية . وبالإيثار . . . ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس؛ ولا يفرض نفسه على القلوب . لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان!
ليس المهم هو الكلام . . ولكن المهم من وراء هذا الكلام!
ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادىء والمثل والشعارات - مجردة من سلطان الله - ولكن ما أثرها؟ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم . تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور . فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس . فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان! ولا يكون لها في كيانهم من هزة ، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر!
ثم إن قيمة هذه « الوصايا » في الدين ، أنها تتكامل مع « الإجراءات » لتكييف الحياة . فهو لا يلقيها مجردة في الهواء . . فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا؛ وإلى مجرد شعائر؛ فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق! كما نرى ذلك الآن في كل مكان . .إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه . ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات! . . وهذا هو « الدين » في المفهوم الإسلامي دون سواه . . الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة .
وحين تحقق « الدين » بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء . . وحين تحول « الدين » إلى وصايا على المنابر؛ وإلى شعائر في المساجد؛ وتخلى عن نظام الحياة . . لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة!
ولا بد من جزاء للمؤمنين من الله ، الذي يتعاملون معه وحده؛ يشجع ويقوي على النهوض بتكاليف القوامة؛ وعلى الوفاء بالميثاق . ولا بد أن يختلف مصير الذين كفروا وكذبوا عن مصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله :{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم مغفرة وأجر عظيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
إنه الجزاء الذي يعوض الخيرين عما يفوتهم من عرض الحياة الدنيا - وهم ينهضون بالتكاليف العليا - والذي تصغر معه تكاليف القوامة على أهواء البشرية وعنادها ولجاجها في هذه الأرض . . ثم هو العدل الإلهي الذي لا يسوي بين جزاء الخيرين وجزاء الأشرار!(1/365)
ولا بد من تعليق قلوب المؤمنين وأنظارهم بهذا العدل وبذلك الجزاء . لتتعامل مع الله متجردة من كل النوازع المعوقة من ملابسات الحياة . . وبعض القلوب يكفيها أن تشعر برضاء الله؛ وتتذوق حلاوة هذا الرضى؛ كما تتذوق حلاوة الوفاء بالميثاق . . ولكن المنهج يتعامل مع الناس جميعاً . مع الطبيعة البشرية والله يعلم من هذه الطبيعة حاجتها إلى هذا الوعد بالمغفرة والأجر العظيم . وحاجتها كذلك إلى معرفة جزاء الكافرين المكذبين! إن هذا وذلك يرضي هذه الطبيعة . يطمئنها على مصيرها وجزائها؛ ويشفي غيظها من أفاعيل الشريرين! وبخاصة إذا كانت مأمورة بالعدل مع من تكره من هؤلاء! بعد أن تلقى منهم ما تلقى من الكيد والإيذاء . . والمنهج الرباني يأخذ الطبيعة البشرية بما يعلمه الله من أمرها؛ ويهتف لها بما تتفتح له مشاعرها ، وتستجيب له كينونتها . . ذلك فوق أن المغفرة والأجر العظيم دليل رضى الله الكريم؛ وفيهما مذاق الرضى فوق مذاق النعيم .
-------------------
وقال تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (152) سورة الأنعام
وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى ، فِي هَذِهِ الآيَةِ ، بَيَانَ مَا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ ، وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ، فَيَقُولُ تَعَالَى : وَمِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ : ألاَّ يَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ ، إذَا وَلُّوا أَمْرَهُ ، أَوْ تَعَامَلُوا مَعَهُ ، إلاَّ بِالطَّرِيقَةِ الحَسَنَةِ ( إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ) التِي تَحْفَظُ مَالَهُ ، وَتُثَمِّرُهُ ، وَتُرَجِّحُ مَصْلَحَتَهُ ، وَأَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ اليَتِيمُ سِنَّ الرُّشْدِ ، وَالقُوَّةِ وَالقُدّرَةِ عَلَى الإِدْرَاكِ وَالتَّصَرُّفِ .
وَلَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، فَأَخَذُوا فِي عَزْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَطَعَامِهِ ، عَنْ مَالِهِمْ ، فَكَانَ طَعَامُ اليَتِيمِ يَفْسَدُ ، لاَ يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُمْ . فَشَكَوا ذَلِكَ لِلْنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ . } فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ النَّاسَ بِمُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ اليَتِيمِ ، وَالعِنَايَةِ بِمَالِهِ ، وَعَدَمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ إلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَيُحَذِّرَهُمْ تَعَالَى مِنَ التَّجَاوُزِ عَلَى مَالِ اليَتِيمِ .وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا أَوْصَى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً : إِيفَاءَ الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ عِنْدَ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَعَدَمَ غَمْطِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَاللهُ تَعَالَى يَدْعُو المُؤْمِنَ أَنْ يَبْلُغَ جُهْدَهُ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ ، فَإِذَا بَلَغَ جُهْدَهُ ، وَعَمِلَ مَا فِي وُسْعِهِ ، يَكُونُ قَدْ قَامَ بِأَمْرِ اللهِ ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ إِن أَخَطَأَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لأنَّ اللهَ لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها ، وَقَدرَ طَاقَتِهَا .وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّ مِمَّا وَصَّى بِهِ النَّاسَ أَيْضاً العَدْلُ فِي القَوْلِ واَلفِعْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَفِي كُلِّ حَالٍ : فِي الشَّهَادَةِ وَفِي الحُكْمِ وَفِي الكَيْلِ وَالمِيْزَانِ ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِقَرِيبٍ ، فَإِنَّ القَرَابَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَجِبُ ألاَّ تَصْرِفَا الإِنْسَانَ عَنْ قَوْلِ الحَقِّ ، وَعَنِ العَدْلِ فِيهِ .(1/366)
كَمَا يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِعَهْدِ اللهِ ، وَالقِيَامِ بِطَاعَتِهِ ، فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى ، وَفِيمَا عَاهَدُوا النَّاسَ عَلَيْهِ
وَهَذَا مَا أَوْصَى بِهِ اللهُ المُؤْمِنِينَ ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ ، وَأَكَّدَ عَلَيهِ .وَيَقُولُ تَعَالَى : إذَا اجْتَهَدْتُمْ بِالوَفَاءِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ، وَتَوَاصَيْتُمء بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَيْتُمْ عَنِ المُنْكَرِ ، فَلَعَلَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ تَتَّعِظُونَ ، وَتَنْتَهُونَ عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ .
واليتيم ضعيف في الجماعة ، بفقده الوالد الحامي والمربي ، ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة- على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي - وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية . وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشياً في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه؛ حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه؛ فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود . حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة . وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه :{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } .
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم . فيصونه وينميه ، حتى يسلمه له كاملاً نامياً عند بلوغه أشده . أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية . ليحمي ماله ، ويحسن القيام عليه . وبذلك تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً؛ وسلمته حقه كاملا .وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد . . عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك ، بلوغ الحلم ، وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما . وعند السدي ثلاثون ، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد .
{ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - } .وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف ، والسياق يربطها بالعقيدة؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة . والذي يوصي بها ويأمر هو الله . ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية ، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة ، وعلاقتها بكل جوانب الحياة . .ولقد كانت الجاهليات - كما هي اليوم - تفصل بين العقيدة والعبادات ، وبين الشرائع والمعاملات .. من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب : { قالوا : يا شعيب ، أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء ، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة ، للدلالة على طبيعة هذا الدين ، وتسويته بين العقيدة والشريعة ، وبين العبادة والمعاملة ، في أنها كلها من مقومات هذا الدين ، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل(1/367)
{ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } . .وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه الله ابتداء - إلى مستوى سامق رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري . الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد؛ بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل؛ وفي قوة القرابة سند لضعفه؛ وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أوعليهم ، أو القضاء بينهم وبين الناس . . وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل ، على هدى من الاعتصام بالله وحده ، ومراقبة الله وحده ، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه؛ وهو - سبحانه - أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .لذلك يعقب على هذا الأمر - وعلى الوصايا التي قبله - مذكراً بعهد الله : { وبعهد الله أوفوا } . .
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى . ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط . ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن . ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق . . وقبل ذلك كله . . من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً . فهذا هو العهد الأكبر ، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها ، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف :{ ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } . .
والذكر ضد الغفلة . والقلب الذاكر غير الغافل ، وهو يذكر عهد الله كله ، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها .. . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله ، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . .
ــــــــــــــــــــ
60- الحكمُ بين الناس بالحقِّ
قال تعالى : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص .
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ : إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ، نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ ، وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .(1/368)
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى : إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ ، وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا .
فهي الخلافة في الأرض ، والحكم بين الناس بالحق ، وعدم اتباع الهوى . واتباع الهوى فيما يختص بنبي هو السير مع الانفعال الأول ، وعدم التريث والتثبت والتبين . . مما ينتهي مع الاستطراد فيه إلى الضلال . أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله . وهو نسيان الله والتعرض للعذاب الشديد يوم الحساب .
ومن رعاية الله لعبده داود ، أنه نبهه عند أول لفتة . ورده عند أول اندفاعة . وحذره النهاية البعيدة . وهو لم يخط إليها خطوة! وذلك فضل الله على المختارين من عباده . فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة ، فيقيلها الله ، ويأخذ بيدهم ، ويعلمهم ، ويوفقهم إلى الإنابة ، ويغفر لهم ، ويغدق عليهم ، بعد الابتلاء . .
وفي مسند أحمد(15340) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا كَانُوا وَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَخَرَصَهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ َا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَنْتُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَىَّ قَتَلْتُمْ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ يَحْمِلُنِى بُغْضِى إِيَّاكُمْ عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ قَدْ خَرَصْتُ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَإِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلِى. فَقَالُوا ِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَدْ أَخَذْنَا فَاخْرُجُوا عَنَّا. ( صحيح)
وفي سنن الترمذى(1372 ) عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ قَاضِيَانِ فِى النَّارِ وَقَاضٍ فِى الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الْحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِى النَّارِ وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِى الْجَنَّةِ ».( صحيح)
وفي مسند البزار(2340) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا.(صحيح)
ــــــــــــــــــــ
61- إقامة الحدود على الجميع :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } [البقرة : 178 - 180]
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ فَرَضَ ( كَتَبَ ) عَلَيْهِمُ العّدْلَ وَالمُسَاوَاةِ فِي القِصَاصِ ، فَالحُرُّ يُقْتَلُ بِالحُرِّ ، إِذا كَانَ القّتْلُ عَمْداً ، وَالعَبْدُ يُقْتَلُ بِالعَبْدِ ، وَالأُنْثَى تُقْتَلُ بِالأُنْثَى ( وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنْ لَدُنِ(1/369)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ ، وَالحُرِّ بِالعَبْدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ القَاتِلُ سَيِّدَ العَبْدِ ، فَإِذا كَانَ سَيِّدَهُ عُزِّرَ بِشِدَّةٍ ) ، وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا وَلا يَتَجَاوَزُوا ، كَمَا اعْتَدَى اليَهُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ ، فَكَانَتْ قَبِيلَةُ بَنِي قُرَيْظَة ضَعْيفةً ، وَقَبِيلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً ، فَكَانًوا إِذَا قَتِلَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَحَداً مَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُنْ يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفَادَى ، وَإِذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضِيرِيّاً كَانَ يُقْتَلُ بِهِ ، وَإِذَا فَادَوْهُ كَانَ يُفَادَى بِمِثْلَيْ مَا يُفَادَى بِهِ النَّضِيْرِيُّ .
وَكَانَ حَيَّانِ مِنَ العَرَبِ قَدْ اقْتَتَلا فِي الجَاهِليَّةِ قُبَيْلَ الإِسْلامِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا العَبيدَ والنِّسَاءَ ، فَكَانَ أَحَدُ الحَيَّينِ لاَ يَرْضَى حَتَّى يَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنهُ الحُرَّ مِنْ خُصُومِهِ ، وَبِالمَرْأَةِ مِنْهُ الرَّجلَ . وَكَانَ هؤُلاءِ لاَ يَقْتُلونَ الرَّجُلَ الذِي يَقْتُلُ المَرْأَةَ عَمْداً ، وَلكِنْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ ، وَالمَرْأَةَ بِالمَرْأَةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنُ بِالعَيْنِ مُبْطِلاً ذلِكَ التَّعَامُلَ ، فَإِذا قَبِلَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأَخُذَ الدِّيَةَ ، وَيُعْفُو عَنِ القَاتِلِ ، فَعَليهِ أَنْ يَتَّبعَ ذلِكَ بِالمَعْرُوفِ ، وَأَنْ يَطْلُبَ الدِّيَةَ بِرِفْقٍ ، وَأَنْ لاَ يُرْهِقَ القَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْراً . وَعَلَى القَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَ المَطْلُوبَ مِنْهُ بإِحسَانٍ ، وَأَنْ لا يَمْطُلَ وَلاَ يَنْقُصَ ، وَلا يُسيء فِي كَيْفيَّةِ الأَدَاءِ .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّهُ شَرَعَ للناَّسِ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي حَالَةِ القَتْلِ العَمْدِ تَخْفِيفاً مِنْهُ ، وَرَحْمَةً بِالمُسْلِمِينَ ، إِذْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَى الأُمَمِ السَّالِفَةِ القَتْلُ أَوِ العَفْوُ . وَإِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِياءُ الدَّمِ وَعَفَا أَحَدُهُمْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ ، وَسَقَطَ القِصَاصُ . . وَيَجُوزُ العَفْوُ فِي الدِّيَةِ أَيْضاً . ( وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مَفْرُوضاً عَلَيهِمُ القَتْلُ لاَ غَيْرَ ، وَأَهْلَ الإِنْجِيلِ أُمِرُوا بِالعَفْوِ ، وَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مُقَابِلَ العَفْوِ دِيَةً ) .
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَعْتَدِي بِالقَتْلِ عَلَى القَاتِلِ - بَعْدَ العَفْوِ وَالرِّضَا بِالدِّيَةِ - بِالعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ .
وفِي القِصَاصِ رَاحَةُ البَالِ ، وَصِيَانَةُ النَّاسِ مِنِ اعتِدَاءِ بَعْضِهمْ عَلَى بَعْضِهِم الآخَرِ ، لأَنَّ مَعْرِفَةَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ يُعَاقَبُ بِالقَتْلِ ، تَحْمِلُهُمْ عَلَى الارتِداعِ عَنِ القَتْلِ ، فَتُصَانُ حَيَاةُ النَّاسِ ، وَحَيَاةُ مَنْ يُفَكِّرُ بِالقَتْلِ . وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالنِّداءِ أَرْبَابَ العُقُولِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الذِينَ يَفْهَمُونَ قِيمَةَ الحَيَاةِ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَيهَا هُمُ العُقَلاَءُ . وَإِذا تَدَبَّرَ أُولًو الأَلبَابِ الحِكْمَةَ مِنْ شَرْعِ القِصَاصِ حَمَلَهُمْ ذلِكَ عَلَى اتِّقَاءِ الاعتِدَاءِ ، وَالكَفِّ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ .
حقيقة هذا الدين . . إنه وحدة لا تتجزأ . . تنظيماته الاجتماعية ، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية . . كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة : عبادة الله الواحد . الله الذي خلق ، ورزق ، واستخلف الناس في هذا الملك ، خلافة مشروطة بشرط : أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده .(1/370)
فالنداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص .
وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . .
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقاً لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :
{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . .
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .
إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .(1/371)
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء . فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل . . جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد . كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل . شفائها من الحقد والرغبة في الثأر . الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم . وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم ، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل ، ولا تكف عن المسيل . .
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم . فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها ، واعتداء على كل إنسان حي ، يشترك مع القتيل في سمة الحياة . فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة ، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها . وكان في هذا الكف حياة . حياة مطلقة . لا حياة فرد ولا حياة أسرة ، ولا حياة جماعة . . بل حياة . .
ثم - وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة - استجاشة شعور التدبر لحكمة الله ، ولتقواه : { لعلكم تتقون } ..
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء . الاعتداء بالقتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيراً . . التقوى . . حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه .
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرج متحرج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان!
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء ، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً . . لقد كانت هنالك التقوى . . كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر ، وفي حنايا القلوب ، تكفها عن مواضع الحدود . . إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب . . وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى ، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور . نظيف الحركة نظيف السلوك . لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير!
« حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان ، وسقط الإنسان سقطة ، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً ، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون ، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة ، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً ، تفادياً من سخط الله ، وعقوبة الآخرة » .إنها التقوى . . إنها التقوى . .
أهداف إقامة الحدود الشرعية ...
أولاً: شرع الله جلَّ وعلا الحدود لمكافحة الجريمة والرذيلة(1/372)
وصيانة المجتمع من الفساد والمعاصي وحماية مصالح أساسية أجمعت الشرائع السماوية على المحافظة عليها وهي: حفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهي المعروفة بالضروريات الخمس، وسميت بذلك لأنه لا قيام لحياة الناس وصلاحهم إلا بتوافرها وتواجدها، وحفظها من الاعتداء عليها ووضع العقاب الرادع لمن حاول التعدي عليها. وقد أحكم الله جلَّ وعلا وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام وشرعها على أكمل الوجوه، فشرع حد الزنا صيانة للأنساب من التعرض للضياع، وحد السرقة، وقطع الطريق لصيانة الأموال والأنفس، وحد القذف لصيانة الأعراض، وحد الشرب لصيانة العقول.
ويمكن تلخيص أهداف العقوبات في الإسلام بشكل عام وأهداف الحدود والقصاص والتعازير بشكل خاص فيما يلي:
1- من الأهداف العظيمة للتشريع الإسلامي من الحدود والقصاص والتعزير تطهير المجتمع الإسلامي من الجرائم الآتية:
أ) جرائم الحدود وهي الزنا والسرقة وقطع الطريق والقذف والبغي وشرب الخمر والردة عن الإسلام.
ب) جرائم القتل العمد.
ج) جرائم التعازير.
فبتطبيق الحدود والقصاص والتعازير، يزجر كل من تسول له نفسه ارتكاب إحدى هذه الجرائم، ويترتب على هذا التطهير الأمن والأمان والطمأنينة بين أفراد المجتمع الإسلامي، كما يترتب على هذا التطهير أيضاً حفظ الدين والنفس والمال والعرض والعقل.
تحقيق العدالة والمساواة على وجه الأرض
رفع الظلم عن العباد، هدف سامٍ من أهداف إقامة الحدود الشرعية، فبتطبيق الحدود الشرعية على المجرمين بما يتناسب مع إجرامهم تتحقق العدالة والمساواة بين المسلمين جميعاً بغض النظر عن لونهم وجنسهم، وحسبهم، وغناهم وفقرهم.... ويؤكد حقيقة المساواة والعدالة في تطبيق الحدود ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - عندما أراد رجل من الصحابة أن يشفع للمرأة المخزومية السارقة (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وفي عدم تطبيق ذلك انتهاك لحدود الله تعالى وهذا ظلم - قال تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقال تعالى (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) صدق الله العظيم.
امتثال أمر الله وطاعته
من أهداف إقامة الحدود طاعة الله تعالى فقد أمر جل وعلا بإقامة الحدود وأمره سبحانه وتعالى نافذ تجب طاعته، وكما هو معلوم فإن عدم طاعة الله والحكم بغير ما أنزل يعتبر ظلماً وفسقاً وكفراً.(1/373)
4- إقامة الحدود الشرعية فيه شفاء لما في الصدور من غل وحقد تجاه الجاني. ويظهر هذا واضحاً في جرائم القتل والسرقة والقذف والزنا، فبالقصاص من القاتل تشفى صدور الورثة من الغل والحقد اللذين لحقا بهم من جراء قتل الغريب عمداً. وبإقامة حد السرقة يشفى صدور من سرق ماله من الغل والحقد تجاه السارق. وبإقامة حد الزنا يشفى صدر الزانية إذا غصبت، وإن لم يشف صدرها فيشفى صدر أقاربها، وبتطبيق الحدود والقصاص والتعازير يشفى المجتمع الإسلامي من الحقد والغل اللذين لحقا بهم من جراء الجرائم التي وقعت على أفراده.
تأديب الجاني
إن إقامة العقوبات على الجاني يزيل الخبث الذي علق به والذي حمله على ارتكاب الجريمة، وإزالة الخبث من نفسه تطهيراً له من هذا الخبث وتأديباً له ولهذا شرعت الحدود والقصاص والتعازير وأعلى مجالات التأديب هنا الحدود، لأنها جعلت لجرائم وجنايات خطيرة.
تكفير الذنوب التي حصلت بفعل الجريمة
من أقيم عليه حد أو قصاص أو تعزير في هذه الدنيا بسبب جريمة توجب ذلك، فهو كفارة لهذا الذنب الذي اقترفه، لما رواه عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله جماعة من أصحابه قال (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك).
ثانياً: خصائص الحدود الشرعية ومميزاتها :
تمتاز الحدود الشرعية بخصائص معينة تميزها عن غيرها من سائر العقوبات ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
1) أن عقوبة الحد مقدرة نوعاً وكماً وصفة، ومن ثم لا يجوز إبدالها ولا النقص منها أو الزيادة عليها على أنها حد بنص من شارع كما في عقوبة الزاني تبعاً لبكارته أو إحصانه، ومعنى تقدير الحد نوعاً أنه قد عين الشارع كونه جلداً أو قطعاً أو قتلاً أو نحو ذلك، وإما تقدير صفته فإنه قد يطلب أن يكون علناً تشهده طائفة من المؤمنين وبهذا لم يترك للحاكم إلا سلطة مقصورة على التنفيذ.
2) أنه لا يختلف بإختلاف الأشخاص بل يتساوى فيه الحاكم والمحكوم والشريف وغيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
3) أن الحد يشترط في إقامته على الجاني أن يكون مكلفاً ولذا لا تقام على الصبي ونحوه.
4) أن الشارع الحكيم قد ضيق في باب الحدود من جهات ثلاث:(1/374)
أ - أنه ضيق في طرق إثباتها فجعلها تثبت بالإقرار مع قبول الرجوع فيه، كما اشترط في شهودها أن يكونوا من الذكور العدول على تفضيل بين أن يكونوا أربعة أو اثنين، ولم يقبل فيها شهادة النساء ولا شاهد مع اليمين.
ب - أنه قصر الحدود على جرائم محددة هي ما كانت اعتداء على إحدى الضروريات الخمس الواجبة الحفظ شرعاً.
ج- أنه شدد في الاحتياط عند إقامتها فجعلها تسقط بالشبهة المعتبرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - (أدرأوا الحدود بالشبهات)، والمراد بالشبهة المعتبرة ما يثبت صلاحيتها بقرينة ترجح أن للجاني عذراً في جنايته.
5) ومن خصائص الحدود الشرعية ومميزاتها ما ذكر العلماء من أن الحد لا يقبل الشفاعة ولا يسقط بعد بلوغه للإمام لصيرورته حقاً لله تعالى حينئذ فلا يملك الإمام ولا غيره إسقاطه.
تقصير السلطان في إقامة الحدود..
إن شرع الله واجب التنفيذ، والنصوص الدالة على وجوب إقامة الحدود، والآثار المترتبة على إقامتها، والمفاسد المترتبة على عدم إقامتها، وقد أشار بعض علماء المذهب الحنفي إلى الهدف العام من تشريع الحدود، فقال: "أن الحدود حق الله تعالى، لأن القصد منها إخلاء العالم عن الفساد".. [الهداية بشرح البناية (5/373)].
فإذا أهمل من تولى أمر المسلمين إقامة الحدود، فقد أذن بذلك للفساد أن يتمكن في الأرض، أو في العالم..
فما موقف المسلمين عندئذ، وبخاصة علماءهم وذوي الرأي منهم؟
إنه لا يخلو الحاكم من حالات ثلاث:
الحالة الأولى:
أن يجتمع أهل الحل والعقد لمناصحته، فيستجيب لنصحهم وينفذ شرع الله تعالى، ومنه الحدود، فما عليه عندئذٍ من سبيل، بل يجب أن يعان على ذلك من قبل الأمة.
الحالة الثانية:
أن يرفض إقامة الحدود بنفسه، مقيماً بعض الأعذار على سبب رفضه، مع إظهاره الإيمان بشريعة الله وأنها حق، ويأذن لعلماء قطره وذوي الرأي منهم أن يقوموا بها حسبة، ولا يعارضهم بل يأمر أتباعه بعدم التعرض لهم.
الحالة الثالثة:
أن يرفض إقامة الحدود مدعياً أنها غير صالحة لهذا الزمن وأن وقتها قد انتهى، وأن القوانين الوضعية أولى بالتنفيذ من شرع الله، وقد لا يصرح بذلك، ولكن قرائن أحواله المتضافرة تدل على هذا المعنى.
القول في الحالات السابقة..(1/375)
الحالة الأولى:
لا حاجة إلى الكلام عنها..
وإنما الحاجة إلى بيان ما يجب على العلماء وأولي الرأي من الأمة إزاء الحالتين: الثانية والثالثة..
فالحالة الثانية التي يأذن فيها السلطان لغيره بإقامة الحدود، هذه الحالة في الحقيقة مفروضة فرضاً، والغالب أن الحاكم الذي يهمل إقامة الحدود ولا يسمع نصح أهل الحل والعقد، ولا يرجع إلى الله تعالى فيطبق حكمه، الغالب أنه لا يأذن لغيره في إقامتها..
ولكن ما الحكم على هذا الافتراض؟
إنه يجب أن نعود هنا إلى قاعدتين من قواعد الإسلام:
القاعدة الأولى: حكم فرض الكفاية - والحدود من فروض الكفاية.
والقاعدة الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية.
أما القاعدة الأولى، فان فرض الكفاية هو كما قال ابن قدامة رحمه الله:
"الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض العين لا يسقط عن أحد بفعل غيره". [المغني (9/196)].
فإذا تخلى الحاكم الذي نصبته الأمة، أو نصب نفسه للقيام بمصالحها عن إقامة الحدود، فإن الأمة كلها تأثم بعدم إقامتها، إلا من كان عاجزاً عن ذلك، وعلى هذا فإنه بناءً على هذه القاعدة يتحتم على القادرين من الأمة أن يدفعوا عنها الإثم بإقامة الحدود.
أما القاعدة الثانية، فإن النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاطعة بإثم من استطاع القيام بذلك ولم يقم به.
قال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.. )) [آل عمران: 110].
وقال تعالى: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) [التوبة: 71].
وقال تعالى: (( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )) [التوبة: 112].
وقال تعالى: (( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )) [الحج: 41].(1/376)
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ».)". [مسلم (1/69)].
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (« مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِى أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِى نَصِيبِنَا خَرْقًا ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا . فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا » .)". [البخاري(2493) (3/111)].
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ وَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَقَالَ هَذَا كِتَابُ عُمَرَ ثُمَّ قُرِئَ عَلَى سُفْيَانَ مِنْ هَا هُنَا إِلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِىَ إِلَيْكَ فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ لاَ نَفَاذَ لَهُ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِى مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ وَعَدْلِكَ حَتَّى لاَ يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِى حَيْفِكَ وَلاَ يَخَافَ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً لاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالأَمْسِ رَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَإِنَّ الْحَقَّ لاَ يُبْطِلُهُ شَىْءٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِى فِى الْبَاطِلِ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا تَخَلَّجَ فِى صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ اعْرِفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ ثُمَّ قِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى وَاجْعَلْ لِلْمُدَّعِى أَمَدًا يَنْتَهِى إِلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلاَّ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِى الْعُذْرِ الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَيْنَهُمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ مَجْلُودًا فِى حَدٍّ أَوْ مُجَرَّبًا فِى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِى وَلاَءٍ أَوْ فِى قَرَابَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْقَلَقَ وَالتَّأَذِّىَ بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لِلْخُصُومِ فِى مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِى يُوجِبُ اللَّهُ بِهَا الأَجْرَ وَيُحْسِنُ الذُّخْرَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصْ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ شَانَهُ اللَّهُ . سنن الدارقطنى ( 4525 ) 4/208 صحيح لغيره
فهذه النصوص تدل على أن هذه الأمة خير من غيرها من الأمم، بإيمانها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، فإذا فقدت ذلك أو نقص شيء منه، فقدت تلك الخيرية أو نقصت بمقدار ما نقص منها.
وأن من لوازم تحقيق الولاء بين المسلمين، أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ومن صفاتهم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وحفظهم لحدود الله..
ولا حفظ لحدود الله بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من أهم وظائفهم إذا مكنهم الله في الأرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/377)
وأن المستطيع مأمور بالقيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حسب استطاعته والأمر - للوجوب، فمن لم يقم بما يقدر عليه من ذلك وقد تعين عليه فهو آثم.
وأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمكن السفهاء من نشر الفساد في الأرض وفي ذلك هلاك العالم وفساده.(1)
فلقد شرع الله سبحانه وتعالى الحدود لحكم عظيمة ومنافع جمة غفيرة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيأ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء أمنا في سربه، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه كريم صاف فلا يلوث ولا يعتدى عليه، وعرضة سليم فلا يقذف ولا يوصم به، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد خائن مجرم ولا تمتد إليها يد سارق جشع اتخذ النهب حرفة، وعقله باق على جبلته التى ميزه الله بها، فلا يزيل نعمة الله عليه بالسكر، ودينه ثابت مستقيم قوي صلب لا تلعب به الأهواء ولا تزعزعه العواطف فتجده مذبذباً متردداً يسير على غير هدى ويخبط خبط عشواء، ولهذا جعل الشارع عقوبة المرتد القتل ((من بدل دينة فاقتلوه))(البخاري).
فما دامت هذه فوائد الحدود، فهنيئا للذين يطبقون حدود الله في الأرض، حياة مستقرة سعيدة في الدنيا، وأجر ومغفرة من الله في الآخرة.
وبالمقابل، فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيها الذعر والفزع والاضطراب، وقل خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل.
ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً [الجن:16]. وقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
والواقع خير شاهد ودليل.
فانظروا إلى أولئك الذين استبدلوا بشريعة الله قوانين الكفر والضلال، كيف وصل حالهم؟! كيف فتكت الجرائم بمجتمعهم، فنشأ عن عدم تطبيق الحدود اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله؟! والله يغار أن تنتهك محارمه أو يعتدى على حماه، ولا أحد أغير من الله ومن يجترئ على حدود الله، يصير معاديا له ومحاداً لرسوله، ومن حاد الله ورسوله، وقع في إسار الذلة والهوان، إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين .
وباجتراء الناس على محارم الله وإمساك الأمة عن إقامة الحدود والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، تلحقهم اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
__________
(1) - انظر كتاب :الحدود والسلطان (16) الجزء الثاني..المبحث الثالث: حكم تعدد الأمراء أو تقصير السلطان في إقامة الحدود(1/378)
وكذلك تكون الأمة من عنصرين: عصاة متمردون، وضعاف خائفون، لا يأمرون بخير ولا ينهون عن شر، وأي أمة تتألف من هذين الفريقين، لا يرجى لها فلاح، ولا يتحقق لها احترام ولا تقدير.
ونتيجة ذلك وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمرة والحروب بين الجماعات والطوائف.
وقد ينخدع بعض الناس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة وهم غافلون فيرون بعض العصاة أو الكفار في بحبوحة من الدنيا ورغد من العيش وقوة ومنعة، ولو أنهم أمعنوا النظر وأعملوا الفكر لأدركوا أن ذلك متاع ظاهري، مقرون بالقلق النفسي من ناحية، ومهدد بالزوال والتدمير من ناحية ثانية، ومتبوع بالعقاب والسخط الإلهي من ناحية ثالثة لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [الأعراف:96].
عباد الله!
إن إقامة الحدود الشرعية، وتطهير المجتمع من بذور الإجرام، قد أثار حقد أعوان الشيطان من القانونيين الكفرة، فبدؤوا يلقون الشبه حول تطبيق القوانين الوضعية، التى شقي بها معظم المجتمعات، فهم يريدون أن يعم الشقاء حيث زعموا أن إقامة الحدود ضربا عنيفا من القسوة العاتية التى تتنافى مع الإنسانية الرحيمة ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية المهذبة!! إلى آخر ما قالوا من هذه العبارات الجوفاء الخاوية ونقول لهؤلاء: نعم إن في إقامة الحدود مظهرا من مظاهر الشدة التى تسمونها قسوة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر شدة أيا كانت وإذا لم تشتمل العقوبة على شيء من الشدة فأي أثر لها في الزجر والردع؟!
ثم، أسأل عقول هؤلاء - إن كانت لهم عقول -: ما الذي حمل على هذه القسوة في نظركم؟ وما الذي دفع القاضي أن يحكم بهذه القسوة؟
إن الذي دعا إلى هذا هو شيء أشد منه قسوة، ولو تركنا هذه العقوبة القاسية - فيما تزعمون، لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة وأقسى من موجبها، فمن الرحمة والشفقة أن تقيم الحد، ففيه رحمة بالمحدود، وبمن اعتدى عليه ألا ترون الطبيب الماهر الذي يستأصل بمبضعه جزء حيا من جسم أخيه الإنسان، أليست عملية البتر وضرب المبضع في اللحم الحي مظهرا من مظاهر القسوة؟ وهل يستطيع أن يمارس هذه العملية إلا قلب قوي يعد في نظركم أيها المترفون قلبا قاسيا؟! ولكنها - لو تعلمون - قسوة هي الرحمة بعينها، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها.
فحرصا على سلامة المجتمع من سرطان الجريمة كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد والإفساد.
فذا العضو الفاسد أغلق قلبه، فلم يقبل نصحا، وألغى إنسانيته فلم يعرف رحمة ولا شفقة، فكان الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا [النبأ:26]. من يعمل سوء يجز به [النساء:123].(1/379)
فالقائلون بهذا القول نظروا إلى الحدود بعين واحدة، نظروا إلى الحدود ولم ينظروا إلى الجرائم، ينظرون إلى المجرم نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة، والمجرم في الحد قد يكون واحدا، وقد تكون الضحية أكثر من واحد.
إن المجرم بمقارفته الحد يتحدى المجتمع كله، فكيف يصبر عليه؟! وكيف يعفو عنه؟!
ومن هذه الشبهة المتقدمة أنبت الشيطان وجنده شبهة ثانية، فقالوا: ولماذا كان القتل في حد المحصن رجما بالحجارة، أليس ذلك تحقيرا للإنسانية وازدراء لها؟! أليس هناك وسائل للقتل أرحم وأحسن وأسرع؟! فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة وأي إحسان في القتل بالرجم ؟! أليس الصعق مثلا أو الشنق أخف على المحدود؟! ونحن نقول لهؤلاء: على رسلكم أيها الرحماء - كما تزعمون -! إن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي وكفى، وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم المستقذر البشع ومن الحكمة في حد المحصن أن يكون الرجم بالحجارة، ليتألم جميع بدنه كما تلذذ بشهوة الزنى، جزاء وفاقا فالذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيف تكون، إنما هو العليم الخبير، الذى يعلم خبايا النفس البشرية، والله يعلم المفسد من المصلح .
ومن ثم أتى الشيطان وجنوده بشبهة أخرى وهى أن إقامة الحد تقتضي إزهاق الأرواح وتقطيع الأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيرا من الطاقات والقوى وينتشر فيها المشوهون والمقطعون الذين كانوا يسهمون في النتاج والعمل.
ونحن نقول لجنود إبليس: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيقة محصورة، ولمن؟! إنه إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطل العمل والإنتاج وتضيع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم، مع ملاحظة أن إقامة الحدود إبقاء لآلاف الأطراف سليمة طاهرة عامله منتجة فالله تعالى يقول: ولكم في القصاص حياة [البقرة:179]. حيث إنه ليس انتقاما ولا إرواء للأحقاد، وإنما هو حياة، حيث يكف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذى يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد فالله جعل لهذه الحدود مصلحة ومنفعة، فهو العليم الخبير الحكيم، الذي يضع كل شيء في موضعه الطبيعي.
ولقد أورد إبليس وجنوده شبه أخرى حيث قالوا: إن إقامة الحدود تقهقر بالإنسانية الراقية ورجعة إلى عهد الظلام الدامس والقرون الوسطى!! وهل يستسيغ عاقل متمدن عاش في القرن العشرين الميلادى!! وفى المدن الراقية مثل لندن ومثل باريس ونحوها!! أن يأخذ بقانون نشأ بين جبال وأحراش الجزيرة وجلاميد الصحراء؟
كبرت كلمة تخرج من أفواهم إن يقولون إلا كذبا [الكهف:5]. قاتلهم الله أنى يؤفكون.(1/380)
فهذه الشبهة زائفة، تحمل كفنها بين يديها، فنقول لهؤلاء: إن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم، بل إن القدم مع الأصالة يشكلان أسباب نفاسته، شريعة الله مع قدمها لها هذه الأصالة، فلها من الثبات ما عجزت عنه تلك الأحكام التي يحتكمون إليها التي لا ترتكز على الجدة والقدم، فكم من قديم أسمى من جديد، وإنما الميزان هو النفع والضر، والطيب والخبيث وما أكثر الشبه!!
ولكن الله لا يصلح عمل المفسدين، فهم كناطح صخرة يوما ليوهنا.(1)
أول إعلان للمساواة في تاريخ الإنسانية
تظهر عظمة الإسلام وسمو شريعته في هذا الميدان كما ظهرت في غيره من الميادين ، فلأول مرة في تاريخ البشرية يأتي الإسلام رحمة للعالمين ، دين يوجه إلى البشرية كلها ، ويعتبر كل إنسان على وجه الأرض مساويا للآخر ، وهو أهل لثبوت الحقوق وتحمل الواجبات كأي إنسان آخر ، وأن كلا من الأصل والجنس واللون واللغة لا يمكن أن يفرق بين إنسان وآخر أمام الشريعة .
يقول الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? [الحجرات: 13].
ويقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : (( يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى )) (1) .
في هذا الوحي الرباني نجد أول إعلان في تاريخ الإنسانية يؤكد مبدأ المساواة بين بني الإنسان جميعا (( يا أيها الناس )) أما شرع الله على اختلاف أصلهم وأجناسهم وألوانهم وظروفهم الاجتماعية أو درجاتهم في الجماعة .
حقائق مشهودة وليست دعايات مزعومة .
ولم يكن مبدأ المساواة الذي أعلنه الإسلام مبدأ نظريا كما فعلت الثورات والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان ، بل إن هذا المبدأ طبق في واقع الناس على مجتمع يتمايز فيه الناس بالأصول والأحساب والغنى والثروة .
إن مجتمعا يقف فيه بلال الحبشي ، وصهيب الرومي ، وسلمان الفارسي ، وخباب بن الأرت ، وعمار بن ياسر بجانب أبي سفيان ، وعثمان بن عفان ، وعمر بن الخطاب لدليل قاطع على أن العصبيات والقوميات والجنسيات قد ذهبت إلى غير رجعة ، وانصهرت في عقيدة واحدة ، هي عقيدة التوحيد ، تحت لواء واحد ، هو لواء الإسلام ، وأما نظام واحد هو شريعة الله .
__________
(1) - انظر موسوعة خطب المنبر - (1 / 28)(1/381)
لقد كانت العصبيات قبل البعثة عميقة الجذور ، قوية البنيان فاستطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجتث هذا الداء العضال بكل صوره وأشكاله ، من أرض كانت تحيي ذكره ، وتهتف بحمده ، وتتفاخر على أساسه ، باعتبار ذلك كله من بقايا الجاهلية التي أعلن نبينا - صلى الله عليه وسلم - إماتتها إلى الأبد في لقائه الجامع بأمته في خطبة الوداع عندما قال لهم : (( ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع !!)) فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، لا تفاضل بنسب ، ولا تمايز بلون ، وما النزعات العنصرية والنعرات الوطنية إلا ضرب من الإفك والدجل .
يقول المعصوم - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء (كبرها وفخرها) فالناس رجلان: مؤمن تقي ، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم ، وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام ، إنما هم فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون (أحقر) على الله من الجعلان (حيوان الخنفساء) التي تدفع بأنفها النتن)) (2) .
ولله در علي ? عندما قال :
الناس من جهة الآباء أكفاء ... ... أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم من أصلهم نسب ... ... يفاخرون به فالطين والماء
المساواة في الإنسانية
لا تميز الشريعة الإسلامية بين الأفراد فهم جميعا لدى شريعة الله سواء ، فالحكام كالمحكوم ، والشريف كالوضيع ، والقوي كالضعيف ، ولا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى .
مرحبا بمن عاتبني فيه ربي !
1- وقد عاتب الله نبيه عتابا شديد لأنه اهتم بأمر قادة قريش وسراتها أكثر مما اهتم بأمر فقير أعمى ، هو ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ، جاء يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه مما علمه الله ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مجتمعا في هذا الوقت بصناديد قريش وسراتها يكلمهم في شأن الدعوة ، فكره أن يقطع عليه ابن أم مكتوم كلامه ، وظهرت هذه الكراهية في وجهه ، وأعرض عنه وهو يطمع في استمالة القوم ، فأنزل الله جل شأنه يف هذا الحادث: ? عَبَسَ وَتَوَلَّى .أَن جَاءَهُ الأعْمَى .وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى .أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى .أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى .فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى .وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى .وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى .وَهُوَ يَخْشَى .فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى .كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ? [عبس1-11].
لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!
2- ولقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تطبيق مبدأ المساواة أمام الشريعة ، وعدم التمييز بين الناس ، من ذلك أنه طبق هذا المبدأ يوم سرقت امرأة من أشراف قريش ، فتحدث الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم على قطع يدها ، وأعظموا ذلك ، وكلموا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقام خطيبا فقال : (( إنما هلك(1/382)
الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) (3) .
طف الصاع طف الصاع !!
3- عن أبي ذر أنه قال : قاولت(4) رجلا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : يا ابن السوداء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : طف الصاع طف الصاع(5) ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل ، قال أبو ذر : فاضطجعت وقلت للرجل : قم فطأ على خدي )) (6) .
جبلة بن الأيهم والشموخ العمري !
4- ولا زالت قصة جبلة بن الأيهم(7) تقرع آذان الذين يتشدقون بأن أوروبا صاحبة الفضل في تقرير مبدأ المساواة ، فقد داس أعرابي على إزاره ، وهما يطوفان بالكعبة فلطمه جبلة ، فشكاه الأعرابي إلى عمر بن الخطاب ، فأمر بالقصاص ، وعز على جبلة وهو شريف أن يقتص منه الأعرابي ، فهرب ولحق بأرض الروم وتنصر ثم أدركه الندم فقال مقالته المشهورة :
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
مبني التعويض على الضرر وليس على مركز المجني عليه
5- القاعدة في الشريعة الإسلامية أن التعويض لا ينظر فيه لشخصية المجني عليه ، ولا مركزه ، ولا ثروته ، كما تفعل القوانين الوضعية ، وإنما يقدر التعويض على أساس نتيجة الفعل الذي وقع عليه ، فإذا قتل شريف ووضيع فديتهما واحدة ، وإذا أصيب عامل في شركة ومدير الشركة في حادث وترتب على الحادث أن فقد كل منهما ذارعا كان التعويض متساويا وقد جاء في الحديث : (( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم )) (8)
المساواة أمام القانون
المقصود بمبدأ المساواة أما القانون :
أن يكون القانون واحدا ، لا يكون قانون للأشراف وآخر للعامة ، ولا يكون قانون للبيض وآخر للسود ، بل يكون الجميع خاضعين لقانون واحد .
وأن يكون تطبيقه ملاحظا فيه المساواة في الحكم ، لا فرق في التطبيق بين غني وفقير ، ولا بين شريف ووضيع ، ولا بين أبيض وأسود ، ولا بين جنس وجنس ، ولا بين جاهل ومتعلم ، بل الجميع أمام القانون سواء .
ولقد قررت الشريعة الإسلامية هذا المبدأ وأكدت عليه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ، ولقد طبقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وسار على نهجه أصحابه من بعده ، ومن أمثلة ذلك: من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه !(1/383)
1- خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء مرضه الأخير بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب حتى جلس على المنبر ثم قال : (( أيها الناس : من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد(9) منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فيأخذ منه ، ولا يخش الشحناء من قبلي ، فإنها ليست من شأني ، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له ، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس ، ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى )) (10)
إني وليت عليكم ولست بخيركم
2- صعد أبو بكر ? المنبر عقب توليه الخلافة فقال : (( إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، وإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه ، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق له ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم )) (11) .
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيد من نفسه !
3- كان عمر بن الخطاب ? يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال : (( أيها الناس : إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم ، وليقسموا فيئكم بينكم ، فمن فعل به غير ذلك فليقم فما قام أحد إلا رجل قام فقال : يا أمير المؤمنين إن عاملك فلانا ضربني مائة سوط ، قال: فيم ضربته ؟ قم فاقتص منه ، فقام عمرو بن العاص ? فقال : يا أمير المؤمنين إن فعلت هذا يكثر عليك وتكون سنة يأخذ بها من بعدك ، فقال : أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيد من نفسه )) (12) .
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟!
4- عن أنس ? أن رجلا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب ? قال : يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم ، قال: عذت معاذ(13) قال : سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته ، فجعل يضربني بالسوط ويقول : أنا ابن الأكرمين ، فكتب عمر على عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه ، فقدم فقال عمر : أين المصري؟ خذ السوط فاضرب ، فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر : اضرب ابن الأكرمين ، قال أنس : فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع(14) عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه . ثم قال للمصري : ضع على صلعة عمرو ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه ، فقال عمر لعمرو : مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ قال : يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني(15) .
ابعث إلي بعبد الرحمن على قتب !!(1/384)
5- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : شرب أخي عبد الرحمن ، وشرب معه أبو سروعة - عتبة بن الحارث - وهما بمصر ، في خلافة عمر بن الخطاب ? فسكرا ، فلما أصبحا انطلقا على عمرو بن العاص ? وهو أمير مصر فقالا : طهرنا ، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه ، قال عبد الله : فذكر لي أخي أنه سكر فقلت : ادخل الدار أطهرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عمروا ، فأخبرني أخي أنه قد أخبر الأمير بذلك ، فقلت لا تحلق اليوم على رؤوس الناس ، ادخل الدار أحلقك ، وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد ، فدخلا الدار ، قال عبد الله : فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو . فسمع بذلك عمر فكتب إلى عمرو رضي الله عنهما أن ابعث إلي بعبد الرحمن على قتب ، ففعل ذلك فلما قدم على عمر بن الخطاب ? جلده وعاقبه لمكانه منه(16) .
لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله !
6- ويقول عمر بن الخطاب ? لسعد بن وهيب خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا سعد سعد بني وهيب لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، فإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة(17) .
المساواة أمام القضاء
المقصود بالمساواة أمام القضاء :
المساواة أمام القضاء يقصد بها : أن المحاكم لا تختلف أو تتفاوت باختلاف الأشخاص الذين يتقاضون أمامهم ، ولي في الإسلام للحاكم محكمة خاصة أو ميزة بطبقة اجتماعية معينة كما في الأنظمة القديمة ، وكما هو الحال في فرنسا قبل الثورة وفي الديمقراطية الغربية من إفراد الحكم لمحكمة خاصة وشروط خاصة .
كما أن بعض الطوائف في تلك الديمقراطيات كرجال القضاء وأعضاء المجالس النيابية لا تجوز محاكمتهم إلا بشروط خاصة وفي ظروف معينة .
أما الإسلام فلا تفرقة فيه بسبب الأصل أو الجنس أو الطبقة أو اللون أو الثروة ، فالجميع أمام القضاء سواء .
وحدة جهة التقاضي
ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتولى بنفسه الفصل في الخصومات في المدينة فقد جاء في الحلف الذي عقده عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين وأهل المدينة (( ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله )) (18) ، أي أنه عليه(1/385)
الصلاة والسلام كان الجهة القضائية الوحيدة التي يتحاكم أمامها جميع الناس ، وهو ما يعرف اليوم بوحدة القاضي أو جهة التقاضي .
المساواة أمام القضاء سنة الخلفاء الراشدين
ولقد جرى العمل في الشريعة الإسلامية على محاكمة الخلفاء والملوك والولاة أمام القاضي العادي وبالطريق العادل :
فعلي بن أبي طالب ? - في خلافته - يفقد درعا له ، و يجدها مع يهودي يدعي ملكيتها فيرفع أمره إلى القاضي فيحكم لصالح اليهودي ضد علي ? )) (19) .
شموخ عمري !
وعمر ? يكتب لقاضيه أبي موسى الأشعري كتابا في القضاء فيقول : (( آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك )) (20) .
ويروي الشعبي فيقول : (( كان بين عمر وبين أبي بن كعب رضي الله عنهما خصومة فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلا ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ? فأتياه فقال عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، وفي بيته يؤتى الحكم ، فلما دخلا عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال : ها هنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر : هذا أول جور(21) جرت في حكمك ، ولكن أجلس مع خصمي ، فجلسا بين يديه ، فادعى أبي وأنكر عمر ، فقال زيد لأبي : أعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره ، فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء )) (22) .
جزاك الله عن دينك .. وعن خليفتك أحسن الجزاء !
ويقص علينا التاريخ أن المنصور - وهو خليفة المسلمين - ادعى عليه جماعة حقا لهم أمام القاضي محمد بن عمر الطلحي ، فأرسل القاضي إلى الخليفة يستدعيه ، فاسجاب الخليفة وحضر مجلس القضاء ، وأجلسه القاضي مع الخصوم ، وبعد سماع أقوال طرفي القضية حكم القاضي ضد الخليفة ، وبعد انصراف الناس و عودة الخليفة إلى دار الخلافة استعدى القاضي الطلحي ، فذهب وهو يخشى غضب السلطان ، ولما مثل بين يديه قال له المنصور : جزاك الله عن دينك ونبيك وعن حسبك وعن خلفيتك أحسن الجزاء(23).
المساواة في تولي الوظائف العامة
المقصود بالمساواة في تولي الوظائف العامة
التسوية بين الناس في تولي الوظائف العامة يقصد بها :(1/386)
إتاحة فرص متساوية أمام من تتوافر فيهم الشروط اللازمة لتولي عمل أو وظيفة معينة ، لا يقتصر حق تولي الوظائف العامة على طبقة معينة بسبب الأصل أو اللون أو المركز المالي أو الاجتماعي أو غير ذلك .
وأن تكون الحقوق والرواتب والمزايا واحدة لمن يحملون نفس المؤهل ويتمتعون بنفس الكفاءة وتتوافر لديهم نفس الخبرة .
ولقد عرف الإسلام هذا المبدأ وطبقه أتباعه قبل أن تعرفه النظم الإدارية الوضعية بما يزيد على ألف عام ، فلم يكن لهذا المبدأ وجود في النظم السابقة على الإسلام ولا المعاصرة له ، فقد كانت هذه النظم تقصر حق تولي الوظائف العامة على طبقة معينة من طبقات الشعب نظرا لمركزها الاجتماعي أو قدرتها المالية ، أو لأصلها أو جنسها أو لونها ولا زالت هذه التفرقة موجودة حتى اليوم في أعرق الدول حضارة على حد زعمها .
تجاوز الأكفأ خيانة لله ولرسوله والمؤمنين !
إن مقاصد الشريعة العامة وقواعدها الكلية وأدلتها الجزئية تجعل التسوية بين المسلمين في تولي الوظائف العامة واجبا تلتزم به الدولة ، فإذا أسندت الدولة عملا إلى شخص وهناك من هو أكفأ منه فقد قصرت في أداء واجبها وتعدت حدود سلطاتها .
القوة والأمانة شرطان في كل ولاية
فالإسلام يشترط فيمن يلي عملا أن يكون تقيا مخلصا أمينا على هذا العمل ، وأن يكون قادرا على أدائه على الوجه الأكمل ولا يغني أحد الشرطين عن الآخر ، فالتقوى وحدها لا تكفي لتولي عمل يحتاج إلى علم دقيق ، وخبرة واسعة ، وكفاءة عالية .
ولذلك يقص المولى عز وجل علينا قصة ابنة شعيب حينما طلبت من والدها أن يستعمل موسى ، فقد بينت المؤهلات التي يستحق صاحبها تولي العمل فقالت ? قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ? [القصص: 26].
فالقوة تشير إلى القدرة على القيام بالعمل الذي يسند إليه ، والأمانة تشير إلى الدين والخوف من الله والخشية منه .
ومن أجل ذلك بين الله سبحانه المؤهلات التي استحق به طالوت الرئاسة على بني إسرائيل فقال : ? وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ? [البقرة: 247].
فالبسطة في العلم تعني معرفة الله ، والعلم بشرعه وحلاله وحرامه ، وأما البسطة أو القوة في الجسم فتعني القدرة على القيام بهذا العمل ، وتختلف المؤهلات المطلوبة من كل عامل بحسب اختلاف نوع العمل المطلوب إسناده إليه .
تحريم المحاباة في الولايات العامة(1/387)
والإسلام يفرض على ولي أمر المسلمين أن يختار لكل عمل أكفأ الناس وأصلحهم للقيام به ، وأقدرهم على أدائه على خير وجه وأتمه ، دون محاباة أو أثرة بسبب الأصل أو اللون أو المركز الاجتماعي أو المالي أو غير ذلك ، وهذه بعض الأمثلة :
1- عن أبي ذر ? قال : قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها(24) .
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من استعمل رجلا من عصابة ، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين(25) .
3- وقد كان عليه الصلاة والسلام يولي على الولاية أو العمل أصلح الناس له ، فولى خالد بن الوليد ? على حروبه لما امتاز به من خبرة عالية في فنون الحرب والقتال ، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار ، كما ولى أسامة بن زيد وهو فتى صغير قيادة الجيش لأنه عليه الصلاة والسلام عرف منه الكفاءة العالية والقدرة على القتال.
4- عن يزيد بن أبي سفيان قال : قال أبو بكر ? حين بعثني إلى الشام : يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكبر ما أخاف عليك ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم )) (26)
5- عن أبي هريرة ? قال : (( بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث ، فقال بعض القوم : سمع ما قاله فكره ما قال ، وقال بعضهم : بل لم يسمع ، حتى إذا قضى حديثه قال : أين أراه السائل عن الساعة قال : ها أنا يا رسول الله ، قال : فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال : كيف إضاعتها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )) (27) .
ولقد قرر فقهاء الإسلام أنه يجب على ولي أمر المسلمين أن يختار لكل عمل اقدر الناس على القيام به وأصلحهم له امتثالا لقوله تعالى ? إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ? [النساء: 58] فهذه الآية تفيد وجوب إسناد كل ولاية أو عمل إلى من هو له أهل دون محاباة ولا أثرة .(1)
ــــــــــــــــــــ
62- الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر
__________
(1) - انظر http://209.85.175.132/search?q=cache:7pJF2GGRaIsJ:amjaonline.com/docs/equality.doc+%22%D8%B3%D8%B1%D9%82%D8%AA+%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%B9%D8%AA+%D9%8A%D8%AF%D9%87%D8%A7%22&hl=ar&ct=clnk&cd=41(1/388)
قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) } [آل عمران : 104 ، 105]
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ ، وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ ، تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ ، وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ ، وَتَنْهَى عَنْهُ ، وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ .
فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . والذي يقرر أنه لا بد من سلطة هو مدلول النص القرآني ذاته . فهناك « دعوة » إلى الخير . ولكن هناك كذلك « أمر » بالمعروف . وهناك « نهي » عن المنكر . وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان ، فإن « الأمر والنهي » لا يقوم بهما إلا ذو سلطان . .هذا هو تصور الإسلام للمسألة . . إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى . . سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر . . سلطة تتجمع وحداتها وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله . . سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في حياة البشر . . وتحقيق هذا المنهج يقتضي « دعوة » إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة « تأمر » بالمعروف « وتنهى » عن المنكر . . فتطاع . . والله يقول : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } فمنهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر . أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي ، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشرية ، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة ، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل امرىء برأيه وبتصوره ، زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!
والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من ثم - تكليف ليس بالهين ولا باليسير ، إذا نظرنا إلى طبيعته ، وإلى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم ، ومصالح بعضهم ومنافعهم ، وغرور بعضهم وكبريائهم . وفيهم الجبار الغاشم . وفيهم الحاكم المتسلط . وفيهم الهابط الذي يكره الصعود . وفيهم المسترخي الذي يكره الاشتداد . وفيهم المنحل الذي يكره الجد . وفيهم الظالم الذي يكره العدل . وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة . . وفيهم وفيهم ممن ينكرون المعروف ، ويعرفون المنكر . ولا تفلح الأمة ، ولا تفلح البشرية ، إلا أن يسود الخير ، وإلا أن يكون المعروف معروفاً ، والمنكر منكراً . . وهذا ما يقتضي سلطة للخير وللمعروف تأمر وتنهى . . وتطاع . .
ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين الركيزتين : الإيمان بالله والأخوة في الله ، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى ثم بقوة الحب والألفة ، وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة ، وكلفها به هذا التكليف . وجعل القيام به شريطة الفلاح .(1/389)
فقال عن الذين ينهضون به : { وأولئك هم المفلحون } . .إن قيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي ذاته . فهذه الجماعة هي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية . هو الوسط الخير المتكافل المتعاون على دعوة الخير .
المعروف فيه هو الخير والفضيلة والحق والعدل . والمنكر فيه هو الشر والرذيلة والباطل والظلم . . عمل الخير فيه أيسر من عمل الشر . والفضيلة فيه أقل تكاليف من الرذيلة . والحق فيه أقوى من الباطل . والعدل فيه أنفع من الظلم . . فاعل الخير فيه يجد على الخير اعواناً . وصانع الشر فيه يجد مقاومة وخذلاناً . . ومن هنا قيمة هذا التجمع . . إنه البيئة التي ينمو فيها الخير والحق بلا كبير جهد ، لأن كل ما حوله وكل من حوله يعاونه . والتي لا ينمو فيها الشر والباطل إلا بعسر ومشقة ، لأن كل ما حوله يعارضه ويقاومه .والتصور الإسلامي عن الوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص . . يختلف في هذا كله عن التصورات الجاهلية اختلافاً جوهرياً أصيلاً . فلا بد إذن من وسط خاص يعيش فيه هذا التصور بكل قيمه الخاصة . لا بد له من وسط غير الوسط الجاهلي ، ومن بيئة غير البيئة الجاهلية .هذا الوسط الخاص يعيش بالتصور الإسلامي ويعيش له؛ فيحيا فيه هذا التصور ، ويتنفس أنفاسه الطبيعية في طلاقة وحرية ، وينمو نموه الذاتي بلا عوائق من داخله تؤخر هذا النمو أو تقاومه . وحين توجد هذه العوائق تقابلها الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وحين توجد القوة الغاشمة التي تصد عن سبيل الله تجد من يدافعها دون منهج الله في الحياة .هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة . الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة والقيم والأعمال والأحداث والأشياء والأشخاص ، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة ، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله ، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض . . والأخوة في الله . كي يقوم كيانها على الحب والتكافل اللذين تختفي في ظلالهما مشاعر الأثرة ، وتتضاعف بهما مشاعر الإيثار . الإيثار المنطلق في يسر ، المندفع في حرارة ، المطمئن الواثق المرتاح .وهكذا قامت الجماعة المسلمة الأولى - في المدينة - على هاتين الركيزتين . . على الإيمان بالله : ذلك الإيمان المنبثق من معرفة الله - سبحانه - وتَمَثُّلِ صفاته في الضمائر؛ وتقواه ومراقبته ، واليقظة والحساسية إلى حد غير معهود إلا في الندرة من الأحوال . وعلى الحب . الحب الفياض الرائق والود . الود العذب الجميل ، والتكافل . التكافل الجاد العميق . . وبلغت تلك الجماعة في ذلك كله مبلغاً ، لولا أنه وقع لعد من أحلام الحالمين! وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة ، ولكنها في طبيعتها أقرب إلى الرؤى الحالمة! وهي قصة وقعت في هذه الأرض . ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان!
وعلى مثل ذلك الإيمان ومثل هذه الأخوة يقوم منهج الله في الأرض في كل زمان . .ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف؛ وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله(1/390)
قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا ، فنزع الله الراية منهم ، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية .وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة . . بالإيمان والائتلاف .وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب ، الذين تحذر أن تطيعهم . كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم . يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه .
--------------
وقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) } [التوبة/71، 72]
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ ، وَمَوَدَّةٌ ، وَتَعَاوُنٌ ، وَتَرَاحُمٌ ، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ : فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ ، وَيَأْمُرُونَ بِهِ ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ . وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ .
وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ أَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخِرَةْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، يُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً ، فِي مَسَاكِنَ طَيِّبَةْ حَسَنَةِ البِنَاءِ ، وَطَيِّبَةِ القَرَارِ فِي هَذِهِ الجَنَّاتِ ، وَوَعَدَهُمْ بِرِضْوَانٍ مِنْهُ أَكْبَرَ وَأَجَلَّ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ .
قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ . فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ : أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ : وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " ( رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَمَالِكُ ) .
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض . إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة . . فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض . أن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض . فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف . وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم . إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل ، وليسوا جماعة متماسكة(1/391)
قوية متضامنة ، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك . والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } . .{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } . .إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة . طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل ، وطبيعة التضامن ، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر .
{ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } . . وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون . ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً . لا تدخل بينها عوامل الفرقة . وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها ، وعن عقيدتها ، هو الذي يدخل بالفرقة . ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها . السمة التي يقررها العليم الخبير!
{ بعضهم أولياء بعض } . . يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإعلاء كلمة الله ، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض .
{ ويقيمون الصلاة } . .الصلة التي تربطهم بالله .
{ ويؤتون الزكاة } . .الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة ، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن .
{ ويطيعون الله ورسوله } . .فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله ، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله . ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله ، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله . . وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم ، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم .
{ أولئك سيرحمهم الله } . .والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها ، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح . رحمة الله في اطمئنان القلب ، وفي الاتصال بالله ، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث . ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله .
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لتقابل من صفات المنافقين : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي .
. وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار . . وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية :
{ إن الله عزيز حكيم } . .قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف ، حكيم في تقدير النصر والعزة لها ، لتصلح في الأرض ، وتحرس كلمة الله بين العباد .(1/392)
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :{ جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } . .للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :
{ ورضوان من الله أكبر } . .وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .
{ ورضوان من الله أكبر } . .إن لحظة اتصال بالله . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من الله يغمر هذا الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع؟
{ ذلك هو الفوز العظيم } . .
فالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا كتبت عليهم الذلة ".
الجهاد سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] . عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط فيها أهلها فضاعت.
ومن المعلوم عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ(1/393)
اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] .
فإذن: هم لن يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى.. سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام.. سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين على حذر .
ــــــــــــــــــــ
63- عدمُ الاغترار بالحياة الدنيا
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) } [لقمان/33]
يُحَذِّرُ اللهُ تَعالَى النَّاسَ مِنْ أَهوالِ يومِ القِيَامَةِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَقْوَاهُ لِينُقِذُوا أَنفُسَهُمْ مِنْ أَهْوَالِهِ ، فَهُوَ يومٌ لا يستَطِيعُ فِيهِ أحدٌ نَفْعَ أحدٍ ، فَلا الوَالِدُ يستَطيعُ أنْ يَفْدِيَ ابنَهُ ، وَلا المَولُودُ يَستَطِيعُ أَنْ يَفْدِيَ وَالِدَهُ ، أَوْ أَنْ يَنْفَعَهُ بشيءٍ ، أَوْ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ ذُنُوبِهِ شَيئاً ، وَلاَ يَنْفَعُ الإِنسانَ فِي ذَلِكَ اليومِ إِلا إِيمَانُهُ برَبِّهِ ، وإِخلاصُهُ العِبَادَة لَهُ ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ .
ثُمَّ يأمرُ اللهُ تَعَالى العِبَادَ بِأَلاَّ تُلْهِيَهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا بِزُخْرُفِها ، وَزِينَتِهَا ، وَمَتَاعِهَا ، عَنِ العَمَلِ النَّافِعِ لِيَومِ القِيَامَةِ ، وَيومُ القِيَامةِ هوَ وعدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ ، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً . كَمَا يَأْمُرُهُمْ بأَلاّ يَغُرَّهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَحْمِلَهُمْ على المَعَاصي بِتَزْيِينِها لَهُمْ .
إن الهول هنا هول نفسي ، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب . وما تنقطع أواصر القربى والدم؛ ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد ، وبين المولود والوالد . وما يستقل كل بشأنه ، فلا يجزى أحد عن أحد ، ولا ينفع أحداً إلا عمله وكسبه . ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس . . فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب؛ وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب .
{ إن وعد الله حق } . . فلا يخلف ولا يتخلف؛ ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب . ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل ، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد .
{ فلا تغرنكم الحياة الدنيا } . . وما فيها من متاع ولهو ومشغلة؛ فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء .(1/394)
{ ولا يغرنكم بالله الغرور } . . من متاع يُلهي ، أو شغل يُنسي ، أو شيطان يوسوس في الصدور . والشياطين كثير . الغرور بالمال شيطان . والغرور بالعلم شيطان . والغرور بالعمر شيطان . والغرور بالقوة شيطان . والغرور بالسلطان شيطان . ودفعة الهوى شيطان . ونزوة الشهوة شيطان . وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور!
-------------------
و قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) } [فاطر/5 ]
يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالحِسَابِ وَالجَزَاء . . هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ مِرْيَة ، فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا ، وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ بِزُخْرُفِها وَزينتِها ، عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُكُمْ يَوْمَ حُلُولِ مَوْعِدِ الحَشْرِ ، وَبَعْثِ الخَلائِقِ ، وَلاَ تَدَعُوا الشَّيطَانَ يَغُرَّكُمْ ، وَيَفْتِنْكُمْ ، وَيَصرِفْكُمْ عَن اتِّبَاعِ رُسُلِ اللهِ ، وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ ، فَإِنهُ غَرَّارٌ كَذَّابٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ - فَلاَ تَخْدَعَنَّكُمْ وَلاَ تُلْهِيَنَّكُمْ .
إن وعد الله حق . . إنه آت لا ريب فيه . إنه واقع لا يتخلف . إنه حق والحق لا بد أن يقع ، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد . ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع . { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } . ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم { ولا يغرنكم بالله الغرور } . . والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم { فاتخذوه عدواً } لا تركنوا إليه ، ولا تتخذوه ناصحاً لكم ، ولا تتبعوا خطاه ، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل! وهو لا يدعوكم إلى خير ، ولا ينتهي بكم إلى نجاة : { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } ! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير؟!
إنها لمسة وجدانية صادقة . فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ، فإنه يتحفز بكل قواه يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات . يتحفز لدفع الغواية والإغراء؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ، ويتوجس من كل هاجسة ، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين ، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم!
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير . حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادرة من عدوه وكل حركة خفية! حالة التعبئة الشعورية ضد الشر ودواعيه ، وضد هواتفه المستسرة في النفس ، وأسبابه الظاهرة للعيان .
حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً .
ــــــــــــــــــــ
64- اتباعُ شرعِ الله :(1/395)
قال تعالى : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) [الجاثية/18-20] }
لَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ يَا مُحمَّدُ ، بَعْدَ اختِلافِ أَهلِ الكِتَابِ ، عَلَى مِنهَاجٍ وَاضِحٍ مِنْ أَمْرِ الدِّين شَرَعَهُ لَكَ ، ولمنْ قَبلَكَ مِنَ الرُّسُلِ ، فاتَّبعْ مَا أَوْحى إِليكَ رَبُّكَ ، وَلا تَتَّبعْ مَا دَعَاكَ المُشرِكُونَ الجَاهِلُونَ إِليهِ مِن عِبَادةِ آلهتِهم ، فَهؤلاءِ لا يَعلَمُونَ طَرِيقَ الحقِّ .
وهؤُلاءِ الجَاهِلُونَ لاَ يَدْفَعُونَ عَنْكَ شَيئاً ممّا أَرادَهُ اللهُ بِك إِنِ اتَّبعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ، وَتَرَكْتَ شَرْعَ رَبِّكَ . والكَافِرونَ يَتَولَّى بَعْضُهُمْ بَعْضاً في الدُّنيا ، وَيُظَاهِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، أَمَّا في الآخِرةِ فلا يُغني أَحَدٌ عنْ أَحَدٍ شَيئاً . أَمَّا المُتَّقُون المهتَدُون فإِنَّ اللهَ وَليُّهُم يَنْصُرُهُم وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ .
إِنَّ هذا القُرآنَ هُدى ودَلائِلُ للنَّاسِ فِيمَا يحتَاجُونَ إِليهِ في أَمرِ دِينِهم ، وَهُوَ بَيِّنَاتٌ تُبَصِّرُهُم ، وَتُعَرِّفُهُم بِواجِبَاتِهِمْ نَحْوَ رَبِّهمْ ، وَهُوَ هُدًى يَهدِيهم إِلى مَا فيهِ خَيرهُمُ وَصَلاحُ أمرِهِم ، وَفيهِ الرَّحمةُ لِقومٍ يُوقِنُونَ بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ العَالمينَ .
وهكذا يتمحض الأمر . فإما شريعة الله . وإما أهواء الذين لا يعلمون . وليس هنالك من فرض ثالث ، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة؛ وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون!
والله سبحانه يحذر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، فهم لا يغنون عنه من الله شيئاً . وهم يتولون بعضهم بعضاً . وهم لا يملكون أن يضروه شيئاً حين يتولى بعضهم بعضاً ، لأن الله هو مولاه : { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض . والله ولي المتقين } .
وإن هذه الآية مع التي قبلها لتعين سبيل صاحب الدعوة وتحدده ، وتغني في هذا عن كل قول وعن كل تعليق أو تفصيل : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين } . .
إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف ، وما عداها أهواء منبعها الجهل . وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ، ويدع الأهواء كلها . وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء . فأصحاب هذه الأهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة . وهم إلب عليه فبعضهم ولي لبعض . وهم يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة له أو جنوحاً عن الهوى الذي يربط بينهم برباطه . ولكنهم أضعف من أن يؤذوه . والله ولي المتقين . وأين ولاية من ولاية؟ وأين ضعاف جهال مهازيل يتولى بعضهم بعضاً؛ من صاحب شريعة يتولاه الله . ولي المتقين؟(1/396)
وتعقيباً على هذا البيان الحاسم الجازم ، يتحدث عن اليقين ، وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين :{ هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } . .ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة . فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور . وهو بذاته هدى . وهو بذاته رحمة . . ولكن هذا كله يتوقف على اليقين . يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك ، ولا يخالطها قلق ، ولا تتسرب إليها ريبة .وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه ، فلا يتلجلج ولا يتعلثم ولا يحيد . وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً ، والأفق منيراً ، والغاية محددة ، والنهج مستقيماً ، وعندئذ يصبح هذا القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين .
ــــــــــــــــــــ
65- تطبيقُ حدود الله تعالى :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } سورة البقرة
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَدْ فَرَضَ ( كَتَبَ ) عَلَيْهِمُ العّدْلَ وَالمُسَاوَاةِ فِي القِصَاصِ ، فَالحُرُّ يُقْتَلُ بِالحُرِّ ، إِذا كَانَ القّتْلُ عَمْداً ، وَالعَبْدُ يُقْتَلُ بِالعَبْدِ ، وَالأُنْثَى تُقْتَلُ بِالأُنْثَى ( وَقَدْ جَرَى العَمَلُ مِنْ لَدُنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ ، وَالحُرِّ بِالعَبْدِ إِنْ لَمْ يَكُنِ القَاتِلُ سَيِّدَ العَبْدِ ، فَإِذا كَانَ سَيِّدَهُ عُزِّرَ بِشِدَّةٍ ) ، وَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلاَّ يَعْتَدُوا وَلا يَتَجَاوَزُوا ، كَمَا اعْتَدَى اليَهُودُ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَغَيَّرُوا حُكْمَ اللهِ ، فَكَانَتْ قَبِيلَةُ بَنِي قُرَيْظَة ضَعْيفةً ، وَقَبِيلَةَ بَنِي النَّضِيرِ قَوِيَّةً ، فَكَانًوا إِذَا قَتِلَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَحَداً مَنْ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمْ يَكُنْ يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُفَادَى ، وَإِذَا قَتَلَ القُرَظِيُّ نَضِيرِيّاً كَانَ يُقْتَلُ بِهِ ، وَإِذَا فَادَوْهُ كَانَ يُفَادَى بِمِثْلَيْ مَا يُفَادَى بِهِ النَّضِيْرِيُّ .
وَكَانَ حَيَّانِ مِنَ العَرَبِ قَدْ اقْتَتَلا فِي الجَاهِليَّةِ قُبَيْلَ الإِسْلامِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا العَبيدَ والنِّسَاءَ ، فَكَانَ أَحَدُ الحَيَّينِ لاَ يَرْضَى حَتَّى يَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنهُ الحُرَّ مِنْ خُصُومِهِ ، وَبِالمَرْأَةِ مِنْهُ الرَّجلَ . وَكَانَ هؤُلاءِ لاَ يَقْتُلونَ الرَّجُلَ الذِي يَقْتُلُ المَرْأَةَ عَمْداً ، وَلكِنْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ ، وَالمَرْأَةَ بِالمَرْأَةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنُ بِالعَيْنِ مُبْطِلاً ذلِكَ التَّعَامُلَ ، فَإِذا قَبِلَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأَخُذَ الدِّيَةَ ، وَيُعْفُو عَنِ القَاتِلِ ، فَعَليهِ أَنْ يَتَّبعَ ذلِكَ بِالمَعْرُوفِ ، وَأَنْ يَطْلُبَ الدِّيَةَ بِرِفْقٍ ، وَأَنْ لاَ يُرْهِقَ القَاتِلَ مِنْ أَمْرِهِ عُسْراً . وَعَلَى القَاتِلِ أَنْ يُؤَدِّيَ المَطْلُوبَ مِنْهُ بإِحسَانٍ ، وَأَنْ لا يَمْطُلَ وَلاَ يَنْقُصَ ، وَلا يُسيء فِي كَيْفيَّةِ الأَدَاءِ .(1/397)
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّهُ شَرَعَ للناَّسِ أَخْذَ الدِّيَةِ فِي حَالَةِ القَتْلِ العَمْدِ تَخْفِيفاً مِنْهُ ، وَرَحْمَةً بِالمُسْلِمِينَ ، إِذْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَى الأُمَمِ السَّالِفَةِ القَتْلُ أَوِ العَفْوُ . وَإِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِياءُ الدَّمِ وَعَفَا أَحَدُهُمْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ ، وَسَقَطَ القِصَاصُ . . وَيَجُوزُ العَفْوُ فِي الدِّيَةِ أَيْضاً . ( وَقِيلَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ مَفْرُوضاً عَلَيهِمُ القَتْلُ لاَ غَيْرَ ، وَأَهْلَ الإِنْجِيلِ أُمِرُوا بِالعَفْوِ ، وَلَيسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مُقَابِلَ العَفْوِ دِيَةً ) .
وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ يَعْتَدِي بِالقَتْلِ عَلَى القَاتِلِ - بَعْدَ العَفْوِ وَالرِّضَا بِالدِّيَةِ - بِالعَذَابِ الشَّدِيدِ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ
فِي القِصَاصِ رَاحَةُ البَالِ ، وَصِيَانَةُ النَّاسِ مِنِ اعتِدَاءِ بَعْضِهمْ عَلَى بَعْضِهِم الآخَرِ ، لأَنَّ مَعْرِفَةَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ يُعَاقَبُ بِالقَتْلِ ، تَحْمِلُهُمْ عَلَى الارتِداعِ عَنِ القَتْلِ ، فَتُصَانُ حَيَاةُ النَّاسِ ، وَحَيَاةُ مَنْ يُفَكِّرُ بِالقَتْلِ . وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى بِالنِّداءِ أَرْبَابَ العُقُولِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى أَنَّ الذِينَ يَفْهَمُونَ قِيمَةَ الحَيَاةِ ، وَيُحَافِظُونَ عَلَيهَا هُمُ العُقَلاَءُ . وَإِذا تَدَبَّرَ أُولًو الأَلبَابِ الحِكْمَةَ مِنْ شَرْعِ القِصَاصِ حَمَلَهُمْ ذلِكَ عَلَى اتِّقَاءِ الاعتِدَاءِ ، وَالكَفِّ عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ .
النداء للذين آمنوا . . بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله ، الذي آمنوا به ، في تشريع القصاص .
وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى ، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى . وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة ، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص .
وهذه الشريعة التي تبينها الآية : أنه عند القصاص للقتلى - في حالة العمد - بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } . .وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني . ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه ، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة . ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال . تحقيقاً لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء .
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة :{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } . .ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة . إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء .
{ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } . .وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة . . يتعين قتله ، ولا تقبل منه الدية . لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب ، ومتى قبل ولي الدم الدية ، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي .
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع . . إن الغضب للدم فطرة وطبيعة . فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص . فالعدل(1/398)
الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور ، ويردع الجاني كذلك عن التمادي ، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع ، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق .
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة . نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . . الآية } . . قال ابن كثير في التفسير : وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم . حدثنا أبو زرعة . حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير . حدثني عبد الله بن لهيعة . حدثني عطاء بن دينار . عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } - يعني إذا كان عمداً - الحر بالحر . . . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية - قبل الإسلام بقليل . فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا .
فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم . . فنزل فيهم : { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . . منسوخة نسختها : { النفس بالنفس } وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } .
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس . . وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى . وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين ، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك . فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً . . فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي - كحالة ذينك الحيين من العرب - حيث تعتدي أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة . فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء . . فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك . وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية ، ولا تعارض في آيات القصاص .
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة :
{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } . .إنه ليس الانتقام ، وليس إرواء الأحقاد . إنما هو أجل من ذلك وأعلى . إنه للحياة ، وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة . . ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة ، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله . .(1/399)