20- " تيجان التبيان في مشكلات القرآن" لمحمد أمين الخطيب العمري(1203هـ ) . انظر الأعلام (6/41) .
21- "ري الظمآن في متشابه القرآن " لأبي محمد الأنصاري الأندلسي النحوي . انظر إيضاح المكنون (3/604) .
22-كتاب "التنزيه وذكر متشابه القرآن " للنوبختي . انظر إيضاح المكنون (4/283) .
23-كتاب "الجوابات في القرآن" ذكره "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/200) . ، لمقاتل بن سليمان ، وله أيضا (متشابه القرآن) ذكره " الأعلام " (8/206) . وله (الآيات المتشابهات) "طبقات المفسرين "للداوودي (2/331) . وكلها مفقودة ، ولعلها أسماء لنفس الكتاب .
24-"كشف غوامض القرآن" لابن طريح الرماحي النجفي(1085هـ ) ذكره "الأعلام" (5/337) .
25-"كشف المعاني عن متشابه المثاني" لابن جماعة(733هـ) ذكره "إيضاح المكنون" (4/367) .
26- "متشابه القرآن" للكسائي(187هـ ) ذكره "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/221) .
27- "متشابه القرآن "لأبي الحسن بن المنادي . انظر "تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (1/213) .
28- "متشابهات الكتاب" للسخاوي . ذكره "إيضاح المكنون "(4/426) .
29- "مجالس في المتشابه من الآيات القرآنية" لابن الجوزي . ورد ذكره في مصادر ترجمته ، انظر على سبيل المثال : الأعلام (4/89) .
30- "مشكل القرآن" لابن مطرف الكناني . ذكره "الأعلام" (6/206) .
31- "هداية الصبيان لفهم بعض مشكل القرآن "للميهي المقري الشافعي . ذكره إيضاح المكنون (1/582) .
32- "البرهان في مسائل القرآن "لعبد الله الجماعيلي الميقدسي (ت620هـ) . انظر البداية والنهاية لابن كثير (13/99) بيروت ، الطبعة الأولى ، 1977 .
33- "ضياء القلوب من معاني القرآن وغريبه ومشكله " للمفضل بن سلمة . ذكره ابن النديم في الفهرست (1/51) .
34- كتاب ابن جراح الوزير "في معاني القرآن وتفسيره ومشكله" . ذكره ابن النديم في الفهرست (1/51) .
35-"كشف المشكلات وإيضاح المعضلات " لأبي الفتح بن منعة الموصلي الشافعي . ذكره البغدادي في إيضاح المكنون (2/367) .
36-"كشف غوامض المنقول في مشكل الآيات والآثار وأخبار الرسول" لمحمد العمري الشافعي ، الشهير بسبط المرصفي . ذكره إسماعيل باشا في إيضاح المكنون (4/363) .
37- "مشكلات المثنوي" . ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون "(2/1695) ولم يبين اسم المؤلف ولم يذكر نبذة عن الكتاب .
38- "درر الكلمات على غرر الآيات الموهمة للتعارض والشبهات " لبيان الحق النيسابوري . ذكره في "معجم المؤلفين "(12/182) و"إيضاح المكنون "(2/58) وانظر مقدمة تحقيق "وضح البرهان "للداوودي (1/14) ، وبهذا يكون الإمام بيان الحق النيسابوري له ثلاث كتب في هذا الفن وهي "وضح البرهان" و"باهر البرهان "وهما مطبوعان ، و"درر الكلمات"وهو مفقود .
39- "جوابات القرآن "للإمام أحمد بن حنبل . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/72) .
40- "متشابه القرآن "لبشر بن المعتمر(210هـ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/117) .
41- "متشابه القرآن "لجعفر بن حرب الهمذاني(236هـ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/127) .
42- "المشكل" لداود بن علي الظاهري(270هـ ) . ذكره الداوودي في "طبقات المفسرين" (1/173) ، ولم يذكر هل هو مشكل القرآن أو الحديث .
43- "متشابه القرآن "لأبي البقاء العكبري(616هـ) . ذكره الداوودي في طبقات المفسرين (1/232) .
44-"ري الظمآن في متشابه القرآن" لعبدالله بن عبدالرحمن الأنصاري الأندلسي(634هـ ) . انظره إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي (3/604) ، استنبول ، الطبعة الأولى ، 1945 .
45-كتاب "التنزيه وذكر متشابه القرآن" للحسن النوبختي . ذكره في "إيضاح المكنون" (4/283) .
46- "متشابه القرآن "لحمزة الزيات (156هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 36) .
47- "متشابه القرآن "لنافع (170هـ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 36) .
48- "متشابه القرآن "لخلف (229هـ ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 36) .
49- "متشابه القرآن "لمحمود الوراق(230هـ ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 36) .
50- "متشابه القرآن "لأبي هذيل العلاف (235) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 37) .
51- "متشابه القرآن "لأبي علي الجائي (303هـ ) . انظر الفهرست لابن النديم (ص : 37) .
52- "متشابه القرآن "لأبي بكر القطيعي(368هـ) . ذكره في إيضاح المكنون (4/426)
53- "متشابه القرآن "لأبي الحسن المنادي (336هـ) . انظر تاريخ التراث العربي (1/213) .
54- "نفي التحريف عن القرآن الشريف "للواحدي . انظر طبقات المفسرين للأدنروي (ص : 128) .
55- "المسائل في القرآن "للجاحظ(255هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/16) .
56- "أجوبة الإقناع والاحتساب في مشكلات مسائل الكتاب "محمد بن الفخار الجذامي (703هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/212) .(7/264)
57- "كتاب المشكلين : مشكل القرآن والسنة" لأبي بكر بن العربي(543هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/169) .
58- "متشابه القرآن " ، لأبي على الجبائي شيخ المعتزلة(303هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/192) .
59- "غوامض التأويل " لأبي سعيد الشلوبين الإشبيلي(641هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/268) .
60- "مشكل القرآن " لابن نجيح النفزي(437هـ) . انظر طبقات المفسرين للداوودي (2/338) .
ويلاحظ فيما سبق أن أكثر الكتب هي المفقودة ، مما يتطلب من العلماء وطلبة العلم البحث عنها ، وإخراج هذه الكنوز للأمة ، والإفادة منها في تفنيد شبهات الطاعنين والمشككين ، ولا ننس أيضا تلك المخطوطات الصادرة عن ( مؤسسة آل البيت ) والمتصلة منها بالتفسير وعلومه ، وقد أشرنا إلى طرف منها في نهاية الكلام السابق عن المخطوطات(78) .
--------------------------------------------------------------------------------
(77) ولكن قال ابن أبي حاتم في"الجرح والتعديل"في ترجمة محمد بن أيوب بن هشام المزني المعروف ، بكاكا الرازي قال : روى عن الحميدي عن ابن عيينة"جوابات القرآن"وروى عن الأصمعي نا عبد الرحمن ، قال : سألت أبى عنه ، فقال : هذا كذاب ، لم يكن عند الحميدي من هذا شيء وهذا شيخ كذاب انظر : كتاب الجرح والتعديل (7/198) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1952 ، فالله أعلم .
(78) انظر : صفحة 41
(1/9)
--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثاني : أسباب الطعن في القرآن
وفيه أربعة مباحث هي :
المبحث الأول : لماذا هذه الحرب على القرآن؟
المبحث الثاني : ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن؟
المبحث الثالث : أنواع المطاعن .
المبحث الرابع : أسباب الاختلاف في القرآن .
المبحث الأول : لماذا هذه الحرب على القرآن؟
عرف أعداء الله أهمية كتاب الله تعالى في نفوس المسلمين ، ومدى تعلقهم به ، وعلموا أنه هو باعث نهضتهم ، ومحيي همتهم ، وموحد كلمتهم ، وسبب نجاتهم وقوتهم .
يقول الحاخام الأكبر لإسرائيل سابقا مردخاي الياهو ، مخاطبا مجموعة على وشك الالتحاق بالجيش الإسرائيلي : (هذا الكتاب الذي يسمونه القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد ، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته ، كيف يمكن تحقيق السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتابا يتحدث عنا بكل هذه السلبية ؟! على حكام العرب أن يختاروا ؛ إما القرآن أو السلام معنا)(79) .
وفي بدايات هذا القرن كان الجنود الإيطاليون يتغنون بأنشودتهم : (أنا ذاهب إلى ليبيا فرحا مسرورا ، لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ومحو القرآن ، وإذا مت يا أماه فلا تبكيني ، وإذا سألك أحد عن عدم حدادك فقولي : لقد مات وهو يحارب الإسلام )(80) .
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر : (إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ، ويتكلمون العربية)(81) .
ويقول وليم جيفورد : (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب ، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدا عن محمد وكتابه)(82) .
ويقول اللورد كرومر في مصر : (جئت لأمحو ثلاثا : القرآن والكعبة والأزهر)(83) .
يقول جون تاكلي : (يجب أن نستخدم القرآن -وهو أمضى سلاح-ضد الإسلام نفسه ، بأن نعلم هؤلاء الناس-يعني المسلمين- أن الصحيح في القرآن ليس جديدا ، وأن الجديد ليس صحيحا)(84) .
ويقول غلادستون -وزير المستعمرات البريطاني سنة 1895 ، ثم رئيس الوزراء - : ( لن تحقق بريطانيا شيئا من غاياتها في العرب ، إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب ، أخرجوا سر هذا الكتاب -القرآن- مما بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود)(85) .
وقال أيضا : ( ما دام هذا القران موجودا في أيدي المسلمين ، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق ، ولا تكون هي نفسها في أمان )(86) .
إذن هم يعرفون أن القرآن مصدر قوة المسلمين ؛ لذلك أعلنوا الحرب على كتاب الله، وهذه الحرب قديمة قدم نزول القرآن ، كما قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ( [فصلت : 26] ؛ يعني أن الغلبة لهم على المسلمين إنما تكون باللغو والطعن في القرآن .
ومن أهداف الطعن في كتاب الله :
1- حرب المسلمين ؛ لأن الكفار رأوا أن أهل الإسلام لا يمكن قهرهم بالسنان والحروب العسكرية ؛ لأنهم قوم يحبون الموت كما هم يحبون الحياة ، وإنما كان هذا الحب للشهادة في نفوس المسلمين ، لما في كتاب الله من الثناء والحث على الشهادة في سبيله ، لذلك توجهوا بالحرب إلى القرآن حتى ينتزعوا القدسية عن القرآن ، ويثبتوا أنه ليس من عند الله تعالى، بل من عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومن ثَم يتم إبعاد المسلمين عن مصدر توحيدهم وسر قوتهم.(7/265)
2- فتح باب النزاع والشقاق بين المسلمين على مصراعيه ، يقول تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ( [البقرة : 176] .
3- زرع الفتن بين المسلمين كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ…( [آل عمران : 7] .
4- هدم الإسلام : فقد روي عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْر ، قَالَ : قَالَ لِي عُمَرُ : هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قَالَ : قُلْتُ لَا . قَالَ : يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ)(87) .
وبهذا يتحقق لهم ما يريدون ، ويصبح المسلمون صيدا سهلا ، بل قد يصبح المسلمون في صف الكفار وأتباع ملتهم (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ…( [البقرة : 120] .
وللأسف فقد تحقق لهم الكثير من هذا ، فقد عُزل الكتاب عن التحكيم بين الناس ، واستبدل بقانون الغرب ، وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : « خذوا العطاء ما دام العطاء لله ، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه ، يمنعكم الفقر والحاجة ، ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار ، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم مالا يقضون لكم ، فإذا عصيتموهم قتلوكم ، وإن أطعتموهم أضلوكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نصنع؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير ، وحملوا على الخشب ، موتُُ في طاعة الله خير من حياة في معصية الله » (88) .
--------------------------------------------------------------------------------
(79) انظر : مجلة البيان ، العدد : 159 ، بتاريخ ذو القعدة 1421هـ ، وجريدة البلاد (السعودية) : 30 رجب 1421هـ .
(80) انظر : صلاح الأمة في علو الهمة لسيد عفاني (6/575) نقلا عن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية للدكتور أحمد شلبي .
(81) قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله ، لجلال العالم ، ص : 31 .
(82) المرجع السابق ص : 49 .
(83) الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ، أنور الجندي : ص 29 ، دار الاعتصام ، سلسلة دائرة الضوء .
(84) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي (ص : 329) ، الدورة السابعة ، العدد 7 ، الجزء الرابع لعام 1992 ، و رد افتراءات المبشرين على القرآن الكريم ، لجمعة (ص : 263) ، و واجب المسلمين في نشر الإسلام للأستاذ زيد الفياض (ص : 19) .
(85) القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان ، أحمد عمران ، (ص : 17) ، دار النفائس ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1995 .
(86) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ، للدكتور فهد الرومي ( ص : 442 ) مكتب الرشد ، الرياض ، الطبعة الخامسة ، 1412 ، هجمة علمانية جديدة ومحاكمة النص القرآنى ، د . كامل سعفان ( ص : 97 ) .
(87) أخرجه الدارمي (المقدمة باب : في كراهية أخذ الرأي ، رقم : 214) .
(88) أخرجه الطبراني في الصغير (2/42) والكبير (20/90) وفي مسند الشاميين(1/379) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228) : (رواه الطبراني ويزيد بن مرثد لم يسمع من معاذ ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره ، وبقية رجاله ثقات . ) .
(1/10)
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الثاني : ما الحكمة من وجود المتشابه في القرآن ؟
والباعث على البحث في هذا هو الجواب على شبهة : " أن القرآن إنما أنزل للهدى والبيان فكيف اشتمل على المتشابه " ؟
وقد تكلم في جواب هذا كثير من العلماء ، وخاضوا في حكمة إنزال المتشابه ، وذكروا أمورا بعضها قوي ، وبعضها لا يخلو من مقال ، وبعضها يتعجب الناظر فيه كيف أمكن أن يقال ، وبعضها لا يستحق الذكر .
أما أمثلها وأقواها فيما قال العلماء ، فهو أن الحكمة من إنزال المتشابه تتجلى في أمور:
الأول : أن الله أنزله مختبراً به عباده ؛ فأما المؤمن فلا يداخله فيه شك ولا يعتريه ريب ، وهو بين أمرين ، إما قادر على رده إلى المحكم ، وإما قائل : آمنا به كل من عند ربنا . إن لم يتبين له معناه ، فأمره كله خير ، وتعظم بذلك مثوبته ، وتزيد عند الله درجته .
وأما المنافق فيرتاب ولا يزيده القرآن إلاّ خسارا ، وأما من كان في قلبه زيغ -كأهل البدع - ، فيتبعون المتشابه ؛ ليفتنوا الناس عن القرآن وصحيح السنة وينزلوه على مقتضى بدعتهم .(7/266)
وسياق الآية وما بعدها دال على أن هذا من حكمة إنزال المتشابه ؛ إذ قال تعالى :
(وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلاّ أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب( [آل عمران : 7-8] .
فالمؤمنون رغبوا إلى ربهم أن لا يزيغ قلوبهم كما زاغت قلوب أهل الزيغ ، إذ هو - أي المتشابه - فتنة للعقول والقلوب ، وسألوا أن ينزل عليهم رحمة يربط بها على قلوبهم وعقولهم فلا تزيغ ، وفي هذا الإشارة إلى أن أهل الزيغ والبدعة محرومون من بركة هذا الدعاء ، كل بحسب بدعته ، وبعده عن السنة .
وقد ذكر الله في القرآن أنه ينزل ما يمتحن به عباده ؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانا ؛ ويضل غيرهم من أهل الضلال ، كما قال تعالى : (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاُ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين( [البقرة : 26] .
قال الإمام عبدالرحمن السعدي في تفسيره : ( يقول تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاُ ما( أي مَثَلٍ كان (بعوضة فما فوقها( لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق ، الله لا يستحيي من الحق (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم( فيفهمونها ويتفكرون فيها ، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، إزداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلاّ علموا أنها الحق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها ، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة ، (وأما الذي كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً( فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفراً إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيماناً إلى إيمانهم ، ولهذا قال : (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً( فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية ، قال تعالى : (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناُ وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون( [ التوبة : 124 - 125 ] فلا أعظم من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة ، وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم )(89) .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادِ الذين أمنوا إلى صراط مستقيم( [الحج 52 - 54 ] .
قال ابن القيم : ( والمقصود أن قوله : (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض( هي لام التعليل على بابها ، وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة ، فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر ، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه ، وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء)(90) .
ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى : (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلّا طغياناً كبيراً( [الاسراء : 60] .
قال ابن كثير - بعدما ذكر تفسير ابن عباس : أن الرؤيا هي ليلة الإسراء ، والشجرة هي شجرة الزقوم - : ( وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد ، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق ؛ لأنه لم تحتمل عقولهم وقلوبهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين ، ولهذا قال : (إلاّ فتنة( . أي اختبارًا وامتحاناً ، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم ، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل - لعنه الله- :هاتوا تمرا وزبداً ، فجعل يأكل هذا بهذا ويقول :تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا )(91) .
فهذا كله يدل على أن الله يختبر عباده بما شاء ، وإنزاله المتشابه من هذا فإنه فتنة ، وقد ضل به كثير ممن ضل عن الحق ، كما رفع الله به أهل الإيمان بيقينهم ، ورسوخهم درجات من عنده .
الثاني : إن في إنزال المتشابه إظهارا لفضل العلماء وتفاضلهم فيما بينهم ، وفيه أيضاً تعريضهم لمزيد من المشقة والصعوبة في معرفة الحق منها ، فيعظم أجرهم ، ويرتفع عند الله شأنهم .(7/267)
وأيضاً فإنه يدعوهم لتحصيل علوم كثيرة ، نيط بها استنباط ما أريد بالمتشابه من الأحكام الحقة ، فتتسع بذلك علومهم . وأيضاً فإنه يدرب العلماء على استنباط المعاني الدقيقة ، فتقوى بذلك بصائرهم ، ولو أنزل القرآن كله محكماً ، لاستوى في معرفته العالم والجاهل ، ولم يكن في استنباط ما فيه مشقة توجب عظيم المثوبة(92) .
وقال الإمام فخر الدين الرازي : "من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات . وقال : إنكم تقولون : إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة. ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هوالمرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا ؟
الجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها :
أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب(93) .
الثالث : أنه لو كان القرآن كله محكما ، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان بصريحه مبطلا لكل ما سوى ذلك المذهب ، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله ، وعن النظر فيه والانتفاع به ، فإذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه ، طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه ، وينصر مقالته ، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب ، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب ، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، وبهذه الطرق يتخلص المبطل من باطله ويتوصل إلى الحق.
الرابع : أن القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه ، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات ، وترجيح بعضها على بعض ، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه ، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة ، فكان ، في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة . . . (94) .
الخامس : أن المشتبهات ليست في الأمور المطلوبة من المكلف العمل بها ، وإنما هي في بعض الأمور العقدية التي يطالب فيها المكلف بالتفويض والتسليم لله تعالى فيها ، ويقول :
(آمنا به كل من عند ربنا( .
ومما قيل - وهو ضعيف - ما نقله السيوطي - رحمه الله - عن بعضهم قال : ( وإن كان مما لا يمكن علمه ، ففيه فوائد ؛ منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده ، والتوقف فيه ، والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ ، وإن لم يجز العمل بما فيه ، وإقامة الحجة عليهم ؛ لأنه منزل بلسانهم ولغتهم ، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم ، فدل على أنه منزل من عند الله ، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف)(95) .
وهو ضعيف ؛ لأنه قد تقرر تضعيف القول باشتمال القرآن على ما لا يمكن معرفة معناه ، لكن إذا قيل : إن هذا من حكمة إنزال المتشابه بالنسبة لبعض العباد ، وهو البعض الذي لم يعلم معنى المتشابه ، صح من هذه الجهة .
وأما قوله : (إقامة الحجة عليهم . . . إلى آخر ما ذكر) فبعيد ؛ وذلك لأن ما لا يفهم له معنى ، فاحتجاج المشركين به على الطعن في القرآن ، أقرب من الاحتجاج به عليهم أنه معجز ، ولا يخفى أنهم لو قالوا : لو أنزل هذا القرآن كله بلغتنا ولساننا ، لما عجزنا عن فهم بعضه . ولجاءوا بقوي من الحجة تسوغ لهم الطعن في القرآن ، فكيف يجعل عدم فهمهم لمعناه دليلاً على نزوله بلغتهم ؟!ولكن بلغ من الإعجاز بحيث لا يفهمون معناه ؛ فما أبعد هذا .
ومما قيل في الحكمة وهو باطل قطعاً ، قولان :
الأول : وهو أبطل قول ، ونعني به ما ذكره الرازي وجعله الأقوى ، قال : ( والخامس وهو السبب الأقوى : أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص ، والعوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العلمية المحضة ، فمن سمع من أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ، ظن أن هذا عدم محض ، فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وتوهموه ، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح ، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات ، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو من المحكمات)(96) .
ولازم هذا القول أن الله أنزل المتشابه ؛ ليضل به جمهور المؤمنين المعظمين للقرآن ، باعتقاد ظاهره ، ثم بعد ذلك يبين لهم أن ما أُخبرتم به أولاً كان كذبا لمصلحتكم .(7/268)
القول الثاني : وهو قريب من الأول في البطلان ، أو مثله ، ونعني قول القاضي عبد الجبار : (ومنها - أي الحِكَم - أن كون القرآن كذلك - أي محكماً ومتشابها - يصرفه أن يعول على تقليده ؛ لأنه يرى أنه ليس بأن يقلد كلامه عز وجل في نفي التشبيه ؛ لقوله عز وجل : (ليس كمثله شيء( أولى من أن يقلده في خلافه لقوله عز وجل : (وجاء ربك( . فكما أن اختلاف العلماء في الديانات ، وقول بعضهم في المذهب بخلاف قول صاحبه ، يصرف المميز عن تقليدهم ؛ لأنه ليس تقليد بعضهم بأولى من تقليد سائرهم ، فكذلك انقسام القرآن إلى الوجهين اللذين ذكرناهما ، يصرف من ذلك لا محالة ، وما صرف عن التقليد المحرم ، وبعث على النظر والاستدلال ، فهو في الحكمة أولى)(97) .
وهذا الكلام غاية في البطلان ؛ فإن القرآن إنما أنزل ليتبع ويقلد ؛ قال تعالى : (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون([الأنعام : 155] ، وقال تعالى : (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم( [الأعراف : 3] وقال : (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم( [الزمر : 55] ، وقال : (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلّا ما يوحى إلي( [يونس : 15] . وقال : (واتبع ما يوحى إليك من ربك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين( [يونس : 109] . فإلى الله المشتكى ، وهو الحاكم فيمن يجعل اتباع القرآن تقليداً محرماً ، إنه لعجب كيف أمكن أن يقال هذا الباطل من المنتسبين إلى علماء الملة الحنيفية ، وقد عظَّم الله شأن القرآن ورفعه فوق زبر الأولين ، وجعله إماماً لخير الأمم .
قال تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا([المائدة : 48] .
وقال : (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً( [الإسراء : 9] . وكيف يكون القرآن حاكماً إذا كان نزوله من أجل أن يصرف الناس عن تحكيمه في عقيدتهم ؟! قال عز وجل : (آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد( [إبراهيم : 1]. وقال : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين( [النمل : 89] . وقال : (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه( [البقرة : 213] .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
--------------------------------------------------------------------------------
(89) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/46-47) ، دار المدني ، جدة ، 1408 .
(90) شفاء العليل لابن القيم ص : 193 ، تحقيق محمد بدر الدين الحلبي ، دار الفكر ، بيروت ، 1978 .
(91) تفسير ابن كثير (3/48) ، مكتبة دار التراث ، القاهرة .
(92) انظر : تفسير أبي السعود (2/8) ، الخازن (1/320) تفسير أبي الليث السمرقندي (2/13) ، تفسير النسفي (1/246) ، تفسير البيضاوي (2/4) ، تفسير القرطبي (4/89) وانظر : كذلك التمهيد لأبي الخطاب (2/276) . فتح القدير للشوكاني (1/318)
(93) وقد تقدم ذكر هذه الفائدة ؛ لذلك لم أرقمها .
(94) راجع الإتقان 2/31 .
(95) المصدر السابق (2/16) .
(96) أساس التقديس ص 192 ، وانظر : تفسيرالفخر الرازي أيضاً (7/172) .
(97) متشابه القرآن للقاضي عبدالجبار(1/26) .
(1/11)
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الثالث : أنواع المطاعن
الطاعنون في القرآن كثر ، ومطاعنهم وشبهاتهم كثيرة ، وحصرها قد يعيي الباحث ، ويكل المجد ، ولكن حقيقة هذه الطعون أنها تدور في أفلاك محددة ، وتنبع من مشكاة واحدة ، ويمكننا أن نرجعها إلى أصول وقواعد تلملم شعث هذه الطعون ، والرد على هذه الأصول يتكفل بالرد على جميع ما تحته من طعونات لا تعد ولا تحصر(98) ، ويمكننا أن نرد المطاعن إلى أربعة أصول يتفرع من بعضها فروع ؛ وهي :
1- نفي نسبة القرآن لله تعالى : ويشمل عدة طعون :
-نسبته إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه من تأليفه(99) .
-نسبته إلى الاقتباس من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل(100) .
-دعوى عدم قدسيته وإمكانية نقده ومخالفته(101) ؛ يعني قد يقر بأنه ليس من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه من الله تعالى، ولكن يقول هو ليس مقدسا ، بل يمكن نقده ، وهذا الكلام حقيقته نفي القرآن عن الله تعالى ؛ لأن ما كان من الله سبحانهفهو مقدس ولا يمكن نقده ، وما كان من غيره فينطبق عليه ما يجري على كلام البشر من خطأ أو عجز أو جهل ، إلى غير ذلك من نقائض البشر .
2- زعم عدم حفظه :
يعني قد يقر بأن القرآن من الله جل جلاله ، ولكن يزعم عدم حفظه فيدعي :(7/269)
- أنه ليس هو القرآن الذي أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم )، بل قد غير وبدل ، وأما الأصل فلا وجود له(102) .
- أنه زيد فيه ونقص(103) ؛ يعني قد يقر بأن القرآن الموجود هو الكتاب الذي نزل من الله ، ولكن يقول إنه زيد فيه أو نُقص منه .
3- اتهام القرآن بالتناقض :
- تناقض الآيات بعضها مع بعض(104) .
4- اتهام القرآن بمعارضة الحقائق :
- معارضة الحقائق الشرعية(105) .
- معارضة الحقائق التاريخية(106) .
- معارضة الحقائق الكونية ، أوحقائق العلم التجريبي الحديث(107) .
والملاحظ في هذه الطعون هو التدرج فيها ، فكلما انتفت شبهة انتقلوا إلى التي تليها .
ولو علم المسلمون هذه الشبه الأربع والرد عليها لما حصل ما نراه الآن من تأثر كثير من المسلمين بها ، بل والاعتقاد فيها أو التسليم بها .
والمطاعن من حيث صراحتها تنقسم إلى نوعين :
1- طعون واضحة وصريحة ، وهذا هو الغالب في طعون المستشرقين .
2- طعون غامضة وملتوية وغير مباشرة ، وهذا الغالب في طعون العلمانيين .
--------------------------------------------------------------------------------
(98) ويكفي في هذا الرد الإجمالي الذي سيأتي في الفصل الأول من الباب : الثاني .
(99) انظر : الإسقاط في مناهج المستشرقين للدكتور شوقي أبو خليل (ص : 47) ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1995 ، و معالم تاريخ الإنسانية ، لويلز (3/626) ، وتاريخ الدولة العربية ، ليوليوس فلهاوزن (ص : 8) ، ترجمه عن الألمانية ، د . محمد أبو ريدة ، الألف كتاب ، القاهرة ، 1958وغيرها من المراجع .
(100) انظر : المستشرقون والدراسات القرآنية للدكتور محمد حسين الصغير ، (ص : 118-120) ، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر ، الطبعة الثانية ، 1986 ، ودائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص : 16) ، والعقيدة والشريعة في الإسلام لجولدتسيهر ص : 12 ، عن كتاب القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين للدكتور أحمد الشاعر(ص : 93) دار القلم ، الكويت ، الطبعة الثانية ، 1982 ، وانظر : القرآن والمستشرقون ، لنقرة(ص : 31) وغيرها من المراجع .
(101) انظر : القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين ، للدكتور أحمد الشاعر (ص : 96-97) ، والتمهيد في تاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبدالرازق (ص : 5) ، نقض مطاعن في القرآن الكريم ، لمحمد أحمد عرفة ، ص : 4 ، و (طه حسين حياته وفكره) لأنور الجندي ، ص : 144 ، نقلا عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر وغيرها من المراجع .
(102) انظر : دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية ، لإبراهيم عوض (ص : 7) ، و الوحي الجديد (ص : 44) ، نقلا عن كتاب مناقشات وردود ، لمحمد فريد وجدي (ص : 370) ، وغيره من المراجع .
(103) انظر : لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ، د . فضل حسن عباس ، دار النور للطباعة النشر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1989 ، و الشيعة والقرآن ، لإحسان إلاهي ظهير ، مكتبة إدارة ترجمات السنة ، لاهور باكستان ، وكتاب (أيلتقي النقيضان) لمحمد مال الله ، دار النفير ، الكويت ، الطبعة الأولى ، 1421 ، وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، د . ناصر بن عبدالله القفاري ، الفصل الأول من الباب : الأول بعنوان (اعتقادهم في القرآن) (1/123) وغيره من المراجع .
(104) انظر : كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري تحقيق السيد أحمد صقر ، المكتبة العلمية ، وكتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير له أيضا تحقيق مروان العطية ومحسن خرابة ، دار ابن كثير ، دمشق ، الطبعة الأولى ، 1990 ، وأضواء على متشابهات القرآن ، لخليل ياسين مكتبة الهلال ، بيروت ، وباهر القرآن في معاني مشكل القرآن لبيان الحق النيسابوري تحقيق سعاد بابقي ، من مطبوعات جامعة أم القرى ، 1997 ، وغير ذلك من المراجع .
(105) انظر : كتاب : رد مفتريات على الإسلام ، لشلبي ، ص : 38 ، عن رسالة المجلس الملي القبطي الأرثوذكس بالإسكندرية ، و دائرة المعارف البريطانية (ص : 22) ، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ، للعقاد (ص276) ، المكتبة العصرية ، بيروت ، وغير ذلك من المراجع .
(106) انظر : المستشرقون والدراسات الإسلامية ، للدكتورمحمد حسين الصغير (74-75) ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، و في الشعر الجاهلي لطه حسين (ص : 26) ، و مدخل إلى علم التفسير ، للدكتور محمد بلتاجي ص : 170 ، وغير ذلك من المراجع .
(107) انظر : رد مفتريات على الإسلام ، لعبدالجليل شلبي ، دار القلم ، الكويت ، الطبعة الأولى ، 1982 ، ومدخل إلى علم التفسير لأستاذنا الدكتور بلتاجي ، مكتبة الشباب : ، 1998 ، وغير ذلك من المراجع .
(1/12)
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الرابع : أسباب الاختلاف في القرآن(7/270)
ذكرنا في المبحث السابق الطعون العامة التي يوردها الطاعنون ، ونشير هنا إلي الأسباب التي كانت وراءها ، أو التي دفعت هؤلاء إلي الخوض في قضايا تمس القرآن الكريم ، ومن ثم يمكن القول بأن اختلافهم في القرآن يرجع إلى مجموعة من الاعتبارات ؛ نذكر أهمها فيما يلى :
أما نفي نسبة القرآن إلى الله تعالى ، وزعم عدم حفظ القرآن ، وما يندرج تحتهما من طعونات ، فإنها دعاوى من غير أدلة ولا برهان ، وسببها الحقد المحض ، ولعل سببها الوحيد لديهم دعواهم وجود التناقض في القرآن ، والتناقض دليل على عدم قدسيته .
وأما دعوى تناقض القرآن فإنها ترجع لخمسة أسباب ، كما ذكرها الزركشي ، فقد قال - رحمه الله - :
الأول : وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى :
كقوله تعالى في خلق آدم إنه (من تراب( [ آل عمران : 59] ، ومرة (من حمأ مسنون( [الحجر : 26] ، ومرة (من طين لازب( [الصافات : 11] ، ومرة (من صلصال كالفخار( [الرحمن : 14] ، وهذه الألفاظ مختلفة ، ومعانيها في أحوال مختلفة ؛ لأن الصلصال غير الحمأ ، والحمأ غير التراب ، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر ، وهو التراب ، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال .
ومنه قوله تعالى : (فإذا هي ثعبان مبين( [ الشعراء : 32 ] ، وفي موضع (تهتز كأنها جان( [القصص : 31] ، والجان الصغير من الحيات ، والثعبان الكبير منها ؛ وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته .
السبب الثاني : اختلاف الموضوع :
كقوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسئولون([الصافات : 24] ، وقوله : (فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين( [ الأعراف : 6 ] ، مع قوله : (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان( [الرحمن : 36] ؛ قال الحليمي : فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل ، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه .
وحمله غيره على اختلاف الأماكن ؛ لأن في القيامة مواقف كثيرة ، فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به ، وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار ، وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون .
وقوله : (ولا يكلمهم الله يوم القيامة([البقرة : 174] ، مع قوله : (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون([الحجر : 92-93] وقيل : المنفي كلام التلطف والإكرام ، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة ، فلا تنافي ، وقيل : إن المنفي كلامهم في النار، والمثبت كلامهم في الحساب .
وكقوله : (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين([الأنعام : 23] ، مع قوله : (ولا يكتمون الله حديثا([النساء : 42] ، فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق ، والجواب من وجهين ؛ أحدهما : أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب ، وفي بعضها لا يقع ، كما سبق ، والثاني : أن الكذب يكون بأقوالهم ، والصدق يكون من جوارحهم ، فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق .
ومنه قوله تعالى : (اتقوا الله حق تقاته([آل عمران : 102] ، مع قوله : (فاتقوا الله ما استطعتم([التغابن : 16] ، يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي ، رحمه الله ، أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد ، والثانية على الأعمال ، والمقام يقتضي ذلك ؛ لأنه قال بعد الأولى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون( .
وقيل : بل الثانية ناسخة ؛ قال ابن المنير : الظاهر أن قوله : (اتقوا الله حق تقاته( إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره ، وقد فسر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق تقاته بأن قال : « هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر » . فقالوا : أينا يطيق ذلك . فنزلت(فاتقوا الله ما استطعتم( وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس ، كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا ، والاقتدار منزل على هذا الاعتبار ، ولم ينحط من درجاته ، وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني : وفي كون ذلك منسوخا نظر ، وقوله : (ما استطعتم( هو (حق تقاته( إذ به أمر فإن (حق تقاته( الوقوف على أمره ودينه ، وقد قال بذلك كثير من العلماء اهـ .
والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره (حق تقاته(لم يثبت مرفوعا ، بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي ، وليس فيه قول الصحابة : أينا يطيق ذلك ، ونزول قوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم( .(7/271)
ومنه قوله تعالى : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة([النساء : 3] مع قوله في أواخر السورة : (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم( [النساء : 129] فالأولى تُفهم إمكان العدل ، والثانية تنفيه ؛ والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن ، وهذا ممكن الوقوع وعدمه ، والمراد به في الثانية الميل القلبي ؛ فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض ، وقد كان يقسم بين نسائه ثم يقول : " اللهم هذا قسمي في ما أملك ، فلا تؤاخذني بما لا أملك " . يعني ميل القلب ، وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل .
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام ؛ أشار إليه ابن عطية ، وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير ، فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى : (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى([النساء : 95] ثم قال سبحانه : (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما( والأصل في الأولى : وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة ، والأصل في الثانية : وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات .
وكقوله تعالى : (إن الله لا يأمر بالفحشاء([الأعراف : 28] مع قوله : (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها([الإسراء : 16] ، والمعنى أمّرناهم وملّكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا ، والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء ؛ لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد ، وفرقٌ بين الأمر الكوني والديني .
الثالث : الاختلاف في جهتي الفعل :
كقوله تعالى : (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم( [الأنفال : 17] ؛ أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة ، ونفاه عنهم باعتبار التأثير ؛ ولهذا قال الجمهور : إن الأفعال مخلوقة لله تعالى ، مكتسبة للآدميين ، فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى . وكذا قوله : (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى([الأنفال:17] أي ما رميت خلقا إذ رميت كسبا . وقيل : إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي ، وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل ؛ قال ابن جرير الطبري : وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد ؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه ، وذلك فعل واحد ؛ لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال ، وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة ، فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد ، ومن الخلق الاكتساب بالقوى .
ومثله قوله تعالى : (الرجال قوامون على النساء([النساء : 34] وقال تعالى : (وقوموا لله قانتين([البقرة : 238] فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل .
الرابع : الاختلاف في الحقيقة والمجاز :
كقوله : (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى([الحج : 2] (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت([إبراهيم : 17] وهو يرجع لقول المناطقة : الاختلاف بالإضافة . أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا ، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة .
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى : (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين( [البقرة:8] وقوله : (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون([الأنفال : 21] ، وقوله تعالى : (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون( [الأعراف : 198] ، فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار ، لجواز قولهم : نظرت إليه فلم أبصره .
الخامس : بوجهين واعتبارين :
وهو الجامع للمفترقات ، كقوله : (فبصرك اليوم حديد([ق : 22] وقال : (خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي([الشورى : 45] ، قال قطرب : (فبصرك( : أي علمك ومعرفتك بها قوية ، من قولهم : بصر بكذا وكذا . أي علم ، وليس المراد رؤية العين ، قال الفارسي : ويدل على ذلك قوله : (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم الحديد( وصف البصر بالحدة .(7/272)
وكقوله تعالى : (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك( [الأعراف : 127] مع قوله : (أنا ربكم الأعلى( [النازعات : 24] ؛ فقيل : يجوز أن يكون معناه : ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم ، ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه ، ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى ، كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل ، فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له ، فيحسن قولهم : (وآلهتك((108) ، وقوله تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله( [الرعد : 28] مع قوله : (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم( [الأنفال : 2] فقد يظن أن الوجل خلاف الطمأنينة ؛ وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، فتوجل القلوب لذلك ، وقد جمع بينهما في قوله : (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله( [الزمر : 23] فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ، ووثقوا به ، فانتفى عنهم الشك .
وكقوله : (خمسين ألف سنة( [المعارج : 4] وفي موضع (ألف سنة( [السجدة : 5]، وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل (وكان يوما على الكافرين عسيرا( [الفرقان : 26] . وكقوله : (بألف من الملائكة مردفين( [الأنفال : 9] وفي آية أخرى (بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين( [آل عمران : 124] ، قيل : إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف ، وكان الأكثر مددا للأقل ، وكان الألف (مردفين) بفتحها…)(109) .
إذن فأسباب إيهام التناقض عند الزركشي خمسة : -
السبب الأول : وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى .
السبب الثاني : اختلاف الموضوع .
السبب الثالث : اختلافهما في جهتي الفعل .
السبب الرابع : اختلافهما في الحقيقة والمجاز .
السبب الخامس : الاختلاف لوجهين واعتبارين .
وذكر صاحب كشف الأسرار أن من أسباب الاختلاف في القرآن :
(1- ( الغُمُوض فِي المعنى ) أَيْ الْإشكال إنَّمَا يَقَعُ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى , وَمِنْ نَظَائِرِهِ قولُه تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ( , اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ ، فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ ، بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ , وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى .
2- (والاستعارة البديعة) وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ( , فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ ، وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ, وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا ، وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ ، وَصِفَةُ نُقْصَانٍ , وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ ، فَعُرِفَ بَعْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ صِفَةُ كَمَالِهِ ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ , وَهِيَ مَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ( , فَاللِّبَاسُ لَا يُذَاقُ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ، وَالْإِذَاقَةُ أَثَرُهَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا شُمُولَ لَهَا ، فَاسْتُعِيرَتْ الْإِذَاقَةُ لِمَا يَصِلُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ إلَى الْبَاطِنِ وَاللِّبَاسُ بِالشُّمُولِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ . أَيْ أَثَرُهُمَا وَاصِلٌ إلَى بَوَاطِنِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ شَامِلًا لَهُمْ . )(110)
ولعل أضبط التقاسيم بالنسبة لأسباب الطعون هو ما ذكره الراغب الأصبهاني(111) ؛ حيث قال :
(والمتشابه من القرآن : ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره ؛ إما من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ؛ فقال الفقهاء : المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب :
محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم من وجه متشابه من وجه .
فالمتشابه في الجملة(112) ثلاثة أضرب :
متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومتشابه من جهة المعنى فقط ، ومتشابه من جهتهما .
- والمتشابه من جهة اللفظ ضربان :
1- أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، وذلك :
أ-إما من جهة غرابته نحو : الأبّ(113) ، ويزفون(114) .
ب-وإما من جهة مشاركة اللفظ كاليد ، والعين(115) .
2- والثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك ثلاثة أضرب :(7/273)
أ- ضرب لاختصار الكلام نحو : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ…)[النساء : 3] ، أي فلا تتزوجوهن وانكحوا … ،
ب- وضرب لبسط الكلام نحو : ( ليس كمثله شيء) [الشورى-11] ، لأنه لو قيل : ليس مثله شيء . كان أظهر للسامع .
ج - وضرب لنظم الكلام نحو (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما( [ الكهف/1-2] ، تقديره : أنزل الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجاً . وقوله : (لولا رجالٌ مؤمنون( إلى قوله : (لو تزيّلوا([ سورة الفتح /25] .
- والمتشابه من جهة المعنى : أوصاف الله تعالى ، وأوصاف يوم القيامة ، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا ؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ، أو لم يكن من جنس ما نحسه .
-والمتشابه من جهة المعنى واللفظ جميعاً خمسة أضرب :
الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص(116) نحو : (اقتلوا المشركين( [ التوبة5].
والثاني : من جهة الكيفية كالوجوب والندب(117) ، نحو : (فانكحوا ما طاب لكم من النساء( [النساء/3] .
والثالث : من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ(118) نحو : (اتقوا الله حق تقاته([آل عمران : 102] .
والرابع : من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو : (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها( [البقرة : 189]وقوله : (إنما النسيء زيادة في الكفر( [التوبة : 37] ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية .
والخامس : من جهة الشروط التي بها يصح الفعل ، أو يفسد ، كشروط الصلاة والنكاح.
وهذه الجملة إذا تصورت ، علم أن كل ما ذكره المفسرون من تفسير المتشابه ، لا يخرج عن هذه التقاسيم .
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب :
ضرب لا سبيل للوقوف عليه ، كوقت الساعة ، وخروج دابة الأرض ، وكيفية الدابة ونحو ذلك .
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته ، كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة .
وضرب متردد بين الأمرين ، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ، ويخفى على من دونهم ، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام لابن عباس "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل " .
وإذا عُرفت هذه الجملة عُلم أن الوقف على قوله : (وما يعلم تأويله إلا الله( ووصله بقوله (والراسخون في العلم( جائز ، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم . اهـ .
--------------------------------------------------------------------------------
(108) وقيل إن معنى(آلهتك) إلاهتك أي عبادتك ، انظر : تفسير ابن كثير (2/239) .
(109) البرهان للزركشي (64-74) بتصرف واختصار .
(110) كشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري الحنفي (1/54) ، دار الكتاب الإسلامي ، بيروت .
(111) في كتابه المفردات (ص : 443- 444 ) تحقيق الداوودي ، دار القلم ، دمشق .
(112) يعني بقسميه المتشابه المطلق ، والمتشابه من وجه .
(113) كما في قوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : 31] .
(114) كما في قوله تعال (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) [الصافات : 94] .
(115) فاليد تطلق على الجارحة والقوة والنعمة ، وكذلك العين لها عدة معان مشتركة فتطلق على الشمس والبئر والجارحة وغير ذلك .
(116) العموم : هو شمول الحكم لكل فرد من أفراد الحقيقة ، والخصوص : هو إخراج بعض ما يتناوله العموم قبل تقرر حكمه ، انظر : تقريب الأصول إلى علم الأصول لابن جزئ الكلبي ، ص : 137-141 ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1414 .
(117) الوجوب : ما طلب الشرع فعله طلبا جزما (تقريب الأصول ص : 211) ، والندب : ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم (السابق ص : 212) .
(118) الناسخ : هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا ، التقريب ، ص : 430 ، المنسوخ : هو الحكم الشرعي المرفوع بالخطاب الشرعي المتراخي عنه ، السابق ، نفس الموضع .
(1/13)
--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثالث : مواجهة دعاوى الطعن في القرآن
وفيه ثلاثة مباحث هي :
المبحث الأول : تنزيه كلام الله عن المطاعن .
المبحث الثاني : موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن .
المبحث الثالث : قواعد التعامل مع المطاعن .
المبحث الأول : تنزيه كلام الله عن المطاعن
في هذا المبحث نبين عقيدة من عقائد المسلمين الثابتة ، ولكن قل من يعرف أدلتها من الكتاب ، فأحببت في هذا المبحث أن أجمع جميع الآيات التي تدل على تنزيه كلام الله
- تعالى - من المطاعن وشرح معناها .(7/274)
قال تعالى : (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا( [النساء : 82] ، فالتدبر للقرآن ، ومعرفة أنه ليس فيه أدنى اختلاف ، يورث الإنسان العلم أنه من عند الله ، إذ لو كان من عند البشر لكان فيه اختلاف كثير ، قال البغوي : ( أي أفلا يفكرون فيه فيعرفوا-بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر-أنه كلام الله تعالى ؛ لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن التناقض والاختلاف)(119) .
وقال تعالى : (ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ( [البقرة : 1-2] أي لا شك فيه ، وكلمة (ريب( نكرة في سياق النفي فتعم ، فنفى الله جميع أنواع الريب والشك كبيرها وصغيرها ظاهرها وباطنها ، قال القرطبي : (لا ريب نفي عام ، والريب هو الشك والتهمة ، فكتاب الله لاشك فيه ولا ارتياب . )(120) .
وهذا أمر عجيب ، فالعادة في كتب بني البشر أن يستفتح أحدهم كتابه بالاعتذار وإظهار العجز ، وأن كتابه فيه أخطاء ، والمرجو تقبل الحق الذي فيه ، والتماس العذر لأخطائه ، وبعضهم يطالب القارئ بإصلاح ما يجد ، وبعضهم يقول :
إن تجد عيبا فسد الخللا جل من لا عيب فيه وعلا ولكن الله - تعالى - استفتح كتابه بهذه الكلمة ، معلنا فيها التحدى لكل من يقرأ أن يجد فيه خطأ أو ريبا أو شكا .
وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا( [الكهف : 1] ، فليس فيه أدنى اعوجاج ، وما كان كذلك فلا يمكن أن يتطرق الطعن فيه ، قال القاسمي -رحمه الله- : (( عوجا( أي شيئا من العوج ، باختلال في نظمه وتناف في معانيه ، أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق ، بل جعله مزيلا للعوج إذ جعله
( قيما ( ((121) .
وقال تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( [الزمر : 23] .
فهذا القرآن هو أحسن الحديث وأجمله ، فلا كتاب أحسن منه ، وإذا كان القرآن أحسن الحديث ، فإنه لا يمكن لما هو أحسن الحديث ، أن يكون فيه تناقض أو إشكال أو مجال للطعن .
وقال تعالى : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( [فصلت : 42] ، قال ابن كثير رحمه الله : (أي ليس للبطلان إليه سبيل ؛ لأنه منزل من رب العالمين )(122) ، وهذا نص صريح على استحالة وجود الباطل في كتاب الله ، بل على استحالة افترائه عليه ، فإن الله يوكل من عباده من ينفي عنه انتحال المبطلين، وتحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وذلك مصداقا لقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر : 9] ، فـ (مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ( [التكوير : 25] ، بل هو كتاب عظيم فصل (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ() وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ( [الطارق : 13-14] .
فهذا الكتاب (مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210 ) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ( [الشعراء : 210-211] ، والدليل أنهم لا يستطيعون التحدي لهم بمثل قوله تعالى : (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا( [سراء : 88] .
ومن الأدلة على أن هذا الكتاب من عند الله قوله تعالى : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ([العنكبوت : 48] .
فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام ، ويتحدى به الثقلين ، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي .
وقد شهد على صحة هذا القرآن أهل الكتاب كما قال تعالى :
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ( [الأنعام : 114] .
وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ( [الشعراء : 192-197] .(7/275)
(…وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ()وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ( [المائدة : 82-83] .
ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله ، ويضل به الملايين من الناس ، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة : (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ( [يونس : 37] وقال تعالى : (تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ()وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ()لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ()ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ()فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ([الحاقة : 44-47].
ونحن نقول -على سبيل التنزل- لمن أنكر أن القرآن كلام الله : افرض أن هذا الكتاب من عند الله حقا ، وأنك مخطئ ، فما أنت صانع (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ( [فصلت : 52] .
وقد توعد الله تعالى المكذبين بهذا الكتاب بالنكال والعذاب ، فقال : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ( [الأنعام : 157] .
وقال تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ( [الزمر : 55] .
وأخيرا نقول لمن كفر بالقرآن : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا( [الإسراء : 107-108](123) .
000000000000
(119) معالم التنزيل للبغوي (2/254) ، تحقيق محمد النمر ، دار طيبة ، الرياض ، الطبعة الأولى ، 1989 .
(120) جامع أحكام القرآن للقرطبي (1/112) باختصار .
(121) محاسن التأويل للقاسمي (5/7) ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1994 .
(122) تفسير القرآن العظيم لابن كثير(4/102) .
(123) وسوف يأتي - إن شاء الله - مزيد أدلة على صحة القرآن ، وأنه من الله تعالى في الفصل الأول ، من الباب الأول ، في مبحث الأدلة على صدق القرآن .
(1/14)
000000
المبحث الثاني : موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن
هذا المبحث في غاية من الأهمية ؛ لأننا قوم نتبع على بصيرة ولا نبتدع ، وقد أُمرنا بالاقتداء بالسلف الصالح ، الذين هم خير القرون عند الله ، وقضية الحرب على القرآن ليست وليدة اليوم ، بل هي حرب قديمة مستمرة وستستمر ، فهذه تجارب يجب أن نستفيد منها ، حتى نبدأ من حيث انتهوا ، فنستفيد علما ووقتا .
فنقول : ينقسم موقف السلف مع من يثيرون الشبه حول القرآن إلى قسمين بحسب حال الشخص :
أولاً : إن كان طالبَ حق وسؤالُه سؤال استرشاد ، ولكنه قد أشكل عليه ، فإنهم معه على النحو التالي :
1- تعليمه التسليم والانقياد للنص :
كما ورد عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي
الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ(124) أَنْتِ؟ قُلْتُ : لَسْتُ
بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ . قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)(125) .(7/276)
وفي الصحيحين أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا ، وَفِينَا بُشَيْرُ ابْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) « الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ » قَالَ : أَوْ قَالَ : « الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ » فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ ، أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ . قَالَ : فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ ، وَقَالَ : أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَتُعَارِضُ فِيهِ . قَالَ : فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ ، قَالَ : فَأَعَادَ بُشَيْرٌ ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ : فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ : إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ)(126) .
2- تعليمه بالتي هي أحسن ، أخذا من قوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر( [ الضحى : 10] ، وقوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( [النحل : 125] وقوله : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( [العنكبوت : 46] ، والمسلم أولى بالإحسان من الكتابي .
وذكر الداوودي في ترجمة الشنبوذي (عن الداني أنه قال : دخل الشنبوذي على عضد الدولة زائرا ، فقال له : يا أبا الفرج إن الله تعالى يقول : (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ( [النحل : 69] ونرى العسل يأكله المحرور فيتأذى به ؛ والله الصادق في قوله ، فقال : أصلح الله الملك ، إن الله لم يقل : فيه الشفاء للناس . بالألف واللام ، الَّذيْنِ يدخلان لاستيفاء الجنس ، وإنما ذكره مُنَّكرا ، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض .
قال الداني : والصواب أن الألف واللام في قوله : (للناس( لا يستغرقان الجنس كله ، كما لا يستغرقان في قوله : (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم([آل عمران : 173]وقوله : (فنادته الملائكة([آل عمران : 39]وقوله : (وقالت اليهود عزير ابن الله([التوبة : 30] وشبهه)(127) .
3- الشدة أحيانا على من لا يخاف عليه النفرة بالشدة ، وعنده من العلم ما لا ينبغي معه أن يسأل هذا السؤال ؛ كحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا -وفي رواية أنهم تكلموا في القدر- فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ : « بِهَذَا أُمِرْتُمْ - أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ - أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ، إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ ، فَاعْمَلُوا بِهِ وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا »(128) .
ثانيا : وأما إن كان السائل يسأل تعنتا ، فإن لهم معه طرقا كثيرة :
1- تعليمه السؤال الصحيح : عن عامر بن وائلة ، أن ابن الكواء سأل عليا - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ قال : ويلك سل تفقها ، ولا تسأل تعنتا(129)
2- تأديبه إن كان له عليه قدرة وسلطة : كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ؛ فعن السائب بن يزيد ، أن رجلا قال لعمر - رضي الله عنه - : إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه . فدخل الرجل على عمر يوما وهو لابس ثيابا وعمامة ، وعمر يقرأ القرآن ، فلما فرغ قام إليه الرجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على ؛ قتب ، وأبلغوا به حيَّه ، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم(130) .
3- هَجْره ، والتحذير منه ، وعدم مناظرته :
وهذا لثلاثة أسباب(131) :
أ- لتأديبه : كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ .
ب-لأن صاحب الشبهة إن كان مغموسا في باطله ، ويطلب نصرته ، أو يريد التشكيك في الحق ، فإنه لا ينفع معه الجدال :(7/277)
قال تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( [الأنعام : 68] .
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ( : « فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»(132).
ج-إذا كان الراد على الشبه لا يأمن على نفسه من التأثر :
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ .
وعَنْ أَيُّوبَ قَالَ : رَآنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ جَلَسْتُ إِلَى طَلْقِ بنِ حَبِيبٍ فَقَالَ لِي : أَلَمْ أَرَكَ جَلَسْتَ إِلَى طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ لَا تُجَالِسَنَّهُ .
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ، قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ ، فَلَا تَقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ .
وعَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لِأَيُّوبَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ ، قَالَ : فَوَلَّى وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ ، وَأَشَارَ لَنَا سَعِيدٌ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنَى)(133) .
4- مناظرته والتصدي له إن انتشرت بدعته وراجت ، أو كان ذا سلطان :
كما حصل مع الإمام أحمد وابن أبي دؤاد في فتنة خلق القرآن ، وكما حصل مع عبدالعزيز الكناني مع بشر المريسي ، وحكيت وقائع هذه المناظرة في كتاب الحيدة ، وهذه سنة إبراهيمية شرعية(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [البقرة : 258] .
5- تأليف الكتب التي تنقض بدعته وشبهته ، وتبين زيف كلامه .
6- إقامة حد الله عليه ، إن كان تحت ولاية المسلمين .
7- إن كان الطاعن ذا شوكة فالحرب ؛ قال ابن القيم : (ومن بعض حقوق الله على عباده ، رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ، ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان ، وليس وراء ذلك حبة خردل من الايمان ، وكان انتهي إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين ، فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه ، وظن المسلم أنه بضربه يداويه ، فسطا به ضربا وقال : هذا هو الجواب . فقال الكافر : صدق أصحابنا في قولهم ، إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب ، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب ، فشمر المجيب ساعد العزم ، ونهض على ساق الجد ، وقام لله قيام مستعين
به ، مفوض إليه ، متكل عليه في موافقة مرضاته ، ولم يقل مقالة العجزة الجهال : إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال ، وهذا فرار من الزحف ، وإخلاد إلى العجز والضعف ، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة ، وإزاحة للعذر ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحي من حي عن بينة ، والسيف إنما جاء منفذا للحجة ، مقوما للمعاند ، وحدا للجاحد قال تعالى : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز([الحديد : 25] فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ، ونفذه السيف الماضي :
فََمَا هُوَ إلاَّ الوَّحْيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ(134) يُقيمُ ظَبَاهُ (135)أخْدَعَيْ(136) كل مائلِ
فهذا شفاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عالمٍ وهذا دواءُ الدَّاءِ مَنْ كُلِّ جاهِلِ ) (137)(7/278)
(124) الحرورية : الْحَرُورِيّ مَنْسُوب إِلَى حَرُورَاء بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّ الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْد الْوَاو السَّاكِنَة رَاءٌ أَيْضًا ، بَلْدَة عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْكُوفَة ، وَالْأَشْهَر أَنَّهَا بِالْمَدِّ ، قَالَ الْمُبَرِّد : النِّسْبَة إِلَيْهَا حَرُورَاوِيّ ، وَكَذَا كُلّ مَا كَانَ فِي آخِره أَلِف تَأْنِيث مَمْدُودَة ، وَلَكِنْ قِيلَ الْحَرُورِيّ بِحَذْفِ الزَّوَائِد ، وَيُقَال لِمَنْ يَعْتَقِد مَذْهَب الْخَوَارِج حَرُورِيّ ؛ لِأَنَّ أَوَّل فِرْقَة مِنْهُمْ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ بِالْبَلْدَةِ الْمَذْكُورَة فَاشْتُهِرُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا ، وَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَة ، لَكِنْ مِنْ أُصُولهمْ الْمُتَّفَق عَلَيْهَا بَيْنهمْ الْأَخْذُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَرَدُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيث مُطْلَقًا ، وَلِهَذَا اِسْتَفْهَمَتْ عَائِشَة مُعَاذَة اِسْتِفْهَام إِنْكَار , وَزَادَ مُسْلِم فِي رِوَايَة عَاصِم عَنْ مُعَاذَة فَقُلْت : لَا وَلَكِنِّي أَسْأَل ، أَيْ سُؤَالًا مُجَرَّدًا لِطَلَبِ الْعِلْم لَا لِلتَّعَنُّتِ ، وَفَهِمَتْ عَائِشَة عَنْهَا طَلَبَ الدَّلِيل فَاقْتَصَرَتْ فِي الْجَوَاب عَلَيْهِ دُون التَّعْلِيل ) [انظر : فتح الباري (1/502) ] .
(125) متفق عليه ؛ (البخاري : كتاب الحيض ، باب : لا تقضي الحائض الصلاة ، رقم : 315 ، ومسلم : كتاب الحيض ، باب : وجوب الصوم على الحائض دون الصلاة ، رقم : 335 .
(126) متفق عليه ؛ البخاري : كتاب الأدب ، باب : الحياء ، رقم : 5766 ، ومسلم : كتاب الإيمان ، باب : عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها ، رقم : 37 .
(127) طبقات المفسرين للداوودي (2/60) .
(128) أخرجه الإمام أحمد (6806) ، وابن ماجه (في المقدمة في باب : في القدر ، رقم : 85) ، وإسناده حسن.
(129) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(17/21) .
(130) المصدر السابق (17/21) .
(131) انظر : الروض الريان في أسئلة القرآن (1/75) بتصرف وزيادة .
(132) متفق عليه ؛ (البخاري : كتاب تفسير القرآن ، باب : منه آيات محكمات ، رقم : 4273 ، ومسلم : كتاب العلم ، باب : النهي عن اتباع متشابه القرآن ، رقم : 2665 .
(133) كل هذه الآثار أخرجها الدارمي في المقدمة ، في باب : اجتناب أهل الأهواء والبدع والخصومة .
(134) حد مرهف : المرهف السيف الحاد . ( مختار الصحاح ( 1/109 ) .
(135) ظباه : ظب السيف جمع ظُبَة ، وهو حد السيف . ( لسان العرب ( 15/22 ) .
(136) الأخدعان : عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق . ( لسان العرب ( 8/66 )
(137) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ، لابن القيم (ص : 31) والبيتان لأبي تمام : انظر : "المثل السائر"2/295 .
(1/15)
المبحث الثالث : قواعد التعامل مع المطاعن
لنا في التعامل مع المطاعن التي تثار حول كتاب الله قواعد عدة ، وهي كالتالي :
أولا : اليقين التام بأن جميع هذه المطاعن مفتراة مكذوبة ، لا أصل لها من الصحة ، ولا أساس لها من الواقع ، وإنما هي محض أوهام بل أضغاث أحلام ، جاءت من قلب امرئ حاقد أو جاهل ؛ لأن الله تعالى يقول : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ( [فصلت : 42] ، فما كان لنا إن نكذب ربنا ونصدق ملحدا حاقدا أو مجادلا جاهلا ، وهذه القضية في غاية من الأهمية ؛ إذ أن كل من تأثر بالمستشرقين من المعاصرين لم تكن عنده هذه القضية من المسلمات ، بل ضعف يقينهم في هذا الباب أدى بهم إلى هذه المزالق .
ثانيا : إن عدم قدرة إنسان معين على الرد ، ليس معناه الهزيمة والعجز وإثبات الطعن ، بل إنه لا يخلو زمان من قائم لله بالحجة ؛ لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر : 9] .
ثالثا : قانون العمل عند وجود الطعن لسبب ما :
1- الجمع بين مدلولات النصوص والتوفيق بينها ما أمكن : فالخاص يقدم على العام ، والمطلق يقيد بالمقيد . . إلخ .
2- فإن تعذر الجمع ، فالنسخ إن أمكن ذلك ، وعلم المتقدم والمتأخر .
3- فإن تعذر ذلك لجأنا إلى الترجيح ، فيقدم الراجح للعمل .
مسلك الترجيح بين الآيات يقوم على الأتي :
1- تقديم المدني على المكي .
2- أن يكون الحكم على غالب أحوال أهل مكة ، والآخر على غالب حال أهل المدينة ، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة .
3- أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه ، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب .
4- أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر .
5- أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه .
6- ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا .(7/279)
قال الزركشي(138) : (فصل في القول عند تعارض الآي : قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : إذا تعارضت الآي ، وتعذر فيها الترتيب والجمع ، طلب التاريخ ، وترك المتقدم منهما بالمتأخر ، ويكون ذلك نسخا له . وإن لم يوجد التاريخ ، وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين ، علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها .
قال : ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين .
وذكروا عند التعارض مرجحات :
الأول : تقديم المدني على المكي ، وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى مكة ، والمدنية قبلها ، فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصيص والتقديم ؛ إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة .
الثاني : أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة ، والآخر على غالب أحوال أهل المدينة ، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة ، كقوله تعالى : (ومن دخله كان آمنا( مع قوله : (كتب عليكم القصاص في القتلى( [ سورة البقرة 178 ] فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل ، جعل التخصيص في قوله تعالى : (ومن دخله كان آمنا( كأنه قال إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله : (غير محلي الصيد وأنتم حرم([سورة المائدة : 1] ونهيه ( عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى : (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين( [سورة المائدة : 4] فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم ، وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه .
الثالث : أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه ، والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه ، فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب ، كقوله تعالى : (وأتموا الحج والعمرة لله( [سورة البقرة : 196 ] مع قوله : (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي( [ البقرة : 196 ] وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر ، وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له ، فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله : (وأتموا الحج والعمرة لله( على ما عارضه من الآية .
الرابع : أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد ، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر ، كقوله : (وأن تجمعوا بين الأختين( بقوله : (وما ملكت أيمانكم(فيخص الجمع بملكه اليمين بقوله تعالى : (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف( [ النساء : 23 ] فتحمل آية الجمع على العموم ، والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال .
الخامس : أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه ، كقوله : (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم( [ المائدة : 106 ] مع قوله تعالى : (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا(
[ الحجرات : 6] الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم ، أو مسلم فاسق على كافر ، وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا ، أو يحمل ظاهر قوله : (أو آخران من غيركم( على القبيلة دون الملة ، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ ، وتخصيص الغير بالقبيلة ؛ لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير .
السادس : ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا ، كتقديم قوله تعالى : (وأحل الله البيع( [البقرة : 275] على قوله : (وذروا البيع( [ الجمعة : 9 ] فإن قوله : (وأحل( يدل على حل البيع ضرورة ، ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا ، أو تكون ظاهرة منحطة عن النص) اهـ .
وقد ذكر الشوكاني في كتابه " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " في باب أنواع الترجيح(139) طرقا كثيرة للترجيح : فباعتبار المتن ذكر ثمانية وعشرين نوعا ، وباعتبار المدلول تسعة أنواع ، والترجيح باعتبار أمور خارجة ذكر عشرة أنواع ؛ فالمجموع سبعة وأربعون نوعا للترجيح .
يقول الشوكاني : (واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الإسناد ، وقد يكون باعتبار المتن ، وقد يكون باعتبار المدلول ، وقد يكون باعتبار أمر خارج ، فهذه أربعة أنواع)(140).
( فأما باعتبار السند فهذه لا يلتفت إليها في القرآن ؛ لأنه قطعي الثبوت ، وإنما تكون في التعارض بين الأحاديث .
وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع ، فمن الأنواع التي لها أثر فيما ظاهره التعارض في القرآن :
1-تقديم الحقيقة على المجاز ، لتبادرها إلى الذهن ، هذا إذا لم يغلب المجاز كقوله تعالى ( . . بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ . . ( فيكون المراد بها اليد الحقيقية لا المجاز بمعنى القوة والكرم ، لاسيما والتثنية تأباه .
2- أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك .
3- أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية .(7/280)
4- أنه يقدم ما كان مستغنيا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه .
5-أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالا على المراد من وجه واحد .
6- أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة .
7- أنه يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة .
وأما المرجحات باعتبار المدلول فهي أنواع :
1- أنه يقدم ماكان ناقلالحكم الأصل والبراءة علىماكان مبقيا على البراءة الأصلية.
2- أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد .
وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع :
1- أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر .
2- أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كذلك كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبارة على الإشارة)(141) .
يضاف لهذا ما ذكره الزركشي .
(138) البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/48-51) .
(139) إرشاد الفحول (2/382-394) .
(140) إرشاد الفحول (2/382) .
(141) المرجع السابق ، باختصار وتصرف .
(1/16)
00000
الباب الثاني (تطبيقي): موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم
وفيه فصلان :
الفصل الأول : الردود الإجمالية على من طعن في القرآن.
الفصل الثاني : الردود التفصيلية على من طعن في القرآن.
الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن
-وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول:الأدلة على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
المبحث الثاني :الأدلة على صدق القرآن و ما فيه .
المبحث الثالث: ردود القرآن على الطاعنين.
المبحث الرابع : ردود إجمالية أخرى .
المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي نزل عليه القرآن ، وهو الذي كان يقول إنه من عند الله تعالى ، وإنه المعجزة الخالدة والآية الباقية ، فإن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقا فما يقوله حق ، لذا أردت في هذا المبحث أن أذكر بعض أدلة صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، التي منها نستفيد صدق القرآن وأنه من عند الله حقا.
وكتوطئة لهذا المبحث ، فإن إرسال الرسل واجب عقلي ؛ لأن الفِطر والعقول دلتنا على وجود الخالق سبحانه وأنه المستحق للعبادة ، ولكن العبادة لا يمكن الاهتداء لمعرفة صفتها وتفصيلها إلا عن طريق واسطة عن الله عز وجل ، يخبرنا بصفتها التي يحبها الله سبحانه ، ويخبرنا عن ما يحل وما يحرم وما ينفعنا وما يضرنا(142) ، لذلك قال الله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( [الإسراء:15] ، وقال سبحانه : ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( [النساء:165]، وقال جل جلاله : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ( [الإسراء:134] ،
وقال جل في علاه : ( وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( [القصص:47].
إذن فإرسال الرسل واجب عقلي ، وهو أيضا واقع عملي ؛ فإن التاريخ لا يزال يخبرنا عن الكثير من الرسل والأنبياء وحالهم مع قومهم ، وكيف كانت لهم الغلبة والنصرة دائما ؛ لذلك لما أنكرت قريش على النبي ( صلى الله عليه وسلم )رسالته ، قال له الله تعالى آمرا له بالاستدلال بالتاريخ والواقع : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ... ( [الأحقاف:9].
فإذا كان العقل والواقع يدلان على أهمية إرسال الرسل(143) ؛ لم يجز إذن إنكار بعثة الرسل ، بل الواجب هو طلب الدليل من مدعي الرسالة والنبوة على رسالته ، من باب قوله تعالى : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( [البقرة:111] .
وهذا ما فعله الكثير من الأمم السابقة إذا أرسل إليهم أحد ، أو ادعى النبوة قالوا : (...لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ... ([البقرة :118]، ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ.. ( [الأنعام:37]، ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا.. ( [الأنعام:109]،( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ... ( [يونس:20].
وفي المطالب الآتية نذكر بعض الآيات والدلائل على صدق رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
المطلب الأول : بشارة الكتب السابقة به:
أعني شهادة التوراة والإنجيل والكتب السابقة بصدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومعجزته (القرآن)، قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ( [الشعراء:196] .(7/281)
يقول القرطبي :(أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء ، وقيل: أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين ; كما قال تعالى: ( يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( [الأعراف: 157] والزبر الكتب ،الواحد زبور، كرسول ورسل)(144) .
وقال تعالى:( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ( [الصف:6] .
وقال تعالى مبينا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ليسوا فقط مذكورين في التوراة والإنجيل بأسمائهم ، بل بصفتهم كذلك : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( [الفتح:29] .
بل بلغ من وصف الله تعالى لنبيه ( في الكتب السابقة ، أنهم أصبحوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه ؛ قال تعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( [البقرة :146] .
وقد ألف العديد من العلماء كتبا جمعوا فيها النصوص من التوراة والإنجيل ، وغيرها من الكتب السابقة ، التي تشهد على صدق نبوة نبينا ( ، منهم :
إبراهيم خليل أحمد ألف كتاب " محمد في التوراة والإنجيل والقرآن " (145) .
والداعية أحمد ديدات ألف كتاب " ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) " (146) .
ود.أحمد حجازي السقا ألف كتاب " البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل " (147) .
ود. صلاح صالح الراشد ألف كتاب "البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب ؛ 99دليلا على وجود النبي المبشر به في التوراة والإنجيل "(148).
وفي كتاب ابن القيم رحمه الله (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) فصل بعنوان (نصوص الكتب المتقدمة في البشارة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ))(149)وكذا في كتاب شيخه ابن تيمية "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (150) .
وفيما يلي بعض نصوص التوراة والإنجيل(151) :
- في التوراة في سفر التثنية الأصحاح (18)فقرة(15-30): يقول الرب تعالى لموسى : (سأقيم لبني إسرائيل نبيا من أخوتهم(152) مثلك(153) أجعل كلامي في فيه(154) ، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه(155)ومن سبطه).
وفي سفر التثنية ، الأصحاح(18)فقرة(9-13): (قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين ، فسيقيم لكم الرب نبيا من أخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي ).
- وفي الإنجيل : في إنجيل يوحنا الأصحاح (14)فقرة(15):(إن المسيح قال للحواريين إني
ذاهب وسيأتيكم الفارقليط(156) روح الحق ، لا يتكلم من قبل نفسه ، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد عليَّ وأنتم تشهدون ؛ لأنكم معي من قبل الناس) .
وقد ذكر الدكتور حجازي أكثر من خمسين نصاً في الإنجيل على البشارة بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقد أخفى النصارى إنجيل برنابا الذي يصرح فيه باسم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) محمد وأنه النبي المبشر به من قبل المسيح وأنه آخر الرسل(157).
وصدق الله إذ يقول:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [الأعراف:157] .(7/282)
وعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ :لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي التَّوْرَاةِ ،قَالَ :أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا )(158) وزاد الإمام أحمد :قَالَ عَطَاءٌ لَقِيتُ كَعْبًا(159) فَسَأَلْتُهُ فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا يَقُولُ بِلُغَتِهِ : أَعْيُنًا عُمُومَى وَآذَانًا صُمُومَى وَقُلُوبًا غُلُوفَى)(160).
وعَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قَالَ :جَلَبْتُ جَلُوبَةً(161) إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتِي قُلْتُ :لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ . قَالَ : فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ ، فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا ، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ ،كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « َنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي».فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا . قَالَ ابْنُهُ :إِنِّي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ ، أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ :« أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ ،ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ وَحَنَّطَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ » (162).
ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب قصة الإمام أبي محمد عبدالله الميورقي الترجمان (المتوفى سنة 832هـ)، الذي كان من أكبر قساوسة النصارى في وقته ، بل كان مهيئا لأن يصبح البابا الأكبر ، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم )، ثم ألف كتاب " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب " ، وقسمه قسمين ؛ القسم الأول : في ذكر قصة إسلامه ، والثانية في الردود المفصلة على النصارى(163) ، وذكر قصة انتقاله إلى الإسلام في سبع عشرة صفحة هذا مختصرها:
قال : اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة(164)، وكان والدي محسوبا من أهل حاضرة ميورقة ، ولم يكن له ولد غيري ، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين ،قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره في مدة سنتين ، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لاردة من أرض القسطلان(165)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر ، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى ، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه ، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين ، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازما ذلك مدة أربع سنين ، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جدا ،وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف الذي هو صباغ الله ،فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه:(نقلاو مرتيل)، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جدا ، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية ، فكانت الأسئلة في دينهم تَرد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم ،ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه ، ويرغبون في التبرك به ، وفي قبوله لهداياهم ، ويتشرفون بذلك .
فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه ،ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه ، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلىَّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه ، وصير جميع ذلك على يدي ، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه ،والله أعلم .(7/283)
فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين ، ثم أصابه مرض يوما من الدهر ، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه ، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم ، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل - على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل - :( إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط)(166)، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه ، وعظم مقالهم وكثر جدالهم ، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة ، فأتيت مسكن القسيس ، فقال : ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم ، فقال لي:وبماذا أجبت أنت ؟فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل . فقال لي: ما قصرت وقربت ، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب ، ولكن الحق خلاف هذا كله ؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم ، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل ، فبادرت قدميه أقبلهما وقلت له : يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد ، ولي في خدمتك عشر سنين ، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها ، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم .
فبكى الشيخ وقال لي : يا ولدي ، والله أنت لتعز علي كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليَّ ،في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة ، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك ، فتقتلك عامة النصارى في الحين . فقلت له : يا سيدي ، والله العظيم ،وحق الإنجيل ومن جاء به ، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك .
فقال لي : إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام ، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق ، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل.
فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى ؟ فقال لي : يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول ، لكانوا على دين الله ؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله ، ولكن بدلوا وكفروا .
فقلت : يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر ؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام.فقلت:وهل ينجو الداخل فيه ؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة. فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم ؛فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه ؟ فقال: يا ولدي إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني ، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك ، لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة ،وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى ، من رفعة الجاه والعز ، والترف ، وكثرة عرض الدنيا ، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام ، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين ، فأقول لهم : إني جئتكم مسلما . فيقولون لي : قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق ، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله . فأبقى فيهم شيخا كبيرا فقيرا ابن تسعين ،لا أفقه لسانهم ، ولا يعرفون حقي(167) . فقلت :يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال : إن كنت عاقلا ، طالبا للنجاة ، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة ، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن ، فاكتمه بغاية جهدك،وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك ، ولا أقدر على نفعك ، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك ، وقولك غير مصدق علي ، وأنا برئ من ذلك إن فهت بشيء ، فعاهدته بما يرضيه.(7/284)
ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته ، فدعا لي عند الوداع بخير ، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية ، وأقمت فيه خمسة أشهر وأنا انتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس ، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق ، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال،فلما نزلت بديوان تونس ، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبتهم أيضاً بعض التجار الساكنين أيضاً بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر ، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد - رحمه الله- فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلاً فاضلاً من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه، ومن خواصه ،ففرحت بذلك فرحاً شديداً،وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب ،فدللت عليه واجتمعت به ، وذكرت له شرح حالي ، وسبب قدومي للدخول في الإسلام ،فسر الرجل بذلك سروراً عظيماً بأن يكون تمام هذا الخير على يديه ،ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان ، ودخل عليه فأخبره بحديثي ، فاستأذنه لي فأذن لي ،فمثلت بين يديه،فأول ما سألني السلطان عن عمري ،فقلت له:خمسة وثلاثون عاماً، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته ،فقال لي: قدمت قدوم خير ، فأسلم على بركة الله . فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور- : قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه ، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم ،وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي ،وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه ، فلما دخل النصارى عليه قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب ؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا:إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا ، فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم ؟ قالوا:نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل ذلك أبداً. فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ، فحضرت بين يديه (وشهدت)شهادتي الحق بمحضر النصارى ، فصلّبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج . وخرجوا مكروبين محزونين ،فرتب لي السلطان - رحمه الله - ربع دينار كل يوم في دار المختص ، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها، أعطاني مائة دينار ذهباً وكسوة جيده كاملة ، فبنيت بها ،وولد لي منها ولد سميته محمد على وجه التبرك باسم نبينا(168)( .
--------------------------------------------------------------------------------
(142) انظر : فتاوى ابن تيمية (19/94).
(143) انظر : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/93).
(144)الجامع لأحكام القرآن (13/93).
(145)إصدار مكتبة الوعي العربي ، القاهرة،ط2،1965، ومؤلف الكتاب قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية ، ومن جامعة برنستون الأمريكية ، عمل أستاذا بكلية اللاهوت في أسيوط ، كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيرا عاما للإرسالية الألمانية السويسرية ، وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام ، لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه عام 1959، ومن مؤلفاته : "محمد في التوراة والإنجيل والقرآن" - "المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي" - "تاريخ بني إسرائيل" .(انظر قالوا عن الإسلام للدكتور عماد الدين خليل (ص:49)، وقد أجرت صحيفة القبس الكويتية معه لقاء مطولا في العدد 1540في تاريخ 30/8/1976.
(146) صدر عن دار ابن الجوزي في الدمام ،الطبعة الأولي،1990، ترجمة وتعليق وليد عثمان.
(147) طبعته دار الجيل في بيروت ، الطبعة الأولي، 1989.
(148) طبعته دار ابن حزم في بيروت،الطبعة الأولي،1998.
(149) طبعته مكتبة السوادي في جدة ، ط2،1990، تحقيق مصطفى شلبي ، وهذا الفصل في ص:107.
(150) في المجلد الخامس من ص:197 إلى 319.
(151) ومن أراد حصرها فليراجع الكتب السابقة.
(152) أخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من بني إسماعيل.
(153) وذكر الداعية أحمد ديدات ثمانية أوجه تدل على أن محمدا (مثل موسى عليه السلام ، وهي ليست في عيسى عليه السلام(انظر : ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لديدات من ص:31-42).
(154) يعني يحفظ كلام الله وكان أهل الكتاب لا يحفظون التوراة والإنجيل.(7/285)
(155) وهذا قريب من معنى الآية التي في آل عمران (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(*)فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران :81-82] .
(156) وبعضهم يقول(البارقليط) انظر تحفة الأريب(ص:267) ، وانظر هداية الحيارىلابن القيم(ص:115) فإنه يسميه الفارقليط، والخلاف يسير وإنما حدث بسبب الترجمة.
(157) انظر : كتاب الاختلاف والاتفاق بين إنجيل برنابا والأناجيل الأربعة ، لمحمد عبدالرحمن عوض، دار البشير ، القاهرة.
(158) أخرجه البخاري (كتاب البيوع ، باب كراهية السخب في الأسواق ، رقم :2018).
(159) يعني كعب الأحبار الذي كان يهوديا من علماء اليهود ثم أسلم.
(160) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم:6585).
(161) يعني بضاعة ، اسم مصدر من جلب (انظر لسان العرب: 1/268).
(162) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم :22981) وإسناده صحيح( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ، المجلد السابع، رقم : 3269 ) .
(163) ومن أبواب هذا القسم : باب في شهادة التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
(164) جزيرة في البحر الأبيض جنوب أسبانيا وتابعة لها (انظر تحفة الأريب ، ص:61)
(165) وهي مدينة في الأندلس (انظر تحفة الأريب ،ص:63).
(166) انظر : إنجيل يوحنا (14:15-17)، والكلمة فيه (باركليتكس) وترجتمها في النسخة العربية (المعزي) ، والصحيح أن معناها (كثير الحمد) انظر تحفة الأريب(ص:267،66).
(167) وهذا سوء ظن بالمسلمين ولكنه كما قال هو : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، وحدثنا أحد المتخصصين في كتب النصارى من أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أن هذا الرجل أسلم أيضا وقتلته النصارى.
(168)كتاب تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لأبي محمد عبدالله الميورقي الترجمان (ص:61-76) ، طبعته دار البشائر، بيروت، الطبعة الأولي ، 1988 ( بتصرف) .
(1/17)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني : شهادة المنصفين :
الكثير من المخالفين لديننا -سواء كانوا أهل كتاب أو ملاحدة- شهدوا لنبينا ( بالصدق وأنه نبي من الله حقا ، وبعضهم أسلم ، وبعضهم لم يسلم ولكنه أنصف ، وإذا كان المخالف المتربص المتصيد للأخطاء أقر بصحة مذهب خصمه ، فإن هذا من أقوى الأدلة على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وقد قيل سابقا :
وشمائلُ شَهِدَ العَدُوُ بفضِلها والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعْدَاءُ
وقيل:
ما قولُ مولانا الإمامُ البدرُ مَن بعلومِه شهد العدوُ الحاسدُ
وقال تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( [الأحقاف:10]؛ قال القرطبي: ( قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد:هو عبد الله بن سلام ، شهد على اليهود أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مذكور في التوراة ، وأنه نبي من عند الله ، وفي الترمذي عنه: نزلتْ فيَّ آيات من كتاب الله ؛ نزلت في: ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (.
ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله, اجعلني حكما بينك وبين اليهود, فسألهم عنه: « أي رجل هو فيكم » . قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: « إنه قد آمن بي » ، فأساءوا القول فيه (169) .(7/286)
روي أَنَس قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ،(170) فَأَتَى النَّبِيَّ ( فَقَالَ :إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ؛ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ؟ قَالَ : «أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا» قَالَ :جِبْرِيلُ؟ قَالَ: « نَعَمْ »قَالَ :ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... ( « أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ » قَالَ :أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي . فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ ( : « أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ ؟ » قَالُوا : خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا ، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا . قَالَ :« أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ». فَقَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ . فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ :أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالُوا : شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا . وَانْتَقَصُوهُ ، قَالَ : فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ)(171).
وأخرج الإمام الترمذي عن أَبِي مُوسَى قَالَ :خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ( فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ ، قَالَ : فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، قَالَ : هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَا عِلْمُكَ. فَقَالَ :إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا ، وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ ،ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ ، قَالَ :أَرْسِلُوا إِلَيْهِ . فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِن الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ . قَالَ :فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ ؛ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ . فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ ، فَقَالَ : مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ قَالُوا : جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ ، بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا . فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ ؟ قَالُوا :إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا . قَالَ : أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ ؟قَالُوا :لَا . قَالَ : فَبَايَعُوهُ . وَأَقَامُوا مَعَهُ ،قَالَ :أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ . قَالُوا :أَبُو طَالِبٍ ،فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا ، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ )(172).
وهذه شهادة أخرى من خير قساوسة النصارى في وقته للنبي ( :(7/287)
أخرج الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ : كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ(173)، مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ ،وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ ، أَيْ مُلَازِمَ النَّارِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ ،وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً . قَالَ :وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ . قَالَ : فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا ،فَقَالَ لِي :يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا . وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى ، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ ، لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ ،فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ . قَالَ :فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ ،وَقُلْتُ :هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ ،فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا ،فَقُلْتُ لَهُمْ :أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا :بِالشَّامِ . قَالَ :ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي ، وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ ،قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ ،قَالَ :أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ ؟ فقُلْتُ :يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ،قَالَ :أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ . فقُلْتُ :كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا . قَالَ :فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا ، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ . قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى ، فَقُلْتُ لَهُمْ :إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ .قَالَ :فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى ،فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ ،فَقُلْتُ لَهُمْ :إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ ، فَآذِنُونِي بِهِمْ . فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا ،قُلْتُ :مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ ؟ قَالُوا : الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ .قَالَ :فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ . قَالَ :فَادْخُلْ . فَدَخَلْتُ مَعَهُ ،فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا شيئاً اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ ، وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ ،فَقُلْتُ لَهُمْ :إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ ، يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالُوا :وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ ؟قُلْتُ :أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ . قَالُوا :فَدُلَّنَا عَلَيْهِ .قَالَ :فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ . قَالَ : فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا ،فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا :وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا . فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ ، ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ ،قَالَ : يَقُولُ سَلْمَانُ :فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا أَدْأَبُ(7/288)
لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ .قَالَ : فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ ،وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا ، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ ، وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ :أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ(174) ، وَهُوَ فُلَانٌ فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ . قَالَ : فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ ،فَقُلْتُ لَهُ :يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ . فَقَالَ لِي :أَقِمْ عِنْدِي .فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ :أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِنَصِيبِينَ(175)، وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ .وَقَالَ :فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ ،لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي ، قَالَ : فَأَقِمْ عِنْدِي . فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ ،فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ :يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ(176)، فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ . قَالَ : فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا .قَالَ : فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ ، وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي . فَقَالَ : أَقِمْ عِنْدِي . فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ . قَالَ : وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ . قَالَ : ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى؛ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ . قَالَ : ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ . فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا ، فَقُلْتُ لَهُمْ : تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ ؟ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ . قَالُوا : نَعَمْ . فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي ، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي ، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا ، فَكُنْتُ عِنْدَهُ ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي ، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ ،(7/289)
فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي ، أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ فُلَانُ : قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ(177) وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ . قَالَ : فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ(178) حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي . قَالَ : وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ : مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ . قَالَ : قُلْتُ : لَا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَهُوَ بِقُبَاءَ ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ . قَالَ : فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِأَصْحَابِهِ :« كُلُوا » . وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ ،قَالَ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ . ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا ، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )إِلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ : إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا . قَالَ : فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مِنْهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ .قَالَ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : هَاتَانِ اثْنَتَانِ ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ : وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ . لِي قَالَ : فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « تَحَوَّلْ » .فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ . قَالَ : فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ...الحديث)(179).
شهادة النجاشي :(7/290)
وهذه شهادة النجاشي الذي كان ملك الحبشة ، وسيد النصارى ، بل إنه أسلم ؛ فقد أخرج الإمام أحمد أيضا عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ :بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا ، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَجَعْفَرٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، فَأَتَوْا النَّجَاشِيَّ،وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، بِهَدِيَّةٍ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ ، ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ،ثُمَّ قَالَا لَهُ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا وَعَنْ مِلَّتِنَا .قَالَ :فَأَيْنَ هُمْ ؟قَالَ :هُمْ فِي أَرْضِكَ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ . فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ ،فَقَالَ جَعْفَرٌ :أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ . فَاتَّبَعُوهُ فَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْجُدْ ،فَقَالُوا لَهُ :مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ ؟ قَالَ :إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .قَالَ :وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ ( ، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .قَالَ : عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ :فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ .قَالَ :مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ ؟ قَالُوا :نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؛ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ ، أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ ، الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ . قَال:َ فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ ،ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ، وَاللَّهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا -يعني العود- مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ ، وَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ .وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الْآخَرِينَ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمَا . ثُمَّ تَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ( اسْتَغْفَرَ لَهُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ)(180).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا(181).
فصلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليه تدل على إسلامه.
ومن هذه الشهادات أيضاً :(7/291)
ما رواه ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ :كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) , فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، فَقَالَ :السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا ، فَقَالَ : لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ : أَلَا تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ .فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي » . فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : جِئْتُ أَسْأَلُكَ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ ؟ » قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِعُودٍ مَعَهُ ،فَقَالَ :« سَلْ » . فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ».قَالَ : فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً ؟ قَالَ : « فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ». قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : « زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ».قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ:«يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ ، الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا ». قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ:«مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا » . قَالَ :صَدَقْتَ . قَالَ : وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ . قَالَ: « يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ . قَالَ :جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟ . قَالَ :« مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ » . قَالَ الْيَهُودِيُّ :لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ . ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ » (182) .
يقول الجلندي ملك غسان -لما بلغه رسول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعوه إلى الإسلام-:(والله لقد دلني على هذا النبي الأمي ؛ أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يضجر ، ويفي بالعهد ، وينجز الوعد ، وأشهد أنه نبي )(183).
وفي قصة الميورقي أيضا شهادة واضحة -كما تقدم - من أكبر علماء النصارى في عصره على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقد شهد له هرقل عظيم الروم - وكان من علماء النصارى- بأنه نبي صادق كما سيأتي.
وإليك بعض هذه النصوص من المعاصرين :
- (كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم النبيين ، وأعظم الرسل الذين بعثهم الله ليدعوا الناس إلى عبادة الله..)[واشنجتون ايرقنج(184)](185).
-إن أشد ما نتطلع إليه بالنظر إلى الديانة الإسلامية ، ما اختص منها بشخص النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وبذلك قصدت أن يكون بحثي أولا في تحقيق شخصيته ، وتقرير حقيقته الأدبية علَّني أجد في هذا البحث دليلا جديدا على صدقه وأمانته ، المتفق تقريبا عليها بين جميع مؤرخي الديانات ، وأكبر المتشيعين للدين المسيحي..[هنري دي فاستري(186)](187).
- هل رأيتم قط رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجيبا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب، فهو لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب ، وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه بيت ، إنما هو تل من الأنقاض ، وكثيب من أخلاط المواد؛ وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثنى عشر قرنا يسكنه مائتا مليون من الأنفس(188) ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم، فكأنه لم يكن، وأني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة، وإلا أبت أن تجيبه طلبته ، كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيلوه حق، ومحنة أن ينخدع الناس -شعوبا وأمما- بهذه الأضاليل..[توماس كارلايل(189) ](190).
-ويقول كارلايل أيضاً :(لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر ، أن يصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب ، وأن محمدا خداع مزور ،فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل ، ومازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لمئات الملايين من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا .(7/292)
أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ، ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول ، فما الناس إذاً إلا بله ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث ؛كان الأولى ألا تُخلق)(191).
- ومن أعظم الشهادات هذا الموج المترادف من قوافل الداخلين في الإسلام ، الذي يقدر بمئات الألوف سنويا على مستوى العالم ، بل نستطيع أن نقول وبكل ثقة ، أنه لا تمر خمس دقائق إلا ويسلم فيها إنسان على مستوي العالم .
- وقد ألف د.جفري لانغ الأمريكي كتابا بعنوان (الصراع من أجل الإيمان)، يتكلم فيه عن سبب إسلامه ، وأنه كان بعد تأمل طويل في الدين، ثم عقد فصلا بعنوان (رسول الله) تكلم فيه كلاما طويلا في كيفية إعجابه بشخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكيف استدل على صدقه(192).
إلى غير ذلك من الشهادات الصادقة التي ما تركتها إلا إيثارا للاختصار ، وقد جمعت في كتب كثيرة منها كتاب (قالوا عن الإسلام) الذي أصدرته الندوة العالمية للشباب، وهو كتاب حافل ملئ بالنقول والشهادات والاعترافات من جميع الملل .
وقد ألف د.خالد السيوطي كتابا حافلا بعنوان "المهتدون إلى الإسلام من قساوسة النصارى وأخبار اليهود حتى القرن التاسع الهجري"(193).
--------------------------------------------------------------------------------
(169) الجامع لأحكام القرآن (16/125) بتصرف
(170) أي وهو يقيم فيها وقت اجتناء الثمر في الخريف ، الوسيط (خ ر ف ) .
(171) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن ، باب من كان عدوا لجبريل ، رقم :4210).
(172) أخرجه الترمذي (كتاب المناقب ،باب ما جاء في بدأ نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم )، رقم :3620) وإسناده حسن، ولكن ذكر أبي بكر و بلال في الحديث منكر ، كما نص على ذلك كثير من العلماء-كالذهبي وابن القيم وابن حجر والجزري والمباركفوري- لأن أبا بكر أصغر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسنتين وبلالا لم يولد في ذلك التاريخ بعد ، فقوله : وبعث معه أبو بكر بلالا . غير صحيح والصحيح كما في رواية البزار (وأرسل معه عمه رجالا)، انظر : صحيح سنن الترمذي للألباني (3/191) والمشكاة (رقم:5918) تحقيق الألباني ، والصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي (ص:80) وتحفة الأحوذي للمباركفوري (10/66).
(173) أصبهان مدينة مشهورة في إيران .
(174)الموصل مدينة قديمة شمال العراق على طرف دجلة ، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ ، ومقابلها من الجانب الشرقي نينوى، انظر:انظر الفتح الرباني (22/263)ولسان العرب:(11/730).
(175) مدينة كبيرة على شاطئ الفرات (انظر : الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (22/263).
(176) مدينة في بلاد الروم غزاها المعتصم وفتحها عام 223هـ، انظر المرجع السابق.
(177) بنو قيلة : (بفتح القاف وسكون التحتانية وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج ،وهي قيلة بنت كاهل بن عذرة )[فتح الباري (7/287].
(178) الرعدة ، انظر الفتح الرباني (22/264).
(179) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم:23225) وإسناده حسن ؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/559) : (رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن إسحاق فإنه ثقة مدلس ، وقد صرح بالسماع فانتفت شبهة التدليس)، ونقل الكلام السابق الساعاتي في الفتح الرباني (22/266) وأقره .
(180) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم :4386) ، وإسناده ثقات إلا حديج بن معاوية ، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب(ص:226):صدوق يخطئ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24):رواه أحمد والطبراني وفيه حديج ابن معاوية ، وثقه أبو حاتم وقال: في بعض حديثه ضعف وضعفه ابن معين وغيره ، وبقية رجاله ثقات.اهـ. وله شواهد كثيرة من حديث أم سلمة ، ومحمد بن حاطب ، وجعفر بن أبي طالب ، وأبي موسى - رضي الله عنهم - أجمعين أخرجها الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24-37).
(181) متفق عليه (البخاري: كتاب الجنائز ، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه ، رقم :1188، ومسلم :كتاب الجنائز ، باب في التكبير على الجنائز ، رقم :951) وورد في الصحيحين عن جابر أيضا.
(182) أخرجه مسلم (كتاب الحيض ، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة ، رقم :315).
(183) الروض الأنف شرح سيرة ابن هشام (4/250).
(184) مستشرق أمريكي ،أولى اهتماما كبيرا بتاريخ المسلمين في الأندلس، من آثاره : (سيرة النبي العربي )مذيلة بخاتمة لقواعد الإسلام ومصادرها الدينية ، و(فتح غرناطة) ألفه في تاريخ (1859) ، انظر : قالوا عن الإسلام ،ص:50 الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، الرياض،الطبعة الأولي،1992.
(185) انظر : حياة محمد ،لإميل درمنغم ،(ص:72)ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة،1911.(7/293)
(186) مقدم في الجيش الفرنسي ، ولد سنة ،1850 وتوفي 1927، قضى في الشمال الأفريقي ردحا من الزمن ، من آثاره:مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب، والأشراف السعديون، ورحلة هولندي إلى المغرب، وغيرها.انظر (قالوا عن الإسلام) :ص:61.
(187) قالوا عن الإسلام ،د.عماد الدين خليل ، (ص:108) .
(188) تعداد المسلمين جاوز المليار، ولكن هذا العالم يتحدث عن علمه ووقته حيث إنه ولد سنة 1795م .
(189) كاتب إنجليزي معروف ، ولد سنة 1795، وتوفي 1881، من آثاره (الأبطال) ، وقد عقد فيه فصلا رائعا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )، انظر :"قالوا عن الإسلام" ص:123.
(190) "قالوا عن الإسلام" (ص:123).
(191) انظر : القرآن والمستشرقون،د.التهامي نقرة (ص:25).
(192) الصراع من أجل الإيمان ، انطباعات أمريكي اعتنق الإيمان ، د. جفري لانغ (ص:121)،ترجمة د.منذر العبسي، دار الفكر ، دمشق،الطبعة الأولي،1998. وقد ألف كتاب أخر بعنوان : "حتى الملائكة تسأل ، رحلة إلي الإسلام في أمريكا" . ترجمة د. منذر العبسي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت الطبعة الأولي ، 2001 .
(193) طبعته مكتبة وهبة ، القاهرة، الطبعة الأولى 2002.
(1/18)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثالث :الآيات التي يجريها الله على يديه يخرق فيها العادة:
وقد ألف العديد من العلماء في دلائل ومعجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم : البيهقي وأبو نعيم وأبو بكر الفرياني وأبو حفص بن شاهين ، وأعلام النبوة لأبي داود السجستاني ، "ودلائل الرسالة" لأبي المطرف بن أصبغ القرطبي(194)، ومن المعاصرين : "الصحيح من معجزات النبي "( لخير الدين وانلي(195)، "والصحيح المسند من دلائل النبوة "لمقبل ابن هادي
الوادعي (196) وغيرهم ، ومجموع هذه الأدلة تربو على الألف دليل(197) .
وهذه الآيات والمعجزات لاشك أنها حجة قاطعة على صدق رسالته ونبوته ؛ لأن خرق العادة ومخالفة قانون الطبيعة ، وتغير ناموس الحياة لا يمكن أن يفعله مخلوق ، بل لا يكون إلا من الخالق للعادة سبحانه ، والله تعالى لا يخرق العادة لكاذب ، بل إنما يؤيد بها مرسليه للتدليل على صدقهم في دعوتهم، كما حصل من قلب النار بردا وسلاما على إبراهيم ، وقلب عصى موسى إلى أفعى، وإحياء الموتى لعيسى ، وغير ذلك من الآيات ؛ لذلك كان القوم إذا أرسل إليهم أحد ، أو ادعى النبوة قالوا : (...لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ... ( [البقرة :118] ، (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ.. ([الأنعام:37] ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا.. ( [الأنعام:109] ( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ... ( [يونس:20].
ولهذا كان من أنكر الآية بعد أن رآها في غاية من الكفر ومستحقا للعذاب؛ كما قال تعالى عن صالح: ( وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( [هود:64].
وقال سبحانه :( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ( [الأنعام :124].
وقال جل جلاله: ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( [البقرة:211]، يعني أن رؤية هذه الآيات لا تُبقي لأحد حجة.
من هذه الآيات والمعجزات - غير معجزة القرآن التي سنتكلم عنها مفصلة - :
1-خطاب الأشجار والأحجار وانقيادها للنبي ( :
عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود قَالَ : سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ ( بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبُوكَ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ - أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ(198) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ. » (199).(7/294)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ :جَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَقَالَ جبريل :محمد مَا لَكَ ؟ قَالَ : « فَعَلَ بِي هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا » .قَالَ :أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً ؟قَالَ :« نَعَمْ أَرِنِي » . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي قَالَ :ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ . فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ . فَقَالَ لَهَا فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ):«حَسْبِي حسبي » (200).
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ :بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ ؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ » فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنْ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ ( ، ثُمَّ قَالَ:« ارْجِعْ » . فَعَادَ فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ(201).
وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال : سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يَقْضِي حَاجَتَهُ ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إِلَى إِحْدَاهُمَا ، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا ، فَقَالَ: « انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ » .فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ -أي الذي وضع فيه قيد- الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا ، فَقَالَ: « انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ » . فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لَأَمَ بَيْنَهُمَا - يَعْنِي جَمَعَهُمَا - فَقَالَ :« الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ». فَالْتَأَمَتَا ، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ ، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي ، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مُقْبِلًا ، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ (202).
2-أدب الحيوان معه :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ :أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) خَلْفَهُ ،فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا فيه جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ( حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، وجاء إليه ،فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ ، فَقَالَ :« مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ،لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ » فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ:لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ :أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَاك إِلَيَّ وزعم أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ "(203).(7/295)
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالُوا : إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِأَصْحَابِهِ :« قُومُوا ». فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ ، فَمَشَى النَّبِيُّ ( نَحْوَهُ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِِ الكَلِبِِ(204) ، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ . فَقَالَ :« لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ » .فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ . فَقَالَ :« لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ » (205).
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :(كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَحْشٌ ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) اشْتَدَّ وَلَعِبَ فِي الْبَيْتِ ، فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) سَكَنَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ)(206).
وأخرج الحاكم عن سفينة مولى رسول الله ( قال :(ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها ،فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة(207) فيها الأسد ، فأقبل يريدني ، فقلت : يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله ( فطأطأ رأسه ، وأقبل إليَّ يدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق،وهمهم فظننت أنه يودعني ، فكان آخر عهدي به)(208) .
3-تكثير الطعام :
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ :لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ ( خَمَصًا شَدِيدًا ، فَانْكَفَأْتُ(209) إِلَى امْرَأَتِي ، فَقُلْتُ : هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) خَمَصًا شَدِيدًا ؟ فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ(210) فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَتْ :لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَبِمَنْ مَعَهُ . فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا ، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ . فَصَاحَ النَّبِيُّ ( فَقَالَ: « يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ ». فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يَقْدُمُ النَّاسَ ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فقلت لها : ويحك جاء النبي بالمهاجرين والأنصار. فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ :قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ . فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ : « ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا » . وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا ، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ)(211).(7/296)
وعن قيس بن النعمان قال : لما انطلق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنما،فاستسقياه من اللبن ، فقال :ما عندي شاة تحلب ، غير أن ههنا عَنَاقاً(212) حملت أول الشتاء ، وقد أخدجت وما بقي لها لبن . فقال : « ادع بها ، فدعا بها فاعتقلها النبي ( صلى الله عليه وسلم )، ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت ». قال : وجاء أبو بكر - رضي الله عنه - بمحجن فحلب، فسقى أبا بكر ، ثم حلب فسقى الراعي ، ثم حلب فشرب ، فقال الراعي: بالله من أنت ، فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال : « أو تراك تكتم علىَّ حتى أخبرك ؟ » . قال : نعم .
قال : « فإني محمد رسول الله » . فقال : أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال : « إنه ليقولون ذلك ». قال : فأشهد أنك نبي ، وأشهد أن ما جئت به حق ، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي ، وأنا متبعك . قال : « إنك لا تستطيع ذلك يومك ، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا » (213).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ( بِتَمَرَاتٍ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، فَضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ ، فَقَالَ : « خُذْهُنَّ وَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ هَذَا ، أَوْ فِي هَذَا الْمِزْوَدِ(214) كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَدْخِلْ فِيهِ يَدَكَ فَخُذْهُ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا ». فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حِقْوِي(215) ، حَتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ ، فَإِنَّهُ انْقَطَعَ )(216).
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أُتِيَ النَّبِيُّ ( بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ قَالَ قَتَادَةُ : قُلْتُ لِأَنَسٍ : كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ : ثَلَاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِائَةٍ)(217).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ : « اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ » . فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ : « حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ )(218).
4-شفاء الأمراض على يديه:
في يوم خيبر دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم )علي بن أبي طالب ، وكان أرمد فبصق في عينيه فبرأ(219).
وعن يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ ، قَالَ : رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ ابن الأكوع ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ ؟ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ . فَقَالَ النَّاسُ : أُصِيبَ سَلَمَةُ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ( فنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ )(220).
وعبد الله بن عتيك لما قتل أبا رافع انكسرت قدمه ، فمسحها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكأنها لم تشتك قط(221).
5-انشقاق القمر :
سأل أهل مكة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آية ، فدعا النبي ربه أن يشق القمر ، فانشق القمر فلقتين ، فلقة عن يمين الجبل والأخرى عن شماله ، فقال النبي : « اشهدوا اشهدوا ». فقالوا : سحر أعيننا محمد. فقال بعضهم : إن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس أجمعين ، فاسألوا الركبان إذا جاءوا من الأسفار . فكلما جاء أحد سألوه : هل رأيت القمر انشق ؟ فيقولون : نعم رأينا)(222).
6-حنين الجذع :(7/297)
كان مسجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مبني على جذوع من نخل ، فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد أن يخطب يستند إلى أحد هذه الجذوع دائما ، ومكث على هذه مدة ،فلما كثر الناس وأصبح المسجد يمتلئ بالمصلين ، وكان الذين في الصفوف الأخيرة لا يرون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا سيما من النساء ، فجاءت إحدى نساء الأنصار إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله ، إن لي غلاما نجارا ، فإن شئت أمرته ليصنع لك منبرا . فوافق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على هذا الأمر ، فصنعتْ للنبي منبرا من ثلاث درجات ، ووضعته في المسجد بجانب ذلك الجذع الذي كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب إليه دائما ، فلما خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للخطبة ، مر بجانب ذلك الجذع ولم يخطب عنده ، وتعداه ورقى المنبر ليخطب عليه ، فلما أحس الجذع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تركه ، حزن وجزع وأخذ يبكي ويصيح حتى كاد أن يتصدع حزنا على رسول الله (، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ): « ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟» فأقبل الناس وارتج المسجد من حنينها حتى كثر البكاء في المسجد ، فنزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فوضع يده عليها يهدهدها(223) ثم ضمها إليه ، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يُسكّت حتى سكتت ،فقال النبي : « أما والذي نفس محمد بيده ، لو لم أحتضنه لحن هكذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول الله ». ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) به فدفن تحت منبره .
يقول جابر : بكت على ما كانت تسمع من الذكر )(224) .
7-عقوبة من خادع النبي ( صلى الله عليه وسلم ):
عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَ رَجُلاً نَصْرَانِيًّاً فَأَسْلَمَ ، وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ( ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا ولحق بأهل الكتاب ، فعظموه ورفعوه وقالوا : هذا رجل يكتب لمحمد فأعجبوا به ،فَكَانَ يَقُولُ :مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ . فما لبث أن قصم الله عنقه ومات ،فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا :هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ . فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا:هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ)(225).
و غير ذلك من الأدلة والآيات والبراهين و المعجزات على صدقه ( و تأييد الله تعالى له .
وبعض الطاعنين أنكر معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال: إنه لا يقبلها عقل . ومما يؤسف له أن كثيرا من المعاصرين على ذلك :
يقول محمد رشيد رضا: (وأما تلك العجائب الكونية ، فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها ، وأمثال هذه الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود المسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد، وعن مناقب القديسين ، وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر)(226). وقال : (لولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى - عليهما السلام - لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر ، واهتداؤهم به أعم وأسرع )(227).
وهذا الكلام في غاية الخطورة ، فكأنه يشير إلى أن الله تعالى صد الناس عن الإيمان بسبب ذكره هذه الآيات ، ونقول له :( قل أأنتم أعلم أم الله ( ؟ وإن المرء ليعجب أشد العجب ؛ إذ كيف لرجل مثل رشيد رضا أن يتهم القرآن لأجل أحرار الإفرنج .
وقال الشيخ مصطفى المراغي في تقديمه لكتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل : (ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن ، وهي معجزة عقلية ، وما أبدع قول البوصيري :
لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَا الْعُقُولُ بِهِ حِرْصاً عَلَيْنَا،فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمِ(228).
وبمعنى هذا الكلام قال محمد حسين هيكل ، وعبدالعزيز جاويش ، ومحمد فريد وجدي، والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ محمد عبده(229). وغالب المدرسة العقلية على هذا الرأي؛ وهو إنكار جميع المعجزات إلا القرآن ، وبعضهم لا ينكرها ولكن يقول : هي ليست بذات أهمية، فضلا أن تكون دليلا على صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقد استخدم بعضهم تأويلات باردة في إنكار المعجزات ؛ فبعضهم يتكئ
على قضية ورودها في أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد لا تُقبل في(7/298)
العقائد(230)، فإن كانت متواترة أنكر تواترها ، ولكنهم شرقوا في بعض الآيات التي نص عليها القرآن مثل انشقاق القمر(231) ؛ وهي معجزة قد تواترت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أيضا ، فإليك ملخص ما قاله محمد رشيد رضا في إنكار هذه الآية(232):
أولا: الطعن في السند:
1-إنكار التواتر:
قال : زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة التواتر ، وهو زعم باطل .
وقال : فلو وقعت لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر ؛ لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد ومن جميع الأمم .
2-التشكيك في صحة السند:
قال: فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسند على شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة، يخبر عن رؤية وهو عبدالله بن مسعود.
وأما رواية أنس وابن عباس في الصحيحين ، فهي مرسلة ؛ لأن هذه الحادثة حصلت بمكة قبل أن يولد ابن عباس ، وأنس كان في المدينة ولم يشهدها، وأما ما انفرد به مسلم عن ابن عمر، فإن ابن عمر لم يصرح أنه رأى هذه الآية ، وأما ما رواه الترمذي عن جبير بن مطعم فهو ضعيف.
ثانيا: الطعن في المتن:
إذن لم يسلم مما سبق إلا حديث ابن مسعود ؛ فهو حديث متفق عليه ، وقد شاهد هذه الآية بنفسه ، فكان أن طعن فيه في متنه؛ فقال:
1-في بعض الروايات: انشق القمر ونحن في مكة ، وفي بعضها : ونحن في منى.
2-الروايات فيها اختلاف ؛ففيها: (رأيت القمر منشقا شقتين ، شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء)، ورواية (انشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه) ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق ، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر ) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما) ورواية ( فانشق القمر نصفين ، نصفا على الصفا ، ونصفا المروة ).
ثم يقول: (والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة ، التي يتعذر الجمع بينها تساقطها ، ومن الدائر على ألسنتهم تعادلا فتساقطا ).
ثالثا: إشكال فلكي :
قال: لا يشك عاقل أن خلق السماوات وأجرامها في غاية الإبداع ، والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل ، وأن سنته تعالى لا تتبدل ولا تتحول ، فلا يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت.
رابعا:الإشكال الأصولي الأعظم:
هكذا يصف السيد رشيد ما يورده هنا من شبهة على انشقاق القمر حيث يقول : ( وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة القطعية ، الدلالة أن الكفار طالبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بآية من الآيات الكونية، التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام ، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضا ، فلم يجابوا إلى طلبهم ، قال تعالى : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ( [الإسراء:59] وقال سبحانه : ( وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا()أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا()أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا()أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ( [الإسراء:90-93] فكيف يمكننا أخذ رواية أنس في الصحيحين بالقبول ، فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آية ، فأراهم انشقاق القمر، وجملة القول : إنه لو صح أن قريشا سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آية فأجابهم إلى طلبهم ، ثم كفروا لعذبهم ، ولكنه لم ينقل أن الله تعالى عذب أحدا منهم عقب ذلك التكذيب)(233) .
هذا ما قاله رشيد رضا في نفي هذه المعجزة ، ولكن بقي إشكال وهو : ما الذي يقال إذن في معنى الآية (وانشق القمر) ؟ قال رشيد رضا :
(فإذا أنت راجعت لغة القرآن في معاجمها ، لتفهم الآية منها دون هذه الروايات ، وجدت في "لسان العرب" ما نصه : "والشق الصبح ، وشق الصبح يشق شقا إذا طلع وفي الحديث(فلما شق الفجر أمرنا بإقامة الصلاة)، يقال : شق الفجر وانشق إذا طلع ا.هـ ، فعلى هذا يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره ، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر) .
ثم يختم حديثه في هذه المسألة بقوله :(ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها ، وكان ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق عقله أن تقع هذه الآية ، ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها ، فضلا عن تواترها ، فليس له أن يجعلها من عقائد المسلمين . وينفر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه).(7/299)
إلى هنا انتهى رشيد رضا من تقرير هذه المسألة . والذي يبدو للوهلة الأولى أن له حظا من النظر ، ولكن حقيقة الأمر على الضد من ذلك ، فإليك الجواب عن كل ما قال:
أولا:طعنه في السند:
1-إنكاره تواتر الحديث:
لقد نص على تواتر الحديث جهابذة هذا الفن وأمراء الحديث في القديم والحديث ؛ نذكر من ذلك :
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله - : (قد كان هذا في زمان رسول الله ( ، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة)(234).
وقال الكتاني : (قال التاج ابن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب الأصلي : الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه في القرآن ، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان بن مهران ، عن إبراهيم ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود، ثم قال : وله طرق أخرى شتى بحيث لا يُمترى في تواتره .
وقال القاضي عياض في الشفا -بعد ما ذكر أن كثيرا من الآيات المأثورة عنه ( معلومة بالقطع - ما نصه : أما انشقاق القمر ، فالقرآن نص بوقوعه ، وأخبر بوجوده ، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل ، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة ، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين ، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك في قلوب ضعفاء المؤمنين ، بل نرغم بهذا أنفه،وننبذ بالعراء سخفه .
وفي أمالي الحافظ ابن حجر :أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه ، قال : ورواه من الصحابة : عليُّ ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وجبير بن مطعم ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأنس ،وغيرهم .
وقال القرطبي في المفهم : رواه العدد الكثير من الصحابة ، ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين، فمن بعدهم ا.هـ .
وفي المواهب اللدنية : جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة، منهم : أنس ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعلي ، وحذيفة ، وجبير بن مطعم ، وابن عمر ، وغيرهم .
وقال ابن عبد البر : روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة ، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين ، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا ،وتأيد بالآية الكريمة. وقال المناوي في شرحه لألفية السير للعراقي : تواترت بانشقاق القمر الأحاديث الحسان ، كما حققه التاج السبكي وغيره.)(235) وبنحوه قال ابن حجر(236) .
2-طعنه في صحة السند:
ولو سلمنا بعدم تواتره ، فهو لا شك بصحته ، وأما محاولة رشيد رضا تضعيف السند ، فهي محاولات بائسة ، ويكفي في صحته اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه في كتابيهما عن طريق ثلاثة من الصحابة ،وتصحيح الأئمة له .
وقد نقل الحافظ ابن الصلاح اتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه الشيخان بالقبول والصحة ، ووافقه العراقي على ذلك ، ونقله عن جمع غفير من الأئمة(237).
وأما دعواه أن حديث أنس وابن عباس من قبيل مرسل الصحابي . فنقول ماذا في هذا ؟! فمرسل الصحابي مقبول عند علماء الحديث : قال ابن الصلاح : ( ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي ، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله ( ولم يسمعوه منه ؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند )(238).
وقال الحافظ العراقي : ( المحدثون وإن ذكروا مراسيل الصحابة ، فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها)(239).
ثم لو سلمنا بعدم قبول رواية مرسل الصحابي ، فقد رواه ابن مسعود مشاهدة ، وهو ليس بمرسل في حقه ، وكذلك رواه ورآه علي بن أبي طالب ، وحذيفة ، وجبير بن مطعم ، وابن عمر(240).
ثانيا : طعنه في متن الحديث:
وأما تضعيفه حديث ابن مسعود المتفق عليه بسبب اضطراب ألفاظه ، فهو في غاية من العجب .
فرواية(انشق القمر ونحن في مكة) ورواية (ونحن في منى) لا تعارض بينهما إذ منى من مكة ، أو أن المراد بمكة يعني قبل الهجرة . قال ابن حجر : (وَالْجَمْعُ بَيْن قَوْل اِبْن مَسْعُود " تَارَة بِمِنى وَتَارَة بِمَكَّة " إِمَّا بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّد إِنْ ثَبَتَ ،وَإِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى ، وَمَنْ قَالَ : كَانَ بِمَكَّة لَا يُنَافِيه ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِمِنًى كَانَ بِمَكَّة مِنْ غَيْر عَكْس ،وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمِنًى قَالَ فِيهَا : " وَنَحْنُ بِمِنًى " وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمَكَّة لَمْ يَقُلْ فِيهَا " وَنَحْنُ " وَإِنَّمَا قَالَ : " اِنْشَقَّ الْقَمَر بِمَكَّة " يَعْنِي أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ وَهُمْ بِمَكَّة قَبْل أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة ،وَبِهَذَا يَنْدَفِع دَعْوَى الدَّاوُودِيّ أَنَّ بَيْن الْخَبَرَيْنِ تَضَادًّا ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ)(241) .(7/300)
وقال : (وَقَدْ وَقَعَ عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ بَيَان الْمُرَاد فَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : " اِنْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه ( وَنَحْنُ بِمَكَّة قَبْل أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْمَدِينَة " فَوَضح أَنَّ مُرَاده بِذِكْرِ مَكَّة الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل الْهِجْرَة , وَيَجُوز أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وَهُمْ لَيْلَتئِذٍ بِمِنًى)(242) .
ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق ، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر ) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما)، لا تعارض بينهما ألبتة،وكذا رواية (انشق القمر فرقتين ، فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه) فإنها قريبة من معناهما .
فلم يبق إلا ما ظاهره التعارض بين هاتين الروايتين (رأيت القمر منشقا شقتين ؛ شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء)، ورواية ( فانشق القمر نصفين ؛ نصفا على الصفا ، ونصفا المروة ).
وهذا ليس فيه إشكال ؛ فإن نظر الإنسان يختلف بحسب الزاوية التي ينظر منها ، فمرة يرى القمر فوق أبي قبيس ، ثم إذا تحرك رآه على الصفا وهكذا ، أو هو بحسب اختلاف جهة الناظرين ، فبعضهم يراه من زاوية والآخرين من زواية أخرى .
وقال ابن حجر : (لَفْظِ " رَأَيْت الْقَمَر مُنْشَقًّا شُقَّتَيْنِ : شُقَّة عَلَى أَبِي قُبَيْس ، وَشُقَّة عَلَى السُّوَيْدَاء " وَالسُّوَيْدَاء بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِير نَاحِيَة خَارِجَة مَكَّة عِنْدهَا جَبَل ،وَقَوْل اِبْن مَسْعُود": عَلَى أَبِي قُبَيْس " . يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَآهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمِنًى ، كَأَنْ يَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِع بِحَيْثُ رَأَى طَرَف جَبَل أَبِي قُبَيْس ،وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَمَر اِسْتَمَرَّ مُنْشَقًّا حَتَّى رَجَعَ اِبْن مَسْعُود مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّة، فَرَآهُ كَذَلِكَ وَفِيهِ بَعْد ،وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه غَالِب الرِّوَايَات أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ قُرْب غُرُوبه ،وَيُؤَيِّد ذَلِكَ إِسْنَادهمْ الرُّؤْيَة إِلَى جِهَة الْجَبَل ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِانْشِقَاق وَقَعَ أَوَّل طُلُوعه؛ فَإِنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَة الْبَدْر ،أَوْ التَّعْبِير بِأَبِي قُبَيْس مِنْ تَغْيِير بَعْض الرُّوَاة ؛ لِأَنَّ الْغَرَض ثُبُوت رُؤْيَته مُنْشَقًّا، إِحْدَى الشِّقَتَيْنِ عَلَى جَبَل، وَالْأُخْرَى عَلَى جَبَل آخَر، وَلَا يُغَايِر ذَلِكَ قَوْل الرَّاوِي الْآخَر : رَأَيْت الْجَبَل بَيْنهمَا . أَيْ بَيْن الْفِرْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتْ فِرْقَة عَنْ يَمِين الْجَبَل ، وَفِرْقَة عَنْ يَسَاره مِثْلًا صَدَقَ أَنَّهُ بَيْنهمَا ،وَأَيّ جَبَل آخَر كَانَ مِنْ جِهَة يَمِينه أَوْ يَسَاره صَدَقَ أَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا)(243).
وفي رواية لمسلم من حديث أَنَسٍ : (أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ )(244).
وهذه الرواية تقضي على جميع الإشكالات ، فهي تدل أن الانشقاق حصل مرتين ، فمرة رأوه فوق جبل أبي قبس ومرة عند الصفا ، وإن كان بعض العلماء يشكك في هذه اللفظة (مرتين) ويرى أنها (فرقتين)(245).
ولو سلمنا التعارض التام بين هاتين اللفظتين من كل جهة ، فهذا لا يضر في أصل الحديث ، وأقصى ما فيه أن ابن مسعود ، أو أحد الرواة عنه كان يهم في اسم الجبلين ، فتارة يقول(شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء)، وتارة ( فانشق القمر نصفين ، نصفاً على الصفا، ونصفاً المروة )، وأما أصل الحديث وهو الشاهد منه ، أن القمر انشق ، فليس فيها أي اضطراب أو نسيان أو وهم .
ولو سلمنا أن هذا الاضطراب يسقط الاحتجاج بالحديث ، فما القول إذن بحديث علي، وحذيفة ، وجبير بن مطعم ، وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثا: الإشكال الفلكي:
دعواه وجوب وجود النقل القطعي على هذه الحادثة، فنقول : قد وجد . فالحديث منقول في أصح الكتب ، بل نص العلماء على تواتره، بل ذكره الله في كتابه، بل أجمع العلماء على وقوعه ، بل حتى الكفار قد ذكروه في كتبهم ممن عاصروا الحادثة . فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية : ( إنه قد ذكر غير واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلا بالهند مكتوبا عليه أنه بُني في الليلة التي انشق القمر فيها)(246) .
ويؤيد هذا ما نقله السيد رشيد رضا نفسه حيث قال : ( على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، أن بعض المسافرين ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديما مكتوبا عليه أنه بُني ليلة انشق القمر) . ثم قال رشيد رضا : ( وأذكر أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف، أن هذا رؤي في بلاد الصين)(247).
و(في مقابلة تليفزيونية للأستاذ الدكتور زغلول النجار، سأله مقدم البرنامج عن هذه الآية؛(7/301)
( اقتربت الساعة وانشق القمر (: هل فيها إعجاز قرآني علمي؟ فأجاب الدكتور زغلول قائلا: هذه الآية لها معي قصة. فمنذ فترة كنت أحاضر في جامعة كارديف (Cardif) غرب بريطانيا، وكان الحضور خليطا من المسلمين وغير المسلمين، وكان هناك حوار حي للغاية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، وفي أثناء هذا الحوار، وقف شاب من المسلمين وقال: يا سيدي هل ترى في قول الحق تبارك وتعالى: ( اقتربت الساعة وانشق القمر (لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟ فأجبته : لا ؛ فالأعجاز العلمي يفسره العلم، أما المعجزات فلا يستطيع العلم أن يفسرها، فالمعجزة أمر خارق للعادة فلا تستطيع السنن أن تفسرها، وانشقاق القمر معجزة حدثت لرسول الله ( تشهد له بالنبوة والرسالة، والمعجزات الحسية شهادة صدق على من رآها، ولولا ورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ( ما كان علينا نحن مسلمي هذا العصر أن نؤمن بها ولكننا نؤمن بها لورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ( ؛ ولأن الله تعالى قادر على كل شيء،قال :ثم ذكرت لهم الروايات الثابتة في انشقاق القمر.
يقول الدكتور زغلول: وبعد أن أتممت حديثي وقف شاب مسلم بريطاني عرف بنفسه وقال: أنا داود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني، ثم قال: يا سيدي هل تسمح لي بإضافة؟ قلت له: تفضل . قال: وأنا ابحث عن الأديان -قبل أن يسلم- أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، فشكرته عليها وأخذتها إلى البيت، وحين فتحت هذه الترجمة كانت أول سورة اطلعت عليها سورة القمر، وقرأت:( اقتربت الساعة وانشق القمر(فقلت: هل يعقل هذا الكلام ؟! هل يمكن للقمر أن ينشق ثم يلتحم؟! وأي قوة تستطيع عمل ذلك؟! يقول الرجل: فصدتني هذه الآية عن مواصلة القراءة، وانشغلت بأمور الحياة، لكن الله تعالى يعلم مدى إخلاصي في البحث عن الحقيقة، فأجلسني ربي أمام التلفاز البريطاني ، وكان هناك حوار يدور بين معلق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين ، وكان هذا المذيع يعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشديد على رحلات الفضاء، في الوقت الذي تمتلئ فيه الأرض بمشكلات الجوع والفقر والمرض والتخلف، وكان يقول: لو أن هذا المال أنفق على عمران الأرض لكان أجدى وأنفع ، وجلس هؤلاء العلماء الثلاثة يدافعون عن وجهة نظرهم، ويقولون: إن هذه التقنية تطبق في نواحي كثيرة في الحياة، حيث إنها تطبق في الطب والصناعة والزراعة، فهذا المال ليس مالا مهدرا ، لكنه أعاننا على تطوير تقنيات متقدمة للغاية.. في خلال هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر باعتبار أنها أكثر رحلات الفضاء كلفة ؛ فقد تكلفت أكثر من مائة ألف مليون دولار، فصرخ فيهم المذيع البريطاني وقال: أي سفه هذا؟! مائة ألف مليون دولار لكي تضعوا العلم الأمريكي على سطح القمر؟ فقالوا: لا، لم يكن الهدف وضع العلم الأمريكي فوق سطح القمر، كنا ندرس التركيب الداخلي للقمر فوجدنا حقيقة لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها ما صدقنا احد، فقال لهم: ما هذه الحقيقة؟ قالوا: هذا القمر انشق في يوم من الأيام ثم التحم. قال لهم: كيف عرفتم ذلك؟ قالوا: وجدنا حزاما من الصخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه إلى سطحه، فاستشرنا علماء الأرض وعلماء الجيولوجيا، فقالوا: لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم!! يقول الرجل المسلم «رئيس الحزب الإسلامي البريطاني»: فقفزت من الكرسي الذي أجلس عليه وقلت: معجزة تحدث لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل ألف وأربعمائة سنة يسخر الله تعالى الأمريكان لإنفاق أكثر من مائة ألف مليون دولار لإثباتها للمسلمين؟! لابد أن يكون هذا الدين حقا. يقول: فعدت إلى المصحف، وتلوت سورة القمر، وكانت مدخلا لقبول الإسلام دينا)(248).
ولو سلمنا أنه لم يوجد النقل عند غير المسلمين ؛ فإنه قد يكون بسبب اختلاف مطالع القمر، ولأنه لم يستمر لمدة طويلة ، بل للحظات ثم رجع ، فلم يره إلا من استعد له ورصده ، وغير ذلك من العلل التي ذكرها ابن حجر في الفتح(249).
يقول المباركفوري شارح الترمذي - رحمه :(7/302)
(اِعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي ثُبُوتِ مُعْجِزَةِ اِنْشِقَاقِ الْقَمَرِ . قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ إِلَى أَنْ اِنْتَهَى إِلَيْنَا، وَيُؤَيَّدُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِبْعَادِ مَنْ اِسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ عُذْرٌ ،وَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِهِ عَلَى آخَرِينَ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ زَمَنَ الِانْشِقَاقِ لَمْ يَطُلْ وَلَمْ تَتَوَفَّرْ الدَّوَاعِي عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى آفَاقِ مَكَّةَ يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ ،فَجَاءَتْ السُّفَّارُ وَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي اللَّيْلِ غَالِبًا يَكُونُونَ سَائِرِينَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ ،وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ،وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ : أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُوَافِقِينَ لِمُخَالِفِي الْمِلَّةِ اِنْشِقَاقَ الْقَمَرِ ،وَلَا إِنْكَارَ لِلْعَقْلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَشَاءُ ،كَمَا يُكَوِّرُهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَيُفْنِيهِ ،وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ : لَوْ وَقَعَ لَجَاءَ مُتَوَاتِرًا وَاشْتَرَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَعْرِفَتِهِ ، وَلَمَا اِخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ ، فَجَوَابُهُ : أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَيْلًا وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ ،وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةٌ ، وَقَلَّ مَنْ يُرَاصِدُ السَّمَاءَ إِلَّا النَّادِرَ ،وَقَدْ يَقَعُ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْكَشِفَ الْقَمَرُ وَتَبْدُوَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَلَا يُشَاهِدُهَا إِلَّا الْآحَادُ ،فَكَذَلِكَ الِانْشِقَاقُ كَانَ آيَةً وَقَعَتْ فِي اللَّيْلِ لِقَوْمٍ سَأَلُوا وَاقْتَرَحُوا فَلَمْ يَتَأَهَّبْ غَيْرُهُمْ لَهَا ،وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ لَيْلَتَئِذٍ ،كَانَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ الَّتِي تَظْهَرُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْآفَاقِ دُونَ بَعْضٍ ،كَمَا يَظْهَرُ الْكُسُوفُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : اِنْشِقَاقُ الْقَمَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ،وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ طِبَاعِ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الطَّبَائِعِ ،فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَعُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَانُ بِهِ أَظْهَرَ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، فَقَالَ : لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجزْ أَنْ يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى عَوَامِّ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَدَرَ عَنْ حِسٍّ وَمُشَاهَدَةٍ ، فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ غَرِيبٍ ،وَنَقْلِ مَا لَمْ يُعْهَدْ فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ لَخُلِّدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ التَّسْيِيرِ وَالتَّنْجِيمِ ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَإِغْفَالِهِ مَعَ جَلَالَةِ شَأْنِهِ وَوُضُوحِ أَمْرِهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ خَرَجَتْ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ، لِأَنَّهُ شَيْءٌ طَلَبهُ خَاصٌّ مِنْ النَّاسِ فَوَقَعَ لَيْلًا ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ لَا سُلْطَانَ لَهُ بِالنَّهَارِ ، وَمِنْ شَأْنِ اللَّيْلِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيهِ نِيَامًا وَمُسْتَكِنِّينَ بِالْأَبْنِيَةِ ،وَالْبَارِزُ بِالصَّحْرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ يَقْظَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَشْغُولًا فَمَا يُلْهِيهِ مِنْ سَمَرٍ وَغَيْرِهِ ،وَمِنْ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْصِدُوا إِلَى مَرَاصِدِ مَرْكَزِ الْقَمَرِ نَاظرِينَ إِلَيْهِ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ ،فَقَدْ يَجُوزُ أَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا رَآهُ مَنْ تَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِ مِمَّنْ اِقْتَرَحَ وُقُوعَهُ ،وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْرِ اللَّحْظَةِ الَّتِي هِيَ مُدْرَكُ الْبَصَرِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ -بَعْدَ مَا أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ- مَا لَفْظُهُ : وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُونَ تَرَكُوهُ ، لِأَنَّ التَّوَارِيخَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُنَجِّمُ وَهُوَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ قَالُوا بِأَنَّهُ مِثْلُ خُسُوفِ الْقَمَرِ ،وَظُهُورِ شَيْءٍ(7/303)
فِي الْجَوِّ عَلَى شَكْلِ نِصْفِ الْقَمَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكُوا حِكَايَتَهُ فِي تَوَارِيخِهِمْ . وَالْقُرْآنُ أَدَلُّ دَلِيلٍ ، وَأَقْوَى مُثْبِتٍ لَهُ ، وَإِمْكَانُهُ لَا يُشَكُّ فِيهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ فَيَجِبُ اِعْتِقَادُ وُقُوعِهُ . وَحَدِيثُ اِمْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ حَدِيثُ اللِّئَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْقِ وَالتَّخْرِيبِ عَلَى السَّمَوَاتِ ، وَذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ)(250) .
-رابعا:الإشكال الأصولي:
فالرد على هذا الإشكال بالمنع والتسليم :
أ -أما المنع ؛ فنمنع أن هذه الآية جاءت بعد سؤال المشركين ؛ قال ابن حجر -رحمه الله- : ( ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس)(251)، وأنس لم يعاصر القصة بشهادة رشيد رضا. ولو سلمنا أنه كان بعد سؤال المشركين ،فنمنع أنه لم يأتهم العذاب ، فقد أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الميتات ،فقد ذكر ابن مسعود : أن قريشا أَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ . فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ( إِلَى قَوْلِهِ ( إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ( فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ)(252) .
وعذبهم أيضا في غزوة بدر بقتل سبعين وأسر سبعين ، وهي البطشة كما في حديث ابن مسعود ( .
وفي غزوة الأحزاب بالريح الباردة التي أكفأت قدورهم ، وقلعت خيامهم ، وردتهم مغلوبين، مدحورين مهزومين ، كما في سورة الأحزاب.
وفي فتح مكة حين هزموا وجردوا من ملكهم لمكة ، وكانت خاتمة لطغيانهم، ونهاية لعزهم وشرفهم ،فكل هذا من العذاب .
ب -أما التسليم ؛ فيتضح من النقاط التالية :
1-لو سلمنا أنهم لم يعذبوا، فإنما كان ذلك لعلة، وهي وجود النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهرهم، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( [الأنفال :33] .
2-وأجاب الخطابي على هذا بجواب آخر؛ فقال ما ملخصه : إن الذين سألوا هذه الآية ليسوا كل أهل مكة، بل هم أعداد قليلة(253)، فهذه الآية لم يجمع لها الناس في صعيد واحد، كما حصل مع موسى - عليه السلام - ، بل هي حادثة عابرة.
3-ومن أسباب تخلف العذاب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو آخر الأنبياء، وأمته هي آخر الأمم، كما قال( : « نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» (254) . فلو أهلكها الله تعالى لما بقي أحد يعبد الله تعالى،وتذهب كثير من السنن الكونية مثل سنة الاختلاف، وسنة المدافعة، وغيرها.
4-ومن الأسباب أيضا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة ؛ كما جاء عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قال رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ :يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا »(255).
5-هذه الآية تختلف عن آيات الأمم السابقة ،فهي ليست آية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الكبرى-كما هو الحال في نبي الله صالح عليه السلام مثلا- بل كانت آية عارضة سأله بعض أهل مكة، فمن حرص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على هداية قومه سأل الله أن يحقق له هذه الآية ، فاستجاب الله تعالى لنبيه وحبيبه، ليس لأجلهم ولكن لأجل نبيه .(7/304)
وذلك لأن منهج القرآن عند سؤال الكفار آية أن يرجعهم لأمرين ؛ إما الآيات الشرعية(القرآن) أو الآيات الكونية (مخلوقات الله)(256)؛ فمن الرد إلى الآيات الشرعية قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ() أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( [العنكبوت:50 ، 51].
ومن الرد إلى الآيات الكونية قوله تعالى :( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ () وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( [الأنعام:37 ، 38].
وقال تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ آية فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ( [يوسف:105]، وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:185].
وأغلب آيات سورة الأنعام من هذا الباب ، كقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (
[الأنعام:95-98].
وتستمر الآيات في هذا النحو إلى أن قال سبحانه : ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( [الأنعام:109]. ثم قال بعد ذلك : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( [الأنعام:111].
وذلك أن من لم يؤمن بسبب هذين الأمرين-الآيات الشرعية والآيات الكونية- فلن يؤمن أبدا، فهذا معنى قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( [الأنعام:111].
وقال سبحانه مؤكدا على هذه الحقيقة:( ومنهم من يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ(257) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آية لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( [الأنعام:25]، فهو يستمع للقرآن-وهو الآيات الشرعية- ويرى كل آية - وهي الآيات الكونية- ومع هذا يقول أساطير الأولين.
ويقول تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ()وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آية حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ( [يونس:96-97].
ويقول تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آية لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ( [الأعراف:146]. يعني سبب ذلك أنهم كانوا يكذبون بآيات الله الكونية والشرعية، فالله سبحانه يعلم أن هذه الآية-انشقاق القمر- لن تؤثر فيهم ، ولكن استجابة لنبيه حتى يرى بعينه هذه الحقيقة، فينتقل من علم اليقين إلى حق اليقين ،لذلك لم يسأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ربه آية أخرى (258).(7/305)
6-هذه الآية لم تكن مشروطة بالعذاب، كما حصل من عيسى عندما سأل ربه أن ينزل على قومه مائدة من السماء ، فقال الله تعالى: ( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( [المائدة:115].
وعلى هذا تكون أمة محمد مستثناة من هذا الحكم .
خامسا:نزيد على ذلك أنه قد تم إجماع العلماء على وقوعه:
قال ابن كثير في تفسيره: (وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ؛ أي انشقاق القمر، قد وقع في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات)(259) .
وقال في البداية والنهاية : (وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة)(260) ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، وقرر بعدها (فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز)(261) .
وفي نظم السيرة لأبي الفضل العراقي :
فصار فرقتين فرقة علت وفرقة للطود منه نزلت
وذاك مرتين(262) بالإجماع والنص والتواتر السماعي(263)
(وقال الحافظ ابن حجر :أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه)(264).
-وأما قول رشيد رضا - فيما نقلناه عنه تحت عنوان الإشكال الأصولي الأعظم(265) -: (فليس له أن يجعلها من عقائد المسلمين).
فهذا كلام غريب؛ إذ فكيف لا يكون من عقائد المسلمين، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه، وتواترت سنة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذكره وتتابع علماء المسلمين على جعلها من عقائد المسلمين، وذكرها في دلائل النبوة، كما فعل البيهقي وأبو نعيم، وكل من تكلم عن دلائل النبوة ذكر فيه هذه الآية(266) ؟
ثم لو سلم لرشيد رضا كل ما تقدم، وأن هذه المعجزة غير ثابتة، فماذا يقول في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ... ( [الإسراء:1] فهل يُنكر أيضا حادثة الإسراء والمعراج؟ وهل ينكر حادثة الفيل؟ وكلها ثابت في القرآن.
ونحن نسأل من أنكر معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، هل هو ينكر مبدأ المعجزات، وأنه لا يوجد شيء اسمه خرق عادة، أم أنه ينكر آحاد هذه المعجزات التي حصلت للنبي ( ؟
-إن كان ينكر آحاد هذه المعجزات مع إيمانه بمبدأ المعجزات -كما هو الحال عند معظم المستشرقين والمعاصرين- قلنا له : بما أنك تؤمن بإمكان وقوع المعجزات، فليس لك حق أن تتخير منها ما تشاء فتقبله وترد منها ما تشاء، بل الذي يخرق العادة هو الله تعالى، والله يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ، فإذا ثبت النقل فهذا كافٍ في إثبات صحتها، وكون العقل لا يقبلها هذا أمر لا بد منه؛ إذ أن صفة المعجزة أنها تحير العقول وتخرق العادات .
-وأما إن كان يرفض مبدأ المعجزة بالكلية ؛ قلنا له : إنك بهذا الرفض قد أنكرت نبوة جميع الرسل والنبيين ؛ إذ إن الرسل والأنبياء إنما يدللون على صحة قولهم بخرق العادة لهم، التي لا يخرقها الله تعالى إلا لصادق ، وبهذا تسلم لهم الجموع وتنقاد ، فإنكار المعجزات كلها كفر بالأنبياء، وتكذيب لله تعالى، وإلحاد في جميع الأديان.
وبهذا لا يبقى للمنكر أي حجة في إنكار وقوع هذه الحادثة.
أرأيت كيف فتح بعض المعاصرين الباب للطاعنين ، عفا الله عنهم وغفر لهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(194) انظر: الرسالة المستطرفة للكتاني (ص:89)، دار الكتب العلمية ،بيروت،الطبعة الأولي،1995.
(195) إصدار دار ابن حزم ،بيروت ،الطبعة الأولي،2000.
(196) الناشر مكتبة ابن تيمية ، القاهرة،الطبعة الثانية ، 1987 .
(197) انظر : هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ، ص 87 .
(198) متفق عليه (البخاري:كتاب المناقب ، باب ذكر الجن ، رقم:3646، ومسلم :كتاب الصلاة ، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن ، رقم :450)
(199) أخرجه مسلم (كتاب الفضائل ،باب فضل نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم )وتسليم الحجر،رقم : 2277).
(200) أخرجه أحمد (رقم : 11702 ) ،وابن ماجه (كتاب الفتن ، باب الصبر على البلاء ، رقم : 4028 ) ، وإسناده صحيح بشواهده(انظر : دلائل النبوة، للوادعي /96).
(201) أخرجه الدارمي ( في المقدمهّ في باب ما أكرم الله نبيه من إيمان الشجر به ، رقم : 24 )والترمذي (كتاب المناقب ، باب في إثبات نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، رقم : 3628) و اللفظ له وقال : حسن صحيح ،(وانظر دلائل النبوة للوادعي/98).
(202) أخرجه مسلم ( كتاب الزهد والرقاق ،باب حديث جابر الطويل وقصة أبي بسر ، رقم :3014).(7/306)
(203) أخرجه أبو داود ( كتاب الجهاد ، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب و البهائم ، رقم : 2549 ) وأحمد ( رقم : 1747 ) و هو صحيح على شرط مسلم ،وأصله في مسلم من غير قصة الجمل .
(204) أي المسعور انظر : .
(205) أخرجه أحمد ( رقم : 12203 )وإسناده جيد (انظر :الدلائل للوادعي/102 ، وصححه الألباني فى صحيح الترغيب رقم 1936 ).
(206) أخرجه أحمد ( رقم : 24297 )وسنده حسن (انظر : الدلائل للوادعي/102).
(207)أجمة: غابة ،انظر : لسان العرب(1/656).
(208) أخرجه الحاكم(2/675)دار الكتب العلمية ،بيروت، تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا،1991، والبخاري في التاريخ الكبير (3/195)طباعة دار الفكر ، مراجعة السيد هاشم الندوي ،وهو حسن (انظر الدلائل للوادعي /299).
(209)انكفأ : رجع ،انظر : النهاية في غريب الحديث (4/183).
(210)داجن : هي الدابة التي تعلفها الناس في بيوتهم ،انظر :لسان العرب (13/148).
(211) متفق عليه (البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب ، رقم : 3876 ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه ، رقم :771 ) .
(212) العَنَاق : الأنثى من أولاد الماعز والغنم من حين الولادة إلي تمام حول . المعجم الوسيط ( ع ن ق ) ، (2/655)
(213) أخرجه الحاكم (3/9)،والطبراني في المعجم الكبير (18/343)مكتبة العلوم والحكم ، الموصل، تحقيق حمدي بن عبدالمجيد السلفي، 1983، وسنده صحيح ( انظر : الدلائل للوادعي/111).
(214)المزود: ما يوضع فيه الزاد ، والزاد الطعام ، انظر لسان العرب (3/198).
(215) الحَقْو : الخَصر وهو موضع شد الإزار ، انظر : النهاية في غريب الحديث (5/275) ، والمعجم الوسيط (1/195)
( ح ق و ) .
(216) أخرجه أحمد (8414)،والترمذي (كتاب المناقب ، باب مناقب أبي هريرة ( ،رقم 3839) واللفظ له ، وهو صحيح (انظر : الدلائل للوادعي/112).
(217) متفق عليه (البخاري :كتاب المناقب ،باب علامات النبوة في الإسلام ،رقم :3379، ومسلم : كتاب الفضائل ، باب في معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،رقم:2279) .
(218) أخرجه البخاري : كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، رقم :3386 .
(219) متفق عليه ( البخاري: كتاب المناقب ، باب : مناقب علي بن أبي طالب ( ، رقم :3498، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، رقم : 2406)
(220) أخرجه البخاري : كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، رقم : 3969 .
(221) أخرجه البخاري : كتاب المغازي ، باب قتل أبي رافع ، رقم : 3813 .
(222) متفق عليه من طريق ابن مسعود وأنس وابن عباس رضي الله عنهم :
رواه البخاري عن ابن مسعود(كتاب المناقب،باب سؤال المشركين أن يريهم آية ، رقم :3437) وعن أنس في الموضع السابق رقم :3438، وعن ابن عباس رقم:3439.
وأخرجه مسلم عن ابن مسعود في كتاب صفة القيامة ، باب انشقاق القمر ، 2800،وعن أنس رقم :2802،وابن عباس رقم :2803 .
وأخرجه الترمذي عن ابن عمر (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة القمر،رقم :3288) ،وعن جبير بن مطعم في الموضع السابق رقم :3289، وأخرجه غيرهم.
(223) هَدْهَدَ الشىءَ : حرَّكه : ويقال هدهدت الأمُّ صبيها : حرّكته حركةً رفيقة منظمة لينام انظر : المعجم الوسيط ( 1017/2) ( هدهد ) .
(224) أخرجه البخاري عن ابن عمر (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:3390)وعن جابر ( في الموضع السابق رقم:3392)، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر (كتاب الجمعة، باب ما جاء في الخطبة على المنبر،رقم:505)ثم قال: وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ.
(225) متفق عليه (البخاري: كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، رقم : 3421، ومسلم : كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، رقم : 2781).
(226) تفسير المنار (11/155).
(227) الموضع السابق.
(228) حياة محمد لمحمد هيكل (ص:13).
(229) انظر : كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ،د. فهد بن عبدالرحمن الرومي (ص:545-595)، مكتبة الرشد، الرياض،الطبعة الخامسة ،1422.
(230) انظر : في الرد على شبهة أحاديث الآحاد لا تقبل في العقائد : أشراط الساعة ، ليوسف الوابل ،(ص:41-52)،دار ابن الجوزي ، الرياض، ط8،1997، ورسالة "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين " للألباني -رحمه الله- دار العلم ، بنها ،وكتاب (السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها) لعماد الشربيني ، (ص:12-62) دار اليقين ،المنصورة، الطبعة الأولي 2002.
(231) وإنما تكلمت عن هذه الآية فقط مع أنهم ينكرون جميع الآيات والمعجزات سوى القرآن ؛ لأن هذه المعجزة من أوضح المعجزات وأكثرها دلالة ، فمن أنكرها فهو لغيرها أشد إنكارا ، ولأن رشيد رضا أطال في إنكارها حتى اقتنع بكلامه الكثير ممن قرأه.(7/307)
(232) انظر : مجلة المنار : المجلد 30 الجزء الرابع ،ص:266-268 ،والمجلد 30 الجزء الخامس ،ص362-376، وانظر كلام الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير المراغي (27/77) بنحوه .
(233) مجلة المنار: المجلد 30 الجزء الخامس ص:363-365 ، بتصرف.
(234) تفسير القرآن العظيم (4/261).
(235) نظم المتناثر في الحديث المتواتر (ص : 222).
(236) في كتابه فتح الباري (7/222).
(237) انظر : مقدمة ابن الصلاح مع شرحها للعراقي (ص:43).
(238) علوم الحديث للحافظ أبي عمرو بن الصلاح ،(ص:75)مؤسسة الكتب الثقافية ،بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1995 وفي حاشيتها كتاب "التقييد والإيضاح لما أغلق وأطلق من مقدمة ابن الصلاح " للحافظ العراقي .
(239) المرجع السابق (ص:79).
(240) انظر فتح الباري (6/730).
(241) فتح الباري(7/223).
(242) المرجع السابق.
(243) فتح الباري (7/223).
(244) أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب انشقاق القمر ، رقم :2802).
(245) انظر فتح الباري (7/222).
(246) البداية والنهاية لابن كثير (6/77).
(247) مجلة المنار ، المجلد 30 الجزء الخامس ص 362.
(248) جريدة الوطن الكويتية العدد (9747)، السبت 29/3/2003، مقال للشيخ حامد العلي بعنوان روعة انتصار الإسلام.
(249) فتح الباري (7/224-225).
(250) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (6/342-343).
(251) فتح الباري (7/221).
(252) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة ، باب دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، رقم:962، ومسلم : كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب الدخان ، رقم :2798).
(253) انظر : فتح الباري (7/225) بتصرف وترتيب.
(254) متفق عليه عن أبي هريرة ( البخاري : كتاب الجمعة باب فرض الجمعة، رقم :836، ومسلم :كتاب الجمعة ، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ، رقم :855) واللفظ لمسلم .
(255) أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض،رقم:2889).
(1)أنظر : آيات الله في الكون ، د.عبدالله شحاته (ص:3)، مكتبة نهضة مصر للطباعة والنشر ،الطبعة الأولى، 2002، وهذه الطبعة هي الأولى لهذه الدار وإلا فإن الكتاب قد طبع قبل ذلك في غيرها.
(257) يعني وأنت تتلو القرآن. انظر تفسير الجلالين (ص:165)، دار المعرفة ، بيروت، الطبعة الرابعة 1991.
(258)انظر:الإعجاز العلمي في القرآن لسيد الجميلي (ص:10)، دار مكتبة الهلال ، بيروت، الطبعة الثانية 1992، وآيات الله في الكون ، د.عبدالله شحاته (ص:7-14).
(259) تفسير القرآن العظيم (4/261).
(260) البداية والنهاية (6/74).
(261) المرجع السابق (6/77).
(262) قال تلميذه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/225) ما ملخصه : وأظن قوله بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وفي المواهب لعل قائل مرتين أراد به فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعاً بين الروايات).
(263) نظم المتناثر للكتاني (ص:223).
(264) المرجع السابق.
(265) وراجع : ص 113 السابقة
(266) وقد تقدم الإحالة على هذه الكتب في أول المبحث.
(1/19)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الرابع :إقرار الله تعالى له ولدعوته واستجابة دعائه(267) :
من أدلة صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إقرار الله لدعوته ؛ فإن الله تعالى أخبر أن محمدا لو تقوّل على ربه شيئا من الأقاويل لأهلكه ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ()لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ()ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ()فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة:41-47]، وقال سبحانه ( قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( [طه:61]، وقال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ([يونس:69]، وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ([الزمر: 3]، ولكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما خاب بل هُدي وأفلح في كل المجالات، ودينه أعظم الأديان في الأرض وأكثرها انتشارا.(7/308)
وقد قرر ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذا الدليل أوضح تقرير ، فقال - رحمه الله - : (وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدا ( قد شتمتم الله أعظم شتيمة .فعجب من ذلك وقال: مثلك يقول هذا الكلام ؟ فقلت له :اسمع الآن تقريره ؛إذا قلتم : إن محمدا ملك ظالم، قهر الناس بسيفه، وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا، وأُوحي إلي كذا ؛ولم يكن من ذلك شيء، ويقول إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم، وغنيمة أموالهم، وقتل رجالهم، ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء، ومعاداة أممهم، ونسخ شرائعهم؛فلا يخلو إما أن تقولوا : إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه . أو تقولوا : إنه خفي عنه ولم يعلم به . فإن قلتم :لم يعلم به . نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان من عَلَم ذلك أعلم منه ،وإن قلتم : بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه . فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا ،فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرا وهو مع ذلك يعزه وينصره، ويؤيده ويعليه ويعلى كلمته، ويجيب دعاءه، ويمكنه من أعدائه، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلا عن رب الأرض والسماء ،فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه ، وهذه عندكم شهادة زور وكذب ،فلما سمع ذلك قال :معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق، من اتبعه أفلح وسعد . قلت :فما لك لا تدخل في دينه؟ قال: إنما بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم ،وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه . قلت له : غُلبت كل الغلب؛ فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر إنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به ، فأمسك ولم يحر جوابا.)(268) .
ومثال هذا (لو أن حاجب الأمير قال للناس :إن الأمير قد أمركم بفعل كذا وكذا . فإن الناس يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته ، فكيف إذا كان بحضرته)(269)وبعلمه .
وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجاب الله تعالى له في الحال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ :أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَائِمًا ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ :« اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ». قَالَ أَنَسٌ :وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ(270) مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ ،قَالَ :فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا-وفي رواية : فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ ( - ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ :فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ :« اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ ». قَالَ : فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنِ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ ،فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ(271)، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ )(272).(7/309)
إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة جدا، التي استجاب الله له فيها بالحال ، وهذا لا يمكن أن يتيسر لكاذب، بل لا يكون إلا لصادق مؤيد من الله،فيطوع له الطبيعة، ويسخر له السحاب والأمطار .
--------------------------------------------------------------------------------
(267) هذان دليلان (الإقرار - الاستجابة) ولكن جمعتهما للاختصار .
(268) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية (ص:87)، نشر الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية .
(269) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (6/483) تحقيق د.علي بن ناصر وآخرين ، الرياض، دار العاصمة، ،الطبعة الأولي،1414.
(270) اسم جبل في المدينة.
(271) الجوبة : الحفرة المستديرة الواسعة ، وهي أيضا فجوة ما بين البيوت . المعجم الوسيط (1/150) ( ج و ب )
(272) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة ، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل، رقم :1014، ومسلم :كتاب صلاة الاستسقاء،باب الدعاء في الاستسقاء،رقم:897).
(1/20)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الخامس : من الأدلة على صدقه ( صلى الله عليه وسلم )كمال أخلاقه:
من الأدلة الواضحة على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته، أخلاقه الفاضلة، وآدابه الكاملة، وسجاياه الرشيدة، وفطرته الحميدة :
قال تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( [القلم :4]، وقال سبحانه : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [التوبة:128]، وقال أيضا : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( [آل عمران:159].
ومن ذلك أيضا قوله : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( [التوبة:61].وجاء عن سَعْيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أنه أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ( ؟ قَالَ :مَنْ ؟ قَالَ: عَائِشَةُ فَأْتِهَا فَاسْأَلْهَا ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ:يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) . قَالَتْ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ:بَلَى. قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ( كَانَ الْقُرْآنَ . قَالَ : فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ:أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ...الحديث)(273).
وقد أُلفتْ في أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وشمائله العطرة، وصفاته الزكية، وعاداته الحميدة مؤلفات كثيرة، من أشهرها كتاب شمائل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للترمذي، ولأبي بكر المقري، ولأبي العباس المستغفري، وكتاب الأنوار في شمائل المختار للبغوي(274)،وغيرها كثير.
وهذه الأخلاق العظيمة شهد له فيها أعداؤه من كفار قريش وغيرهم، وكان متحليا بها قبل الإسلام وبعده ؛ (فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة، لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة ، حسبك الآن منها أمثلة يسيرة، إذا ما تأملتها صورت لك إنساناً من الطهر ملء ثيابه ، و الجد حشو إهابه ، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه ، و تأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه ، و يأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له : تواضعٌ هو حلية العظماء، و صراحة نادرة في الزعماء ، و تثبت قلما تجده عند العلماء . فأنى من مثله الختل(275) أو التزوير، أو الغرور أو التغرير ؟ حاشا لله !
أما هذه الأمثلة اليسيرة التي تتصل بالجانب الخلقي منه ( ، ورأينا الاكتفاء بها في الدلالة على ذدق نبوته ، فنجملها فيما يلي :
1- يتبرأ من علم الغيب :(7/310)
جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءَهُنَّ من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن : و فينا نبي يعلم ما في غدٍ . فقال : «لا تقولي هكذا ، و قولي ما كنت تقولين ». رواه البخاري(276). و مصداقه في كتاب الله تعالى : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب ( [ سورة الأنعام الآية:60 ]، ( و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ( [سورة الأعراف الآية:188].
2- لا يُظهر خلاف ما يبطن :
كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح؛ لفرط إيذائهم للمسلمين و صدهم عن الإسلام ، فلما جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان رضي الله عنه ثلاثاً . ثم أقبل على أصحابه فقال : « أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟ » فقالوا : ما ندري ما في نفسك ، ألا أومأت إلينا بعينك ! فقال ( : « إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ». رواه أبو داود والنسائي(277) .
3- خوفه من التقول على الله :
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : دُعِي رسولُ الله ( إلى جِنَازةِ صبيًّ مِنَ الأنصارِ . فقلتُ : يا رسولُ الله طوبَى لهذا ، عصفورُ مِن عصافيرِ الجَنَّةِ، لم يعملِ السُّوءَ ولم يُدْرِكْه. فقال : « أو غيْرَ ذلك يا عائشةُ ، إنَّ الله خَلَق للَجنةِ أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلابِ آبائهم، وخلق للنارِ أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلابِ آبائهم ». رواه مسلم(278) .
وقال البخاري: بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ ( يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ، حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ(وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : سُئِلَ النَّبِيُّ ( عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ(279).
( قَوْله : ( بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ ( يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْي، فَيَقُولُ لَا أَدْرِي , أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْي ) أَيْ كَانَ لَهُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْء الَّذِي لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ حَالَانِ:إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُت حَتَّى يَأْتِيه بَيَان ذَلِكَ بِالْوَحْيِ ،وَالْمُرَاد بِالْوَحْيِ أَعَمّ مِنَ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ وَمِنْ غَيْره ،وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ عِدَّة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث اِبْن عُمَر " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ (فَقَالَ :أَيُّ الْبِقَاع خَيْرٌ ؟ قَالَ : « لَا أَدْرِي ». فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَسَأَلَهُ فَقَالَ : « لَا أَدْرِي ». فَقَالَ : « سَلْ رَبّك »فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ انْتِفَاضَة. الْحَدِيث أَخْرَجَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَلِلْحَاكِمِ نَحْوَه مِنْ حَدِيثِ جُبَيْر ابْنِ مُطْعمِ ،وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَس عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ ،وحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه ( قَالَ : « مَا أَدْرِي الْحُدُودَ كَفَّارَةُُُ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا ». هُوَ عِنْد الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِم) (280).
4- لا يدري ماذا سيكون حظه عند الله :
و لما توفي عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - قالت أم العلاء - امرأة من الأنصار - : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله . فقال ( : « و ما يدريك أن الله أكرمه ؟ » فقالت : بأبي أنت يا رسول الله ، فمن يكرمه الله ؟ قال : أما هو فقد جاءه اليقين ، و الله إني لأرجو له الخير ، و الله ما أدري و أنا رسول ما يفعل بي ».قالت : فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً ) رواه البخاري(281)، و مصداقه في كتاب الله تعالى : ( قل ما كنت بِدعاً من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم ( [ سورة الأحقاف الآية : 9 ] .
أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً و سياسةً ، خشية أن يكشف الغيب قريباً أو بعيداً عن خلاف ما يقول ، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت، وهو لا يخشى من يراجعه فيه ، و لا يهاب حكم التاريخ عليه ؟ بل منعه الخُلق العظيم، و تقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ و أهله ( فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين ، فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين ( [ الأعراف الآيتان : 6 ، 7 ] )(282).
ولنأخذ خلقا واحدا من أخلاقه على سبيل المثال وهو خلق الصدق:(7/311)
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ( وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: « يَا صَبَاحَاهْ ».فَقَالُوا :مَنْ هَذَا فقالوا : محمد. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ :« يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ » فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ :« أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ » قَالُوا :مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ : « فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ». قَالَ أَبُو لَهَبٍ :تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا ؟! ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(283).
فانظر إلى قولهم : (ما جربنا عليك كذبا) 0يعنى ولا حتى مرة واحدة ، قيلت هذه الكلمة أمام هذه الجموع، ولم ينكرها أحد، مع أنه عاشرهم أربعين سنة قبل أن يبعث ، ومع هذا ما جربوا عليه كذبا قط.
بل حتى من لم يعرفه كان إذا رآه علم أنه صادق :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ :لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ :قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ،فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ،وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ :« أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ »(284).
يقول ابن رواحة -رضي الله عنه-:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ كانت بداهته تنبيك بالخبر(285)
ومن سمع كلامه علم صدقه ؛ فقد روي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ :أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ :إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ :لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ. قَالَ :فَلَقِيَهُ فَقَالَ :يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ ، فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» . قَالَ : فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ . فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ : فَقَالَ : لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ . قَالَ : فَقَالَ : هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ :فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« وَعَلَى قَوْمِكَ ؟» قَالَ :وَعَلَى قَوْمِي . قَالَ :فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ :هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً . فَقَالَ :رُدُّوهَا ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ)(286).(7/312)
واسمع لهرقل عظيم الروم -وكان من علماء النصارى- كيف استدل بهذا الخلق على صدق رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم )؛ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ : أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ :أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ :أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ :أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ . ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ :قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ،ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ :كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ :هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ . قَالَ :فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ :لَا. قَالَ :فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ :لَا. قَالَ :فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ فَقُلْتُ :بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ :أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ :بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ :فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قُلْتُ : لَا . قَالَ :فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ :لَا . قَالَ :فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قُلْتُ : لَا ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ :وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ .قَالَ :فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ :نَعَمْ. قَالَ :فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ:مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ :يَقُولُ : اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ :قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ : رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ . وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ : فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ : رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيه،ِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ،وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ،وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ،وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ،وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ؛ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ،وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، ولَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ،فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ ،ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى(7/313)
هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( قَالَ أَبُو سُفْيَانَ :فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا ،فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ،فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ . وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ: أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ -قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ : وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ- فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ :إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ:هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ.ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ( وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرَّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ :رُدُّوهُمْ عَلَيَّ ،وَقَالَ :إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا، أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ )(287)؛ فهرقل استدل بسيرته على صدقه ، وشهد له بالصدق أبو سفيان الذي كان في وقتها من ألد أعدائه، فهو رأس قريش وقائدهم.
إذن :من عاشره شهد بصدقه ، ومن رآه من أول وهلة شهد بصدقه ،ومن سمع كلامه شهد بصدقه، ومن سمع عنه ولم يره شهد بصدقه ، وعدوه شهد بصدقه، فهل بعد هذا مطعن فيه؟.
ومن المعلوم ضرورة أنه لا يمكن لرجل كاذب، مداوم على الكذب، ويدعي كل يوم أنه أتاه وحي جديد من الله تعالى، ومع هذا لم يستطع أحد أن يلاحظ ذلك عليه ويعرف حقيقته ، فإنه من كان في قلبه خلاف ما يبطن فلا بد أن يزل، وأن تعرف حقيقته بفلتات لسانه ولحن قوله، كما قال تعالى عن المنافقين :( وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( [محمد:30].
وقد روي عن عثمان بن عفان ( أنه قال :( ما أسر أحد سريرة إلا أبداها على صفحات وجهه وفلتات لسانه)(288).(7/314)
(و اعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين. وأرخيت لها عنان الشك، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة، لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك، إلا بعد أن تتهم وجدانك و تشك في سلامة عقلك ، فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم، فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة؛ تتمثل فيها عقائده، وعوائده، وأخلاقه، ومجرى تفكيره، و أسلوب معيشته، و لا يمنعهم زخرف الشعر و طلاؤه عن استنباط خيلته(289) ، وكشف رغوته عن صريحه(290)؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان، فتُقرأ بين السطور و تُعرف في لحن القول ، و الإنسان مهما أمعن في تصنعه و مداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله، تنم على طبعه إذا أُحفِظ أو أُحرج، أو احتاج أو ظفر، أو خلا بمن يطمئن إليه .
و مهما تكن عند امرئ من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم
فما ظنك بهذه الحياة النبوية، التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها، فتريك باطنه من ظاهره، و تريك الصدق و الإخلاص ماثلاً في كل قول من أقواله و كل فعل من أفعاله . بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته و حسنت فراسته، يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه و لو لم يتكلم أو يعمل . و من هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهاناً ، فمنهم العشير(291) الذي عرفه بعظمة سيرته ؛ و منهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه)(292) كما حصل لعبد الله بن سلام.
ثم إن الكاذب لو استطاع أن يكذب على كل الناس ؛ فإنه لن يكذب على نفسه ويصدِّقُ كذبه ،
ومن هذه الأمثلة على هذه الحقيقة قوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( [المائدة:67].
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :كَانَ النَّبِيُّ ( يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ( فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ ، فَقَالَ لَهُمْ :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ».(293)، فهل هذا فعل كاذب ، كيف لكاذب أن يطرد الذين يحرسونه بزعم أن الله سيعصمه، وهو يعلم في قرارة ذاته كذب نفسه ،والعرب قد رمته عن قوس واحدة تتربص له في كل طريق ، ألا يخاف أن يغتال ؟!.
إن هذا الأمر لا يفعله إلا رجل صادق، يأوي إلى ركن شديد، واثق من أن الذي أرسله سيحميه من كل المخاطر.
ومن هذا الباب حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ(294)، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ،فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ ( فَاخْتَرَطَهُ(295) ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : أَتَخَافُنِي ؟ قَالَ :« لَا ». قَالَ :فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ :« اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ». وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَجِئْنَا، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : « إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ صَلْتًا(296)، قَالَ :مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قُلْتُ :« اللَّهُ ،فَشَامَهُ -يعني أدخله في غمده- ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هَذَا » . قَالَ: وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) )(297).
(ومن أعظم الوقائع تصديقا لهذا النبأ الحق، ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة حنين ، منفرداً بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض بغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبدالمطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع ، فأقبل المشركون إلى رسول الله ( ، فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول:« أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب » (298). كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فوالله ما نالوا منه نيلا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده)(299).(7/315)
ومن لطيف الاستدلال - في هذا المقام - استدلال بعضهم لصدقه بزواجه من أكثر من تسع نسوة ؛ ووجه ذلك أن الإنسان الكاذب قد يستطيع أن يتحرز من الناس في حياته الخارجية، بحيث لا يستطيع أحد أن يجد عليه كذبا ، لكن هذا لا يحصل للإنسان مع زوجته؛ فإن العادة جرت بسقوط كلفة وانبساط الرجل مع أهله ، وزوجته أعلم الناس بحاله ، فلما كان احتمال أن هذه الزوجة تتواطأ مع زوجها في إخفاء كذبه ؛ إذن للنبي ( أن يكثر من الأزواج، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع كثرة أزواجه لم تنقل إحداهن عن حياته الخاصة إلا كل كمال يمكن أن يوصف به إنسان ، فلو أمكن أن تتواطأ واحدة ، فإنه لا يمكن أن يتواطأن كلهن على ستر كذبه، وإخفاء عيبه فهذا في غاية من البعد ، لاسيما أن بعضهن كصفية بنت حيي بن أخطب، التي تزوجها بعد أن حارب قومها، وقتل منهم الكثير، ثم سباها ثم أعتقها وتزوجها ،وأم حبيبة كان متزوجا لها وهو يحارب أباها أبا سفيان ، وجويرية بنت الحارث كانت من سبايا بني المصطلق، ثم أعاناها على مكاتبتها وتزوجها(300) ، ألم يكن لهؤلاء النسوة أكبر دافع للثأر منه، ولو بتشويه صورته حتى لو بعد موته ؟ بلى ، ولكن كل هذا لم يحصل فدل على صدقه.
فهذا خلق واحد من أخلاقه ( اُستدل به على صحة نبوته ؛ فما بالك بأخلاقه الأخرى.
--------------------------------------------------------------------------------
(273) أخرجه مسلم مطولا (كتاب صلاة المسافرين وقصرها ،باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أومرض،رقم :746).
(274) انظر الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة للكتاني (ص:88).
(275) الختل : الخداع عن غفلة . الوسيط (1/225) ( خ ت ل ) .
(276) البخاري(كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدرا ، رقم :3779).
(277) أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد ، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، رقم :2683)، والنسائي(كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، رقم :4067) وإسناده حسن .
(278) أخرجه مسلم (كتاب القدر ، باب معنى كل مولود يولد على فطرة، رقم :2662).
(279) صحيح البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسأل مما لم ينزل عليه الوحي ...، والحديث الذي في الباب رقمه :7309).
(280) فتح الباري لابن حجر (13/303).
(281) في كتاب الجنائز ،باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في الأكفان ،رقم :1186.
(282) النبأ العظيم ، ص : 34-36، وقد زدت بعض الزيادات.
(283) متفق عليه (البخاري: تفسير القرآن ، باب تباب خسران وتتبيب تدمير،رقم :4687، ومسلم :الإيمان ، باب قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين (، رقم :208).
(284) أخرجه الإمام أحمد (23272)، والترمذي (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع ، باب منه ، رقم :2485)، وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، رقم :1334)، والدارمي (كتاب الصلاة ، باب فضل صلاة الليل، رقم :1460)، وإسناده صحيح ، صححه الترمذي والألباني (صحيح الترمذي 2/303) وعبدالقادر الأرنؤوط (جامع الأصول 9/551)وغيرهم .
(285) انظر : ديوان عبدالله بن رواحة ،(ص:95) جمع ودراسة وتحقيق د. حسن محمد باجودة ، القاهرة، مكتبة التراث، 1972.
(286) أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، تخفيف الصلاة والخطبة،رقم :868).
(287) متفق عليه (البخاري: كتاب بدأ الوحي،رقم :7، ومسلم :كتاب الجهاد والسير ، باب كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى هرقل، رقم: 1773).
(288) ذكره ابن تيمية في الجواب الصحيح (6/487) ولم يذكر من خرجه ، وكذا ذكره ابن مفلح في الفروع (1/153) ولم يعزه لمصدر، ولم أجده بعد طول عناء في البحث في مظانه ، ولكن المعنى صحيح على كل حال.
(289) استنباط خيلته : الخيلة في اللغة هي الكبر ، و لكن اشتقاقات فعل : خال يخيل تظهر معاني الخفاء و الاستشكال و التلون ، فهنا قد تعني كلمة ( استنباط خيلته) : فهم و إظهار ما يراد إخفاؤه .
(290) كشف رغوته عن صريحه : الرغوة هي ما يكون فوق اللبن عند صبه في الإناء [ أي الفقاقيع ]، و الصريح هو اللبن الخالص ، و هذا التعبير يعني إجمالاً : كشف الزيف عن الحقيقة .
(291) العشير : الزوج أو المعاشر أو الصديق القريب ، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
(292) النبأ العظيم ، ص :38.
(293) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن ، باب من سورة المائدة ، رقم :3046) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي رقم:2440).
(294) العِضَاهُ : كل شجرة له شوك صغُر أو كبُر . واحدته : عِضَاهَةُ . المعجم الوسيط ( ع ض و )
(295) اخترط السيف : اسْتَلَّه . القاموس المحيط (خ ر ط )
(296) سيفُ صَلْت : صقيلُ ماضٍ . والصَّلْت : البارز . المعجم الوسيط (ص ل ت )
(297) متفق عليه (البخاري:كتاب المغازي ،باب: غزوة بني المصطلق ، رقم : 3908، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها ،باب :صلاة الخوف، رقم :843).(7/316)
(298) متفق عليه (البخاري: كتاب الجهاد والسير ، باب :من قال خذها وأنا ابن فلان، رقم:2877، ومسلم :كتاب الجهاد والسير ،باب في غزوة حنين ،رقم :1776).
(299) النبأ العظيم ، للعلامة د.محمد عبدالله دراز ، ص:49).
(300) انظر في ترجمة أمهات المؤمنين :روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن ، لمحمد علي الصابوني (ص:307-316).
(1/21)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين :
لقد كان من أدلة صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جوابه الحاضر على الأسئلة المفاجئة التي كان يواجهه بها المشككون في صدقه ، ولا يتأتى ذلك لشخص كاذب مهما أوتي من فطنة ، بل لا يصدر إلا عن نبي مؤيد بوحي من السماء ، فمن أمثلة ذلك .
عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ( ، فَقَالَ :إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ؛ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ؟ ...الحديث السابق )(301).
وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ :كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ :السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا فَقَالَ : لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ .فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي ». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ ؟ » قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ . فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِعُودٍ مَعَهُ ،فَقَالَ :« سَلْ ». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ ». قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً ؟ قَالَ : « فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ». قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : « زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ ». قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ :« يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا ». قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ :« مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ». قَالَ :صَدَقْتَ .قَالَ : وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ . قَالَ: « يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ ؟». قَالَ : أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟ ،قَالَ :« مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ ».قَالَ الْيَهُودِيُّ :لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ . ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ)(302).(7/317)
عن ابْنِ عَبَّاسٍ ( قال:حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ ( يَوْمًا، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ : « سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَام - عَلَى بَنِيهِ ، لَئِنْ حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ ». قَالُوا :فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ :« فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ». قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ؛أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فِي النَّوْمِ ،وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؟ قَالَ :« فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي». قَالَ :فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ. قَالَ: « فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَام - مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا ، وَطَالَ سَقَمُهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا ؟ قَالُوا :اللَّهُمَّ نَعَمْ . قَالَ :« اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ ،فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ؛ إِنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ ؟ ».قَالُوا :اللَّهُمَّ نَعَمْ . قَالَ: « اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ ،فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ». قَالُوا :اللَّهُمَّ نَعَمْ .قَالَ :« اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». قَالُوا :وَأَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ ؟ قَالَ :« فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - وَلَمْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ ». قَالُوا : فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ ؟ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَتَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ . قَالَ :« فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ ». قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا . قَالَ :فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ( كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( فَعِنْدَ ذَلِكَ بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ )(303).(7/318)
وفي وراية عن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ :أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالُوا :اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ . قَالَ :« هَاتُوا ».قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ ؟ قَالَ :« تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ». قَالُوا :أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: « يَلْتَقِي الْمَاءَانِ ؛ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنَثَتْ». قَالُوا :أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ :« كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ الْإِبِلَِ فَحَرَّمَ لُحُومَهَا ». قَالُوا :صَدَقْتَ ، قَالُوا :أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، بِيَدِهِ أَوْ فِي يَدِهِ مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ ». قَالُوا :فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ ؟ قَالَ :« صَوْتُهُ». قَالُوا :صَدَقْتَ ،إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي نُبَايِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبكَ؟ قَالَ :« جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام ». قَالُوا :جِبْرِيلُ ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ...إِلَى آخِرِ الْآيَةَ ( (304).
فلو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا كاذبا- وحاشاه - ، هل يغامر هذه المغامرة ، ويرضى بهذا الاختبار العلني من علماء وأحبار، وهو لا يعرف ما هي الأسئلة أو إجابتها، ويقول (سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ)؟! لو كان يأخذ من أساطير الأولين، أليس المفترض أنه يقول: انتظروني حتى أراجع مراجعي أو مشايخي، أم أنه كان مطمئنا إلى صدق نفسه، واثقا بمن أرسله وأنه لا يخذله أبدا ، ومع أنهم يسألونه في علوم لم يدرسها، ولا يعرفها قومه، إلا أنه كان يجيب عليها بكل دقة ،والعجب أن هذا الأسئلة ليست في علم واحد، بل هي في عدة علوم، فبعضها طبية ، وبعضها غيبية لا يمكن لأحد أن يطلع عليها إلا بوحي ، أليس في هذا أوضح دليل على صدق رسالته؟ .
--------------------------------------------------------------------------------
(301) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن ، باب من كان عدوا لجبريل ، رقم :4210).
(302) أخرجه مسلم (كتاب الحيض ، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة ، رقم :315).
(303) أخرجه الإمام أحمد (2510) وهو حسن ، وصححه الشيخ أحمد شاكر برقم :2514.
(304) أخرجه الإمام أحمد (2479)، وصححه أحمد شاكر رقم : 2483 .
(1/22)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب السابع: عدم استغلاله فرص التعالي :-
في بعض المواقف تحصل للنبي ( فرصة عظيمة للتعالي والتكبر والفخر، ولكنه يأبى أن يفعل ذلك ، ولو كان كاذبا لاستغلها أعظم استغلال :
يقول إميل درمنغم(305): (ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده ، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون :إنها انكسفت لموت إبراهيم . ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته.. » (306) ؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال ..)(307). وهذا كلام حق ، فلو كان غير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مدعي النبوة، لاهتبل هذه الفرصة وقال : انظروا إلى الشمس حزنت لحزني و انكسفت .(7/319)
ومن هذا الباب حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ : كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ(308) عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )، فَقَالُوا : إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي، عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِأَصْحَابِهِ :« قُومُوا ». فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ ( نَحْوَهُ ،فَقَالَتَ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ(309) وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ .فَقَالَ : « لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ(310)». فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ ،فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ! وَنَحْنُ نَعْقِلُ ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ : « لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ » (311).
فلم يستغل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سجود الجمل له ليعظم نفسه أو يرفعها ، بل قال :لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر .
--------------------------------------------------------------------------------
(305) مستشرق فرنسي ، عمل مديرا لمكتبة الجزائر ، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (1929)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس(1955).انظر: قالوا عن الإسلام:ص:60.
(306) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة ، باب الدعاء في الخسوف ،رقم :1012، ومسلم : كتاب الكسوف ، باب صلاة الكسوف، رقم :901).
(307) حياة محمد له (ص:318) ، نقله عنه كتاب" قالوا عن الإسلام " ص:60.
(308) يسنون عليه : أي يستقون عليه لسان العرب ( س ن ي ) ، وسني الدابة : استقي عليها الماء . المعجم الوسيط
(س ن ي)
(309) أي المسعور. يقال كَلِبَ الكَلِبَ يَكْلَبُ كَلَباً : أصابة داءُ الكَلِبَ . انظر :الوسيط ( ك ل ب )،ولسان العرب (1/722).
(310) فالذي عصمه من كل أذى الناس ألا يقدر أن يعصمه من الحيوان؟ .
(311) أخرجه الإمام أحمد (12203)وإسناده حسن .( صححه الألباني في صحيح الترغيب ، رقم : 1936 ) وقد تقدم في ذكر آيات النبي ( صلى الله عليه وسلم )
(1/23)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثامن : استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء(312):
المباهلة هي الملاعنة(313) ،
قال في لسان العرب(314) : (و باهَلَ القومُ بعضُهم بعضاً و تَبَاهلوا و ابتهلوا: تَلاَعنوا ، و المُباهلة: المُلاَعَنَة ؛ ويقال: باهَلْت فلاناً أَي لاعنته، ومعنى المباهلة : أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لَعْنَةُ الله على الظالم منا، وفي حديث ابن عباس: من شاء باهَلْته أَن الحَقَّ معي ).
قال ابن حجر -رحمه الله- في سرده لفوائد حديث حذيفة القادم : (وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّة مُبَاهَلَة الْمُخَالِف إِذَا أَصَرَّ بَعْد ظُهُور الْحُجَّة ،وَقَدْ دَعَا اِبْن عَبَّاس إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاء ،وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَة مِنْ يَوْم الْمُبَاهَلَة ،وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْص كَانَ يَتَعَصَّب لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَة فَلَمْ يَقُمْ بَعْدهَا غَيْر شَهْرَيْنِ )(315).
ودلالة هذا المطلب على النبوة من وجهين :
1- ثقة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اتقادا جازما في صدق ما يقول.
2- نكوص النصارى عن المباهلة ، مما يدل على تصديقه في قلوبهم ولكنهم يعاندون.
قال تعالى له : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ(7/320)
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ ( [آل عمران :61].
قال ابن كثير -رحمه الله- : (وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر في هذه السورة ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره ، وقدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد نصارى نجران ستون راكبا، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم؛ وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثه ابن علقمة وكان أسقفهم صاحب مدارستهم، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها، وشرفوه وبنوا له الكنائس، وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية ؛ لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ،فكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبدالمسيح، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك ،فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « أسلما ». قالا : قد أسلمنا . قال : « إنكما لم تسلما، فأسلما ». قالا: بلى قد أسلمنا قبلك . قال : « كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ». قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ،فلما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم، أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبدالمسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدًا لنبيُّ مرسلُُ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا فدعى أبا عبيدة فقال : « اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »)(316) .
وفي الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ(317) قَالَ : فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّنا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا . قَالَا : إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلاَّ أَمِينًا. فَقَالَ : « لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ». فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ : « قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ». فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ »(318) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ : فَقَال(َ: « لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا ، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ،وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا » (319).
فكيف لرجل كاذب أن يقحم نفسه في هذه المزلة، ويرضى أن يكون ملعونا بلعنة الله، مطرودا من رحمتة مستوجبا الهلاك ومستعجلا انتقام الله منه ، إلا إن كان صادقا، عالما من صدق نفسه، واثقا بمن أرسله .(7/321)
--------------------------------------------------------------------------------
(312) كتاب الداعي إلى الإسلام لكمال الدين الأنباري (ص:437) ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت،الطبعة الأولي،1988، وتثبيت دلائل النبوة للقاضي عبدالجبار (2/426).
(313) انظر: مختار الصحاح (1/27).
(314) (11/72).
(315) فتح الباري (7/697).
(316) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/368)
(317) يعني بعد أن دعاهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك ، كما تبين من سبب النزول والأحاديث الأخرى. وانظر فتح الباري (7/696).
(318) متفق عليه ( البخاري: كتاب المغازي ، باب قصة أهل نجران ، رقم :4119، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أبي عبيدة، رقم :2420).
(319) أخرجه الإمام أحمد (2226) بإسناد على شرط البخاري، وأخرج البخاري الجزء الأول من الحديث إلى قوله (لأخذته الملائكة عيانا)(كتاب التفسير ، باب قوله (كلا لئن لم ينته لنسفعا ..)،رقم:4958).
(1/24)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب التاسع : حمايته من كل ما يكاد به ، ونجاته من كل محاولات الاغتيال :
وهذا الدليل استدل به اليهود على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :
ففي حديث عائشة عندما سحر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لبيد بن الأعصم(320) ، (أَخْرَجَ اِبْن سَعْد بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَر بْن الْحَكَم مُرْسَل قَالَ : لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه ( مِنْ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْحَجَّة، وَدَخَلَ الْمُحَرَّم مِنْ سَنَة سَبْع جَاءَتْ رُؤَسَاء الْيَهُود إِلَى لَبِيد بْن الْأَعْصَم - وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْق وَكَانَ سَاحِرًا - فَقَالُوا لَهُ : يَا أَبَا الْأَعْصَم , أَنْتَ أَسْحَرنَا ، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَع شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَل لَك جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ، وفي رواية اِبْن سَعْد : فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم : إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ ،وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله)(321).
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ :أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ ،فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. قَالَ : « مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ » (322)،ورواه أبو داود من حديث جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ : أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً(323)، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ». وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا ،فَقَالَ لَهَا :« أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ ؟ » قَالَتْ الْيَهُودِيَّةُ :مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ :« أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي ». لِلذِّرَاعِ ، قَالَتْ: نَعَمْ .قَالَ : «فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ ؟ ». قَالَتْ : قُلْتُ : إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ . فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَمْ يُعَاقِبْهَا)(324).
وقد بدأت هذه المحاولات من بداية البعثة :(7/322)
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ( :أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. قَالَ : فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ : هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، قَالَ : يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ ،فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا : هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ : «شَاهَتِ الْوُجُوهُ ». قَالَ : فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا)(325).
وحادثة الهجرة عندما أرادوا أن يقتلوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل هجرته، فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكانه عليَّ بنَ أبي طالب ،وخرج من بيته مع أن الكفار قد أحاطوا به من كل جانب ؛إلا أن الله قد أعمى أبصارهم عنه(326) ، وفي هذا يقول سبحانه : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( [الأنفال:30].
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ( -في حديث الهجرة الطويل،وفيه-:الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ ، فَقَالَ :يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا . فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ ، فَقَالَ:« اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ ».فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ ، فَقَالَ:يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ .قَالَ : «فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا ». قَالَ : فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ ( ، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ )(327).
قال ابن حجر : (وفي قصة سراقة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول سراقة مخاطبا أبا جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه) (328)
واستمرت هذه المحاولات في المدينة أيضا، كما تقدم في حديث لبيد بن الأعصم ، وحادثة الشاة المسمومة في خيبر في السنة الخامسة وكذلك حادثة بني النضير الذي أرادوا أن يلقوا الصخرة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو جالس تحت بيت من بيوتهم ، فكان هذا سببا لجلائهم من المدينة(329) .(7/323)
ولم تكن هذه المحاولات قاصرة على اليهود ، بل حتى كفار قريش كانوا مستمرين في ذلك؛فـ(عن ابن شهاب قال : لما رجع كل المشركين إلى مكة ، فأقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجْر ، فقال صفوان : قبح الله العيش بعد قتلى بدر. قال : أجل والله ما في العيش خير بعدهم ، ولولا دين عليَّ لا أجد له قضاء ، وعيال لا أدع لهم شيئا ، لرحلت إلى محمد فقتلته إن ملأتُ عيني منه ، فإن لي عنده علة أعتل بها عليه ، أقول قَدِمْتُ من أجل ابني هذا الأسير . قال : ففرح صفوان وقال له : عليَّ دينُك وعيالك أسوة عيالي في النفقة ، لا يسعني شيء فأعجز عنهم . فاتفقا وحمله صفوان وجهزه ، وأمر بسيف عمير فصُقِلَ وسُمَّ ،وقال عمير لصفوان :اكتم خبري أياما . وقدم عمير المدينة فنزل بباب المسجد وعقل راحلته ، وأخذ السيف وعمد إلى رسول الله ( ، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار ، ففزع ودخل إلى رسول الله ( ، فقال : يا رسول الله لا تأمنه على شيء . فقال : « أدخله علي ». فخرج عمر فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله ( ويحترسوا من عمير ، وأقبل عمر و عمير حتى دخلا على رسول الله ( ومع عمير سيفه ، فقال رسول الله (لعمر : « تأخر عنه ». فلما دنا عمير قال : أنعموا صباحا -وهي تحية الجاهلية -فقال رسول الله ( : « قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا تحية أهل الجنة وهو السلام ». فقال عمير :إن عهدك بها لحديث. فقال :« ما أقدمك يا عمير ؟ ».قال :قدمت على أسيري عندكم ، تفادونا في أسرانا ، فإنكم العشيرة والأهل . فقال : « ما بال السيف في عنقك؟». فقال :قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا ، إنما نسيته في عنقي حين نزلت . فقال رسول الله ( : « اصدقني ما أقدمك يا عمير ؟ » . قال : ما قدمت إلا في طلب أسيري. قال : « فماذا شرطت لصفوان في الحجر ؟ ».ففزع عمير وقال : ماذا شرطت له ؟ قال: «تحملت له بقتلي على أن يعول أولادك ، ويقضي دينك ، والله حائل بينك وبين ذلك ». فقال عمير : أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله ،كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء ، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحِجْر -كما قلتَ-لم يطلع عليه أحد ، فأخبرك الله به ، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق . ففرح به المسلمون وقال له رسول الله ( : « اجلس يا عمير نواسك ». وقال لأصحابه : « علموا أخاكم القرآن » . وأطلق له أسيره ،فقال عمير : ائذن لي يا رسول الله ، فألحق بقريش ، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم ، فأذن له فلحق بمكة ، وجعل صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر . وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة هل كان بها من حدث ، حتى قدم عليهم رجل فقال لهم :قد أسلم عمير . فلعنه المشركون وقال صفوان : لله عليَّ إلا أكلمه أبدا ولا أنفعه بشيء . ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجهده ، فاسلم بسببه بشر كثير)(330).
وغير ذلك من المحاولات التي باءت بالفشل ، مما يدل على صدق قوله تعالى: ( والله يعصمك من الناس ( [المائدة : 67] . وهذا يدل على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنه محفوظ من كل أذى حتى يبلغ دين الله كاملا، لذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدخل في فم الأسد -كما يقال- وهو مطمئن القلب رابط الجأش، كما فعل في حنين وأحد وغيرها من المعارك، ومنع الناس من حراسته لما علم بحفظ الله ،وفي حادثة الهجرة عندما طوق المشركون الغار ، ولم يكن بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن ينظر أحدهم إلى قدمه ،في هذه الحال العصيبة أحس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتوتر أبي بكر الصديق ( وشدة اضطرايه وخوفه فقال له : « لا تحزن إن الله معنا » (331).
يقول تعالى :( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:40] .
أي ثبات هذا وأي قلب يستطيع أن يهدأ في مثل هذا الموقف ؟ إنها حقا النبوة.
ومن هذا الباب قول الله تعالى عن نوح (:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ( [يونس:71].(7/324)
وقول هود (:(...قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( [هود:54-56].
--------------------------------------------------------------------------------
(320) متفق عليه (البخاري : كتاب الطب، باب السحر ، رقم :5433، ومسلم: كتاب السلام ، باب السحر ، رقم: 2189)، وسيأتي نصه صفحة .
(321) فتح الباري (10/237).
(322) متفق عليه (البخاري:كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، رقم:2617 ، ومسلم: كتاب السلام ، باب السم ، رقم :2190).
(323) مصلية : مشوية . ( لسان العرب (14/467)
(324) سنن أبي داود (كتاب الديات ، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد به،رقم :4510) وهو صحيح لغيره كما قال الألباني في مشكاة المصابيح رقم : 5874.
(325) أخرجه الإمام أحمد (3475) وإسناده صحيح كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/781) رقم : 2824.
(326) انظر الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام ، للسهيلي (4/178)
(327) البخاري: كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه، رقم:3911).
(328) الإصابة (3/42 ) .
(329) انظر : الرحيق المختوم في سيرة المعصوم ، للمباركفوري(ص:293)، دار الحديث، القاهرة .
(330) الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر (4/726) وذكر أنه أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب مرسلا ،وابن إسحاق في المغازي عن محمد بن جعفر مرسلا أيضا ، وجاء موصولا أخرجه ابن مندة والطبراني عن أنس ، مما يدل أن للقصة أصلا.
(331) أخرجه البخاري (كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام،رقم:3615).
(1/25)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب العاشر:انتفاء الغرض الشخصي:
من أدلة صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عدم إرادة المصلحة الشخصية لنفسه من هذه الدعوة ؛ وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل بقوله :( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( [ص:86].
وهذا على خلاف أصحاب المذاهب والأفكار الباطلة والدجالين والكذابين ؛ فإنهم يسعون لتحقيق مصالح شخصية ومآرب ذاتية من جاه ومال ونساء واتباع ومنصب وشهرة وغير ذلك ، بينما لا تجد هذا في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهو من أفقر الناس ؛ حيث كان تمر ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نار ، وإنما كان طعامه التمر والماء(332) ، وتأتي الفقيرة إلى بيت رسول الله ، فلا تجد عائشة ( إلا تمرة واحدة فتعطيها إياها(333) ، وأحيانا يأتي الفقير فيرسل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيوته التسعة ، فلا يجد فيها شيئا حتى التمرة ،ليس في بيوته التسعة إلا الماء(334) .
ولقد خَيرَّه ربه بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ( فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ :إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ . فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ :يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ ، قَالَ : أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ :« بَلْ عَبْدًا رَسُولًا » (335).
وكان أزهد الناس في الدنيا وزخرفها ، عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ :رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ(336) حَشْوُهَا لِيفٌ ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا(337) مَصْبُوبًا ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ(338) مُعَلَّقَةٌ ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ ،فَقَالَ:«مَا يُبْكِيكَ ؟ ». فَقُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . فَقَالَ: « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ » (339).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ( قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ ( عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ ، فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(: « مَا لي وللدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا » (340).
وكان لا يحب أن يرفعه الناس فوق قدره :(7/325)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه سَمِعَ - عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقُولُ : « لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ » (341).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَيا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ » (342).
وعن عبدالله بن الشخير العامري ( : انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا . فَقَالَ : « السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ». قُلْنَا :وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا ،فَقَالَ : « قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ » (343).
وكان لا يحب أن يقوم له أحد إذا دخل :
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ)(344).
ولا يحب أحدا أن يقف فوق رأسه كما تفعل الملوك والقياصرة :
فقد أخرج مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ :« إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ ،فَلَا تَفْعَلُوا؛ ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا » (345).
وهذا أمر عجيب ؛ فقد ذكر الفقهاء أن القيام في صلاة الفريضة من أركان الصلاة(346) ، ومع هذا لما أحسَّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى تعظيمه أمرهم بالقعود.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ ( رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ ،فَقَالَ لَهُ:« هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ(347) » (348).
بل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلزم خاصته وأهله بالزهد أيضا ، فقد خير أمهات المؤمنين بين البقاء معه على هذه الحال ولهن الجنة ، وبين الدنيا ويطلقهن ، فاخترن البقاء معه(349) :
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا() وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( [الأحزاب:28-29].
وجاءته فاطمة ابنته تسأله خادما من السبي ، فوزعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الناس ، ولم يعط فاطمة منها شيئا ، مع شدة حبه لها وشدة حاجتها له :
عن عَلِيًّ قَالَ :شَكَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ ( مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى ، فَأُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ ، فَلَمْ تَرَهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ ،فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ( أَخْبَرَتْهُ ، فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ :« عَلَى مَكَانِكُمَا ». فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي ، فَقَالَ : أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ » (350).(7/326)
وفي روايةِ أبي داود قَالَ عَلِيٌّ لِابْنِ أَعْبُدَ : أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم )، وَكَانَتْ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ ، وَكَانَتْ عِنْدِي فَجَرَّتْ بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ بِيَدِهَا ، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا وَقَمَّتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا ، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا وَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ ، فَسَمِعْنَا أَنَّ رَقِيقًا أُتِيَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ ( ،فَقُلْتُ : لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِيهِ خَادِمًا يَكْفِيكِ . فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ حُدَّاثًا(351) فَاسْتَحْيَتْ فَرَجَعَتْ ،فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِفَاعِنَا(352) ، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي اللِّفَاعِ حَيَاءً مِنْ أَبِيهَا ،فَقَالَ : « مَا كَانَ حَاجَتُكِ أَمْسِ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ ؟ » فَسَكَتَتْ مَرَّتَيْنِ ،فَقُلْتُ :أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إِنَّ هَذِهِ جَرَّتْ عِنْدِي بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ فِي يَدِهَا ، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا ، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا ، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَاكَ رَقِيقٌ أَوْ خَدَمٌ ، فَقُلْتُ لَهَا : سَلِيهِ خَادِمًا ...)(353).فانظر كيف قسم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) السبي ولم يعط فاطمة منه شيئا ! .
فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل النبوة كان له مكانة عظيمة في قومه ، ولا ينادونه إلا الأمين والصادق ، وإذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه(354) ، وكان متزوجا من امرأة غنية ، وله أعرق نسب في قريش ، فعنده المال والمرأة الجميلة والمكانة المرموقة والسمعة الطيبة والنسب الشريف ، فكيف يترك هذا كله ويحارب الناس أجمعين ، ويكفرهم إلا من كان على طريقته ، ويحارب الناس ويقول لقريش : « جئتكم بالذبح » (355).وترميه العرب عن قوس واحدة ، ثم بعد هذا كله ليس له من فعله أي مصلحة دنيوية لا له ولا لأبنائه ولا لأهله ، بل حتى لما مات لم يُعْطِ الخلافة لأحد قرابته ، فما كان لرجل يترك الكذب أربعين سنة ، حتى صار طبعا له وسجية من سجاياه الثابتة التي يصعب انتزاعها منه ، بل حتى لو أراد الكذب لأبت عليه طباعه وسجاياه ذلك ، ثم بعد هذا التاريخ الطويل والسمعة السامية يقوم وينتحل الكذب ،وليس أي كذب بل أشد أنواعه وهو الكذب على الله تعالى ، وهو مع هذا لا يهدف لمصلحة ولا لغرض شخصي ؟ إن هذا لا يمكن أن يتصوره عاقل.
إن عدم رغبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في متاع الدنيا دليل أنه إنما فعل هذا طاعة لله ، بوحي منه سبحانه.
وقد وُفق بعض المستشرقين المنصفين لفهم هذا المعنى وإدراكه ؛ يقول (كارليل) (356) :(ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا ( لم يكن صادقا في رسالته ، أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ، ولم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان ، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب )(357). وقد استدل بهذا الدليل حبيب النجار(358) الذي في سورة يس ؛ كما قال تعالى : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مهْتَدُونَ( [يس:20-21] .
وهذا الدليل حق ، وكان كل نبي يأتي إلى قومه يقول لهم هذا الأمر ، ففي سورة الشعراء قال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [الشعراء:109،127،145،164،180].
--------------------------------------------------------------------------------
(332) متفق عليه عن عائشة (البخاري:كتاب الهبة ، باب الحديث، رقم:2567، ومسلم :كتاب الزهد والرقائق ، باب منه ، رقم:2972).
(333) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة ، رقم :1418، ومسلم:كتاب البر والصلة ، باب فضل الإحسان إلى البنات، رقم :2629).
(334) متفق عليه عن أبي هريرة (البخاري: كتاب المناقب،باب قول الله : (ويؤثرون على أنفسهم...)، رقم:3798، ومسلم : كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره،رقم:2054).
(335) أخرجه الإمام أحمد (7120) صححه الألباني في السلسة الصحيحة (3/3) رقم : 1002 .
(336) الأدم : الجلد . مختار الصحاح (1/4) .
(337) القرظ : ورق شجر يُدبغ به . لسان العرب (7/454) .
(338) أَهَب : جمع إهاب وهو الجلد ما لم يدبغ . لسان العرب (1/217) .(7/327)
(339) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله (تبتغي مرضات أزواجك..)، رقم :4913، ومسلم: كتاب الطلاق ، باب في الإيلاء واعتزال النساء ، رقم :1479).
(340) أخرج الترمذي (كتاب الزهد ، باب ما جاء في أخذ المال بحقه ، رقم :2377) ، وابن ماجه (كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، رقم :4109) وإسناده صحيح ؛ انظر : صحيح سنن ابن مجاه للألباني ( 2/394 ) رقم 3317 .
(341) أخرجه البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (واذكر في الكتاب مريم...)، رقم :3445).
(342) أخرجه الأمام أحمد (رقم :12141) وإسناده صحيح. كما في غاية المرام للألباني ص 97 رقم : 123المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثالثة 1985 .
(343) أخرجه أبو داود (كتاب الأدب ، باب في كراهية التمادح ، رقم :4806) وأحمد (15876) وإسناده صحيح انظر : غاية المرام في تخريج الحلال والحرام للألباني ص 99 ، رقم 127 ، وصحيح سنن أبي داود ( 3/912) رقم 4021 .
(344) أخرجه الإمام أحمد (11936) والترمذي (كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل،رقم:2754) وإسناده صحيح. انظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/698) رقم 0358
(345) أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام ، رقم :413).
(346) انظر كتاب الكافي لابن قدامة المقدسي (1/279)، تحقيق د. عبد الله التركي ، دار هجر،الطبعة الأولي،1997.
(347) القَدِيدُ من اللحم : ما قُطِعَ طولاً ومُلَّح وجُفَّف في الهواء والشمس . ( المعجم الوسيط ٌ د د )
(348) أخرجه ابن ماجه (كتاب الأطعمة ، باب القديد، رقم :3312) وهو صحيح كما قال الألباني في صحيح ابن ماجه ( 2/232) رقم : 2677 .
(349) الحديث متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى(يا أيها النبي قل لأزواجك...)،رقم :4786، ومسلم :كتاب الطلاق ، باب أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا...، رقم:1475).
(350) متفق عليه (البخاري:كتاب فرض الخمس، باب الدليل أن الخمس لنوائبه ، رقم :3113،ومسلم : كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم :2727).
(351) أي رجالا يتحدثون (انظر :عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم أبادي (8/149)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،1990).
(352) أي في غطائنا ، فاللَّفاعُ ما يجلَّل به الجسدُ كلُّه ، كِساءً كان أو غيره . ( الوسيط ل ف ع )
(353) أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، رقم :5062).
(354) كما حصل عندما اختلفت قريش عند بناء الكعبة ، فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه ، فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففض الخصام بأن بسط عباءته ووضع الحجر الأسود عليها ، وأمر كل رأس قبيلة أن يأخذ طرفاً من أطراف العباءة ، فحملوه كلهم حتى وضعوه في مكانه.(انظر الرحيق المختوم ، (ص:58).
(355) أخرجه الإمام أحمد (رقم :6996) وإسناده صحيح.
(356) تقدمت ترجمته ص 100
(357) الأبطال ، لكارليل،(ص:51) عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده ،د.محمود ماضي، (ص:127)، مكتبة دار الدعوة ، الإسكندرية ، الطبعة الأولي،1996.
(358) انظر تفسير البيضاوي ( 4/429 ) ، وتفسير القرطبي ( 15/15 ) وتفسير ابن كثير (3/569 ) وغيره من كتب التفسير .
(1/26)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الحادي عشر:إخباره بالنهايات في البدايات:
فقد أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكثير من الأمور قبل حصولها ، أو حتى حصول مقدماتها ، مع أن هذا لا يتأتى من بني بشر(359) .
فالغيب بيننا وبينه حجاب كثيف ، ولا ينخرق هذا الحجاب إلا بوحي من السماء .
نعم ، قد يستشرف الإنسان المستقبل ويستقرئه ويستشفه عن طريق مقدمات و دلائل يلتمس منها النفوذ إلى حجاب المستقبل ، كما يفعل الساسة والاقتصاديون وغيرهم ، ولكنه في الغالب لا يكون صوابا، والصواب منه إنما حصل بسبب حصول مقدماته ،كرجل مر على بيت قديم متهاوي ، فقال : احذروا هذا البيت فإنه سيقع . قإننا نقول : قد يكون لكلامه شيء من الصحة باعتبار هذه الإشارات التي حصلت . وأما لو مر على بيت جديد محكم البناء ، وقد بنُي على أحدث الطرق الهندسية بإشراف مهندسين ومتخصصين وخبراء، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع . لقلنا :هذه ترهات وسفاهات لا تصدر من عاقل .
لذلك إذا لم يكن هناك مقدمات وإشارات وقرائن ، فلا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحصل في المستقبل ، بل ولا يمكن أن يعرف ماذا سيحصل بعد ثانية : ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( [النمل:65].(7/328)
فمثلا لو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انتصر على العرب ، ثم بشر بأنه سينتصر على العجم، لقلنا : إنما قال هذا لحصول مقدمات لهذا الحدث ، وهو انتصاره على العرب، ولكن الأمر الغريب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبشر بهذه الأمور في ظروف هي أبعد ما تكون توقعا لها.
عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا :أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا ،فَقَالَ : « قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ،وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ » (360).
فـ(الدعوة المحمدية في مكة عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه ، وصد لغيرهم عن الإصغاء له ، و اضطهاد و تعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به ، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة ، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه ، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام ، شعاعاً و لو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم و إعلان دعوتهم ؟ و لو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته ، لا في أفق الحوادث ، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً ؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه ، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية ؟ و كيف يجيئه اليقين في ذلك و هو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين ؟ ، فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح ، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها ، وكم من نبي قتل ، وكم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل، وهل كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال ؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحى إليه ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك ( [القصص :86] و لا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه ( و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا و كيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً ( [الإسراء: 86-87 ] ؛ فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه ، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت ؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها ، و الذي قدر مبدأها و منتهاها ، و أحاط علماً بمجراها و مرساها ، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة ، لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن . سل التاريخ : كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام ، و تسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل ، و أكرهوا أمماً منهم على الكفر ، و أحرقوا الكتب ، و هدموا المساجد ؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله ؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه ، حافظا آياته وأحكامه ، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن ، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ( [الأنفال:36]، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يُمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ذلك بأن الله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( [التوبة: 33]، والله بالغ أمره ومتم نوره فظهر ، وسيبقى ظاهرا ، لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله )(361).
ومثل ذلك ما حصل في حادثة الهجرة وهو مطارد من قريش ، وليس معه إلا رجل واحد، والكل يتربص به ليقتله أو يسلمه ليأخذ الجائزة ، ثم يقول لسراقة : « كيف بك إذا لبست سواري كسرى » ثم يتحقق هذا الأمر ويلبسهما في زمن عمر بن الخطاب(362).(7/329)
--------------------------------------------------------------------------------
(359) انظر كتاب : تثبيت دلائل النبوة ، للقاضي عبدالجبار الهمذاني (2/314)، حققه د.عبدالكريم عثمان ، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، وهو كتاب حافل مليء بالفوائد ، لاسيما الأدلة العقلية على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه من مدرسة المعتزلة العقلية.
(360) أخرجه البخاري(كتاب المناقب ، باب ما لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه بمكة ، رقم :6943).
(361) النبأ العظيم ، ص:38-47.
(362) انظر الإصابة لابن حجر في ترجمة سراقة (3/42).
(1/27)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني عشر : إخباره بالغيب :
من أدلة صدق النبي صلي الله عليه وسلم إخباره بالغيب سواء كان غيباً لاحقاً أو سابقاً أو حاضراً فقد أخبر بالردة في زمن أبي بكر (، والفتنة في زمن علي (، وأخبر بأن الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي يقُتلون شهداء ، وأخبر بفتح القسطنطينية والحيرة ومصر وفارس والروم وبيت المقدس،وبأويس القرني ، وأخبر بخروج كثير من الفرق كالخوارج والقدرية ، وبشر كثير من الصحابة بالجنة فماتوا على الإيمان ، وبشر الكثير بالنار فماتوا على الكفر، وأخبر بكثير من أشراط الساعة الصغرى(363) وقد تحققت .
ولم تتحقق هذه الأمور إلا بعد موته، ومثل هذا لا يمكن ، إن يكون إلا بوحي.
ومثل هذا أيضا إخباره بالغيب الماضي ، كقصص السابقين والأنبياء وبني إسرائيل، فهذه الغيبيات الماضية ليس لها مقدمات يستدل بها عليها ، ومع هذا أخبر بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) موافقة للواقع ، قد يقول قائل : إنه قرأ التاريخ . قلنا : إنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولو سلمنا بهذا،فإنه كان يخبر بالغيب الحاضر أيضا ، كإخباره الصحابة بغزوة مؤتة وهو في المدينة ، وهي قريب من الشام، فعَنْ أَنَسٍ ( : أَنَّ النَّبِيَّ ( نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ ، فَقَالَ : « أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ- حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ » (364). وعندما جاء رسول كسري إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليتوعده ويتهدده قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : « إن ربي قتل ربكما » فنظروا فإذا بكسرى مات في ذلك اليوم (365) ،ومثل هذا ليس له مقدمات تدل عليه، ولم يكتب بعد في أي كتاب، ولكنها النبوة.
--------------------------------------------------------------------------------
(363) انظر الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي ،باب الإخبار عن أمور مستقبلية (ص:399-540).
(364) أخرجه البخاري(كتاب المناقب، باب مناقب خالد بن الوليد ، رقم:3757).
(365) انظر : " الخصائص الكبرى " للسيوطي (2/14) باب ما وقع عند كتابه إلى كسرى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولي ، 1985
(1/28)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثالث عشر:إحكام التشريع(366):
لا يوجد قانون في الإحكام والتنظيم مثل التشريع الذي جاء به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإن شريعته جاءت لتسد حاجة الإنسان في كل نواحي الحياة ، وتبين الحكم في كل ما يحتاج الإنسان، وتنظم حياة المسلم من ولادته إلى موته ؛ تسير معه جنبا إلى جنب ترعاه وتحضنه وتقومه وتسدده وتبصره وتهديه ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( [البقرة:97]، شريعة كاملة ، فيها من اللين واليسر والموافقة للعقل ما يجعل كل من يلتزم بها سعيدا فخورا، وفيها من المرونة ما يجعلها تصلح لكل زمان ومكان وأمة ،لا تميز بين الناس في الأحكام ، فالعدل أساسها والحكمة نبراسها .
على حين لا تجد هذا في كل شريعة وقانون وضعي ،ولا يعرف هذا حق معرفته إلا القانونيون والمطلعون على القانون الوضعي، فهو يعدل في كل سنة عدة مرات، والقانون لو نجح في بلد فإنه قد لا ينجح في بلد آخر ، ولو صلح في وقت فقد يكون وبالا في وقت آخر، وانظر ماذا فعلت الشيوعية الحمراء(367) بأهلها التي لم يلتزم بها من التزم إلا بعد جريان أنهار الدم، واستخدام أبشع أنواع التعذيب ، ثم سقطت إلى الهاوية وألقيت في زبالة التاريخ غير مأسوف عليها .(7/330)
ولم يستطع أحد أن يأتي بشريعة تخدم الإنسان في جميع شؤون حياته، فقصارى جهد من وضعها أن تكون فكرة في مجال معين ؛ ففي الاقتصاد برزت الاشتراكية والرأسمالية، فالأولى قتلت الإبداع وساوت بين النشيط والخامل ، وبين المضحي واللامبالي،والذكي والغبي(368). والأخرى جعلت شعوبها شعوبا طبقية ما بين كل طبقة وطبقة مفاوز ، فبعض الطبقات طبقة مسحوقة لا تجد قوت يومها ، وبعضهم يتمتعون بكل متاع الدنيا ، وليس على هؤلاء حق لأولئك(369) .
وفي السياسة برزت الديمقراطية والدكتاتورية ،فالأولى(370) فتحت الباب على مصراعيه وأطلقت الحريات بلا عنان ، وجعلت الحكم للشعب طارحة أي حكم شرعي غير مبالية فيه ،فحكم الناس يقدم على حكم رب الناس، والأخرى(371) جعلت الحكم محصور بشخص واحد ولا يحق لأحد التدخل مهما بلغ من الثقافة والعلم، وغيرها من الأفكار والمذاهب التي لا يسع المجال لذكرها.
وهذه القوانين مع كثرة الواضعين لها والمنقحين والمراجعين والمصححين إلا أنه لا زالت تغير يوما بعد يوم ،فمن وضعها غير راض عنها فضلا عن غيره .
وكل هذه الأفكار والمذاهب والتشريعات والقوانين على اختلاف مجالاتها كان منتهى قدراتها مجتمعة أن تخدم بدن الإنسان وجسمه ، ولم تستطع أن تقدم للروح شيئا ، فكان غاية ما عندها أن تقول للناس: ليتخذ كل منكم الدين الذي يريد، فإننا لا نعرف كيف تسعد الروح.
فكل هذه العقول لم تستطع أن تأتي بشريعة خالدة شاملة لجميع نواحي الحياة كما أتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شريعته، وهذا من أدلة صدقة ، فالبشر لا يقدرون على هذا ، ولا حتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقدر على ذلك ، إنما هذه الشريعة تنزيل من عزيز حميد ،شريعة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها ،يقول برناردشو (372): ( لو كان محمد - نبي الإسلام - حيًّا يرزق لاستطاع أن يحل مشاكل العالم وهو جالس على حصيرته يحتسي القهوة )(373) .
--------------------------------------------------------------------------------
(366) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن،للحكيم (ص:47)
(367) القرآن وإعجازه التشريعي ، لمحمد إسماعيل إبراهيم ، ص 31 ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
(368) القرآن والسنة والعلوم الحديثة ، لمحمد أحمد مدني ، ص 101 ، مبحث الماركسية وتناقضاتها
(369) انظر : الموسوعة المسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ( 2/920 )
(370) انظر : السابق ( 2/1066 )
(371) انظر : السابق ( 2/929 )
(372)برنارد شو : المفكر والأديب والفيلسوف الإنكليزي المشهور : ولد برنارد شو في دبلن عاصمة ايرلندا في 26 يوليو 1856 وكان أبواه من البروتستانت ذوي الأصل الإنجليزي. تلقى شو مبادئ التعليم الأولى على يد قريب له كان قاسياً بروتستانتياً ثم دخل إحدى المدارس الدينية في سن العاشرة، لكنه تركها إلى مدرسة أخرى ثم أخرى حتى ترك الدراسة المنتظمة نهائياً ولكنه كان نهماً في القراءة بشكل غير عادي وكثيراً ما كان يتحف رفاقه التلاميذ بقصص من الإلياذة والأوديسة التي كان يحفظها عن ظهر قلب. في عام 1872 لحق شو بلندن فعمل في شركة اديسون للتلفونات لفترة طويلة، وكان في هذه الفترة يرسل إبداعه الأدبي لعدد من الصحف لكن لم ينشر له إلا القليل مما كان يرسله، وحين بلغ الثالثة والعشرين من عمره قرر الاشتغال بكتابة الرواية ووضع لنفسه برنامجاً يومياً التزم به بشدة فألف خمس روايات في أربع سنوات، كما كان يختلط بالأوساط الموسيقية والفنية في لندن والذهاب إلى جمعيات المناظرة والخطابة وحضور الاجتماعات السياسية، في عام 1884 انضم شو إلى الجمعية الفابية السياسية التي تدعو إلى تحقيق الاشتراكية بالتدريج وظل شو اثنتي عشرة سنة يتحدث في الجمعية الفابية بمعدل ثلاث مرات أسبوعيا حتى اصبح من المع من اعتلى منابر لندن واصبح له جمهور من المستمعين لا يفوت له محاضرة أو حديثاً وكانت الهيئات والجمعيات تتسابق إلى دعوته ،وخلال الفترة من 1885 و 1898 كان شو يكتب بالأجر لعدة صحف يومية ومجلات نقدية في الأدب والموسيقى والمسرح ،وألف عدة مسرحيات مثل (بيوت الأرامل) و(الغائب)و(مهنة مسزوارين)و(السلاح والإنسان) وبعدها بدأ الجمهور يعجب بشو ككاتب مسرحي من الطراز الأول واشتهر عالميا.وقد أُخرج عدد كبير من هذه المسرحيات أثناء حياة شو على مسارح إنجلترا وأمريكا وألمانيا والنمسا وروسيا وهنجاريا، وكسب شو شهرة في أوروبا منذ ما قبل الحرب العظمى الأولى ككاتب من الرواد، بل لقد قالت صحف برلين عنه :إنه (ملك من ملوك المسرح الألماني) وبحلول عام 1915 كانت شهرته قد بلغت الآفاق ومسرحياته يتم تمثيلها في شتى أنحاء المعمورة من إنجلترا إلى اليابان،وألف كتاب (دليل المرأة الذكية عن الرأسمالية والاشتراكية) وأعطي جائزة نوبل عام 1925 بسبب إنتاجه الأدبي الضخم،(7/331)
توفي شو في 2 نوفمبر عام 1952 بعد أن تجاوز الرابعة والتسعين بثلاثة شهور واحرق جسده عملاً بوصيته وخلط رماده برماد زوجته ودفن في حديقة بيتهما الريفي ويحتفظ المتحف البريطاني بعدد كبير من مخطوطات شو ورسائله بوصفها من الآثار القومية. (جريدة البيان الإماراتية ، العدد 91 بتاريخ 7أكتوبر 2001، بقلم أمنية طلعت)
(373) القرآن والسنة والعلوم الحديثة ، لمحمد أحمد مدني ، صفحة : 71 ، مطابع خالد للأوفست ، الرياض .
(1/29)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الرابع عشر: الإعجاز العلمي:
وقد أُلَّفت في هذا مؤلفات كثيرة، تبين مدى الإعجازات العلمية الدقيقة التي تكلم عنها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أربعة عشر قرنا، ولم نعرف معناها إلا الآن في هذا القرن ، وقد ألف الدكتور مختار سالم كتابا بعنوان (الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية)(374)، ذكر فيها أنواعاً كثيرة من العلاجات النبوية لأمراض بعضها لم يعرف له دواء إلى الآن ، وكيف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تنبأ بخروج طاعون العصر (الإيدز)؛ كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ : « يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ؛ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ... » (375) .
وفي الصحيحين(376) عن أبي هريرة - رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن في التراب » فقد ثبت طبياً أن لسان الكلب يحمل فطريات ضارة جداً بالإنسان ، وهذه الفطريات لا تزول ولا تقتل إلا بالتراب مع الماء(377).
وفي صحيح البخاري(378) أيضاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : « إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء » .
وأثبتت التجارب الطبية أن الذبابة تحمل في أحد جناحيها جراثيم مضرة ، وفي الآخر فطريات تقتل هذه الجراثيم(379) .
وغير ذلك من أنواع الإعجاز وألوانه ، الذي يدل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقول هذا من عند نفسه بل من الوحي.
--------------------------------------------------------------------------------
(374) طبعته مؤسسة المعارف في بيروت،الطبعة الأولي،1995.
(375) أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن ، باب العقوبات، رقم:4019)وهو حديث حسن (انظر : صحيح سنن ابن ماجه للألباني(2/370). رقم : 3246، والسلسة الصحيحة ( 1/216 ) رقم : 106 .
(376) متفق عليه ( البخاري : كتاب الوضوء ، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان رقم : 167 ، ومسلم : كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب ، رقم : 421 ) .
(377) انظر : القرآن والسنة في العلوم الحديثة ، ص : 69 .
(378) أخرجه ( البخاري : كتاب الطب ، باب إذا ارقع الذباب في الإناء ، رقم : 5336 .
(379) انظر : معجزات في الطب للنبي العربي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، تأليف الطبيب محمد سعيد السيوطي ، ص 64 مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1986 .
(1/30)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الخامس عشر:الوصف الدقيق للغيب:
إن وصف أمور الغيب بدقة لا يكون إلا ممن رآه أو سمع من رآه ، ولذلك يمكن القول بأن وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لربه وللملائكة وللجنة والنار وصف عجيب ، لا يمكن أن يأتي به بشر .
فوصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لله سبحانه وصف خالٍ من التنقص ، ملئ بكل كمال واجب لله سبحانه(380)؛ فيصفه بالقدرة المطلقة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة والحياة الكاملة ، وغير ذلك من الأسماء والصفات ، فسماه بأحسن الأسماء ، ووصفه بأجمل الأوصاف :( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( [الأعراف:180]، و(الحسنى)أفعل تفضيل مؤنث من الحسن ، يعني أن لله أحسن الأسماء، ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ( [النحل:60]-والمثل يعني الصفة كقوله تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ... ( [محمد:15]-،يعني أن له سبحانه أعلى الأوصاف.
وهذا الوصف لا يمكن لمخلوق أن يتصف به ( فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ( [النحل:74] ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ( [البقرة:22] ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( [الإخلاص:4]، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( [الشورى:11ٍ]( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( [مريم:65] ؛ فهو سبحانه لا مثل له ولاند له ولا كفو له ولا سمي له .(7/332)
ولكن انظر إلى البشر إذا أرادوا أن يصفوا الله ماذا يقولون(381) ، فبعضهم يجعل الإله حيوانا كمن يعبد البقر أو الفأر، وبعضهم يجعله جمادا كمن يعبد الأصنام والنار، وبعضهم يعدد الآلهة كالمجوس الذين جعلوا إلها للظلمة وإلها للنور، والإغريق الذين جعلوا إلها للحب وآخر للرزق وثالثا للكواكب ، وفي ضمن هذا تنقص واضح ، كأنهم يقولون إن إلههم لا يستطيع أن يحوي جميع هذه القدرات، وبعضهم يعبد ما هو أقبح من ذلك كالفروج ، بل بعضهم شطح عقله حتى عبد عدو الإنسانية الأول إبليس، ولكن لنرتفع عن هذه الديانات ونذهب إلى الديانات السماوية ، ونرى كيف وصف الرب سبحانه عندهم .
أما اليهود فهم من أجرأ الناس على مدار التاريخ على الجبار سبحانه ، فقد قالوا : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ( [آل عمران:181] وقالوا: ( يد الله مغلولة ( [المائدة:64]، يعني
بخيل (382).
وقال ابن القيم -رحمه الله- : (وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم ، ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل ، التي بعضها فوق بعض ، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب ، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة ، الذي يضرب المثل به في قلة الفهم ،فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد ،كيف عبدوا مع الله إلها آخر ، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ، ما لم يشاهده سواهم ،وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله ، فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته ، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم ، بل من الجواهر الأرضية ، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها ، كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار ، عالة عليها ، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه ،وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي ،وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها ،فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات ، أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه ، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره ، ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، ولا قالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا . ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البُرَآءِ من قتله ونبيهم حي بين أظهرهم ، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء ، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس ، ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له : (يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام) ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ، ولما تحيلوا على تحليل محارمه ، وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل ...)(383).
إلى آخر تلك السلسلة من الشتائم التي لم يقلها حتى عباد الأصنام لآلهتهم .
وأما النصارى الذين هم أحسن حالا من اليهود وأقرب لنا منهم ، فقد اجتمع أكثر من ألفي عالم من علمائهم في مؤتمر الأمانة -ويسميه علماء الإسلام الخيانة(384)- ليحددوا عقيدتهم في الله ، فنسبوا لله -كما يقول ابن القيم- أفعال الحمقى والمجانين(385)، فلو أن ملكا غضب على شعبه بسبب ذنبٍ واحدٍ ، ارتكبه رجل واحد ، ثم حاول شعبه إرضاءه بكل سبيل فلم يفلح، ثم قال لهم بعد أزمان طويلة : إذا أردتم إرضائي وذهاب غضبي ، فإني أرسل لكم ابني فاقتلوه، فعندها فقط أرضى عليكم . من يفعل هذا الفعل؟!.
فالنصارى يقولون : إن الله غضب على البشرية بسبب خطيئة آدم ، فلم يرض عن البشرية مع من فيها من الأنبياء والمرسلين إلا بعد أن أرسل ابنه للبشرية ، فلم يزل غضبه مستمرا حتى قاموا بضربه وصفعه والبصق في وجهه وصلبه ، ووضع الشوك على رأسه ، وتسمير يديه باللوح وبقاؤه مصلوبا حتى مات ابنه ؛ عندها فقط رضي عن كل البشر ، وسامحهم على تلك الخطيئة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
* وَصَفَ النبيُّ ( الملائكةَ وصفاً عجيباً ؛ فهم جند الله والقائمون بأمره ، العابدون لربهم في كل وقت لا يفترون ، ولا ينامون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون بل يسبحون الله الليل والنهار لا يسأمون ، أين هذا من وصف الكفار لهم بالإناث وغير ذلك .(7/333)
* ووصف الجنة وصفا هو في غاية من الدقة والاستثارة والتشويق ، بحيث لا تتمالك نفسك إذا سمعت هذا الوصف أن تقول: اللهم اجعلني من أهلها ولا تحرمني دخولها(386). لكنك عندما تسمع لكثير من الفلاسفة في وصف ما سموه (بالمدينة الفاضلة) ستضحك من قصور وصفهم ، وسذاجة تفكيرهم ،وسترى البون الشاسع والفرق الواسع بين وصف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ووصف هؤلاء ، وهم معذورون ؛ لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يأت به من عنده بل من الوحي .
* وأما وصفه النار، فهو وصف بليغ ، يقذف في قلبك الخوف والفزع والرهبة من هذه الدار.
يقول جفري لانغ :(عندما يترجم كتاب مقدس إلى لغة ما ، فإنه ينجم عن ذلك ضياع كبير في المعنى، ولكن إذا كان دافع المترجم الالتزام والتقوى ، فقد يشع في النص المترجم بيرق مقدس ، لا يمكن أن تقيده حدود الإنسانية ، وعلى الرغم من أن القرآن بالتأكيد هو أشد تأثيرا على القارئ في اللغة الأصلية (العربية) من الترجمات ، إلا أن شيئا من الروعة والرهبة والجمال والإشراق من التصوير الفني القرآني قد يحيى في الترجمة ، ليثير في النفس انعكاسا عميقا، كالمشاهد التصويرية والمرعبة للنار على سبيل المثال ...إلى أن قال: وعلى الرغم من أن جميع معتنقي الإسلام الغربيين ، مجبرون على الاعتماد على التفسير للقرآن ، إلا أني واثق من أن جميع هؤلاء قادرون على التمييز والانتباه إلى أن أكثر ما يثير الإعجاب بالقرآن هو أسلوبه الأدبي ؛ لأنه يغرس في قارئه ذلك الشعور اللاملموس من أنه صادر عن وحي سماوي)(387).
--------------------------------------------------------------------------------
(380) انظر : كتاب (الله أهل الثناء والمجد) ، د.ناصر الزهراني ، مؤسسة الجريسي ، الرياض، الطبعة الأولي،2000، فهو جيد في هذا الباب.
(381) انظر : هداية الحيارى لابن القيم ، فصل :ثمرة إنكار النبوات جحد الخالق والجهل بأسمائه وصفاته،ص:354،
ولقد ألف عباس محمود العقاد كتابا حافلا بعنوان (الله )،تكلم فيه عن وصف الله تعالى في الأديان والأفكار والشعوب المحرومة من نور الوحي، فذكر وصف الله تعالى عند الحضارات السابقة في مصر والهند والصين وفارس وبابل واليونان، وفي الأديان السماوية كاليهود والنصارى، وعند الفلاسفة ،وغير ذلك وهو كتاب مفيد .طبعته دار نهضة مصر ، في القاهرة،الطبعة الثانية ، 1997 وبالمقارنة بين هذه الأديان وبين وصف النبي صلى الله عليه وسلم لربه ، يتضح الفرق بين الوصفين ، ويتبين لك أن هذا الوصف لا يتأتى إلا لمن كان مؤيدا بالوحي.
(382) أنظر : فتح القدير للشوكاني (2/60).
(383) هداية الحيارى من اليهود والنصارى ، لابن القيم (ص:357-359).
(384) انظر : تفسير ابن كثير ( 1/366) .
(385) انظر : هداية الحيارى من اليهود والنصارى ، لابن القيم (ص:323).
(386) وكانت رسالتي في الماجستير بعنوان "اليوم الآخر في القرآن" ، وعقدت فيها فصلا عن الجنة ووصفها استغرق مائة وسبعا وثلاثين صفحة (من 521إلى 658) ، وقد طبعتها -بفضل من الله - دار البشائر في بيروت ،الطبعة الأولي،2002.
(387) الصراع من أجل الإيمان ، لجعفري لانغ (ص:81).
(1/31)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب السادس عشر : تأليف قلوب العرب :
لقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متنازعة متناحرة ، لا هم لها إلا المفاخرة والتعالي على بعض ، تشتعل الحرب بينهم لأتفه أمر ، وقد تستمر الحرب بينهم لعشرات السنوات لأجل ناقة - على سبيل المثال - كما حصل في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة بين تغلب وبكر ابني وائل ؛ لأن كليب بن ربيعة التغلبي قتل ناقة البسوس خالة جساس بن مرة الكلبي(388) .
وحرب داحس والغبراء التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان ، لخلاف على سباق خيل بين فرسين - وهما داحس والغبراء - واستمرت هذه الحرب اربعين سنة أيضاً ، وشارك في بعض حروبها عنتر ، وذكرها زهير بن أبي سلمى في معلقته (389).
فهذه النفوس كان فيها من الأنفة ، وعدم الرضا بالضيم والحمية القبلية ، مما يجعلها أصعب ما يكون للاتحاد وجمع الكلمة ، فالقدرة على جمع كلمة العرب قاطبة بقبائلها المتنافرة ، وإسقاط ما في نفوس بعضهم لبعض من البغض والثأر من رجل واحد ، أمرُ يكاد يصل إلى حد الإعجاز ، قال تعالي ممتنًا على هذه الأمة بهذه النعمة : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( [ آل عمران : ] وقال سبحانه مبيناً صعوبة تأليف القلوب : ( ... هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( [الأنفال : 62 ، 63] ، فكانوا بعد هذا التآلف قوة ضاربة أسقطت فارس والروم ، وقد تلمح بعض الشعراء هذا المعنى فقال :(7/334)
هل تطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأحداث أحياه
فكانوا يداً في الحرب واحدة من خاضها باع دنياه بأخراه
--------------------------------------------------------------------------------
(388) المعجم المفصل في الأدب ، د. محمد التونجي ( 1/187 ) ، ودار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولي ، 1993م .
(389) المصدر السابق (2/430) .
(1/32)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب السابع عشر: الإلزام :
نريد أن نسأل اليهود :كيف آمنتم برسولكم موسى عليه السلام ؟
فإن قالوا :بسبب معجزاته ، أو أخلاقه ، أو تشريعه ، أو تأييد الله له ونصرته ، أو استجابة دعائه ، أو عدم رغبته في المصلحة الذاتية،أو غير ذلك من الأدلة .
قلنا: كل ما ذكرتموه هو موجود في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وكذلك النصارى نسألهم هل هم يؤمنون بنبوة موسى(390) عليه السلام ؟، فإن الجواب سيكون :نعم . قلنا: كيف استدللتم على نبوته ؟ . فإن قالوا: لأنه قد ذكره لنا عيسى .
قلنا: هل هناك دليل آخر؟ .
إن قالوا: لا يوجد دليل آخر على نبوة موسى عليه السلام . قلنا: إذن أنتم صَحَّحْتم مذهب مَن كفر بموسى عليه السلام من قومه ؛ حيث إن موسى عليه السلام لم يأت بدليل على رسالته ، ولم ينزل عيسى عليه السلام في ذلك الوقت ، وأثبتم لمن آمن به أنه آمن بغير بينة ولا علم ولا دليل ، وأن رسالة موسى علقت عن التصحيح قرونا متطاولة حتى بعث الله عيسى عليه السلام .
فإن قالوا : نعم، هناك أدلة أخرى على رسالة موسى عليه السلام.
قلنا: كل دليل استدللتم به على نبوة موسى عليه السلام هو موجود في محمد ( صلى الله عليه وسلم ).
وبعد هذا فلا حجة لرجل لا يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ،ولكن صدق الله إذ يقول: ( وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ( [الأعراف : 198]،يعني ينظرون إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ودلائل صدقه, ثم لا يبصرون كأنهم عميان(391).
فإذا ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادق ، فإنه أخبرنا أن هذا القرآن كلام الله عز وجل منزل من عنده سبحانه حقا ، فحصل بهذا المراد ، وهو إثبات أن القرآن من الله تعالى .
--------------------------------------------------------------------------------
(390) ولم نقل عيسى عليه السلام ؛ لأنهم يرونه إلها لا رسولا .
(391) وهذا أحد معان الآية ، فبعض رأى أن المقصود بالآية هم الأصنام ، فهي كأنها تنظر ولكنها لا تبصر ، وبعضهم قال : إن المقصود بالآية هم المشركون - كما روى عن مجاهد وغيره - أي وإن كانوا ينظرون إليك يا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية . انظر : "محاسن التأويل" ، للقاسمي (3/683) ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت ، الطبعة الأولي ، 1994 .
(1/33)
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الثاني : الأدلة على صدق القرآن و ما فيه
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :« ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا » (392).
(قال العلماء : معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ،وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعاصير إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر أنه سيكون ، مما يدل على صحة دعواه ، وقيل : المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية ؛ تشاهد بالأبصار ، كناقة صالح ، وعصا موسى ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة ؛ فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا . قال الحافظ ابن حجر : ويمكن نظم القولين في كلام واحد ؛ فإن محصلهما لا ينافى بعضه بعضا)(393).
وفي هذا المبحث عدة مطالب كلها تدل على صدق القرآن وصحة ما فيه :
--------------------------------------------------------------------------------
(392) متفق عليه (البخاري:كتاب فضائل القرآن ،باب كيف نزل الوحي وأول ما أنزل ،رقم :4696، ومسلم :كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم )، رقم :152).
(393) الخصائص الكبرى للإمام السيوطي (1/188)، دار الكتب العلمية ،بيروت ،الطبعة الأولي،1985.
(1/34)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الأول :إعجاز القرآن :
إعجاز القرآن من الأدلة على صدقه ، وأنه من عند الله تعالى حقا ، وأوجه إعجاز القرآن كثيرة جدا منها :
1- إخبار القرآن بالغيب:(7/335)
سواء الغيب الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، وهذا دليل على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإعجاز القرآن؛
وهذا الدليل مأخوذ من قوله تعالى :
( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( [آل عمران:44] .
( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( [هود :49].
( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( [يوسف:102] .
( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ()وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ()وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( [القصص:44-46] .
أي أنك يا محمد لم تكن موجودا في ذلك المكان حتى تستطيع أن تعرف هذه القصة -قصة موسى-ولكن الله تعالى هو الذي أوحى إليك بها ، فلعل الناس إذا عرفوا ذلك تذكروا وآمنوا بك ، قال ابن كثير -رحمه الله- : (يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: "وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون" الآية أي وما كنت حاضرا لذلك ولكن الله أوحاه إليك وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال تعالى: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين" الآية وقال في آخر السورة "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك" وقال بعد ذكر قصة يوسف "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون" الآية وقال في سورة طه "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق" الآية وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له "وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي "وما كنت من الشاهدين" لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى: "وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا" أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه "ولكنا كنا مرسلين" أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولا)(394) .
وقال تعالى :( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ()بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ( [العنكبوت:48-49].
فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس موجودا في تلك الأمكنة ، ولا يستطيع أن يقرأ و لا يكتب ، دل هذا قطعا أن هذه الأخبار إنما هي من عند الله تعالى ، الذي لا تخفى عليه خافيه.
ومن إخباره بالغيب المستقبل؛ قوله تعالى :( غُلِبَتِ الرُّومُ()فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ()فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ()بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ()وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( [الروم :2-6]،وقد تحققت غلبت الروم بعد سنوات قليلة .(7/336)
فعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( ألم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ( قَالَ : غُلِبَتْ وَغَلَبَتْ ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ : « أَمَا إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ ». فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ فَقَالُوا : اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا ، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا ، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا . فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ (فَقَالَ: «أَلَا جَعَلْتَهُ إِلَى دُونَ الْعَشْرَ ». قَالَ : ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ بَعْدُ . قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ألم غُلِبَتْ الرُّومُ …إِلَى قَوْلِهِ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ( قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ)(395) .
وقوله تعالى :( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( [القمر:43-46] ، هذه الآية نزلت تتحدث عن غزوة بدر، ووقت نزولها كان قبل الهجرة بسنوات ، وعائشة كانت صغيرة :
عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ :لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ( بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ ( بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( (396).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَالَ النَّبِيُّ (وَهُوَ فِي قُبَّةٍ يوم بدر:« اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ ». فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ : حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ . وَهُوَ فِي الدِّرْعِ ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ . » (397) .
قال ابن كثير :( ( يولون الدبر ( أي سيتفرق شملهم ويغلبون، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت ( سيهزم الجمع ويولون الدبر ( قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ( يثب في الدرع وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر( فعرفت تأويلها يومئذ.أهـ )(398).
ومن هذا إخباره عن بعض المشركين أنه من أهل النار وهو حي ، فيموت على الكفر؛ كأبي لهب وامرأته :( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ()مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ()سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ()وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ()فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( [المسد:1-5].
2- الإعجاز العلمي:
من مثل قوله تعالى:
( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ()بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ( [الرحمن:19-20] .
( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ( [الفرقان :53].
فقد لاحظ علماء البحار عند التقاء فرعي نهر النيل عند دمياط وعند الرشيد بالبحر الأبيض، حيث تندفع مياه النهر العذبة بقوة شديدة إلى البحر المالحة ، ومع هذا كل منهما تحتفظ بمذاقها وأحيائها(399) .
وهذا الإعجاز في جميع المجالات ؛ الطبية ، والجغرافية ، والاجتماعية ، والفضائية ، وفي عالم الحيوان ، وعالم النبات ، وغيرها(400).
3- الإعجاز البياني(401) :
فقد حوى القرآن على القدح المعلى من البلاغة والبيان والفصاحة ، وشمل على جميع شروط الكلام البليغ في كل سُوَرِه وآياته وكلماته .
وقد أخذ من أكل أنواع البلاغة بأوفر نصيب ، فتجد فيه إيجاز القصر ، والتشبيه الرفيع، والتتميم.
هذا وقد احتوى النظم القرآني على الجزالة ، والتناسق ، والاهتمام بالإيقاع ، والانسجام في اللفظ والنغم؛وقد حصل للصحابة وهم أفصح الناس ، وأعلمهم باللغة وبيانها ، حصل لهم التأثير الكبير به ، فمن ذلك:(7/337)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ قَالَ : فَقُلْتُ : هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ ، قَالَ : فَقَرَأَ :( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ( . قَالَ قُلْتُ : كَاهِنٌ . قَالَ :( وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ... (إِلَى آخِرِ السُّورَةِ ، قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ)(402).
وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ( ، قَالَ :سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُم الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُم الْمُسَيْطِرُونَ ( قَالَ :كَادَ قَلْبِي أَن يَطِيرَ)(403) .
(وفي رواية وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَان فِي قَلْبِي " وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَة بْن زَيْد عَنْ اَلزُّهْرِيِّ نَحْوُهُ وَزَادَ " فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْب " وَلِسَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ هُشَيْمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ" فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْت الْقُرْآن)(404).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :(أَنَّ النَّبِيَّ ( قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِن الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ ،فَأَخَذَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ :فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا ، وهو أمية بن خلف)(405) .
وعن ابن عباس :أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا . قال : لم ؟ قال : ليعطوكه ؛ فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له أو إنك كاره له . قال : ماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا برجز ولا بقصيدة مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وأنه ليحطم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال: فدعني حتى أفكر فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يؤثره عن غيره . فنزلت: ( ذرني ومن خلقت وحيدا ((406)[المدثر:11] .
4- الإعجاز التشريعي(407):
فالقرآن معجز في تنظيمه لأحوال البشر في جانب العقائد والعبادات والأخلاق(408)، في تنظيمه لجميع مصالح الأفراد والمجتمعات والسياسات والدول ؛ فقد نظم الإسلام حياة الإنسان في نفسه ، ومع غيره ؛ فهناك آداب الزوجية ، وحقوق الوالدين والأبناء والأصدقاء والجيران، وولاة الأمر ، والمجتمع ، والمسلمين بعامة ، ونظم العلاقة بغير المسلمين ، فهناك الذمي والمعاهد والمحارب ، وهناك حال ضعف الدولة الإسلامية وحال قوتها ، وهناك حال الدعوة، وحال المجادلة ، وحال المجالدة ، وغير ذلك(409).
وقد قام بعض المعاصرون بمحاولة بائسة للتشكيك في الإعجاز التشريعي ومحاولة نقضه ، وبيان عدم صلاحيته ، أو مخالفته العقل ،ومن أشهرهم المهندس محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة )(410)، وقد رد عليه طائفة كبيرة من العلماء(411) ، مثل تشكيكه بالحدود الشرعية كقطع يد السارق، ودعوته إلى تحديث الشريعة وعصرنتها، وأن يستبدل الجلد بالسجن، وإنكاره تعدد الزوجات وأنه لا يجوز التعدد إلا بالأرملة ذات الأيتام، وتجويزه ظهور المرأة عارية تماما أمام محارمها ،وإنكاره الحجاب الشرعي واشتراط المهر وتنصيف أرث المرأة،وتجويزه النظر للمرأة غير المحرم وغير ذلك من أنواع التحريف واللعب بكتاب الله تعالى وتشريعاته .
قال القرطبي رحمه الله :(ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة :(7/338)
- منها النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها ، لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء ، وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه:( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( وفي " صحيح مسلم " أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر :لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله . قلت :فما يقول الناس ؟ قال :يقولون : شاعركاهن ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء -قال أنيس :لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر ، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون . وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر ، لما قرأ عليه رسول الله (حم فصلت ، على مايأتي بيانه هنالك ،فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان ، وموضعه من الفصاحة والبلاغة ، بأنه ما سمع مثل القرآن قط ، كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه .
- ومنها الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب(412) .
- ومنها الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال ، وتأمل ذلك في سورة ق والقرآن المجيد إلى آخرها ، وقوله سبحانه : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ( [الزمر : 42] إلى آخر السورة ، وكذلك قوله سبحانه : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ( إلى آخر السورة .
فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق : علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : ( لمن الملك اليوم ( [غافر : 16] ولا أن يقول : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ([الرعد : 13] .
قال ابن الحصار :وهذه الثلاثة من النظم والأسلوب والجزالة لازمة كل سورة ، بل هي لازمة كل آية ، وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر ، وبها وقع التحدي والتعجيز ،ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة ، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار ، وهي أقصر سورة في القرآن وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين ؛ أحدهما الإخبار عن الكوثر وعِظَمِهِ وسعته وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل ، والثاني الإخبار عن الوليد بن المغيرة ، وقد كان أول نزول الآية ذا مال وولد على ما يقتضيه قول الحق ( ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ( [المدثر :11-14]ثم أهلك الله سبحانه ماله وولده وانقطع نسله ( إن شانئك هو الأبتر (.
- ومنها التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه .
- ومنها الإخبار عن الأمور التي في أول الدنيا إلى وقت نزوله ، من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه ، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها والقرون الخالية في دهرها ، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه وتحدوه به من قصص أهل الكهف ، وشأن موسى والخضر عليهما السلام ، وحال ذي القرنين فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته فتحققوا صدقه ،قال القاضي ابن الطيب : ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى المتعلم منهم ، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي .
- ومنها الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان ، في كل ما وعد الله سبحانه ، وينقسم إلى أخباره المطلقة ، كوعده بنصر رسوله عليه السلام ، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه ، وإلى وعد مقيد بشرط كقوله : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ( [الطلاق : 3]( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ( [التغابن : 11]( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( [الطلاق : 2]( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ( [الأنفال : 65]وشبه ذلك.(7/339)
- ومنها الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي ، فمن ذلك ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ( الآية [الصف : 9] ففعل ذلك وكان أبو بكر رضي - الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ؛ ليثقوا بالنصر وليستيقنوا بالنجح ، وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك ، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا برا وبحرا قال الله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ([النور : 55] وقال : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( [الفتح : 27]وقال : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ( [الأنفال : 7] وقال : ( ألم ،غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( [الروم:1-3] فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين ، أو من أوقفه عليها رب العالمين ، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله ، لتكون دلالة على صدقه.
- ومنها ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام ، وفي سائر الأحكام .
- ومنها الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي .
- ومنها التناسب في جميع ما تضمنه اختلاف ، قال الله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( [النساء : 82] قلت فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا رحمة الله عليهم)(413).
(وقد سرد هبةُ الدين الحسيني الشهرستاني المزايا الإجمالية للقرآن وهي :
- فصاحةُ ألفاظه الجامعة لكل شرائعها .
- بلاغته بالمعنى المشهور ؛ أي موافقة الكلام لمقتضى الحال ومناسبات المقام ، أو بلاغته المعنوية .
- توفر المحاسن الطبيعية فوق المحاسن البديعية .
- إيجاز بالغ مع الإعجاز بدون أن يخل بالمقصود .
- إطناب غير ممل في مكرراته .
- سمو المعاني وعلو المرمى في قصد الكمال الأسمى .
- طلاوة أساليبه الفطرية ، ومقاطعه المبهجة ، وأوزانه المتنوعة .
- فواصله الحسنى وأسماعه الفطرية .
- أسرار علمية لم تهتد العقول إليها بعد عصر القرآن إلا بمعونة الأدوات الدقيقة ، والآلات الرقيقة المستحدثة .
- غوامض أحوال المجتمع ، وآداب أخلاقية تهذب الأفراد وتصلح شؤون العائلات .
- قوانين حكيمة في فقه تشريعي ، فوق ما في التوراة ، والإنجيل ، وكتب الشرائع الأخرى .
- سلامته عن التعارض ، والتناقض ، والاختلاف .
- خلوصه من تنافر الحروف ، وتنافي المقاصد .
- ظهوره على لسان أُمي لم يعرف الدراسة ، ولا ألف محاضرة العلماء ، ولا جاب الممالك سائحا مستكملا .
- طراوته في كل زمان ، كونه غضاً طرياً كلما تُلي وأينما تُلي .
- اشتماله على السهل الممتنع ، الذي يعد ملاك الإعجاز ،والتفوق النهائي .
-قوة عبارته لتحمل الوجوه ، وتشابه المعاني .
-قصصه الحلوة ، وكشوفه التاريخية من حوادث القرون الخالية .
- أمثاله الحسنى التي تجعل المعقول محسوسا ، وتجعل الغائب عن الذهن حاضرا لديه .
- معارفه الإلهية كأحسن كتاب في علم اللاهوت ، وكشف أسرار عالم الملكوت ، وأوسع سفر من مراحل المبدأ والمعاد .
- خطاباته البديعية ، وطرق إقناعه الفذة .
- تعاليمه العسكرية ، ومناهجه في سبيل الصلح ، وفنون الحرب .
- سلامته من الخرافات والأباطيل ، التي من شأنها إجهاز العلم عليها كلما تكاملت أصوله وفروعه .
- قوة الحجة ، وتفوق المنطق .
- اشتماله على الرموز في فواتح السور ، ودهشة الفكر حولها وحول غيرها .
- جذباته الروحية الخلابة للألباب ، السحرة للعقول ، الفتانة للنفوس .
هذا وإن وجوه إعجاز القرآن كثيرة ، وقد أُلفت فيها كتب كثيرة ، ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الشهرستاني ما يلي :
- ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة ، مما يؤكد عجز البشر عن الإتيان بمثله.
- اتساق القرآن في أغراضه ومعانيه على طول المدة التي استغرقها في تجميعه ، فخواتيمه بعد ربع قرن جاءت مطابقة متساوقة لفواتحه يصدق بعضها بعضا، ويكلمه كأنه نَفَس واحد.
- سهولة حفظه كما قال تعالى :( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( . فهو ميسر على جميع الألسنة ، ومحفوظ في الصدور.
- حسن التخلص من قصة إلى أخرى ، والخروج من باب إلى غيره.
- إطنابه في خطاب اليهود ، وإيجازه في خطاب العرب ، للتفاوت بينهما فَهْمًا وبلاغة .
- وجود كلمات في جمل لا يسد مسدها غيرها ، مثل قوله تعالى : ( وأهش بها على غنمي ( [طه:18] فليس بمقدور أحد أن يأتي بكلمة تسد مسدها .
- نزاهته في التعبير ، كقوله : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( [البقرة:187]، وقوله: ( نساؤكم حرث لكم ( [البقرة:223] وقوله : ( أفضى بعضكم إلى بعض ( [النساء:21] وقوله :( أو جاء أحد منكم من الغائط ( [النساء : 43].(7/340)
- خلوص ألفاظ الهجاء فيه من الفحش ،كقوله تعالى :( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ( [النور:50].
- ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر ، كقوله تعالى :( وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول... ( [المجادلة :8]، وقوله تعالى :( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا... ( [آل عمران:154] وقوله تعالى :( ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم ( [النساء:46]، وقوله :( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ( [الأنفال :7].
- جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة ، وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا .
- اقتران معانيه المتغايرة في السور المختلفة ، فيخرج في السورة من وعد إلى وعيد ،ومن ترغيب إلي ترهيب ، ومن ماض إلي مستقبل، ومن قَصَصٍ إلي مَثَلٍ ، ومن حكمة إلى جدل ، فلا يتنافر ، وهي في غيره من الكلام متنافر .
- لا يخرج عن أسلوبه ،ولا يزول عن اعتداله باختلاف آياته في الطول والقصر .
- آي وردت بتعجيز قوم في قضايا ، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها ،فما فعلوها ولا قدروا ، فالإخبار بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن معجزة للقرآن .
- قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه ، بل الانكباب علي تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبة ، وغيره من الكلام يُعادى إذا أعيد ، ويمل على الترديد .
- كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه .
- الإعجاز في ترتيب الآيات والسور)(414) .
وذكر السيوطي في كتاب معترك الأقران خمسة وثلاثين وجها من وجوه إعجاز القرآن، وهكذا لو تُتبعت لزادت عن المائة وجه .
وكل عالم يزيد وجها لم يذكره غيره وهذا مصداقا لقول عليٍّ ( « لاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ » (415).
بل إن السيوطي - رحمه الله تعالى - فصل في كتاب الخصائص في وجوه إعجاز القرآن بعملية حسابية ، فبلغت تلك الوجوه عشرات الألوف ، فإليك ما قال :
قال السيوطي -رحمه الله- :(وقد اختلف الناس في الوجه الذي وقع به إعجاز القرآن على أقوال بينتها مبسوطة في كتاب الإتقان والملخص انه وقع بعدة وجوه :
1-منها حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.
2-ومنها صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
3-ومنها ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد .
4-ومنها ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية والشرائع السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده على وجهه ويأتي به على نصه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
5-ومنها ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر كقوله تعالى إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقوله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.
6-ومنها آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله في اليهود ولن يتمنوه أبدا.
7-ومنها ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة.
8-ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند سماع تلاوته كما وقع لجبير بن مطعم انه سمع النبي يقرأ في المغرب بالطور قال فلما بلغ هذه الآية ام خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون إلى قوله المصيطرون كاد قلبي يطير قال وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي .
9-ومنها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهدا وصف القرآن بأنه لايخلق على كثرة الرد
10-ومنها كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه.
11-ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة.
12-ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.
13-ومنها جعله آخر الكتب غنيا من غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه اليه كما قال تعالى (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)(416)
ثم بين السيوطي أن وجوه الإعجاز تصل إلى عشرات الألوف فقال:(7/341)
(قال القاضي عياض : إذا عرفت ما ذكر من وجوه إعجاز القرآن ، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر ؛ لأنه قد تحدى بسورة منه فعجزوا عنها ، قال أهل العلم : وأقصر السور ( إنا أعطيناك الكوثر ( فكل آية أو آيات منه بعددها وقدرها معجزة ، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق . قلتُ(417) :و إذا عَدَدْتَ كلمات سورة الكوثر وجدتها بضع عشرة كلمة ، وقد عد قوم كلمات القرآن سبعا وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين، فالقدر المعجز منه يكون في العدد نحو سبعة آلاف تقريبا ، تضرب في ثمانية أوجه ؛ الأولان(418) والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر(419) تبلغ ستة وخمسين ألف معجزة ، ثم ينضم إلى ذلك في بعضه من الوجه الثالث والرابع والخامس والسادس(420) جملة وافرة ، فتصل معجزات القرآن بذلك إلى ستين ألف معجزة أو أكثر)(421) .
ولعل هذا أن يكون وجها جديدا من وجوه الإعجاز ، وهو كثرة وجوه إعجازه، فكلام غير الله مهما حصل فيه من البلاغة والحكمة والتوفيق ، إلا أنه لا يمكن أن يشمل كل وجوه الإعجاز السابقة، والله أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
(394) تفسير ابن كثير (3/391).
(395) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن،باب من سورة الروم ،رقم :3193) ، وإسناده صحيح. انظر : صحيح سنن الترمذي للألباني رقم : 2551.
(396) أخرجه البخاري:(كتاب تفسير القرآن ،باب قوله : (سيهزم الجمع ويولون الدبر)، رقم :4595.
(397) أخرجه البخاري:(كتاب الجهاد والسير ،باب ما قيل في درع النبي ،رقم :2758).
(398) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/266) .
(399) انظر :الإعجاز العلمي في القرآن لسيد الجميلي (ص:27)، والقرآن الكريم ،من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو) (ص:30)،الطبعة الأولي،1997، فقد أشار القرآن إلى كروية الأرض ودورانها ، والجنين ومراحل تطوره ، وغير ذلك من أنواع الإعجاز العلمي .
(400) انظر : الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لسيد الجميلي ، دار الهلال،بيروت .
- والإعجاز العلمي في القرآن الكريم لحمادة الدبلاني ،دار الوفاء ،والمنصورة ،الطبعة الأولي،2000.
- والإبداعات الطبية لرسول الإنسانية لمختار سالم ، مؤسسة المعارف في بيروت ، الطبعة الأولي،1995. =
=
- والجراد في القرآن الكريم والعلم الحديث ، د. كارم السيد غنيم ، ود. عبد العظيم محمد الجمال ، دار الصحوة ، القاهرة، الطبعة الأولي ، 1988م .
- وإعجاز النبات في القرآن الكريم ، د. نظمي خليل أبو العطا ، مكتبة النور ، مصر الجديدة
- والاكتشاف العلمية الحديثة ودلالتها في القرآن الكريم ، د. سليمان عمر قوش ، دار الحرمين ، الدوحة ، الطبعة الأولي ، 1987م .
- والقرآن والسنة والعلوم الحديثة ، محمد أحمد مدني ، وليس فيه ذكر المكتبة ولا تاريخ الطبع .
(401) انظر :دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني ، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة،ط3،1992،و إعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي ، طباعة دار الكتاب العربي في بيروت ،1990.
(402) أخرجه أحمد في المسند (مسند العشرة المبشرين بالجنة ،رقم:108) ورجاله ثقات ، إلا أنه منقطع فشريح لم يدرك عمر ،انظر (المسند تحقيق أحمد شاكر (1/201).
(403) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن ،باب سورة الطور ، رقم :4573)
(404) انظر فتح الباري(2/290).
(405) متفق عليه:( البخاري:كتاب الجمعة باب سجدة النجم ، رقم:1020، ومسلم :كتاب المساجد وموضع الصلاة،باب سجود التلاوة ،رقم :576).
(406) أخرجه الحاكم (2/550)وقال الذهبي :صحيح ، طبعة دار الباز تحقيق مصطفى عطا .
(407) انظر كتاب " القرآن وإعجازه التشريعي " لمحمد إبراهيم إسماعيل ، دار الفكر العربي ، القاهرة .
(408) انظر دستور الإخلاق في القرآن ، لدراز ، تحقيق عبدالصبور شاهين ،بيروت ،مطبعة الرسالة ،الطبعة الأولي0،1998.
(409) انظر كتاب مباحث في إعجاز القرآن ،لمصطفى مسلم ، في الفصل الثالث :الإعجاز التشريعي، ص:231-258، وكتاب (القرآن الكريم )ص:31، من أساليب الغزو الفكر ، لغنايم (ص:543).
(410) نشر في دمشق عام 1990وطبعته عدة مكاتب .
(411) وممن رد عليه :1/القراءة المعاصرة للقرآن في الميزان ، لأحمد عمران ، دار النفائس ، بيروت،الطبعة الأولي،1995. 2/بيضة الديك (نقد لغوي لكتاب الكتاب والقرآن) ، ليوسف الصيداوي ، المطبعة التعاونية في دمشق ، وهو كتاب عظيم رد فيه على أول عشر صفحات من الكتاب من الجانب اللغوي فقط في مائتين وأربع وستين ورقة.
3/الماركسية والقرآن ، للمحامي محمد صياح المعرّاوي ،المكتب الإسلامي، بيروت ،الطبعة الأولي،2000.
4/القرآن وأوهام القراءة المعاصرة ، لجواد عفانة ، وغيرها من الكتب.
(412) يعني أنه ليس بشعر ولا نثر ولا سجع.(7/342)
(413) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/52-54)، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولي،1988.
(414) انظر كتاب الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره ، للدكتور محمد أحمد يوسف قاسم ، دار المطبوعات الدولية ، الطبعة الأولي،1979.
(415) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن ،باب ما جاء في فضل القرآن ، رقم :2906) مرفوعا ، قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي:هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ.أهـ وأخرجه الدارمي من نفس الطريق (كتاب فضائل القرآن،باب فضل من قرأ القرآن،رقم:3331) ، وأخرجه الإمام أحمد (رقم:706) عن علي مرفوعا ولفظه :(أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ أُمَّتَكَ مُخْتَلِفَةٌ بَعْدَكَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ فَأَيْنَ الْمَخْرَجُ يَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقَالَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ يَقْصِمُ اللَّهُ كُلَّ جَبَّارٍ مَنْ اعْتَصَمَ بِهِ نَجَا وَمَنْ تَرَكَهُ هَلَكَ مَرَّتَيْنِ قَوْلٌ فَصْلٌ وَلَيْسَ بِالْهَزْلِ لَا تَخْتَلِقُهُ الْأَلْسُنُ وَلَا تَفْنَى أَعَاجِيبُهُ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ) والراوي عن علي هو الحارث أيضا كما هو الحال في إسناده الترمذي والدارمي،
وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الدارمي في نفس الباب الماضي ،رقم:3315، ولفظه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ لَا يَزِيغُ فَيَسْتَعْتِبُ وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم وَلَكِنْ بِأَلِفٍ وَلَامٍ وَمِيمٍ)، وهو ضعيف فيه إبراهيم الهجري وهو لين الحديث يرفع الموقوفات كما قال ابن حجر في التقريب(ص:116).
(416) الخصائص الكبرى (1/195-196).
(417) القائل السيوطي.
(418) وهما: 1-حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إعجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.
2-صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
(419) وهي : 7-ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة.
8- الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم والهيبة التي تعتريهم عند سماع تلاوته.
9-أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد ولهدا وصف القرآن بأنه لايخلق على كثرة الرد.
10-كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه.
11-جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة.
12-جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان في كلام البشر غالبا.
(420) وهي :3-ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن فوجد كما ورد .
4-ما أنبأ به من أخبار القرون الماضية والشرائع السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك فيورده على وجهه ويأتي به على نصه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
5-ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر.
6-آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا.
(421) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/197).
(1/35)
000000000
المطلب الثاني :التحدي أن يؤتى بمثله:
من علامات صدق القرآن وصحته ، هو أنه تحدى الخلق من أنس وجن أن يأتوا بأحسن منه فلم يطيقوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو معارضته ، ثم لم يزل يتنزل معهم بالتحدى ، فلما عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله ، فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بحديث من مثله فعجزوا:
قال سبحانه:( قُل فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( [القصص:49].
وقال تعالى:( قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء:88].(7/343)
ثم قال سبحانه:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود:13].
ثم قال جل جلاله:( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( [البقرة:23].
وقال تبارك اسمه:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( [يونس:38].
ثم قال سبحانه :( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ( [الطور:34].
قال ابن كثير -رحمه الله- : (ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو ، فقال مخاطبا للكافرين : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ( [البقرة : 23] يعني محمدا ( فأتوا بسورة من مثل ما جاء به : ، إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ، فإنكم لا تستطيعون ذلك ، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ، فقال في سورة القصص : ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ( [القصص : 49] وقال في سورة سبحان ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( [الإسراء : 88] وقال في سورة هود : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( [هود : 13] وقال في سورة يونس : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( [يونس : 37 ، 38] وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية : ( وإن كنتم في ريب ( أي شك ( مما نزلنا على عبدنا ( يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( فأتوا بسورة من مثله ( يعني من مثل القرآن ،فتحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم ، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك)(422).
قال الإمام ابن جرير رحمه الله : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} : وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضرباءهم يعني بها, قال الله جل ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شك - وهو الريب - مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي, وأني الذي أنزلته إليه, فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حجته; لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق, ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوته, وأن ما جاء به من عندي, عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك, وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية, فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه, لأن ذلك لو كان منه اختلافا وتقولا لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله, لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان, فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه, أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه)(423) .
فلما عجزوا عن معارضته مع توفر الدواعي لذلك ، علمنا أنه ليس بمقدور إنسان أن يأتي بمثله، فهو إذن من خالق البشر الذي هو على كل شيء قدير.
------------
(422) تفسير القرآن العظيم (1/59-60) بتصرف.
(423) تفسير الطبري (1/165) .
(1/36)
المطلب الثالث:شهادة المنصفين من أهل الكتاب والكفار وأعدائه له بالصحة والصدق:
وهذا من باب أن أقوى الشهادات على صحة الشيء شهادة الخصوم ؛ فأهل الكتاب والكفار مع شدة عداوتهم للقرآن ، إلا أن منهم من اعترف به ، وأقر بصدقه وصحته، وهذا الدليل مأخوذ من قوله تعالى:(7/344)
( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( [الأنعام:114].
وقوله جل جلاله:( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( [القصص:52-53].
وقوله تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ( [الإسراء:106-108].
وقوله سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( [الأحقاف:10] .
وقوله تعالى (...وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( [المائدة:82-85].
أخرج مسلم عن أبي ذر قَالَ:قَدْ صَلَّيْتُ قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِثَلَاثِ سِنِينَ . قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ :لِلَّهِ . قُلْتُ :فَأَيْنَ تَوَجَّهُ ؟ قَالَ :أَتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوَجِّهُنِي رَبِّي ،أُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ ، كَأَنِّي خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ ،فَقَالَ أُنَيْسٌ :إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ فَاكْفِنِي . فَانْطَلَقَ أُنَيْسٌ حَتَّى أَتَى مَكَّةَ فَرَاثَ (424)عَلَيَّ ثُمَّ جَاءَ ، فَقُلْتُ :مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ . قُلْتُ :فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ؟ قَالَ :يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ -وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ -قَالَ أُنَيْسٌ :لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ ،وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . قَالَ قُلْتُ :فَاكْفِنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأَنْظُرَ . قَالَ :فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ ،فَقُلْتُ :أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ ،فَقَالَ :الصَّابِئَ . فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ (425) وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ ،قَالَ :فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ . قَالَ :فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا ،وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ ...)(426).(7/345)
(وأخرج ابن إسحاق والبيهقي(427) من طريق عكرمة ، أو سعيد عن ابن عباس :أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ،فقال :إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قول بعضكم بعضا ، فقالوا :فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقوم به ، فقال: بل أنتم فقولوا لأسمع . فقالوا :نقول كاهن . فقال :ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره . فقالوا :نقول : مجنون . فقال :وما هو بمجنون ، ولقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته . قال :فنقول: شاعر . قال :فما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر . قال :فنقول : ساحر. قال :فما هو ساحر ، قد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا عقده . فقالوا :ما تقول يا أبا عبد شمس ؟ قال :والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لمعذق وإن فرعه لجنى ،فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول لأن تقولوا : ساحر . فتقولوا : هذا ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه ، وبين المرء وبين أخيه ، وبين المرء وبين زوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عند ذلك ، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره ،فأنزل الله عز وجل في النفر الذين كانوا معه ، ويصفون له القول في رسول الله فيما جاء به من عند الله : ( الذين جعلوا القرآن عضين ( أي أصنافا ( فوربك لنسألنهم أجمعين ( أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول الله لمن لقوا من الناس ،قال :وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله ، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .
وأخرج أبو نعيم(428) من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، قال :أقبل الوليد بن المغيرة على أبي بكر يسأله عن القرآن ،فلما أخبره خرج على قريش ،فقال :يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا سحر ، ولا بهُذاء مثل الجنون ، وان قوله لمن كلام الله .
وأخرج ابن إسحاق والبيهقي وأبو نعيم(429) ، عن ابن عباس قال :قام النضر بن الحارث ابن كلدة ابن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي ،فقال :يا معشر قريش ، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله ، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم : قلتم ساحر . لا والله ما هو بساحر ؛ قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم : كاهن . لا والله ما هو بكاهن ؛ قد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر . لا والله ما هو بشاعر ؛ لقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه ، وقلتم : مجنون . لا والله ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه ، يا معشر قريش انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم .
وأخرج ابن إسحاق والبيهقي(430) ، عن محمد بن كعب ، قال :حُدَّثْتُ أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم ورسول الله ( في المسجد :يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه ، فأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل منها بعضها ويكف عنا ؟ قالوا :بلى يا أبا الوليد . فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله ( ،قال عتبة :يا محمد أنت خير أم هاشم ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ أنت خير أم عبد الله ؟ فلم يجبه قال :فبم تشتم آلهتنا ، وتضلل آباءنا ،فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش شئت ، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستعين بها أنت وعقبك من بعدك . ورسول الله ( ساكت ولا يتكلم ، حتى إذا فرغ عتبة ،قال رسول الله ( :يا أبا الوليد . قال :نعم . قال :فاسمع مني . قال :افعل . فقال رسول الله ( : بسم الله الرحمن الرحيم ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا ( فمضى رسول الله فقرأها عليه ، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما ، يسمع منه حتى انتهى رسول الله إلى السجدة فسجد فيها ،ثم قال :سمعت يا أبا الوليد ؟ قال :سمعت. قال :فأنت وذاك . فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض :نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم ،قالوا :وما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي إني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا السحر ، ولا الكهانة ،يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ؛ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . فقال :هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم)(431).(7/346)
وهذه بعض شهادات المنصفين من المعاصرين :
-يقول إبراهيم خليل(432):( يرتبط هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح -عليه السلام- في قوله عنه:(ويخبركم بأمور آتية) ، وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم ، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان ، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه ؛ من طب وفلك و جغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ… ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف ..)(433) .
وقال : ( أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا ، لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه ؛ لآمنت برب العزة والجبروت خالق السماوات والأرض ، ولن أشرك به أحدا)(434).
وقال بلاشير(435): (إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً و يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة ، تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجلته من التحف ، إن الخليفة المقبل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المعارض الفظ في البداية للدين الجديد ،قد غدا من أشد المتحمسين لنصرة الدين عقب سماعه لمقطع من القرآن ، وسنورد الحديث فيما بعد عن مقدار الافتتان الشفهي بالنص القرآني بعد أن رتله المؤمنون )(436).
وقالت بوتر(437) :(عندما أكملت قراءة القرآن الكريم ، غمرني شعور بأن هذا هو الحق الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها ، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية ، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية ، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة ، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة )(438).
وقالت بوتر أيضا: (كيف استطاع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الرجل الأمي ، الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم ،والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها ؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل )(439).
قال بوكاي(440): (لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم ،وذلك دون أي فكر مسبق ، وبموضوعية تامة بحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث ،وكنت أعرف قبل هذه الدراسة ،وعن طريق الترجمات ،أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة ،وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي ، استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها ، أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث ، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول،أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا ، وأما بالنسبة للأناجيل ،فإننا نجد نص إنجيل متي يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا،وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض)(441) .
وقال حتي(442) : (إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره،ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر ،ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه . هو إعجاز القرآن .. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى)(443).
وقال أرنولد(444) :(.. (إننا) نجد حتى من بين المسيحيين مثل الفار (الإسباني) الذي عرف بتعصبه على الإسلام ،يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل ،حتى إن المسيحيين لم يسعهم إلا قراءته والإعجاب به)(445).
ولقد ألف الدكتور مراد هوفمان -سفير ألمانيا السابق بالرباط- كتاب (الإسلام كبديل)(446)، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه ، وصدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكمال التشريع.
إلى آخر تلك الشهادات الطويلة على صدق القرآن وإعجازه .
قارن بين هذا الكلام وكلام نصر أبو زيد عندما يقول: (إن إعجاز القرآن ليس إلا في تغلبه على الشعر وسجع الكهان ، ولكنه ليس معجزا في ذاته)(447).
--------------------------------------------------------------------------------
(424) راث : أبطأ . مختار الصحاح ( 1/111) .
(425) مدرة : جمعه مرد وهو قطع الطين اليابس . لسان العرب ( 5/162 ) .
(426) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ،باب من فضائل أبي ذر، رقم :2473.
(427)أخرجه ابن اسحاق كما في مختصر السيرة لابن هشام(2/105) تحقيق طه عبدالرؤوف سعد ، دار الجيل ، بيروت، الطبعة الأولى، 1411، ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/157)، تحقيق محمد السعيد زغلول ، دار الكتب العلمية ، بيروت،الطبعة الأولى، 1410، والسند ضعيف فيه محمد بن أبي محمد وهو مجهول (التقريب ص:505).(7/347)
(428)لم أجده في الحلية لأبي نعيم بعد البحث في مظانه ولكن أخرجه مسندا ابن جرير الطبري في تفسير (29/156)،وعطية العوفي ضعيف (تهذيب تهذيب لابن حجر (7/201) دار الفكر، بيروت،الطبعة الأولى،1984.
(429)أخرجه ابن اسحاق كما في مختصر سيرته لابن هشام معلقا (2/137) عن ابن عباس من غير إسناد .
(430)أخرجه الأصبهاني في دلائل النبوة (ص:221)تحقيق محمد محمد الحداد ، دار طيبة ، الرياض، الطبعة الأولى،1409، ويحيى ابن معين في تاريخه(3/54)،تحقيق د.أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي،مكة المكرمة، الطبعة الأولى ،1979، وفي إسناده يحيى بن عبدالله الأجلح الكوفي لين الحديث(ص:592) والذيال بن حرملة لم يوثقه إلا ابن حبان (الثقات لابن حبان (4/222)تحقيق السيد شرف الدين أحمد، دار الفكر ، الطبعة الأولى 1975.
(431) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/189-193) باختصار.
(432) قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية ، ومن جامعة برنستون الأمريكية ، عمل أستاذا بكلية اللاهوت في أسيوط ، كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيرا عاما للإرسالية الألمانية السويسرية ، وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام ، لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه عام 1959، ومن مؤلفاته :محمد في التوراة والإنجيل والقرآن-المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي -تاريخ بني إسرائيل. (انظر قالوا عن الإسلام للدكتور عماد الدين خليل (ص:49).
(433) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص:47-48).
(434) محمد في التوراة والإنجيل والقرآن (ص: 48).
(435) تقدمت ترجمته ص 10.
(436) قالوا عن الإسلام(ص52)
(437) ديبورا بوتر : ولدت عام 1954 بمدينة ترافيرز في ولاية ميتشغان الأمريكية ، وتخرجت من فرع الصحافة بجامعة ميتشغان ، اعتنقت الإسلام عام 1980 ، بعد زواجها من أحد الدعاة الإسلاميين العاملين في أمريكا بعد اقتناع عميق بأنه ليس ثمة دين غير الإسلام يمكن أن يستجيب لمطالب الإنسان : ( قالوا عن الإسلام : ص 55 ).
(438) قالوا عن الإسلام(ص55)
(439) قالوا عن الإسلام(ص55)
(440) د. موريس بوكاي : الطبيب والعالم الفرنسي ، ألف كتابه المشهور " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" وهو من أكثر المؤلفات التي عالجت هذا الموضوع ( تعارض الكتب المقدسة مع العلم الحديث ) أصالة واستيعاباً وعمقاً ، ويبدوا أن هذا الكتاب القيم منحه قناعات مطلقة بصدق الكتاب ، وبالتالي صدق الذي جاءته . (انظر:"قالوا عن الإسلام " : ص 56)
(441) " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم " : ص 13 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1978
(442) حتى : د . فيليب حتى ، ولد عام 1886م، لبناني الأصل ، أمريكي الجنسية ، تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت وقال الدكتوراة من جامعة كولومبيا (1915م) وتنقل في عدة مناصب كبيرة . من مؤلفاته : أصول الدولة الإسلامي ، تاريخ العرب وغيرها . (انظر : "قالوا عن الإسلام" ص 58)
(443) قالوا عن الإسلام (ص58)
(444) توماس آرنولد [1864-1930] : مستشرق إنجليزي التحق بكلية المجدلية في جامعة كمبردج عام 1882م حيث اجتذبته الدراسات الشرقية ، وبعد أن أنجز بنجاح دراسته أمضي السنة الرابعة عاكفاً على دراسة الإسلام ، واختير لتدريس الفلسفة في كلية عليكرة الإسلامية في الهند ، فقضي فيها عشر سنوات ، كان لها تأثير بالغ في نظره تجاه الإسلام ، وكان يدعو إلي التوفيق بين الثقافة الإسلامية والفكر الأوربي ، وتولي عدة مناصب ، وقبل وفاته بعام دعته الجامعة المصرية ( جامعة القاهرة الآن) أستاذاً زائراً . وبعد أن أمضي النصف الثاني من العالم الدراسي 1929-1930 في التدريس بقسم التاريخ عاد إلي لندن وتوفي فيها في 30 يونيو 1930 ، من مؤلفاته " الدعوة الإسلامية" و "ةالخلافة" وغيرها . ( انظر : موسوعة المستشرقين ، لبدوي ص 9 ) باختصار ، الأعلام للزركلى (2/94) .
(445) قالوا عن الإسلام (ص50)
(446) من منشورات مكتبة العبيكان ، الرياض ، ط3، 2001.
(447) انظر كتاب : قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، د. عبدالصبور شاهين، ص:29، دار الاعتصام ،القاهرة، وقد نقل كلامه هذا من مقال لـ(أبو زيد) في مجلة الهلال.
(1/37)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الرابع:الوحدة الموضوعية لكل سورة:(7/348)
وقد عقد الدكتور الفذ محمد عبدالله دراز فصلا في كتابه "النبأ العظيم" عن هذا المطلب(448) ، وبيَّن فيه أن من أدلة صدق القرآن وأنه ليس من البشر الوحدة الموضعية لكل سورة، فكل سورة معقودة للتكلم عن موضوع معين ، ومع كبر بعض السور وامتداد نزولها على عدة سنوات إلا أن هذه الوحدة لم تنخرم ولم تنُس ولم تتبدل ، ثم ضرب لهذا مثلا : فقال : مَثَلُ ذلك كقصر مبني في السماء، ثم ينزل الله منه كل يوم قطعة ، فمرة ينزل النافذة ومرة ينزل السقف، ومرة ينزل الجدار، ويأمر الله نبيه بأن يضع الجزء كذا في مكان كذا ، فيفعل وهو لا يدري لماذا ، ولكنه هكذا أُمر ، فلا ينتهي التنزيل إلا ويتضح للجميع مدى توافق هذا البنيان وإحكامه ودقة تصميمه.
ولو أنك أخذت كلام أي إنسان لمدة سنة واحدة فقط ، ثم أردت أن تجعل منه موضوعا متناغما ، أو أفكارا منسجمة مع بعض لما استطعت إلى ذلك سبيلا .
ثم دلل على ذلك بأطول سورة في القرآن ، وهي البقرة التي نزلت على مدار تسع سنوات ، ونزل في أثنائها أغلب السور المدنية ، ومع هذا كان بناء سورة البقرة في غاية الإحكام ولم تختلط به أي آية من غيره.
قال دراز -رحمه الله- في نظام عقد المعاني في سورة البقرة(449):(اعلم أن هذه السورة على طولها تتألف وحدتها من : مقدمة ، وأربعة مقاصد ، وخاتمة، على هذا الترتيب:
المقدمة :في التعريف بشأن هذا القرآن وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حدا من الوضوح لا يتردد فيه ذو قلب سليم ، وإنما يعرض عنه من لا قلب له أو من كان في قلبه مرض.
المقصد الأول: في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام .
المقصد الثاني : في دعوة أهل الكتاب إلى اعتناق الإسلام.
المقصد الثالث: في عرض شرائع هذا الدين تفصيلا.
المقصد الرابع: ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع ويعصم عن مخالفتها.
الخاتمة : في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد ، وبيان ما يرجى لهم في آجلهم وعاجلهم). ثم دلل على كل ما سبق تدليلا واضحا للعيان مدى مطابقته للواقع ، فإن تم هذا لسورة للبقرة وهي أطول سورة في القرآن وأكثرها آيات وامتد نزولها على تسع سنوات فما بالك بغيرها من السورة ، لا شك أنه أولى وأحرى .
ثم قال رحمه الله :(إن اجتماع هذه الأسباب في كل سورة متفرقة النجوم ، دون أن تغض من إحكام وحدتها ، ولا استقامة نظمها هو بالتحقيق معجزة المعجزات)(450).
(448) من ص: 143-211.
(449) النبأ العظيم (ص:163).
(450) انظر النبأ العظيم ، لدراز (ص:150) ، وانظر من أساليب الغزو الفكري الطعن في القرآن، للدكتور : غنايم (ص:540).
(1/38)
المطلب الخامس: عدم التناقض:
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الدليل في قوله سبحانه:
( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( [النساء:82].
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- :( القول في تأويل قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ؛ يعني جل ثناؤه بقوله: {أفلا يتدبرون القرآن} أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله ؛ فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتساق معانيه وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ؛ فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه وأبان بعضه عن فساد بعض)(451).
وفي طيات هذه الآية تحدي ، كأنه يقول : تدبر القرآن، وستجده خاليا من التناقضات، ولن تستطيع أن تجد تناقضا واحدا، مما يدلك ، أنه من عند الله ؛ إذ لو كان من البشر ، لكان فيه اختلاف كثير ، وتناقض واضح.
فكتاب ينزل على مدار ثلاث وعشرين سنة منجما مفرقا ، على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا تجد فيه أي تناقض ، إن هذا لشيء عجاب، قال ابن كثير -رحمه الله- :( يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ولهذا قال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" ثم قال "ولو كان من عند غير الله" أي لو كان مفتعلا مختلفا كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا أي اضطرابا وتضادا كثيرا أي وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله )(452).
وقال القرطبي -رحمه الله- :( ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ؛ إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى، وإما في التناقض، وإما في الكذب، فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون)(453).(7/349)
وبهذا استدل جفري لانغ(454) على صدق القرآن(455) وأدى إلى إسلامه ؛ فالقرآن لا يتناقض مع نفسه، ولا يتناقض مع السنة، ولا يتناقض مع العلم الحديث ، بل على العكس فدائما يأتي العلم التجريبي الحديث بالتدليل على صدق القرآن وما فيه ، ولا يخالف الوقائع التاريخية ، بل هو منسجم تمام الانسجام معها كلها، مما يدلك أنه ليس من بشر ، بل هو من خالق البشر وخالق الكون ومدبر العالم(456) .
(451) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (8/567)، تحقيق محمود وأحمد ابنا محمد شاكر ،دار المعارف، القاهرة ، الطبعة الثانية
(452) تفسير القرآن العظيم (1/529)
(453) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/187).
(454) تقدمت ترجمته ص 101 .
(455) انظر كتابه الصراع من أجل الإيمان ، ص:66.
(456) وسيأتي الرد على من ادعى تناقض القرآن في مبحث مستقل.
(1/39)
المبحث الثالث : ردود القرآن على الطاعنين
وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين ، وذكر طعوناتهم ، ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما ؛
1- فقد طعن المشركون واليهود في صحة نسبة القرآن إلى الله ؛ فقالوا للنبي ( كما ذكر الله تعالى عنهم في قوله : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آية مَكَانَ آية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( [النحل : 101] ؛ أي أنك متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم تخالفه(457).
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ ... ( [الأنبياء:5].
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ... ( [الفرقان:4]
فرد الله تعالى عليهم من عدة وجوه(458):
أ-في قوله : ( والله أعلم بما ينزل ( أي والله أعلم بما ينزل من المصالح ؛ فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده ، فينسخه وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه.
ب-ثم قال تعالى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( [النحل:102] ("ونزله" تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح بما يقتضي التبديل ( من ربك بالحق ( ملتبسا بالحكمة ( ليثبت الذين آمنوا ( ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه ، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة ، رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم ( وهدى وبشرى للمسلمين (المنقادين لحكمه).
ج-ثم قال تعالى بعدها بقليل ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( [النحل:116]. والواقع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفلح في كل أعماله ودعوته وغزواته ، ومكّنه الله من البلاد والعباد ، ولم يمت حتى دانت له الجزيرة كلها بالإسلام لله والعبادة له وحده ، ولو كان مفتريا على الله لم يكن الله تعالى ليمكن له هذا التمكين.
د- ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله ، ويضل به الملايين من الناس ، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة :( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [يونس:37] وقال تعالى :( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ()وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ()لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ()ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ()فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة:44-47]،
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( [الأحقاف:8]، إن كنت كاذباً فالله أعلم منكم بذلك ،ولا يملك أحد لي أن يمنع عذاب الله بي الذي لا يتأخر عن الكاذب، فكون الله يعلم بي ولم يعذبني هذه شهادة من الله على صدقي ( كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (.
هـ- ورد على اليهود وغيرهم من الكفار الذين أنكروا إنزال أي كتاب(459) ،وذلك أن القول بأن الله تعالى لم ينزل شيئا من الكتب ، من أكبر السب لله تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ( [الأنعام:91] ، ثم قال : ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( [الأنعام :91].(7/350)
2- وبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا.. ( [الأنفال :31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا ، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، كما تقدم ذكره (460).
3- وبعضهم زعم أن هذا القرآن إنما هو قصص الأولين وأساطير السابقين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( [النحل:24].
( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( [الفرقان :4-5].
فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب ، فكيف نقلها وكيف قرأها ؟ قال تعالى :
( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( [العنكبوت:48].
فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام ، ويتحدى به الثقلين ، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي .
4- وبعضهم قال : إنه تعلمه من غلام نصراني . فقال الله تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( [النحل:103]
( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( [الفرقان:4].
(يعنون جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي ، وقيل : جبرا ويسارا كانا يصنعان السيوف بمكة ، ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه . وقيل: عائشا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم ، وكان صاحب كتب . وقيل : سلمان الفارسي . ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ( لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه -مأخوذ من لحد القبر- أعجمي غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة .
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم ، وتقريره يحتمل وجهين :
أحدهما :أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم ، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون ما تلقفه منه ؟!
وثانيهما :هب أنه تعلم من المعنى باستماع كلامه ، لكن لم يتلقف منه اللفظ ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي ، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى ، فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن ، لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة ، فكيف تعلَّم جميع ذلك من غلام سوقي ، سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها ، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم)(461).
(قال القاضي ابن الطيب : نحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تَعَلُّمٍ ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى المتعلم ، منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي)(462) .
5- ادعاؤهم أنه من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه وليس من عند الله :
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( [يونس:15-16] .(7/351)
قال ابن كثير - رحمه الله - :( يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش ، الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كتاب الله ، وحججه الواضحة ، قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا ( أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو ( بدله ( إلى وضع آخر . قال الله تعالى لنبيه ( : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ( أي ليس هذا إليَّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم( ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ( أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على إني لست أتقوله من عندي ، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون عليَّ شيئا تغمصونني(463) به ولهذا قال : ( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا . وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، فقال له هرقل : لقد عرفت إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله، وقال جعفر ابن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة)(464).
6- اتهام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه شاعر ، أو مسحور أو ساحر ، أو كاهن يتلقاه من الشياطين ، أو مجنون، أو أن ما يتلقاه هو أضغاث أحلام :
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ( [الأنبياء:5].
( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ()وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ()وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ()تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [الحاقة:40-43].
( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ( [التكوير:25].
( ...إذ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ( [الإسراء:47].
( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( [يونس:2].
( وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( [الحجر:6] .
ويلاحظ في هذه التهم التخبط العجيب والتناقض الغريب، فتارة يتهمونه بأنه ساحر وتارة مسحور، ولما رأوا بلاغة القرآن قالوا : هذا شعر . فلما اعترض عليهم أن أوزان الشعر معروفة ، وهذا ليس على وزن شيء منها ، قالوا : كاهن يعني يسجع كسجعهم ، فلما اعترض عليهم بأنه لو كان شعرا أو سجعا لكان الناس يستطيعون تقليده ، ولكن الواقع أنه لم يستطع أحد فعل ذلك ، لاسيما مع استمرار تحديه لهم في كل مناسبة ، فقالوا : إنه أضغاث أحلام . ولكن أضغاث الأحلام لا تأتي بهذا الإحكام والتنظيم والإعجاز والبلاغة ، فقالوا: إذن يتلقاه من الشياطين . ولكن كيف يتلقاه من الشياطين وهو يلعن الشياطين صباحا ومساء، ولا يستفتح كتابه إلا بالاستعاذة منهم ، والشيطان من صفاتها إضلال الناس ، وهذا الكتاب يهدي لأقوم سبيل وأفضل طريق ، وهناك الكثير من السحرة والكهنة لديهم شياطين ومردة ، فلماذا لا يأتون بمثل ما أتى ؟ فقالوا : إذن هي أساطير الأولين وقصص السابقين، اكتتبها فهي تملى عليه . ولكن كيف يقال هذا ومحمد لا يقرأ ولا يكتب ، بل هو رجل أمي، قالوا : إذن تعلمه من اليهود والنصارى . فقيل لهم : كيف ذلك وهم أعاجم ، وهذا لسان عربي مبين ، وكلام فصيح بليغ لم يستطع فحول الفصحاء أن يبلغوا منزلته في البلاغة ، فكيف لأعجمي أن يأتي به ؟ ثم هل اليهود والنصارى تكفر نفسها ؟ فعند ذلك حاروا وبهتوا وألجموا ولم يردوا جوابا.
وقد شهد على صحة هذا القرآن أهل الكتاب أنفسهم ، كما اشرنا من قبل في مثل قوله تعالى:
( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ( [الأنعام:114].(7/352)
وقال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ()نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ()عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ()بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ()وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ()أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( [الشعراء:192-197]
( …وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ()وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ( [المائدة:82-83].
ونحن نقول -على سبيل التنزل- لمن أنكر أن القرآن كلام الله: افرض أن هذا الكتاب من عند الله حقا وأنك مخطئ فما أنت صانع ؟( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(52) ((465) [فصلت:52].
--------------------------------------------------------------------------------
(457) انظر : القرطبى (10/176) .
(458) انظر : تفسير البضاوي ( 3/420 ). تفسير ابن كثير ( 2/156 ) فتاوى ابن تيميه (12/118) .
(459) تفسير ابن كثير (2/156).
(460) راجع : ص السابقة
(461) تفسير البيضاوي (3/421) .
(462) نقله عنه القرطبي في تفسيره (1/54).
(463)
(464) تفسير القرآن العظيم لابن كثير(2/411) .
(465) راجع ص 183 السابقة .
(1/40)
--------------------------------------------------------------------------------
المبحث الرابع :ردود إجمالية أخرى
المطلب الأول :عدم معارضة كفار مكة له ، مع أنهم أكثر الناس عداوة وفصاحة:
(إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله ، فعجزوا عنه وانقطعوا دونه، وقد بقي ( يطالبهم به مدة عشرين سنة ،مظهراً لهم النكير ، زاريًا على أديانهم ،مسفهاً آراءهم وأحلامهم ، حتى نابذوه وناصبوه الحرب ، فهلكت فيه النفوس ،وأُريقت المهج، وقُطعت الأرحام ،وذهبت الأموال ، ولو كان ذلك(466) في وسعهم وتحت أقدارهم ،لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة ، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة ،ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحَزْنِ(467) الوعر من الفعلٍ، وهذا ما لا يفعله عاقل ، ولا يختاره ذو لب ،وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأحلام ،ووفارة العقول والألباب ، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع(468) والشعراء المفلقون(469)، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل والخصومه واللدد ، فقال سبحانه :( ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً بل هُمْ قومٌ خصمون ( وقال سبحانه : ( وتُنذِرَ بِه قوما لُداَّ (، فكيف كان يجوز -على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة -أن يغفلوه ولا ويهتبلوا الفرصة فيه ، وأن يضربوا عنه صفحاً ، ولا يحوزوا الفلاح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه .
ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشاً شديدا ، خاف منه الهلاك على نفسه ، و بحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً ، لحكمنا أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه ،
وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل .
قلت: وهذا -من وجوه ما قيل فيه ـ أبينها دلالة وأيسرها مؤونة ، وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه)(470).
و(قال الخطابي : سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال :سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى : ( لا أقسم بهذا البلد ( [البلد:1] ؛ فأخبر أنه لا يقسم بهذا ، ثم أقسم به في قوله : ( وهذا البلد الأمين ( [التين:3] ؟ فقال ابن سريج :أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال :بل اقطعني ثم أجبني . فقال :اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحضرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ فلم ينكروا منه ما أنكرت .
ثم قال له : إن العرب قد تدخل (لا ) في أثناء كلامها وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتا)(471).
--------------------------------------------------------------------------------
(466) أي معارضة القرآن والإتيان بمثله.
(467) وهو ما غلظ من الأرض . القاموس المحيط ( ح ز ن )
(468) المَصْقَعُ : البليغُ يتفنن في مذاهب القول . الوسيط ( ص ق ع )
(469) المُفْلِق : المبدع ، لأن من معاني الفالق أي الخالق والمبدع كما في قوله تعالى ( أن الله فالق الحب والنوى ( انظر : لسان العرب (10/312).
(470) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبدالقاهر الجرجاني (ص:21)،وهي من رسالة الخطابي.(7/353)
(471) البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/54). وسيأتي ذكر بعض هذه الأبيات في مبحث دعوى تناقض بعض الآيات مع بعض .
(1/41)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثاني : إثبات الدليل (من أين لك هذا؟):
وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( [البقرة:111]؛ وهذا أسهل الأدلة وأسرعها وأقواها في نفس الوقت ؛ لأن أكثر الطعون عبارة عن دعاوى لا حقيقة لها ولا قيمة علمية ، فبمجرد مطالبته بالدليل عليها تتهاوى وتسقط .
والدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء
كدعوى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكتب أو يقرأ ، أو أنهم وجدوا مخطوطا بخطه وغير ذلك .
(1/42)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الثالث : مخالفة الواقع:
الكثير من الطعون طعون كاذبة تخالف الواقع ، فبنظرة سريعة للواقع يتضح بطلانها، كدعواهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كاهن ، أو ساحر ، أو شاعر ، أو مجنون ، أو كاذب ، أو يصرع ، أو غير ذلك، فشهادة الواقع والحال بخلاف الدعوى من أقوى الأدلة على بطلان الدعوى .
هَبِني قُلْتُ هذا النُّورَ ليلُ أَيَعْمَى العَاِلموُن عَنِ الضَّياءِ
(1/43)
--------------------------------------------------------------------------------
المطلب الرابع:إجماع الأمة على ذلك (من سبقك إلى هذا):
قال القرطبي :(باب ما جاء من الحجة في الرد على من طعن في القرآن ، وخالف مصحف عثمان بالزيادة والنقصان ، لا خلاف بين الأمة ولا بين أئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، معجزة له على نحو ما تقدم ، وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف ، معلومة على الاضطرار سوره وآياته ، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته ، فلا يحتاج في تعريفه بَحدًّ ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصانا منه ، فقد أبطل الإجماع ، وبهت الناس ، ورد ما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن المنزل عليه ، ورد قوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( وأبطل آية رسوله عليه السلام؛ لأنه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل ، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية ، وخَرَجَ عن أن يكون معجزا ، فالقائل أن القرآن فيه زيادة ونقصان راد لكتاب الله ولما جاء به الرسول ، وكان كمن قال : الصلوات المفروضات خمسون صلاة ، وتزوج تسع من النساء حلال ، وفرض الله أياما مع شهر رمضان ، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين ، فإذا رد هذا الإجماع كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد وألزم وأوجب)(472)،وإجماع الأمة المحمدية حجة ، وهي لا تجتمع على خطأ.
-وتقدم معنا أيضا الرد الإجمالي على الطعونات الأربعة العامة في مبحث مستقل .
--------------------------------------------------------------------------------
(472) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/58).
(1/44)
الفصل الثاني : الردود التفصيلية على من طعن في القرآن
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول : التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى.
المبحث الثاني : زعم عدم حفظه.
المبحث الثالث : اتهام القرآن بالتناقض.
المبحث الرابع : اتهام القرآن بمعارضة الحقائق.
المبحث الأول :التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن)
وهذا المبحث فيه ثلاثة مطالب حاصرة -إن شاء الله - لطعونهم أو على أقل تقدير تضمنت هذه المطالب أبرز الطعون التى وجهت إلى مصدر القرآن ، بهدف التشكيك فى نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى ، وتفصيل ذلك فيما يلى :
المطلب الأول: دعواهم أن القرآن من عند النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) :
هذا الطعن من أقدم الطعون وقد ذكر في القرآن كما في قوله سبحانه : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَكَانَ ءايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( [النحل:101] أي أنك متقول على الله تعالى(473).
وكما قال سبحانه:
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ ... ( [الفرقان:4].
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون ( [السجدة:3].
( أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ( [سبأ:8] ،(7/354)
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ( [سبأ:43].
وتقدم في مبحث ردود القرآن على الطاعنين تفصيل هذا الطعن ورد القرآن عليه ،ولا زال الطاعنون يرددون هذه الشبهة إلى اليوم :
ففي دائرة المعارف الإسلامية :(القرآن ليس من عند الله )(474) .
ويقول المستشرق ويلز (475):(محمد هو الذي صنع القرآن )(476).
ويقول يوليوس فلهاوزن(477) :(القرآن من عند محمد )(478) .
ويقول غوستاف لوبون (479) : ( القرآن من تأليف محمد)(480) .
ويقول درمنجهام (481) -وهو يصور النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالفنان أو الشاعر الذي يتأمل الطبيعة ،ثم يبدع في التأليف-:( وهذه النجوم في ليالي صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق ، حتى ليحسب المرء أنه يسمع بصيص ضوئها ، وكأنه نغم نار موقدة.
حقا إن في السماء لشارات للمدركين ، وفي العالم غيب بل العالم غيب كله ؛ لكن ألا يكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليرى ، وأن يرهف أذنه ليسمع ، ويرى الحق ويسمع الكلم الخالد ، لكن للناس عيونا لا ترى وآذانا لا تسمع ، أما هو فيحسب أنه يسمع ويرى ، وهل تحتاج لكي تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب مخلص مُلِئَ إيمانا...)(482).
ويقول نولدكة (483): (كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة ، والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج ، فلولا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه ، مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة)(484).
ومجمل أقوال المستشرقين وغيرهم من الطاعنين في الوحي الذي يوحى إليه (؛أن هذا القرآن إنما هو:
1-إلهام سمعي.
2-تأثير انفعالات عاطفية.
3-لأسباب طبيعية عادية كباعثة النوم (التنويم الذاتي).
4-تجربة ذهنية فكرية.
5-حالة كحالة الكهنة والمنجمين.
6-حالة صرع وهستيريا(485).
7-ول نصر أبو زيد -مُلَمِّحًا إلى هذا الطعن-:(القرآن ينتمي إلى ثقافة البشر)(486).
-الرد على هذه الدعوى:-
1- بداية ؛ فقد فَصَلَ الله تعالى هذه القضية بقوله :( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [يونس:37].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية : ( هذا بيان لإعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله ، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله ، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ؛ ولهذا قال تعالى : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ( أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ، ولا يشبه هذا كلام البشر ( ولكن تصديق الذي بين يديه ( أي من الكتب المتقدمة ، ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل ، وقوله : ( وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا ،حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين ، كما في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب : (فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم) أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه)(487).
(لقد علم الناس أجمعون - علماً لا يخالطه شك - أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي ، ولد بمكة في القرن السادس الميلادي ، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، صلوات الله و سلامه عليه و على آله .. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها و لا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض .
أما بعد ؛ فمن أين جاء به محمد بن عبد الله ( ؟
أَمنْ عند نفسه و من وحي ضميره ، أم من معلم ؟ و مَن هو ذلك المعلم ؟
نقرأ في هذا الكتاب أنه ليس من عمل صاحبه ، و إنما هو قول رسول كريم ، ذي قوة عند ذي العرش مكين ، مطاع ثَمَّ أمين : ذلكم هو جبريل عليه السلام ، تلقاه من لدن حكيم عليم ، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصاً من النصوص ، و لم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا :
1) الوعي و الحفظ ، ثم
2) الحكاية والتبليغ ، ثم
3) البيان والتفسير ، ثم
4) التطبيق و التنفيذ .
أما ابتكار معانيه و صياغة مبانيه فما هو منها بسبيل ، و ليس له من أمرهما شيء ، إن هو إلا وحيٌ يوحى .(7/355)
هكذا سماه القرآن حيث يقول : ( و إذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها ، قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ( [الأعراف: 203] ، و يقول :( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ، إن اتبع إلا ما يوحى إلي ( [يونس: 15 ] و أمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني ، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً ( [يوسف : 2 ] ، ( سنقرئك فلا تنسى ( [ الأعلى : 6] ، ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ( [القيامة :16 -19 ] ، ( اقرأ ) ( [العلق :1] ، ( و اتل ( [الكهف : 27 ] ، ( و رتل ( [المزمل: 4 ] فانظر كيف عبر بالقرآن بالقراءة و الإقراء ، و التلاوة و الترتيل ، و تحريك اللسان ، و كون الكلام عربياً ، و كل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة .
القرآن إذاً صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، و لا لأحد من الخلق ، و إنما هو منزل من عند الله بلفظه و معناه" ،
و العجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة ، و هو أنه ليس من عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) )(488) .
2- لو كان القرآن من تأليف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، لاستطاع العرب أن يأتوا بمثله ،مع حرصهم الشديد على معارضته ، لكن النبي ( صلى الله عليه وسلم )كان يتحداهم دائما ويكرره عليهم كثيرا ، ومع هذا لم يطق أحد منهم معارضته، ولا يقال :إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلغ من العبقرية مبلغا ،بحيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما قال . لأنه يمكن للمخالفين أن يجتمعوا فيألفوا قرآنا ، ومن المعلوم أن الجماعة تبدع وتبتكر أكثر من الإنسان الواحد ، فلو اجتمع مائة شاعر مثلا لتأليف قصيدة ؛ لكانت في جمالها وقوتها وسبكها أفضل بمراحل من شاعر واحد ألف قصيدة ، مهما بلغ هذا الشاعر من البلاغة والبيان(489)، فإذا كان آحاد المشركين لم يستطيعوا معارضة القرآن؛ فلماذا لم يجتمعوا لمعارضته ؟ ولكن هيهات ؛ فإنه لو اجتمعت قريش والعرب وأهل الأرض قاطبة ، بل والجن ما كانوا لهم أن يأتوا بمثل آية منه ( قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( [الإسراء:88].
3- (تبرؤ محمد(من نسبة القرآن إليه ليس ادعاء يحتاج بينة ،بل هو إقرار يؤخذ به صاحبه ؛
في الحقيقة إن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل ، لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه ، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل ، ذلك أنها ليست من جنس ( الدعاوى ) فتحتاج إلى بينه ، و إنما هي من نوع ( الإقرار ) الذي يؤخذ به صاحبه ، و لا يتوقف صديق و لا عدو في قبوله منه ، أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ،ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة ، نقول أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره ، و ينسلخ منها انسلاخاً ؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة و فخامة شأن ، و لو انتحلها لما وجد من البشر أحداً يعارضه و يزعمها لنفسه .
الذي نعرفه أن كثيراً من الأدباء يسطون على آثار غيرهم ،فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله و غلت قيمته و أُمنت تهمته ، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى ،و يلبس من أكفانهم و يخرج على قومه في زينة من تلك الأبواب المستعارة ؛ أمَّا أن أحداً ينسب لغيره أنفس آثار عقله ، وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد )(490) .
4- (لا أدل على أن الوحي القرآني خارج عن الذات المحمدية من مخالفة القرآن في عدة مواطن لرأيه الشخصي ولطبعه الخاص)(491)ومعاتبته على أخطائه :
مثل قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما أخذتم عذاب عظيم ( [الأنفال :67](7/356)
عن ابْنَ عَبَّاسٍ قالُ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ :لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ،فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ( الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ...-الحديث وفيه- : فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ :« مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ » فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً؛ فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ » ،قُلْتُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ ،أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عُقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؛فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا . فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ ،فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ ،فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ ،وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ »شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ (، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ( إِلَى قَوْلِهِ : ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا (فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ (492).
(وتأمل آية الأنفال المذكورة ، تجد فيها ظاهرة عجيبة ؛ فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم ، وقد بُدئت بالتخطئة والاستنكار لهذه الفعلة ، ثم لم تلبث أن ختمت بإقرارها وتطيب النفوس بها ، بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها(493) . فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول الكلام - لو كان عن النفس مصدره - يمكن أن يصدر عنها آخره , ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب و الندم و بين ابتسامة الرضا و الاستحسان ؟ كلا ، و إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين , لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له ، و لرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل . فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر الممحو و تسجيله ، على ما فيه من تقريع علني بغير حق ، و تنغيص لهذه الطُعمة(494) التي يراد جعلها حلالاً طيباً ؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن هاهنا ألبتة شخصيتين منفصلتين ، و أن هذا صوت سيد يقول لعبده : لقد أسأتَ و لكني عفوت عنك و أذنت لك )(495).
ومثل هذا قوله تعالى : ( عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ([التوبة:43]،
وقوله سبحانه : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ...([الأحزاب:37]،(7/357)
عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ : «كُنتُ مُتَّكِئًا عِندَ عَائِشَةَ فسَأَلْتُ عَائِشَةَ : هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ( رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قَفَّ(496) شَعَرِي لِمَا قُلْتَ ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ : مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ( رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ . قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(, فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ , ( فَقَالَ: « إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ , رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ » فَقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ( . قَالَتْ :وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ ( كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ : ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ((497).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ :جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ ( يَقُولُ :اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، قَالَ أَنَسٌ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ . قَالَ : فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ( تَقُولُ :زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ )(498).
يقول الدكتور محمد عبدالله دراز -رحمه الله- وهو يتكلم عن أدلة صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكر أن من الأدلة على ذلك :
(مخالفة القرآن لطبع الرسول ، و عتابه الشديد له في المسائل المباحة ، وأخرى كان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه ؛ فيخطئه في الرأي يراه ، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه , فإذا تلبث فيه يسيراً تلقاه القرآن بالتعنيف الشديد ، و العتاب القاسي ، و النقد المر ، حتى في أقل الأشياء خطراً : ( يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ( [التحريم:1] ، ( و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه (
[ الأحزاب : 37 ] ، ( عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين ( [التوبة : 43 ] ، ( ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( [ التوبة : 113] ، ( ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة و الله عزيزٌ حكيم ، لولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( [الأنفال:6-68] ، ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى ، وما عليك ألا يزكى و أما من جاءك يسعى و هو يخشى فأنت عنه تلهى ، كلا ( [ عبس :5-10 ] .(7/358)
أرأيت لو كان هذه التقريعات المؤلمة(499) صادرة عن وجدانه ، معبرة عن ندمه ووخز ضميره حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه ؛ أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع ؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه ، و استبقاء لحرمة آرائه ؟ بل إن هذا القرآن لو كان يفيض عن وجدانه , لكان يستطيع عند الحاجة أن يكتم شيئاً من ذلك الوجدان ،و لو كان كاتماً شيئاً لكتم أمثال هذه الآيات ، و لكنه الوحي لا يستطيع كتمانه ( وما هو على الغيب بضنين ( [ سورة التكوير الآية : 24 ])(500) .
وقد أقر بهذا الدليل بعض المستشرقين ، مثل المستشرق (ليتنر) حيث قال :(مرة أوحى الله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحيا شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا -كما يقول أغبياء النصارى بحقه -لما كان لذلك الوحي من وجود)(501).
5-موقف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من النص القرآني موقف المفسر الذي يتلمس الدلالات ، و يأخذ بأرفق احتمالاتها :
(وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها , لوجدتها تنحصر في شيء واحد ، و هو أنه ( كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثماً , اختار أقربهما إلى رحمة أهله و هداية قومه و تأليف خصمه ، و أبعدهما عن الغلظة و الجفاء ، و عن إثارة الشبه في دين الله . لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحاً ، أو جاوزه خطأ و نسياناً ، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر ، و رأى نفسه مخيراً فتخير . هَبْهُ مجتهداً أخطأ باختيار خلاف الأفضل ، أليس معذوراً و مأجوراً ؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمه بشرية و إنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية ، هل ترى في ذلك ذنباً يستوجب عند العقل هذا التأنيب و التثريب ؟ أم هو مقام الربوبية و مقام العبودية ، و سنة العروج بالحبيب في معارج التعليم و التأديب ؟ .
توفي عبد الله بن أُبي كبير المنافقين ، فكفنه النبي في ثوبه و أراد أن يستغفر له و يصلي عليه ، فقال عمر رضي الله عنه : أتصلي عليه و قد نهاك ربك ؟ فقال ( : إنما خيرني ربي فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ( [ التوبة : 80] و سأزيده على السبعين ،وصلى عليه ، فأنزل الله تعالى : ( و لا تصل على أحدٍ منهم مات أبداً و لا تقم على قبره ([التوبة:84] فترك الصلاة عليهم)(502)؛ اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين , و انظر ماذا ترى ؟ إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع , و قد اتخذ من القرآن دستوراً يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية ، و تمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييراً له بين طريقين , فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة , ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع . و هكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها , تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة , و معنى البشرية الرحيمة الرقيقة ؛ و تجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث و الأغراض , بل تصدع بالبيان فرقاناً بين الحق و الباطل ، و ميزاناً للخبيث و الطيب ، أحب الناس أم كرهوا ، رضوا أم سخطوا ، آمنوا أم كفروا ، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين و لا تنقصها معصية العاصين ، فترى بين المقامين ما بينهما ، وشتان ما بين سيد ومسود ، وعابد ومعبود )(503).
6- نسبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن إلى الله لا تكون احتيالاً منه لبسط نفوذه ، و إلا لِمَ لَمْ ينسب أقواله كلها إلى الله(504) .
(و لو أننا افترضناه افتراضاً لما عرفنا له تعليلاً معقولاً و لا شبه معقول , اللهم إلا شيئاً واحداً قد يحيك في صدر الجاهل ، وهو أن يكون هذا الزعيم قد رأى أن في ( نسبته القرآن إلى الوحي الإلهي ) ما يعينه على استصلاح الناس باستيجاب طاعته عليهم , و نفاذ أمره فيهم ؛ لأن تلك النسبة تجعل لقوله من الحرمة و التعظيم ما لا يكون له لو نسبه إلى نفسه .
و هذا قياس فاسد في ذاته ، فاسد في أساسه ؛
أما أنه فاسد في ذاته , فلأن صاحب هذا القرآن قد صدر عنه الكلام المنسوب إلى نفسه و الكلام المنسوب إلى الله تعالى فلم تكن نسبته ما نسبه إلى نفسه بناقصةٍ من لزوم طاعته شيئاً ، و لا نسبة ما نسبه إلى ربه بزائدةٍ فيها شيئاً ، بل استوجب على الناس طاعته فيهما على السواء ، فكانت حرمتها في النفوس على سواء ، و كانت طاعته من طاعة الله ، و معصيته من معصية الله , فهلا جعل كل أقواله من كلام الله تعالى لو كان الأمر كما يهجس به ذلك الوهم.(7/359)
و أما فساد هذا القياس من أساسه ؛ فلأنه مبني على افتراض باطل ، و هو تجويز أن يكون هذا الزعيم من أولئك الذين لا يأبون في الوصول إلى غاية إصلاحية أن يعبروا إليها على قنطرة من الكذب و التمويه , و ذلك أمر يأباه علينا الواقع التاريخي كل الإباء , فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته و سكناته ، و عباراته و إشاراته ، في رضاه و غضبه ، في خلوته و جلوته لا يشك في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة و المواربة ، و أن ذلك كان أخص شمائله و أظهر صفاته قبل النبوة و بعدها كما شهد و يشهد به أصدقاؤه و أعداؤه إلى يومنا هذا ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون (
[ يونس: 16 ])(505).
وقد قدمنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شهد بصدقه الصديق والعدو، وشهد بصدقه من عاشره ومن رآه لأول وهلة ، ومن سمع به وبأخباره.
ونزيد على ما سبق شهادة أكبر المعاندين في قريش , ورأس الكفر , وفرعون هذه الأمة أبو جهل فعن علي رضي الله عنه أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ ( : إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ( فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ((506).
7- (في بعض المواقف تكون حاجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للقرآن شديدة ،بل لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول ، و كانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم ، بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالاً و مجالاً ، و لكنه كانت تمضي الليالي و الأيام تتبعها الليالي و الأيام, ولا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس ؛ ومع هذا لم يتقوله ولم ينزل عليه شيء)(507) ، مما يدلك على صدقه؛ إذ الكاذب لا يتأخر في افتراء الكذب عند الحاجة الماسة إليه، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
أ-عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة , فقالوا لهم :سلوهم عن محمد , وصفوا لهما صفته , وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول , وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ،فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة , وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال: فقالوا لهم :سلوه عن ثلاث نأمركم بهن , فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم , فإنهم قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ،وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه , وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش , فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد , قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور . فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به , فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :« أخبركم غدا عما سألتم عنه » ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمس عشرة ليلة , لا يُحْدِثُ الله له في ذلك وحيًا, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة , وقالوا: وعدنا محمد غدًا , واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه ،وحتى أحزن رسولَ الله ( مُكْثُ الوحي عنه, وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ،ثم جاءه جبرائيل- عليه السلام - من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف , فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم , وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية , والرجل الطواف , وقول الله عز وجل ( ويسألونك عن الروح قل الروح ( الآية(508) .
ب- فترة الوحي في حادث الإفك(509) :
(ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه -عائشة رضي الله- عنها و أبطأ الوحي ، و طال الأمر و الناس يخوضون ، حتى بلغت القلوب الحناجر , و هو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ و احتراس : « إني لا أعلم عنها إلا خيراً » . ثم إنه بعد بذل جهده في التحري و السؤال و استشارة الأصحاب ، و مضى شهر بأكمله , والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء ، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر : « يا عائشة أما إنه بلغني كذا و كذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله » .
هذا كلامه بوحي ضميره ، و هو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب ، و كلام الصدّيق المتثبت الذي لا يظن و لا يقول ما ليس له به علم ، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها ، و مصدراً الحكم المبرم بشرفها و طهارتها(7/360)
فماذا كان يمنعه - لو أن أمر القرآن إليه - أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل ؛ ليحمي بها عرضه , و يذب بها عن عرينه , و ينسبها إلى الوحي السماوي , لتنقطع ألسنة المتخرصين ؟ و لكنه ما كان ليذر الكذب على الناس و يكذب على الله ( و لو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين ( [ سورة الحاقة الآيات : 44- 47 ] (510).
ج-لقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة ،وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا , لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام , ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل قرآنا ,على الرغم من تلهف رسوله الكريم إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام(511) .
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ( قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ )فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ ...)(512).
ولو كان الوحي من تأليف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , لما تأخر كل هذه المدة لشيء يحبه ويشتهيه ويتشوف إليه ويتحرق شوقا له ، ولكنه وحي الله ولا ينزل إلا بأمر الله وإذنه.
8-توقف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أحياناً في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان :
(لقد كان يجيئه الأمر أحياناً بالقول المجمل , أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو و لا أصحابه تأويله , حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد . قل لي بربك : أي عاقل توحي إليه نفسه كلاماً لا يفهم هو معناه ، و تأمره أمراً لا يعقل هو حكمته ؟ .
أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل ، و أنه مأمور لا آمر ؟ .
وإليك بعض هذه الأمثلة:
-المثال الأول : موقفه في قضية المحاسبة على النيات:
نزل قوله تعالى :( و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ( [ البقرة: 284 ] فأزعجت الصحابة إزعاجاً شديداً ، و داخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر ؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب و خطراتها ؛فقالوا : يارسول الله أنزلت علينا هذه الآية و لا نطيقها ، فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :« أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا و عصينا ؟ بل قولوا : سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله : ( لا يكلف الله نفساً إلى وسعها ( إلى آخر السورة المذكورة(513) ، و هنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب , وهو ما كان من النيات المكسوبة و العزائم المستقرة ، لا من الخواطر و الأماني الجارية على النفس بغير اختيار . و موضع الشاهد منه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم و هم في أشد الحاجة إليه ، و لم يكن ليتركهم لهذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم و هو بهم رؤوفٌ رحيم ، و لكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها ، و لأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان ، و لأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: ( ثم إن علينا بيانه ( [القيامة: 19] .
المثال الثاني : مسلكه في قضية الحديبية :(7/361)
اقرأ في صحيح البخاري(514) وغيره قضية الحديبية ، ففيها آية بينة : أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه ، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه،فقال تعالى :( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ([ البقرة : 190 ] فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام و هو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذراً أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع . و لما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشاً قد جمعت جموعها على مقربة منهم , فلم يثن ذلك من عزمهم ؛ لأنهم كانوا على تمام الأُهبة ، بل زادهم ذلك استبسالاً وصمموا على المضي إلى البيت , فمن صدهم عنه قاتلوه ، وكانت قريش قد نهكتها الحروب , فكانت البواعث كلها متضافرة و الفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه . و إنهم لسائرون عند الحديبية إذ بَرَكت راحلة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) و أخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور ، فقالوا : خلأت القصواء - أي حرنت الناقة - فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :« ما خلأت القصواء ، و ما ذاك لها بخلق ، و لكن حبسها حابس الفيل » يعني أن الله الذي اعتقل الفيل و منع أصحابه من دخول مكة محاربين, هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة . وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين ، لا بادئين ولا مكافئين ، و زجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى , فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية ، و عدل بهم عن متابعة السير امتثالاً لهذه الإشارة الإلهية , التي لا يعلم حكمتها ، و أخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلاً : « و الذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها » و لكن قريشاً أبت أن يدخلها في هذا العام لا محارباً و لا مسالماً، وأملت عليه شروطاً قاسية بأن يرجع من عامه ، و أن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالماً، وألا ترد هي أحداً يجيئها من المدينة تاركاً لدينه ، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم ، و أمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم و بالعودة من حيث جاءوا . فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيء في نفوس المسلمين ، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضاً ذهولاً و غماً ، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم و يراجعونه هو نفسه قائلين : لِمَ نعطي الدنية في ديننا ؟ و هكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده و يفلت حبله من يده . أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار الصحابة , حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها ؟ و لكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر : ( إني رسول الله ، و لست أعصيه ، و هو ناصري ) يقول : إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن انفذ أمر مولاي واثقاً بنصره قريباً أو بعيداً ، و هكذا ساروا راجعين و هم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح , فبينت لهم الحكم الباهرة و البشارات الصادقة فإذا الذي ظنوه ضيماً و إجحافاً في بادئ الرأي كان هو النصر المبين و الفتح الأكبر و أين تدبير البشر من تدبير القدر ؛ ( وهو الذي كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم و كان الله بما تعملون بصيراً ، هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدي معكوفاً أن يبلغ محله و لولا رجالٌ مؤمنون و نساءٌ مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها و كان الله بكل شيءٍ عليماً لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون فعلِم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ( [ سورة الفتح الآيات : 24-27 ])(515) .
9-إخباره في هذا الكتاب بأمور تحصل بعد موته وعلوم لم تكن في عصره, وقد قيل : يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت ، ويمكن أن تخدع بعض الناس كل الوقت ، ولكن لا يمكن أن تخدع كل الناس كل الوقت ،(7/362)
فلنفرض أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استطاع أن يخدع كل من كان في زمنه، ألا يخشى أن ينكشف بعد ذلك إذا ازداد الناس علما ، فهو يخبر بأمور فلكية وأخرى طبية وأمور جغرافية ، ويخبر بأحداث سوف تقع بعد موته ، ويتكلم بعلوم لم يعرفها أهل زمانه ، كل هذا وهو مطمئن القلب لصدق نفسه، ثم لا يأتي الواقع إلا مطابقا لما قال ،ولا يأتي العلم -على تقدمه الكبير- إلا بتأكيد كلامه وتأييد آرائه ، أليس في هذا دليل أنه لا يتحدث من قبل نفسه , بل من قبل من يعلم السر والنجوى الذي لا تخفى عليه خافية.
قالت بوتر(516) : (كيف استطاع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الرجل الأمي, الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم ،والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها ؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل )(517.
10-منهجه في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي(518) :
(ولقد كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلاً ,فيحرك به لسانه وشفتيه طلباً لحفظه ، وخشية ضياعه من صدره ، ولم يكن ذلك معروفاً من عادته في تحضير كلامه ، لا قبل دعواه النبوة و لا بعدها ، و لا كان ذلك من عادة العرب ، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم ، فلو كان القرآن منبجساً من معين نفسه لجرى على سنة كلامه و كلامهم ولكان له من الروية و الأناة الصامتة ما يكفل له حاجته ؛ من إنضاج الرأي , و تمحيص الفكرة ، و لكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتياً و يلم به سريعاً ، بحيث لا تجدي الروية شيئاً في اجتلابه لو طلب ، و لا في تداركه و استذكاره لو ضاع منه شيء ,و كان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفياً ، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه, أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية ، حتى ضمن الله له حفظه و بيانه بقوله : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ( الآيات [القيامة: 16 ] ، و قوله : ( و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما ( [طه: 114 ] .
هذا طرفٌ من سيرته بإزاء القرآن ، وهي شواهد ناطقة بصدقه في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد إليه ، و أنه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه)(519) .
11-أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال , أن يقوم من الطبيعة شاهدٌ بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل ؟ .
فلينظر العاقل : هل كان هذا النبي الأمي ( أهلاً بمقتضى وسائله العلمية , لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية ؟.
سيقول الجهلاء من الملحدين : نعم . فقد كان له من ذكائه الفطري و بصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق و الباطل من الآراء , و الحسن القبيح من الأخلاق, و الخير والشر من الأفعال ، حتى لو أن شيئاً في السماء تناله الفراسة , أو تلهمه الفطرة , أو توحي به الفكرة, لتناوله محمد بفطرته السليمة و عقله الكامل و تأملاته الصادقة .
و نحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، و لكننا نسأل : هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل و التفكير ، و مما يدركه الوجدان و الشعور ؟ اللهم كلا .
طبيعة المعاني القرآنية ليست كلها مما يدرك بالذكاء و صدق الفراسة فمن ذلك :
أ - أنباء الماضي لا سبيل إليها إلا بالتلقي و الدراسة :
ففي القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة , التي لا مجال فيها للذكاء و الاستنباط ،و لا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة و التلقي و التعلم ؛ ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق و ما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون : إن التاريخ يمكن وضعه أيضاً بإعمال الفكر ودقة الفراسة ؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمى فيقولون إن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية ، وتنقل فيها فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان ، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها ؟ إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا و لا ذاك ، لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه ( لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ( [ سورة آل عمران الآية : 44 ] ،( وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون ( [ سورة يوسف الآية : 102 ] ، ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ( [ سورة القصص الآية : 44 ] ، ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخُطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ( [ سورة العنكبوت الآية : 48] ، ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا ( [سورة هود الآية : 49 ] ، ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين ( [ سورة يوسف الآية : 3 ] .(7/363)
لا نقول إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية , و بمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد و ثمود و طوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين ؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر ؛ لأنها مما توارثته الأجيال و سارت به الأمثال ،و إنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة و الكنوز المدفونة في بطون الكتب , فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين , ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين ، و إنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محرراً في القرآن ، حتى الأرقام طبق الأرقام : فترى مثلاً في قصة نوح عليه السلام في القرآن أنه لبث في قومهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، و في سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة ، و ترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية ، و في القرآن أنهم لبثوا في كهفهم ( ثلاثمائةٍ سنين و ازدادوا تسعاً ( [ سورة الكهف الآية :25] و هذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية و القمرية ؛ قاله الزجاج يعني بتكميل الكسر .
فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تكتب و لا تحسب .
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأُمِّيَّ مُعْجِزَةًً فِي الجْاَهِلِيَّةِ و التَّأدِيبِ فِي اليُتْمِ
نعم إنها لعجيبة حقاً : رجل أمي بين أظهر قوم أميين ، يحضر مشاهدهم - في غير الباطل و الفجور - و يعيش معيشتهم مشغولاً برزق نفسه و زوجه و أولاده ، راعياً بالأجر ، لا صلة له بالعلم و العلماء ؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره ، ثم يطلع علينا فيما بين عشية و ضحاها , فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته , و بما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك ،و يبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم و قماطرهم ؟ أفي مثل هذا يقول الجاهلون إنه استوحى عقله واستلهم ضميره ؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العملي نتيجة طبيعة لتلك الحياة الماضية الأمية ؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يُلتمس خارجاً عن حدود النفس و عن دائرة المعلومات القديمة ،و إن ملاحدة الجاهلية و هم أجلاف الأعراب في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلاً لهذه الظاهرة , و أقرب فهماً لهذا السر من ملاحدة هذا العصر ، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه ، بل قالوا : إنه لابد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة ؛ فدرس منها ما لم يكن قد درس ، و تعلم ما لم يكن يعلم ( وكذلك نصرف الآيات و ليقولوا دَرَستَ ( [ سورة الأنعام الآية : 105 ] ، ( و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا ( [ سورة الفرقان الآية : 5 ].
و لقد صدقوا ؛ فإنه درسها ، و لكن على أستاذه الروح الأمين ،و اكتتبها ، و لكن من صحفٍ مكرمةٍ مرفوعةٍ مطهره ، بأيدي سفرةٍ كرامٍ برره ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون ([يونس:16] .
ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية ، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل ، و أنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها .
أما سائر العلوم القرآنية فقد يقال : إنها من نوع ما يدرك بالعقل ، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة و الروية . و هذا كلام قد يلوح حقاً في بادئ الرأي ، و لكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار ،ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه ، و حدٌ محدود تقف عنده و لا تتجاوزه ،فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة ، و لم يكن مركوزاً في غريزة النفس ، إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول ، إما بسرعة كما في الحَدْسِ(520) ,و إما ببطء كما في الاستدلال و الاستنباط و المقايسة(521)، و كل ما لم تمهد له هذه الوسائل و المقدمات , لا يمكن أن تناله يد العقل بحال ،و إنما سبيله الإلهام ، أو النقل عما جاءه ذلك الإلهام .
فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل و المقدمات في نظر العقل ؟
ذلك ما سيأتي نبأه بعد حين ،و لكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عند إعادتهما بعد :
أحدهما : قسم العقائد الدينية .
و الثاني : قسم النبوءات الغيبية .
ب - الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها :
فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتنيه العقل من ثمرات بحثه المستقل فيه ، بعد معاونة الفطرة السليمة له ، هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهاً قاهراً دبره , و أنه لم يخلقه باطلاً ، بل وضعه على مقتضى الحكمة و العدالة ؛ فلابد أن يعيده كرةً أخرى لينال كل عامل جزاء عمله , إن خيراً و إن شراً .(7/364)
هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين ،و لكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة ؛ بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة ، و يصف لنا بدء الخلق و نهايته ، و يصف الجنة و أنواع نعيمها ، و النار و ألوان عذابها ، كأنهما رأي عين ، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب ، و عدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب ، فعلى أي نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات الحسابية ، و تلك الأوصاف التحديدية ؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل البتة ، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال و التخمين ، و إما حق فلا ينال إلا بالتعليم و التلقين ، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب و استيقنه أهلها ( وما جعلنا عدتهم إلا فتنةً للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب و يزداد الذين آمنوا إيماناً ( [المدثر: 31 ] ، ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان ( [الشورى: 52 ] ، ( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ( [ص: 69 ] ، ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ([يونس: 37].
ج -أنباء المستقبل قد تستنبط بالمقايسة الظنية , و لكنها لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق:
و أما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل ؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحاً يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة ، جاعلاً الشاهد من هذه مقياساً للغائب من تلك ، ثم يصدر فيها حكماً محاطاً بكل تحفظ و حذر ، قائلاً : ( ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها , ولم يقع ما ليس في الحسبان). أما أن يبت الحكم بتاً , و يحدده تحديدا ,ً حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية ، و لا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية ، فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين:
إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه صدق أو كذب ، و ذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين و المنجمين .
و إما رجل اتخذ عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده ، و تلك هي سنة الأنبياء و المرسلين ، و لا ثالث لهما إلا رجلاً روى أخباره عن واحد منهما .
فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام و ما سيقع في أعوام ، و ما سيكون أبد الدهر ، و ما لن يكون أبد الدهر ؟ ذلك و هو لم يتعاط علم المعرفة و التنجيم , و لا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى و التقحم ، و لا كانت أخباره كأخبارهم خليطاً من الصدق و الكذب ، و الصواب و الخطأ . بل كان مع براءته من علم الغيب و قعوده عن طلبه و تكلفه ، يجيئه عفواً ما تعجز صروف الدهر و تقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفاً واحداً مما ينبئ به ( و إنه لكتابٌ عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد ( [فصلت: 41-42 ] .
و لنسرد لك هاهنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية ؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحي به الفراسة و الألمعية ؟
مثال ذلك :(7/365)
-ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء و الخلود ، و أن هذا القرآن قد ضمن الله حفظه و صيانته ( كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( [الرعد: 17 ] ،(ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً أصلها ثابتٌ و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها ( [إبراهيم:24-25]، ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ( [الحجر: 9 ] . أتعلم متى و أين صدرت هذه البشارات المؤكدة ، بل العهود الوثيقة ؟ إنها آيات مكية من سور مكية ، و أنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة ؟ عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآن ، و صد لغيرهم عن الإصغاء له ، و اضطهاد و تعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به ، ثم مقاطعة له و لعشيرته و محاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة ، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه ، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك , الذي طوله عشرة أعوام ، شعاعاً و لو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم و إعلان دعوتهم ؟ و لو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته ، لا في أفق الحوادث ، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً ؟ و هَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه ، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة و حمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية ؟ و كيف يجيئه اليقين في ذلك , و هو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين ؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح , فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح ! و كم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت و درست آثارها ! و كم من نبي قتل ! و كم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل ! وهل كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال ؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحى إليه ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك ( [القصص :86] و لا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه ( و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا و كيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً ( [الإسراء: 86-87 ] ؛ فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه ،و من ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت ؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها ، و الذي قدر مبدأها و منتهاها ، و أحاط علماً بمجراها و مرساها ، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة , لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت و لا تزال تقام عليه بين آن و آن . سل التاريخ : كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام , و تسلط الفجار على المسلمين , فأثخنوا فيهم القتل ، و أكرهوا أمماً منهم على الكفر ، و أحرقوا الكتب ، و هدموا المساجد ؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله ؛ لولا أن يد العناية تحرسه , فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه ، حافظا آياته وأحكامه ، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن ,وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ([الأنفال:36]، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يسمك السماوات والأرض أن تزولا ، ذلك بأن الله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ([التوبة: 33]، والله بالغ أمره ومتم نوره , فظهر وسيبقى ظاهرا لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله )(522).
12-لماذا يستبعد المستشرقون إمكانية نزول الوحي على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن طريق جبريل ، مع أن كثيرا منهم يُسَلَّّمُون بأبعد من ذلك ؛ فهم يؤمنون إيمانا كاملا بأن موسى عليه السلام قد تلقى التوراة من الله تعالى مباشرة من غير واسطة ؟
13-وانظر إلى هذا التناقض؛ تارة يصفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه عبقري , وفنان موهوب, وملهم(523) استطاع بذكائه الشديد أن يصنع هذا الدين والقرآن ، وتارة يقولون هو, مجنون , أو مصروع ,أو مهووس(524) ؛ ألا ترى كيف أوقعهم بغضهم للحق في هذه المضحكات ؟(7/366)
وتأمل كيف استطاعت خديجة - رضي الله عنها- بفطرتها البسيطة أن تعرف أن ما يأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليس شيطانا وجنونا ولا هَوَساً حين قالت :(كلا واللهِ لا يُخزِيكَ اللهُ أبداً ؛ إنك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وتحمل الكلَّ , وتُكْسِبُ المعدومَ وتُقْرِِِي الضَّيْفَ وتُعِينُ على نوائبِ الحقَّ)(525).
فما أبعد هذا الكمال الإنساني عن الهوس الذي قد يملي على صاحبه مواقف غريبة وأفعالا منكرة ينبو عنها الذوق السليم ، لذلك فإن بعضهم لا يملك نفسه عندما يقرأ سيرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) و ما يأمر به إلا أن يسلم بنبوته ؛
يقول توماس كارلايل(526):(هل رأيتم قط رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجيبا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب، فهو لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه بيت إنما هو تل من الأنقاض , وكثيب من أخلاط المواد؛ وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثنى عشر قرنا , يسكنه مائتا مليون من الأنفس(527) ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن، وأني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة , وإلا أبت أن تجيبه طلبته ، كذبُُ ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيلوه حق، ومحنةُُ أن ينخدع الناس -شعوبا وأمما- بهذه الأضاليل)(528).
ويقول أيضا:(لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر, أن يصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب , وأن محمدا خداع مزور ،فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل ,ومازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لمئات الملايين من الناس أمثالنا , خلقهم الله الذي خلقنا ،أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة ؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا،فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ,ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول , فما الناس إذاً إلا بُلُهُ ومجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث ؛كان الأولى ألا تُخلق)(529).
14-من الأدلة على أن القرآن ليس من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أوقات نزوله(530) ؛ فليس للنبي ( اختيار فيما ينزل أو متى ينزل ، فقد يأتيه وهو في الفراش مع أهله ، أو وهو نائم , أو مع أصحابه , أو وهو سائر , أو على البعير(531) ، وقد يتتابع الوحي ويحمى حتى يشعر بكثرته عليه له , وقد يفتر عنه حتى يشتاق إليه , بل قد يمرض من تأخره عليه؛ فقد روي عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ( :أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ ( الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بَعْد)(532).
وعن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كُنَّ حِزْبَيْنِ , فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ , وَالْحِزْبُ الْآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ...الحديث وفيه فَقَالَ :« لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ » ...الحديث)(533).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا , فَقُلْنَا :مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :« أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ ». فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ( ثُمَّ قَالَ: « أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ... » (534).
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) لِجِبْرِيلَ :« أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا » ،قَالَ: فَنَزَلَتْ ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ( [ الْآيَةَ](535).
وعن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ :أبطأ جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , فاشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا , فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ :يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ , لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (.(536)
فهذه أربعة عشر دليلاً على أن القرآن ليس من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , وبعضها كافٍ في ذلك , وكني جمعتها كلها حتى لا يكون للمعترض حجة .(7/367)
--------------------------------------------------------------------------------
(473) انظر تفسير البيضاوي (3/420).
(474) الإسقاط في مناهج المستشرقين للدكتور شوقي أبو خليل (ص:47) ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، ط1،1995.
(475) هربرت جورج ويلز [ 1866-1946 ] : الكاتب والأديب البريطاني المعروف ، حصل على بكالوريوس العلوم عام 1888 ، وتولى التدريس بضع سنين ثم انصرف للتأليف ، أشتهر بقصصه التى تعتمد الخيال العلمي ، من مؤلفاته " معالم تاريخ الإنسانية " وغيرها من الكتب . ( أنظر : " قالوا عن الإسلام " : ص 144 )
(476) معالم تاريخ الإنسانية ، لويلز (3/626)، انظر المرجع السابق (ص47).
(477) يوليوس فلهاوزن [ 1844 - 1918 ] : مؤرخ لليهودية ولصدر الإسلام ، وناقد للكتاب المقدس ( العهد القديم ) ، ألماني نصراني ، وفي سنة 1872 صار أستاذا ذاكر سي فى جامعة جريفسلد ، ثم أنتقل إلى جامعة هله halle فى سنة 1882 حيث قام بتدريس اللغات الشرقية وتنقل بين عدة مناصب فى العديد من الجامعات حتى تقاعد عام 1913 ، ومن مؤلفاته : " تاريخ اسرائيل ، " المدينة قبل الإسلام " و " تنظيم محمد للجماعة الإسلامية " ، وتاريخ الدولة العربية " ، وغيرها من المؤلفات . انظر : ( موسوعة المستشرقين ، لبدوي ( ص : 408 ) بتصرف .
(478) تاريخ الدولة العربية ، ليوليوس فلهاوزن (ص:8) ، ترجمه عن الإلمانية ،د.محمد أبو ريدة ، الألف كتاب ، القاهرة ، 1958.
(479) غوستاق لوبون : طبيب ومؤرخ فرنسي ، ولد عام 1841 م عنى بالحضارات الشرقية من آثار : حضارة العرب ، الحضارة . ( انظر " قالوا عن الاسلام " : ص 86 )
(480) حضارة العرب ، لغوستاف لوبون ،(ص:111)،في فصل : تأليف القرآن، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ط3، 1979 .
(481) تقدمت ترجمته ص 142 .
(482) القرآن والمستشرقون ،د.التهامي نقرة ،ص:28.
(483) تيودور نولدكة [ 1836-1931] : شيخ المستشرقين الألمان غير مدافع ، متقن للغات السامية الثلاث ( العربية ، السريانية ، العبرية ) ، وعنده لغات أخرى كثيرة ، حصل على الدكتوراة الأولى عام 1856 برسالة عن تاريخ القرآن ، وكان يبحث عن المخطوطات الشرقية ويعكف عليها لدراستها ، فسافر إلى فينا ثم ليدن ثم جوتا فى ألمانيا ثم برلين ثم روما ، لكنه لم يرحل إلى البلاد العربية أو الإسلامية مع أن تخصصه فيها ، عين فى جامعة كيل استاذاُ للغات السامية ، ثم تنقل بين مناصب عدة . ( موسوعة المستشرقين ، لبدوى ص : 595 )
(484) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره ، د. عمر بن إبراهيم رضوان، (1/387)، عن كتاب تاريخ القرآن لنولدكة (1/5).
(485) انظر تفصيل هذه الأقوال في كتاب آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره ، د. عمر بن إبراهيم رضوان، (1/381)، دار طيبة ، الرياض ، ط1،1992.
(486) مفهوم النص-دراسة في علوم القرآن،لنصر حامد أبو زيد (ص:27) ، من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1990، ضمن إصدارات ما تسميه الهيئة (دراسات أدبية).
(487) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/417).
(488) النبأ العظيم ، لعبد الله دراز ، ص:14-15
(489) ومن هذا الباب المجامع الفقهية وما فيها من اجتهاد جماعي ، ومنه ما في دول الغرب من عمل لجان متخصصة في الطب والفلك والأحياء والكيمياء والكهرباء والحاسوب وغيرها من العلوم ، فأثمرت هذه اللجان المتخصصة علوما وإبداعا، واكتشافا لا يستطيعه الفرد الواحد مهما بلغ من فرط الذكاء وسيلان ، الذهن وعبقرية العقل أن يبدعه .
(490) النبأ العظيم : (ص:16)
(491) القرآن والمستشرقون ، لنقرة ص:35، والمستشرقون وشبهاتهم حول القرآن ، محمد باقر الحكيم (ص:50)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت.
(492) أخرجه مسلم (كتاب الجهاد والسير ، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة فداء الإسرى ، رقم 1763).
(493) يعني أنه يجوز لولي الأمر بعد هذه الحادثة في الأسرى أن يفدي بهم أو يمن بالمجان أو يقتلهم .
(494) الطعمة : المكسب
(495) النبأ العظيم ،ص:27.
(496)
(497) متفق عليه (البخاري : كتاب تفسير القرآن، باب : تفسير سورة النجم ، رقم :4574، ومسلم : كتاب الإيمان ، باب معنى قول الله عز وجل ولقد رآه نزلة أخرى،رقم:177) واللفظ لمسلم.
(498) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد،باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم ،رقم: 6984).(7/368)
(499) الدكتور دراز لم يذكر فيما ذكر تقريعات مؤلمة بل إنما هي عتاب ، ولكن هناك آيات آخرى تدل على ما قال منها قوله تعالى (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)[الإسراء:74-75] وقوله(يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..)[المائدة:67]، وقوله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)[الحاقة:44-47].
(500) النبأ العظيم ، ص:24.
(501) دين الإسلام ، للايتنر ، ترجمة عبدالوهاب سليم (ص:132) ، المكتبة السلفية ، دمشق، 1423هـ.، وذكر أن لايتنر هو باحث انجليزي حصل على أكثر من شهادة دكتوراة في الشريعة والفلسفة واللاهوت ، زار الأستانة عام 1854م.
(502) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن ، باب قوله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، رقم :4393، ومسلم :كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر ، رقم : 2400).
(503) النبأ العظيم ،ص:28-30.
(504) شبهات حول القرآن وتفنيدها ، د.غازي عناية، (ص:21).
(505) النبأ العظيم ، ص:17-20.
(506) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن ، باب من سورة الأنعام ، رقم:3064) من طريقين مرفوعا عن علي رضي الله عنه ومرسلا عن ناجية بن كعب ، ويتقوى بعضها ببعض لاسيما أن السيوطي في الدر المنثور (3/264) ذكر أن عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه أخرجوه عن أبي ميسرة.
(507) آراء المستشرقين لرضوان (1/388).
(508) قال السيوطي في الدر المنثور (5/357): أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل.
(509) متفق عليه عن عائشة (البخاري:كتاب الشهادات ، باب تعديل النساء بعضهن بعضا ، رقم :2518، ومسلم : كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم :2770).
(510) النبأ العظيم ، ص: 20).
(511) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:56).
(512) متفق عليه (البخاري: كتاب الصلاة ، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم :399،ومسلم :كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ، رقم :525).
(513) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان ، باب بيان أنه سبحانه لا يكلف إلا الوسع، رقم :125).
(514) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ، رقم :2583.
(515) النبأ العظيم ، ص:30-34.
(516) تقدمت ترجمتها ص 187 .
(517) قالوا عن الإسلام(ص55)
(518) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن ، للحكيم (ص:52).
(519) النبأ العظيم ، ص : 34
(520) الحدس : الظن و التخمين.
(521) المقايسة : القياس و هو الاستدلال على الشيء بمثيله أو شبيهه .
(522) النبأ العظيم ، ص:38-47.
(523) انظر القرآن والمستشرقون لنقرة (ص:28).
(524) انظر كتاب رؤية إسلامية للإستشراق ، لأحمد غراب ،ص:15، وانظر :القرآن والمستشرقون لنقرة (ص:29).
(525) متفق عليه (البخاري: كتاب بدء الوحي ،باب بدء الوحي ، رقم :4، ومسلم :كتاب الإيمان ، باب بدء الوحي إلى رسول الله ،رقم : 160).
(526) تقدمت ترجمته ص : 100
(527) تعداد المسلمين جاوز المليار، ولكن هذا العالم يتحدث عن علمه ووقته حيث إنه ولد سنة 1795م .
(528) قالوا عن الإسلام (ص:123).
(529) انظر : القرآن والمستشرقون،د.التهامي نقرة (ص:25).
(530) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:54).
(531) انظر فتح الباري (1/30) فقد ذكر أن عند البيهقي حديث ( وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها الأرض من يقل ما يوحى إليه).
(532) متفق عليه (البخاري: كتاب فضائل القرآن ، باب :كيف نزل الوحي ، رقم:4982، ومسلم :كتاب التفسير،باب،رقم:3016).
(533) البخاري: كتاب الهدية وفضلها والتحريض عليها، باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه،رقم:2581.
(534) أخرجه مسلم :كتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة، رقم :400.
(535) البخاري : كتاب بدأ الخلق ،باب ذكر الملائكة، رقم:3218.
(536) متفق عليه (البخاري : كتاب تفسير القرآن،باب (ما ودعك ربك وماقلى، رقم:4950، ومسلم:كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم :1797)، وأحمد (رقم:18329) واللفظ لأحمد.
(1/45)
--------
المطلب الثاني : نقله من غيره , والرد عليهم :(7/369)
أولاً : يقرر بعض المشككين أو الطاعنين أن القرآن ليس من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه ليس من عند الله أيضا , بل هو مما نقله من غيره، كما قال ذلك مشركو مكة :إنه تعلمه من غلام نصراني . فقال الله تعالى: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ([النحل:103](...وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ([الفرقان:4]؛
وهذا الغير قد يكون أهل الكتاب , وقد يكون غيرهم.
وقد أُلَّفَتْ في هذا الطعن مؤلفاتْ استشراقية كثيرة منها(537) :
1-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، للمستشرق المجري بيرنات هيللر(1857-1943)،نشر عام 1928.
2-كتاب(الكلمات الأجنبية في القرآن)رسالة دكتوراة للمستشرق الألماني فرانكيل(1855-1909)، ليدن ،1878.
3-مراجع القرآن وعلومه ، للمستشرق الألماني بريتزل [ 1893 - 1941].
4-المصادر الأصلية للقرآن ، لتاسدول، طبع في لندن 1905.
5-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، سايدر سكاي،طبع في باريس 1932.
6-مصادر القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير،1939.
فهذه الكتب ألفت في هذا الطعن فقط ، وهناك كتب أخرى ذكر هذا الطعن في أثنائها منها :
دائرة المعارف الإسلامية , حيث يقولون :(إنه ليس في سورة الفاتحة أي شئ إسلامي خاص بل على العكس فيها ألفاظ يهودية ونصرانية)(538)،
وفيها أيضا:(القرآن عبارة عما كان عند الكهان , بدليل وجود السجع والقسم بالطبيعة)(539).
ويقول جولدتسيهر(540) : (إن القرآن ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها, واستقاها محمد بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها , التي تأثر بها تأثرا عميقا والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقة عند بني وطنه ، لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه , وأدركها بايحاء قوة التأثيرات الخارجية ,فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه , كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا)(541).
(ويزعم المبشر نلسن وغيره: أن الإسلام مقلَّد , وأن أحسن ما فيه مأخوذ من النصرانية , وسائر ما فيه مأخوذ من الوثنية.
وحكى الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام سوانح وخواطر" عن أحد المبشرين قوله : إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ ويكتب ، فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل, وأخذ تعاليمه منهما )(542) .
وفي كتاب "المنجد"(543) الذي ألفه النصارى -كمرجع في اللغة العربية والأعلام- قد رسمت صورة للنبي ( , وفيها أن الإنجيل أمامه وهو معه الريشة ينقل منه .
ويقول بلاشير(544):(كان أسلوب النبي في القرآن أول عهده بالدعوة مفعما بالعواطف، قصير العبارات ، فخم الصورة ، يقدم أوصاف العقاب والثواب في ألوان صارخة ، وكثيراً ما يكرر الآيات تَكراراً مملاً ، حتى تنقلب معانيها إلى الضد، فلما تقدم الزمن بالنبي فقد الأسلوب منهجه الأول،وأخذ يَقُصُّ في نغمات هادئة بديعة قصص الأنبياء ، مثلما تراه في قصة حب يوسف وزوجته بوتيفار، وكانت هذه الصورة مثيرة لخيال كثير من شعراء الفرس والترك، وفي آخر عهد النبي فقد الأسلوب كل حرارة وكل فن، وأغرم بالجدل الديني مع اليهود والنصارى)(545).
ويقول طه حسين(546) :(يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين , لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة ، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة , أو تأثيرات ببيئات متباينة ، فمثلا نرى القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة ، كما نشاهد أن القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه أمارة الثقافة والاستنارة ،فأنتم إذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي يتفرد بالعنف والشدة ، والقسوة والحدة والغضب والسباب , والوعيد والتهديد, مثل ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ([المسد:1-4]( وَالْعَصْرِ()إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ([العصر:1-2]( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إن ربك لبالمرصاد ([الفجر:13]( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ([التكاثر:5-6] ،ويمتاز هذا القسم أيضا بالهروب من المناقشة ، وبالخلو من المنطق فيقول : ( قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( [الكافرون:1-6].(7/370)
ويمتاز كذلك بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات ، والخلو التام من التشريع والقوانين ،كما يكثر فيه القسَمُ بالشمس والقمر والنجوم والضحى والفجر والعصر والليل والنهار والتين والزيتون ... إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة ,التي تشبه بيئة مكة تأخرا وانحطاطا.
وأما القسم المدني فهو هاديء لين , وديع مسالم ، يقابل السوء بالحسن , ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين, فيقول( َوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ([الأنبياء:22].
ويهجر مع أعدائه الترهيب والقسوة, ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة , فيقول ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [آل عمران:31]، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب( [الطلاق2-3].
كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية ,كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق و البيوع وسائر المعاملات ، ولا شك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية , التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة ، يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن.
أما طول آياته في هذا القسم , فهذا أمر جلي ظاهر ؛ لأن إحدى آياته قد تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي ، أما أفكاره فهي منسجمة متسلسلة , ترمي أحيانا إلى غايات اجتماعية وأخلاقية.
وعلى الجملة فإن ما في هذا القسم المدني من هدوء ومنطق وتشريع وقصص وتاريخ , يدل دلالة صريحة على أن الظروف التي أحاطت بهذا الكتاب , أبان نشأته قد تطورت تطورا قويا)(547).
وقال الخوري الحداد(548) : (إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية , توراتية مسيحية يهودية، والقرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة , المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها ، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله، وكان محمد متأثرا إلى أبعد الحدود باليهود والنصارى ، واليهودية والنصرانية والتوراة والإنجيل , حتى كأنه واحد منهم مع غلبة المسحة المسيحية)(549) .
وقال : ( والسر الكبير في ثقافة محمد الكتابية والإنجيلية , وجود العالم المسيحي ورقة بن نوفل من بني أسد ابن عم السيدة خديجة في جوار النبي ، وهو الذي زوجة ابنة عمه ، فقد أجمعت الآثار على أن ورقة تنصر , وكان يترجم التوراة والإنجيل إلى العربية ، فهو إذن عالم مسيحي كبير ، وقد عاش محمد في جواره خمسة عشر عاما قبل مبعثه، ألا تكفي هذه المدة لنابغة العرب محمد بن عبدالله , لكي يأخذ عنه شيئا من علوم التوراة والإنجيل، وينص صحيح البخاري على أن ورقة هو الذي ثبَّّتَ محمدا في دعوته وبعثته لما عاد خائفا من غار حراء ، وعلى أن الوحي فتر لما توفي ورقة، وحاول محمد الانتحار مرارا لفقده وفتوره ، ونجد في المدينة في معية النبي حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام ، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي . وصهيبا الرومي المسيحي الثري ، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل ، وعبدالله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار ، وهل كان حديث هذه الحاشية الكريمة سوى التوراة والإنجيل ؟ إن ذلك حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها ,وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل)(550).
وقد ذهب إلى أبعد من ذلك المستشرق كليمان هواز(551) ,حيث كتب فصلا زعم فيه أنه اكتشف مصدرا جديدا للقرآن ، وهو شعر أمية بن أبي الصلت، ومن ذلك قوله :
وَيَوْمَ مَوْعِدِهِمْ أنْ يُحْشَرُوا زُمَراً يَوْمَ الَتَّغَابُنِ إذُ لا يَنفَعُ الحَذَرُ
مُسْتَوسِقِيَنَ مَعَ الدَّاعِي كَأَنَّهُمُ رِجْلُ الجَرادِ زَفَتْهُ الرَّيحُ مُنْتشرُ
بَرَزُوا بصعيد مستوٍ جَزِرٍ وأُنْزِلَ العَرْشُ والميزانُ والزُبُرُ
تَقُولُ خُزَّانُها مَا كَانَ عِنْدُكُمُ أًلُمْ يَكُنْ جَاءَكُمْ مِنْ رَبَّكُمْ نُذُرُ
قالوا بَلَى فتبَِعْنا فَتْيةً بَطَرُوا وَغَرَّنَا طُولُ هذا العَيْشِ والعُمُرِ(552)
وأورد توسدال(553) شبهته السابقة وقال :إن من مصادره- القرآن- شعر امرئ القيس حيث قال : دَنَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرْ عَنْ غَزَالٍ صَادَ قَلْبِي ونَفَرْ
أَحْوَرُ قَدْ حِرْتُ في أَوْصَافِِِهِ نَاعِسُ الطَّرُفِ بعَيْنَيهِ حَوَرْ
بِسهَامٍ مِنْ لحاظٍ فَاتِكٍ تَرَكَتْنِي كَهَشِيِمِ المُحْتِظِر(554)
ولو أردنا أن نجمع أقول كل من تكلم لطال بنا المقام (555).
ثانياً الرد على من زعم أنه نقل من غيره:
1-لقد تكفل الله تعالى بالرد على هذه الشبهة:(7/371)
وبالسبر والتقسيم القول : إن القرآن يمكن أن يأتي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أربع طرق: من عند نفسه ، من عند شخص ، من كتاب ، من الله تعالى ,أما من عند نفسه فقد تقدم معنا الرد على هذه الشبهة بأكثر من عشرة أوجه ، (556)
-أما من عند شخص ؛ فمن هو هذا الشخص ؟ أكثر الطاعنين على أنهم نصارى أو يهود ، فرد الله تعالى عليهم أن لسان أولئك القوم ولغتهم أعجمية ، ولكن لغة هذا القرآن عربي مبين، فكيف للأعجمي أن يأتي بأعلى الفصاحة وذروة البلاغة في اللغة العربية : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ( [النحل:103] .
-أما من كتاب ، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقرأ ولا يكتب :( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ([العنكبوت:48]،
- فلم يبق إلا أنه من الله تعالى .
2-العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية قبل الإسلام ، وقد نص على ذلك المستشرقون أنفسهم ، فهذا (جوتين) يقول عن صحائف اليهود :(إن تلك الصحائف مكتوبة بلغة أجنبية )(557)، وقد أشارت الموسوعة البريطانية إلى عدم وجود ترجمة عربية لأسفار اليهود قبل الإسلام وأن أول ترجمة كانت في أوائل العصر العباسي , وكانت بأحرف عبرية(558) .
كيف إذن أخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منها، لابد على المستشرقين أن يفتروا كذبة جديدة , وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) درس لغة التوراة فكان يترجمها للقرآن؟!!.
3-ومن لطائف الاستدلال على أنه لم ينقل من غيره ما يذكره العلماء في فوائد أسباب النزول؛ إذ يذكرون أن من فوائد أسباب النزول أن دلالته على إعجاز القرآن , وأنه من الله تعالى من ناحية الارتجال ، فنزوله بعد الحادثة مباشرة يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين ، أو من كتب السابقين(559) ، فلو كان ينقل كتابه من كتب غيره , لكان إذا سأله سائل يتريث حتى يراجع الكتب التي عنده , وينظر ماذا تقول في هذه المسألة ثم يجيب، ولكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يفعل , بل يسأله الرجل فيعطيه الجواب الموافق للصواب، الذي لم يكن قرأه ولا عرفه إلا في هذه اللحظة التي نزل عليه فيها , وقد ذكرت في مبحث أدلة صدق النبي وقائع كثيرة تدل على هذا المعنى .
4- من أوضح الأدلة على رد دعوى النقل من , غيره التحدي أن يأتي بمثله ، كما تقدم تفصيل هذا في الردود العامة.
5-لو كان القرآن مأخوذا من التوراة والإنجيل والكتب السابقة , لما استطاع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتحدى الناس ويقدم على هذا الخطأ الفادح ؛ لأن هذه الأصول المنقول عنها موجودة في متناول أيدي الجميع ، فلماذا يتحدى الناس بشيء موجود ، ألا يخشى أن يقوم بعض الناس بالرجوع إلى مراجعه والعمل مثل عمله، فينكشف؟
6-ثم هذه الأساطير والمراجع ليست خاصة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) , بل هي كتب متداولة بيد الجميع, فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها؟.
7-(افتراض تعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من نصارى الشام ويهود المدينة وغيرهم, لا يتفق مع الحقيقة التاريخية التي تحدثنا عن الحيرة والتردد في موقف المشركين من رسول الله في محاولتهم لتفسير ظاهرة الرسالة ؛ لأن مثل هذه العلاقة مع النصارى أو اليهود لا يمكن التستر عليها أمام أعداء الدعوة من المشركين وغيرهم، الذين عاصروه وعرفوا أخباره وخبروا حياته العامة بما فيها من سفرات ورحلات)(560).
8-وجود بعض الشرائع في القرآن , التي تتفق مع ما في التوراة والإنجيل , أو حتى ما عند العرب ليس في هذا دليل على أنه مأخوذ منها، فالقرآن لم يأت لهدم كل شيء , بل لتصحيح الخطأ وإقرار الحق، فالصدق والشجاعة والكرم والحلم والرحمة والعزة كل هذه المعاني موجودة عند كفار مكة ومع هذا جاء الإسلام ولم يغير منها شيئا بل باركها وحث عليها،لذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :« إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ » (561). ولم يقل: لأنشئها .
إذن ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل ، أن يشجب كل الوضع الذي كانت الإنسانية عليه قبله حتى يثبت صحة نفسه ، فمن الطبيعي أن يقر القرآن بعض الشرائع، سواء في الكتب السابقة السماوية , أو في عادات الناس وأعرافهم ، وأما الخطأ فإنه لا يقره(562)، وقد نص القرآن على هذا المعنى في مثل قوله تعالى :( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ( [يونس:37].(7/372)
9-كيف يمكن اعتبار التوراة والإنجيل من أهم مصادر القرآن مع أن القرآن, خالفها في كثير من الأشياء ؛ ففي بعض الأحداث التاريخية نجد القرآن يذكرها بدقة متناهية ,ويتمسك بها بإصرار ، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتجاهل بعضها ،على الأقل تفاديا للاصطدام بالتوراة والإنجيل) )563) .
(ففي قصة موسى يشير القرآن إلى أن التي كفلت موسى هي امرأة فرعون ، مع أن سفر الخروج يؤكد أنها كانت ابنته ، كما أن القرآن يذكر غرق فرعون بشكل دقيق , لا يتجاهل حتى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع موته وهلاكه، في الوقت الذي نجد التوراة تشير إلى غرق فرعون بشكل مبهم، ويتكرر نفس الموقف في قضية العجل ؛حيث تذكر التوراة أن الذي صنعه هو هارون، وفي قصة ولادة مريم للمسيح- عليهما السلام- وغيرها من القضايا)(564).
10-من المعلوم أن في القرآن ما لا وجود له في كتب اليهود والنصارى ، مثل: قصة هود وصالح وشعيب ، فكيف أتى بها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟(565).
11-وإذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ من النصارى الذين خالطهم؛ من أمثال سلمان , وصهيب وورقة، فلِمَ لم يفضحوه عندما سب النصارى وكفرهم في كتابه في عدة آيات ، حتى إن سورة المائدة ، وهي من آخر السور نزولا , كانت من أكثر السور تكفيرا للنصارى (566) ؟ ذكر الآيات التي تكفر النصارى من سورة المائدة .
12-من تناقضهم زعمهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ القرآن من سلمان وصهيب النصرانيين وابن سلام اليهودي وغيرهم ممن أسلم من أهل الكتاب(567) ، وحقيقة الأمر أن إسلام هؤلاء حجة عليهم ، إذ لو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ القرآن والشريعة من أهل الكتاب ، فلماذا يتركون الأصل ويذهبون إلى الفرع؟
13-إذا كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ دينه من اليهود والنصارى (والقرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها ، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله)،كما يقول الخورى الحداد , فلماذا إذن هذه الحرب الشعواء عليه ؟ ولماذا هذا الطعن في كتاب مأخوذ من الإنجيل والتوراة ؟ أليس حقيقة هذا الأمر أنه طعن في الأصل المأخوذ منه ؟،
أم أن هؤلاء الطاعنين علموا في قرارة أنفسهم أنه كتاب عظيم منزل من الله تعالى , وأنه ناسخ للشرائع السابقة ؛ فهالهم هذا الأمر وحاولوا تنفير الناس منه بأي طريق ,فأخذوا يتكلمون بأي كلام ,لا لشيء إلا بغضا لهذا الكتاب , فجرفهم الحماس حتى قالوا كلاما طعنوا به في التوراة والإنجيل -التي يدينون بها-وهم لا يشعرون.
14-لقد شهد المنصفون من المستشرقين بضد ذلك:
يقول المستشرق الإنجليزي لايتنر(568):( بقدر ما أعرف من دِينَيِ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد ليس اقتباساً , بل قد أوحى إليه ربه, ولا ريب بذلك )(569).
ويقول هنري دي كاستري :(ثبت إذن أن محمدا لم يقرأ كتابا مقدسا , ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه )(570).
15-وأما قول طه حسين :(وأما القسم المدني فهو هاديء لين وديع مسالم ، يقابل السوء بالحسن , ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين : فيقول ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ([الأنبياء:22] ،ويهجر مع أعدائه الترهيب , والقسوة ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة).
فنقول : إن من غيرك ممن يوافقك أو توافقهم النصارى المبشرين والمستشرقين يخالفونك هنا فهذا الخوري الحداد يقول:(حين استقر محمد في المدينة انقلب انقلابا شاملا كاملا، انقلابا في الدعوة ، فقد دخلت السياسة الدين ، وانقلابا في الداعية الذي أصبح رجل دولة وحرب ، وانقلابا في طريق الدعوة لقتال المشركين إلى أن يؤمنوا , والكتابيين حتى يخضعوا للجزية ، انقلابا في الأسلوب حيث كان بالحكمة والموعظة الحسنة ,فصار بالقتال والجهاد)(571)، فمن نصدق؟، والحق أن أسلوب القرآن واحد ، ولكنه يشتد مع الكافرين , ويتلطف مع المؤمنين(572) .
16-وأما الحداد فقد حشى كتبه بالتناقض المضحك ،ونقول له : ( وكفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( . فإليك هذه الطامة ؛ إنه يقرر بكل وضوح وقوة أن القرآن (نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها ، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله) ،ويدلل على هذا بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذه من ورقة وغير ذلك من الأدلة الكثيرة التي ساقها.
ويقول :إن ذلك حجة قاطعة على بيئة النبي , والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها, وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل).(7/373)
ثم يعقد فصلا بعنوان (هل للقرآن من مصدر) فيجيب:( المصدر الأول للقرآن هو الله؛ وهذه قضية إيمانية لا تُمس)(573)، وإن تعجب فعجب تناقضه واضطرابه وحيرته ، وهذه كافية في نسف كل ما قال ، ولكن مع هذا سنكمل قراءة نص كلامه ، ومع قلته إلا أنه حوى من المغالطات الشيء الكثير ، فهو تارة يكذب كذبا صريحا , مثل قوله : وهو-يعني ورقة- الذي زوجه ابنة عمه)، مع أن كتب السيرة تذكر أن خديجة هي التي كانت راغبة في النبي ( صلى الله عليه وسلم ), وأرسلت له تعرض في زواجها ، وأن الذي خطبها له هو عمه أبو طالب من عمها عمرو بن أسد(574) ، وكيف لورقة أن يزوجها-وهو ابن عمها- مع وجود أعمامها الذين هم أقرب منه وأحق في الولاية ؟!
- (وقد عاش محمد في جواره خمسة عشر عاما قبل مبعثه) .لم تذكر كتب السيرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) التقى بورقة إلا تلك المرة ، فكيف يزعم أنه لازمه خمس عشرة سنة ؟ ثم لو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعرفه هذه المعرفة لما احتاج إلى خديجة لتوصله إليه ، ويكفى في الرد على هذا الكلام أنها دعوى لا دليل عليها.
- (وينص صحيح البخاري على أن ورقة هو الذي ثَََبَّتَ محمدا في دعوته وبعثته ,لما عاد خائفا من غار حراء) . وانظر إلى هذه المكابرة ، فقد نص الحديث أن التي ثبتته هي خديجة - رضي الله عنها- وأما ورقة فقد خوفه فقال: ( ليتني فيها ، جَذِعاً يا ليتني أكونُ فيها حياً حين يخرج قومك ،فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ »؟ قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ, لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ . في رواية :عُودِيَ) . وإليك نص الحديث كما في الصحيحين؛(7/374)
عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ( قَالَتْ : كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ, ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -قَالَ:وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ, وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ , فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ, فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ :اقْرَأْ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « مَا أَنَا بِقَارِئٍ ». قَالَ :« فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي » ،فَقَالَ :اقْرَأْ . قُلْتُ : « مَا أَنَا بِقَارِئٍ ». « فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي »،فَقَالَ :اقْرَأْ . قُلْتُ : « مَا أَنَا بِقَارِئٍ ». « فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي »،فَقَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (. فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ،فَقَالَ :« زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ». فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ،قَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ،فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ،قَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ,فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ,وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ,وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ,وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ,وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ،فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ( خَبَرَ مَا رَأَى ،فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حين يخرجك قومك ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : « أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ » قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ , لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا أُوذِيَ-وفي رواية :عودي- وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ،وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ))(575).
وإذا كان ورقة يعرف حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ),وأنه لازمه خمس عشرة سنة , وأخذ منه القرآن، فلماذا يقول :(هذا الناموس -يعني الوحي-الذي أنزل على موسى) ويقول:(وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا) أليس في هذا تصديق له وإثبات صحة نبوته، أم أن الحدادي يأخذ من الحديث ما يوافق هواه ويعرض عن غيره.
-وقوله:(ونجد في المدينة في معية النبي حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي وصهيبا الرومي المسيحي الثري ، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل ، وعبدالله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار): فانظر كم حوى هذا النص من المغالطات، فصهيب لم يكن من الأثرياء ،بل كان فقيرا معدما مستضعفا(576) ، وسلمان لم يكن مسيحي ، الأصل بل كان مجوسيا ثم تنصر ثم أسلم بعد وصية الراهب النصراني له بذلك(577) ، وعبدالله بن سلام لم يكن الوحيد الذي أسلم من اليهود ، فهناك الغلام اليهودي جار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي عاده من مرضه فأسلم، بن وصفية بنت حيي بن أخطب وغيرهم(578) ،وكعب الأحبار لم يدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، بل هو من التابعين.(579)
فيا الله ؛كيف يلقى الهوى صاحبه في مهاوًى ومزالق.(7/375)
17- وأما زعمهم أن من مصادر القرآن شعر أمية بن أبي الصلت ؛ (فإن الغريب في الأمر أن المستشرقين يشكون في صحة السيرة النبوية نفسها، ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود ، فلا يرونها مصدرا تاريخيا صحيحا ، فهم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة ويغلون في هذا الموقف ، ولكنهم يقفون من أمية وشعره موقف المتيقن المطمئن ، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من السيرة، فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو هذه الأخبار دون الأخرى)(580).
الأمر الآخر كذبهم في هذه الدعوى ؛ فشعر أمية بن أبي الصلت ، وشعر امرؤ القيس محفوظ معروف فلا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لإثبات بطلان دعواهم ؛ يقول العقاد : (وأيسر ما يبدو من جهل هؤلاء المخاطبين في أمر اللغة العربية قبل الإسلام ، وعلاقتها بلغة القرآن الكريم ، أنهم يحسبون أن العلماء المسلمين يجدون في بحث تلك الأبيات وصبا واصبا لينكروا نسبتها إلى الجاهلية ، ولا يلهمهم الذوق الأدبي أن نظرة واحدة كافية لليقين بإدحاض نسبتها إلى امرئ القيس أو غيره من شعراء الجاهلية)(581).
ولقد بحثت في ديوان امرئ القيس فلم أجد هذه الأبيات .
وأما أمية بن أبي الصلت ، فإن بعض العلماء نسبوا هذه الأبيات له ، ولكن أمية أدرك الإسلام ورأى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وسمع القرآن من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مكة ، وانصرف عنه فتبعته قريش تسأله عن رأيه فيه ، فقال : أشهد أنه حق ، قالوا: هل تتبعه ؟ قال: حتى أنظر في أمره . وخرج إلى الشام وهاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة ، وحدثت وقعة بدر وعاد أمية من الشام يريد الإسلام ، فعلم بمقتل أهل بدر وفيهم ابنا خال له ، فامتنع وأقام في الطائف حتى مات(582)، فهو الذي تأثر بالقرآن ولم يتأثر القرآن به ، وشهد على صحة القرآن ، هذا وقد ذكر في ترجمته أنه كان مطلعا على الكتب القديمة ، ويلبس المسوح تعبدا ، وهو ممن حرموا على أنفسهم الخمر ، ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية(583)؛ فهو إنما أخذ معنى هذا الشعر من الكتب السماوية السابقة التي كان يطلع عليها.
ولو سلمنا جدلا بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ هذا الموضع من أمية ، فما هو المانع أن يجري الله الحق على ألسنة بعض الناس ،وينزل القرآن موافقا لما قالوا، كما حصل هذا مع عمر كثيرا.
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ قُلْتُ :يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ، فَنَزَلَتْ ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ( وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ ( فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ لَهُنَّ :( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ( فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ )(584).
وقد قررنا أن القرآن جاء ليقر الحق ويصحح الخطأ.
ثم نقول لهم : إن العرب -الذين بعث فيهم النبي ( صلى الله عليه وسلم )-كانوا أعرف الناس بالشعر ، وأحرص الناس على الطعن في القرآن ؛ ومع هذا لم يورد أحد منهم هذا الطعن الساذج.
0000000000
(537) انظر المستشرقون والدراسات القرآنية ، للدكتور محمد حسين الصغير ، (ص:118-120)، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر ،ط2،1986.
(538) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:16).
(539) دائرة المعارف الإسلامية الإستشراقية ص : 27.
(540) مستشرق مجري يهودي مشهور (1850-1921) اعتنى بالعلوم الدينية الإسلامية عناية خاصة وألف في هذا المجال عدة كتب منها:الظاهرية مذهبهم وتاريخهم ، دراسات إسلامية ، محاضرات في الإسلام ، اتجاهات تفسير القرآن عن المسلمين ، أقام في القاهرة فترة ، وفي أثناء هذه الفترة استطاع أن يختلف إلى بعض الدروس في الأزهر ، وكان ذلك بالنسبة إلى أمثاله امتيازا كبيرا ورعاية عظيمة ، اغتر به الكثير لسعة اطلاعه وإنصافه في بعض الأحيان ، ولكنه كان يدس السم في العسل ، فلا تجد طعنا من الطعون إلا وله فيه نصيب.انظر : ( موسوعة المستشرقين للدكتور عبدالرحمن بدوي ، ص : 197-203) بتصرف وزيادة.
(541) العقيدة والشريعة في الإسلام لجولدتسيهر ص:12، عن كتاب القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين ، للدكتور أحمد الشاعر(ص:93)دار القلم ، الكويت،ط2،1982، وانظر القرآن والمستشرقون ، لنقرة(ص:31).
(542) رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم ،للدكتور محمد جمعة عبدالله (ص:263) ، جامعة أم القرى، ط1،1985.
(543) في حرف الميم عند ذكر اسم (محمد) وقد حذفت هذه الصورة من الطبعات الجديدة للكتاب.(7/376)
(544) ريجي بلاشير(1900-1973)ولد في باريس ، وسافر مع أبويه إلى المغرب، وقضى دراسته الثانوية في مدرسة فرنسية في الدار البيضاء، وتولى عدة مناصب كان آخرها تعينه أستاذا للغة العربية الفصحى في المدرسة الوطنية للغات الشرقية في باريس من 1950إلى1970، ومن كتبه :تاريخ الأدب العربي منذ البداية حتى نهاية القرن الخامس عشر، وتوفي دون أن يتمه ، وترجمة القرآن إلى اللغة الفرنسية.(انظر : موسوعة المستشرقين، لعبدالرحمن بدوي ؛ ص : 127 بتصرف).
(545) القرآن والمستشرقون (ص:32).
(546) طه بن حسين بن علي بن سلامة ،ولد 1889، وتوفي 1973، دكتور في الأدب ،من كبار المحاضرين، ولد في قرية الكيلو بمغاغة من محافظة المنيا ، وأصيب بالجدري في الثالثة من عمره فكف بصره ، وبدأ حياته في الأزهر ثم بالجامعة المصرية القديمة ، وهو أول من نال شهادة الدكتوراة منها عام 1914، بكتاب (ذكرى أبي العلاء) وسافر في بعثة إلى باريس فتخرج بالسوربون (1918)وعاد إلى مصر فعين محاضرا في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ثم كان عميدا لتلك الكلية ، كوزيرا للمعارف ، وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي المراسلين بدمشق ، ثم رئيسا لمجمع اللغة العربية بمصر، ثارت حوله ضجة كبيرة بسبب جرأته الكبيرة في نقد القرآن لاسيما في كتابه (في الشعر الجاهلي) ، وله مؤلفات كثيرة .انظر : الأعلام للزركلي (3/231) بتصرف .
(547) من مذكرة أملاها طه حسين على طلابه في كلية الآداب بالجامعة المصرية ،ثم أخذها النائب عبدالحميد سعيد وألقى بيانا في مجلس النواب في دورة سنة 1932عن موقف طه حسين من القرآن ، ونقل هذه المادة بنصها ، ثم نقلها ورد عليها محمد أحمد عرفة -وكيل كلية الشريعة الإسلامية- في كتاب اسماه نقض مطاعن في القرآن الكريم ، وطبع في مطبعة المنار بمصر ، ووقف على تصحيحه وعلق على بعض حواشيه السيد محمد رشيد رضا ، ط1، 1351هـ ، (ص:4-7) .
(548) يوسف إلياس الحداد ، مبشر لبناني وكان يلبس بزة الخوارنة المسيحيين ،كرس جهوده في الهجوم على القرآن والإسلام ، وألف في ذلك كتبا منها: الإنجيل والقرآن، والقرآن والكتاب ، ونظم القرآن والكتاب ،وغير ذلك من الكتب ، وقد تصدى له وكشف عواره ورد عليه ردا مفحما الأستاذ محمد دروزة في كتابه (القرآن والمبشرون)،طبعه المكتب الإسلامي في بيروت ،ط2،1972، وانظر ترجمة الحداد في مقدمة الكتاب .
(549) انظر القرآن والمبشرون (ص:94-95).
(550) القرآن والمستشرقون لنقرة ،ص:37-38.
(551) كليرنسدال : لم أجد له ترجمة , والظاهر أنه على قيد الحياة , له كتاب بعنوان مصادر الإسلام في 216 صفحة وستة فصول , وطبع في الهند . ( انظر : "آراء المستشرقين حول القرآن " عمر إبراهيم (1/125)
(552) القرآن والمستشرقون لنقرة ص:34.
(553) لم أجد له ترجمة
(554) المرجع السابق ص:34.
(555) وقد ألف د.إبراهيم عوض كتابا بعنوان (مصدر القرآن:دراسة لشبهات المستشرقين المبشرين حول الوحي المحمدي) ،طبعته مكتبة زهراء الشرق في القاهرة ، 1997، وهو جيد في بابه ، وانظر : من أساليب الغزو الفكري الطعن في القرآن الكريم، للدكتور نبيل غنايم ، (ص:529-531)، وهو بحث نشر في مجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد السابع ، الجزء الرابع) سنة 1992.
(556) راجع ص السابقة .
(557) دراسات في تاريخ الإسلام ونظمه ، س. د. جوتين ، نقلا عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده ، لمحمود ماضي ، (ص:147).
(558) المرجع السابق(ص:148).
(559) ذكر هذه الفائدة الطاهر بن عاشور في كتابه التحرير و التنوير (1/50).
(560) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن ، لمحمد باقر الحكيم (ص:43).
(561) أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة (8729)، رواه الإمام مالك في الموطأ بلاغا من غير إسناد (كتاب الجامع ، باب ما جاء في حسن الخلق)بلفظ (بعثت لأتمم حسن الخلق )، وأخرجه البزار بلفظ (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(انظر فتح الباري (6/665).
(562) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن ، للحكيم (ص:61).
(563) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن (ص:46).
(564) المرجع السابق (ص:47).
(565) الوحي القرآني من المنظور الاستشراقي ونقده ، لماضى (ص:148)، الجواب الصحيح لابن تيمية (3/25)،(4/57).
(566) الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده ، لماضي (ص:148).
(567) انظر القرآن والمستشرقون ، لنقرة ،ص:35.
(568) تقدمت ترجمته ص :211 .
(569) الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده ، لماضي (ص:149).
(570) المرجع السابق.
(571) انظر القرآن والمبشرون ،لدروزة (ص:95) بتصرف يسير.
(572) وانظر كتاب : نقض مطاعن في القرآن الكريم ، لمحمد عرفة ، فقد رد على هذه الفقرة ردا مطولا مفصلا ، مبينا فيها أن القرآن يتميز بوحدة الأسلوب في المكي والمدني ، (من ص:15إلى56)، والمستشرقون وشبهاتهم حول القرآن ، لمحمد باقر الحكيم (من:64-70).(7/377)
(573) انظر القرآن والمستشرقون ، لنقرة (ص:39) نقلا عن كتاب الحداد (القرآن والكتاب) ص:298 .
(574) انظر فصل : من الذي زوج خديجة ، من كتاب الروض الأنف شرح السيرة النبوية لابن هشام ، للإمام السهيلي (2/238)، تحقيق عبدالرحمن الوكيل ، الناشر مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، 1993.
(575) متفق عليه ( البخاري : كتاب بدء الوحي , باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رقم : 3 ومسلم : كتاب الإيمان , باب ب بدء الوحي إلى رسول الله رقم : 160 ).
(576) انظر ترجمته في الإصابة في ترجمة الصحابة لابن حجر (3/449) ، تحقيق علي البجاوي، دار الجيل ، بيروت ، ط1،1992 ، نعم ذكروا أنه ترك ماله ليهاجر ،وأن أهل مكة لم يسمحوا له حتى ترك كل ماله، ولكن لم يذكروا أن هذا المال كان كثيرا بحيث كان من الأثرياء، وحتى لو كان فلماذا ترك هذا الثراء وتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ألا يدل هذا أن صهيبا عرف صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟.
(577) انظر حديثه الطويل في قصة إسلامه في مسند الإمام أحمد (رقم :23225) وإسناده صحيح.
(578) انظر فتح الباري لابن حجر (7/322) في شرح الحديث المتفق عليه (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي يهود) حيث قال : (الْمُرَاد عَشَرَة مُخْتَصَّة وَإِلَّا فَقَدْ آمَنَ بِهِ أَكْثَر مِنْ عَشَرَة وَوَقَعَ عِنْد اِبْن حِبَّان قِصَّة إِسْلَام جَمَاعَة مِنْ الْأَحْبَار كَزَيْدِ بْن سَعَفَة مُطَوَّلًا . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ يَهُودِيًّا سَمِعَ النَّبِيّ (يَقْرَأ سُورَة يُوسُف فَجَاءَ وَمَعَهُ نَفَر مِنْ الْيَهُود فَأَسْلَمُوا كُلّهمْ ) انتهي بتصرف واختصار.
(579) انظر كتاب الأعلام للزركلي ( 5/288 )
(580) القرآن والمستشرقون ، لنقرة (ص:33).
(581) إسلاميات ، لعباس محمود العقاد ص:51-53، مصر ، دار الشعب، وانظر كتاب قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية (نقد مطاعن ، ورد شبهات)، د.فضل حسن عباس، (ص:46)، دار البشير ، الأردن، ط2،1989.
(582) الأعلام للزركلي (2/23).
(583) المرجع السابق .
(584) متفق عليه : ( البخاري : كتاب الصلاة ، باب ما جاء في القبلة ومن لم ير الإعادة ، رقم : 394، ومسلم :كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر ، رقم : 2399).
(1/46)
المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته ، والرد عليهم (585):
أولا : هذا لون آخر من ألوان المواجهة البغيضة ضد القرآن، وهو ليس موجها ضد النص القرآني في مصدره الإلهي ، ولكنه يستهدف أثر القرآن في الحركة الفكرية والتقدم العلمي.
فهو قد يقر بأن القرآن من عند الله ، ولكن هذا الأمر لا يجعله يسلم من النقد والمخالفة ، وحقيقة هذا الطعن أنه إنكار لقدسيته ، وأنه من عند الله ولكن بأسلوب ذكي ؛ لأنه يعلم أنه لو صرح بإنكار القرآن وأنه ليس من عند الله ، فسوف يلقى طوفاناً من المواجهة والتهم التي قد تصل إلى تكفيره ؛فلجأوا إلى هذه الشبهة و مؤداها هو نفس مؤدى إنكار القرآن ، فأهم قضية عند المسلمين -وهي التي تؤرق الكافرين وأذنابهم- أن القرآن قدسي لا يقبل النقد ، وحاكم واجب الاتباع .
و (يتزعم هذه النزعة ضد الإسلام الفيلسوفان الألمانيان ؛ تنمان المتوفى 1829 وبروكر المتوفى 1770، والفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى 1947، ويرى هؤلاء أن أهم عوامل الركود في العقلية العربية وضآلة الفكر الإسلامي ترجع إلى القرآن أولا، فهو كتاب المسلمين المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر)(586).
وبما أنه يعوق النظر العقلي الحر فيجب هجره وعدم التعويل عليه أو التحاكم له ،
ويقول طه حسين: (لا شك أن الباحث الناقد ، والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر)(587).
ويقول :(إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر ، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام ، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية ، أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة ، فالأمة تتجد بمعزل عن الدين)(588).
ويقول نصر حامد أبو زيد :(آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر ، لا من سلطة النصوص وحدها ، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا ، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان)(589) ،
وكتب نصر أبو زيد ومحمد أركون الجزائري(590) تدور حول هذه القضية وأن القرآن -لو سلمنا بسلامة نصه وأنه من الله- فإن مفهومه ليس إلهيا ولا مقدسا بل هو إنساني(591) ،ولنضرب بعض الأمثلة لكلامهم في هذا الباب :(7/378)
يقول نصر أبو زيد: (إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه ، لكنه من حيث مفهومه يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوما يفقد صفة الثبات ، ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية(592) لا ندري عنها شيئا ، والنص منذ لحظة نزوله الأولى ، تحول من كونه (نصا إلهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا)؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن فهم النبي ( صلى الله عليه وسلم )(593) للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص ، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية...)(594)،
ويقول عن القرآن :(كتاب العربية الأكبر وإثرها الأدبي الخالد دون نظر إلى اعتبار ديني)(595)، ويقول (إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي )(596). ويقول : (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه ، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب)(597).
وهذا هو أساس المذهب العلماني الذي ينطلق من مبدأ عزل الدين عن السياسة ، وينتهي بعزل الدين عن الحياة(598) .
ثانيا : الرد عليهم:
يحسن فى بداية هذا الرد أن أقرر أن ثمة فرقاً كثيرة من الفرق المنحرفة ، فتحت هذا الباب للطاعنين ؛ منها المعتزلة في دعواهم تقديم العقل على النقل(599) ، ومنها الصوفية في دعواهم أن للقرآن معنى ظاهرا وباطنا ، وأن الباطن لا يفهمه إلا كبار مشايخ الصوفية ،وأن الكشف والرؤى والمنامات أهم مصادر التلقي عندهم(600) ، ومنها الشيعة الذين يقدمون قول الأئمة على القرآن(601) .
لذلك كان من أهم ما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة ما يسمى بمنهج التلقي (602)، فهم يعتمدون في تلقى الأحكام الشرعية على القرآن والسنة والإجماع والقياس ، وغيرها من الأدلة التي يذكرها كل من تكلم في علم أصول الفقه ، ويعتمدون في الفهم على فهم السلف الصالح للنصوص.
والرد على هؤلاء وهؤلاء كالتالي:
إذا ثبت أن القرآن ليس من عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنه من الله تعالى بكل ما فيه من كلمات وحروف-كما أثبتنا هذا في المباحث السابقة- فهو إذن مقدس لا يمكن الاعتراض عليه ولا نقده ، فقد أمر الله الناس باتباع الشرع ، والأمر يدل على الوجوب ؛ فقال سبحانه :
( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( [يونس:109]،فكيف نخالف أمر الله تعالى بأن نتبع غير الوحي؟
ومن أعظم معاني العبادة الرضى به حَكَمًا سبحانه :
( ..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( [يوسف:40]، فالدين القيم أن تجعل تحاكمك لله ، والتحليل والتحريم والتشريع من خصائص الربوبية ، ومن جعلها لغير الله فقد اتخذه ندا له سبحانه:
( ...إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ( [الأنعام:57].
والحصر يدل على انفراد الله تعالى بالحكم .
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( [التوبة:31]
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : " أَتَيْتُ النَّبِيَّ ( وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ،فَقَالَ : يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ " . وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. ( (603).
يعني أنهم لم يتخذوهم أربابا لأنهم عبدوهم،بل لكونهم أطاعوهم في التحليل والتحريم .
وقال سبحانه :( ..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا([الكهف:26]، فسمى التحاكم لغيره شِركًا(604)،
وقال :( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب( [الشورى:10]، وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي وهذا من صيغ العموم ، فكل شيء نختلف فيه فالحكم فيه لله ، ثم أكد على إرادة العموم بـ(من) التي تفيد التأكيد(605).
والله سبحانه لا يحكم ولا يقضي إلا بالحق ، فمن رد حكم الله وشرعه فإنما رد الحق ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ... ( [يونس:32].(7/379)
قال جل جلاله:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا... ( [المائدة :48].
وقال الله تعالى :( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ... ( [النساء:105].
وقال سبحانه : ( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... ([الإسراء:105]،فهو متلبس بلبوس الحق على كل أحواله(606).
والله تعالى لا يظلم ولا يحيف في الحكم(607) ( ...أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ( [النور:50]، فلماذا إذن لا نأخذ حكمه؟
وقال تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ([التين:8] ( ..وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( [الأعراف:87]،( ... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( [المائدة:50].
فإن كان الله أحسن الحاكمين وخيرهم وأحكمهم ، فكيف يعرض المسلم عنه إلى غيره ؟ لذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما ذكر الله تعالى عنه :( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( [الأنعام:114]، يعني وأهل الكتاب يشهدون بفضله ومنزلته وأنه حق .
واتباع الرسالة هو ينبوع السعادة ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
(إن السعادة والهدى في متابعة الرسول ، وإن الضلال والشقاء فى مخالفته ، وإن كل خير فى الوجود إما عام وإما خاص ،فمنشأه من جهة الرسول ، وإن كل شر فى العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به ، وإن سعادة العباد فى معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة ،والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها ،وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته ، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة(608) ، وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة ، ويناله من حياتها وروحها ، فهو في ظلمة وهو من الأموات قال الله تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها( فهذا وصف المؤمن ،كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان ، وجعل له نورا يمشى به فى الناس ، و أما الكافر فميت القلب (في الظلمات) ، وسمى الله تعالى رسالته روحاً،والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى :( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا( فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور ، فالروح الحياة ، والنور النور .
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض الى الطب ، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان ،وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا ، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا ، فلا فلاح إلا باتباع الرسول ، فان الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى :( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون( أي لا مفلح إلا هم ، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما ، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء ، وبعث به جميع الرسل .(7/380)
ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل ، وما صارت إليه عاقبتهم ، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة ، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم ، وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء ، وأغرقه في اليم ،وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات ،وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه ،وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به ، واتبع غير سبيلهم ، ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم ، كما قال تعالى :( إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون(وقال تعالى:( ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون( أي تمرون عليهم نهارا بالصباح وبالليل ، وهذا كثير في الكتاب العزيز يخبر الله سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل، ونجاة اتباع المرسلين ؛ ولهذا يذكر سبحانه فى سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم ونوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم( فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة وهو العزيز الرحيم ، فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله واتباعهم برحمته.
والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده ، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة ؛ فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع ، فإنه بين حركتين حركة يجلب بها ما ينفعه ، وحركة يدفع بها ما يضره ، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره ، والشرع نور الله في أرضه ، وعدله بين عباده وحصنه الذي من دخله كان آمنا ، وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم ، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب ، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده ،كنفع الإيمان ،والتوحيد ،والعدل ، والبر ،والتصدق ،والإحسان ،والأمانة ،والعفة ،والشجاعة ،والحلم ،والصبر ،والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ،وصلة الأرحام ،وبر الوالدين ،والإحسان إلى المماليك ،والجار ،وأداء الحقوق ،وإخلاص العمل لله ،والتوكل عليه ،والاستعانة به ،والرضا بمواقع القدر به ،والتسليم لحكمه ،والانقياد لأمره ،وموالاة أوليائه ،ومعاداة أعدائه ، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه ، واحتساب الثواب ، عنده وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به ، وطاعته في كل ما أمروا به مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته وفى ضد ذلك شقاوته ومضرته فى دنياه وآخرته ، ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد ،فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم ، أن أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ،وبين لهم الصراط المستقيم ، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم ، بل أشر حالا منها ،فمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها ، فهو من خير البرية ، ومَنْ رَدَّها وخرج عنها فهو من شر البرية ، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم ،وفى الصحيح من حديث أبى موسى رضى الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال:« مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكانَتْ مِنهَا طَائِفَة قَبِلَتْ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكثيرَ ، وكان منها أجادِبِ أَمْسَكَتِ الماءَ فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ ، فشربوا منها وانتفعوا وزرعوا ،وأصابَ طائفةً منها أخرى إنما هي قيِعَانُ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأ، فذلك مثل من فَقِهَ في دِينِ اللهِ تعالى ونَفَعَه ما بعثني اللهُ به ، فعَلِمَ وعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به » متفق على صحته(7/381)
فالحمد لله الذي أرسل إلينا رسولا من أنفسنا ، يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ن وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين ،والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة ، وأسس بنيانه عليها،ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم ، فإذا دَرسَتْ آثار الرسل من الأرض ،وانمحت بالكلية ، خرب الله العالم العلوي والسفلي ، وأقام القيامة ، وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر ،ولا كحاجة الإنسان إلى حياته ، ولا كحاجة العين إلى ضوئها ، والجسم إلى الطعام والشراب ؛ بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال،فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه ، وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله، يقول :" يا أيها الناس إنما أنا رحمةً مهداة " وقال الله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( وقال صلوات الله وسلامه عليه : « إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب » (609)وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل.أهـ)(610).
لذلك كان من يعرض عن دين الله ويحكم أي شيء آخر ، فإنما هو متبع لهواه :
قال سبحانه :( فَإِن لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[القصص:50]؛ يعني لا أحد أضل ممن اتبع هواه.
وقال جل جلاله:( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( [المائدة:49-50]، فكل حكم غير حكم الله، فهو حكم الجاهلية ،وليس الحضارة والتقدم كما يزعم الطاعنون.
وقال :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا... ( [المائدة :48].
وقال :( وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ( [الرعد:37]، وهذا وعيد شديد للنبي ( لو خالف كتاب الله ؛ فما بالك بغيره.
بل هذا التولي عن دين الله يعد من نواقض الإسلام يقول تعالى :
( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( [النساء:65]، فنفى الله تعالى عن من لم يُحَكِّمِ النبيَّ ( الإيمان ، وأقسم على ذلك بأعظم قسم -أقسم بنفسه العلية- وأكد هذا بالنفي مرتين (لا .. لا) ، (وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود وترجف له الأفئدة فإنه أولا اقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمرا آخر هو عدم وجود حرج أي حرج في صدورهم فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليما) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكم الله وشرعه تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة.)(611)
وقال سبحانه:
( ...وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( [المائدة:44].
( ...وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( [المائدة:45].
( ...وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( [المائدة:47].(7/382)
( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُم مُعْرِضُونَ(48)وَإِن يَكُن لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49) أَفِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(50)إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51)وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(52)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(53)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( [النور:47-54].
لذلك كله فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن ينتقد كتاب الله أو يخالف مقتضاه :
قال تعالى : ( ...وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( [الرعد:41] .
نعم لا يجوز لأحد أن يعقب على أحكام الله ، وذلك أن الانتقاد والتعقيب إنما يكون بسبب أمور ؛ إما أن المعقب والمنتقِد أعلم من المنتقَد ، سواء كان أعلم على العموم أو بهذه المسألة بالذات التي أنتقد فيها، أو لا يكون أعلم ولكن المنتقَد غفل عن نقطة معينة في حكمه جانب فيها الصواب ، فينبهه المنتقِد عليها .
وكل هذا منتفٍ بحق الله سبحانه ، فلا أحد أعلم منه في كل الأمور جملة وتفصيلا،
والله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة و لا نسيان ولا غفلة :
( ...لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ( [طه:52].
( وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( [الأنعام:132].
وقد الله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... ([النساء:105].
وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ... ( [النساء:64].
إذن الغاية من إنزال الكتب أن يُتحاكم إليها، والغاية من إرسال الرسل طاعتها ، فمن لم يحقق هذه الغايات فهو لم يؤمن أصلا بدين الإسلام، بل بكل الأديان ، فما الدين إلا طاعة الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، وما الإسلام إلا استسلام لله في تطبيق شرعه على نفسه ومجتمعه .
-الرد التفصيلي :
وأما زعم المستشرقين -تنمان وبروكر وفيكتور - أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر، فهذا باطل لوجوه :
1/القرآن أمر في كثير من الآيات بالنظر والتفكر والبحث :
فقد أمرهم الله تعالى بالنظر إلى كل العلوم ، فأمر بالنظر إلى عالم النبات في قوله( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام:99] وقال سبحانه (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الروم:50]، وأمرهم بالنظر إلى علم الفلك في قوله ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:185]، (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)[يونس:101]،( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)[ق:6]، وفي علم الطب والتشريح قال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)[الطارق:5]،(7/383)
وأمرهم بالنظر إلى علم التاريخ فقال تعالى(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[آل عمران:137] وقال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت:20]، وفي علم الطبيعة والجغرافيا قال (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الرعد:3]،
وأثنى الله تعالى على المفكرين والمتأملين لهذا الكون فقال (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار)[آل عمران:191]، وأمر بالتفكر فقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)[الروم:8]، وقال :(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)[سبأ:46].
فالزعم أن القرآن يعوق النظر العقلي الحر هو غاية في المناقضة لصريح القرآن.
2/الذي يعوق أتباعه عن النظر العقلي الحر هو من كان يظن أن في كتابه شيئا من الخطأ يتعارض مع العقل ، أما والحال أن القرآن ليس فيه شيء من الخطأ أو الخلل فإنه أمر بل تحدى أن يجد الناس في القرآن شيئا يخالف ما عليه النظر العقلي الحر( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، وقد ألف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- كتاب (درء تعارض العقل والنقل) قرر فيه أنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح وأن الشرع لا يأتي بشيء تحيله العقول ،ثم فند فيه كل زعم المعارضة بينهما.
-قول طه حسين (الباحث الناقد والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر) ومثله قول نصر أبو زيد (منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه ، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب):
فهذا الكلام في غاية من الخطورة مخالف لما عليه إجماع المسلمين ، وكيف لا يفرق الناقد بين كتاب الله المنزه سبحانه عن كل خطأ ونقص وكتاب إنسان المجبول على الخطأ والنقص، وما الطعن في كتاب الله إلا طعنا في الله سبحانه إذ القرآن من كلام الله الذي هو صفة من صفاته ، فهل يجوز الطعن في الله ؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، لقد اتفقت الملل والأديان والشعوب والمذاهب أن الإله المستحق للعبادة هو الذي بلغ الكمال المطلق في كل شيء ، فإن كان الإله كاملا فما يقوله كامل أيضا، وما هذه الدعوى إلا تمهيدا لتجريئ الناس على كتاب الله ؛ فإذا كان يمكن نقده إذن يمكن مخالفته وعدم اتباعه ، بل هذا ما صرح به طه حسين نفسه عندما قال-كما تقدم- : (إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر ، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام ، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة فالأمة تتجد بمعزل عن الدين) وكذا صرح بهذا نصر أبو زيد عندما قال (آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر ، لا من سلطة النصوص وحدها ، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا ، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان).
ونحن نسأل هؤلاء الذين يرون وجوب التحرر من سلطة النصوص ويرون أن القوانين الدينية لم تعد تصلح كأساس للأخلاق والأحكام ، ما هو الذي يصلح إذن كأساس للأخلاق والأحكام؟ هل هي شريعة الغاب في أفريقيا ، أم شريعة الإباحية في أوروبا التي تبيح للرجل فعل الفاحشة حتى أرحام وعائلته وتبيح زواج المثلين والشذوذ الجنسي مع الحيوانات ، فما هي القوانين الوضعية التي تصلح الآن كأساس للأخلاق والأحكام؟.
وقد علم الله تعالى أن كثيراً من الناس سوف يعارض حكم الله بعقله القاصر ،فأمر بالصبر على حكمه وعدم التنازل لأي بشر في هذه القضية:
قال تعالى:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ... ( [الإنسان:24] وهذه الآية ذُكِرَتْ كثيرا في كتاب الله.(7/384)
وقام بعض الطاعنين من المعاصرين بحيلة جديدة لإبطال النصوص ، فأخذوا يبحثون في كتب أهل العلم عن مدخل يلجوا منه إلى إسقاط العمل بكتاب الله وإبطال النصوص ، فوجدوا قاعدة من قواعد التفسير للعلماء فيها قولان ، فأخذوا القول الضعيف منهما والمخالف لما عليه الجمهور؛ لأنهم ظنوا أنه يخدم أغراضهم ، وهذه القاعدة هي : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فأخذوا بالرأي الآخر وهو : أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، وفهموا من هذه القاعدة فهما خاطئا ؛ وهو أن كل نص يُخص الحكم بسببه ولا يتعدى فيه الحكم إلى غيره .
مع أن أصحاب القول المرجوح لم يقولوا هذا ، بل رأوا أنه ما كان فيه نفس علة سبب النزول فله نفس الحكم من باب القياس الجلي ، فالخلاف بين العلماء هو في الوقائع التي بمثل علة النص ، هل تدخل في النص بعمومه أم بالقياس ، فهم لم يختلفوا في دخولها ، وإنما اختلفوا في كيفية دخولها ، فبعضهم قال : النص يشملها بعمومه . وبعضهم قال : لا يشملها النص ، ولكن يقاس على المنصوص عليه .
وأما هؤلاء فقالوا : إن الحكم مقصور على سبب نزوله لا يتعداه إلى غيره بحال من الأحوال ، لا نصا ولا قياسا ، وشنوا حربا على قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) حتى قال المستشار العشماوي: إن قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) قد حدثت في فترات الظلام الحضاري والانحطاط العقلي )،وهذا ما يدندن عليه نصر أبو زيد في كتابه
(مفهوم النص) كثيرا، ثم زادوا الطين بلة ،فقالوا : والنصوص لا تفهم إلا بأسباب نزولها ، فما لم يكن له سبب نزول معروف ، فلا يجوز تطبيقه ولا العمل به ، وبما أن أكثر النصوص من هذا الباب؛ إذن فيجب على الناس أن يجتهدوا في كل زمان في تشريع الأحكام التي تناسب عصرهم بقطع النظر عن القرآن ، فهم يريدون تفريغ القرآن من محتواه وجعله أوعية فارغة، وقوالب لا معنى لها ، أو لها معنى مقصور على عصر التنزيل فقط(612).
ومِثْل هذا أيضا جارودي (613)الذي يرى أن القرآن موجه إلى شعب معين في تاريخ محدد(614)،ويكفيك من شر سماعه ، وحكاية كلام هؤلاء يكفي في بطلانه ، وبيان بشاعته وخطورته على الدين ، وقد تقدم في النصوص السابقة من الكتاب والسنة الرد عليهم ، فيغني عن إعادته.
00000000000000
(585)وفي مجلة البيان - العدد 159،لشهر فبراير 2001- مقال بعنوان (الليبرالية العربية وهدم النص والسقوط في التبعية) لمحمود سلطان ، أصل هذا المنهج وعرف بأشهر رموزه - أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وأحمد لطفي السيد وإسماعيل مظهر وأدونيس وفرج فودة وهشام الترابي ، وعلي عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم وطه حسين- .
(586) القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين ،للدكتور أحمد الشاعر (ص:96-97)، وانظر التمهيدي في تاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبدالرازق (ص:5) .
(587) نقض مطاعن في القرآن الكريم ، لمحمد أحمد عرفة ،ص:4 .
(588) (طه حسين حياته وفكره) لأنور الجندي ،ص:144، نقلا عن كتاب مستقبل الثقافة في مصر.
(589) انظر كتابه : " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية "،ص:112، نشرته شركة (سينا للنشر) سنة :1991.
(590) انظر كتاب : تهافت الاستشراق العربي (بحث نقدي في فكر وإنتاج محمد أركون) ، لمحمد بريش ؛رئيس تحرير مجلة الهدى المغربية ، وهي عبارة عن مقالات له في المجلة في الأعداد 13،14،15،16،17،18،19.
(591) انظر كتبه " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية " ، " ونقد الخطاب الديني" ، و" مفهوم النص "، وغيره من الكتب والمقالات.
(592) يعني الأمور الغيبية غير المحسوسة،وهذه العبارات يكثر منها أبو زيد في كتبه -مع أن أكثر الناس لا يفهمونها-لإعطاء القارئ انطباعا بعمق المؤلف ، ومدى اتساع علمه وثقافته ، فيكسب نفسه هالة من قوة الطرح التي تنطلي على ضعاف الشخصيات والمتأثرين به ، وهذا من أساليب الإرهاب الفكري الخفي ، فهو يستطيع أن يقول (حالة غيبية لا ندري عنها شيئا) وتكون أسهل في الفهم ، ولكنه يريد أن يتعالم أمام القارئ.
(593) لم يذكر في كتابه الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بل هي مني .
(594) نقد الخطاب الديني (ص:126)، القاهرة، مطبعة مدبولي ، الطبعة الثالثة.
(595) مفهوم النص ، لنصر أبو زيد (ص:12).
(596) المرجع السابق (ص:27).
(597) انظر قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة ، د. عبدالصبور شاهين (ص:86).
(598) انظر : كتاب العلمانية ، نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي، مصر ، مكتب الطيب، ط2،1999.
(599) انظر : الملل والنحل للشهرستاني (ص:56) ، بيروت ، دار المعرفة، ط7،1998، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/73) ، نشر الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر،ط3،1418.(7/385)
(600) انظر كتاب: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، للشيخ عبدالرحمن عبدالخالق، القاهرة، دار الحرمين، ط4،1989.
(601) انظر كتاب :(أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، عرض ونقد)،د. ناصر بن عبدالله القفاري، القاهرة ، دار الحرمين للطباعة، ط2،1994.
(602)انظر : رسائل في العقيدة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص:15)،دار ابن خزيمة ،الرياض، الطبعة الأولى 2002، والموسوعة الميسرة (1/40) ،وغيره من كتب العقيدة وأصول الفقه.
(603) أخرجه الترمذي (كتاب التفسير ، باب سورة التوبة ، رقم :3095) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي (3/56) رقم :2471).
(604)انظر :أضواء البيان للشنقيطي (4/91)،مكتبة ابن تيمية ، القاهرة، 1988.
(605)انظر: تفسير القرطبي (16/7).
(606)انظر:تفسير القاسمي (4/636).
(607)انظر تفسير ابن كثير (3/298).
(608) يشير ابن تيمية إلى ما أخرجه الترمذي (في كتاب الزهد، باب منه ، رقم:2322) ، وابن ماجه (كتاب الزهد ، باب مثل الدنيا، رقم :4112) عن أبي هريرة مرفوعا (الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ أَوْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا)، وهو حسن،حسنه الترمذي والألباني (صحيح سنن الترمذي (2/269).
(609)أخرجه الدرامي عن أبي صالح مرسلاً ( المقدمة ، باب كيف كان أول شأن النبى رقم 150 )
(610) فتاوى ابن تيمية (19/93-101) بتصرف يسير.
(611) فتح القدير للشوكاني (1/573).
(612) انظر في دراسة هذا الموضوع والرد على المخالفين فيه كتاب ( أسباب النزول بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني ) ، للدكتور محمد سالم محمد ، القاهرة ، ط1، 1996،وهو يريد بهذا الرد على نصر أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون الجزائري الذين تبنوا هذا الرأي ودافعوا عنه في مؤلفاتهم ،وقد لخصته في هذه الصفحات.
(613) روجيه جارودي [ 1913 - على قيد الحياة ] : مفكر فرنسي معروف ، كان أحد كبار زعماء الحزب الشيوعى الفرنسى سابقاً ، أعتنق النصرانية فى مرحلة الشباب ، وفي عام 1933 أنضم إلي الحزب الشيوعي الفرنسي ، ، وفصل عنه عام 1970 ، وفي جنيف وتسمى بـ ( رجاء جارودي ) ، وكتب العديد من المؤلفات ، ولكن كان لثقافته الشيوعية بقية آثار على فكره ، فكان أحيانا يتخبط فى كتبه . [ انظر : "فكر جارودي بين المادية والإسلام " ، لعادل التل ، ص 25 ، " قالوا عن الإسلام " ص 214 ]
(614) فكر جارودي بين المادية والإسلام (نقد كتابات روجيه جارودي في ضوء الكتاب والسنة )، عادل التل ، (ص:131)، دار البينة ،بيروت،ط2،1997.
(1/47)
000000000000
المبحث الثاني : زعم عدم حفظه (النص القرآني)
المطلب الأول : شبهة أنه ليس هو القرآن الذي أنزل:
جاء في دائرة المعارف الإسلامية(615): ( الوحي الذي كان الرسول( يتلقاه ليس هو القرآن الذي نقرؤه الآن ، ذلك أن هذا الوحي قد أعيدت صياغته بحيث أخذ الشكل الحالي)(616)، ثم ذكر الدليل على ذلك وهو أنه (لا يمكن التوفيق بين فكرة وجود أصل للقرآن محفوظ في السماء وما وقع في القرآن من نسخ)(617).
ويقول صاحب كتاب الوحي الجديد : ( إنه من المستحيل أن يكون القرآن الحالي حاويا لجميع ما أنزل , بل إنه من المؤكد تاريخيا أنه قد ذهب جانب ليس بالقليل، ومن المستحيل إقامة البرهان على أنه طِبْقَ ما نطقت به شفتا محمد تماما , بل إنه في آيات عديدة منه اختلافات مدهشة ، ولا يعرف إلا الله ما هو النص الصحيح)(618).
ويقول : ( إننا نعلم تماما بشهادة زيد بن ثابت ، التي لا ريب فيها أنه لم تدون جميع السور والآيات التي سمعت من فم محمد ، بل إن كثيرا منها حفظ في صدور الناس، ومرت سنون عديدة قبل أن يؤمر زيد بتدوينها ، نقلا عن ذاكرة أولئك القراء , فكيف تأمن على الحقيقة من ذاكرتهم ؟) (619).
00000000000000000
(615) أصدر المستشرقون هذا الكتاب منذ بضع عشرات من الأعوام بعدة لغات -الإنجليزية والفرنسية والألمانية- كموسوعة كاملة عن الإسلام دينا وتاريخا وحضارة وآدابا وعلوما واقتصادا وسياسة وأعلاما، وهي تقع في أربعة مجلدات ضخام ، وبعد صدورها بفترة بدا لهم أن ينتزعوا من بين موادها المواد الخاصة بالدين وعلومه وأعلامه ،ثم أصدروا ذلك في مجلد واحد بعنوان (مختصر دائرة المعارف الإسلامية)، وفي هذا المجلد يجد القارئ خلاصة الفكر الاستشراقي فيما يخص ديننا ورجاله. انظر : دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية، أضاليل وأباطيل للدكتور إبراهيم عوض،(ص:5)مكتبة البلد الأمين ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1998، ومن منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بحث بعنوان (دراسة لتصحيح الأخطاء الواردة في الموسوعة الإسلامية )، وللدكتور فضل حسن عباس رسالة بعنوان (قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ؛نقد مطاعن ورد شبهات)، دار البشير ، الأردن ،الطبعة الثانية1989.
(616) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية ، لإبراهيم عوض (ص:7) .
(617 ) المرجع السابق (ص:9).(7/386)
(618) الوحي الجديد (ص:44) ، نقلا عن كتاب مناقشات وردود ، لمحمد فريد وجدي (ص:370) . وواضح من اسم الكتاب(الوحي الجديد) أنه ينكر وجود الوحي القديم.
(619) المرجع السابق ص:371.
(1/48)
------------
المطلب الثاني : شبهة أنه زِيدَ(620) فيه ونُقِصَ , والرد عليها :
أولاً : في هذا المطلب نعرض للقول بأن أصل القرآن موجود ، ولكنه زيد فيه أو نقص ، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه الرافضة الاثنا عشرية , حيث نقلوا عن أئمتهم أن القرآن محرف وناقص ومبدل ، وإنما فعلوا هذا حتى يثبتوا خلافة علي رضي الله عنه وآل بيته؛ فإذا اعترض عليهم معترض بأن هذه الولاية لم تذكر في القرآن , لا تصريحا ولا تلميحا ولا إشارة ، كان الجواب : إن القرآن محرف ناقص(621 ).
وتقول في دائرة المعارف الإسلامية : ( القرآن لم يسجل كله عند نزوله ، بل كثير من الوحي المتقدم النزول لم يسجل ؛ لأن المسلمين لم يكونوا منتبهين لأهمية ما يتلوه الرسول(، فضاع كثير من القرآن)(622).
وتشير دائرة المعارف أيضا إلى سقوط سورتين كاملتين من القرآن , وهما (سورة النورين) و(سورة الولاية )(623). آخذين هذا الرأي من مذهب الشيعة الغلاة.
وفيها أيضا :(البعض ينكر الآيات التي يلعن فيها خصوم محمد)(624) .
وقال رحمانيوف:(إن الخوارج قد ألفت سورة يوسف ، بينما زادت الشيعة سورة أخرى)(625) .
ويقول جولدتسهير(626): (لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على أنه نص منزل أو موحى به , يقدم نصه في أقدم عصور تداوله , مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات ، كما نجد في النص القرآني)(627).
ونفى نولدكه الألماني(628) في كتابه (تاريخ القرآن) أن تكون فواتح السور من القرآن , مدعيا أنها رموز لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني ، فمثلا حرف الميم كان رمزا لصحف المغيرة , والهاء لصحف أبي هريرة , والصاد لصحف سعد بن أبي وقاص , والنون عثمان ؛ فهي-كما يزعم- إشارات لملكية الصحف , وقد تركت في مواضعها سهواً ، ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن فصارت قرآنا (629 ).
وقال طه حسين -مقلدا المستشرقين-:(هناك موضوع آخر يجب أن أنبهكم إليه , وهو مسألة هذه الحروف العربية غير المفهومة التي تبتدئ بها بعض السور , مثل ألم ، ألر، طس، كهيعص ، حم ، عسق ... إلخ ، فهذه كلمات ربما قصد منها التعمية أو التهويل , أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف , أو هي رموز وضعت للتمييز بين المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب، فمثلا (كهيعص) رمزاً لمصحف ابن مسعود ،(حم عسق) رمزاً لمصحف ابن عباس (طس) رمزاً لمصحف ابن عمر ، وهلم جرا ، ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا )(630).
ويقول نصر أبو زيد :(لم ينج القرآن من عمليات المحو والإثبات)(631).
ثانيا: الرد على هذه الشبهة:
1- دعوى أن القرآن تبدل كله لها اتصال وثيق بالشبهة التي تليها , ولكنها زادت في المبالغة والسذاجة حتى ادعت بأن القرآن كله قد تغير ، مخالفين بذلك الإجماع التاريخي على حفظ القرآن منذ عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومنا هذا(632)،وإليك بعض النصوص من منصفيهم -لا من كتبنا- على أن القرآن الموجود بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على النبي ( صلى الله عليه وسلم )؛ ولم يتغير منه حرف لا زيادة ولا نقصا .
يقول لوبلوا(633): (إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر)(634).
ويقول موير(635) : ( إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف ، ولقد حُفِظَ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر , بل نستطيع
أن نقول : إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها , والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة؛ فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة ، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم , يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا , والذي يرجع إلى الخليفة المكروب عثمان )(636).
ويقول بلاشير(637) : ( إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان ؛ لإسهامه قبل سنة 655م في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن ، وإليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل ، على مدى الأجيال القادمة)(638).
2- هذه الشبهة الرد عليها متفرع من الرد على الشبه السابقة ، فإن كان المخالف قد أقر بأن هذا القرآن ليس من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا نقله من غيره ، بل هو من الله تعالى ؛ فإن الله قال في هذا الكتاب: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( [الحجر:9] ، فبما أن الله تكفل بحفظه ، إذن لا يوجد مجال للطعن في بقائه ؛ لأن هذا تكذيب لله تعالى .(7/387)
3-يكفي في الرد على هذه الدعوى العارية عن مستند أن نطالبهم بالدليل ،( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( [البقرة::111] .
فالدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء
4- نرد عليهم بالواقع ؛ فإن الواقع يُثْبِتُ إن القرآن لم يتغير منه شيء ، فالتفاسير القديمة والكتب المؤلفة في الصدر الأول ، والآثار المنقولة عن التابعين والصحابة ,والأحاديث المرفوعة للنبي ( لم نجد فيها حرفا يغاير ما هو بين أيدينا الآن ،بل يذكر فيها القرآن بنصه وحروفه وترتيبه، وكل من قام بمحاولة لتحريفه أو تغييره فُضِحَ وكُشِفَ وباءت حيلُه بالفشل .
5-أجمع العلماء على أن ما بين دفتي المصحف هو كتاب الله الذي أنزل ، وليس فيه نقص ولا زيادة(639)، ولم تعتن أمة من الأمم بكتاب كاعتناء أمة الإسلام بكتاب الله (القرآن) ، فقد ألفت حوله من الكتب ما لا يحصى كثرة ؛ في تفسيره وضبط حروفه وعلومه, وتفنيد الشبهات حوله, وقراءاته, وتجويده, وإعجازه, وبلاغته, وإعرابه ,ورسمه ,وأعداد كلماته, وحروفه ، وغير ذلك640.
6- من الأدلة على سلامة نقله وحفظه من النقص ، أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكتم أي شيء حتى ما كان فيها معاتبة شديدة له ؛ مثل قوله سبحانه: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ... ( [الأحزاب:37] .
عَنْ مَسْرُوقٍ -رحمه الله- قَالَ : كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ, فسَأَلْتُ عَائِشَةَ : هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ( رَبَّهُ ؟ فَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ قُفَّ شَعَرِي لِمَا قُلْتَ ؛ يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ، قُلْتُ: مَا هُنَّ ؟ قَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا ( رَأَى رَبَّه, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ قَالَ : وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ , فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي, أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( فَقَالَتْ : أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) ,فَقَالَ: « إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ , رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ » فَقَالَتْ : أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ :( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( .قَالَتْ :وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ , فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ , وَاللَّهُ يَقُولُ : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ ( كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( قَالَتْ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ, فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ, الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ( (641).
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ :جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو, فَجَعَلَ النَّبِيُّ ( يَقُولُ :« اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » . قَالَ أَنَسٌ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ ، قَالَ : فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ( تَقُولُ :زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ )(642).
7-أما كلام جولد تسيهر ؛ فإننا نتساءل هل رأى جولد تسيهر كتب الشرائع السابقة في نصوصها الأصلية حتى تصح المقارنة والحكم؟.(7/388)
وقد قال هو حين عرض للكلام عن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف: (إن التلمود يقول بنزول التوراة بلغات كثيرة في وقت واحد)(643) .
هذا وقال آرثر جفري(644) في تقديمه لكتاب المصاحف لأبي داود: (إن تاريخ التوراة والإنجيل , وصحة نسبتهما وحرفيتهما , أبعد ما يكون عن الصحة والوثوق)(645).
8- وأما كلام طه حسين ( فهي دعوى قد كفانا هو إبطالها لأنه يشك فيها ويردد وبين أمرين متناقضين ، ثبوت أحدهما ينفي الآخر ؛فكونها قصد بها التهويل وإظهار القرآن في مظهر عميق مخيف يقتضي أنه نطق بها الرسول وأنها كانت في عهده ، وكونها رموزا وضعت لتميز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن يقتضي أنه لم ينطق بها الرسول ولا كانت في زمنه ، ونقض القرآن لا يكون بهذا الشك والاضطراب والترديد بين أمور متناقضة ،ولو علم الناقد أن الصحابة والتابعين كانوا يتشددون في تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا حتى أنهم امتنعوا من العجم والشكل وكتابة أسماء السور لاستحيا من أن يقول مثل هذا القول ، ولعمري -إذا كان شاكا أو مضطربا -فلم لا يأتي إلا بما هو طعن في القرآن ، ولم لم يذكر ولو على سبيل الشك والترديد ما قاله المفسرون من أنها أسماء للسور أو جئ بها هكذا مسرودة ليعلمهم أن القرآن منظوم من هذه الحروف التي ينظمون من كلامهم فهو إذن من جنس ما ينطقون ، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقي ، ذلك لأن مواده ليست أعجمية بل هي من المواد التي ينظمون منها كلامهم وليست غريبة عنهم ، فإذا عجزوا بعد فيعلموا أنه ليس من كلام البشر ، بل هو من عند خالق القوى والقدر ، وأنى لهذا الناقد أن يقول خيرا في الكتاب الكريم ولو على سبيل الشك وهو يريد نقضه وإبطاله )(646).
000000000000000-
(620) وقد ألف الدكتور فضل حسن عباس- الأستاذ المشارك في الجامعة الأردنية،كلية الشريعة- كتابا بعنوان لطائف المنان ورائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن، تكلم فيه كلاما جيد عن قضية أن القرآن قد زيد فيه ، ولكنه لم يتكلم عن موضوع النقص ، والكتاب طبعته دار النور للطباعة والنشر ،بيروت ، الطبعة الأول،1989.
(621) انظر كتاب الشيعة الاثناعشرية وتحريف القرآن، لمحمد عبدالرحمن السيف،الطبعة الأولة 1998, لم يذكر عليه اسم الدار التي طبعته ولا مكان الطبع، وكتاب الشيعة والقرآن ،لإحسان إلاهي ظهير ،مكتبة إدارة ترجمات السنة ،لاهور باكستان ، وكتاب (أيلتقي النقيضان) لمحمد مال الله ، دار النفير ، الكويت ،الطبعة الأولى1421.
وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، د. ناصر بن عبدالله القفاري،الفصل الأول من الباب الأول بعنوان (اعتقادهم في القرآن)(1/123).
وانظر من كتب الشيعة كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) للنوري الطبرسي ، وقد طبع عدة طبعات، وكتاب لله ثم للتاريخ ، لحسين الموسوي، وقد طبع عدة طبعات من غير ذكر للدار التي طبعته.
(622) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:14).
(623) دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية (ص:18).
(624) المرجع السابق.
(625) انظر كتاب : الرد القرآني على كتيب"هل يمكن الاعتقاد بالقرآن" للسفير الروسي م.رحمانوف, لعبدالله كنون. (ص:22) دار الكتاب اللبناني،الطبعة الأولى1982.
(626) تقدمت ترجمته ص 232
(627) انظر كتاب : القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40، عن كتاب القرآن والكتاب.
(628) تقدمت ترجمته ص ( 202 )
(629) انظر بحث القرآن والمستشرقون , للدكتور التهامي نقرة (1/23) ،ضمن كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية ، طبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج.
(630) نقض مطاعن في القرآن الكريم ، لمحمد أحمد عرفة ،ص:7-8 .
(631) قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة ، لعبدالصبور شاهين (ص:202).
(632) من أساليب الغزو الفكري ، لغنايم (ص:567).
(633) لوبلوا : لم أجد له ترجمة ، وإن كان واضحا من اسمه أنه فرنسي، وقد يكون هناك خطأ مطبعي في كتابة اسمه ، فقد وجدت رجلا فرنسيا اسمه (ماري لوبان) وهو زعيم حزب الجبهة الوطنية ، كان ضابطا في الجيش الفرنسي بالجزائر، وله عضوية بالبرلمان الأوروبي بمدينة سترازبورغ ، حزبه ينمو لمطالبته بإخراج العرب من فرنسا، يتراوح عدد المصوتين له بين 8و11%، فلعله يكون هو مقصود الدكتور دراز لاسيما أن دراز أقام في فرنسا طويلا.(انظر : مجلة الهدى التونسة، العدد13).
(634) انظر :كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبدالله دراز ،(ص:40)، دار القلم ، الكويت ،1993.
(635) ليوأري موير ( 1895 - 1959 ) : ولد في بولندا , علام بولندا , عالم بالآثار الإسلامية , يهودي , هاجر إلي فلسطين عام ( 1921 ) ومات فيها , و تقلب في الجامعة العبرية بين مناصب كثيرة من مدرس في معهد الدراسات الشرقية ثم عميد المعهد ثم مدير للجامعة , وله مؤلفات كثيرة ، انظر : "موسوعة المستشرقين " : ص 539 .(7/389)
(636) مدخل إلى القرآن الكريم، للدكتور محمد عبدالله دراز ،(ص:40)، دار القلم ، الكويت ،1993.
(637) تقدمت ترجمته ص ( 9 ) .
(638) تاريخ الأدب العربي لبلاشير (2/22) عن كتاب قالوا عن الإسلام (ص:52).
(639) انظر : شبهات حول القرآن (ص:49)
640 انظر : مدخل إلى علم التفسير،أ.د. محمد بلتاجي (ص:7).
(641) متفق عليه (البخاري : كتاب تفسير القرآن، باب : تفسير سورة النجم ، رقم :4574، ومسلم : كتاب الإيمان ، باب معنى قول الله عز وجل : ولقد رآه نزلة أخرى،رقم:177) واللفظ لمسلم.
(642) أخرجه البخاري (كتاب التوحيد،باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم ،رقم: 6984).
(643) القرآن والمستشرقون , لنقرة ص:40.
(644) آثر جفري : مستشرق استرالي عُين أستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت , ثم أستاذاً في جامعة كولومبيا , ثم أستاذاً للغات السامية في مدرسة اللغات الشرقية في القاهرة , له عدة مؤلفات منها تحقيق كتاب المصاحف لأبي داود , المفردات الأجنبية في القرآن , وغيرها ( آراء المستشرق حول القرآن , د . نمر رضوان ( 1/143 ) .
(645) المرجع السابق.
(646) نقض مطاعن في القرآن ، لمحمد عرفة (ص:79-81).
(1/49)
المطلب الثالث: النسخ في القرآن:
موضوع النسخ في القرآن هذا من علوم القرآن الكبيرة التي أفردت بمؤلفات كثيرة ، واستيعاب جميع أطراف هذا العلم يأخذ وقتا وجهدا وصفحات كثيرة ، ولكني أردت في هذا المبحث أن أتكلم عن جانب واحد فقط من جوانبه وهو الطعن في القرآن من باب النسخ -الذي له اتصال وثيق بموضوع الرسالة- ، وذلك أن النسخ في القرآن من الأبواب التي ولج منها الطاعنون للطعن في كتاب الله ، ولو عرفوا حقيقته لعلموا أنه من محاسن القرآن لا من المطاعن فيه ، فالنسخ له حِكَم كثيرة منها(647):
1-التدرج في الأحكام على الأمة حتى لا تنفر ويسهل عليها تقبله ، كما حصل في الخمر فقد تدرج القرآن فيه على مراحل ؛ أولاها: الإشارة إلى أنه ليس من الرزق الحسن ، كما في قوله تعالى (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا...)[النحل:67]، والواو تقتضي المغايرة ، ثم بيان أن فيه ضررا وشرا كبيرا من غير التعرض لمنعه كما في قوله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وأثمهما أكبر من نفعهما..)[البقرة:219 ] ، ثم تحريمه في أوقات الصلاة كما في قوله سبحانه (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..)[النساء:43].
ثم تحريمه تحريما تاما في كل الأوقات في سورة المائدة -التي هي من أواخر السور نزولا- في قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ…)[المائدة:90].
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ :اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ ،فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...الْآيَةَ )،فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ،فَقَالَ :اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ ، فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي النِّسَاءِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ،ثُمَّ قَالَ :اللَّهُمَّ بَيِّنَ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ ،فَنَزَلَتْ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ :انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا )(648).
ومثل الخمر في هذا الميسر و الفاحشة .(7/390)
عن يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ :إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ :أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ :وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ :يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ :لِمَ قَالَ :لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ :وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا ، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ( وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )[القمر:46] وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ ،قَالَ :فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ)(649).
2-استخدام هذا الأسلوب في الدعوة ، فالداعي يبدأ مع المدعو بالتدرج وتعليقه بالدار الآخرة وزرع الإيمان في قلبه ، ثم يخبره بأحكام الإسلام شيئا فشيئا.
3- بيان رحمة الله بهذه الأمة ؛ فهو سبحانه يراعي أحوال الناس وعاداتهم ويتدرج معهم رحمة بهم حتى لا ينفروا من الإسلام ، بل يحببهم به حتى يكونوا من أهله .
4-فيه دلالة على بعض صفات الله كالعلم فهو سبحانه عالم بأحوال الناس جملة وتفصيلا ، وعالم بما يصلحهم وينفعهم والطريقة التي تصلح لهم، وفيه دلالة على صفة الحكمة والرحمة كما تقدم.
5-من الحكم التذكير بنعمة الله لاسيما في بعض أنواع النسخ الذي يكون فيها النسخ من أثقل إلى أسهل كما هو الحال في عدة المتوفاة عنها زوجها وغير ذلك .
6-ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.
7-إرادة الخير بهذه الأمة، فإن النسخ إن كان إلى ما هو أخف ففيه سهولة ويسر، وإن كان إلى ما هو أثقل ففيه زيادة الثواب والأجر.
لهذا كان النسخ من محاسن القرآن لا من مطاعنه .
و قبل أن ندخل في الرد على الطعون التفصيلية لابد من ذكر بعض القواعد المهمة في هذا الباب، فمن ذلك :
1-النسخ يكون في الأحكام ولا يكون في الأخبار -كما توهم بعض المستشرقين(650)-، فجميع أخبار القرآن -من قصص السابقين وأمور الغيب وأحوال البرزخ وما يحصل في اليوم الآخر- لا يدخله النسخ أبدا ،لأن نسخ الخبر يلزم تكذيب أحدهما ، وهذا لا يكون في كتاب الله(651) .
2-النسخ إنما كان في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأما بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإن القرآن لا ينسخ ولا يتغير ولا يتبدل ، بل هو محفوظ بحفظ الله تعالى له (أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون)[الحجر:9]، فلا يرجع في النسخ إلا لنقل صريح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو عن صحابي يقول : آية كذا نسخ كذا ، مما له حكم الرفع(652).
3-أقوال الأديان الثلاثة في النسخ:
(1-جائز عقلا وواقع سمعا، وعليه إجماع المسلمين ، من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصاري، ولكن من قبل هذا العصر الذي خرقوا فيه إجماعهم ، وركبوا رؤوسهم وهو كذلك رأي العيسوية، وهو طائفة من طوائف اليهود الثلاث.
2-أن النسخ ممتنع عقلا وسمعا ، وإليه جنح النصارى جميعا في هذا العصر ، وتشيعوا له تشيعا ظهر في حملاتهم المتكررة على الإسلام ، وفي طعنهم على هذا الدين القويم من هذا الطريق -طريق النسخ-، وبهذه الفرية -أيضا- يقول الشمعونية ، وهم الطائفة الثانية من اليهود.
3-أن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا ، وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من اليهود، ويعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين ، ولكن على اضطراب في النقل عنه، وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهرة المسلمين شبيها بالخلاف اللفظي إلا يكنه)(653).
وأما الطعون في هذا الباب فهي كالتالي :
-ذهب بعض المستشرقين إلى أن النسخ يدل على وجود التحريف والتبديل في القرآن وأنه لم يحفظ(654) ، بل حصل فيه كثير من التغيير ، فقد ثبت أن كثير من الآيات المنسوخة كانت تتلى بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، مثل حديث عَائِشَةَ قَالَتْ :كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ)(655).
وبعضهم يرى أن النسخ حيلة ابتدعها المسلمون للخروج من مأزق التناقض بين الآيات(656) مثل آيات عدة المتوفاة وآيات المصابرة وآيات القبلة .
أولا :الردود:(7/391)
1-النسخ موجود في الشرائع السابقة ؛فمن طعن في القرآن من هذا الباب فهو يطعن في جميع الشرائع المنزلة ،
(فقد نسخت التوراة إباحة تزوج الأخوة والأخوات كما كان في عهد آدم عليه السلام ، ونصها في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجا لا تكشف عورتها"، ونسخ إباحة الجمع بين الأختين كما كان ذلك في عهد يعقوب عليه السلام فإنه كان يجمع بين ليا وراحيل ابنتي خاله، وقصته مذكورة في سفر التكوين الإصحاح التاسع والعشرين ، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين الإصحاح الثامن عشر "ولا تأخذ امرأة على أختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها"، ونسخت إباحة أكل جميع الحيوانات كما كان في عهد نوح عليه السلام ففي سفر التكوين الإصحاح التاسع خطابا لنوح ونبيه "كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع "، ودليل النسخ ما جاء في سفر اللاويين ، الإصحاح الحادي عشر من تحريم الجمل والأرنب والخنزير وغير ذلك ، فهذا قليل من كثير مما نسخته التوراة من أحكام الشرائع السابقة.
وأما الإنجيل فقد نسخ إباحة الطلاق كما كان ذلك في الشريعة الموسوية بأي سبب كان زنا أو غيره، وإباحة تزوج المطلقة، ففي سفر التثنية الإصحاح الرابع والعشرين "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء كتب لها كتاب الطلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ، ومتى خرجت ذهبت وصارت لرجل آخر" ؛فحرم الإنجيل الطلاق إلا بعلة الزنا ، وحرم تزوج المطلقة ، ونص متى في ذلك الإصحاح الخامس "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب الطلاق ، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني ، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني " ، ونسخ حرمة أكل الحيوانات التي كانت محرمة في شريعة موسى ، وتقدمت الإشارة إلى بعضها …)(657) إلى أخر تلك النصوص .
2-أن النسخ من محاسن القرآن لا من مساوئه كما تقدم في ذكر طرف من هذه الحكم، وأكثر ما يدندن عليه الطاعنون هو نسخ الحكم وبقاء التلاوة أو العكس وهي قضية نسخ التلاوة وبقاء الحكم ،فيقولون: ما فائدة بقاء الآية إذا ذهب حكمها ونسخ، وكيف يقال إن هذه الآية نسخت وحكمها باق ،ولم يعلموا أن لهذا حكما كثيرة ،فمن حكم نسخ الحكم وبقاء التلاوة :
أ- التذكير بنعمة الله تعالى حيث إن غالب الآيات المنسوخة الحكم لا التلاوة فيها تخفيف على الأمة(658) مثل نسخ عدة المتوفاة من سنة إلى أربعة أشهر وعشرا ، وفي الصحيحين قَالَتْ زَيْنَبُ سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ :جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :لَا ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ،كُلَّ ذَلِكَ يَقُولُ :لَا ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ) قَالَ حُمَيْدٌ :فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ :وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ ؟فَقَالَتْ زَيْنَبُ :كَانَتْ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعَرَةً فَتَرْمِي ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ
غَيْرِهِ ، سُئِلَ مَالِكٌ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا)(659).
ب- أن نسخ حكم الآية التكليفي لا يبطل كل الأحكام المتعلقة بالآية مثل الأجر لمن قرأها ، فقارئها له ثواب التلاوة ، وكذلك الاستفادة من الآية في الأحكام البلاغية والنحوية والتجويدية ، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية فيها(660).
3-أن العقل لا يمنع أن يقول الملك لرعيته : افعلوا كذا ، وهو يقصد أن يهيئهم لأمر آخر، فإذا تهيئوا قال: افعلوا كذا، وكما يقول الطبيب لمدمن التدخين مثلا : قلل من شرب الدخان ، فإذا تجاوز هذه المرحلة قال له : اقطع التدخين.
4-وأما حديث عائشة في مسلم (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن…) فأجيب بعدة أجوبة :
أ-أن المقصود قارب الوفاة ولم يتوف بعد(661) .
ب- أن مقصود عائشة هو تأخر النسخ قبيل وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إن بعض الصحابة لم يعلم بالنسخ فكان يقرأ بها بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) (662) وهذا هو المتبادر للذهن .(7/392)
قال النووي رحمه الله : (وَقَوْلهَا : ( فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّه ( وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأ ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاء مِنْ ( يَقْرَأ ) وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّسْخ بِخَمْس رَضَعَاتٍ تَأَخَّر إِنْزَالُهُ جِدًا حَتَى أَنْهُ ( تُوفِي وَبَعْض النَّاس يَقْرَأ خَمْس رَضَعَات وَيَجْعَلهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغهُ النَّسْخ لِقُرْبِ عَهْده فَلَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخ بَعْد ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُتْلَى . وَالنَّسْخ ثَلَاثَة أَنْوَاع أَحَدهَا مَا نُسِخَ حُكْمه وَتِلَاوَته كَعَشْرِ رَضَعَات , وَالثَّانِي مَا نُسِخَتْ تِلَاوَته دُون حُكْمه كَخَمْسِ رَضَعَات وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا , وَالثَّالِث مَا نُسِخَ حُكْمه وَبَقِيَتْ تِلَاوَته وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :( وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّة لِأَزْوَاجِهِمْ ( الْآيَة وَاَللَّه أَعْلَم)(663).
وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فله حكم كثيرة منها(664) :
1-الابتلاء لمعرفة كمال اتباع الناس للنصوص ، فالمؤمن كامل الإيمان يسلم ، والمنافق يجادل
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :جَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ يوم الجمعة فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ :أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا فَلَا أُحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ؛ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ( بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ...)(665).
2-بيان فضل هذه الأمة؛ إذ بلغ من كمال اتباعها أنها تتبع حتى ما نسخ لفظة ولا تجده في المصحف،
قال السيوطي : (يظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شئ ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام.)(666)
3-لنفرض جدلا أن هذه الأحكام التي نسخ لفظها لا يجوز العمل بها لأن ما نسخ لفظه فقد نسخ حكمه ، فإن ثبوتها في السنة يكفي للعمل بها .
- وأما دعوى أن النسخ ابتدعه المسلمون للخروج من مأزق التناقض في الآيات فهذا كلام باطل لوجوه:
1-النسخ كان في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وليس مبتدعا بعده، وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يأذنون لأحد بالفتوى حتى يتعلم الناسخ والمنسوخ(667) .
2-بل إن النسخ موجود في كل الشرائع كما تقدم.
3-أن بعض الآيات تدل هي ذاتها على النسخ من غير تدخل من أحد مثل قوله تعالى في آيات المصابرة (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ..)[الأنفال:66].
4-أن الآيات المنسوخة قد تم الإجماع على نسخها والأمة لا تجتمع على ضلالة .
5-أن الحكم على آية أو حديث بالنسخ له شروط شديدة لابد أن تتوفر حتى يحكم على هذا النص بالنسخ ، فلا يمكن لأي أحد التلاعب في النصوص بحجة النسخ، فمن هذه الشروط(668):
1-أن يكون النسخ حكما شرعيا.
2-أن يكون الناسخ دليلا شرعيا.
3-أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ.
4-أن يكون بين النصين تعارض حقيقي ، فلا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بينهما.
5-أن النسخ لا يكون في الأخبار كما تقدم.
وبهذا يتضح مدى كون النسخ من محاسن القرآن ومفاخره بل لعلنا لا نبالغ إن قلنا إنه من إعجازه في أحيان كثيرة .
وقد جازف صاحب كتاب الرد الجميل على المشككين في الإسلام بإنكار النسخ في القرآن(669) محاولا بهذا الرد على من طعن في القرآن بسبب وجود النسخ، وهذا خطأ بل النسخ موجود والرد على من طعن في القرآن بسبب النسخ واضح وقد تقدم وفيه مقنع لطالب الحق ، وأما صاحب الهوى فإنه لا يقتنع ولو جئت له بأوضح الواضحات.
0000000000000000
(647) انظر : آراء المستشرقين حول القرآن، لرضوان ،(2/630)، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152) ، ومباحث في علوم القرآن للقطان ص:246، وغير ذلك.(7/393)
(648) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة ، رقم :3049) والنسائي (كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر،
رقم :5540)، وأبو داود (كتاب الأشربة ، باب في تحريم الخمر ، رقم :3670) وصحح إسناده الألباني (انظر: صحيح سنن النسائي (3/1126).
(649) أخرجه البخاري ( كتاب فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ، رقم :4707).
(650) انظر :آراء المستشرقين حول القرآن االكريم وتفسيره لرضوان (2/630).
(651) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/61).
(652) انظر الإتقان للسيوطي (3/71).
(653) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/147)، دار الكتاب العربي ، بيروت ،الطبعة الأولي، 1995.
(654) انظر : مناهل العرفان للزرقاني (2/136)، الرد الجميل على المشككين في الإسلام ، عبدالمجيد صبح ، (ص:80)،دار المنارة للنشر والتوزيع،المنصورة،الطبعة الأولى 2001.
(655) أخرجه مسلم (كتاب الرضاع ، باب التحريم بخمس رضعات، رقم :1452).
(656) انظر : آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره ، لعمر رضوان (ص:628).
(657) فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين ،لعبدالله كنون الحسني،(ص:5-6) ، مطبعة رابطة العالم الإسلامي ،مكة المكرمة ، 1982، وانظر : مناهل العرفان (2/150)
(658) الإتقان للسيوطي (3/69).
(659) متفق عليه (البخاري: كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهرا وعشرا، رقم:5024، ومسلم:كتاب الطلاق،باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة ،رقم :1489).
(660) انظر مناهل العرفان (2/153)
(661) نفحات من علوم القرآن ، محمد أحمد معبد (ص:82)،دار السلام ، القاهرة، الطبعة الأولى ، 1996.
(662) الإتقان لليسوطي (3/63).
(663) شرح مسلم للنووي (10/29) ، دار الفكر ،
(664) انظر : مباحث في علوم القرآن (ص:246)،والإتقان في علوم القرآن (3/72) ، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (2/152).
(665) أخرجه البخاري (كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ، رقم :6442).
(666) الإتقان (3/72).
(667) انظر مناهل العرفان (2/136)، الإتقان في علوم القرآن(3/58).
(668) انظر : مناهل العرفان (2/141).
(669) انظر الكتاب ص:118.
(1/50)
00000000000000
المبحث الثالث :اتهام القرآن بالتناقض
المطلب الأول : هل في القرآن تناقض حقيقي؟.
- أسباب وقوع التناقض من الشخص الواحد هي:(7/394)
إما لقلة العلم, أو بسبب النسيان, أو اختلاف النفسية ,والطباع ,أو اختلاف الاجتهاد, أو الابتعاد عن الحق, أو للمصلحة الشخصية(670) ؛ وكل هذه الأسباب منتفية عنه تعالى فهو سبحانه عالم السر والنجوي, و لا يضل ولا ينسى, ولا يبدو له شيء لم يكن يعرفه حتى يغير اجتهاده, وهو الحق ولا يصدر منه إلا الحق, ولا يبلغ أحد من خلقه ضره فيضره ولا نفعه فينفعه .(وسئل الغزالي عن معنى قوله تعالى: ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( [النساء : 82] فأجاب بما صورته :الاختلاف لفظ مشترك بين معان, وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه , بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن؛ يقال هذا كلام مختلف. أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف؛ أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا, أو هو مختلف النظم ؛ فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف671 ، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه عن هذه الاختلافات؛ فإنه على منهاج واحد في النظم, مناسب أوله آخره ,وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة ,فليس يشتمل على الغث والسمين ،ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين ،وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات؛ إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجِد فيه اختلاف في منهاج النظم, ثم اختلاف في درجات الفصاحة, بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين, فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان, بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة ؛لأن الشعراء والفصحاء ( في كل واد يهيمون ( [سورة الشعراء] فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا, وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا, ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات؛ لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال, والإنسان تختلف أحواله ,فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الإنقباض, ولذلك تختلف أغراضه, فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى, فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن ,فيتكلم على غرض واحد, وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشرا تختلف أحواله ,فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوُجِدَ فيه اختلاف كثير ، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن,وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى: ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ( [البقرة : 26 ] فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى, فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا, وهي أشد أنواع الاختلاف, والله أعلم)(672).
وأما ادعاء معارضة القرآن للحقائق سواء كانت, شرعية, أو طبيعية, أو تاريخية ، فإن سبب هذا الزعم, وقوع هؤلاء على بعض الإشارات التي فهموا منها أن هناك تعارضا, فتمسكوا بها وبدأوا يجمعون كلام كل متردية ونطيحة ,للنفخ في هذه الشبهة حتى يتم لديهم هذا الاتهام للقرآن بالتعارض مع الحقائق ، وما علم هؤلاء أن الذي خلق الطبيعة وأنزل القرآن واحد وهو الله تعالى ، وأن منزل القرآن والشريعة واحد وهو الله تعالى ، وأن كل الحقائق التاريخية التي حصلت لنا وعرفناها عن طريق الكتب المتوارثة غابرا عن غابر, قد رآها الله تعالى معاينة وشاهدها حقيقة, ولم تنقل له كما هو الحال فينا عن طريق كتب .
إذن فقضية التعارض سواء كانت في الحقائق الشرعية ,أو الكونية, أو التاريخية أمر لا يمكن تصوره عقلا, وغير واقع أصلا ، وكل ما ادعوا أنه متعارض قد تم الإجابة عليه.
وقد تقدم معنا في مبحث أسباب وقوع الإشكال كلاما نفيسا للإمام الزركشي والإمام الراغب الأصفهاني, في بيان وجه كل ما قيل أن فيه تناقضا .
000000000000000
(670) انظر : أصول الجدل والمناظرة , د . حمد العثمان ( ص 377 ) في مبحث ( تناقص النظار ) مكتبة ابن القيم , الكويت , طبعة 2001 .
671
(672) البرهان للزركشي (2/54-56).
(1/51)
0000000000000000000000
المطلب الثاني:زعم تناقض بعض الآيات مع بعض
وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه , بناء على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب(673)، ولكن كل ما زعموا فيه التناقض, فهو محض افتراء أو جهل ، وقد تكلم العلماء قديما على هذا النوع من الطعون, وجمعوا كل ما قيل في ذلك, ورتبوها على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك بل وعلى مالم يقل مما يُظن أن فيه إشكالا أو تناقضا، ومن هذه الكتب المؤلفة في هذا الفن :
1-"كتاب تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري(674)،وهو أقدم كتاب وصل إلينا.
2-"كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" له أيضا(675) .(7/395)
3-"أضواء على متشابهات القرآن" ، لخليل ياسين(676) ،في مجلدين .
4-"باهر القرآن في معاني مشكل القرآن" لبيان الحق النيسابوري(677)،في أربعة مجلدات.
5-"وضح البرهان في مشكلات القرآن" له أيضا(678) ،في مجلدين.
6-"تفسير آيات أَشِْكَلتْ" لابن تيمية(679) ، في جزأين .
8-"دفع إيهام الاضطراب"، لمحمد الأمين الشنقيطي(680) .
9-"مشكلات القرآن", لمحمد أنور شاه الكشميري(681) .
10-"الروض الريان في أسئلة القرآن" ، لشرف الدين بن ريان(682).
وغير ذلك من الكتب الكثيرة ، التي لو جُمِعَ كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة ,وإنما قَصَدتُ بذكر هذه الكتب بيان أن هذا الطعن قد قًُِتلَ بحثا, وأجيب عن كل ما قد قيل أو يمكن أن يقال فيه, ومع هذا لا زال أعداء الدين ينعقون بهذه الطعون ويرددونها ، مما يدلك على عدم حرصهم على اتباع الحق, أو إنما القصد هو إضلال بسطاء المسلمين ممن لم يقرؤوا هذه الكتب ، والله المستعان.
يقول جولدتسيهر(683):(من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبا عقيديا(684)موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات ، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها -إذا بحثناها في تفاصيلها-أحيانا تعاليماً متناقضة)(685).
وسنذكر إن شاء الله في هذا المبحث بعض ما ذكر من شبهات في هذا العصر(686) والجواب عليها بإذن الله .
الطائفة الأولي : طعون ذُكرت في كتاب "رد مفتريات على الإسلام" ، لعبد الجليل شلبي ، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن ؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية, وموقعة باسم الأسقف العام, ورئيس المجلس, والنائب العام البابوي تيموثاوس(687) ، والطعون التي ذكروها كالتالي :
1-في سورة يونس :( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ... ( [يونس:15] , وفي سورة النحل : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ( [النحل:101].
ففي الآية الأولى طُلب منه التبديل فرفض , والآية الثانية تم التبديل(688) .
والجواب(689) :
أن التبديل في الآية الأولىكان بطلبٍ من الكفار لرسوله ( أن يأتي بقرآن جديد أو يبدل هذا القرآن ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لا أستطيع ، فذلك كلام الله ينسخ منه سبحانه ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وأنا أتبع ما يوحى إليَّ نسخا أو إثباتا .
والآية الثانية تذكر أن الله سبحانه إذا نسخ حكما بحكم قال الكفار لمحمد : أنت مفتر في هذا القرآن؛ لأنك غيرت حكماً قررته من قبل ، ثم تقرر الآية التالية أن ذلك من الله تعالى ، نزله الله بواسطة جبريل روح القدس ،ومحمد لا يغير .
فأي تناقض بين الآيتين ! كلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله, وأن محمداً ( لا يستطيع أن يغير منه شيئاً .
2- الآية 106من سورة البقرة تُناقِضُ الآية 27 من سورة الكهف ، والآية في سورة البقرة هي : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( [البقرة:106]والآية في سورة الكهف :( واتل ما أُيوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته.. ( [الكهف:27].
فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل ،والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى،والنسخ نوع تبديل(690).
الجواب(691) :
الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير حكم بآخر ، وهذا أمر لا بد منه في حال أمة جاهلية نقلها الإسلام تدريجيا إلى حال جديدة متكاملة ، والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته ، أو يرد حكما أنزله سبحانه ، والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا ، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت ، تماما كالآية السابقة قلتُ:التبديل يطلق على تبديل الأحكام ,وهذا سائغ ، ويطلق على تبديل الأخبار, وهذا الذي لا يمكن في القرآن ، فكل آية لها مورد(692)، فالنسخ والتبديل يكونان في الأحكام لا الأخبار.
3- الآية 9 من سورة الحجر تناقض الآية 39 من سورة الرعد:
وآية الحجر هي :( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ( [الحجر:9] ، وآية الرعد هي : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.. ( [الرعد:39]،يعني كيف يجتمع الحفظ مع المحو(693) ؟.
الجواب(694) :(7/396)
آية الحجر تصف القرآن أنه تنزيل من الله تعالى, وأن الله حافظه من الزوال والتحريف ، وصدق الله وصدق قرآنه ، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرأون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى ، وكما قرأه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه ، فأين كتاب موسى وأين وصاياه ، وأين إنجيل عيسى ؟ هذه كتب لم يحفظها الله تعالى فذهبت مع الأيام ، والقرآن لم يضع منه شيء ولن يضيع.
وأما آية الرعد تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى ، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب ؟
قلتُ: آية الرعد ليست في القرآن, بل المراد منها الصحف التي بيد الملائكة التي فيها مقادير الخلق ، فإن الله تعالى يغيرها حسب مشيئته وحكمته ،واختلف العلماء في ذلك ولكن كل الخلاف دائر في باب القدر(695) ،ولو سلمنا أن آية الرعد في القرآن ، فإن المقصود بالمحو والإثبات هو في وقت حياة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ,فإن الله يحفظ القرآن ويصونه.
4- السجدة آية 5 - تناقض المعارج آية (4 ):
وآية السجدة هي :( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( [السجدة:4]،وآية المعارج هي :( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( [المعارج:4]،يعني أن ألف سنة في الآية تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى(696) .
الجواب(697) :
إن الآية تصف يوم القيامة بالطول ، وأنه في طوله يعدل ألف سنة مما يعدل الناس ، ولا يراد منها إفادة التكثير ، كما تقول لصاحبك كتبت لك خمسين خطابا ،وترددت على بيتك عشرين مرة ، واللغويون يقولون دائما : العدد لا مفهوم له .
فإذا وَصَفَت الآية الثانية هذا اليوم بأن مقداره خمسين ألف سنة فلا تناقض لأن كلا منهما تصفه بالطول ،وقيل :وهذا اليوم يختلف مع الناس باختلاف مواقفهم وما يعانيه كل منهم ، فقد يطول اليوم على شخص لشدة مشقته, ويقصر على آخر لعدم المشقة .
قلت: إن الآيتين ليستا على مورد واحد ، بل الأولى تتحدث عن أمر لا تتحدث عنه الأخرى، فالآية الأولى تتحدث عن مدة يوم معراج الأوامر ومدته ألف سنة(698) ، والثانية تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة ،كما هو ظاهر من السياق:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ(*)لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ(*)مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(*)تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(*)فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا(*)إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(*)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(*)يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ(*)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(*)وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا([المعارج:1-10]،وهو القول الراجح فقد ذكر ابن كثير أربعة أقوال في المراد من اليوم ومال إلى أن المراد به يوم القيامة(699) ، وهو الراجح بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) :« مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ, فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ, فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ ,كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ, فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ... » (700) .
وقد ذكر العلماء أجوبة كثيرة وغالبها وجيه، وقد سُئل ابنُ عباس عن هذه الآية وأجاب عنها(701)، ومع هذا لا زال هذا الإشكال يكرر إلى يومنا هذا.
5- سورة البلد وسورة والتين :
سورة البلد جاء فيها :( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ( [البلد:1-2]، وسورة التين فيها : ( والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين ( [التين:1-3] ؛فكيف قال : لا أقسم بهذا البلد ثم أقسم به(702) ؟.
الجواب(703) :
فَهِمَ القومُ -وهم كما يدل أسلوبهم وكتابتهم علماء جدا في اللغة - أن (لا) في (لا أقسم) نافية ، وهذا جهل بلغة العرب ، وإنما تأتي لا في القسم توكيدا وهذا شائع في اللغة ، كما في قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .. ( أي أقسم بربك أنهم كذلك ،وكما قال النابغة :
فَلاَ وَحًقَّ الَّذِي مَسَّحْتً كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيقً عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
وقول الآخر :
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِبى وَلاَ لمِّا ِبهمْ أبَداً دَواءُ
وقول طرفه :
فَلاَ وَأَبِيكَ ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر(7/397)
وقال علماء اللغة :إن هذا القسم يفيد تعظيم المقسوم به ، كما في سورة البلد ، وكما في قوله تعالى : ( فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم ( [الواقعة:75-77]، وكقوله :( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ( [القيامة:1-2]، فهذه كلها أقسام وليس هذا من دقائق اللغة وإنما هو من أولياتها ولكن القوم لا يعلمون .
وإذا اعتبرت (لا) نافيه والجملة خبرية فهي مقيدة ؛ أي لا أقسم به و أنت حل به ، ولكن أقسم به وأنت غير حل به ، فلا تناقض أيضاً .
6-قوله تعالى :( قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ( [الزمر:44]،مع قوله: ( مالكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تتذكرون ( [السجدة:4] وقوله: ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ( [يونس:3].
هذه الآيات متناقضة في رأي تيموثاوس(704).
الجواب(705) :
الآيات الثلاث تذكر أن الله وحده هو المتصرف في خلقه ،ولا يشفع عنده إلا من أذن له ، لله وحده الشفاعة ، لا شفيع من دونه ولا بغير إذنه .. فأي تناقض بين هذه الآيات ؟ أليست الشفاعة في هذا كله لله وحده ؟ أفلا تذكرون ؟.
قلت: نفى الله تعالى الشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون في معبوداتهم، وأثبتها له وحد، ولمن يأذن له فيها، فهو سبحانه ينفيها في حال ويثبتها في حال آخر.
7-في سورة الواقعة جاء مرة :( ثلثة من الأولين وقليل من الآخرين ( [الواقعة:13-14] ،ثم جاء مرة أخرى( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( [الواقعة:39-40].
فهذا تناقض عند تيموثاوس ومجلسه(706) .
الجواب(707) :
والآية الأولى تتحدث عن السابقين المقربين ، والثانية تتحدث عن أصحاب اليمين ... استفيقوا أيها الناقدون .
8- الحجر: آية 85 :( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم ... (، تناقض بالتوبة :73 ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ... (.
ووجه التناقض فيما يرى القوم أن الآية الأولى أمرت بالصفح ,والثانية أمرت بالغلظة(708).
الجواب(709) :
سورة الحجر مكية ، وفي مكة لم يكن أذن بالقتال ، والله تعالى يقول في آية الحجر أنه لم يخلق هذا الكون عبثا يفسد فيه من يفسد ويصلح من يصلح ، بل الله جامع الناس بعد ذلك وجاز كلا بما فعل ، فلا تحزن يا محمد لمخالفة القوم إياك ومعارضتهم دعوتك ، وغدا تقوم الساعة فيجزون بسوئهم وتجزى بإحسانك ، فأعرض عنهم حتى يأتي أمر الله.
وسورة التوبة مدنية ,وتسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين ، قد نزلت في حج أبي بكر بالناس ،وكان الجهاد قد شرع قبل ذلك ، ويسمى هذا العام عام الوفود؛ إذ أخذت قبائل العرب تتوافد على المدينة يدخلون في دين الله أفواجا ،ولم يبق بعدُ مسوغ لبقاء الكفار الذين يعبدون من دون الله أوثانا ، ولا لبقاء المنافقين الذين يفشون أسرار المسلمين ويخدعونهم, ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فيجب جهادهم لقطع قوم عن الكفر وآخرين عن النفاق ,كي يعيش الناس في جو نظيف ,خال من فساد العقيدة وفساد الأخلاق !
فأين التناقض ؟
الناس جميعاً يفعلون هذا ، يقول قائد الفرقة لجيشه: لا تضربوا. وبعد مدة يقول: اضربوا . ويقول المهندس الزراعي لفلاحيه : لا تزرعوا الآن. بعد شهر يقول: ازرعوا ،وكُلَّ حِكْمَةْ .
قلتُ: ومن الأجوبة أن الآية الأولى المقصود بها حال الدعوة، والثانية حال الجهاد، فاختلف مورد كل آية ، كما أن الوالد في حال نجاح ابنه يفرح ويحسن إليه بهدية، وفي حال رسوبه يغضب ويعاقبه ، ولا يقال: إن هذا الوالد متناقض ؛لأنه مرة يفرح ومرة يغضب، ففرحه في مجال وغضبه في مجال آخر.
9- الأعراف أية 37: ( حتى إذا أدركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا(، وفي الأعراف آية 17 يقول الشيطان لله تعالى :( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (؛ هذا تناقض عظيم جدا عندهم، كبراء القوم أضلوهم ،والشيطان قال إنه يضلهم. فمن الذي يضل هل هو الشيطان أم الكبراء(710) ؟.
الجواب(711) :
وهل من التناقض أن يُضَلَّلَ الشخص من كثيرين ؟ وأنتم أعضاء المجلس الملي ،وجماعة المدعين أضلكم الشيطان, وأضلكم رؤساؤكم وأضللتم أنفسكم ,وأضلكم جهلكم ، وأضلكم كتابكم ، ولا تناقض في شيء من هذا.
10-الآية 275من البقرة وهي :( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل البيع وحرم الربا ( . والآية 29 من التوبة وهي: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(،هاتان الآيتان متناقضتان فيما يرى تيموثاوس ومجلسه ، يقصدون أن الجزية مثل الربا(712).
الجواب(713) :(7/398)
ويبدوا أنهم أرادوا تكثير عدد الآيات ؛ لأنهم ذكروا سورة والتين وسورة والبلد مرتين تكثير للعدد ! وهل الجزية رِباً ؟ هذا فهمهم ولا يفهمه سواهم .
قلت: شتان بينهما ؛ فالربا لا يجوز أبدا سواء مع المسلم أو الكافر، وأما الجزية فهي ضريبة تجعل على الكفار مقابل حمايتهم في ديار المسلمين، أو إبقائهم في الأرض التي يفتحها المسلمون مقابل هذا المال، ويراعى فيها سعة القوم وفقرهم ,ولا يجوز فيها التضييق عليهم.
11-الآية 65 من سورة الأنفال , وهي , ( ياأيها النبيُّ حرض المؤمنين علي القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وأن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( تناقص الآية 48 من سورة الأحزاب , وهي ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل علي الله وكفي بالله وكيلاً ( فزعموا أن هناك تضارباً بين الآيتين ؛ إذ الآية الأولي تطلب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تحريض المؤمنين وحثهم علي القتال , بل والتجلد لقتالهم فإن العشرين الصابرين منهم يقتلون مائتين , والمائة الصابرة يقتلون ألفاً من الذين كفروا , بينما الآية الثانية تطلب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ألا يطيع الكافرين والمنافقين , وأن يدع أذاهم لا يقابلهم مثله ويكفيه التوكل على الله , فهو حسبه وكفى بالله وكيلاً ,فكيف يأمره في الأولى لتحريض على قتالهم بهذا الجَلَد ,ويأمره في الثانية بترك آذاهم , فظنوا هذا تناقضاً , فطاروا به فرحاً , واتخذوه حجراً يقذفون به كتاب الله(714) .
والجواب(715) :
ليس هناك أي تضارب , فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه , فأمره الله بأن يدع أذاهم له , فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم , ودحض افتراءاتهم على رسوله , فكفي بالله وكيلاً , فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان , بينما أَمَرَه في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم , والتجلد لهم , فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة الَسَّنان بالسَّنان, فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه , فلا تعارض إذن بين الآيتين.
وحتى مع التسليم بأن الأمر في سورة الأنفال يقابل الأمر في سورة الأحزاب , فإن هذا يناسب التدرج في تشريع القتال , علي حسب ما تقتضيه كل مرحلة من مراحل الدعوة من قوة وضعف, فلا تناقض.
12- الآية 20 من سورة آل عمران وهي :( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ، فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (،تناقض الآية 89 من سورة النساء وهي : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ،ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ( .
ووجه التناقض - فيما يرون -أن الآية الأولى ذكرت أنه ليس على الرسول إلا البلاغ ، والآية الثانية أمرته بقتال المنافقين وجهادهم ، وبهذا نجد هؤلاء المساكين يدورون في حلقة مفرغة ، يعيدون ما قالوا ثم يكررونه(716) .
الجواب(717) :
الآية الأولى -ومثلها كثير جدا -تقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :إنك لست مطالب بخلق الهداية في نفوسهم ، ولكن الله يهدي من يشاء ، وإنما عليك أن تبلغ رسالة الله ، فمن آمن بها وأسلم فقد اهتدى ، ومن تولى فحسابه على الله ،وحسبك أنك بلغت الرسالة ، ولست مكلفا بخلق الهداية .
والآية الثانية تتحدث عن المنافقين وموقفهم يشبه موقف ( المدعين ) والمجلس المِلَّيء المزعوم يتمنون أن يكفر المسلمين ككفرهم ، وقد نهى المسلمون أن يتخذوا منهم أصدقاء حتى يهاجروا في سبيل الله ، ولا تعني الهجرة في هذا المقام الانتقال من مكة إلى المدينة ؛ إذ السورة مدنية والمنافقين كانوا بالمدينة ، ولكن المراد بالهجرة طاعة الله تعالى وترك المحرمات ، وهذا من معاني الهجرة, ومن معانيها أيضا الجهاد ، وكان جماعة من المنافقين بقيادة عبد الله بن أُبي رجعوا قبل المعركة يوم أحد .
والقرآن ينهى المسلمين عن اتخاذهم أصدقاء ؛ لأن ذلك تكريم لهم وإطلاع لهم على أسرار المسلمين ، ادّعوا الإسلام وأعرضوا عن الدفاع عنه ، وعاونوا أعداءه .
وليس في هذا خَلْقُ هداية في أنفسهم ،وإنما التخلص منهم ومن شرورهم ، والناس في كل أمة وفي كل عصر يقتلون الخونة .
فهل هذا تناقض ؟ .
قلتُ: إن البلاغ أنواع ، فبلاغ الكلمة وبلاغ المال وبلاغ الجهاد، فالجهاد إنما شرع لتبليغ دعوة الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، حتى يصل الإسلام إلى جميع نواح المعمورة.(7/399)
13- الآية 108 من سورة الأنعام تناقض الآية 4 من سورة محمد : وآية الأنعام هي ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .. ( وآية سورة محمد هي : (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ،ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ، سيهديهم ويصلح بالهم ( .
ولعل وجه التناقض فيما يرون أن الآية الأولى نهت المسلمين عن سب الأصنام التي يعبدها المشركين ، والآية الثانية حثتهم على الجهاد(718) ! .
الجواب(719) :
القوم واهمون ومتحاملون ؛ فالآية الأولى مكية سَنَّتْ للمسلمين أدبا خُلقيا ، فنهتهم عن شتم الأصنام وهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع ، ولكن لو سبوها لسب الكفار الإله الخالق سبحانه عدوانا وجهلا ؛ لأنهم لم يعرفوه ولم يعرفوا صفاته ، هذا أدب أخلاقي رفيع ، وها نحن نجري عليه ، فالجماعة (المدعون ) والمجلس الملي يسبون ويشتمون ويقذفون النبي الكريم بأشنع الألفاظ ، ونحن نلتزم المنطق ونغضي عن شتائمهم ، هذا لعلمنا أن الشتائم لا جدوى من ورائها ، وأن الشَّتَّام يحط دائما من قدر نفسه ، ولا ينال من قدر من شتمه شيئا .
والآية الرابعة من سورة محمد تبين جانبا من تعاليم الحرب ، فتعلم المسلمين أنهم إذا قابلوا الكفار في المعركة فعليهم أن يوقعوا بهم الضرب ،فإذا أثخنوهم قتالاً وهزموهم كان لهم بعد ذلك أن يمنوا على من يستحق المن, وأن يأخذوا الفدية ممن يستحق أن يفدى.
فليس في الآية إباحة لسب الأصنام ، والآيتان قي وقتين مختلفين لكُلُّّ حُكْمُها على ما قدمنا .
قلت : ظَنَّ هؤلاء الجهالِ أنه طالما جاء النهيُ في سورة الأنعام عن سَبَّ أصنام الكفار, فمن باب أولى يجب الكفُّ عن قتالهم ؛ إذ القتال وضرب الرقاب أعظم من السَّبَّ ,ولو كانت لهم عقول لأدركوا علة النهي عن سبَّ أصنام الكفار في نفس الآية , وهي أن سبَّ آلهتهم يُفضى إلي حَمْلِ المشركين علي سبَّ الله تعالى , وهم أجهلُ الناسِ بقدر الله , وليس للنهي في الآية أي علاقة بمرعاة مشاعر المشركين , ولكَنْ لضآلة عقولهم وسوء طَوَّيتيهم نظروا إلي صَدْرِ الآية فقط وتركوا باقيها , فزعموا أن في القرآن آية تنهي عن سبَّ أصنام المشركين لحفظ مشاعرهم , وآية أخرى تأمر بضرب رقابهم , ومن خلال هذا الزعم رموا القرآن بالتناقض , فسبحان الله أين عقول القوم ؟ !
14- الآية 127 من سورة النحل ، وهي : ( وأصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون .. (تناقض الآية :( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ( [الشورى:39 -40].
يعني أن الآية الأولى تأمر بالصبر على الذي يصيبه من الناس، والآية الثانية تأمر بالانتصار من الذي يصبيه(720).
والجواب(721) :
الآية الأولى مسبوقة بقوله تعالى: ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر .. ( .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يُمَثَّلَ بعدد من المشركين, جزاء ما مَثَّلُوا بعمه حمزة في يوم أحد، فنهته الآية أن يزيد عما فعل بعمه ، وبينت أن العفو أفضل .
وآيات الشورى تصف المؤمنين بأنهم إذا بغى عليهم أحد انتصروا لأنفسهم ،وبينت كما بينت الآية الأولى أن جزاء السيئة يكون بقصاص مماثل ،وأن من عفا وأصلح فإن الله تعالى يثيبه .
فالآيتان في مجرى واحد ، كلتاهما تفضل العفو وتقيد العقوبة بالمماثلة !
ولا يتأتى للمسلمين أن و يُبغى عليهم ويقفوا مكتوفي الأيدي ، بل عليهم أن ينتصروا لأنفسهم ممن بغى عليهم ، ولكنهم مع هذا الانتصار لا يظلمون ,فما أروعه أدباً وأسماه سلوكاً.
وأنت تجد في الأناجيل أن المسيح يقول لتلاميذه : أحسنوا إلى أعدائكم وباركوا لاعنيكم . ومع هذا تجده يقول لليهود : يا أولاد الأفاعي ، ترون القذاة(722) في أعين الناس ولا ترون الخشبة في أعينكم !
وليس في هذا الكلام بركة ولا إحسان ،وإنما هو توبيخ و زجر ، فلم لم يباركهم ويحسن إليهم ؟.ثم نجد الذي يقول: أحسنوا إلى أعدائكم . والذي يقول:ما جئت لأنقض الناموس. يقول أيضاً : لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لأُلقي سلاماً بل سيفاً ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه ، و الابنة ضد أمها والكنة(723) ضد حماتها .
والعهد القديم والعهد الجديد كلاهما مليء بالمناقضات والخرافات ، و هي رسائل وكتب من صناعة قوم انتحلوا صفة القداسة ، ومثل هذا لا يوازن به كلام القرآن المحكم ؛ لأنه تنزيل من حكيمٍ حميد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، و صدق الله :( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ( [النساء :82]ولكن يتدبره من يفهمه ، (إنما يذكر أولو الألباب)(724).
الطائفة الثانية :(7/400)
-وهذه رسالة أخرى وزعت على المراكز الإسلامية في أمريكا، موقعة باسم (توني بولدروجوفاك)، وأجاب عنها الشيخ عبدالرحمن بن عبدالخالق (725) ؛كما يلي :
15-السؤال أو الاعتراض الأول:
يقول السائل: كيف يمكن اعتبار القرآن قد أوحي إلى محمد، وفي نفس الوقت نجد أن محمدا ( هو المتكلم في آيات عديدة كما في سورة الفاتحة الآيات من 5 ، 7 -وهي : ( إياك نعبد وإياك نستعين أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين)، وفي سورة البقرة الآيات 2 الآيات 105 ، 117 ،163 ، وهي :( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِن خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( [البقرة:105]،( بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( [البقرة:117]،( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163) ( [البقرة:163]. وكما في سورة 3 الآية ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2، وفي سورة رقم 40 الآية 65 ( هو الحي لا إله إلا هو فادعوه (، والسورة رقم 43 الآيتان 88،89؟.
والجواب(726) :
إن السائل لا يعرف أساليب اللغة العربية، ولا طرائق البلغاء في الكلام، ولا منهجهم في البيان، ومعلوم أن القرآن نزل بلغة العرب، وقد تحدى الله الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثله ؛بلاغة وفصاحة ، وبيانا وحلاوة ,وبناء معجزا يستحيل الإتيان بكلام مثله في الحلاوة والبيان.
ومن أساليب العرب في البيان أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب، كأن يقول المتكلم: فعلت كذا وكذا، وذهبت ، وآمرك يا فلان أن تفعل كذا، وتارة يقول عن نفسه أيضا: إن فلانا -يعني نفسه- يأمركم بكذا وكذا. وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا . كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو المتكلم : إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا. وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه أمير أو ملك ، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم: إنني الملك وآمركم بكذا وكذا. فقوله: إن الملك يأمركم. أكثر بلاغة من قوله : إنني الملك وآمركم. وقد جاء القرآن بهذا النوع من البيان , كما في الآيات التي اعترض بها السائل فظن أن هذا لا يمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، نحو قوله تعالى في سورة البقرة: ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (، وقوله في سورة آل عمران: ( ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق ( فظن هذا الذي لا يعرف العربية أن الله لا يمكن أن يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب, وأنه كان لا بد وأن يقول: (نزلت عليك يا محمد الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه..) ونحو ذلك وهذا جهل بأساليب اللغة العربية، وموقعها في البيان والبلاغة، ولا شك أن خطاب الله هنا وكلامه عن نفسه بصيغة الغائب ، أبلغ من لو قال سبحانه : ألم، أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم نزلت عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الآيات. وعلى كل حال فهذا أسلوب من أساليب البلاغة في اللغة، والظن أن هذا يطعن في القرآن، وأنه ليس من عند الله, وإنما من عند الرسول ظن تافه ساذج في منتهى الركاكة والجهل.
وأما الالتفات(727) في الخطاب من الحضور إلى الغيبة والعكس، كأن يخاطب المخاطب بضميره فيقول: إنك فعلتَ كذا وكذا ، ثم تخاطبه تارة أخرى بضمير الغائب, فتقول له: فعل فلان كذا وكذا وأنت تعنيه. فهذا كذلك أسلوب من أساليب البلاغة: كقوله تعالى: ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ( ولا شك أن النبي هو المقصود، ثم حول الله الخطاب إليه قائلا: (وما يدريك لعله يتزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى... ( الآيات [عبس:1-4].(7/401)
وأما أن القرآن كتاب تعليم وتوجيه, فقد جاء ليعلم المسلمين ماذا يقولون في صلاتهم، وبماذا يدعون ربهم ، فقد أنزل الله سورة (الفاتحة) لتكون دعاءً وصلاة للمسلمين يتلونها في كل ركعة, وفيها: ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ( وهذا كلام الله عن نفسه سبحانه, يصف نفسه بهذه الصفات الجليلة العظيمة, ثم يعلم المسلمين أن يقولوا في صلاتهم ودعائهم هذا ( إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (. فهذه السورة تعليم وتوجيه من الرب سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين؛ ليصلوا ويدعوا بها في كل ركعة من ركعات صلاتهم،وفي هذه السورة من البلاغة والإعجاز والمعاني ما لا تسعه هذه الرسالة الموجزة، ولو أن عالما بالعربية تدبرها كفته إعجازا وشهادة أن هذا القرآن منزل من الله سبحانه وتعالى وليس من كلام بشر. والخلاصة من هذا السؤال أن صاحبه إنما أتى به من كونه لا يعلم العربية ولا أساليب البيان والفصاحة, وما أظن إلا أن معظم اللغات تعرف هذا اللون من التعبير, والذي يسمى بـ(الالتفات) أي التحول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، لمقاصد كثيرة؛كتخفيف العتاب، أو توجيه النظر إلى البعيد ,أو استحضار المشهد، أو التعظيم، أو التحقير, ونحو ذلك من مقاصد البلغاء.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة (غافر:65): ( هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ( فهو خطاب لله سبحانه وتعالى عن نفسه بصيغة الغائب, وهو تعريف للعباد بذاته العلية جل وعلا، وقد قدمنا أن هذا أسلوب من أساليب العربية في الخطاب.
ومثل هذا أيضا ما اعترض به هذا الجاهل باللغة ,وهو قوله تعالى في (سورة الزخرف:87 ، 88 ، 89): </span>( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (. فإن هذا جميعه من حديث الرب جل وعلا عن نفسه، وعن رسوله، وأن محمدا ( كان إذا سأل المشركين عن خالق السماوات والأرض ,يعترفون أنه الله سبحانه وتعالى, فعَجَّبَ الله نبيه ( من حال هؤلاء المشركين, الذين يعتقدون بأن الله خالق السماوات والأرض ثم لا يفردونه وحده بالعبادة، ولا يؤمنون بقدرته على إحيائهم بعد موتهم ، ثم ذكر الله توجع رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشكاته من قومه ,( وقيله ( أي وهذا قول الرسول لربه ( يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون( وعندئذ يأتيه الجواب وهو بمكة ( فاصفح عنهم وقل سلام ( أي لا تعلن حربا عليهم الآن (فسوف يعلمون ( ما يكون مآلهم في الدنيا من القتل بأيدي المؤمنين، ومآلهم في الآخرة من الخلود في النار أبد الآبدين.
وهذا الجاهل باللغة يظن أن قوله تعالى: ( وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ( الآية ، أن هذا من كلام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإذن فالقرآن لا يمكن أن يكون من كلام الله، ومثل هذا السخف لا يحتاج إلى رد, ولكن ماذا نفعل إذا كان هذا هو مستوى هؤلاء من العلم؟ ومع ذلك يعارضون القرآن، ويشككون في رسالة الإسلام.
السؤال الثاني ونصه كما يلي:
السورة 10 (الآية 3) ذكر بها أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام , وفي السورة 41 (الآيات من 9 إلي 12) ذكر بها أن خلق الأرض تم في يومين, وخلق الله الأنهار والغابات...إلخ في الأرض (بعد خلقها) في أربعة أيام، وأنه قد خلق السماوات في يومين، فالسورة 10 - فيما زعموا- تتناقض مع السورة 41 حيث إن ناتج جمع (2+4+2=8أيام).
الجواب(728) :
هذا السؤال يتعلق بقوله تعالى: ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها.. ( [فصلت9-12].(7/402)
نعم بجمع هذه الأيام دون فهم وعلم يكون المجموع ثمانية, وقد ذكر الله في مواضع كثيرة من القرآن أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وما ظنه السائل تناقضا فليس بتناقض؛ فإن الأربعة أيام الأولى هي حصيلة جمع اثنين واثنين؛ فقد خلق الله الأرض خلقا أوَّليَّا في يومين, ثم جعل فيها الرواسي وهي الجبال ووضع فيها بركتها من الماء، والزرع، وما ذخره فيها من الأرزاق في يومين آخرين, فكانت أربعة أيام، فقول الله سبحانه وتعالى: ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (، هذه الأيام الأربعة هي حصيلة اليومين الأولين ويومين آخرين, فيكون المجموع أربعة, وليست هذه الأربعة هي أربعة أيام مستقلة أخرى زيادة على اليومين الأولين.. ومن هنا جاء الخطأ عند السائل, ثم إن الله خلق السماوات في يومين, فيكون المجموع ستة أيام بجمع أربعة واثنين ولا تناقض في القرآن بأي وجه من الوجوه ثم إن القرآن لو كان مفتريَّا كما يدعي السائل- فإن محمدا (لم يكن ليجهل مثلا أن اثنين وأربعة واثنين تساوي ثمانية, وأنه قال في مكان آخر من القرآن إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فهل يتصور عاقل أن من يقدم على تزييف رسالة بهذا الحجم، وكتاب بهذه الصورة يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ, الذي لا يخطئه طفل في السنة الأولى الابتدائية؟! لا شك أن من ظن أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) افترى هذا القرآن العظيم ,ثم وقع في مثل هذا الخطأ المزعوم, فهو من أحط الناس عقلا وفهما. والحال أن السائل لا يفهم لغة العرب, وأن عربيا فصيحا يمكن أن يقول: زرت أمريكا فتجولت في ولاية جورجيا في يومين، وأنهيت جولتي في ولاية فلوريدا في أربعة أيام ثم عدت إلى لندن لا شك أن هذا لم يمكث في أمريكا إلا أربعة أيام فقط وليس ستة أيام؛ لأنه قوله: في يومين في أربعة أيام. يعني يومين في جورجيا ويومين في فلوريدا . فقوله تعالى: ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام (.أي بزيادة يومين عن اليومين الأولين.
قلتُ: وقد ذكر هذا الطعن ابن النغريلة اليهودي ورد عليه ابن حزم بنحوه(729).
181818-18 1
418-السؤال الرابع هو السورة 21:الآية 76 ذكر بها أن نوحاً وأهل بيته قد نجوا من الفيضان يعني قوله تعالى:
( وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( [الأنبياء:76]، ولكن السورة 11:الآيتان 42-43 ذكر بهما أن أحد أولاد نوح قد غرق؟يعني قوله سبحانه: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ( [هود:42-43]-الجواب(730):إن الاستثناء أسلوب معروف في لغة العرب, فيذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم, ثم يخرج منهم من أراد إخراجه. ويمكن أن يأتي الاستثناء منفصلا، ويمكن أن يأتي متصلا،وفي سورة الأنبياء قال الله تعالى عن نوح:( ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ( وقد بين سبحانه وتعالى المراد بأهله في آيات أخرى, وهو من آمن منهم فقط، حيث أخبر سبحانه وتعالى في سورة هود أنه قال لنوح: ( احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (. فقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يحمل أهله معه إلا من سبق القول من الله بهلاكهم،وقد كان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين ؛ لأنه لم يكن مؤمنا، ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا، وبالتالي فلا تناقض بين قوله تعالى في سورة الأنبياء أنه نجى نوحا وأهله، وبين ما جاء في سورة هود أنه أغرق ابن نوح ؛ لأن ابن نوح لم يكن من أهله، كما قال تعالى لنوح لما سأله عن ابنه : ( يا نوح إنه ليس من أهلك (. وبالتالي فلا تناقض بحمد الله في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(7/403)
السؤال الخامس هو: هناك أخطاء نحوية في القرآن، فيوجد به جمل غير متكاملة، ولا تفهم تماما بدون إدخال بعض الكلمات الأخرى عليها (5:2)، (7 :160-161.. إلخ)،-يعني قوله سبحانه: ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [البقرة:5]، ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(161) ( [الأعراف:160-161]، إن ترتيب السور بالقرآن غير متصل تاريخيا أو منطقيا، فلا تشعر بوقت أو مكان. هناك شك في موضوعية تكامل القرآن؛ لأننا نجد أن أناثاً وأماكن غير محددة وأحداثاً وضعت معا في رؤية واحدة, وكأنهم جميعا كانوا يعيشون معا في نفس الزمان. وهذا يسبب مشاكل عديدة, واختلاط الأمر لكل من يحاول فهم القرآن كقطعة أدبية، لإعادة بناء حياة وتعاليم محمد بوسيلة مرتبة, فلا بد للفرد أن يقفز من سورة إلى أخرى في القرآن كله, ويترك الفرد بإحساس عدم التكامل وعدم الرضا؛ لأنه لم يحصل على القصة الكاملة, وهذا مضاد تماما للإنجيل الذي كتب فيما يزيد عن عدة آلاف السنين بما يزيد عن 40 مؤلفاً مختلفاً.-الجواب(731): إن صياغة هذا السؤال على هذا النحو يدل على أن كاتبه إما أنه لا يدرك شيئا من اللغات، عربية كانت أم غير عربية، أو أنه يعترض لمجرد الاعتراض, وتفصيل ذلك على هذا النحو: (أ) الآية الخامسة من سورة البقرة وهي قوله تعالى: ( أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( يشير الله بقوله : ( أولئك ( على المذكورين قبل ذلك وهم المتقون الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بالقرآن ، والكتب التي نزلت على الرسل قبل القرآن, ويؤمنون بالآخرة، وهؤلاء المذكورون قد عبر الله عنهم(7/404)
بـ ( أولئك ( وهي اسم إشارة للبعيد تعظيما لشأنهم ورفعا لمنزلتهم ( على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( ويبدو أن السائل ظن أن إشارة الله لهؤلاء المذكورين (بأولئك( - وهي صيغة إشارة للبعيد- أن هذا خطأ نحوي؛ إذ يعبر عن القريب بالبعيد، ولم يفهم أن هذا أسلوب بلاغي من أساليب العرب، وهي تعبيرهم بالإشارة بالبعيد للتعظيم والتهويل أحيانا، وللتقليل والتحقير أحيانا حسب السياق، ومرامي الكلام ، وهنا عبر الله عن هؤلاء المتقين ، الذين يتصفون بهذه الصفات بصيغة البعيد , وهي ( أولئك ( رفعا لشأنهم وإعلاء لمنزلتهم, ولا شك أن هذا أمر عظيم ؛ لأن فيه إشارة ورفعة لهؤلاء المذكورين. ب) وأما قوله تعالى في سورة الأعراف: ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما، وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( [الأعراف : 16] واعتراض السائل هو كيف يقول تعالى: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم (، ويتكلم بصيغة الخطاب وهو قبل ذلك قد تكلم عن بني إسرائيل بصيغة الغائب ، وأنه سبحانه قطعهم اثنتي عشرة أسباطا, وأنه قال لموسى كذا وكذا ومرة أخرى لا يفهم السائل أسلوب العربية، ولا بلاغة الخطاب، ويظن أن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب خلل في الأسلوب، وخطأ نحوي!! وهذا يدل على أنه لا يعرف نحوا، ولا بلاغة، ولا يدرك معنى للفصاحة ولا البيان . فهذه الآية في منتهى الإعجاز والبلاغة ؛ فإن الله تحدث فيها عن بني إسرائيل وما صنع لهم من الخير والإحسان، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، وبدلا من أن يقول: وقلت لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. أو وقال لهم موسى: إن الله يقول لكم: ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( فإن الله حذف هذا وانتقل رأسا إلى القول دون ذكر القائل؛ لأن القائل معروف من السياق, وهو الرب تبارك وتعالى, ولا يمكن أن يفُهم أن القائل هو غير الرب جل وعلا, لأن القول هو ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( فمن سيقول هذا القول إلا الله؟ ومعلوم أن حذف ما يعلم جائز، بل ذكر المعلوم ضرورة حشو وزيادة لا داعي لها، والقرآن ينزه عن الحشو والزيادة .ويفهم كل من يعلم العربية أن قوله تعالى: ( وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ( أن معنى ذلك وأنزلنا عليهم المن والسلوى وقلنا لهم :( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( فحذف (وقلنا لهم)، أو (أمرنا موسى أن يقول لهم) لأن هذه زيادة لا داعي لها في السياق لأنها معلومة!! (ج) وأما قول السائل: إن ترتيب السور غير متصل تاريخيا أو منطقيا؛ حيث لا يفهم القارئ الوقت ولا المكان. فهذا كذلك من قصور علمه وفهمه ، وبعده عن إدراك الإعجاز القرآني في ترتيب المصحف، والوحدة الموضوعية في السورة، وهذا باب عظيم لا تسعه العجالةُ للرد على هذه الشبهات السخيفة . وقد كتب في هذا مجلدات ومجلدات قديما وحديثا، وأُحيل السائلَ على كتابٍ مختصرٍ حديثٍ, وهو كتاب "النبأ العظيم" للشيخ الدكتور محمد عبدالله دراز رحمه الله, وأظنه مترجما إلى الإنجليزية. وهنا في هذه الآية من سورة الأعراف لا يسجل الله الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل من حيث كونها تاريخا وإنما يذكر إنعامه عليهم، ويسجل مخازيهم، ونكثهم لعهودهم وكفرانهم لنعمة الله سبحانه وتعالى. فهذه الأحداث التي وقعت لبني إسرائيل وإن كانت متباعدة في الزمان, ولكنها ذُكِرتْ مجتمعة في الآية لتذكرهم بنعم الله على آبائهم, ثم جحودهم ونكرانهم.(د) وأما قول السائل (توني بولدروجوفاك): إن الإنجيل أفضل من القرآن من حيث الوحدة الموضوعية, والترتيب الزمني، وتسلسل الأحداث, فإن هذا مما يدل حقيقة وللأسف على تدني عقل السائل, وعدم تمييزه بين الكتاب المعجز المتناهي في البلاغة والعصمة والإحكام، وبين كتاب لم يسلم من التحريف والتبديل والتناقض، وهو أشبه بمذكرات يوميها كتبها تلاميذ أو تلاميذ تلاميذ المسيح عليه السلام من الذاكرة, معبرين فيها عن تصور شخصي لهم، وتفسير شخصي للأحداث التي نقلت أو رآها بعضهم، وقد اختلفوا في هذا النقل اختلافا كبيرا، وجاءت عباراتهم في كثير من الأحيان ركيكة متهالكة. ولا شك الإنجيل الحقيقي لم يكن كذلك, وإنما أتكلم عن الأناجيل الموجودة الآن بين أيدي النصارى, وهي مختلفة فيما بينها. ولا شك أن القرآن الكريم لم ينزل قط على طريقة الأناجيل المحرفة ,التي لا تعدو أن تكون- كما ذكرنا- مذكرات ويوميات لحياة السيد المسيح عليه السلام، فيها كثير من الاختلاف والتناقض والتضاد, ومن ذلك ما ذكرناه آنفا، ومنها كذلك نسبة المسيح إلى عنصرية بغيضة تارة ,كالزعم أنه قال: إن خبز البنين لا يجوز أن يعطى للكلاب . وذلك عندما استغاثت به امرأة كنعانية أن يشفي ابنتها.(7/405)
وقوله في مقام آخر: لا كرامة لنبي في بلده وتفضيله الأجناس الأخرى على لبني إسرائيل, وكذلك قوله :(لم أبعث إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة وقوله في مقام آخر :اذهبوا واكرزوا بالإنجيل في العالم أجمع!! فتارة يدعي أنه مبعوث لنبي إسرائيل وتارة للعالم أجمع ،
وكذلك قوله بوجوب التزام الشريعة كلها، ثم الادعاء أنه نسخ الشريعة كلها, وأباح للحواريين أن يأكلوا كل النجاسات والخبائث, وأن كل ما يدب على الأرض حلال لهم.. وهذا التناقض كثير في الإنجيل. وليس في الإنجيل قط ما يدل على أن الله تعالى أوحى شيئا, أو شرع شيئا, أو تكلم بنفسه كلاما مباشرا, بل هو رواية عن أعمال المسيح، أو خبر عن المسيح أنه يقول: قال: أبي كذا أو كذا. وليس في الإنجيل ما يدل على أن الله هو الذي يتكلم أو يخاطب عباده.
ومعلوم أن القرآن غير هذا تماما, فليس القرآن مذكرات ويوميات كتبها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ,أو كتبها الصحابة عن حياة النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وإنما القرآن هو كلام الله المعجز الذي ليس للنبي فيه إلا التبليغ فقط ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي (.[ ولا مجال بتاتا للمقارنة بين القرآن الكريم الكتاب العظيم الذي نزل تبيانا لكل شيء, فجمع الدين كله أصولا وفروعا, عقيدة وشريعة ,وأخلاقا وأمثالا ووعظا، وبين الأناجيل المحرفة المتناقضة التي لم تزد على كونها يوميات للسيد المسيح عليه السلام, يظهر فيها لكل ذي بصيرة التناقض والتزيد والتقول على الله بغير علم.-السؤال السادس هو: هناك وجهات نظر متضاربة في ادعاء محمد النبوة؛ فالسورة (53 :الآية10) يعني قوله: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10) ( [النجم:10],ذكر بها أن الله نفسه أوحى إلى محمد. والسورة (16: 102،والسورة( 26: الآيات من 192 : 194)، يعني قوله: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102) ( [النحل:102] ونحوها من الآيات-ذكر بها أن "روح القدس" نزلت إلى محمد, والسورة (15 :الآية8) وهي قوله: ( مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِين ( [الحجر:8] ذكر بها أن الملائكة, وهم أكثر من واحد نزلوا إلى محمد والسورة (2: 97) يعني قوله: ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (
[البقرة:97] ؛ ذكر بها أن الملاك جبريل واحد فقط ، لم يذكر في القرآن ولا في الأناجيل ما يقول أن "روح القدس" هي جبريل.-الجواب: قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم (53 :3-12) عن رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ( الآيات. فهذا وصف لجبريل الروح القدس الأمين, الذي نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بحراء ، وجاءه بالوحي من ربه، ولقد رآه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح مرتين: واحدة في مكة في بدء الوحي، وثانية عندما عرج بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء, كما جاء ذلك في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الصحيحين ، وجبريل المذكور في سورة النجم (53)، هو نفسه الذي ذكره الله في سورة النحل (14)، حيث يقول سبحانه وتعالى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( (16: 102)، فقد سماه الله روحا ؛ لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب ، وهو وحي الله إلى رسله ، ووصفه بروح (القدس) أي المقدس المنزه عن الكذب أو الغش ، فهو الذي قدسه الله ورفعه ، وأعلى من شأنه عليه السلام. وأما ما ذكره الله في سورة الحجر الآية رقم 15,فإن الله لم يذكر فيها أن الملائكة نزلوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالوحي ,كما فهم هذا الجاهل حيث يقول: (والسورة رقم (15: 8) ذكر فيها أن الملائكة ,وهم أكثر من واحد نزلوا على محمد . وإنما الآيات هكذا ( وقالوا ( أي الكفار(7/406)
( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ( فرد الله مقالة هؤلاء الكفار, الذين استعجلوا نزول الملائكة بالعذاب عليهم, وهو ما هددهم الله به إن أصروا على التكذيب, فقال تعالى: ( ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ( أي إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق ، وإنهم إذا نزلوا نزلوا بالعذاب عليهم, فمعنى ذلك أنهم غير ممهلين، والحال أن الله أمهلهم ليقيم الحجة عليهم، ولم يشأ سبحانه وتعالى أن يعجل العقوبة الماحية المستأصلة, لهم كما حدث للأمم السابقة ، بل شاء الله أن يعاقبهم بالعقوبات التي لا تستأصلهم ، فقد أنزل الملائكة في بدر وغيرها من معارك الرسول خزيا للكفار, ونصرا للرسول والمؤمنين.
وأما الآية 97من سورة البقرة فهي نص صريح في أن جبريل عليه السلام هو الذي أنزل القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، قال تعالى:( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ( وهذا رد على اليهود الذين كرهوا جبريل، وأنه ينزل بحربهم وهلاكهم , فأخبرهم الله أن هذا الملاك هو ملاك الرب، وأنه هو الذي أنزل القرآن على قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم )،وقد وصف الله جبريل في القرآن بأنه روح القدس ؛أي الروح المقدسة, كما قال سبحانه وتعالى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق (. وقد قدمنا معنى روح القدس.<o:p></o:p></span> 22
22-السؤال السابع هو: هناك آراء متضاربة في كيفية خلق الإنسان؛ فالسورة (25: 54)-وهي: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ( [الفرقان:54]- يذكر بها أن الإنسان خلق من ماء،والسورة (36: 77,78)-وهي قوله ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( [يس:77]؛ ذكر بها أنه خلق من نطفة, والسورة (37: 71,72)-يعني قوله: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ( سورة ص الآية :71 ؛ذكر بها أنه خلق من طين ، على الرغم من أن سجلات الحفريات لا تساند نظرية التطور. -والجواب(732): أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الكريم- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- أنه بدأ خلق الإنسان بخلق أبي البشر آدم الذي خلقه من التراب، الذي أصبح طينا يعجنه بالماء، ثم حمأ مسنونا، أي طينا مخمرا، ثم سواه الله بأن خلقه بيديه سبحانه, ثم أصبح آدم وهو في صورته الطينية صلصالا كالفخار، وهو الطين إذا يبس وجف، ثم نفخ الله فيه الروح فأصبح بشرا حياَّ، ثم أمر الملائكة بالسجود له بعد أن أصبح كذلك , ثم خلق الله من أحد أضلاعه زوجته حواء- كما جاء ذلك في الحديث النبوي - فهي أنثى مخلوقة من عظام زوجها. والله يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، ثم لما عصى آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله أن يأكل منها ، أهبطه الله إلى الأرض , ثم جعل الله تناسل آدم من اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، والعرب تسمي المني الذي يقذفه الرجل في رحم الأنثى ماء، وسماه الله في القرآن ( ماء مهينا (. وكل ذلك موجود في القرآن الكريم. وهذا المسكين ظن أن هذه آراء متعارضة، وظن أن كل ذلك آراء متعارضة ,ولم يفهم أن خلق آدم لم يكن كخلق حواء فآدم خلق من الطين، وحواء خلقت من ضلع آدم، وأن كل إنسان خلق من أنثى وذكر من ماء مهين، وأن عيسى عليه السلام خلق من أنثى بلا ذكر ، كما قال سبحانه وتعالى عن عيسى: ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( [آل عمران : ]. وكان تنوع خلق البشر على هذه الصور؛ ليبين الله لعباده قدرته الكاملة، فهو يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، وقد خلق الإنسان الأول آدم من طين من غير أنثى أو ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من اجتماع الذكر والأنثى ، فسبحان من له القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة, وهذا كله يدل على الخلق المستقل للإنسان, وأنه لا ينتمي إلى حيوانات هذه الأرض، فالتطور- إن كان حقا- فهو إنما يكون في حيوانات وأحياء هذه الأرض فقط, وأما الإنسان فإنه خلق خلقا مستقلا في السماء، وإن كان الله قد خلقه من طين هذه الأرض, وهذا هو الذي يؤيده العلم والنظر في الكون(733).
الطائفة الثالثة : محاضرة عن تناقض القرآن ألقاها نصراني , ولم يذكر اسمه ولا مكان إلقائها وسجلت على شريط صوتي وكتب عليه : (تهادوا تحابوا) (الدال على الخير كفاعله) (الكلمة الطيبة صدقة)تلبيسا على عوام المسلمين حتى يروج بينهم،ولم يذكر فيه اسمه ولا مكان إلقائها،
وذكر فيه سبعة عشر شبهة ، ومعظمها ذكرت سابقا ، وابتعادا عن التكرار فسأذكر ما لم يقله أصحاب الرسالات السابقة:(7/407)
23-الشبهة الأولى:قال :(مرة يقول محمد إن الجنة لليهود والنصارى والصابئين والمسلمين،ومرة يقول للمسلمين فقط : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ(734) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( [البقرة:62]،ويقول: ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( [آل عمران:85].
-الجواب(735):
إن آية البقرة تتكلم عن اليهود والنصارى والصابئين قبل بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، فكل من آمن بنبيه وأطاعه فله الجنة ، وأما بعد بعثة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد نسخت شريعته الشرائع ونسخ دينه الأديان ، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ، فهذا معنى الآية الأخرى، ويؤيد ذلك ما أخرجه ( ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه : سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أهل دين كنت, معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ( الآية وقال السدي إن ( الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا( الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي, بينا هو يحدث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم , فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك, ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله ( :« يا سلمان من أهل النار » فاشتد ذلك على سلمان , فأنزل الله هذه الآية ,فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة, وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى فلما جاء عيسى,كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ,ولم يتبع عيسى كان هالكا, وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم, وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمن لم يتبع محمدا ( منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل, كان هالكا. قلت(736) :هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ( - قال : فأنزل الله بعد ذلك :
( ومن يبتغ غير الإسلام دين فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا, إلا ما كان موافقا لشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه ,فهو على هدى وسبيل ونجاة ؛فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم ،فلما بعث عيسى ( وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ,فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، فلما بعث الله محمدا ( خاتما للنبيين, ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ,وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ,وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا)(737)،
ومن النصوص الصريحة في هذا الباب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنَّهُ قَالَ :
« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ, يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » (738).
24-قال :(مرة نهى عن الفحشاء ومرة أمر بها، تناقض فظيع جدا،قال في الأعراف:( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ([الأعراف: 28]،وقال في الإسراء: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا... ( [الإسراء:16].
الجواب:
من عدة أوجه:
1-الأمر يطلق في الشرع ويراد به الأمر الشرعي ، والأمر الكوني ، والفرق بينهما ، أن الأمر الشرعي لا يكون إلا فيما يحب سبحانه لكنه لا يلزم أن يتحقق ، فالله تعالى يأمر بتطبيق شرعه, وهو يحب ذلك ,لكن الكثير من الدول لم تفعل،والأمر الكوني يكون فيما يحب وما لا يحب، ولكنه لازم الوقوع؛فالشيطان مخلوق بأمر الله ,لكن الله تعالى لا يحبه ،فالله لا يأمر بالفحشاء شرعا، لكنها تقع كونا، فإنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بأمر الله ومشيئته،ومن هذا الباب معنى آية الإسراء، فإذا قضى الله على قرية بالهلاك , فإنما كان هذا لانتشار الفسق والفحشاء والفجور فيها.
2- ولو سلمنا أن المراد هو الأمر الشرعي، فيكون هناك محذوف ،والتقدير ، أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها، يعنى فخرجوا عن طاعة الله .
3-القراءة الأخرى تبين معنى آخر وهي (أمَّرنا )أي جعلناهم أمراء ، فأضلوا قومهم.(7/408)
4-أَمَرَ في اللغة تأتي بمعنى كَثُرَ وظهر ،أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ : كُنَّا نَقُولُ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَمِرَ بَنُو فُلَانٍ )(739)، ومنه حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل وفيه قال أبو سفيان: (لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ؛إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ)(740).
إذن معنى الآية أن كثرة المترفين الفاسقين في بلد وظهورهم نذير عذاب.
قال ابن كثير :( اختلف القراء في قراءة قوله ( أمرنا ( فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون في معناها ؛ فقيل :معناه أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا, كقوله تعالى: ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ( لأن الله لا يأمر بالفحشاء , وقيل :معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا ،
وقال ابن جرير :يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء .قلت :إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أمِّرْنا مترفيها) قال علي بن طلحة :عن ابن عباس قوله : ( أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ( يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ,فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب, وهو قوله: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ( الآية .وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، والربيع بن أنس .
وقال العوفي عن ابن عباس : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ( يقول: أكثرنا عددهم. وكذا قال عكرمة, والحسن ,والضحاك, وقتادة وعن مالك عن الزهري (أمرنا مترفيها ( أكثرنا )(741).
25- قال النصراني في الشريط المسجل:
(مرة ينهى عن النفاق ومرات أخرى يقر النفاق)، فنهى عن النفاق في سورة النساء يقول : (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(138)الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا(139) ( [النساء:138-139]، وأقر النفاق في النحل بقوله:( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( [النحل:106]، يعني في تصريح لكل إنسان أن يكذب إذا وقع في الأسر أو في أي مأزق ، هذه نزلت في عمار بن ياسر الذي اعترف بالأصنام وكفر بالله وبمحمد, وقال: إن الذي ينكر الله وينافق الكافرين, وهو تحت الإكراه محلل له وليس عليه أي ذنب أو عقوبة, حاشا لله أن ينكر الإنسان إيمانه تحت الضغظ والإكراه)أهـ.
-الجواب:
الذي يظهر أن هذا النصراني يريد الاعتراض لمجرد الاعتراض والطعن، وإلا فالآيتان مختلفتان تماما كل واحدة منهما تتكلم عن أمر مستقل ؛ فالآية الأولى تتكلم عن النفاق, وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام،والآية الثانية تتكلم عن المكره على الكفر، أي إبطان الإسلام وإظهار الكفر ، وشتان بين المعنيين، فإبطان الكفر وإظهار الإيمان لا يجوز في ملة من الملل ؛ لأنه كذب وتزوير وغش وهذا كله محرم عقلا ،وأما إبطان الإيمان وإظهار الكفر في حال الإكراه الملجئ ، من باب الحفظ على نفس المسلم ، فهذا من محاسن شريعة الإسلام ، ولا أدري هل يزعم هو أن دين النصارى لا يجوز فيه إظهار الكفر للضرورة؟ قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( [البقرة:113]. والذي نراه الآن هو أن النصارى تؤيد اليهود تأييدا كاملا وتبرئهم من دم المسيح ، بل وغيروا اسم كتابهم ليوافق اسم كتاب اليهود فسموا الإنجيل العهد الجديد ،والتوراة العهد القديم، فهم - بالجملة- يظهرون لهم التأييد ، ويبطنون لهم البغض ,ويرون أنهم ليسوا على شيء.
26-وقال :
(مرة حرم الخمر في الدنيا ومرة حلل الخمر في الآخرة، قال في المائدة : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( [المائدة:90] ،وقال في المطففين: ( يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( [المطففين :25,26].
-الجواب:
1-أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا، فقد يجوز هناك ما يحرم هنا ، ثم إن في الآخرة لا يوجد تكاليف, بل تسقط كل التكاليف ,بل هي نعيم أبدي.(7/409)
2-خمر الآخرة تختلف عن خمر الدنيا ، فهي خالية من المنغصات والآفات التي في خمر الدنيا ،فقال تعالى : ( بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(18)لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ) [الواقعة:18،19]،وقال:(وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(22)يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ( [الطور:22،23] وقال :( …وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ… (.
فخمر الدنيا ؛1- طعمه غير لذيذ 2-وتحدث لمن شربها الصداع 3-وتذهب بعقله 4-ويكثر عندها اللغو واللغط ، بل لا تحلو إلا بكثرة اللغو 5-وتوقع الإنسان في الآثام العظام من دخول تحت اللعنة وارتكاب للمحظورات, فلا يمتنع عن شيء منها, وكيف يمتنع وهو لا عقل له ، فهذه خمسة منغصات لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة ، فالطعم لذة للشاربين ،وهم لا يصدعون عنها ولاينزفون ؛ أي لا تذهب عقولهم ولا لغو عندها ولا أثم فيها . و قال تعالى : ( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ(46)لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ( [الصافات : 45-47]،وهذا الكأس من خمر الجنة ، والمعين : الجاري الكثير ، ولون هذه الخمر بيضاء أي حسنة المنظر، وهي ذات (لذة) ، والغول صداع في الرأس وقيل وجع في البطن وهي ليس فيها هذا ولا هذا ، (ينزفون) أي لا يسكرون منها(742) ,فلا تذهب عقولهم, وتبقى لذتها .
لذلك من آثر خمر الدنيا على خمر الآخرة, فحري أن يحرمه ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَالَ :« مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ,لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ » (743).
27-وقال :
مرة يقول فرعون نجا، ومرة يقول فرعون غرق :
قال في يونس: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( [يونس:92]،وقال في الإسراء :( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَعَهُ جَمِيعًا ()[الإسراء:103].
-الجواب:
وهذا ليس تناقضا كما هو واضح، بل فرعون مات غرقا ، لكن الله تعالى أخرج جثته للناس لتكون لهم آية،وهذا مما لا يتوقع المرء أن يقع فيه أي لبس، ولكن هو الهوى الذي يلقي صاحبه في المهاوي،ولا بأس أن ننقل بعض النقول عن السلف حتى يطمأن القلب:
(قال ابن عباس وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون ، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح, وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض - وهو المكان المرتفع- ليتحققوا موته وهلاكه ؛ولهذا قال تعالى ( فاليوم ننجيك ( أي نرفعك على نشز من الأرض ( ببدنك ( قال مجاهد :بجسدك . وقال الحسن :بجسم لا روح فيه .وقال عبدالله بن شداد : سويا صحيحا؛ أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه .وقال أبو صخر :بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم ،وقوله:( لتكون لمن خلفك آية ( أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده, وأنه لا يقوم لغضبه شيء)(744).
28-وقال:
مرة يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء. ومرات يقول: إن السماء خلقت قبل الأرض؛قال في البقرة: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( [البقرة:29]،وقال في النازعات: ( أأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا(*)رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(*)وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا(*)وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(*) أخرج منها ماءها مرعها ( [النازعات:27-30].
الجواب:
هناك فرق بين الخلق والدحي ، فخلق الأرض كان قبل السماء ,ثم خلقت السماء ,ثم دحيت الأرض، والدحي - على رأي ابن عباس وجماعة من السلف - هو إخراج الماء والمرعى، يعني أن الله تعالى خلق الأرض ككوكب، ثم خلق السماء وبقيتِ الأجرام، فلما انتهى من ذلك ، بدأ يهيئ الأرض لأن تكون دار حياة للناس ، فجعل فيها الماء والطعام (المرعى)(745)، ومثل هذا كمثل رجل بنى بيتا من دورين , فبنى الدور الأول ثم بنى الثاني ، ثم رجع إلى الأول ليكمل مرافقه و يمدد أسلاك الكهرباء فيه ,وغير ذلك من مستلزمات العيش ، فهو بنى الدور الأول، ثم الدور الثاني , ثم رجع للأول ليهيئه للسكنى
وقد سأل الأمام السيوطي عن هذه المسالة شعراً فقال السائل :
( يا عالم العصر لا زالت أناملكم
لقد سمعت خصاما بين طائفة
في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل
فمنهم قال إن الأرض منشأة
ومنهم من أتى بالعكس مستندا
أوضح لنا ما خفى من مشكل وأبن
ثم الصلاة على المختار من مضر تهمي وجودكم نام مدى الزمن
من الأفاضل أهل العلم واللسن
بالعكس جا أثر يا نزهة الزمن(7/410)
بالخلق قبل السما قد جاء في السنن
إلى كلام إمام ماهر فطن
نجاك ربك من وزر ومن محن
ماحي الضلالة هادي الخلق للسنن
فأجاب : الحمد لله ذي الأفضال والمنن
الأرض قد خلقت قبل السماء كما
ولا ينافيه ما في النازعات أتى
فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا
وابن السيوطي قد قال الجواب لكي
ثم الصلاة على المبعوث بالسنن
قد نصه الله في حم فاستبن
فدحوها غير ذاك الخلق للفطن
لما أتاه به قوم ذوو لسن
ينجو من النار والآثام والفتن)746
وهذا الاعتراض عرض على بعض الصحابة ,كابن عباس وغيره ,وأجاب عنه(747) ،وذكره ابن
النغريلة اليهودي , ورد عليه ابن حزم في القرن الرابع(748)، ومع هذا لا زال يردد
إلى الآن.
29-وقال:
قال في سورة يونس:( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَ كَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( [يونس:94].
إذن محمد كان شاكا في الوحي الذي كان يأتيه وكان مرتابا ، وهذه دعوة له أن يرجع إلى الكتاب المقدس.
الجواب:
ولا زالت سلسلة الجهل باللغة مستمرة، ويوضح ذلك ما يلي :
1-أسلوب الشرط من أساليب اللغة العربية ، وله أدوات كثيرة منها (إن)(749) وهي حرف وجود لوجود ، فمثلا لو قلت لك : إن كنت في البيت اتصل بي ، أو إن كان عندك كتاب الألفية لابن مالك فأعطنيه ، فهذا الأسلوب لا يستلزم أني في البيت أو أن الكتاب عندي.
فكذلك هنا ، لا يستلزم من هذا الأسلوب أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) شاك، كما فهم النصراني، لذلك ورد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال « لا أشك ولا أسأل » (750).
2-وقيل: إن هذا الخطاب للأمة ، كما ورد في مواضع من القرآن(751)،كقوله: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن... ( [الطلاق:1] وغيره كثير.
3-وذهب ابن حزم إلى أن (إن) هنا بمعنى (ما) أي: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك،
كقوله تعالى: ( إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ( [الأعراف:188]وقوله :( إن نحن إلا بشر مثلكم ( [إبراهيم:11] , قال :(لأن من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة, أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه, وينازع فيه أهل الأرض ,ويدين به أهل البلاد العظيمة, ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون, ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في دماغ هذا المجنون الجاهل(752))(753).
ثم إن معنى الآية: أن من أدلة صدق نبوتك يا محمد أن أهل الكتاب يعرفون ذلك ,فاسألهم حتى يطمأن قلبك . وليس معناها اترك دينك واتبع أهل الكتاب كما زعم النصراني(754)
إلى غير ذلك من الطعون الباردة الساذجة ,التي يوردها المغرضون ,وما هي إلا كبيت العنكبوت ، أو كالزبد الذي يعلو على الماء ثم يموت.
000000000000-
(673) انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني (ص:172)، تحقيق د. فوقية حسين محمود ،مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة1979، وانظر آداب البحث والمناظرة ،للأمين الشنقيطي (64)، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة .
(674) تحقيق السيد أحمد صقر ، المكتبة العلمية.
(675) تحقيق مروان العطية , ومحسن خرابة ، دار ابن كثير ، دمشق ،الطبعة الأولى1990.
(676) مكتبة الهلال ، بيروت.
(677) تحقيق سعاد بابقي ،من مطبوعات جامعة أم القرى 1997.
(678) تحقيق صفوان عدنان داوودي،دار القلم , بيروت ،الطبعة الأولى1990.
(679) تحقيق عبدالعزيز الخليفة ، مكتبة الرشد ، الرياض،الطبعة الأولى1996.
(680) مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، الطبعة الأولى1996.
(681) الناشر المجلس العلمي ، في جوهانسبرك ، الطبعة الثالثة 1998.
(682) تحقيق عبد الحليم السلفي ، مكتبة العلوم والحكم ،المدينة المنورة ، الطبعة الأولى1994.
(683) لاحظ هذا المستشرق اليهودي لا يكاد يمر طعن إلا ويسهم فيه ، وللأسف يثني عليه الكثير من المعاصرين.
(684) هكذا والفصيح عقديا.
(685) نمو العقيدة الإسلامية وتطورها ، لجولدتسيهر ، عن كتاب الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين ،لشوقي أبوخليل (ص:64).
(686) انظر : "رد مفتريات على الإسلام "، لعبدالجليل شلبي (ص:67-77)، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن ؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة ، وموقعه باسم : المدعون العامون في محكمة الحقيقة.
و انظر أيضاً الرد على أسئلة (توني بولدروجوفاك) وتشكيكاته حول القرآن الكريم والنبي العظيم ، للشيخ عبدالرحمن عبدالخالق ، والملحدون الجدد لجمال عبدالرحيم , وغير ذلك من الكتب الكثيرة .
(687) وقد ذكرت مع الطعن رد شلبي , وغالبا أزيد عليه ردوداً أخرى لم يذكرها وأنبه على ذلك بكلمة (قلتُ ).
(688)انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(689) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:67).(7/411)
(690) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(691) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68).
(692) الرد على النصراني في مطاعنه على القرآن ، محمد رجب (ص:22).
(693) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(694) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:68).
(695) انظر تفسير فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير ، للإمام الشوكاني (3/89) ، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى،1994، وقد ذكر فيه ثلاثة عشر قولا ، ليس فيها أن المقصود به محو القرآن .
(696) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(697) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69).
(698) فقد ذكر ابن كثير عن كثير من السلف أنهم قالوا: إن بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام ، فنزول الملك وعروجه بالأمر مجموعه ألف سنة (3/457).
(699) تفسير ابن كثير (4/418-420).
(700) أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، رقم :987).
(701) انظر تفسير ابن كثير (4/420).
(702) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(703) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:69).
(704) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(705) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71).
(706) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(707) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71).
(708) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(709) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:71).
(710) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(711) انظر : رد مفتريات على الإسلام (ص:72).
(712) انظر : المصدر السابق (ص:37).
(713) انظر : المصدر السابق (ص:73).
(714) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(715) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:73).
(716) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(717) الجواب:انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75).
(718) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(719) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:75).
(720) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:37).
(721) انظر رد مفتريات على الإسلام (ص:76).
(722) القذاة : -
(723) زوجة الابن .
(724) انتهت إلى هنا الرسالتان اللتان تطعنان في القرآن ؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، والرسالة الثانية جاءت بالبريد من استراليا في إحدى وعشرين صفحة ، وموقعه باسم : المدعون العامون في محكمة الحقيقة ،ورد عليهما عبدالجليل شلبي في كتاب (رد مفتريات على الإسلام) ، (ص:67-77).
(725) وهي رسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة ولم تطبع وتباع في المكاتب مصورة ، و في موقع الشيخ عبدالرحمن على الإنترنت (salafy.net) نسخة كاملة من هذه الرسالة، لذلك ذكرت كلامه من غير إحالة لعدم وجود النص مطبوعا، ولكني اجتهدت أن أوثق كل جواب له بذكر المراجع التي ذكر نحو ما قال .
(726) انظر :معرفة تأويل المتشابه ، د.عبدالله أبو السعود(ص:93).
(727) انظر المعجم المفصل في علوم البلاغة ،د.أحمد عكاوي (ص:208)،دار الكتب العلمية ، بيروت،الطبعة الأولى ، 1992.
(728) انظر :درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز ، للإمام الخطيب الإسكافي (ص:284)، دار المعرفة ، بيروت، الطبعة الأولى 2002،وفتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لأبي يحيى الأنصاري (ص:504)،بيروت ، دار القرآن الكريم،الطبعة الأولى 1983،و الرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم (ص:53)، والانتصارات الإسلامية للطوفي (1/504).
(729) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:52).
(730) انظر : معرفة تأويل المتشابه ، د.عبدالله أبو السعود(ص:79)،دار ابن حزم ،بيروت، الطبعة الأولى 2000، وتفسير ابن كثير (3/185).
(731) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للشنقيطي (ص:5).
(732) انظر : معرفة تأويل المتشابه ، د.عبدالله أبو السعود(ص:88).
(733) وإلى هنا انتهت الرسالة، ورد الشيخ عبدالرحمن عليها.
(734) الصابئون كما قال (وهب بن منبه : الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرا. وقال عبدالله بن وهب: قال عبدالرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله . وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله, قال :ولم يؤمنوا برسول , فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون . يشبهونهم بهم يعني في قولهم : لا إله إلا الله) (تفسير ابن كثير (1/104)ورجحه الإمام ابن كثير -رحمه الله- .
(735) انظر:الرد على النصراني في مطاعنع على القرآن ، لمحمد عبدالمنعم (ص:46)، دار الشاطبي ، الكويت،الطبعة الأولى،2002.
(736) القائل ابن كثير , رحمه الله .
(737) تفسير ابن كثير (1/103) بتصرف .
(738) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان،باب وجوب الإيمان برسالة نبينا ، رقم : 153).
(739) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن ، باب قوله : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها..، رقم:4711).(7/412)
(740) تقدم تخريجه ص:134، وأنه متفق عليه.
(741) تفسير ابن كثير (3/32).
(742) التسهيل لابن جزئ (2/235).
(743) متفق عليه(البخاري:كتاب الأشربة ،باب قول الله (إنما الخمر والميسر …) ،رقم :5253، ومسلم :كتاب الأشربة ،باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب ،رقم :2003).
(744) تفسير ابن كثير (2/431).
(745) فتح القدير للشوكاني (5/374).
746 الحاوي للفتاوي ، لجلال الدين السيوطي (2/19)، مكتبة السلام العالمية ، القاهرة.
(747) انظر : فتح القدير (5/374).
(748) انظر كتاب الرد على ابن النغريلة اليهودي ،لابن حزم (ص:51).
(749) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ،لابن هشام (1/29)، المكتبة العصرية، بيروت، ط1،1991.
(750) أخرجه عبدالرزاق وابن جرير عن قتادة مرسلا (انظر فتح القدير للشوكاني (2/489).
(751) فتح القدير (2/487).
(752) يعني ابن النغريلة اليهودي .
(753) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص:60).
(754) هذه آخر الاعتراضات التي ذكرها النصراني في شريطه.
(1/52)
المبحث الرابع : اتهام القرآن بمعارضة الحقائق
المطلب الأول : دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية :
-الطعن الأول: كيف تزعمون أن محمدا ( اصطفاه الله للرسالة وهيئه, مع وصفه له بالضلال(755)،فهو كقومه كان وثنيا، ( ووجدك ضالا فهدى ( [الضحى:7]؟
-الجواب:
1-(قيل إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في فلاة من الأرض لا شجر معها سموها ضالة ، فتهتدي بها على الطريق ، فقال الله تعالى لنبيه: ( ووجدك ضالا فهدى ( أي وجدك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلي)(756) ،ومن هذا قول : (الحكمة ضالة المؤمن).
أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع ، وبعض المعاني اللغوية معنى جميل كما رأيت.
2-وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق .أي لم تعرفه(757)، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم . يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله ، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع ، فهو ضال بهذا المعنى, أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب : (الضلال ترك الطريق المستقيم ؛ عمدا كان أو سهوا ، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما ، ولذلك نسب إلى الأنبياء ، وإلى الكفار ، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي :( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى( [الضحى:7]، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة ، وقال في يعقوب :( قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( [يوسف:95]، وقال أولاده: ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف:8] إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف:30]، وقال عن موسى عليه السلام: ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ( [الشعراء:20] تنبيه أن ذلك منه سهو ،وقوله: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا... ( [البقرة:282]،أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان ، والضلال من وجه آخر ضربان ؛ ضلال في العلوم النظرية ,كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ,ومعرفة النبوة ونحوهما, المشار إليهما بقوله:( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( [النساء:136]، وضلال في العلوم العملية ,كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات)(758)، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه ، ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل(759) دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( : أَنَّ النَّبِيَّ ( لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ , قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ( الْوَحْيُ, فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ( سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا, ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ : إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ, وَ يَقُولُ : الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ, وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ,ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ . إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ)(760).
********************
الفهرس العام :
الانجيل في عهد موسى ""النبي الامي"" ... 1
اختيار موسى سبعين رجلاً: ... 15
بنو إسرائيل وأرض كنعان ... 16
الاثنا عشر نقيباً ... 19
منصوبة أم مجرورة؟ ... 22
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ ... 23
فاسألوا أهل الذكر ... 28(7/413)
وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بكم ... 29
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... 35
الرد القاتل في دحض زواج المتعة الباطل ... 36
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ... 57
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ... 61
شبهة حول الناسخ والمنسوخ فى الصيام ... 64
سقوط آدم ... 67
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً ... 71
إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ... 76
هود وعاد ... 82
امرأة لوط ... 90
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ... 92
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ... ... 93
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ... 95
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ... 102
لوحا الوصايا ... 104
بنو إسرائيل ومصر ... 107
مشكلة إلقاء شبه المسيح على يهوذا ... 114
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ... 120
قتل فرعون للإسرائيليين ... 126
شُعَيْب ومَدْيَن ... 127
ثعبانٌ أم جان؟ ... 135
فرعون والسحرة وموسى ... 136
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ... 140
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً ... 142
قرية والحيتان ... 144
وإذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورِهِم ذُرِّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ... 147
ورَفَعْنا فوقهم الطُّورَ بميثاقهم ... 154
حبل حواء ... 156
دعاء موسى على فرعون ... 162
هل هناك تكرار بين الآيتين 48 و 123 ... 165
استغفار إبراهيم لأبيه ... 169
ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى ... 173
وما كان الله ليُعذِّبهم وأنت فيهم ... 193
آية السيف والبسملة ... 197
واتَّقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّةً ... 205
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ... 215
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ... 218
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهَيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ... 223
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ... 244
ا للَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... 248
آمنتُ أنه لا إله إلاّ الذي آمنَتْ به بنو إسرائيل، ... 249
ولقد بوَّأْنا بني إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ ... 256
إكراه أو لا إكراه ... 259
شبهة تعدد القراءات والتنقيط ... 261
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ... 272
شبهات حول أثيرت حول الجمع العثماني؟ ... 276
رد الشبهات التي أثيرت حول الجمع العثماني ... 285
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ... 309
نوح وقومه ... 315
ونادى نوح ابنه ... 318
ولقد جاءت رسُلُنا إبراهيمَ بالبُشرى، ... 323
شرُّ العين....الحسد في سوره يوسف ... 326
مقابلة يوسف لإخوته ... 328
قالوا: إنْ يَسْرِق فقد سَرَق أخٌ له مِن قَبُْل ... 333
اذهبوا بقميصي هذا فأَلْقوه على ... 339
ويسبّح الرعد بحمده والملائكة من خِيفَته ... 342
واسْتَبقا الباب، وقَدَّت قميصَه من دُبُرٍ ... 344
قال أحدُهما: إني أراني أعصِر خمراً، ... 346
وقال للذي ظنّ إنه ناجٍ منهما: اذكرني عند ربك ... 355
حلم فرعون ... 357
وما أُبرِّئ نفسي. إن النفس لَأَمَّارةٌ بالسوء ... 364
قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظٌ عليم ... 366
إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً ... 374
قالوا: يا أبانا مالك لا تأمَنَّا على يوسف وإنّا له لناصحون ... 380
وجاءت سيَّارةٌ فأرسلوا واردَهم فأدلى دَلْوَهُ ... 384
حفظ القرءان وعدم تحريفه ... 387
وأَقَمَ الصلاة طرفيِ النهار وزُلفاً من الليل، ... 397
والجانَّ خلقناه مِن قَبْلُ من نار السَّموم ... 401
إنّا نبشّرك (يعني إبراهيم) بغلام ... 403
وإنّ جَهنَّم لَمَوْعِدُهم أجمعين، لها سبعةُ أبوابٍ، لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسوم ... 405
قد مكر الذين مِن قَبْلهم، فأتى الله بُنيانهم مِن القواعد، ... 407
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بشرٌ. لسانُ الذي يُلحِدون ... 410
مَن كفر بالله مِن بعد إيمانه، إلا مَن أُكرِهَ وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ... 414
سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى ... 418
تُسبِّحُ له السمواتُ السَّبْعُ والأرضُ ... 442
وقالوا: لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعاً، ... 449(7/414)
ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّنات ... 459
ولقد هَمَّت به وهَمَّ بها، لولا أن رأى برهان ربه ... 467
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... 474
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ... 476
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ... 483
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ... 485
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... 487
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ... 495
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ... 497
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... 497
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ... 500
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... 502
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ... 506
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ... 511
رخصة إتيان الدُّبُر:“نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ... 513
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... 516
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . ... 522
يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا، وقولوا انظُرْنا، واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ... 526
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... 530
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُّواً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَّزَلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ... 533
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ... 538
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ... 540
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ ... 541
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً ... 544
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّاوَإِذَا خَلَابَعْضُهُمْ ... 547
قصة البقرة ... 549
{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ... 552
هل قالت اليهود عُزير بن الله؟ ... 556
فنفخنا فيها) وقوله (فنفخنا فيه) في قصة مريم عليها السلام؟ ... 562
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ... 564
شبهة الرسم القرآني ... 573
الكلمة تقرأ في رواية حفص عن عاصم (الأيكة) ... 574
اختلاف مصاحف الصحابة ... 576
لماذا أنزل القرآن الكريم باللغة العربيَّة ولم ينزل بلغة أخرى؟ وما الحكمة من ذلك؟ ... 579
أَمْ حسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً، ... 580
موسى والخضر ... 590
إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين؟ ... 601
الطعن في القرآن الكريم و الرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري ... 603
التمهيد ... 616
الباب الأول(النظري) الطعن في القرآن : نشأته ، أسبابه ، مواجهته ... 628
المبحث الثاني : موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن ... 679
المبحث الثالث : قواعد التعامل مع المطاعن ... 684
الباب الثاني (تطبيقي): موقف الطاعنين من آيات القرآن والرد عليهم ... 689
الفصل الأول: الردود الإجمالية على من طعن في القرآن ... 689
الفصل الثاني : الردود التفصيلية على من طعن في القرآن ... 840
المبحث الرابع : اتهام القرآن بمعارضة الحقائق ... 967(7/415)
الباب الثالث-شبهات حول الأنبياء (3 )
شبهه حول نبي الله سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
[ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب*إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد*فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب ردوها على فطفق مسحاً بالسوق والأعناق]
هل يعقل ان يكون تفسير هذه الآية أن نبى الله سليمان الذى وصفته الآية بأنه نعم العبد وأنه أواب تلهيه الجياد عن صلاة العصر حتى توارت الشمس واقترب المغرب فدعا الله ان يرد الشمس حتى يصلى العصر فردت..وللتعبير عن غضبه على الجياد التى ألهته عن صلاة العصر قام وقطع سوقها وأعناقها مسحاً بالسيف!!!
وهل يعقل ان يقتل نبى الله سليمان حيوانات لا تعقل وتستخدم كأداة لدفع عدوان الأعداء وللزود عن عباد الله المؤمنين الذين يدافعون عن دين الله
وهل نبى الله سليمان الذى وصفه الله بهذه الأوصاف الحميدة يعترف أن الجياد ألهته عن ذكر الله
هذا التفسير الخاطئ قد أخفى معنى الآية الحقيقى والذى يحمل فى طياته إعجاز يضاف إلى جملة الإعجاز القرآنى
لنرى ما يقول الطب البيطرى:- للحيوانات الأهلية أمزجة متباينة ,وطباع تتقلب بين الدعة والشراسة لذلك يجب على من يقترب منها الحذر والحيطة خصوصاً الغريب الذى لم يسبق له الاقتراب منها وخدمتها,, لذلك يجب ان يظهر فاحص الخيل نحوه العطف فيربت على رأسه ورقبته وظهره حتى يطمئن الحصان ويعلم ان القادم عليه صديق فلا يتهيج او يرفس
ولأن أهم أجزاء الحصان قوائمه لأنه يجرى عليها,والجرى من أهم صفات الحصان الرئيسية
فإن أول ما يتجه إليه الإنسان عند فحص الخيل هو اختبار قوائمه ويقول كتاب [أصول الطب البيطرى] ولرفع القائمة الأمامية للحصان يمسك الفاحص بزمام الحصان ويقف الفاحص بجوار كتفه متجهاً للمؤخرة ثم يربت له على جانب رقبته وكتفه إلى ان يصل باليد إلى المرفق فالساعد فيصل
المسافة بين الركبة والرمانة,, وهنا يشعر الحصان باليد التى تمسك اوتار قائمته فيرفع قائمته طائعاً مختاراً.
أما قياس نبض الخيل فهو من أهم الأمور لأن قياس النبض يعطى فكرة عن حالة الحصان المرضية
وقياس نبض الخيل يكون من الشريان تحت الفكى والشريان الصدغى والشريان الكعبرى...وإذا كان قياس نبض الخيل عند هدوئه يكشف عن حالة الحصان المرضية,,فإن قياس نبضه لمعرفه حالة قلبه ودرجه إحتماله لابد ان تكون بعد قيام الحصان بشوط من الجرى
لذلك اصبحت هذه الطريقة دستوراً يعمل بها لفحص الخيول فأولا الفحص الظاهرى للتأكد من صلاحيته شكلاً ومنظراً ثانياً يقوم الحصان بالعدو لشوط كبير قدر الإستطاعة ومراقبته اثناء العدو ثم قياس نبضه. [وهذا ما فعله نبى الله سليمان انه امر ان تعدو الخيل إلى اقصى وابعد ما يستطاع حتى توارت بالحجاب ولم تعد رؤيتها مستطاعة,,,ثم طلب ان تعود بعد هذا الشوط من العدو وبعدها قام بقياس نبضها من الشريان تحت الفكى والصدغى والكعبرى ثم قام بفحص الساق لمعرفة اثر العدو عليه وطاقة الساق عليه بعد هذا المجهود من العدو.]
المصدر: كتاب من الآيات العلمية للعلامة عبد الرزاق نوفل رحمه الله
================
شبهة شاول الملك أو جدعون القاضى
الأزهر
شاول الملك أو جدعون القاضى
جاء فى سورة البقرة: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً.. (إلخ (1).
وهذه القصة هى قصة طالوت وداود لما فتحا فلسطين.
ووجه الإشكال أنه قال فيها: إن الله امتحن جيش طالوت بالشرب من النهر. والامتحان لم يكن لجيش طالوت وإنما كان لجيش جدعون وهو يحارب أهل مدين [قضاة 7: 1ـ8].
الرد على الشبهة:
إن سفر القضاة سفر تاريخى ، وسفر صموئيل الأول الذى أورد قصة طالوت وداود سفر تاريخى. فأى مانع يمنع من خطأ المؤرخ فى نقل جزء من قصة إلى قصة أخرى مشابهة لها. خاصة وأنه ليس معصوماً كالنبيين والمرسلين الحقيقيين ؟
ولهذا أمثلة كثيرة منها أن هذا النص مذكور مرتين: مرة فى سفر الخروج ، ومرة فى سفر التثنية من التوراة السامرية. ومذكور مرة واحدة فى سفر التثنية من التوراة العبرانية واليونانية. وهو: " نبيًّا أقمت لهم من حملة إخوتهم مثلك وجعلت خطابى بغيه ؛ فيخاطبهم بكل ما أوصيه به.
ويكون الرجل الذى لا يسمع من خطابه الذى يخاطب باسمى ؛ أنا أطالبه. والمتنبئ الذى يتقح على الخطاب باسمى ما لم أوصه من الخطاب ، ومن يخاطب باسم آلهة أخرى ؛ فليقتل ذلك المتنبئ. وإذ تقول فى سرك: كيف يتبين الأمر الذى لم يخاطبه الله ؟ ما يقوله المتنبئ باسم اللهو لا يكون ذلك الأمر ولا يأتى ؛ هو الأمر الذى لم يقله الله. باتّقاح قاله المتنبئ. لا تخف منه ".
-------------
(1) البقرة: 247
=================
شبهة - فرعون بنى برج بابل بمصر
الأزهر
- فرعون بنى برج بابل بمصر
إن فى القرآن أن فرعون طلب من هامان أن يبنى له برجاً. وهذا خطأ لأن البرج من بناء الناس فى " بابل " من بعد نوح.
الرد على الشبهة:(8/1)
إن فرعون طلب من وزيره الملقب بهامان أن يوقد له على الطين ليجعل له صرحًا. ولم يرد فى القرآن أنه أوقد له على الطين وجعل له صرحًا. ولو أنه أوقد وجعل فما هو الدليل على أن صرح مصر هو برج بابل ؟ ومن المحتمل أنه أراد ببناء الصرح ؛ التهكم على موسى
==================
رؤية رسول الله صلى الله عليه و سلم
ما يراه الإنسان في أثناء نومه إن كان شيئاً يسرَّه فتلك رؤيا صالحة وهي من الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " رواه البخاري . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله تعالى فليحمد الله عليها وليحدِّث بها" رواه الشيخان وفي رواية : "فلا يحدث بها إلا من يحب" وإن كانت هذه الرؤيا لا تسره فذلك حلم من الشيطان فلينفث عن يسراه ثلاث مرات وليتعوَّذ من شرها فإنها لا تضره ولا يلقي لها بالاً ولا يخبر بها أحداً فهي وسوسة من الشيطان .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] قال: ما سألني عنها أحد قبلك هي الرؤيا الحسنة يراها المرء أو تُرى له " رواه الترمذي وأحمد وحسَّنه الترمذي ورواه الطبراني بإسناد قوي. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي " رواه الشيخان. وروى الشيخان عن أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رآني فسيراني في اليقظة " .
هكذا يتبين لنا أن من يرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في منامه فهذه رؤيا صالحة وبشارة من الله تعالى إما بحُسن الخاتمة والوفاة على الإيمان أو أن الرؤيا قد تكون موعظة لصاحبها وتذكِرة له . وقال العلامة المناوي رحمه الله تعالى : يراه رؤية خاصة في الآخرة بصفة القرب والشفاعة.
ينبغي أوَّلاً ملاحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصافه الشريفة و أخلاقه المنيفة ليسهل تطبيقه بعد الرؤية في المنام عليها.
و حقيقة الرؤيا اعتقادات يخلقها الله في قلب النائم كما يخلقها في قلب اليقظان يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم و لا يقظة . و قوله من رآني في المنام فقد رآني، أي من رآني في حال النوم فقد رآني حقّاً أو فكأنما رآني في اليقظة فهو على التشبيه و التمثيل و ليس المراد رؤية جسمه الشريف و شخصه المنيف بل مثاله على التحقيق.
وقوله فإنّ الشيطان لا يتمثَّل بي أي لا يستطيع ذلك لأنه سبحانه و تعالى جعله محفوظاً من الشيطان في الخارج فكذلك في المنام سواء رآه على صفته المعروفة أو غيرها قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال ليست باطلة ولا أضغاثاً، بل هي حق في نفسها، ولو رُؤي على غير صورته صلى الله عليه وسلم، فَتصَوُّر تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هي من قِبَل الله تعالى .
ولقد اتفق العلماء أنه من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام على الهيئة التي وُصِفَت لنا في كتب الشمائل بسند صحيح فقد رآه قطعاً وأما من رآه على غير الصورة المذكورة في السُنَّة الصحيحة كأن رآه حليقاً أسود اللون هنا وقع الخلاف بين العلماء .
فريق منهم قال إنه يكون قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة وإن كان المرئي ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم بعينه (أي ذاته) ولكن تُؤوَّل هذه الرؤية بحسب اختلاف حال الرائي لأنه صلى الله عليه و سلم كالمرآة الصقيلة ينطبع فيها ما يقابلها وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى :
والصحيح أنه يراه - صلى الله عليه وسلم الرائي في المنام - حقيقة، سواء كانت على صورته المعروفة أو غيرها .
و يُذكر أنّ رؤية الرسول صلى الله عليه و سلم في صورة حسنة تدل على حُسن دين الرائي بخلاف رؤيته في صورة شين أو نقص في بعض البدن فإنها تدل على خلل في دين الرائي فبها يعرف حال الرائي فلذلك لا يختص برؤيته صلى الله عليه و سلم الصالحون بل تكون لهم ولغيرهم .
وقال فريق آخر من المحدثين والعلماء إنه من رآه عليه الصلاة والسلام على غير الصورة أو الأوصاف التي نُقِلَت إلينا فلا يُعتبر أنه رآه، واستدلوا على ذلك بأن بعض التابعين كان إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أخبر الصحابة فيقولون له صفه لنا فإذا كان رآه على وصفه بشَّروه بأنه رآه وإلا فلا .
سؤال : ما حكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأمره بطاعة ما وماذا لو أمره بمعصية ؟
الجواب : إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بما يوافق الشرع كأن أمره بصوم يوم كذا مثلاً ونحو ذلك مما يوافق الشرع، يندب للرائي العمل به هو نفسه بشكل خاص ولا يأمر به الناس ولا يندب لغيره أن يأخذ به.(8/2)
فلقد سُئلَ شيخ الإسلام زكريا الأنصاري أن رجلاً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يأمره أن يأمر المسلمين أن يصوموا يوم كذا، فقال : لا يجب علينا صومه ولا نأمر به المسلمين بل يندب صومه للرائي فقط .
أما لو أُمِرَ بمعصية ففي ذلك شبهة أوضحها الإمام النووي فقال : أما الرؤية فجاء بها النص فلا يمكن للشيطان أن يتمثل به صلى الله عليه وسلم .
أما ما وراء الرؤية كالكلام وغيره فلم يأتِ فيه نص يمنع أن يكون الشيطان ألقى في سمع النائم وتلاعب به . وذلك يكون بأن يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فيأتي الشيطان فيأمر النائم بأمور ويسمعها النائم فيظن أنها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ممكن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه " ..
ومن المعلوم أن الشيطان يحاول أن يلقي في روع الأنبياء فيبطل الله سبحانه وتعالى ما يلقيه فكيف لا يمكن له أن يلقي في روع أحدنا وهو نائم ؟ !!! ومن المعلوم أن الشيطان قد يتلاعب بالإنسان في نومه وقد يستعين بعض الفجار بالجن حتى يتلاعب بإنسان و الاحتلام هو باب من تلاعب الشيطان بالإنسان .
ثم قال النووي : وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم في المنام من قبيل الرواية والإخبار، والرواية والإخبار لا يُقبل فيه إلا الضابط، والنائم لا يعتبر ضابطاً، وذلك لأنه قد ينسى ويلقى الشيطان في روعه أشياء أخرى، ومن المعلوم أن أطول منام لا يتجاوز اللحظات القليلة وإنه أحسَّ به الإنسان أن طويل جداً "، بسط هذا الكلام الإمام النووي في تهذيب الأسماء والصفات.
( الموسوعة الإسلامية المعاصرة بتصرف
================
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ? (الصافات-107
في مقالة بعنوان : ( من الذبيح إسماعيل أم اسحق ؟ ) نُشرت في احدى مواقع التنصير لكاتب اكتفى بأن يوقع عليها باسم : ( الشيخ المقدسي ) دون أن يعرفنا بنفسه اكثر . نفاجأ بموجة عارمة من الهجوم الضاري على الإسلام و المسلمين لا لشيء إلا لأنهم يقولون ربنا الله ! ؛ فيقول الكاتب في صدر مقالته : " كما احترف الإسلام العنف و الإرهاب هكذا أيضا احترف المسلمون التزوير . لم يشهد التاريخ أمة احترفت التزوير مثل أمة الإسلام ، تزوير الحقائق و طمس المعالم صفة أساسية تميز بها الإنسان المسلم . " ( !! )
حقا لقد جانبه الصواب بمقولته و تهجمه و سبابه ، فإن كان يخاطب بني دينه من النصارى فالبعض لن يرضوا بهذا السباب العلني منهم لأنه يتنافى مع رسالة المسيح عليه السلام الذي يقول : (أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ . ) متى 5 - 44 .
هذا حقا إن كان المسلمون أعداءكم و يسيئون إليكم و يطردوكم و لا يتعايشون معكم في سلام على أرض وطن واحد ! و إذا كان يخاطب الناس كافة من مسلمين و نصارى و يهود دفاعا عن قضية معينة ، أو حق يرى أن المسلمين قد سلبوهم إياه ، فقد أخطأ مرة ثانية بسبابه و هجومه الذي يسلبه كل الحقوق بل و ينفر منه قرّاءه و يبعد عنه من ينظر للموضوع بعين الحياد !!
• ما هو الموضوع ؟
و يورد الكاتب بعد ذلك مسألة ورد ذكرها في الكتب السماوية و تناولتها أقلام المفسرين المسلمين من قبل من بين مرجِّح أو غير مكترث ؛ ألا و هي : ( من هو الذبيح اسماعيل أم اسحق ؟ ) ، و يورد بعد ذلك دراسة مستفيضة في كتب المسلمين كذكره الأيات الكريمة التي وردت في هذا الموضوع في القرآن و بيان ذكر مرات اسماعيل من ذكر اسحاق عليهما و على نبينا الكريم افضل الصلاة و السلام محاولا اثبات تكريم القرآن لإسحق عن اسماعيل عليهما السلام ، و ذكر أيضا أراء المفسرين مع بيان ما وصلوا اليه من خلاف عندما تناولوا هذا الموضوع بالدراسة محاولا ايضا اثبات أن من ذكروا اسماعيل كذبيح بدلا من اسحق انما يبدل حقيقة ساطعة كالشمس ، و ذكر كذلك بعض من أراء المفسرين اليهود التي وردت في ( المدراج ) بل و ذكر رأي الشعراء العرب القدامى كالفرزدق و جرير و غيره ، لا لشيء إلا ليثبت للقاريء أن معظم الفقهاء بل و عامة الناس يؤيدون رأيه و الذي اعتبره من صميم عقيدة النصارى ؛ و هو أن الذبيح هو اسحق دون اسماعيل عليهما السلام !(8/3)
و اورد رأيي الشخصي في هذا الموضوع كمسلم ، فأقول : إن الذبيح إذا كان إسماعيل أم إسحق عليهما السلام فالأمر لن يختلف كثيرا ؛ فكلاهما نبي كريم و ابن نبي كريم و نحن جميعا نؤمن بكل الأنبياء و برسالاتهم دون تفرقة بين احد منهم لقولع تبارك و تعالى : ? آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? ( البقرة- 285) ، فالأمر اجتباء و تشريف من الحق سبحانه و تعالى و كلاهما أهل له . و لم يرد في هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم فنستند اليه و ينتهي الأمر ؛ هذا لأنه لا يؤثر في العقيدة و لا دخل له بالإيمان . فالمسلم الحق لا يبحث كثيرا في هذا ! و كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حين سئل عن هذا : إن هذا الشيء ما كنت لأنظر فيه ( قصص الأنبياء – ابن كثير )
• نظرة على القرآن الكريم :
و لكن اذا تناولنا أيضا الموضوع بالدراسة في ظل القرآن الكريم نرى الحق تبارك و تعالى يورد قصة الذبيح فيقول : ? وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَىَ رَبّي سَيَهْدِينِ O رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ O فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ O فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ O فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ O وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ O قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ O إِنّ هََذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ O وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ O وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ O سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ O كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ O إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ O وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ O وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىَ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرّيّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ ? ( الصافات- 99 : 113 ) . فنرى أن النص القرآني يورد قصة الذبيح ثم يورد : ? وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ ? و كأنه يقول : و من بعد هذا جاءت البشرى بإسحق عليه السلام . فمن يكون الذبيح ؟ إنه جدٌّ يكون الأمر متكلّفا اذا كان حديث الذبيح عن اسحق عليه السلام دون أن يسميه ، ثم يسميه بإسمه ، و يبشر أبيه به كنبي و من الصالحين . فهذا يتعارض مع بلاغة النص القرآني . و الله تعالى أعلى و اعلم .
و نورد أيضا رأي ابن كعب القرظي إذ يقول : يقول الحق تبارك و تعالى : ? وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ? (هود-71) فكيف تقع البشارة بإسحق و أنه سيولد له يعقوب عليهما السلام ، ثم يؤمر أبيه بذبحه و هو صغير قبل أن يولد له ؟ ( نفس المرجع السابق ) .
و ما سبق نورده للكاتب لا نريد به اقصاء الأمر عن احدهما دون الأخر عليهما السلام جميعا ، و لكن لنثبت له أن استعمال العقل و التفكير في نصوص قرآنية ثابتة لن يبلغك ما تريد من زرع بذرة الشك في نفس القاريء المسلم بل على العكس انه شيء مردود عليه و من نص القرآن فكلمة الله تتكلم عن نفسها .
• و ماذا تقول التوراة ؟
و ليسمح لي الكاتب هنا بدراسة الموضوع كما تعرضه التوراة و لنقرأ النص معا : ( وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». فَقَالَ: «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ». ) تكوين 22 : 1-2.(8/4)
فنجد النص يسمي اسحق بأنه ابن ابراهيم الوحيد ! و واقع الأمر أن اسحق لم يكن أبدا ابنا وحيدا لأبراهيم عليهما السلام في أي لحظة من حياته ؛ لأنه عندما ولد كان لإسماعيل عليه السلام أربعة عشر عاما – بنص التوراة - فكيف يكون اسحق وحيده ؟ هل الرب مثلا لا يعترف بزيجة ابراهيم و هاجر لكونها جارية ؟ و الإجابة : لا ! لأن الترواة أيضا تقول : (وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضاً سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ ) تكوين 21 : 13 . حقا أنه يعترف في مواضع اخرى بأنه بإسحق يدعى لإبراهيم نسلا ( تكوين 17 : 19 و 21 : 12 ) و لكن ليس معنى أن يتبرأ منه . و إن كان قد نبذه و امه في البرية فما انقطعت صلته به أبدا و لا صلته بأخيه من بعده بدليل ما تقصه التوراة عن موت ابراهيم فتقول : ( وَدَفَنَهُ إِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ ابْنَاهُ فِي مَغَارَةِ الْمَكْفِيلَةِ ) تكوين 25 : 9 ، و بذلك فلم يكن اسحق الوحيد أبدا !
فالنص بهذا لا يكون معقولا عند التفكير فيه . فإذا حُذِفت من النص كلمة ( وحيدك ) يكون المعنى معقول و مقبول ! أو تُستبدل ( اسحق ) بـ ( إسماعيل ) فيكون ايضا كذلك !
و لا نريد بهذا أيضا أن نفاضل بين أنبياء الله - كما أسلفنا – ولكن لأثبت للكاتب أنه إذا أردت اخراج دليلا عقليا من التوراة لما تريد فهو موجود !
و في النهاية أقول للكاتب : إن المسلمين لا يكترثون بمسألة الذبيح و لا يفاضلون بين أنبياء الله فما هكذا علمنا ديننا ، و لا يدخلون في نزاع و لا تفاخر بالأجداد مع اليهود أو حتى مع الفرس الذين جعلهم الكاتب من نسل اسحق و قد جانبه الصواب في ذلك أيضا فهم ليسوا من بنى اسرائيل و لا من بني سام من الأصل كما هو وارد في كتب التاريخ و كما يعرف العرب الذين جعلهم يحرفون التوراة الذين لم يعرفوها من اجل صراعهم القادم مع الفرس !!
أيضا قد أنزل الله عز و جل القرآن على نبيه صلى الله عليه و سلم هدى و نور لمن يقرأه و يتدبره و ليس لمن ينظر له بعين السخط و الحقد و الكراهية . فالكاتب و غيره ممن يوجهون الشبهات للقرآن يوما بعد يوم لا يدرسونه دراسة مستفيضة و تبحث أعينهم في كل حرف منه عن نقص أو عيب أو تأويل محرّف و ذلك لكي يرضوا غرورهم و ظنهم أنهم قد نالوا منه ، و حقيقة الأمر أنهم لو حكَّموا العقل المجرد و الفطرة السليمة لوجدوا عكس مايقولون .
اللهم اهدنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
كتبه الأخ / طارق
==================
شبهة قصة ذى الكفل
الأزهر
قصة ذى الكفل
يقول المعترض: إنه جاء فى القرآن ذكر نبى اسمه (ذا الكفل) وليس فى التوراة مسمى بهذا الاسم. وذكر من كلام البيضاوى كلاماً فى شأنه ، وذكر أيضاً كلاماً لغيره.
الرد على الشبهة:
هو أنه جاء فى كتاب " نزهة المشتاق " ومؤلفه يهودى يحكى فيه تاريخ يهود العراق: أن (ذا الكفل) الذى ورد اسمه فى القرآن هو نبى الله حزقيال. وكان معاصراً لسبى اليهود فى بابل
==================
شبهة لم تنزل مائدة من السماء
الأزهر
لم تنزل مائدة من السماء
إن فى سورة المائدة: أن الحواريين قد طلبوا مائدة من السماء. وأن الله قال (إنى منزلها عليكم (ولا يقول الإنجيل: إن تلاميذ المسيح طلبوا منه آية من السماء ، ولا يقول: إن مائدة نزلت من السماء.
الرد على الشبهة:
إن المعترض غير دارس للإنجيل وغير دارس للتوراة. وذلك لأن فى إنجيل يوحنا أن الحواريين طلبوا آية من السماء " فقالوا له: فأية آية تصنع ؛ لنرى ونؤمن بك ؟ ماذا تعمل ؟ آباؤنا أكلوا المنّ فى البرية. كما هو مكتوب: أنه " أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا " [يو 6: 30ـ31].
إنهم طلبوا مائدة من السماء ؛ لأنهم قالوا: " آباؤنا أكلوا المن فى البرية " بعد قولهم " فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ؟ " واستدلوا على أكل آبائهم للمن بقولهم مكتوب فى التوراة أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا. وهذا يدل على أن آباءهم أكلوا المن والسلوى فى سيناء. والنص هو: " وأمطر عليهم منّا للأكل وبرّ السماء أعطاهم " [مزمور 78: 24].
فهل نزل المن من السماء ؟ وقد سماه داود ـ عليه السلام ـ مائدة فى قوله عنهم: " قالو: هل يقدر الله أن يرتب مائدة فى البرية ؟ " [مز 78: 19] فمعنى نزوله من السماء: أنه من جهة الله لا من جهة إله آخر. ونص إنجيل يوحنا يبين أنهم طلبوا مائدة من السماء. ذلك قوله: " أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا " فإذا بارك الله فى طعام من الأرض ليشبع خلقاً كثيراً ؛ فإنه يكون مائدة من السماء. كالمن النازل من السماء. وهو لم ينزل من السماء وإنما كان على ورق الشجر ، وكالسلوى.
ومن أعجب العجب: أن مؤلف الإنجيل قال كلاماً عن المسيح فى شأن محمد رسول الله لا يختلف اثنان فى دلالته عليه صلى الله عليه وسلم. وقد استدل المسيح فيه عليه صلى الله عليه وسلم بنص فى الإصحاح الرابع والخمسين من سفر إشعياء.(8/5)
ويقول المعترض: ولعلّ قصة القرآن عن نزول مائدة من السماء نشأت عن عدم فهم بعض آيات الإنجيل الواردة فى متى 26 ومرقس 24 ولوقا 22 ويوحنا 13. وغرضه من قوله هذا أن لا يعرف المسلمون موضع المائدة من الأناجيل لأنها بصدد كلام من المسيح فى شأن محمد رسول الله ، وموضعها الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا
================
نبى الله يونس - هل عصى ربه او غوى ؟
وردت الشبهة فى قوله تعالى (( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) و قوله تعالى (( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )) ، فقالوا : كيف يعصى يونس أمر ربه ؟ و كيف يظن أن الله القادر على كل شىء لن يقدر عليه ؟
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
قال الإمام ابن حزم فى الملل (فأما يونس عليه السلام فلم يغاضب ربه ، و لم يقل تعالى أنه ذهب مغاضباً ربه ، فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب و زائداً فى القرأن ما ليس منه ، و هذا ما لا يجوز فإنما هو غاضب قومه و لم يوافق ذلك مراد الله تعالى و إن كان يونس لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز و جل،و الأنبياء يقع منهم السهو بغير قصد و يقع منهم الشىء يراد به وجه الله فيوافق خلاف مراد الله تعالى))
و هذا هو المعنى الصحيح و الذى يتضح جلياً بفهم قوله تعالى ((فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)) ، "جاء رجل فسأل ابن عباس: كيف يظن نبى الله يونس أن الله لن يقدر عليه؟ فقال ابن عباس: ليس هذا، ألم تقرأ قول الله تعالى ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ))
قال الإمام القرطبى فة تفسير قوله تعالى ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ))
[قِيلَ : مَعْنَاهُ اسْتَنْزَلَهُ إِبْلِيس وَوَقَعَ فِي ظَنّه إِمْكَان أَلَّا يَقْدِر اللَّه عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ . وَهَذَا قَوْل مَرْدُود مَرْغُوب عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كُفْر . رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيّ , وَالثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مَعْنَاهُ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّق عَلَيْهِ . قَالَ الْحَسَن : هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر " [ الرَّعْد : 26 ] أَيْ يُضَيِّق . وَقَوْله " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : 7 ] . قُلْت : وَهَذَا الْأَشْبَه بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن . وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى , أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ .
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْقَدْر الَّذِي هُوَ الْقَضَاء وَالْحُكْم ; أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالْفَرَّاء . مَأْخُوذ مِنْ الْقَدْر وَهُوَ الْحُكْم دُون الْقُدْرَة وَالِاسْتِطَاعَة]
فكلمة نقدر عليه لا تشير ههنا إلى معنى الإستطاعة فهذا ما لا يظنه أحاد الناس فضلاً عن نبى ، و إنما تشير إلى معنى التضييق، فيونس عليه السلام لما دعى قومه للتوحيد و نفروا منه و أذوه تركهم غضباناً لله و لم يظن أن الله يحاسبه و يضيق عليه لذلك، و إنما حاسبه الله لأنه لم يصبر عليهم و خرج منهم قبل الإذن ، كما قال تعالى ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) و قد نبه رسول الله (ص) إلى هذا الأمر و حذر من أن يسىء إنسان الظن بنبى الله يونس فقال عليه الصلاة و السلام: (( لا يقولن أحدكم إني خير من يونس )) رواه البخارى
عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه "قال - يعني الله تبارك وتعالى - لا ينبغي لعبد لي (وقال ابن المثنى : لعبدي) أن يقول : أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام"رواه مسلم.
و قال عليه الصلاة و السلام: ((ما ينبغي لنبي أن يقول : إني خير من يونس بن متى)) صحيح أبو داود للألبانى
و قال عليه الصلاة و السلام ((ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) صحيح ابن ماجة
و هذا من تعظيم رسول الله (ص) لشأن اخوانه الأنبياء و دفاعه عنهم عليهم صلوات الله أجمعين(8/6)
و هفوة نبى الله يونس هذه لو صدرت عن غيره لاعتبرها فى ميزان الفضيلة و لكن يونس عليه السلام أوخذ يها نظراً لرفيع مقامه كما نقول دائماً (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ، و فعاقب الله تعالى نبيه يونس بموجب (التربية الخاصة) لتزكية نفسيه الطاهرة و السمو بها عن كل شائبة، و قد تضرع عليه السلام إلى ربه منيباً معترفاً بخطئه فقال عليه السلام " لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين .." فاستجاب له ربه تعالى و جعل دعاءه هذا مأثوراً لرفع الكرب إلى يوم القيامة،
================
المَلام لمَن أخطأَ في حقّ يونس عليه السلام
بقلم المهندس مراد عبد الوهاب الشوابكه
من المشاكل التي يواجهها المسلمون اليوم هي هجر القرءان الكريم، فلا تكاد تركب في حافلة أو تدخل في سوق إلا وتجد أصوات الأغاني الماجنة تتعالى في كل مكان كأنّها أصوات الشياطين، وقلّما تسمع فيها القرءان، وكأن القرءان الكريم قد أُنزِلَ فقط على أهل مكّة ولا ينبغي لك أن تسمعه إلا في المسجد، فلا غرابة إذن أن نجد من بين أبناء المجتمع الإسلامي وسط هذه الأجواء الصاخبة بما لا يرضي الله عزّ وجلّ من لا يكاد يفهم القرءان، فقد تبدّلت لغتهم القرآنية الفصيحة بكلمات ماجنة ركيكة طغت على القلوب الصحيحة فأشربتها بحب الشهوات وأبعدتهم عن فهم كلام ربّ الأرض والسماوات.
وأرجوكم أن تعذروني على هذا الكلام، ولكنها الحقيقة التي لن نجد عن قولها مصرفاً، لأنها داءٌ عضال استشرى في جسد الأمة حتى أردى بأبنائها الضِعاف في مهالك الشبهات والفهم الخاطئ لكلام الله عزّ وجل، واليوم سنتحدّث إليكم حول تصحيح خطأ فاحش وقع فيه الكثيرون من الذين إضيَقَّت مداركهم اللغوية حتى وصل بهم الحال إلى القول بأنّ يونس عليه السلام قد شكَّ في قدرة الله عليه (حاشا لله) ولكن هؤلاء للأسف اكتفوا بظاهر القرءان ولم يفهموا معناه ولم يقرؤوا التفاسير لذا جاءت هذه المقالة بعد ما سمعت من بعضهم هذا الفهم الخاطئ.
يونس بن متّى عليه السلام " ذو النون ":
هو أحد أنبياء الله عزّ وجلّ الذين ورد ذكرهم في القرءان الكريم لمقصد عظيم هدفه شحذ همم الدعاة إلى الله تعالى وتحذيرهم من مغبّة الوقوع في اليأس من الدعوة إليه لأن مفاتيح القلوب بيد الله عز وجل وما عليك إلا البلاغ المبين فلعلك مع كثرة الدعاء والبلاغ توافق لحظة صفاء فطرة عند من تدعو فيكون ذلك سببا لهدايته وصلاحه .
أما سيدنا يونس عليه السلام فقد أرسله الله إلى أهل نينوى ليدعوهم إلى عبادة الله عز وجل، وترك ما يدعون من دونه، فما كان جواب قومه إلا أن كذّبوا دعوته وأصرّوا على كفرهم، فلمّا رأى هذا العناد والكفر تركهم مغاضباً، فركب البحر، حتى إذا ماجت السفينة بمن فيها ألقي بيونس عليه السلام بعد أن إستهموا عليه فابتلعه الحوت في بطنه وضيَّق عليه في جوفه فنادى في الظلمات أن لا اله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين، فنجّاه الله عز وجل مما فيه.
أمّا الخطأ الفاحش الذي وقع فيه البعض فهو قولهم بأن سيدنا يونس عليه السلام كان لديه شكّ في قدرة الله عزّ وجلّ ونسوا بذلك أنهم بمقولتهم هذه قد أخرجوه من دائرة الإيمان إلى الكفر، وهذا ما لا ينبغي أن يقال عن مؤمن عاديّ، فكيف يرضونه لنبي كريم ؟
وسبب هذا القول هو عدم فهم الآية 87 من سورة الأنبياء كما ينبغي :
بسم الله الرحمن الرحيم
" وذَا النُّونِ إذ ذَّهَبَ مُغاضِباً فظَنَّ أن لَّن نَّقدِرَ عَليهِ فَنَادَى فِي الظُّلمَاتِ أن
لآ إله إلا أنت سُبْحَانكَ إنّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينْ "
صدق الله العظيم
أمّا قول الله عز وجل" فظَنَّ أن لَّن نَّقدِرَ عَليهِ " ليس بمعنى أنّ يونس عليه السلام قد شكّ في قدرة الله عليه، إذ يستوجب ذلك منّا أن نحيط بمعاني كلمة نَّقدِرَ اللغوية :
من المعجم الوسيط :
بإرجاع كلمة نَّقدِرَ إلى أصلها الثلاثي قَدَرَ ، نجد :
قَدَرَ اللهُ على فلان : معناها ضَّيَقَ عليه و وابتلاه ، وفي التنزيل العزيز :
" وأمّا إذا ما ابتلاه فَقَدَرَعليه رزقه "
فالقدر إذن هو وقوع البلاء من الله عز وجل على الإنسان نتيجة تقصيرٍ بَدَرَ منهُ ، أما إذا لم يدرك هذا الشخص وقوعه في المحظور فربّما يتبادر إلى ذهنه ويظن بأن الله لن يعاقبه على فعلته ولن يقدر عليه ـ لن يعاقبه ويبتليه ـ وهذا تماما ما حصل مع يونس عليه السلام إذ أنّه بعد ما ترك دعوة قومه ظنّ أن الله لن يبتليه لكن الله ضيّق عليه بطن الحوت .
وختاماً نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين ويجعلنا من الذين يتدبرون القرءان ويقيمون حروفه وحدوده ، وأن نكون ممن حسّنوا ظَنّهم بالله وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام .
مع تحيّات م.مراد عبد الوهاب الشوابكه
Shau_murad@yahoo.com
المصادر والمراجع :
---
(1) القرءان الكريم
(2) تفسير القرءان العظيم للإمام الحافظ ابن كثير
(3) في ظلال القرءان – سيّد قطب
(4) المعجم الوسيط – الجزء الثاني – ط3
====================(8/7)
المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يونس بن متى عليه السلام
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من درس: المفاضلة بين الأنبياء
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما ما يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا تفضلوني عَلَى يونس} وأن بعض الشيوخ قَالَ: لا يفسر لهم هذا الحديث، حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله، وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل عَلَى جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح {لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وفي رواية {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب}
وهذا اللفظ يدل عَلَى العموم أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه عَلَى يونس بن متى، ليس فيه نهي الْمُسْلِمِينَ أن يفضلوا محمداً عَلَى يونس، وذلك لأن الله تَعَالَى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
فقد يقع في نفس بعض النَّاس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إِلَى هذا المقام، إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كما قال أول الأَنْبِيَاء وآخرهم، فأولهم آدم قد قَالَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية على بن أبي طالب وغيره بعد قوله: {وجهت وجهي} إِلَى آخره، {اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت} إِلَى آخر الحديث، وكذا قال موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] وأيضاً فيونس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل فيه فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم، حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فقد يقول من يقول: (أنا خير منه) وليس للأفضل أن يفخر عَلَى من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد، ولا يبغي أحد عَلَى أحد} ، فالله تَعَالَى نهى أن يفخر عَلَى عموم المؤمنين، فكيف عَلَى نبي كريم، فلهذا قَالَ: {لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى} ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر عَلَى يونس.
وقوله: {من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصير أنقص، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم بل هو تقدير مطلق، أي من قال هذا فهو كاذب وإن كَانَ لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وإن كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعض التفاسير لحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى} وذكر أن بعض أصحاب الطرق أو بعض أدعياء العلم الباطن من مشايخ الصوفية الذين يدعون العلم الباطن -ولم أستطع أن أعثر عَلَى ترجمته- يقول في معنى هذا الحديث: أنا أفسر لكم معنى هذا الحديث، لكن بشرط أن تعطوني مالاً جزيلاً -وسوف أشرحه لكم بالشرح الإشاري الصوفي- ويسمون تفسيرهم للقرآن تفسيراً إشارياً باطنياً.
فيفسرون الآية عَلَى خلاف ما جاءت به، كما في كثير من تفاسيرهم، مثل تفسير روح المعاني وغيره، فوافقوا عَلَى ذلك فأعطوه مالاً جزيلاً، وقالوا له: اشرح لنا الحديث.
فقَالَ: معناه "إن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج".
فَقَالُوا: يستحق الشيخ أن نعطيه كل المال من أجل هذا المعنى العظيم، وهذا دليل عَلَى جهلهم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمعاني حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجهلهم بالسنة أيضاً.(8/8)
وقد قال بعض العلماء: إن هذه اللفظة هي: {لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى} لم تصح وإنما ورد ما يدل عَلَى معناها عند بعض العلماء، كما في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، فبعض العلماء فهم من هذا أنه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لا أحد يقول: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من يونس.
والبعض الآخر قالوا: إن المقصود من قوله: إني -أي المتكلم- خير من يونس بن متى، فقد كذب، ويقول الحافظ ابن حجر : الرواية الأخرى {من قَالَ: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب} هي في صحيح البُخَارِيّ وتدل عَلَى أن المقصود من قوله "إني" أي المتكلم، لأنه يقول: من قال "أنا"، فأي أحد من النَّاس يقول: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب، لكن يُقال له:
أولاً: لم تصح هذه الرواية.
وثانياً: عَلَى فرض أنها ثبتت، فإن هذا المعنى الذي فهمه بعض العلماء، ليس عَلَى إطلاقه، لكن عَلَى فرض ذلك فلا يكون تفسيره بأن قرب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه ليلة الإسراء والمعراج مثل قرب يونس، وهو في بطن الحوت، هذا المعنى باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما اختص الملائكة قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19] وقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب [فاطر:10].
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به إِلَى السماء كَانَ في موضع التكريم، وهناك ما يدل عَلَى أن العلو كلما كَانَ أكثر، كلما كَانَ فيه تكريم، وقرب من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنده، ولهذا سمى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الملأ الأعلى بهذا الإسم، لأنهم أعلى من أهل الدنيا لقربهم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما جَاءَ في الحديث الآخر {وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} .
فالشاهد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل إِلَى ذلك المقام الأعلى الذي لم يصل ولن يصل إليه مخلوق قط، كَانَ هذا تكريماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو في هذه الحالة وبهذا العمل أفضل من كل النَّاس الذين لم يصلوا إليه وكذلك الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يحظوا بأن يصلوا إِلَى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فهذا تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أفضل من يونس بن متى عليهما الصلاة والسلام.
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يقل أحد: إني خير من يونس بن متى} ليس فيه منع تفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، وإنما الذي فيه النهي بأن أحداً لايجوز له أن يفضل نفسه عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، بأن يقول: إن يونس فعل ما يلام عليه، وأنا لم أفعل ما ألام عليه، ومع ذلك فإن يونس عَلَيْهِ السَّلام قد استغفر وتاب، وقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وفي قوله هذا دليل عَلَى أنه فعل ما يلام عليه، كما خاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48].
وكان سبب لوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليونس: أنه لما أمره أن ينذر قومه لم يصبر عَلَى أذاهم ولم يكن له العزم عَلَى مواجهتهم، وكذبوه إذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:140-142]، فكان هذا الفعل سبباً للوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، وهذا دليل عَلَى أنه لم يكن من أولي العزم الذين قال الله تَعَالَى فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فأولوا العزم أفضل من يونس عَلَيْهِ السَّلام، وأفضل من آدم عَلَيْهِ السَّلام، من هذه الناحية؛ لأن الله تَعَالَى قال في حقه وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115] فآدم عَلَيْهِ السَّلام أيضاً لم يكن لديه عزم، ولذلك وقع في معصية الأكل من الشجرة، لكن هل معنى هذا أنه يجوز لأحدٍ من النَّاس أن يقول: إنه فعل ما يلام عليه، وأنا أفضل منه، لأني لم أفعل ما ألام عليه؟ لا يجوز لأحد ذلك.
أما قوله: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يذكر المُصْنِّف أن هذه العبارة يقولها كل عباد الله، قالها آدم عَلَيْهِ السَّلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] معنى قوله ربنا ظلمنا أنفسنا، أي: إقرار منهما بالظلم، وأيضاً قد قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الاستفتاح {أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي} .(8/9)
وقالها موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، ويقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ إن الفخر محرم ومنهي عنه، ولا ينبغي للفاضل أن يفتخر عَلَى المفضول، فإذا كَانَ كذلك فمن باب أولى أن لا يفتخر المفضول عَلَى الفاضل!
وكيف يكون لأحدٍ من النَّاس كائناً من كَانَ في عبادته أو في ولايته أن يقول: إنه أفضل من يونس بن متى؟!
وقد تستغربون وتقولون: وهل يوجد أحد يقول: إنه أفضل من نبي من الأَنْبِيَاء؟!
نقول: نعم، هناك كثير من فرق وطوائف الصوفية يرون أن الولي أفضل من النبي فما بالكم بنبي الله يونس عَلَيْهِ السَّلام الذي ليس من أولي العزم! والذي ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنه هذا الفعل ولامه عليه وقَالَ: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] يكون عندهم أقل بكثير جداً.
والخلاصة: أن الأرجح في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب} أنه ليس معناه من قَالَ: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من يونس بن متى فقد كذب، لكن من قَالَ: أنا، أي: من قال عن نفسه ذلك: ويأتي هنا إشكال كما ذكر المُصْنِّف أخيراً وهو لو أن نبياً قال ذلك!!
فنقول: لا يمكن أن يقول أي نبي إنه أفضل من يونس بن متى عَلَى سبيل الفخر والانتقاص ليونس بن متى عَلَيْهِ السَّلام، فإن القول الذي قاله يونس قاله كل الأَنْبِيَاء حتى نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أفضل الأَنْبِيَاء جميعاً.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وإنما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأَنْبِيَاء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله "ولا فخر" كما جَاءَ في رواية (وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إِلَى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقى في بطن الحوت وهو مُليم؟!
وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب، فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إِلَى هذا الاستدلال لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل عَلَى نفي علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية عَلَى علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه التي تزيد عَلَى ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ (محيط بكل شيء وفوقه)، إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: يأتي إشكال وهو قوله صلى الله علهي وسلم: وقوله: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ} مع القول بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الفخر، وعن التفضيل، وأمر بالتواضع، والتفضيل حق وكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأَنْبِيَاء حق، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا سيد ولد آدم} حق، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟
يقول: يكون الجمع بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعلم فضله، ولا يُعلم تفضيله عَلَى الأَنْبِيَاء إلا بالوحي، والوحي يأتينا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يُخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فهذا من قبيل الإخبار، وعليه توضحه رواية (ولا فخر) وإن كَانَ فيها ضعفاً.
فقوله: (ولا فخر) أي لم أقل إني سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى سبيل الفخر، فإن الفخر منهي عنه، والأمر والحال والشأن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا عباد الله تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد} فليس قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنا سيد ولد آدم} من الفخر، وإنما هو من قبيل الإخبار بالواقع وبالحقيقة الذي لا يمكن أن نعلمها إلا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكما أخبر عن يَوْمَ القِيَامَةِ وما يكون فيها، ولا يعلم ذلك إلا بالخبر، فكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد الناس، أي: أفضل النَّاس في ذلك الموقف.
وهذا يربط الكلام بما قلنا: في أول الحديث: إن يَوْمَ القِيَامَةِ أمر خاص وتفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاس فيه له خصوصية، ولهذا قَالَ: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ} ، بينما لم يقل ذلك مطلقاً ولم يرد هذا اللفظ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أصحابه مطلقاً، وإن كَانَ هو حق في ذاته.
ويقول راداً عَلَى الشيخ الضال: كيف لا يكون هناك فرق بين النبي الذي أسري به مكرماً معززاً مقرباً، وبين الممتحن المؤدب الذي التقمه الحوت تأديباً وعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
فهذه من حذلقة الصوفية ومن إشارتهم التي يفسرون بها كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ما يقتضيه الهوى لا عَلَى ما يقتضيه الدليل والنص الشرعي.(8/10)
تنبيه: قَالَ المُصْنِّفُ [قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصبح نقصاً، فيكون كاذباً!!
وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، وكما مر بنا أنا نفضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جميع الأَنْبِيَاء كما ثبت ذلك، لكنه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل أو غيره من الأنبياء: إني أفضل من فلان من الأنبياء، لأنهم متأدبون صلوات الله وسلامه عليهم، ومثلما نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يفخر بعضنا عَلَى بعض، فإن الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم لا يفخر بعضهم عَلَى بعض، مع أن التفضيل بين المؤمنين حاصل، والتفضيل بين الأَنْبِيَاء حاصل، وهذا هو المراد بهذه العبارة،
==================
شبهة هاجر أو السيدة العذراء
الأزهر
هاجر أو السيدة العذراء
إنه جاء فى سورة مريم: أن مريم لما حملت بالمسيح انتبذت به مكاناً قصيًّا. وعندئذ قد جعل الله لها تحتها (سريًّا) أى نهرا جارياً لتشرب منه. وهذا فى التوراة عن هاجر أم إسماعيل ؛ فإنها لما عطشت هيأ الله لها عين ماء. وقد وضعه القرآن على مريم.
الرد على الشبهة:
إنه فسر السرى بالنهر الجارى. وليس كذلك. فإن الملاك ناداها بعدم الحزن ؛ لأن الله قد جعل تحت كفالتها ورعايتها غلاماً سيكون سيّدا. فالسرى هو السيد وليس هو جدول الماء. وقد تحقق هذا الوعد ؛ فإن المسيح صار سيِّدًا. أى معلماً للشريعة. وقال للحواريين عن هذا المعنى: " أنتم تدعوننى معلماً وسيداً. وحَسَناً تقولون ؛ لأنى أنا كذلك " [يو 13: 13
===================
شبهة سليمان أو أبشالوم
الأزهر
سليمان أو أبشالوم
إن داود وسليمان ـ كما فى القرآن ـ حكما فى الحرث ، وإن سليمان راجع داود فى الحكم.
ثم ذكر كلام المفسرين فى هذه القضية. وعقب عليه بقوله: القضية تليق بأبشالوم بن داود ؛ لأنه كان دائماً يعارض أقوال أبيه ولا تليق بسليمان.
الرد على الشبهة:
إن فى التوراة أن سليمان كان حكيماً. أحكم من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته. واللائق بحكمته هو الحكم فى الحرث. ففى الإصحاح الرابع من سفر الملوك الأول: " وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق ، وكل حكمة مصر ، وكان أحكم من جميع الناس من إيثان الأرزاحى ، وهيمان وكلكول ودردع بنى ماحول ، وكان صيته فى جميع الأمم حواليه وتكلم بثلاثة آلاف مثل ، وكانت نشائده ألفا وخمسا. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذى فى لبنان ، إلى الزوفا الثابت فى الحائط ، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته " [امل 4: 30ـ34].
================
نوح دعا على قومة بالضلال
نوحاً ـ عليه السلام ـ قال لله تعالى: (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً ) (1) ؛ فكيف يدعو نوح ربه أن يزيد الناس ضلالاً ؟
الرد على الشبهة:
إن نوحاً لم يدع ربه أن يزيد الناس ضلالاً ، وإنما دعا على الظالمين من الناس. ومثل ذلك: ما فى التوراة عن الأنبياء فإنهم دعوا على الظالمين ، ولم يدعوا على كل الناس. ففى المزمور الثامن عشر: " من الرجل الظالم تنقذنى " ـ " مثل طين الأسواق ؛ اطرحهم " ، وفى الإنجيل يقول المسيح لله عن الذين آمنوا به: " احفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى " [يو 17: 11] ولم يدع للكل.
(1) نوح: 24.
أ.د. محمود حمدى زقزوق - وزير الأوقاف
جزاه الله خيرا ً
================
شبهة هل طلبوا رؤية الله ؟
الأزهر
هل طلبوا رؤية الله ؟
إن فى القرآن أن بنى إسرائيل طلبوا رؤية الله. وفى التوراة أنهم قالوا لموسى: " تكلم أنت معنا ، ولا يتكلم معنا الله ؛ لئلا يموت " [خر 20: 19 ] فعكس القرآن الموضوع.
الرد على الشبهة:
إن المؤلف جاهل بما فى كتابه. وإن فيه:
أ ـ أن اليهود رأوا الله.
ب ـ وأن موسى طلب رؤية الله.
جـ ـ وأنهم طلبوا أن لا يروا الله.
(أ) فموسى لما أخذ العهد على اليهود أن يعملوا بالتوراة ، بكّر فى الصباح وبنى مذبحاً فى أسفل الجبل. وأخذ العهد. ثم قال الكاتب: " ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرئيل ورأوا إله إسرائيل ، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء فى النقاوة ، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بنى إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا " [خروج 24: 9ـ11].
(ب) وطلب موسى رؤية الله " فقال: أرنى مجدك " ورد عليه بقوله: " لا تقدر أن ترى وجهى.لأن الإنسان لا يرانى ويعيش " [خر 33: 18].
(ج) ولما تجلى الله للجبل ؛ حدث من هيبته حال التجلى نار ودخان وارتجف(8/11)
كل الجبل جداً. فارتعب بنو إسرائيل من هذا المنظر ، وقالوا لموسى: إذا أراد الله أن يكلمنا مرة أخرى ؛ فليكن عن طريقك يا موسى ونحن لك نسمع ونطيع. فرد الله بقوله: أحسنوا فيما قالوا. وسوف أكلمهم فى مستقبل الزمان عن طريق نبى مماثل لك يا موسى من بين إخوتهم وأجعل كلامى فى فمه ؛ فيكلمهم بكل ما أوصيه به [تث 18: 15ـ22].
==================
المفهوم الصحيح لقول أبو الأنبياء : إني كَذَبت ثلاث كذبات وإِنَّي سَقِيمٌ
روى البخاري ومسلم حديث الشفاعة وطلب الناس من إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يشفع لهم فامتنع وقال "إني كَذَبت ثلاث كذبات" وهي قوله عندما سألوه عمن كسر الأصنام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقوله عندما نظر في النجوم (إِنَّي سَقِيمٌ) وقوله عن زوجته سارة إنها أخته.
الأولى بأن إبراهيم لم يكذب، بل أثبت أنه صادق ولكن بطريقة غير مُباشرة، أو كان صِدْقُه قضية تحمل معها دليلها، فلو كنت أنت مثلاً خطاطًا ماهرًا ولا يجيد الكتابة أحد غيرك، ثم سألك شخص أُمي غير مجيد للكتابة وقال لك: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له باستهزاء: بل أنت الذي كتبته، فالغرض هو إثبات الكتابة لك مع استهزائك بالسائل الذي ما كان ينبغي أن يوجه هذا السؤال الظاهر البطلان. ولذلك لما أجابهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأن الذي كسَرَ الأصنام هو كبيرهم رجعوا إلى أنفسهم يتهمونها بالغباء. لاعتقادهم ألوهية من لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، ولا يرد عن نفسه كيدًا، ولكن العناد جعلهم يتمادون في مجادلته وتكذيبه. ولجئوا أخيرًا إلى التهديد باستعمال القوة والعُنْف، وَهُوَ سلاح كل عاجز عن الاستمرار في المحاجة المنطقية.
والثانية وهي قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) بأنه كَانَ بالفعل سَقيمًا، وسقمه نفسي، وذلك من تماديهم في الباطل على الرغم من قوة الحُجة، كما قال الله تعالى في حَقِّ سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (فَلَعَلَّكَ باَخعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفَا) (سورة الكهف: 6) فقد أوهمهم إبراهيم أنه سقيم الجسم على ما كانوا يعتقدون من تأثير الكواكب في الأجسام، وهو في الوقت نفسه سقيم النفس. وهذا الأسلوب من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب.
وعن الثالثة وهي وصف زوجته بأنها أخته ـ بأنه صادق في هذا الوصف؛ لأنها أخته في الدين كما جاء في صحيح الروايات ، وذلك ليخلصها من ظُلْم الجبار روى مسلم "ج 15 ص 123 بشرح النووي" أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لم يكذب إبراهيم النبي ـ عليه السلام ـ قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله: قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم، ، وواحدة في شأن سارة، فإنه قدِم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك. فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال ادعى الله أن يطلق يدي فلك الله ألا أضرك ففعلت وأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها "هاجر" قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم ـ عليه السلام ـ انصرف، فقال لها "مهيم"؟ قالت: خيرًا ، كف الله يد الفاجر وأخدم خادمًا" قال أبو هريرة فتلك أُمكم يا بني ماء السماء.
اسم هذه الجبار مذكور في ص 81 من المجلد الثاني من هذه الموسوعة. ومعنى " مهيم" ما شأنك وما خبرك؟ ومعنى "أخدم خادمًا" أعطاني جارية تخدمني وهي هاجر ، والخادم يقع على الذكر والأنثى، والمراد "بماء السماء" العرب كلهم لخلوص نسبه وصفائه، وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواشٍ وعيشهم من المراعي والخِصْب وَمَا ينبت بماء السماء، وقيل: المراد بهم الأنصار نِسْبَة إلى جدهم "الأدد" وكان يعرف بماء السماء.(8/12)
جاء في شرح النووي لهذا الحديث أن المازري قال: إن الكذب الذي يُعصم منه الأنبياء هو الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، أما في غير ذلك ففي إمكان وقوعه منهم وعِصْمَتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف، وذكر أن ما قاله إبراهيم عن سارة تورية وهي جائزة، وليست كذبًا، ولو كان كذبًا لكان جائزًا في دفع الظالمين، فقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مختفيًا ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبًا وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز بل واجب لكونه في دفع الظلم، ثم نقل عن المازري قوله: لا مانع من إطلاق الكذب على ما حدث من حديث إبراهيم كما أطلقه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع ذلك فالتأويل صحيح لا مانع منه.
ثم حمل قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) على أنه سيسقم؛ لأن الإنسان عُرضة للسقم، وأراد به الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم، وقيل: سقيم بما قُدِّرَ عليَّ من الموت، وقيل: كانت تأخذه الحُمَّى في ذلك الوقت.
=================
الأنبياء معصومون ولو أنكر الجاهلون .
كتب م الدخاخني
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
وبعد
ردا على العضو / عرفه الشواف في منتدى الجامع كتبت هذا المقال :
الأنبياء معصومون ولو أنكر الجاهلون .
ردا علي سؤال للعضو عرفه الشواف :
اقتباس:
المشاركة الاصليه للعضو /عرفه الشواف (منتدي الجامع )
أما عن موضوع الآية القرآنية التي تطلب الاستغفار لذنوب رسول الإسلام وذنوب المؤمنين والمؤمنات ( محمد : 19 ) , فهذا واضح من ظاهر النص وأكد كلامي ترجمة هذه الآية إلي اللغة الإنجليزية , إذن فانا أقدم شرح النص كما هو واضح ولا أؤول الكلام إلي شيء آخر كما قام بذلك شيوخ الإسلام , وهذا هو ما يقوله العقل تشرح مجموعة الآيات لاستخلاص العقيدة ولا تؤول العقيدة ( ######## ) علي تفسير الآيات .
مثال آخر يثبت كلامي في هذا الموضوع :
وأنا أتصفح برنامج المصحف الرقمي الذي احمله علي الكومبيوتر الخاص بي , استخدمت خاصية البحث به عن كلمة " يفغر " , فكانت نتيجة البحث 35 كلمة , لكن الذي لفت انتباهي هو كلمة يغفر في آية الفتح رقم (2 ) , يقول القران :
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } ( الفتح2)
لكن الذي اندهشت له هو ما قرأته في تفسير الجلالين المحمل مع البرنامج ذاته في تفسير هذه الآية , فكتب يقول :
(ليغفر لك الله) بجهادك (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) منه لترغب أمتك في الجهاد وهو مؤول لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالدليل العقلي القاطع من الذنوب واللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب (ويتم) بالفتح المذكور (نعمته) إنعامه (عليك ويهديك) به (صراطا) طريقا (مستقيما) يثبتك عليه وهو دين الإسلام.
ما معني هذا الكلام ؟ وكيف يقبل العقل هذا الكلام ؟
هنا أضع لك الدليل العقلي الذي لم يذكره تفسير الجلالين .
أسمح لي أولا ياعزيزي أن نتفق علي ماهو معلوم للعامة من الناس :
إن فاقد الشيء لا يعطيه - فكيف يعطي الجاهل العلم إلى غيره ؟ أم كيف يعطي الضال الهداية لغيره ؟ وهكذا عبر ما شئت بهذا المضمون .
فالشخص الذي يتقدم لتعليم الناس ! يجب أن يكون لديه علم .
وهكذا .... ، الشخص الذي يتصدى لهداية الناس ، الشخص الذي يأمر الناس بالخير . الشخص الذي ينهى الناس عن الشر. الشخص الذي لا يرضى للناس الموبقات والذنوب والمفاسد والآثام .
يجب أن يكون هو قبل كل واحد وقبل أن يكون معلماً هادياً آمراً وناهياً متصفاً بالعلم والهداية وملتزماً بكل صفات الآمر والناهي .
وأن تكون نفسه متصفة بكل صفات الخير والسعادة بعيدة عن صفات الضلال والشر.
وكما قلت سابقا نقلا عن أحد اخوتي في الله : إذا أردت أن تعلم إبنتك تعاليم دينيه فهل تذهب بها إلي إنسان فاسق أو فاجر أو زاني أو ..............
بالطبع الإجابة بالنفي يا عزيزي . لأن فاقد الشئ لا يعطيه بل علي العكس تماما ربما هذا المعلم يغويها وتصبح هي مثله تماما .
إن العرف والعقل والشرع بل وكل الأنظمة الوضعية لا تجيز للمذنب أو العاصي أو المجرم أو الظالم أن يكون هادياً أو مصلحاً ومرشداً وحاكماً ، ومن المستحيل عقلاً أن يأمر الله تعالى باتباعه وإطاعة أشخاص تلبسوا بالمساوي والفساد.
إن العاصي فضلاً عن عدم وجوب طاعته يجب ردعه وإرشاده ونصحه لا أن يكون هو الناصح المرشد .
إن العاصي المتلبس بالمساوئ والآثام يجب نهيه عن أفعاله التي يتصف بها لا أن يكون قدوة ومتبعاً .(8/13)
إن العاصي والمجرم والظالم وكل ذوي صفة قبيحة مذمومة يجب أن يكون منبوذاً مهجوراً محتقراً لا يصحبه الناس ولا يخالطونه لئلا تسري منه إلى غيره عدوى المساوئ والشرور والمفاسد - فالطبع مكتسب من كل مصحوب - لا أن يكون ذلك العاصي والمجرم مطاعاً متبعاً ، فذلك من أقبح القبائح وأضر المساوئ ، حيث تموت الفضيلة وتحيى الرذيلة ويسود الظلم وتضيع المقاييس ، وتختل الأنظمة إذا ساد الفسقة المذنبون وتحكم المفسدون الظالمون :
وذلك الحال ولله المثل الأعلى فالله سبحانه وتعالي حينما يختار شخص للهداية والإصلاح لا يصح إلا أن يكون هذا الشخص صالح لأن يكون معلما ومرشدا للخير ومنهي عن المعاصي ويلتزم بأوامر الله وبعيدا عن وساوس الشيطان و..............
لذلك يجب أن يكون الرسول المرسل من الله تعالي معصوم من الذنوب .
وأنقل لك هنا كلمات د / محمود حمدي زقزقوق عن عصمة الرسول الكريم فيقول :
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم فى نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أى أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحى.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كى تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة ، والدعوة إليها ، والجهاد فى سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هى جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى - (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (1) (قل أطيعوا الله والرسول ) (2) (من يطع الرسول فقد أطاع الله ) (3) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ) (4) ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة فى هذا البلاغ الإلهى الذى اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذى يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله ، الذى يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهى.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذى يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله ، يقول الإمام محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل -: ".. ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم ، وصحة عقولهم ، وصدقهم فى أقوالهم ، وأمانتهم فى تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات ، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهى بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذى أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها ، بمحض فضله ، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته ، يميزهم بالفطرة السليمة ، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون فى مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم فى الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة فى لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [ أى الاتصال بالسماء والتبليغ عنها ] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدى الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون " (5).
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل فى مناطق وميادين الاجتهاد التى لم ينزل فيها وحى إلهى.. فإنه معصوم فى مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى فى مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحى والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول فى هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى ) (6). وبلاغة ما هو بقول بشر ، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله ، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.(8/14)
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه ، والتى هى ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية ، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة ، رضوان الله عليهم فى كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم فى الرأى - هذا السؤال الذى شاع فى السُّنة والسيرة:
" يا رسول الله ، أهو الوحى ؟ أم الرأى والمشورة ؟.. " فإن قال: إنه الوحى. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هى طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم ، لأن علم الله - مصدر الوحى - مطلق وكلى ومحيط ، بينما علمهم نسبى ، قد تخفى عليه الحكمة التى لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأى والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين فى الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة فى كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - فى مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ) (7).
وحتى لا يقتدى الناس باجتهاد نبوى لم يصادف الأولى ، كان نزول الوحى لتصويب اجتهاداته التى لم تصادف الأولى ، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) (8). ومن مثل: (يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير ) (9). ومن مثل: (ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (10).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهى للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى ، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة فى البلاغ الإلهى ، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين ، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحى المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التى يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحى والبلاغ قول بشر ، بينما هى - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذى بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هى الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.
إنتهي كلام د / محمود حمدي زقزقوق
وأعتقد يا عزيزي تعلم الآن أن الرسول الكريم لم ( يكن يقترف الذنوب مثله مثل باقي البشر ) كما قلت أنت في تفسريرك الخاطئ .
فالاعتقاد الصحيح في عصمة الأنبياء أنهم معصومون من الكبائر ومن الذنوب التي تحقر الشخصية ، مثل السرقة والخيانة والكذب ، ومن الخطأ في تبليغ الوحي . وبالنسبة للأنبياء يحاسبون على الأخطاء الصغيرة جدا التي هي بالنسبة إلينا لعلها تكون ليست أخطاء ، كما قيل سيئات المقربين حسنات الأبرار ، بمعنى أن الله تعالى يؤاخذهم على أخطاء لعلها تكون بالنسبة إلينا حسنات وليست أخطاء ، وذلك بسبب قربهم من الله تعالى ، فتعظم المحاسبة عليهم(8/15)
قال الإمام القرطبي : قال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم , ونسبها إليهم , وعاتبهم عليها , وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها , واستغفروا منها وتابوا , وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها , وإن قبل ذلك آحادها , وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم , وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور , وعلى جهة الخطأ والنسيان , أو تأويل دعا إلى ذلك , فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات , وفى حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم , وعلو أقدارهم ; إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ; فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة , مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ; فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم , فلم يخل ذلك بمناصبهم , ولا قدح في رتبتهم , بل قد تلافاهم , واجتباهم وهداهم , ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ; صلوات الله عليهم وسلامه . ا. هـ
ويقول العلماء أن الفرق بين الأخطاء التي قد يقع فيها الأنبياء وغيرهم هي :
أولا : أن النبي لابد أن ينبه من الله على الخطأ إن وقع منه لانه محل قدوة .
ثانيا : أنه لابد أن يتوب ويكون بعد التوبة أعلى منزلة من قبلها .
ثالثا : أن خطأه لا يكون في كل شيء وإنما في صغائر الأمور التي ربما لم تعد أخطاء من غيره لو فعلها .
رابعا : أن الله تعالى كتب عليهم وقوعهم في الخطأ أحيانا لحكمة بالغة ، وهي لئلا يحصل الغلو فيهم ، وليتذكر الناس دائما أنهم بشر وليسوا ملائكة ، وأيضا ليتبين للناس أنهم إنما يبلغون الوحي ، ولا يأتون بالشريعة من عند أنفسهم ، ولهذا فهم يبلغونه بكل أمانة حتى ما يأتي به الوحي في نقدهم شخصيا ، فإنهم يبلغونه كما أنزل ، كما قالت عائشة رضي الله عنه : (لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه .. الاية ) رواه الترمذي وغيره ، مما يدل على أنهم أمناء على وحي الله تعالى .
وهذا القول هو القول الحق الوسط ، قول أهل السنة في مسألة عصمة الأنبياء ، وثمة قولان ضالان في المسألة : فاليهود غلوا في نسبة الذنوب إليهم حتى جوزوا وقوع الشرك من الأنبياء حاشا أنبياء الله تعالى وسبحان الله عما يقول الظالمون ، والرافضة والمعتزلة قالوا بعصمة الأنبياء مطلقا من كل خطأ ، وزادت الرافضة عصمة الأئمة من ولد فاطمة إلى اثني عشر إماما ، عافانا الله تعالى من سبل الضلالة ، ومناهج الغواية .
سؤالك الثاني ياعزيزي عن قول الله تعالي ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِيْنًا(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ))
اقتباس:
المشاركة الاصلية بواسطة / عرفة الشواف (منتدي الجامع)
لكن يا عزيزي هناك أمر آخر لفت انتباهي في كل كلمات الغفران , فانتم تقولون أن القران هو كلام الله أي أن الله هو الذي تكلم الي رسوله عن طريق جبريل , ولكني لم أر مرة واحدة في كل كلام الغفران ان الله يقول فيها لرسوله " اغفر بضمير المتكلم " ولكن دائما " يغفر الله " وكأن الله ليس هو المتكلم بل آخر هو الذي يتكلم , ففي آية الفتح مثلا تبدأ الآية :
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الفتح1
فهنا الله كما يقول القران يقول لرسول الإسلام إِنَّا فتحنا لك ..... ثم يكمل في الآية الثانية قائلا " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ " وهنا يا عزيزي محمد لي سؤال ( وان كان خارج الموضوع ) ولكني أتمني أن اعرف جوابه و بالعقل لو سمحت :لماذا لم يقل هنا الله وهو المتكلم " لأغفر لك " بدلا من " ليغفر الله لك " إذا كان هذا الكلام فعلا صادر من الله ؟ فكلمة " ليغفر الله لك " تدل علي أن آخر هو المتكلم وليس الله , أما لو كان الحديث بصيغة " لأغفر لك " فهذا يدل علي أن الله هو المتكلم بالفعل .... فما هو رأيك وتفسيرك يا عزيزي في هذه النقطة ؟ ))
إسمحلي يا عزيزي أن أقتبس الجواب من كلماتك نفسها في المشاركة رقم 64 من حوارك معي الموجود علي هذا الرابط :
http://www.algame3.com/vb/showthread.php?t=66&page=7
اقتباس:
المشاركة الاصلية بواسطة / عرفه الشواف
من فضلك أن تفهم يا عزيزي , لو أردت أن تدرس علوم اللغة لكتاب ما , فمن المفروض أن تدرس علم اللغة في اللغة الأصلية التي كتب بها هذا الكتاب وليس للغة التي ترجم إليها, مثال لو أردت أن تدرس علم اللغة في القران مثلا هل ستدرسه في لغته الإنجليزية أو الفرنسية أو الهندية التي ترجم إليها أم ستدرسه في اللغة الأصلية التي كتب بها وهي العربية ؟
طبعا العقل يقول سندرسه باللغة الأصلية التي كتب بها وهي الأساس ونطبق عليه علم اللغة الخاص بهذه اللغة التي كتب بها اصلا .(8/16)
هل هذا الكلام ضد العقل أم أن هذا ما يقوله العقل ؟
نعم يا عزيزي هذا الكلام يقوله العقل ولكنك يا عزيزي نظرت إلي كلمات القرآن الكريم بعقيدتك التي لا تحاول أن تتركها جانبا حتى وأنت تقرأ القرآن الكريم .
فعقيدتك جعلتك تنسي أو تتناس أن القرآن الكريم نزل علي رسولنا الكريم في عصر الفصاحة والبلاغة . وتحدي الله سبحانه وتعالي هؤلاء (أهل الفصاحة والبلاغة ) أن يأتوا بسورة من مثله ولم ولن يستطيعوا .
قال تعالي ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) البقرة 23
بل يا عزيزي جميع الشبهات التي يضعها المتشككين في القرآن الكريم لم ولن يكونوا بأفضل من هؤلاء الذين عاصروا الرسول الكريم وهم أهل البلاغة .
وبالتالي يا عزيزي لو كلماتك هذه فعلا يمكن أن تكون شبهه لما تركها الحاقدون العالمين باللغة.
ستجد يا عزيزي هذا الأمر وغير ذلك في القرآن الكريم. وهذه كلها أساليب بلاغية .
فعليك ياعزيزي بالرجوع إلي أساليب البيان والفصاحة لتعلم بأن هناك لون من ألوان التعبير يسمى بـ ( الالتفات ) لشد انتباه المستمع أو جذب ذهنه مثل هذه الآية التي لفتت نظرك ( سبحان الله ) .
وكذلك (الإلتفاف) أي التحول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، لمقاصد كثيرة كتخفيف العتاب، أو توجيه النظر إلى البعيد أو استحضار المشهد، أو التعظيم، أو التحقير ونحو ذلك من مقاصد البلغاء.
ولا أجد هنا أكثر من أن أقول حقا لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فهذه الآية بدأت بقوله تعالي (( إنا فتحنا )) بضمير المتكم وإنا للتعظيم .ثم تحول الكلام من ذكر الفاعل وكأنه ليس هو ليلفت إنتباه المستمع إلي الكلام القادم . وهذا ماحدث معك ياعزيزي .وكان هذا هو المراد عند نزول الآيه الكريمة :
وبعد أن عرضت عليك المعلوم عندنا من عصمة الأنبياء ناتي لتفسير الآيه من واقع الاحداث :
فقد كان من خبر صلح الحديبية ما رواه الواقدي في المغازي وقال ما موجزه : وثب عمر الى رسول اللّه صلي الله عليه وسلم و قال : السنا بالمسلمين ؟ قال صلي الله عليه وسلم: بلى , قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول اللّه صلي الله عليه وسلم: أنا عبد اللّه و رسوله و لن أخالف أمره و لن يضيعني , وجعل عمر يرد على رسول اللّه صلي الله عليه وسلم الكلام , و تكلم مع ابي بكر وابي عبيدة في ذلك فردا عليه , وكان يقول بعد ذلك : لقد دخلني يومئذ من الشك و راجعت النبي صلي الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط...
و نزلت السورة تعلم بان الصلح فتح للرسول و للمسلمين , وان ما كان المشركون يعدونه ذنبا للرسول في ما تقدم من قيامه بمكة بتسفيه أحلامهم و عيب آلهتهم , و في ما تاخر من قتله إياهم في غزوة بدر و غيرها, قد ستر اللّه جميعها بذلكم الصلح الذي انتج كل تلكم الفتوح
أرجو أن أكون قد وفقت في الإجابة علي أسئلتك يا عزيزي .......
================
النبي لو ط يزني ببناته !!!!
بسم الله الرحمن الرحيم
احد المواقع النصرانية يرد على الشيخ احمد ديدات
يقول الشيخ احمد ديدات..إقرأ فى سفر التكوين 19 الآية من 20وحتى نهاية الإصحاح[ هو انه ليلة بعد ليلة كانت بنات لوط تغرى أبيهن السكير لهدف نبيل(؟)هو حفظ نسل أبيهن] لا يمكن لقارئ مهذب ان يقرأ هذه القصة أمام امه او أخته او ابنته او حتى امام خطيبته إذا كانت من النوع الخجول العفيف..قد تصادف أناس فاسدة تتمرغ فى هذا الفسوق ولكن الأذواق يجب ان ترتقى.
---------------
يقول الموقع ان الشيخ احمد ديدات يريد فى هذا الاقتباس ان يصل بنا ان الكتاب المقدس هو كتاب فسوق يجب فحصه لأنه غير مستحق أن يكون كلمة الله
ويجب الإشارة الى نقطتين هامتين لكى نثبت خطأ السيد ديدات
اولا:-الكتاب المقدس يسجل من هم البشر ويعلن انهم خطاة,,أخطألوط عدة مرات ,إحداهن ان فشل فى تزويج إبنتيه وهو ما دفعهما لفعل ذلك...وهذه القصة مكتوبة لا لكى تكون لنا مثلاًفنتبعه ولكن لكى تكون لنا تحذير فنجتنبه.
ها هو الكتاب يقول لنا[لا يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف العورة.انا الرب.عورة ابيك وعورة امك لا تكشف ..إنها امك لا تكشف عورتها]...
ان قصة خطألوط اعطيت لنا لتكون برهان على عظمة رحمة الله وغفرانه..لأنه حتى حينما اخطأت عائلة لوط رحمهم الله وجعلهم أمة عظيمة
يقول ديدات ان القصة لا تصلح ان تكون كلمة الله...هل يرى السيد ديدات ان الكتاب المقدس قد أخطا لأنه سجل غفران الله لخطايا البشر الساقطة.
ويشير الموقع ان القرآن قد ذكر قصة عبادة والد نبى الله إبراهيم للأوثان وعبادة الأوثان هى من الكبائر مثل الزنا فهل معنى ذلك ان القرآن يشجع على عبادة الأوثان؟؟
--------------
التعقيب
//////////(8/17)
1-كيف يزوج لوط عليه السلام ابنتيه وقد كانوا يعيشون فى قرية اهلها يمارسون الفاحشة واكتفى رجالهم برجالهم ..وقد نهاهم لوط عليه السلام عن الفاحشة ودعاهم ان يعودوا للفطرة التى خلقهم الله عليها وإلى الزواج الشرعى الطبيعى من نساء قومه كما ذكر فى القرآن
[ قال يا قوم هؤلاء بناتى هن اطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد]
فردوا عليه
[قالوا لقد علمت مالنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد] هود79,78
ولوط عليه السلام قد بعثه الله إلى قرية سدوم لكى يدعو اهلها لعبادة الله وترك الفواحش وظل فيها حتى امره الله ان يخرج بأهله ليلاً عندما اراد الله ان يهلك هذه القرية ....فهل يريد هذا الموقع ان يخرج نبى الله لوط من القرية بأسرته ويعيش فى قرية أخرى حتى يزوج بناته دون ان يأذن له الله ويعصاه وهو نبى مرسل ويعرض نفسه لغضب وعقاب الله على تفضيله لمصلحة اسرته على الدعوة فى سبيل الله؟؟؟
...
2-عندما اراد الله إهلاك قرية سدوم لم يجد بها إلا بيت نبى الله لوط لكىينقذهم من الهلاك [بإستثناء زوجته]
أليس هذا معناه انهم كانوا من أهل الإيمان والتقوى والطاعة والعلم بحدود الله وإجتناب الفواحش التى كان يفعلها قومهم .. فكيف بمجرد خروجهم من القرية يحتسى لوط عليه السلام الخمر حتى يفقد وعيه,, وتقوم إبنتيه بفعل فاحشة هى اعظم واكبر من الشذوذ الجنسى الذى كان يفعله اهل سدوم انفسهم.إذن فلماذا لم يهلكوا مع الهالكين إذا كانوا لا يعرفون الفرق بين الحلال والحرام.
..
3-المبرر الذى ساقه الكتاب المحرف لفعل إبنتى لوط لا يرتقى لمستوى العقلاء
الله حين يصطفى من البشر رسلاً فهذا اكبر تعظيم وتكريم وتخليد لإسم هذا الإنسان الذى إختاره الله لحمل هذه الأمانة العظيمة..فالأنبياء لا يحتاجون لنسل يحافظ على تخليد أسمائهم لأن أسمائهم مخلدة ومسطورة فى الكتب السماوية ..والأنبياء الذين طلبوا من الله ان يجعل لهم اولاد مثل زكريا عليه السلام لم يفعلوا ذلك لكى تخلد أسمائهم ولكن لكى يكمل اولادهم الرسالة ويصلحوا إعوجاج اقوامهم وتجرئهم على شرع الله.
..
4- عبادة والد إبراهيم عليه السلام للأوثان ذكرت فى القرآن فى اكثر من سورة وفيها
---إستنكار من إبراهيم عليه السلام لهذا الفعل من ابيه وقومه
--- اللجوء للحيلة لكى يثبت لهم ان الأوثان لا تضر ولا تنفع
--- محاولة قومه لحرقه لأنه كشف لهم ضلال عقيدتهم
-- نصر الله لنبيه على عبدة الأوثان ونجاته من النار ورفع قدره بين الأنبياء فى الدنيا والأخرة
إذن الآية ذكرت تنفير من هذا الفعل الشائن الذى لا يغفره الله للإنسان حتى نجتنبه
أما قصة لوط وإبنتيه فى التوراة لم تذكر لا تنفير ولا تقبيح لهذا الفعل ولم تذكر ما هو العقاب الذى انزله الله على بنات لوط عليه السلام ولا مصير النسل الذى جاء من هذه الفعلة الشنعاء
...
لا نقول فى النهاية إلا [قطعت يد هذا اللعين الذى خاض فى عرض نبى الله لوط الكريم]
==================
دفاعا عن نبي الله لوط وابنتيه(8/18)
(وَأَخْرَجَاهُ وَوَضَعَاهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ. 17وَكَانَ لَمَّا أَخْرَجَاهُمْ إِلَى خَارِجٍ أَنَّهُ قَالَ: «اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلَّا تَهْلَِكَ». 18فَقَالَ لَهُمَا لُوطٌ: «لاَ يَا سَيِّدُ. 19هُوَذَا عَبْدُكَ قَدْ وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ وَعَظَّمْتَ لُطْفَكَ الَّذِي صَنَعْتَ إِلَيَّ بِاسْتِبْقَاءِ نَفْسِي وَأَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَهْرُبَ إِلَى الْجَبَلِ لَعَلَّ الشَّرَّ يُدْرِكُنِي فَأَمُوتَ. 20هُوَذَا الْمَدِينَةُ هَذِهِ قَرِيبَةٌ لِلْهَرَبِ إِلَيْهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. أَهْرُبُ إِلَى هُنَاكَ. (أَلَيْسَتْ هِيَ صَغِيرَةً؟) فَتَحْيَا نَفْسِي». 21فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي قَدْ رَفَعْتُ وَجْهَكَ فِي هَذَا الأَمْرِ أَيْضاً أَنْ لاَ أَقْلِبَ الْمَدِينَةَ الَّتِي تَكَلَّمْتَ عَنْهَا. 22أَسْرِعِ اهْرُبْ إِلَى هُنَاكَ لأَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئاً حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ». لِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُ الْمَدِينَةِ «صُوغَرَ». 23وَإِذْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صُوغَرَ 24فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتاً وَنَاراً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ. 25وَقَلَبَ تِلْكَ الْمُدُنَ وَكُلَّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعَ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتَِ الأَرْضِ. .. .. .. حِينَ قَلَبَ الْمُدُنَ الَّتِي سَكَنَ فِيهَا لُوطٌ. 30وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ وَابْنَتَاهُ مَعَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ. 31وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. 32هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْراً وَنَضْطَجِعُ مَعَهُ فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». 33فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْراً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. 34وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْراً اللَّيْلَةَ أَيْضاً فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». 35فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْراً فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضاً وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا 36فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. 37فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ» - وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. 38وَالصَّغِيرَةُ أَيْضاً وَلَدَتِ ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي» - وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ.) تكوين 19: 17-38
لاحظ الاضطراب فى تدوين القصة ، ففى البداية خاف أن يسكن فى الجبل وسكن فى صوغر لأنها مدينة صغيرة ، ثم جعله كاتب هذه الأسطورة يهرب من المدينة المأهولة إلى الجبل لتهيئة المسرح لجريمة الزنى بإبنتيه.
والغرض من ذلك هو السياسة الصهيونية التى تهدف إلى استبعاد أى نسل آخر خلاف نسل يعقوب (إسرائيل) من مشاركتهم فى عهد الله مع إبراهيم والمؤمنين به ومنعهم من الحصول على أية ميزة، واعتبار أن الله قد خلق العالم من أجل أن يرث فقط بنو إسرائيل أرض الميعاد.
والدليل على كذب هذه الرواية يأتى من عدة وجوه :
1- خوف لوط أن يسكن فى الجبل لعل الشر يدركه فيموت ، وفضَّل السكن فى مدينة صوغر (تكوين 19: 19-20) ، ثم تضارب الكاتب مع نفسه فقال (30وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ وَابْنَتَاهُ مَعَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ.) تكوين 19: 30
وقد عاش لوط فى صوغر 14 سنة - قبل مولد إسماعيل إلى أن بلغ إبراهيم من العمر 100 سنة - وهو يعرف هذه المنطقة وسكانها جيداً ، ولو كان أهلها من الأشرار لأهلكهم الله كما أهلك سدوم وعمورة ، ولما عاش معهم 14 سنة! فكيف يخاف الجبل ثم يسكن فيه ، ويترك القرية وأهلها الذين نعم بالعيش معهم 14 سنة؟ فقد سكن الجبل الذى يخاف منه لا لشىء إلا لرغبة كتبة التوراة فى ذلك لاستكمال هذه القصة المختلقة.(8/19)
2- كان لسيدنا لوط عليه السلام أبناء ذكور قبل تدمير سدوم وعمورة ، وهم يعيشون فى نفس المكان ، وقد أبلغهم لوط بما سيحدث للقرية قبل تدميرها ، كما أبلغ بناته وأصهاره. ولا شك أن الكل صدقه وهرب معه. وإخفاء هذا الخبر فى التوراة كان متعمداً ، لقطع نسب لوط من أبنائه ولاستكمال القصة. (12وَقَالَ الرَّجُلاَنِ لِلُوطٍ: «مَنْ لَكَ أَيْضاً هَهُنَا؟ أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ أَخْرِجْ مِنَ الْمَكَانِ 13لأَنَّنَا مُهْلِكَانِ هَذَا الْمَكَانَ إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ». 14فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الْآخِذِينَ بَنَاتِهِ وَقَالَ: «قُومُوا اخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ لأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكٌ الْمَدِينَةَ». فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ. 15وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلاَكَانِ يُعَجِّلاَنِ لُوطاً قَائِلَيْنِ: «قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلَّا تَهْلَِكَ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ».) تكوين 19: 12-15
3- ولو صدقنا خبر تكذيب أصهاره، فهل لم تصدقه احدى بناته المؤمنات اللواتى تربين فى بيت النبوة؟ بالطبع حبك الكاتب هذا السيناريو لتنفرد الإبنتين العذراوتين بأبيهم.
4- كذب القول المنسوب لإبنتى لوط بأنه ليس فى الأرض رجل ليدخل عليهما كعادة كل الأرض ، فهل كانت القرية القريبة من الجبل (صوغر) ليس بها إلا رجال؟ وهل لم تتزوج ابنتاه العذراوتان لمد 14 سنة بعد هروبهم من سدوم وعمورة؟
مع العلم أنهم كانوا يسكنون فى منطقة قريبة ، لا تبعد عن المنطقة التى هربوا إليها إلا ساعتين سيراً على الأقدام ، فقد خرجوا فى الفجر ووصلوا إلى صوغر عند شروق الشمس ، وكلاً من الجبل وصوغر كانا قريبين من سدوم ، وكانت هناك مدن أخرى قريبة من صوغر كالتى وردت عندما أنقذ إبراهيم لوطاً من الأسر ، ولم يُذكَر أن الرب قد دمرها.
ومما يثبت وجود شعوب أخرى فى المنطقة التى عاش فيها لوط ما وردَ بعد ذلك فى (تثنية 9: 9-10 ، 19-20) من أن الله قد أورثَ بنى لوط أرض الإيميين والرفائيين الذين يسكنون المكان الذى أقام فيه لوط ، وعلاوة على ذلك فالمسافة بين (صوغر) و (حبرون) التى يقيم فيها إبراهيم لا تتعدى 70 كيلومتر ، وقد رأى إبراهيم بعينيه النار المشتعلة فى سدوم القيبة من صوغر وهو فى مكانه.
ولا يمكن أن يُقال بأى حال من الأحوال إن لوطاً قد عاش منفرداً هو وابنتيه بدون مخالطة شعب آخر ، فهذا مالا يطيقه الشباب فضلاً عن شيخ عجوز.
5- أما فيما يختص بحادثة الزنى فاتلفيق واضح فيها :
أ) إن المخمور الذى لا يستطيع أن يفرق بين بناته والأجنبيات لشدة سُكره ، لا يكون فى هذا الوقت قابلاً للجماع. والغريب فى باقى القصة أن الأب لم يسأل ابنتيه العذراوتين عن سبب الحمل؟ ومثل هذا الوضع لو وقع لبعض آحاد الناس لضاقت عليه الأرض بما رحُبت حزناً وغماً ، فهل لم يهتم نبى الله بابنتيه وشرفه؟
ب) (36فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. 37فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ» - وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. 38وَالصَّغِيرَةُ أَيْضاً وَلَدَتِ ابْناً وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي» - وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ.) تكوين 19: 36-38
ج) لو كان الموابيين والعمونيين من الزنى لغضب الله عليهم أو حتى أهمل شأنهم ، ولكننا نرى فى سفر التثنية أن الله قد أعطى أرض الإيميين للموآبيين ميراثاً : («فَقَال لِي الرَّبُّ: لا تُعَادِ مُوآبَ وَلا تُثِرْ عَليْهِمْ حَرْباً لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِهِمْ مِيرَاثاً. لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍَ قَدْ أَعْطَيْتُ «عَارَ» مِيرَاثاً. 10(الإِيمِيُّونَ سَكَنُوا فِيهَا قَبْلاً. شَعْبٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ وَطَوِيلٌ كَالعَنَاقِيِّينَ.) سفر التثنية 2: 9-10 ، كما أعطى أرض الرفائيين لبنى عمون ميراثاً: (19فَمَتَى قَرُبْتَ إِلى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ لا تُعَادِهِمْ وَلا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثاً - لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثاً. 20(هِيَ أَيْضاً تُحْسَبُ أَرْضَ رَفَائِيِّينَ. سَكَنَ الرَّفَائِيُّونَ فِيهَا قَبْلاً لكِنَّ العَمُّونِيِّينَ يَدْعُونَهُمْ زَمْزُمِيِّينَ.) تثنية 2: 19-20
وقد أعطى الله الموآبيين والعمونيين ميراث الأرض قبل أن يورث بنى إسرائيل وقبل أن يدخلوا أرض الميعاد ، بل وحرَّمَ أرض الموآبيين والعمونيين على بنى إسرائيل كما ورد فى سفر (التثنية 2: 9 و 19)(8/20)
ولو كان الإرث يستلزم عهداً من الرب ، فقد حصل عليه العمونيون والموابيون ، وبذلك يكونون قد دخلوا فى جماعة الرب ، لأن الرب لا يعطى عهداً لأبناء الزنى (2لا يَدْخُلِ ابْنُ زِنىً فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الجِيلِ العَاشِرِ لا يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ.) تثنية 23: 2 وبذلك يكون الموآبيون والعمونيون ليسوا من أبناء زنى ويكون كتبة هذه القصة من الكاذبين. ويكون بنى إسرائيل قد ادعوا وجود هذا العهد من الله ويكونوا أيضاً من الكاذبين.
ولو صدقنا قول التوراة أن العمونيين والموآبيين من نسل الزنى ، وعلى الرغم من ذلك قد حصلوا على عهد من الله وعلى إرث ، يكون قد نال عهد الله أبناء الزنى والأطهار (بنى إسرائيل) ، فلا ميزة إذن للأطهار عن أبناء الزنى ، ويصبح قول التوراة بأن بنى إسرائيل شعب الله المختار لأنهم أخذوا عهداً من الله بتملك الأرض ، هو قول كذب.
وإذا كان هذا شأن الله مع أبناء الزنى وهم أبرياء مما اقترفه آباؤهم ، فكيف يكون شأنه مع النصَّابين واللصوص؟ اقرأ نبى الله يعقوب يكذب على أبيه ويسرق البركة والنبوة من أخيه عيسو وبذلك فرض على الله أن يوحى إليه أو اتهم الله بالجهل وعدم علم هذه الحادثة: (تكوين صح 27) ، وفكيف يكون شأنه مع مَن صارعوه وقهروه؟ فهل هؤلاء أيضاً لهم عهد مع الرب وميراث؟ أم أنَّ هذه القصة من وحى خيال كاتب مخمور؟ اقرأ أيضاً نبى الله يعقوب يُصارِع الرب ويغلبه! ( تكوين 32: 24- 30)
د) (2لا يَدْخُلِ ابْنُ زِنىً فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الجِيلِ العَاشِرِ لا يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ.) تثنية 23: 2 ومعنى حتى الجيل العاشر أى للأبد. ومع ذلك فإننا نجد أن راعوث كانت موآبية وهى أم نبى الله داود الذى كان من ذريته كل ملوك يهوذا حتى السبى ، والذى قال عنه الرب: (. 14أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. 15وَلَكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا مِنْ شَاوُلَ الَّذِي أَزَلْتُهُ مِنْ أَمَامِكَ. 16وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ») صموئيل الثانى 7: 14-16.
فلا يمكن أن من شرفه الله بهذا الشرف أن يكون من سلالة زنى. كما أن سليمان قد تزوج من نعمة العمونية وأنجب منها رحبعام (ملوك الأول 14: 21) ، ولا يمكن أن يكون رؤوس جماعة الرب من أمهات زنى ، فضلاً عن أنهم من نسل الرب (تبعاً للتشريع النصرانى) ، فلابد أن يكون هذا التشريع مدسوس على التوراة.
لكن ما أسباب ذلك؟
يقول السموال بن يحيى المغربى صاحب كتاب (إفحام اليهود) وأحد أحبار اليهود الذين هداهم الله للإسلام ، وقد كان أبوه حبراً يهودياً كبيراً وإماماً ضليعاً فى اليهودية وكذلك كانت أمه ، مما جعله قادراً على الحكم على التوراة: “وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة فى الهارونيين ، فلما ولى طالوت (شاول) وثقلت وطأته على الهارونيين وقتلَ منهم مقتلة عظيمة ، ثم انتقل الأمر إلى داود ، بقى فى نفوس الهارونيين التشوق إلى الأمر الذى زال عنهم ، وكان (عزرا) هذا خادماً لملك الفرس ، حظيا لديه ، فتوصل إلى بناء بيت المقدس ، وعمل لهم هذه التوراة التى بأيديهم ، فلما كان هارونياً ، كره أن يتولى عليهم فى الدولة الثانية داودىّ ، فأضاف فى التوراة فصلين للطعن فى نسب داود ، أحدهما قصة بنات لوط والآخر قصة ثامار (مع يهوذا) ولقد بلغ - لعمرى - غرضه ، فإن الدولة الثانية كانت لهم فى بيت المقدس ، لم يملك عليها داوديون ، بل كان ملوكهم هارونيون.” صفحات 151 و 152
كتبه الاخ / ابو بكر
=====================
عصمة الأنبياء شبهات وردود
الأنبياء عليهم السلام هم أشرف الخلق وأزكاهم، وأتقاهم لله وأخشاهم، ومقامهم مقام الاصطفاء والاجتباء، وواجب الخلق نحوهم التأسي والاقتداء.
فالواجب أن يُحفظ لهم هذا المقام، وأن ينزهوا عن مد الألسن إليهم بالنقد والاتهام، غير أن نفوسا قد غلبها الفسق، مدت ألسنتها إلى الأنبياء بالعيب والتهم، فلم تدع نبيا - إلا ما ندر – لم ترمه بدعوى العيب والإثم، تريد بذلك انتقاصهم، والحط من أقدارهم، بل والطعن في القرآن الكريم الذي ذكر عنهم أحوالهم، فكان الذب عن أنبياء الله عز وجل متعينا، صونا لدين الله، وحفظا لحق أنبيائه عليهم السلام.(8/21)
لكن قبل الخوض في تفاصيل رد ما رمي به الأنبياء عليهم السلام، نحب أن نبين أن المقرر عند السلف أن الأنبياء عليهم السلام لا يتصور في حقهم الخطأ في مقام الوحي والتبليغ، أما في غير ذلك من صغائر الذنوب مما ليس في فعله خسة ولا دناءة، فإنه إن صدر من أحدهم شيء فإنه لا يقر عليه، بل يتبعه بالتوبة والإنابة. وبهذا يبطل ما تعلل به الطاعنون من قولهم: كيف يجوز على الأنبياء الخطأ وهم في مقام الأسوة والقدوة ؟ ونجيب على ذلك بالقول: إن الخوف من أن يحصل اللبس في مقام التأسي بالأنبياء إنما يتصور فيما لو أخطؤوا، واستمروا على الخطأ، ثم لم ينبهوا عليه، فيشتبه حينئذ على المقتدي الحال التي يجب فيها متابعة النبي من الحال الأخرى، أما إن نبهوا على التقصير فلن يحصل اشتباه، بل سيتحول المجال إلى مجال متابعة من وجه آخر، وهو المتابعة في حسن الرجوع إلى الله سبحانه بالتوبة، وبهذا يسلم للأنبياء مقام القدوة والأسوة، ويحصل لهم شرف التعبد لله عز وجل بالتوبة إليه سبحانه .
وقد تبين لنا من خلال بحثنا أن ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء – بعد استبعاد المكذوب عليهم - لا يخرج عن أن يكون سوء فهم للنص، أو أن يكون شيئا وقع منهم قبل نبوتهم، أو أمرا فعلوه وكان على خلاف الأولى، أو خطأً تابوا منه فتاب الله عليهم، فلا يحق لأي كان أن يتخذ ذلك ذريعة لانتقاصهم وثلمهم .
وقد فصلنا فيما يلي هذه الوجوه، وقررنّاها بأمثلتها حتى يتضح للقارئ الكريم أن نتاج الدراسة الجادة لشبهات الطاعنين في الإسلام لن تكون إلا في صالح الإسلام، وأن الحق لا يزيده طعن الطاعنين إلا ثباتا وظهوراً:
الوجه الأول : ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن مبناها على سوء الفهم
من ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام من أنه قد وقع في الشرك بادعائه ربوبية الكواكب، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }(الأنعام : 76-77)، والجواب على ذلك أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ما قال في مقام المناظرة والمخاصمة لقومه، إذ استعرض لهم الكواكب شمسا وقمرا ونجما، وبين لهم بالدليل العقلي انتفاء الربوبية عنها، ثم توجه إليهم مخاطبا إياهم بالنتيجة المنطقية لبطلان معبوداتهم فقال : { يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }.
فإن قيل: كيف يتأتى لإبراهيم عليه السلام مناظرة قومه في نفي ربوبية الكواكب وهم إنما يعبدون أصناماً من الحجارة ؟ قلنا إن إبراهيم عليه السلام ناظرهم في نفي ربوبية الكواكب حتى يتبين لهم انتفاء الربوبية عن آلهتهم التي يعبدونها بطريق الأولى، وذلك أنه إذا تبين انتفاء ربوبية الكواكب وهي الأكبر والأنفع للخلق، كان ذلك دليلا على انتفاء ربوبية ما دونها من أصنامهم التي يعبدونها، لعظم الفارق بين الكواكب وبين أصنامهم التي يجهدون في خدمتها دون أدنى نفع منها تجاههم .
ومن ذلك ما ادعوه في حق إبراهيم عليه السلام أيضاً من أنه شك في قدرة الله سبحانه، حين سأله عن كيفية إحيائه الموتى، قالوا : والشك في قدرة الله كفر، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } ( البقرة : 260 ) ، وأوردوا أيضا ما رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى ، قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) .
والجواب على ما أوردوه ببيان أن ما صدر عن إبراهيم عليه السلام لم يكن شكا في قدرة الباري سبحانه، فهو لم يسأل قائلا: هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى؟ فيكون سؤاله سؤال شك، وإنما سأل الله عز وجل عن كيفية إحيائه الموتى، والاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، لا عن شيء مشكوك في وجوده أصلا، ولو كان السؤال سؤال شك في القدرة لكانت صيغته: " هل تستطيع يا رب أن تحيى الموتى ؟ " وكيف يشك إبراهيم في قدرة الباري سبحانه وهو الذي حاج النمرود بها، فقال: ربي الذي يحيى ويميت، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فاستدل بعموم قدرة الباري على ربوبيته.(8/22)
والسبب المحرّك لإبراهيم على طلب رؤية كيفية إحياء الموتى هو أنه عليه السلام عندما حاجَّ النمرود قائلا: إن الله يحيى ويميت، ادعى النمرود هذا الأمر لنفسه وأرى إبراهيم كيف يحيى ويميت، فأحب عليه السلام أن يرى ذلك من ربه ليزداد يقينا، وليترقى في إيمانه من درجة يقين الخبر "علم اليقين" إلى درجة يقين المشاهدة "عين اليقين"، وكما جاء في الحديث ( ليس الخبر كالمعاينة ) رواه أحمد .
قال الإمام القرطبي : "لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكاً في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به "، وقال الإمام الطبري : " .. مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عياناً ما كان عنده من علم ذلك خبراً " .
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) فمعناه أنه لو كان إبراهيم شاكاً لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أيضا لا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام.
ومن أمثلة سوء فهم النص وتحميله ما لا يحتمل بغية الطعن في الأنبياء ما قاله قوم من أن لوطا عليه السلام كان قليل التوكل على الله عز وجل معتمدا على الأسباب اعتمادا كليا، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى :{ قال لو أني لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد }( هود: 80)، قالوا: والذي يدل على صحة فهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاتبه على قوله ذاك، بقوله:( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) متفق عليه.
وجواباً على ذلك نقول لهم: إن هذا سوء فهم منكم للحال التي قال فيها لوط عليه السلام ما قال، والسبب الذي حمله على ذلك القول ؟ فالأنبياء عليهم السلام كانوا يُبعثون في منعة من أقوامهم، فيُبعث النبي من أشرف قبائل قومه وأمنعهم، فتكون قبيلته - وإن لم تؤمن به - سندا له تحميه من كيد أعدائه ومكرهم، كما قال تعالى عن شعيب { ولولا رهطك لرجمناك }(هود : 91)، وكما كان بنو هاشم للنبي صلى الله عليه وسلم حماة وسندا .
وأما لوط عليه السلام فلم يبعث في قومه، وإنما بعث في مكان هجرته من أرض الشام، فكان غريبا في القوم الذين بعث فيهم، إذ لم يكن له فيهم عشيرة، لذلك عندما خاف عليه السلام أن يوقع قومه الفضيحة بأضيافه تمنى أن لو كان بين عشيرته ليمنعوه، وهذا من باب طلب الأسباب، وهو طلب مشروع كما لا يخفى، لكن لما كانت هذه الأسباب غير متوفرة، كان الأولى أن يتوجه العبد بطلب العون من الله سبحانه، فهو المعين والناصر، ومن هنا جاء عتاب النبي صلى الله عليه وسلم داعيا له بالمغفرة والرحمة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري ، وقال : ( ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) رواه البخاري .
الوجه الثاني: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وقعت منهم قبل النبوة
من ذلك ما ادعوه في حق آدم عليه السلام من أنه عصى وأزله الشيطان، قالوا والذي يدل على قولنا، قوله تعالى: { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } ( طه: 121) وقوله في الآية الأخرى:{ فأزلهما الشيطان عنها }( البقرة : 36) والجواب على ما أورده هؤلاء أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، فلا يصح أن يتخذ ذريعة للطعن فيه عليه السلام، قال الإمام أبو بكر بن فورك:" كان هذا من آدم قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى : { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً، لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب".
فإن قيل كيف يقال: إن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته، أوَ ليست النبوة هي الوحي من الله ؟ والله كان يكلم آدم قبل أن يخرجه من الجنة كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث، قلنا: النبوة المنفية هنا ليست هي مجرد الوحي، وإنما هي الوحي إلى شخص النبي بشرع جديد أو بتجديد شرع سبقه، وهذا ما لم تدل الأدلة على أن آدم أعطيه عندما كان في الجنة مع زوجته، فصح بذلك القول بأن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته بالمعنى الخاص.
ومع أن ما وقع من آدم عليه السلام كان قبل نبوته إلا أنه أتبعه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه، وذلك لصفاء نفسه ومعرفته بمقام ربه، قال تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم }(البقرة:37).(8/23)
ومن أمثلة ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وشنعوا به على القرآن، وكان قبل النبوة ما أوردوه في حق موسى عليه السلام من أنه ارتكب جريمة القتل، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:{ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين }( القصص: 15) قالوا: وقد ندم موسى عليه السلام على هذه الجريمة، ومنعه ندمه أن يتقدم بالشفاعة إلى رب العالمين، كما في حديث الشفاعة الطويل :( فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي ).
والجواب على ما أورده هؤلاء الطاعنون في حق نبي الله موسى عليه السلام أن ما وقع منه عليه السلام كان قبل نبوته، بدليل قوله تعالى: { قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين } ( الشعراء : 18-21) ثم لم يكن قصد موسى عليه السلام قتله، وإنما قصد دفعه عن أخيه، فقتله خطأ، وقد استغفر موسى ربه من هذه الفعلة، فغفر له سبحانه، قال تعالى : { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } ( القصص : 16 ).
الوجه الثالث: ما نسب إلى الأنبياء من مطاعن وكانت في حقيقتها أمورا على خلاف الأولى
من ذلك ما ادعوه في حق نبي الله سليمان عليه السلام من أنه قعد يتفرج ويتمتع بالنظر لخيوله حتى خرج وقت الصلاة، ثم عندما علم بتضييع وقت الصلاة بسبب تلك الخيول قام بذبحها فكان في ذلك إهداراً للمال، وإزهاقاً لأرواح الخيل في غير وجه حق، وزيادة تأخير للصلاة، قالوا والذي يدل على ما قلنا قوله تعالى:{ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } ( ص : 30-33 ).
وجواباً على ذلك نقول: إنه ليس في الآيات - محل البحث - تصريح بأن سليمان عليه السلام قد ضيع الصلاة الواجبة، والتصريح الذي في الآيات هو أن الخيل قد شغلته عن ذكر الله، وهنا يحتمل أن يكون المراد بذكر الله الصلاة المفروضة، ويحتمل أن يكون المراد بها صلاة النافلة، أو الذكر، وعلى أي احتمال فليس في الآية أنه - عليه السلام - ترك الذكر متعمدا، بل ظاهرها أنه نسي ذكر ربه باشتغاله بأمر الخيل .
وكذلك ليس في الآية تصريح بأن سليمان ذبح الخيل وأزهق أرواحها ورماها عبثا، وإنما في الآية التصريح بأنه مسح سوقها وأعناقها، وقد قال بعض المفسرين أنه مسح الغبار عنها حبا فيها، ومن قال: "ذبحها" لم يقل رمى لحمها، والظن به عليه السلام إذا ذبحها أن يتصدق بلحمها، إذ في ذبحها والتصدق بلحمها ما يكون أرضى للرب سبحانه، فكأنه عليه السلام يقول لربه سبحانه: هذه التي شغلتني عن ذكرك ذبحتها لك، وتصدقت بها على عبادك.
وبهذا يتبين أن ما وقع من سليمان عليه السلام من اشتغاله بالخيل عن ذكر الله إنما هو خلاف الأولى، وليس من باب المعاصي والآثام، بل هو من ربما كان من باب النسيان الذي لا يؤاخذ عليه الإنسان .
هذا بعض ما أورده الطاعنون في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد أجبنا عنه بما لا نزعم أنه لا مزيد عليه، ولكننا نحسب أننا فتحنا أبوابا للحق، تضيء بنورها ظلمات الباطل فتزيلها، وينبغي للمسلم إذا عرضت له شبهة من الشبهات تجاه أنبياء الله ودينه أن يواجهها بالحجة والبرهان فيبحث في مظان كتب أهل العلم، ويسأل المختصين، عملا بقوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }(النحل: 43).
==================
مجموعه من الشبهات والرد عليها
YOUNESS
وردت الشبهة فى قوله تعالى (( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) و قوله تعالى (( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )) ، فقالوا : كيف يعصى يونس أمر ربه ؟ و كيف يظن أن الله القادر على كل شىء لن يقدر عليه ؟
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:(8/24)
قال الإمام ابن حزم فى الملل (فأما يونس عليه السلام فلم يغاضب ربه ، و لم يقل تعالى أنه ذهب مغاضباً ربه ، فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب و زائداً فى القرأن ما ليس منه ، و هذا ما لا يجوز فإنما هو غاضب قومه و لم يوافق ذلك مراد الله تعالى و إن كان يونس لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز و جل،و الأنبياء يقع منهم السهو بغير قصد و يقع منهم الشىء يراد به وجه الله فيوافق خلاف مراد الله تعالى))
و هذا هو المعنى الصحيح و الذى يتضح جلياً بفهم قوله تعالى ((فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)) ، "جاء رجل فسأل ابن عباس: كيف يظن نبى الله يونس أن الله لن يقدر عليه؟ فقال ابن عباس: ليس هذا، ألم تقرأ قول الله تعالى ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ))
قال الإمام القرطبى فة تفسير قوله تعالى ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ ))
[قِيلَ : مَعْنَاهُ اسْتَنْزَلَهُ إِبْلِيس وَوَقَعَ فِي ظَنّه إِمْكَان أَلَّا يَقْدِر اللَّه عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ . وَهَذَا قَوْل مَرْدُود مَرْغُوب عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كُفْر . رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيّ , وَالثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مَعْنَاهُ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّق عَلَيْهِ . قَالَ الْحَسَن : هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر " [ الرَّعْد : 26 ] أَيْ يُضَيِّق . وَقَوْله " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : 7 ] . قُلْت : وَهَذَا الْأَشْبَه بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن . وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى , أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ .
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْقَدْر الَّذِي هُوَ الْقَضَاء وَالْحُكْم ; أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالْفَرَّاء . مَأْخُوذ مِنْ الْقَدْر وَهُوَ الْحُكْم دُون الْقُدْرَة وَالِاسْتِطَاعَة]
فكلمة نقدر عليه لا تشير ههنا إلى معنى الإستطاعة فهذا ما لا يظنه أحاد الناس فضلاً عن نبى ، و إنما تشير إلى معنى التضييق، فيونس عليه السلام لما دعى قومه للتوحيد و نفروا منه و أذوه تركهم غضباناً لله و لم يظن أن الله يحاسبه و يضيق عليه لذلك، و إنما حاسبه الله لأنه لم يصبر عليهم و خرج منهم قبل الإذن ، كما قال تعالى ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) و قد نبه رسول الله (ص) إلى هذا الأمر و حذر من أن يسىء إنسان الظن بنبى الله يونس فقال عليه الصلاة و السلام: (( لا يقولن أحدكم إني خير من يونس )) رواه البخارى
عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه "قال - يعني الله تبارك وتعالى - لا ينبغي لعبد لي (وقال ابن المثنى : لعبدي) أن يقول : أنا خير من يونس بن متى، عليه السلام"رواه مسلم.
و قال عليه الصلاة و السلام: ((ما ينبغي لنبي أن يقول : إني خير من يونس بن متى)) صحيح أبو داود للألبانى
و قال عليه الصلاة و السلام ((ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) صحيح ابن ماجة
و هذا من تعظيم رسول الله (ص) لشأن اخوانه الأنبياء و دفاعه عنهم عليهم صلوات الله أجمعين
و هفوة نبى الله يونس هذه لو صدرت عن غيره لاعتبرها فى ميزان الفضيلة و لكن يونس عليه السلام أوخذ يها نظراً لرفيع مقامه كما نقول دائماً (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ، و فعاقب الله تعالى نبيه يونس بموجب (التربية الخاصة) لتزكية نفسيه الطاهرة و السمو بها عن كل شائبة، و قد تضرع عليه السلام إلى ربه منيباً معترفاً بخطئه فقال عليه السلام " لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين .." فاستجاب له ربه تعالى و جعل دعاءه هذا مأثوراً لرفع الكرب إلى يوم القيامة، ..."
MOISE
الأولى:
وردت الشبهة فى قوله تعالى (( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ..)) فقالوا: كيف يقتل موسى نفساً ؟
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
فإن موسى عليه السلام لا تثريب عليه في قتل القبطى لسببين:
الأول: أنه تدخل عليه السلام لنصرة مؤمن مستضعف إستغاثه من يد كافر متجبر(8/25)
الثانى: أن موسى لم يقصد قتله و إنما قصد ردعه فمات فلا تعمد ههنا و بالتالى لا تناقض مع عصمته الشريفة، و لعل الإشكال نشأ فى عقول القوم بسبب الرواية التوراتية التى تظهر موسى فى صورة القاتل المتعمد المتربص الذى استطلع الأجواء ثم أقدم على جريمته.(( ». 11وَحَدَثَ فِي تِلْكَ لأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيّاً يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيّاً مِنْ إِخْوَتِهِ 12فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ فَقَتَلَ لْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي لرَّمْلِ)) خروج 2: 11
أما الرواية القرأنية فلم تقل أن موسى قتله كى لا يشكل المعنى بل قال تعالى ((.فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ .)) قال القرطبى و ابن كثير عن قَتَادَة قال : " وكزه بِعَصَاهُ" وَقَالَ مُجَاهِد : "بِكَفِّهِ ; أَيْ دَفَعَهُ وَالْوَكْز وَاللَّكْز وَاللَّهْز وَاللَّهْد بِمَعْنًى وَاحِد , وَهُوَ الضَّرْب بِجُمْعِ الْكَفّ مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلَاثَة وَسَبْعِينَ" ))
فما فعله موسى هو أن وكز القبطى و كان شديد القوة عليه السلام فلم يحتمل القبطى فمات، و هذه أول مرة فى التاريخ يتم فيها الإشارة إلى هذا التفريق بين القتل العمد و القتل الخطأ و ما يعرف بالضرب المفضى إلى الموت، فالقرأن العظيم هو أول من فرق بين هذه الحالات الثلاث و لم يسبقه أى نظام قانونى فى العالم فى بيان هذا التشريع العادل الراقى و لله الحمد و المنة
الشبهة الثانية:
وردت الشبهة فى الحديث البخارى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ((أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن قال فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر))
فقالوا كيف يعتدى موسى عليه السلام على ملك الله ؟ و كيف يرفض قدر الله؟!
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
أولاً
قال ابن خزيمة: {الجواب أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ , وإنما بعثه إليه اختبارا وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميا دخل داره بغير إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت , وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن , وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء , ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول , ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه . }
ولخص الخطابي كلام ابن خزيمة وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة , وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ،
قلت : و هذا هو الصواب قطعاً خاصة و أن الملاك لم يأت موسى بصورته و إنما جاءه متشكلاً فأنكره موسى ، كما أنه لم يبدأ بتخييره قبل قبضه و معلوم أنه ما قُبض نبى قبل تخييره ، فكان الحال أن فوجىء موسى برجل فى بيته يطلب موته!!
و الدليل أن موسى عليه السلام لم يفعل ذلك كرهاً لقضاء الله كما يزعمون أن الله تعالى ما عاقبه ولا عاتبه على ذلك ، بل أكرمه فأرسل إليه الملك مرة أخرى و قد عاد كاملاً سليماً فعلمه موسى حينئذ ، فلما خيره أن يموت فى الحال أو أن يضع يده على متن ثور و يكون له بكل شعره غطتها يده سنة رد موسى قائلاً: (( أى رب ثم ماذا ؟ قال:ثم الموت، قال:فالآن)) أى أن موسى فضل الموت فى حينه و الالتحاق بالرفيق الأعلى عن العيش فى الدنيا لألاف السنين الأخرى، فكيف يقال أنه كان يكره الموت بعد ذلك؟!
و مرة أخرى نذكر بما ورد فى حديث الشفاعة الكبرى و فيه أن الناس يأتون موسى عليه السلام يستشفعونه فيصرفهم و يذكرهم بخطيئة واحدة اقترفها و هى قتل القبطى ((فيقول : لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس، فيستحي من ربه فيقول : ائتوا عيسى عبد الله ورسوله))
فلو كان فعله مع الملك تجاوزاً لكان أولى بالذكرمن قتل غير مقصود لنفس جائرة، و مع ذلك فموسى لا يذكر إلا هذه المسألة فقط و يعدها خطيئة بيد أنها ليست كذلك كما أوضحنا من قبل ، و أن الله اصطفاه و جعله رسوله و كليمه بعد ذلك كما قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً )) و كما قال تعالى فى ثناءه على موسى ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ))
إلا أن هذا هو شأن الأنبياء فى إستعظامهم لكل خطأ غير مقصود لشدة تعظيمهم لحق الله تعالى و حرماته
ثانياً(8/26)
أعجب ممن يتحدثون عن كراهية الموت و الإعتراض على قضاء الله بينما نجد فى كتبهم أن المسيح قد رفض الموت و طلب من الله أن يدفع عنه هذه الكأس المرة
((35 ثم تقدم قليلا وخرّ على الارض وكان يصلّي لكي تعبر عنه الساعة ان امك 36 وقال يا ابا الآب كل شيء مستطاع لك .فاجز عني هذه الكاس .ولكن ليكن لا ما اريد انا بل ما تريد انت .)) مرقس 35:14، 36
و كذلك نجد يائساً ساخطاً على الصليب! فصرخ فى ربه قائلاً: ((34 وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا ألوي ألوي لما شبقتني .الذي تفسيره الهي الهي لماذا تركتني .)) مرقس34:15
SOLOMON
جاءت الشبهة فى ما نقلته بعض كتب التفسير عند قوله تعالى ((وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ))
و هى روايات تزعم أن سليمان عليه السلام كان له خاتم يكمن فيه سر ملكوته فتشكل الشيطان فى هيئته مرة و أخذ الخاتم من زوجته التى كانت تحفظه بينما كان سليمان يقضى حاجته، فتسلط الشيطان على ملك سليمان و جار و ظلم، بينما كذب الناس سليمان و افتقر حتى وجد الخاتم فى جوف سمكة اصطادها يوماً ، و عاد إليه ملكه ، و من هذه الروايات ما أورده السيوطى عن قتادة و مجاهد فى الدر المنثور ، قال:{ وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله تَبَارَكَ وَتَعَالَى " وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا " قَالَ شَيْطَانًا يُقَال لَهُ آصَف فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاس ؟ قَالَ أَرِنِي خَاتَمك أُخْبِرك فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ آصَف فِي الْبَحْر فَسَاحَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَذَهَبَ مُلْكه وَقَعَدَ آصَف عَلَى كُرْسِيّه وَمَنَعَهُ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ نِسَاء سُلَيْمَان فَلَمْ يَقْرَبهُنَّ وَلَمْ يَقْرَبْنَهُ وَأَنْكَرْنَهُ قَالَ فَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَسْتَطْعِم فَيَقُول أَتَعْرِفُونَنِي ؟ أَطْعِمُونِي أَنَا سُلَيْمَان فَيُكَذِّبُونَهُ حَتَّى أَعْطَتْهُ اِمْرَأَته يَوْمًا حُوتًا فَفَتَحَ بَطْنه فَوَجَدَ خَاتَمه فِي بَطْنه فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكه }
و كذا رواه عن قتادة قال {...َكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل الْخَلَاء أَوْ الْحَمَّام لَمْ يَدْخُل بِالْخَاتَمِ فَانْطَلَقَ يَوْمًا إِلَى الْحَمَّام وَذَلِكَ الشَّيْطَان صَخْر مَعَهُ وَذَلِكَ عِنْد مُقَارَفَة قَارَفَ فِيهَا بَعْض نِسَائِهِ قَالَ فَدَخَلَ الْحَمَّام وَأَعْطَى الشَّيْطَان خَاتَمه فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْر فَالْتَقَمَتْهُ سَمَكَة وَنُزِعَ مُلْك سُلَيْمَان مِنْهُ وَأُلْقِيَ عَلَى الشَّيْطَان شَبَه سُلَيْمَان قَالَ فَجَاءَ فَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيّه وَسَرِيره وَسُلِّطَ عَلَى مُلْك سُلَيْمَان كُلّه غَيْر نِسَائِهِ قَالَ فَجَعَلَ يَقْضِي بَيْنهمْ وَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ مِنْهُ أَشْيَاء }.
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
لاشك عقلاً و نقلاً فى كون هذه الخرافات من أكاذيب بنى إسرائيل و أباطيلهم،و أن ابن عباس و غيره تلقوها عن مسلمة أهل الكتاب و ليس أدل على ذلك مما ذكره السيوطى فى تفسيره قال: { و أخرج عبدالرازق، و ابن منذر، عن ابن عباس قال: أربع أيات من كتاب الله لم أدر ما هى؟ حتى سألت عنهم كعب الأحبار..... و ذكر منها : و سألته عن قوله تعالى ((وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)) قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه السلام الذى فيه ملكه، فقذف به فى البحر، فوقع فى بطن سمكة، فانطلق سليمان يطوف إلى أن تصدق عليه بتلك السمكة فاشتواها ، فأكلها ، فإذا فيها خاتمه، فرجع له ملكه} ،
و كعب الأحبار من مسلمة أهل الكتاب المشهورين بحكاية ترهات الإسرائيليات شأنه فى ذلك شأن وهب ابن منبه و غيره.
- و قد نوهنا مراراً أن مثل هذه الروايات - و إن وردت- عن نفر من الصحابة الكرام فهذا لا ينفى كونها نفسها من الإسرائيليات التى تناقلوها عن مسلمة أهل الكتاب، و لا حجة فى أخبار أمم السابقة إلا بما وصل إلينا صحيحاً فى كتاب الله و سنة رسول الله (ص)
و قد نبه إلى ذلك أيضاً الإمام القاضى عياض
YOUSSEF
الشبهة :(8/27)
وردت الشبهة فى قوله تعالى ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )) فزعموا أن يوسف عليه السلام عزم القيام بالفاحشة ، و ساعدهم على الإسهاب فى بهتانهم بعض الروايات الباطلة المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب و بعض الصحابة أوردها و تبناها ابن جرير و صاحب الدر المنثور و غيرهما ، مفادها باختصار أن يوسف عليه السلام حل سراويله فصيح به: يا يوسف لا تكن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش، و قيل : رأى كفاً مكتوباً عليها أيات قرأنية بالعبرية، و قيل : رأى صورة يعقوب على الحائط، بل و زعموا أنه لما لم يرعوا من رؤية صورة أبيه عاضاً على أنامله ضربه أبوه يعقوب فخرجت شهوته من أنامله !!
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
فإن هذه الروايات الباطلة لا تعدو أن تكون من أكاذيب و افتراءات الإسرائيليات و لم يصح أى من هذه الخرافات على الإطلاق على لسان رسول الله عليه الصلاة و السلام ، و إنما وردت موقوفة كما أن بعض طرقها تصل إلى وهب بن منبه و هو من مسلمة أهل الكتاب المشهورين بكثرة اسرائيلياتهم و كذا كعب الأحبار ، و كان ابن عباس و ابن عمر و غيرهم من الصحابة الكرام يحدثون عنهم أخذاً برخصة ذلك، حتى انه روى عن بعض الصحابة أنه كان يملك حمل بعيرين من كتب القوم! و هذه مسألة فصل فيها أئمة المحققين،
و قد نبه لهذا الامر ثلة من كبار المفسرين كالامام ابن كثير و القاسمى و السعدى و السنوسى و أبو السعود و الزمخشرى و غيرهم....، قال القاسمى{ هذا و قد ألصق بعض المفسرين المولعين برواية كل غث و ثمين ما تلقفوه من أهل الكتاب و بعض المتقولين من تلك الروايات الباطلة التى أنزه قلمى عن نقلها لردها، و كلها خرافات و أباطيل} و ليس أدل على بطلان هذه الرويات من تهافتها و اختلافها ، و الحق أبلج و الباطل لجلج ، و كذلك ينكشف زيفها من خلال الرواية الموضوعة الأخرى التى نسبت إلى النبى عليه الصلاة و السلام زوراً أنه لما قرأ: ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)) قال: لما قال يوسف ذلك قال له جبريل: ولا يوم هممت بما همت به؟
و حاشا لله أن يكون رسول الله (ص) قد تلفظ بشىء من هذا العبث ، و هو الذى نزه اخوانه الأنبياء و أكرمهم فى كل موضع، و قال فى مديح صبريوسف على البلاء ((لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)) و قال عليه الصلاة و السلام عن يوسف أيضاً ((فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله))
و قد نسى من دس هذه الرواية (الموضوعة) أن قوله تعالى ((ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)) ليست مقالة سيدنا يوسف عليه السلام و إنما هى مقالة امرأة العزيز ، و هو ما يتفق مع سياق الأية، ذلك: أن الملك لما أرسل رسوله إلى يوسف لإحضاره من السجن قال له: ارجع إلى ربك، فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن أيديهم فأحضر النسوة، و سألهن، و شهدن ببراءة يوسف، فلم تجد امرأة العزيز بداً من الإعتراف بفعلتها و أن يوسف هو الذى استعصم فلم تقع الفاحشة ((قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ )) فكل ذلك من قولها ، و لم يكن يوسف حاضراً بل كان فى السجن ، فكيف يعقل أن يصدر منه ذلك فى مجلس التحقيق الذى عقده العزيز؟(8/28)
و قد انتصر لهذا الرأى السديد الإمام ابن تيمية و ألف فى ذلك تصنيفاً على حده، و قال الإمام ابن كثير فى تفسيره: {" ذَلِكَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " تَقُول إِنَّمَا اِعْتَرَفْت بِهَذَا عَلَى نَفْسِي لِيَعْلَم زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فِي نَفْس الْأَمْر وَلَا وَقَعَ الْمَحْذُور الْأَكْبَر وَإِنَّمَا رَاوَدْت هَذَا الشَّابّ مُرَاوَدَة فَامْتَنَعَ فَلِهَذَا اِعْتَرَفْت لِيَعْلَم أَنِّي بَرِيئَة " وَأَنَّ اللَّه لَا يَهْدِي كَيْد الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِي " تَقُول الْمَرْأَة وَلَسْت أُبَرِّئ نَفْسِي فَإِنَّ النَّفْس تَتَحَدَّث وَتَتَمَنَّى وَلِهَذَا رَاوَدْته لِأَنَّ " النَّفْس لَأَمَّارَة بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِم رَبِّي " أَيْ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى " إِنَّ رَبِّي غَفُور رَحِيم " وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْأَشْهَر وَالْأَلْيَق وَالْأَنْسَب بِسِيَاقِ الْقِصَّة وَمَعَانِي الْكَلَام وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ فِي تَفْسِيره وَانْتُدِبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَام أَبُو الْعَبَّاس رَحِمَهُ اللَّه فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَة وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَام يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول " قَالَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي زَوْجَته " بِالْغَيْبِ " الْآيَتَيْنِ أَيْ إِنَّمَا رَدَدْت الرَّسُول لِيَعْلَم الْمَلِك بَرَاءَتِي وَلِيَعْلَم الْعَزِيز " أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ " فِي زَوْجَته " بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّه لَا يَهْدِي كَيْد الْخَائِنِينَ " الْآيَة وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الَّذِي لَمْ يَحْكِ اِبْن جَرِير وَلَا ابْن أَبِي حَاتِم سِوَاهُ قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ لَمَّا جَمَعَ الْمَلِك النِّسْوَة فَسَأَلَهُنَّ هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُف عَنْ نَفْسه ؟ " قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوء قَالَتْ اِمْرَأَة الْعَزِيز الْآن حَصْحَصَ الْحَقّ " الْآيَة قَالَ يُوسُف " ذَلِكَ لِيَعْلَم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام : وَلَا يَوْم هَمَمْت بِمَا هَمَمْت بِهِ ؟ فَقَالَ " وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي " الْآيَة وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة وَابْن أَبِي الْهُذَيْلِ وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالْقَوْل الْأَوَّل أَقْوَى وَأَظْهَر لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام كُلّه مِنْ كَلَام اِمْرَأَة الْعَزِيز بِحَضْرَةِ الْمَلِك وَلَمْ يَكُنْ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدهمْ بَلْ بَعْد ذَلِكَ أَحْضَرَهُ الْمَلِك }
التفسير الصحيح للأية:
- بدأت الأيات الكريمات بقوله تعالى ((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ)) قال أبو السعود: قوله (معاذ الله) يعكس تقوى قلبه و هو اجتناب منه على أتم الوجوه و إشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، و هذا من شفافية نفس يوسف الزكية فقد أراه الله القبيح فى صورته الحقيقية ، و ذلك ما يفتقر إليه الكثيرون لذا جاء فى دعاء أبى بكر الصديق رضى الله عنه ((اللهم أرنا الحق حقاً. و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه.))
وقوله ((إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)) فيه تمام الإعتراف بفضل الله و استحضار مراقبته و خشية عقابه لذا قال بعدها ((إنه لا يفلح الظالمين))، و قيل : الضمير يعود على العزيز و و لو كان كذلك فهو إنتقال سديد لذكر بعض أسباب الإمتناع المقنعة لامرأة العزيز ، فكيف تطلبين منى خيانة سيدى الذى أكرمنى و كفلنى فى بيته و طالبك بإكرامى و أنت زوجته؟ فكانت هذه الكلمات الموجزة أدق أرشاد لها بألطف طريقة
- و قوله تعالى (( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)) الهم هو أول العزيمة و أعلاه الهمة، قال البغوى: الهم همان (1) هم ثابت معه عزم و رضا و هو مذموم مأخذ به و هذا هو مقصود امرأة العزيز (2) و هم هو الخاطر و حديث النفس بغير تصميم و هو غير مأخذ به ، قال أبو السعود: { همه بها: ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه قصدها قصداً إختيارياً، ...و الأنبياء ليسوا معوصومين من حديث النفس و الخواطر الجبلية و لكنهم معصومون من طاعتها و الإنقياد إليها و لو لم توجد لديهم دواعى جبلية لكانوا إما ملائكة و إما عالم أخر ، و لا يصلحون قدوة للبشر حينئذ، و لما كانوا مأجورين على ترك الملاهى لأن الترك مع وجود الداعى هو العمل المتعبد به المشتمل على جهاد النفس }(8/29)
و قوله (هم) بعد (همت) من قبيل المشاكلة اللفظية مع اختلاف الدلالة المعنوية و هذا كقوله تعالى (( و مكروا و مكر الله )) و قوله ((و جزاء سيئة مثلها..)) و قيل: العبارة فيها تقديم و تأخيرو هو أسلوب مشهور فى لسان الكوفيين و أعلام البصريين فيكون المعنى (( لولا أن رءا برهان ربه لهم بها)) ، فقوله تعالى ((و هم بها)) جواب مقدم، قال ابن حيان و غيره: { أى قاربت الإثم لولا أن الله عصمك }
و معروف فى العربية أن (لولا) حرف امتناع لوجود، أى امتناع الجواب لوجود الشرط، فيكون الهم ممتنعاً لوجود البرهان الذى ركزه الله تعالى فى فطرته، و المقدم إما الجواب أو دليله على خلاف بين النحويين
- و قوله تعالى ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء )) قال العلامة أبو السعود: { هذه أية بينة و حجة قاطعة على أن يوسف لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط} و لنتامل بلاغة النص القرأنى إذ لم يقل ((كذلك لنصرفه عن السوء و الفحشاء)) لأن هذا المعنى يفيد أنه ذهب إلى الفحشاء فصرفه الله عنها ، لذا قال تعالى ((كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء)) و هذا دليل عدم إقدامه على السوء قط بل إن الله صرف السوء عنه,و كذلك المغايرة بين السوء و الفحشاء يبرىء يوسف من كل شبهة ، لأن الفحشاء هى الإثم الكبير و السوء لفظ أعم يضم الفواحش و غيرها، و قد أخبر الله تعالى أنه صرف عنه كليهما، فيوسف عليه السلام لم يرتكب الزنا ولا مقدماته
- و قوله تعالى (( إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) دليل قاطع على أن الأنبياء الذين هم صفوة عباد الله المخلصين الطاهرين يعصمهم تعالى من إرتكاب الفواحش، و هذه الأية لا تزكى
لشبهة:
وردت الشبهة فى قوله تعالى عن نبيه لوط : (( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ )) قال رسول الله (ص) : " يرحم الله لوطاً لقد كان يأوى إلى ركن شديد" فتسائلوا كيف يقصر لوط عليه السلام فى التوكل على الله تعالى؟
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- فإن حديث رسول الله (ص) ليس عتاباً على نبى الله لوط و إنما تعجب من حاله عليه السلام إذ بحث المدد و هو لا يعلم بوجود ملائكة الرحمن معه فى بيته متشكلين فى صورة البشر
قال ابن حزم: (( ظن بعض الفرق أن ما جاء فى حديث رسول الله (ص) إنكار على لوط عليه السلام، و هذا غير صحيح إذ لا تخالف بين القولين بل كلاهما حق، لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عادلة يمنع بها قومه مما هم عليه من فواحش من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين دون أن يتعارض هذا مع إيمانه التام بأن الله ركنه الشديد و ناصره المجيد، ولا جناح على لوط عليه السلام فى طلب قوة من الناس لقوله تعالى {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }..))
و قد طلب رسول الله (ص) من المهاجرين و الأنصار منعه حتى يبلغ رسالة ربه ، و هو أشد الناس توكلاً على الله ، لأنه لا تعارض بين التوكل و بين تحرى الأسباب و الأخذ بها.
و يؤكد هذا المعنى أيضاً الحديث الذى رواه الإمام أحمد فى مسنده عن أبى هريرة عن النبى عليه الصلاة و السلام قال: ( قال لوط لو أن لى بكم قوة أو أوى إلى ركن شديد، قال: فإنه كان يأوى إلى ركن شديد و لكنه عنى عشيرته فما بعث الله نبياً إلا فى ثروة من قومه) و زاد ابن مردويه: ( ألم تر إلى قول شعيب: ولولا رهطك لرجمناك)
- و هذا أيضاً تعريض من نبى الله لوط بالدعاء ، فهو يشهد الله على حاله راجياً خلاصه، و هذا شبيه بتعريض أيوب عليه السلام حين قال ((وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )) و الشاهد على هذا ما جاء فى الأيات التالية من بشارة الملائكة إياه بنصر الله تعالى: ((قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ))
IBRAHIM
الشبهة الأولى: زعموا أن القرأن الكريم نسب الشرك إلى إبراهيم عليه السلام فى موضعين :
الأول: قوله تعالى((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ))الأنعام76(8/30)
و الثانى: قوله عز و جل عن إبراهيم ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ )) الصافات88، و التنجيم محرم
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- فإنه و الله لمن أكبر الجهل ما ظنه هؤلاء فى تلك الأيات الكريمات أنها تحكى الشرك عن نبى الله إبراهيم و العياذ بالله، و هو خليل الرحمن الذى أثنى عليه فى كل موضع من مواضع كتابه فقال ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ))، و قال تعالى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ)) و قد ضرب الله المثل بحنيفية الخليل و أكد بالنصوص القاطعة براءته من الشرك و المشركين أبداً فقال تعالى ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) و قال عز و جل ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً))، و جاءت أحاديث رسول الله (ص) منزهة لأبينا إبراهيم عن كل شائبة حتى أنه أنكر إنكاراً شديداً حين دخل الكعبة المشرفة فوجد صورة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال عليه السلام: (قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قط.)
و نبين الحق فى الأيات الكريمات على النحو الأتي:
1) أما الأيات فى سورة الأنعام فلا ريب أن هذا المقام ليس مقام نظر و بحث و إنما مقام مناظرة ليقيم الخليل عليه السلام الحجة علي قومه ، فأظهر موافقته لهم ظاهرياً تمهيداً لتفنيد معتقدهم تفنيداً و بيان أن هذه الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ولا أن تعبد مع الله عز و جل لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة و تأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم و الرب تعالى لا يغيب عنه شىء ولا تخفى عليه خافية و هو الدائم الباقى بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه، و انتقل بهم من الكواكب إلى الشمس إلى القمر فلما انتفت الألوهية عن هذه الأجرام الثلاثة التى هى أنور ما تقع عليه الأبصار و تحقق الدليل القاطع على بطلان عبادتها كشف لهم إبراهيم الحق الأكيد و أعلن إخلاصه لله الواحد القهار و تبرأه التام من شركهم الباطل، (( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))الأنعام78
- و قد إبتدأ الله تعالى هذه الأيات المباركات بالثناء على نبيه قائلاً: ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )) الأنعام75، فشهد سبحانه لخليله بكمال الإيمان و امتن عليه بتبصرته و إطلاعه على ما اشتمل عليه ملكوته عز و جل من الأدلة القاطعة و البراهين الساطعة فحصل اليقين و العلم التام و تمت نعمة الله ،
- و مما يؤكد أيضاً أنه كان فى هذا المقام مناظراً لقومه قوله تعالى فى الأيات اللاحقة ((وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ))الأنعام80
2) أما قوله تعالى ((فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ)) فإن أبراهيم عليه السلام لم ينظر فى النجوم إعتقاداً بها و إنما عرض بهذه الوسيلة ليتنصل من الذهاب مع معهم فى عيدهم الشركى و يتمكن من تحطيم أصنامهم، قال ابن كثير (( إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِقَوْمِهِ ذَلِكَ لِيُقِيمَ فِي الْبَلَد إِذَا ذَهَبُوا إِلَى عِيدهمْ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَزِفَ خُرُوجُهُمْ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ فَأَحَبَّ أَنَّ يَخْتَلِي بِآلِهَتِهِمْ لَيُكَسِّرَهَا فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا هُوَ حَقّ فِي نَفْس الْأَمْر فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ سَقِيم عَلَى مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ " فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ))
و قال قتادة: "العرب تقول لمن تفكرنظر فى النجوم" أى نظر إل السماء متفكراً فيما يلهيهم به عنه، الشاهد أنه ما إعتقد فى النجوم وما أراد إلا التحايل على المشركين كى لا يشهد أعيادهم الوثنية و ليكيد ألهتهم الباطلة(8/31)
و أيضاً هذه الأيات وردت فى سياق مديح الخليل عليه السلام فابتدأها الله من ختام قصة نوح فقال تعالى((وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ... ))
الشبهة الثانية :زعموا أن إبراهيم عليه السلام شك فى الإيمان لقوله تعالى((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
الجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن الإيمان ثلاثة مراتب: (1) علم اليقين (2) عين اليقين (3) حق اليقين
و نضرب مثالاً على ذلك: فلو أمن شخص إيمان يقينى لا شك فيه أن داخل الحقيبة طعاماً فهذا علم اليقين، و لو فتح الحقيبة و نظر الطعام بعينيه فهذا عين اليقين، و لو أمسك بهذا الطعام و أكل منه فهذا حق اليقين، فإبراهيم عليه السلام ما شك فى ربه أبداً و إنما أراد الإنتقال من مستوى الإستدلال إلى مستوى العيان و الإرتقاء إلى درجة أعلى من درجات الإيمان ، و هذا حال المؤمنين دائماً فى سعيهم إلى الكمال ، فالفرق بين سؤال إبراهيم و سؤال غيره، كالفرق بين سؤال موسى رؤية ربه و سؤال قومه نفس الطلب، لأن سؤال موسى كان سؤال محبة و شوق إلى الله ، أما سؤال قومه فكان سؤال ريبة و مكابرة
و قد تكفل رسول الله (ص) ببيان هذا المعنى و ذلك حين قال قوم "شك إبراهيم و لم يشك نبينا" فقال رسول الله(ص)تواضعاً " نحن أحق بالشك من إبراهيم" و النبى عليه الصلاة و السلام لا يقع منه الشك أبداً و هو القائل " لَا أَشُكّ وَلَا أَسْأَل " فكان هذا من قبيل افتراض ما لا يمكن وقوعه ليكون أبلغ فى الدلالة على المعنى المنشود و هو إستحالة وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام
و قيل أن المراد :نحن أشد إشتياقاً إلى رؤية ذلك من إبراهيم، و قيل : معناه هذا الذى ترون أنه شك نحن أحق به لأنه طلب لمزيد البيان لا ريبة فى الرحمن الوجه الثانى: أن الشك مراد به الخواطر التى لا تثبت لا معنى التوقف بين أمرين ، لأن الأخير منفى بالنصوص القاطعة فى الكتاب و السنة و إجماع الأمة، أما الأول فهو من دلائل صريح الإيمان كما جاء فى الحديث أن بعض الصحابة قالوا للنبى عليه السلام: ((إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال : "وقد وجدتموه؟" قالوا : نعم. قال" ذاك صريح الإيمان".))
الشبهة الثالثة: طعنوا فى عصمة نبى الله إبراهيم لقول رسول الله(ص) : "لم يكذب إبراهيم النبي، عليه السلام، قط إلا ثلاث كذبات. ثنتين في ذات الله. قوله : إني سقيم. وقوله : بل فعله كبيرهم هذا. وواحدة في شأن سارة"
و قوله عليه السلام فى حديث الشفاعة: "فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، "
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
- كما هو واضح لكل ذى لب فإن هذه الشبهة لا تستحق عناء الرد عليها، و لكننى تعمدت أن أذكرها لأنها دليل عصمة إبراهيم عليه السلام، فهذه الكذبات الثلاثة سيعدها الخليل ذنوباً إرتكبها حين يُسئل الشفاعة يوم القيامة، و هذا الحصر ينفى عنه أى خطيئة أخرى ، زد على هذا أنها ليست ذنوباً فى حقيقة الأمر، فتالله أى إنسان هذا الذى لم يكذب فى حياته كلها إلا ثلاث كذبات، كلهن من قبيل التعريض و اثنتان منهم فى ذات الله ؟!
فالأولى قوله(إنى سقيم) و هو يحتمل معانى كثيرة منها: إني سقيم أي سأسقم واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا , ويحتمل أنه أراد إني سقيم بما قدر علي من الموت أو سقيم الحجة على الخروج معكم...إلخ
والثانية قوله : ( بل فعله كبيرهم ) قال القرطبي هذا قاله تمهيدا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة وقطعا لقومه في قولهم إنها تضر وتنفع , وهذا الاستدلال يتجوز فيه الشرط المتصل , ولهذا أردف قوله : ( بل فعله كبيرهم ) بقوله : ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون )، و قال ابن قتيبة معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا , فالحاصل أنه مشترط بقوله : ( إن كانوا ينطقون ) أو أنه أسند إليه ذلك لكونه السبب .
و الثالث قوله عن ساره أنها أخته و هو أيضاً تعريض صحيح لانه أخوها فى الدين كما قال فى الحديث: (فأتى سارة قال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي...الحديث)
ADAM(8/32)
الشبهة الأولى:أثيرت حول مخالفة أدم عليه السلام لأمر الله و أكله من الشجرة ،قال تعالى((وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)). فقال المعترض: " العصيان من الكبائر بدليل قوله: ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم)
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
فإن قصر المعصية على الكبائر دون الصغائر باطل بشهادة جمهور العلماء،لان العصيان هو مخالفة الأوامر سواء كانت صغيرة او كبيرة، و الإستشهاد بقوله تعالى (( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم)) هو استشهاد فاسد لأن اطلاق اللفظ على كبائر الذنوب لا ينفى اطلاقه على صغارها، و مثال ذلك قوله تعالى ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) روى الإمام أحمد عن عَبْد اللَّه بن عباس قَال: { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ " شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاس فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه أَيّنَا لَمْ يَظْلِم نَفْسه ؟ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونَ أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ الْعَبْد الصَّالِح " يَا بُنَيّ لَا تُشْرِك بِاَللَّهِ إِنَّ الشِّرْك لَظُلْم عَظِيم" إِنَّمَا هُوَ الشِّرْك}
NOE
ما ورد فى كتاب الله عن قول نوح عليه السلام: (( وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً ))
فتسائلوا كيف يدعوا نوح على الناس بالضلال؟
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
إن نوحاً عليه السلام لم يدعوا على الناس بالضلال و إنما دعا على الظالمين منهم الذين استكبروا و صدوا عن سبيل الله ، و من المعلوم أنه لم يمض نبياً فى دعوة قومه زمناً مثل الذى قضاه نوح عليه السلام ، قال تعالى ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً..)) فما أصبر نبى الله نوح و قد وصفه تعالى قائلاً: (( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً *فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً *وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً *ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً *ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ))
و استمر نوح عليه السلام مجداً مخلصاً فى دعوة قومه و هدايتهم حتى أخبره الله تعالى أنه لن يؤمن معه إلا من أمن (( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ))
فحينها تيقن نوح من خبث هؤلاء الكافرين و أن فسقهم ران على قلوبهم فاستنصر ربه و دعا عليهم ليجزيهم بما يستحقوا على مشاقاتهم لله و رسوله و محاربة المؤمنين فقال (( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً *إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً )) و قال عنهم (( وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالاً ))
و بهذا كانت هذه دعوة حق فى موقف حق و عن سابق خبر من الله تعالى فما كان من العزيز الحكيم إلا أن إستجاب لدعوة نبيه ((وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ))
و هذا هو الثابت أيضاً فى الكتاب المقدس إذ أخبر الرب نوحاً بمصير قومه فأمره بصنع الفلك و جعل عهده مع نسله(( تكوين13:6-18))
بل و وصل شر الناس إلى درجة جعلت الرب يندم و يتأسف على خلق الإنسان(بزعمهم) ((تكوين 5:6-8))
الشبهة الثانية: وردت شبهة حول قوله تعالى: ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ))
و كانت الشبهة من شقين:
أ- الاول أن نوحاً طلب من الله ما لا يجوز طلبه و هو انقاذ ابنه مع أن الله تعالى قال ((ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا..))
ب- الثانى فى قوله (( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )) فزعموا أن ذلك إشارة إلى ارتكاب زوجة نوح الفاحشة و أن ذلك الولد الغارق هو ابن غير شرعى لها و فى سبيل تمرير هذا البهتان استدلوا بغير دليل و هو قوله تعالى (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ))
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:(8/33)
أولا: إن نوحاً عليه السلام ما قصد برجاءه مخالفة أمر ربه عز وجل و إنما اجتهد فى تأويل قوله تعالى ((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ )) فظن نبى الله نوح أن ابنه داخل فى أهله و نسى قوله تعالى ((إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ )) و هذا بدافع رقة قلبه و عاطفة الأبوة الفطرية قال الامام ابن كثير : {هَذَا سُؤَال اِسْتِعْلَام وَكَشْف مِنْ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام عَنْ حَال وَلَده الَّذِي غَرِقَ" قَالَ رَبّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِيّ " أَيْ وَقَدْ وَعَدْتنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي وَوَعْدك الْحَقّ الَّذِي لَا يُخْلَف فَكَيْفَ غَرِقَ وَأَنْتَ أَحْكُم الْحَاكِمِينَ ؟ } لكن حين نبهه الله تعالى إلى حقيقة الأمر أناب إلى ربه قائلاً: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ )) فباركه الله تعالى الله و أيده و منحه السلام عز و جل((قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ))
-ثانيا: و أما من زعم أن قوله تعالى (( إنه ليس من أهلك)) يعنى أنه ليس ابنه حقيقة و إنما ابن زنى و العياذ بالله ، فهذا قول باطل و إن خُكى عن بعض السلف لأنه من الأخبار فلا تقام بها حجة إلا إن ورد عن رسول الله (ص)، و لم يرد مثل هذا على لسان الصادق المصدوق و قوله الحق عليه الصلاة و السلام، و قد أنكر أئمة أهل السنة هذا الرأى و فندوه لأن الله تعالى عصم أعراض أنبياءه أيضاً - و يؤكد ذلك الأيات البينات التى أنزلها تعالى فى حادثة الإفك- فلا يمكن أن تركتب زوجة نبى الفاحشة أبداً حتى و إن كفرت.
قال الإمام ابن كثير ( و قد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب فى تفسير هذا إلى أنه ليس بإبنه ) و قال أيضاً: ( وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْر وَاحِد مِنْ السَّلَف مَا زَنَتْ اِمْرَأَة نَبِيّ قَطُّ قَالَ : وَقَوْله " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلك " أَيْ الَّذِينَ وَعَدْتُك نَجَاتهمْ وَقَوْل اِبْن عَبَّاس فِي هَذَا هُوَ الْحَقّ الَّذِي لَا مَحِيد عَنْهُ فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه أَغْيَر مِنْ أَنْ يُمَكِّن اِمْرَأَة نَبِيّ مِنْ الْفَاحِشَة وَلِهَذَا غَضِبَ اللَّه عَلَى الَّذِينَ رَمَوْا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة بِنْت الصِّدِّيق زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهَذَا وَأَشَاعُوهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَة مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْر لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْم وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْره مِنْهُمْ لَهُ عَذَاب عَظِيم - إِلَى قَوْله - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا , وَهُوَ عِنْد اللَّه عَظِيم )
و كان ابن عباس يقول : ( من قال أنه ليس ابن نوح فقد كذب بالقرأن ألم تقرأوا قوله تعالى "وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ " )
-و أما نسبة الخيانة إلى امرأتى نوح و لوط بقوله تعالى فى سورة التحريم ((فخانتاهما)) ، فالمراد به هنا الخيانة فى الإيمان لا فى العرض لأنهما كفرتا بالله تعالى و هذا كقوله تعالى (( وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )) و كقوله تعالى (( ولا تكن للخائنين خصيما))(8/34)
قال الإمام ابن كثير: ((" فَخَانَتَاهُمَا" أَيْ فِي الْإِيمَان لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَان وَلَا صَدَقَاهُمَا فِي الرِّسَالَة فَلَمْ يَجِد ذَلِكَ كُلّه شَيْئًا وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّه شَيْئًا " أَيْ لِكُفْرِهِمَا " وَقِيلَ " لِلْمَرْأَتَيْنِ" اُدْخُلَا النَّار مَعَ الدَّاخِلِينَ " وَلَيْسَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ" فَخَانَتَاهُمَا " فِي فَاحِشَة بَلْ فِي الدِّين فَإِنَّ نِسَاء الْأَنْبِيَاء مَعْصُومَات عَنْ الْوُقُوع فِي الْفَاحِشَة لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاء كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَة النُّور قَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ مُوسَى بْن أَبِي عَائِشَة عَنْ سُلَيْمَان بْن قَرْم سَمِعْت اِبْن عَبَّاس يَقُول فِي هَذِهِ الْآيَة " فَخَانَتَاهُمَا " قَالَ مَا زَنَتَا أَمَّا خِيَانَة أَمْرَأَة نُوح فَكَانَتْ تُخْبِر أَنَّهُ مَجْنُون وَأَمَّا خِيَانَة اِمْرَأَة لُوط فَكَانَتْ تَدُلّ قَوْمهَا عَلَى أَضْيَافه وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ كَانَتْ خِيَانَتهمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْر دِينهمَا فَكَانَتْ اِمْرَأَة نُوح تَطَّلِع عَلَى سِرّ نُوح فَإِذَا آمَنَ مَعَ نُوح أَحَدٌ أَخْبَرَتْ الْجَبَابِرَة مِنْ قَوْم نُوح بِهِ وَأَمَّا اِمْرَأَة لُوط فَكَانَتْ إِذَا أَضَافَ لُوط أَحَدًا أَخْبَرَتْ بِهِ أَهْل الْمَدِينَة مِمَّنْ يَعْمَل السُّوء وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس مَا بَغَتْ اِمْرَأَة نَبِيّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمَا فِي الدِّين وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمْ ))
فبين لهم رسول الله أن الظلم المقصود فى الأية هو الشرك و ليس صغائر الذنوب التى لا يخلوا منها أحد، مع أن المعنيين دل عليهما لفظ واحد (الظلم)
و معصية ابينا أدم كانت غفلة ليس أكثر بدليل قوله تعالى((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)) فبين لنا تعالى أن معصية أدم كانت بسبب النسيان و ضعف العزيمة و لم تصدر عن عمد و استكبار، كما أن أدم لم يكن له عهد بالمعاصى و لا خبرة له بحيل الشيطان لذا فعندما جاءه الشيطان و أقسم بالله أنه له من الناصحين انخدع أدم بكلامه ((وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ))
;قال ابن عباس: بعد أن عاتب الله تعالى أدم فقال "أما كان فيما منحتك من الجنة و أبحتك منها من دوحة عما حرمت عليك؟" فقال أدم: "بلى رب و لكن و عزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كذباً
.و قد بادر نبى الله أدم بالتوبة (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .و غفر الله تعالى له (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
و بهذا يتبين أن ما صدر من أدم عليه السلام ما كان إلا زلة سرعان ما تاب منها و اناب إلى ربه فتقبله سبحانه و تاب عليه
الشبهة الثانية -ادعى المبطلون أن ميراث الخطيئة ثابت فى القرآن و السنة ، لقوله تعالى ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) و لقول رسول الله (ص) فى الحديث: (فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته)
فزعموا أن الله أخذ الميثاق من أدم نيابة عن ذريته،و أن الحديث يفيد توريث الخطيئة
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
أ) اما الأية الكريمة فما قالت أن الله أخذ الميثاق من ادم بالنيابة عن ذريته، فهذا صرف للأية عن ظاهرها بغير صارف، اللهم إلا أهواء النصارى!
والأية صريحة العبارة بأن الرب أخرج ذرية ادم من ظهره بالفعل و أشهدهم على انفسهم، وهو ما اكدته الأحاديث المتواترة منها:
قال رسول الله (ص): ((لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ثم جعل بين عيني كل إنسان كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء قال: هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم أعجبه نور ما بين عينيه فقال: أي رب من هذا؟ قال: رجل من ذريتك في آخر الأمم يقال: له داود قال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون سنة قال فزده من عمري أربعين سنة قال: إذن يكتب ويختم ولا يبدل فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت فقال: أولم يبقى من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته))(8/35)
و روى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ أَنَس بْن مَالِك رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ(( يُقَال لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْل النَّار يَوْم الْقِيَامَة أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لَك مَا عَلَى الْأَرْض مِنْ شَيْء أَكُنْت مُفْتَدِيًا بِهِ قَالَ : فَيَقُول نَعَمْ فَيَقُول قَدْ أَرَدْت مِنْك أَهْوَن مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْت عَلَيْك فِي ظَهْر آدَم أَنْ لَا تُشْرِك بِي شَيْئًا فَأَبَيْت إِلَّا أَنْ تُشْرِك بِي )) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث شُعْبَة بِهِ
و روى الإمام أحمد و النسائى عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (( إِنَّ اللَّه أَخَذَ الْمِيثَاق مِنْ ظَهْر آدَم عَلَيْهِ السَّلَام بِنَعْمَان يَوْم عَرَفَة فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبه كُلّ ذُرِّيَّة ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْن يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ " أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا - إِلَى قَوْله " الْمُبْطِلُونَ ))و غير ذلك كثير مما أورده العلامة ابن كثير فى تقسيره و لله الحمد و المنة.
ب) و اما قول رسول الله فى أخر الحديث: ((فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته)) فهو لا يفيد توريث الخطيئة و إنما توريث الطباع، و الفارق بينهما كبير، فهذه الصفات هى من طبيعة الانسان التى خلقه الله تعالى عليها، فكل الناس ينسون و يجحدون و يخطئون لانهم خلقوا ضعافاً كما قال تعالى ((وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً )) و كما قال رسول الله (ص): (( كل إبن أدم خطاء و خير الخطائين التوابون))
و لكن لا يرث احدهم خطيئة اخر ولا يرث الإنسان جحود أخر!، فكل إنسان يتحمل خطأه هو و القاعدة القرأنية المحكمة ((أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) و قوله تعالى ((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ)) و قوله سبحانه ((فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ))
و حسبنا فى الرد على من يعتقدون ان الطفل البرىء يولد ملطخاً بخطيئة أدم و يريدون إلصاق ذلك العبث كرهاً بالإسلام ان نذكر نيفاً من كلمات رسول الله (ص) فى وصف من تطهر من كل الذنوب و الأثام:
((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))
((أن الله يقول إني إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ))
((لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثا حكما يصادف حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما اثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة))
و من الجدير أن نشير ههنا إلى أمر هام و هو أن خروج أبينا أدم من الجنة ما كان فقط بسبب زلته هذه ، و لكن أيضاً لأن الله تعالى قدر منذ القدم أن يبتلى الإنسان باستخلافه فى الأرض ، كى يعمرها بالتوحيد و يعبده فيها بظاهر الغيب ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))
و ليتم بذلك إختبار الإيمان على الإنس و الجن، قال سبحانه(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))،و قال عز و جل ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )) و قال تعالى (( الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون))
و من أدلة ذلك حديث محاجاة أدم موسى عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( احتج آدم وموسى فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة قال له آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج أدم موسى فحج أدم موسى))
و من المعلوم أنه لا يجوز الإحتجاج بالقدر لتبرير المعصية و إنما يجوز ذلك فى تعليل الإبتلاء
العجيب أننا نقرأ فى القصة التوراتية أن أدم ما كان يعلم الفرق بين الطاعة و المعصية لأن الشجرة التى أكل منها هى نفسها (شجرة معرفة الخير و الشر) ، فكيف يعاتب على شىء ما كان يعلم أنه شر؟؟(8/36)
الشبهة الثالثة - أوردوا شبهة حول قول الله تعالى ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))
فزعموا أن الآية القرآنية تتهم أدم عليه السلام بالشرك و اعتمدوا فى ذلك على بعض المروايات التى وردت عن بعض الصحابة و التابعين، و مفادها أن حواء ما كان يعيش لها ولد فطاف بها ابليس و قال سميه عبد الحارث فيحييى، ففعلت كما أمرها!
و لم يقف الأمر عند هذا الحد بل رفع البعض هذه الرواية (زوراً) إلى النبى عليه السلام
بعد الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله:
يبدو أن النصارى لم يكتفوا بتكفير الأنبياء فى كتبهم أمثال هارون الذى صنع العجل و سليمان الذى عبد الأصنام و شاول الذى مات منتحراً، فأرادوا بث سمومهم فى الإسلام دين الطهارة و الشرف من خلال مثل هذه الشبهات المريضة ،
فنحمد الله الذى رد كيدهم إلى هذا،إذ أن هذه الرواية باطلة مردودة من جهة العقل و النقل
من جهة العقل:
1) ثبت بالنصوص القاطعة فى كتاب الله أن أدم عليه السلام من صفوة عباد الله المقربين فى الدنيا و الأخرة كقوله تعالى : ((إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ))، و قال عز و جل فى ثناء نبيه أدم (( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)) و فى هذه الأية ثلاثة تزكيات لأدم عليه السلام الأولى اصطفاءه بقوله (ثم اجتباه ربه) و الثانية التوبة عليه بقوله( فتاب عليه) و الثالثة هدايته ( و هدى) و من يهده الله فلا مضل له، فكيف يقال بعد ذلك لأن الشيطان أضل أدم عليه السلام؟
2) صح عن النبى عليه الصلاة و السلام الأحاديث الجازمة فى أن أدم عليه السلام من السادة المقربين السابقين من ذلك:
أ- فى قصة الاسراء و المعراج صلى حين أمّ رسول الله (ص) كل الأنبياء فى بيت المقدس جاء فى الحديث {.....و لما انصرفت قال جبريل: يا محمد أتدرى من صلى خلفك؟ قال قلت :لا، قال:صلى خلفك كل نبى بعثه الله عز و جل، قال: ثم أخذ بيدى جبريل فصعد بى إلى السماء فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا :من أنت؟ قال جبريل، قالوا و من معك؟ قال محمد، قالوا: و قد بعث إليهم؟ قال نعم، قال: ففتحوا له و قالوا مرحباً بك و بمن معك، قال: فلما استوى على ظهرها إذا فيها أدم فقال جبريل:يا محمد ألا تسلم على أبيك أدم؟قال: قلت بلى، فأتيته فسلمت عليه، فرد على و قال: مرحباً بابنى الصالح و النبى الصالح...} فدل هذا الحديث على مكانة أدم عليه السلام إذ كان ضمن الأنبياء الذين صلى بهم رسول الله ، و كان أول الأنبياء الذين التقاهم رسول الله (ص) فى سماء الرحمن و سلم عليه و جبريل .
ب- و ضمن حديث الشفاعة قال رسول الله (ص): ((... فيقول بعض الناس : أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول : ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، ))
فهذا الحديث أكبر دليل على أن أدم ما اخطأ إلا حين أكل من الشجرة، و لو كان قد أشرك بالله (و حاشاه) لكان من غير المعقول أن يخشى غضب الله على زلة بسيطة تاب الله عليه منها، و لا يذكر ذنب الشرك الذى هو أعظم الذنوب المخرج من الملة بالكلية!!
3) قال رسول الله (ص): { لما خلق الله أدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة, و جعل بين عينى كل منهم وبيصا من النور ثم عرضهم على أدم فقال أى رب من هؤلاء؟ قال: هم ذريتك فرأى رجل منهم فأعجبه ما بين عينيه فقال: أى رب من هذا؟ قال: هذا رجل من أخر الأمم من ذريتك يقال له داوود ...الحديث }
و هذا الحديث يؤكد أن الله أطلع أدم على ذريته و عرفهم، فكيف يشرك أدم بالله كى يعيش له ولد و قد اطلع على كل ذريته و علم بخبرهم إلى يوم القيامة؟؟
من جهة النقل :(8/37)
1) جاءت هذه الرواية موقوفة على الصحابة و من المعلوم أن ما يُروى موقوفاً على الصحابة أو التابعين من أخبار الأمم السابقة لا حجة به على الشريعة إن خالفها لأنه فى الأغلب الأعم يكون منقولاً من الإسرائيليات و من مسلمة أهل الكتاب أخذاً برخصة التحديث عنهم و هذا ما قرره أعلام الأئمة المحققين كالقرطبى و ابن تيمية و السعدى و ابن كثير و غيرهم...خاصة و أنها رويت عن أبى بن كعب رضى الله عنه و هو مشهور بالإسرائيليات، قال ابن كثير:((وَهَذِهِ الْآثَار يَظْهَر عَلَيْهَا وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهَا مِنْ آثَار أَهْل الْكِتَاب وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ" إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْل الْكِتَاب فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ" ثُمَّ أَخْبَارهمْ عَلَى ثَلَاثَة أَقْسَام فَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا صِحَّته بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيل مِنْ كِتَاب اللَّه أَوْ سُنَّة رَسُوله وَمِنْهَا مَا عَلِمْنَا كَذِبه بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافه مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة أَيْضًا وَمِنْهَا مَا هُوَ مَسْكُوت عَنْهُ فَهُوَ الْمَأْذُون فِي رِوَايَته بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَلَا حَرَج " وَهُوَ الَّذِي لَا يُصَدَّق وَلَا يُكَذَّب لِقَوْلِهِ " فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ " وَهَذَا الْأَثَر هُوَ الْقِسْم الثَّانِي أَوْ الثَّالِث فِيهِ نَظَر فَأَمَّا مَنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ صَحَابِيّ أَوْ تَابِعِيّ فَإِنَّهُ يَرَاهُ مِنْ الْقِسْم الثَّالِث))
-أما رفع هذه الرواية إلى رسول الله (ص) فهو لا يصح أبداً و قد رويت من طريق عَبْد الصَّمَد عن عُمَر بْن إِبْرَاهِيم عن قَتَادَة عَنْ الْحَسَن عَنْ سَمُرَة، و قد فنده الامام ابن كثير فقال: هَذَا الْحَدِيث مَعْلُول مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه
" أَحَدهَا " أَنَّ عُمَر بْن إِبْرَاهِيم هَذَا هُوَ الْبَصْرِيّ وَقَدْ وَثَّقَهُ اِبْن مَعِين وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ لَا يُحْتَجّ بِهِ .
" الثَّانِي " أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ قَوْل سَمُرَة نَفْسه لَيْسَ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن عَبْد الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا بَكْر بْن عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَنْ أَبِي الْعَلَاء بْن الشِّخِّيرِ عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : سَمَّى آدَم اِبْنه عَبْد الْحَارِث .
الثَّالِث " أَنَّ الْحَسَن نَفْسه فَسَّرَ الْآيَة بِغَيْرِ هَذَا فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْده عَنْ سَمُرَة مَرْفُوعًا لَمَا عَدَلَ عَنْهُ
التفسير الصحيح للأية :
الحق فى هذه الأية الكريمة هو ما ذهب إليه الحسن البصرى رضى الله عنه و تابعه فيه الأئمة الأكابر ، قال ابن كثير: ((لَيْسَ الْمُرَاد مِنْ هَذَا السِّيَاق آدَم وَحَوَّاء وَإِنَّمَا الْمُرَاد مِنْ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذُرِّيَّته وَلِهَذَا قَالَ اللَّه " فَتَعَالَى اللَّه عَمَّا يُشْرِكُونَ " ثُمَّ قَالَ فَذَكَرَ آدَم وَحَوَّاء أَوَّلًا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا بَعْدهمَا مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَهُوَ كَالِاسْتِطْرَادِ مِنْ ذِكْر الشَّخْص إِلَى الْجِنْس كَقَوْلِهِ " وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح " الْآيَة وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَصَابِيح وَهِيَ النُّجُوم الَّتِي زُيِّنَتْ بِهَا السَّمَاء لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اِسْتِطْرَاد مِنْ شَخْص الْمَصَابِيح إِلَى جِنْسهَا وَلِهَذَا نَظَائِر فِي الْقُرْآن وَاَللَّه أَعْلَم.))
و قال السعدى رحمه الله: ( هذا انتقال من العين إلى الجنس، فاول الكلام عن أدم ثم انتقل الكلام فى الجنس ولا شك أن هذا موجود فى الذرية كثيراً فلذلك قررهم الله على بطلان الشرك ، و أنهم فى ذلك ظالمون أشد الظلم،سواء كان الشرك فى الأقوال أم الأفعال،فإن الله هو الخالق لهم من نفس واحدة، الذى خلق منها زوجها و جعل لهم من أنفسهم أزواجاً، ثم جعل بينهم مودة و رحمة ،مايسكن بعضهم إلى بعض و يألفه و بتلذذ به، ...ثم أوجد الذرية فى بطون الأمهات، وقتاً موقوتاً تتشوق إليه نفوسهم و يدعون الله أن يخرجه سوياً صحيحاً، فأتم الله عليهم نعمته و مع ذلك ظهر منهم من أشرك به سبحانه!) و لذا حدثهم الله فى ختام الأية بصفة الجمع فقال (فتعالى الله عما يشركون) ، و هذا بين ظاهر فى تكملة الأيات أيضاً إذ قال الله تعالى فى الأيات اللاحقة: ((أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ*وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ*وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ))(8/38)
فهذا الحديث كما هو معلوم يشمل كافة المشركين بما فيهم قوم النبى عليه الصلاة و السلام الذين نصح لهم و دعاهم إلى الهدى هو و صحبه فأبوا إلا كفوراً
عن موقع الجامع
==================
يوسف همّ بالفساد
إ أن يوسف ـ عليه السلام ـ هم بالمرأة وهمت به حسبما جاء فى القرآن. وأنه لم يهم بها ولم تهم به حسبما جاء فى التوراة. وما جاء فى التوراة هو المناسب لأحوال الأنبياء.
الرد على الشبهة:
1 ـ يوجد فرق بين رجل عرف الله ورجل لم يعرفه. فالعارف بالله لا يقدم على معصية لله ولا يقدم على ضرر للبشر. والذى لا يعرفه لا يستحيى أن يفعل ما يشاء من المعاصى والضرر. وعلى هذا المعنى يوجد فرق بين امرأة العزيز التى تعبد مع قومها غير الله وبين يوسف ـ عليه السلام ـ الذى عرف ربه بواسطة البراهين التى قادت إلى معرفته فى كونه ، وبما سمعه عن الله من آبائه. فامرأة العزيز همت به أن يفعل الفاحشة بها ، وهو قد قال لها: (معاذ الله (وعلّل عدم الفعل بأنه يكون مسيئاً لمن أحسن إليه.
وهو سيده. والإساءة إلى المحسن نوع من أنواع الظلم.
2 ـ انظر إلى قوله: (وراودته (وإلى قوله (معاذ الله (تجد أنها لما راودته (همت به (فيكون الهم منها بمعنى طلب فعل الفاحشة. وتجد أنها لما (همت به (صار منه هم بها. يفسره قوله (معاذ الله (كما فسر همها (وراودته (فيكون همه بها ؛ دفعاً لها وامتناعاً عنها.
3 ـ ولو فرضنا أن يوسف غير عارف بالله وغير مقر به مثلها ؛ فإننا نفرض أنه لو همت به للفعل بها ؛ لهم بها للفعل بها. ولولا أنه رأى برهان وجود الله فى كونه ، لكان قد فعل بها. إذ هذا شأن الوثنيين. وكهذا البرهان ؛ أريناه براهين فى الآفاق وفى الأنفس (لنصرف عنه السوء والفحشاء ) (1).
4 ـ ولا يمكن تفسير (برهان ربه (بعلامة مجىء سيده إلى بيته ؛ لأنه لو ظهرت علامة مجئ سيده ؛ ما استبقا الباب: هى للطلب ، وهو للدفع. فاستباقهما معناه: أنها تغلق الأبواب وتمنع من الإفلات وهو يحاول الدفع ، حتى أنها جذبته من خلف ظهره من ثوبه ، وعندئذ (ألفيا سيدها لدى الباب ) (2) وصرح بأنه غير مذنب ، وشهد شاهد بالقرائن من أهل الشهادة أنه غير مذنب.
5 ـ على هذا يكون القرآن مقراً ببراءة يوسف ـ عليه السلام ـ ويكون لفظ الهم فى جانبه على سبيل المشاكلة لأنه صرح قبله بقوله (معاذ الله ) (3).
(1) يوسف: 24.
(2) يوسف: 25.
(3) يوسف: 23.
================
بحث قصير لإثبات نبوة نبى الله داود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وبعد
هذا بحث جميل كان قد كتبة أخونا الحبيب أبو عبيدة
بحث قصير لإثبات نبوة نبى الله داود
بسم الله الرحمن الرحيم
" وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "
مقدمه
لما كانت حياة ألأنبياء عليهم الصلاة و السلام هى حياة الكمل من الناس الذين اختارهم الله عز وجل عن علم و حكمه, و لأننا مأمورون من الله عز وجل بالأقتداء بهم و التأسى بهديهم , لأن فى ذلك طاعة لله سبحانه و تعالى و عبادة له قبل كل شئ ,, قال تعالى لنبيه و لنا من بعده " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " ,, و لأن حياة ألأنبياء عليهم الصلاة و السلام هى الحياة المعصومه ...... خاصة فيما يتعلق بالعقيده وما أمروا بتبليغه , ذلك لأن الله تعالى اجتباهم و اصطفاهم عن علم و حكمه,,,
كان لازما علينا الدفاع عنهم , و محو الباطل من سيرتهم , و رفع مكانتهم, و اثبات نبوتهم.
الى المبحث
أراد ابن العرب أن يثير بعض الشبهات عن نبى الله داود من حيث كونه نبى أرسله الله الى الناس ليكون بشيرا ونذيرا,, سائلا أياى بعض ألأسئله ,,أولها هل كان داود نبيا؟ و أين الدليل على ذلك؟
ثم علق بسؤال أخر ألا وهو " هل تتحدث من منطلق إيمانك القرآني أم من منطلق الكتاب المقدس؟ "
و أقول بفضل الله ان نبوة نبى الله داود مثبوته فى القرأن الكريم و فى أسفار السابقين,, و سوف نشرع باذن الله فى اثبات ذلك عسى الله أن يمن علينا بالمغفره ,, و يهدى من يشاء الى الصراط المستقيم.
أولا : الدليل من القرأن العظيم على نبوة داود الكريم(8/39)
** قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىَ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاّ فَضّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلََئِكَ الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هََؤُلآءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ { الأنعام
نعم ربنا,,,, صدقت و تعاليت (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هََؤُلآءِ فَقَدْ وَكّلْنَا بِهَا قَوْماً لّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ )
ثانيا الدليل من السنه على نبوة داود عليه السلام
** روى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وأن نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده.- البخارى و غيره
** و عن أبى هريره رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" كان داود النبى فيه غيره شديده , و كان اذا خرج اغلقت ألأبواب , فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع -------- و قبض نبى الله داود صلى الله عليه وسلم , و غلبت عليه يومئذ المضرحيه . – رواه ألأمام أحمد
ثالثا الدليل المبين من أسفار السابقين
تعجبت كثيرا لما رأيت كلام ابن العرب لما قال لأخونا" فرناس "أن داود عندنا (أى عند النصارى ملك و ليس نبى),, فهذه العباره لا تخرج الا من نصرانى لم يفتح كتابه قط,,, و أحمد الله أنك قلتها يابن العرب ,,, لنثبتها لك نحن من كتابك المقدس .
** متى 27: "35
........لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي القوا قرعة ..."
" لكى يتم ما قيل بالنبى "
هكذا كان كاتب أنجيل متى كما قال العلماء يوافق بين ما جاء فى العهد القديم و العهد الجديد.
و الشاهد هنا فى " لكى يتم ما قيل بالنبى " و نسأل سؤلا من الذى تنبأ بهذه الفقره على حد قول النصارى و وصف بأنه نبى؟
تخبرنا ترجمة أبو شواهد للكتاب المقدس أن الكاتب أراد أن يشير الى النبؤه الوارده فى المزمور الثانى و العشرين الفقره الثامنه عشر و التى جاء فيها " يتقاسمون ثيابى فى ما بينهم , و على لباسى يلقون قرعه "
و نسأل سؤلا أخر لمن تلك المزامير على حد قول النصارى؟
و يجيب الكتاب المقدس عن هذا السؤال فى تقديمه للمزمور الثانى و العشرين
-------
ملحوطة :
ولكن للاسف هناك صورة لا توجدي لدي كان ارفقها الاخ الحبيب لمقدمة العهد القديم ترجمة الحياة
ونوفرها ان شاء الله تعالي قريبا
-----
اذن كل العهد القديم بناءا على قول هؤلاء العلماء قد أوحاه الله إلى أنبيائه,,,
أليست المزامير المنسوبة الى داود من أهم ألأجزاء من العهد القديم؟,, بل انى أعرف نصارى لا يؤمنون بالعهد القديم الا بالمزامير المنسوبه الى داود.
و أنى لأتسأل هل كل من هب ودب تسمحون له أن يكتب فى كتابكم,,,هذا ما يوحيه لنا ادعائك أن داود ليس بنبى.
أعتقد اننا أثبتنا بما لا يدع مجالا للشك أن داود عندكم من ألأنبياء ,, و بالتالى فأن الشتائم و الكبائر التى جاءت فى كتابكم المقدس فى حق داود عليه السلآم أنما جاءت فى حق نبى.
هذا و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله .
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
جزي الله خيراً اخونا الحبيب أبو عبيدة
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
=================
دفع شبهات القرود حول قصه أوريا مع النبى داود
جليمو
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
الحمد لله الواحد الاحد , الذى اختار واصطفى لنا رسلا وفضلهم على العالمين
يعانى النصارى من مشكلات كبرى فى كتبهم , وخاصه فضائح الانبياء التى تثبت تحريف كتبهم المقدسه , اذ من غير المعقول ان يختار الله من سفله الناس ودنيه القوم انبياء ويرسلهم لحمل رسالته ودعوه الناس الى الخير والبر وهم كما وصفهم الكتاب المقدس .
لذلك قام النصارى بمحاوله يائسه لاثبات باطل فى كتبهم , وادعوا ان قصه زنا داود مع قائد جيشه اوريا قد ذكرها القران ايضا , بالتالى ليس من حق المسلمين اتهام الكتاب المقدس بنسبه جرائم اخلاقيه للانبياء ,, ولا اعرف هل اضحك ام ابكى على جهل وكذب المنصرين(8/40)
, واليكم نص الشبهه حول الايه الكريمه . (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
الرد
أيها القارئ الكريم انت ترى من سياق الآيات ان الله مدح داود مدحا عظيما فوصفه بأجل الصفات المناسبه لمقام النبيين حقا فقال ان له يدا قويه فى مرضاه الله تعالى وانه كثير الرجوع الى الاعمال الصالحه التى ترضى الله تعالى , وانه لكثره تسبيحه وعباده ربه سخر الله له الجماد والحيوان الاعجم لتسبيح الله معه , ولا ريب فى ان ذلك علامه قبول , ودليل الرضا اذ لو لم يرض الله عنه لما أطلعه على اسرار خلقه التى لا يطلع عليها الا من اصطفاه من عباده , ولو لم يقبله لما افهمه تسبيح الجماد والحيوان ليزداد بذلك نشاطا فى عباده ربه , وتفانيا فى الاخلاص له , ثم اخبر الله سبحانه بأنه ملكه ايضا ملكا عظيما وأنعم عليه بالحكمه وهى العلم النافع فى الدين والدنيا , انعم عليه بنعمه الهدايه الى الصواب فى فصل الخصومات
افلا تكفى هذه المزايا العظيمه التى لا تجتمع الى فى كبار الانبياء للحيلوله بين داود وبين الفعله الشائنه ؟ لا ريب فى ان من كان على عذا الحال النتى قصها الله فى كتابه, يستحيل عليه ان يجرى مع شهواته الى هذا الحد وبديهى ان الحكمه اسم جامع لكل الاعمال الفضائل الانسانيه , فهل يليق بالحكيم ان تدفع به شهوته الى قتل بعض قواده المخلصين بوسيله فاسده طمعا فى سلب امرأته ؟ الا ان هذا لو فعله احد الناس لحكم عليه بالدناءه والشر والخسه التى لا حد لها , فضلا عمن يؤتيه الله الحكمه , ان هذا ضرب من ضروب المحال وهل يليق بعد ذلك بأحد من يفهم فى كتاب الله هو المثل الاعلى فى البلاغه والفصاحه والايه الكبرى فى تنسيق القبول وزنته بموازين الكمال أن يمدح شخصا بمثل هذه المدائح مع كونه شهويا شرها لا يستنكف عن ان يقصد قتل قائده لاغراض فاسده و على هذا يكون قوله وهل اتاك نبأ الخصم يفهم كألاتى على وجهين :
اولا: ان داود كان يقضى بين الناس وقد رأى ان يزيد من حرسه ارهابا للاعداء كما اشاره الى ذلك سبحانه (( وشددنا ملكه )) فكان ذلك سببا فى تعطيل القضاء بين الناس الذين لهم قلوب ضعيفه ترهب القوه فلم يتمكنوا من عرض قضاياهم فأراد الله سبحانه ان يلفت نظره لما عساه أن يقع بسبب اهمال القضاء والترفع عن مستوى الناس الضعاف فكان موجودا فى المسجد والحرس يحدق به فجاء ملكان فى صوره خصمين وتسورا المحراب الى اخر القصه ولهذا لما سمع القصه من احدهما دهش وتسرع فى الحكم قبل ان يسمع اجابه الخصم الاخر فلما انصرف الملكان ظن داود ان هذه فتنه فأستغفر ربه فالاستغفار كان فى تسرعه فى الحكم ومن الغفله عن أمر القضاء وهو ليس بكبيره , انما هو غير لائق بمقام النبوه فى الجمله فهو ذنب بالنسبه لذلك المقام العظيم . وما يرد على ذلك من نسبه الكذب الى الملائكه فهو غير سديدلآن الغرض منه تمثيل الحادثه بصوره مؤثره ولا ريب فى ات تمثيل ذلك الآمر بهذه الصوره له قيمته فى نفس سيدنا داود ونفس من يسمعها بعده من الناس . على ان هذا لا يسمى كذبا لآن القرينه قد قامت على المقصود منه .
ولو فرضنا جدالا ان كلام النصارى والكتاب المقدس فى القصه وقعت بين داود عليه السلام و قائده أوريا وقعت فيكون الدليل الاتى هو المنطقى
ثانيا :
ان الحادثة وقعت مع أوريا وامرأته حقيقة ولكن ليس بهذه الصوره الشنيعه , بل الواقع ان أوريا خطب هذه المراه مجرد خطبه ولم يعقد عليها ولا معها , والدليل هو أن الإنجيل يقول على العذراء مريم امرأة يوسف النجار مع أنها لم تتزوج ..
Mt:1:20:
20 ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور اذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف ان تأخذ مريم امرأتك . لان الذي حبل به فيها هو من الروح القدس. (SVD) انجيل متى 1/20(8/41)
ثم خطبها بعد ذلك ففضلت داود طبعا لانه ملك , وأوريا لما علم كف عن أمرها عن طيب خاطر , ولكن الله تعالى اعتبر هذا العمل لا يتناسب مع مقام داود وان كان فى نفسه ليس جريمة تخل بمقام النبوه فعاتبه على هذا العمل , وهذا هو الواقع الذى يقبله العقل ولكن أعداء الفضيلة حرفوه الى هذا الحد المخزى وقد ورد عن الخليفه على بن طالب رضى الله عنه انه قال اذا سمعت أحد يقول فى داود ما يقوله أهل الكتاب أقمت عليه حد القذف وهذا كلام حق يدل على فطنه ذلك الخليفه الراشد الجليل وتقديره لفضيله حق قدرها .
دفاع داود عن نفسه , يقضى على افتراء السفله الكاذبين
الايه ( { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} (78) سورة المائدة
فهل بقى للمنصرين والمفشرين من شئ بعد ان فضحنا كذبهم ؟
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
==============
كشف تحريف اللئيم لقصة هاجر و ابنها الحليم
كشف تحريف اللئيم لقصة هاجر و ابنها الحليم
(أولا) عهد الله تعالى مع إبراهيم:-
على وجه العموم سواء من ناحية إسماعيل أو من ناحية إسحاق (عليهما و على نبينا الصلاة و السلام) و قد دلت على ذلك نصوص القرأن و التوراة معا فقال تعالى"وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" ( العنكبوت 26) فأوضح الله جل و علا أن النبوة و الكتاب جعلا فى ذرية إبراهيم بصفة عامة و قال تعالى"فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51)وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) "(مريم 49-55) و هذه الأيات البينات فصلت النقاش حول نبوة إسماعيل عند المسلمين أما فى التوراة فنقرأ((6فَقَالَ أَبْرَامُ لِسَارَايَ: «هُوَذَا جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. إفْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ». فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ فَهَرَبَتْ مِنْ وَجْهِهَا. 7فَوَجَدَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ عَلَى الْعَيْنِ الَّتِي فِي طَرِيقِ شُورَ. 8وَقَالَ: «يَا هَاجَرُ جَارِيَةَ سَارَايَ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِين؟». فَقَالَتْ: «أَنَا هَارِبَةٌ مِنْ وَجْهِ مَوْلاَتِي سَارَايَ». 9فَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: «ارْجِعِي إِلَى مَوْلاَتِكِ وَإخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا». 10وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: «تَكْثِيراً أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ». 11وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: «هَا أَنْتِ حُبْلَى فَتَلِدِينَ إبْناً وَتَدْعِينَ إسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. 12وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَاناً وَحْشِيّاً يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ».(التكوين:8,16-12)
قال العلامة ابن القيم:- و من المعلوم أن يد بنى إسماعيل قبل محمد(ص) لم تكن فوق يد بنى إسحاق بل كان فى أيدى بنى إسحاق النبوة و الكتاب و الملك إلى أن بعث الله محمدا (ص) برسالته و أكرمه بنبوته فصارت بمبعثه يد بنى إسماعيل فوق الجميع و قهروا اليهود و النصارى و المجوس و الصابئة و عباد الأصنام فإن قال أهل الكتاب : نحن لا ننكر هذا و لكن هذه بشارة بملكه و ظهوره و قهره لا بنبوته و رسالته .(8/42)
قال المسلمون: الملك ملكان ملك ليس معه نبوة بل هو ملك جبار متسلط و ملك نفسه نبوة و البشارة لم تقع بالملك الأول و لا سيما إن إدعى صاحبه النبوة و الرسالة و هو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق و أفجرهم و أكفرهم فهذا لا تقع البشارة بملكه و مباركته و إنما يقع التحذير من فتنته كما وقع التحذير من فتنة الدجال بل هذا شر من سنحاريب و نبوختنصر و الملوك الظلمة الفجرة الذين يكذبون على الله فالأخبار لا تكون بشارة و لا يفرح بها إبراهيم و هاجر , و لا بشر أحد بذلك و لا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها و ذلها و أن الله قد سمع ذلك و يعظم هذا المولود و يجعله أمة عظيمة و هذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال : إنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهلا الناس بالباطل و يبدل دين الأنبياء و يكذب على الله و نحو ذلك! فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من أعظم الخلق بهتانا و فرية على الله و ليس هذا بمستنكر لأمة الغضب و عباد الصليب و قد خرج علينا الحاخام عوفاديا يوسف يقول ((إن الله نادم لأنه خلق العرب)) فحسبنا الله و هو نعم الوكيل.
(ثانيا) فى بيان أن الذبيح هو إسماعيل:
و من الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين غند قوله تعالى((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) (الصافات)
فقد روى بعض المفسرين منهم البغوى و إبن جرير روايات عن بعض الصحابة و التابعين و كعب الأحبار أن الذبيح هو إسحاق و لم يقف الأمر عند هذا الحد بل رفع البعض ذلك زورا إلى النبى (ص) و كل الأحاديث التى نسبت لرسول الله (ص)فى هذا الصدد ضعيفة بلا إستثناء سواء ما أخرجه إبن جرير أو الدارقطنى أو الطبرانى فى الأوسط كما فصل فى ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فى كتاب (الإسرائيليات و الموضوعات فى كتب التفسير) و الحق أن المرويات فى أن الذبيح إسحاق هى من إسرائيليات أهل الكتاب و قد نقلها من أسلم منهم ككعب الأحبارو حملها عنهم بعض الصحابة و التابعين تحسينا للظن بهم و أخذا برخصة التحديث عن أهل الكتاب و الحقيقة أن هذه المرويات هى من وضع أهل الكتاب لعداوتهم المتأصلة من قديم الزمان للنبى الأمى و قومه العرب فقد أرادوا الا يكون لإسماعيل الجد الأعلى للنبى و العرب فضل انه الذبيح حتى لا ينجر ذلك إلى النبى (ص) و العرب و لكى يكون الفضل لجدهم إسحاق و عنصرية اليهود أمر لا يحتاج إلى نقاش لذلك حرفوا التوراة و لكن أبى الله إلا أن يغفلوا عما يدل على هذه الجريمة النكراء و الجانى غالبا يترك من الأثار ما يدل على جريمته و الحق يبقى له شعاع و لو خافت فقد إستبدلو إسم إسماعيل بإسم إسحاق و هذا هو نص التوراة ((1وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ \لأُمُورِ أَنَّ \للهَ \مْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ: «يَا إِبْرَاهِيمُ». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». 2فَقَالَ: «خُذِ \بْنَكَ وَحِيدَكَ \لَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَ\ذْهَبْ إِلَى أَرْضِ \لْمُرِيَّا وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ \لْجِبَالِ \لَّذِي أَقُولُ لَكَ».(التكوين:22و1-2)
و ليس أدل على كذب هذا من كلمة(( وحيدك)) و إسحاق عليه السلام لم يكن وحيده قط! لأنه ولد له و لإسماعيل نحو اربع عشرة إلى خمس عشرة سنة كما نصت على ذلك توراتهم فقد جاء ((و كان أبرام إبن ست و ثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لإبرام)) (التكوين:6,16)(8/43)
و جاء أيضا(( و كان إبراهيم إبن مائة سنة حين ولد له إسحاق)) (التكوين: 5,21) و قد رأينا وفقا للتوراة أن الله قد أعطى العهد لإبراهيم مع ذريته منذ مولد أسحاق فقد جاء(( 9وَرَأَتْ سَارَةُ \بْنَ هَاجَرَ \لْمِصْرِيَّةِ \لَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ 10فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هَذِهِ \لْجَارِيَةَ وَ\بْنَهَا لأَنَّ \بْنَ هَذِهِ \لْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ \بْنِي إِسْحَاقَ». 11فَقَبُحَ \لْكَلاَمُ جِدّاً فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ \بْنِهِ. 12فَقَالَ \للهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ \لْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ \سْمَعْ لِقَوْلِهَا لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. 13وَابْنُ \لْجَارِيَةِ أَيْضاً سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ».(التكوين: 21 و9-13)
فكيف يخلف الله وعده بعد أن أعطاه إياه و يأمره بذبح ولده الذى كان قد وعده بمباركته؟ و كيف يكون إسحاق وحيد إبراهيم؟ أم أنكم تسلبون إسماعيل حق البنوة بعد أن سلبتموه حق النبوة؟!! و الحق أن قصة الذبيح كانت قبل مولد إسحاق حين كان إسماعيل هو الإبن الوحيد لإبراهيم .
و قد ذكر العلامة إبن تيمية و تلميذه إبن كثير و كذلك أبن القيم أن بعض النسخ جاء فيها (بكرك) بدلا من (وحيدك) و هو أظهر فى البطلان و أدل فى التحريف .
_ و كون الذبيح هو إسماعيل دلت عليه ظواهر الأيات حيث قال الله تعالى بعد ذكر قصة الذبيح ((وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ)) فأوضح أن الذبيح هو إسماعيل إذ أتبع قصته بالبشارة بميلاد إسحاق و الأثار متواترة عن الصحابة و التابعين بأن الذبيح إسماعيل و منها ما له حكم الرفع للنبى(ص) و هو ما عليه جمهور الصحابة و التابعين و العلماء و منهم :- على و ابن عمرو أبو هريرة و مجاهد و أبو الطفيل و سعيد بن الجبير و الشعبى و الحسن البصرى و محمد بن كعب القرظى و سعيد بن المسيب و أبو جغفر محمد الباقر و أبو صالح و أبو عمرو بن العلاء و الربيع بن أنس و أحمد بن حنبل و غيرهم كثير و هى إحدى روايتين و أقواهما عن ابن عباس و أيضا قصة الذبيح كانت بمكة و ايس أى مكان أخر و لذلك جعلت القرابين يوم النحر بها كما جعل السعى بين الصفا و المروة و رمى الحجارة تذكيرا بشأن إسماعيل و أمه فالمسلمون لا يذبحون لأنه لا بد من كفارة دموية يتم تقديمها كما يزعم النصارى إنما تخليدا لذكرى نبى ضرب المثل فى العبودية لله وإمتثالا لأمر الله و لإطعام البائس و الفقير إذ يقول تعالى (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)) ((الحج))
و كذلك قد دلت بعض أحاديث و الأثار عن الصحابة و التابعين على أن الذبيح إسماعيل منها ما رواه الحاكم و ابن جرير و غيرهما عن عبد الله بن سعيد الصنابحى قال: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل و إسحاق أيهما الذبيح؟ فقال البعض إسماعيل و قال البعض إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله(ص) فأتى أعرابى فقال : يل رسول الله خلفت الكلأ يابسا و المال عابسا ,هلك العيال و ضاع المال فعد على مما أفاء الله عليك يا إبن الذبيحين فتبسم رسول الله(ص) و لم ينكر عليه فقال القوم من الذبيحين يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر ماء زمزم نذر لله لإن سهل أمرها أن ينحر بعض ولده فلما فرغ أسهم بينهم و كانو عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو خزوم و قالو أرض ربك و افد ابنك ففداه بمائة ناقة ,قال معاوية: هذا واحد و الأخر إسماعيل .(8/44)
كما أن عقد مقارنة بسيطة بين الرواية القرأنية و الرواية التوراتية تكشف سمو و رقى النص القرأنى ففى الرواية التوراتية نجد إبراهيم و قد قرر ذبح إبنه غدرا و خيانةّ دون إعلامه و هذا لا يتناسب أبدا مع أخلاق الأنبياء أو حتى مع المعانى الإيمانية التى يريد الله تعالى أن يعلمنا إياها و هى معانى الإستسلام لله و حسن الظن بالله و بذل النفس إبتغاء مرضاته فنقرأ فى التوراة ((4وَفِي \لْيَوْمِ \لثَّالِثِ رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ \لْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ 5فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِغُلاَمَيْهِ: «اجْلِسَا أَنْتُمَا هَهُنَا مَعَ \لْحِمَارِ وَأَمَّا أَنَا وَ\لْغُلاَمُ فَنَذْهَبُ إِلَى هُنَاكَ وَنَسْجُدُ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَيْكُمَا». 6فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ \لْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ \بْنِهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ \لنَّارَ وَ\لسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعاً. 7وَقَالَ إِسْحَاقُ لإِبْرَاهِيمَ أَبِيهِ: «يَا أَبِي». فَقَالَ: «هَئَنَذَا يَا \بْنِي». فَقَالَ: «هُوَذَا \لنَّارُ وَ\لْحَطَبُ وَلَكِنْ أَيْنَ \لْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟» 8فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «اللهُ يَرَى لَهُ \لْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا \بْنِي». فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعاً. 9فَلَمَّا أَتَيَا إِلَى \لْمَوْضِعِ \لَّذِي قَالَ لَهُ \للهُ بَنَى هُنَاكَ إِبْرَاهِيمُ \لْمَذْبَحَ وَرَتَّبَ \لْحَطَبَ وَرَبَطَ إِسْحَاقَ \بْنَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى \لْمَذْبَحِ فَوْقَ \لْحَطَبِ. 10ثُمَّ مَدَّ إِبْرَاهِيمُ يَدَهُ وَأَخَذَ \لسِّكِّينَ لِيَذْبَحَ \بْنَهُ))(التكوين 22و6-10)
بينما نجد فى نص القرأن المجيد ((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين)) فكان هذا الموقف الإيمانى من الأب العظيم الذى يعلم جيدا أنه أحسن تربية إبنه و يعلم مدى إخلاص ذلك الإبن البار فأراد أن يشركه معه فى الأجر فسأله و هو واثق من الجواب فأخرجا لنا هذه الملحمة الشريفة فى العبودية لله و الإستسلام لأمره سبحانه و خلد الله ذكراهما و أثنى عليهما بأيات تتلى إلى أبد الأبدين
(ثالثا) فى قصة هجرة هاجر بنبى الله إسماعيل عليهما السلام :
تختلف القصة عند المسلمين عنها عند أهل الكتاب فى نقطتين أساسيتين هما سبب الهجرة و زمن الهجرة و ربما مكان الهجرة الذى سعى الكفار لتغييره ففى التوراة كما رأينا سبب الهجرة كان العنصرية التى نسبتها التوراة المحرفة لسارة بل و أقرها الله تعالى عما يقولون فإبن الجارية لا يجوز له أن يرث مع ابن سارة(على حد زعمهم) أما فى القرأن الكريم فسبب هجرة إبراهيم معروف و هو إعمار البيت العتيق و إقامة الصلاة فيه,يقول تعالى((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))(إبراهيم36)
فوضحت الأيات أن إسكان إبراهيم لأهله فى واد غير ذى زرع إنما هو لإقامة الصلاة و تمهيد البيت لتهوى إليه أفئدة الناس من شتى بقاع الأرض و أثر هذه الدعوة المباركة معلوم فملايين الناس بمختلف ألوانهم و ألسنتهم يحجون و يعمرون كل عام إلى هذه البقاع المباركة ياتون من كل فج عميق و لو كان سبب الهجرة هو مجرد إرضاء سارة لكان سبب حقير فمن هذا الذى يترك زوجته و إبنه فى منطقة نلئية فقط لإرضاء زوجته الأخرى؟!! و أين العدل بين الزوجات عندئذ؟؟(8/45)
أما عن وقت الهجرة فهنا يتكشف التحريف بوضوح فوفقا للتوراة كانت هجرة هاجر و إسماعيل لاحقة على إنجاب سارة لإسحاق بل و بسببها وإسماعيل كان عمره وقتها قرابة خمس عشرة سنة كما أوضحنا سابقا أى أنه كان شابا يافعا عند الهجرة لا طفلا رضيعا و هذا خطأ مفضوح بلا شك لأن سياق النصوص لا يتمشى إلا مع طفل صغير إذ نقرأ((14فَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ صَبَاحاً وَأَخَذَ خُبْزاً وَقِرْبَةَ مَاءٍ وَأَعْطَاهُمَا لِهَاجَرَ وَ\ضِعاً إِيَّاهُمَا عَلَى كَتِفِهَا وَ\لْوَلَدَ وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّةِ بِئْرِ سَبْعٍ. 15وَلَمَّا فَرَغَ \لْمَاءُ مِنَ \لْقِرْبَةِ طَرَحَتِ \لْوَلَدَ تَحْتَ إِحْدَى \لأَشْجَارِ 16وَمَضَتْ وَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ بَعِيداً نَحْوَ رَمْيَةِ قَوْسٍ لأَنَّهَا قَالَتْ: «لاَ أَنْظُرُ مَوْتَ \لْوَلَدِ». فَجَلَسَتْ مُقَابِلَهُ وَرَفَعَتْ صَوْتَهَا وَبَكَتْ. 17فَسَمِعَ \للهُ صَوْتَ \لْغُلاَمِ. وَنَادَى مَلاَكُ \للهِ هَاجَرَ مِنَ \لسَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: «مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي لأَنَّ \للهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ \لْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ. 18قُومِي \حْمِلِي \لْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً». 19وَفَتَحَ \للهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ فَذَهَبَتْ وَمَلَأَتِ \لْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ \لْغُلاَمَ. 20وَكَانَ \للهُ مَعَ \لْغُلاَمِ فَكَبِرَ وَسَكَنَ فِي \لْبَرِّيَّةِ وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. 21وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ. وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ))(التكوين 21و14-20)
فهل كان ذلك الشاب صاحب الخمس عشرة ربيعا الذى ترعرع فى بيئة شرق أوسطية طفلا تحمله امه الضعيفة على كتفها؟ ثم تطرحه تحت إحدى الأشجار؟ ثم تفكر كيف تنقذه من الهلكة و هو أخذ فى البكاء؟! فالحمد لله الذى فضح تحريفهم
و أخيرا نسأل : لماذا يترك إبراهيم أهله فى هذه المنطقة بالذات إذا كان كل المطلوب إبعاد إسماعيل فلماذا لا يذهب به إلى مصر موطن أمه أو أى منطقة أخرى معمورة لا يخشى فيها على أهله من الهلكة؟؟ و لماذا يأتى الملاك و يفجر البئر تحت قدم الغلام و يعطى له هذه الأية العظيمة و الوعد بالمباركة؟ الإجابة بوضوح أن هذه المنطقة مطلوبة لذاتها كما فصلنا و إسماعيل منذ أن ولد و هو فى جبال فاران ( اما الحديث عن بئر سبع والقول بأن جبال فاران هى جبال الشام فهو من تحريفاتهم و ترهاتهم المتعمدة ) و المعلوم بالأثر و التواتر أن جبال فاران هى جبال مكة و أن إسماعيل و ذريته سكنوا الجزيرة العربية و العرب أصحاب الجزيرة العربية هم أبناء إسماعيل و لا يزال ماء زمزم و قواعد البيت و مقام إبراهيم عليه السلام آيات محفوظة من الله إلى يومنا هذا و العرب كلهم اجتمعوا على الحج لبيت الله الحرام و اختلفوا بينهم فيما أحدثوه من بدع و أوثان حتى بعث الله محمدا (ص) بالنور و الهدى و لله الحمد و المنة.
و أخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
==================
هامان وزير فرعون
الشبهة: ...
جاء فى القرآن أن هامان كان وزيراً لفرعون . وهذا خطأ تاريخى ؛ لأن هامان كان وزيراً لأحشويرش ملك الفرس فى مدينة بابل . وبين فرعون وأحشويرش زهاء ألف سنة. ... الرد على الشبهة :
من أعلم المؤلف بأن هامان كان وزيراً لفرعون ؟ وهذا السؤال على معنى أن هامان اسم شخص . ولا أحد أعلمه بأن هامان اسم شخص إلا الرواة الذين لا يوثق بمروياتهم . وإذا أصرّ على أن هامان اسم شخص . فليسلّم بأن فرعون اسم شخص . ومعلوم أنه لقب " الملك " كان لرئيس المصريين فى زمن يوسف ـ عليه السلام ـ وأن لقب " فرعون " كان لرئيس المصريين فى زمن موسى ـ عليه السلام ـ مما يدل على تغير نظام الحكم .
وإذا صح أن " هامان " لقب لكل نائب عن الملك ، لا اسم شخص . فإنه يصح أن يُطلق على النائب عن فرعون أو عن أى ملك من الملوك . وعلى ذلك يكون معنى : ( إن فرعون وهامان وجنودهما ) (1) هو إن رئيس مصر الملقب بفرعون ، ونائبه الملقب بهامان ( وجنودهما كانوا خاطئين ) ومثل ذلك : مثل لقب الملك الذى يُطلق على رؤساء البلاد ؛ فإنه يطلق على رؤساء فارس واليونان ومصر واليمن وسائر البلاد ، ولا يتوجه على إطلاقه خطأ من أخطاء التاريخ .(8/46)
وفى الإنجيل أن اليهود كانوا يطلقون لقب " المضلّ " على من يخالفهم فى الرأى . وإذا أطلقه العبرانيون على رجل منهم يقولون له : يا سامرى ، بدل قولهم يا مضل . وذلك لأنهم يعتبرون السامريين كفاراً . وإذا أطلقه السامريون على رجل منهم يقولون له : يا عبرانى ، بدل قولهم يا مضل . وذلك لأنهم يعتبرون العبرانيين كفاراً . وإذا سمع العبرانى عنهم كلمة " سامرى " لا يفهم منها أنها اسم شخص ، وإنما يفهم منها أنها لقب للذم . وعن هذا المعنى جاء فى إنجيل يوحنا أن علماء اليهود قالوا لعيسى ـ عليه السلام ـ : " إنك سامرى ، وبك شيطان " ورد عليهم بقوله : " أنا ليس بى شيطان ، لكنى أكرم أبى وأنتم تهينوننى . أنا لست أطلب مجدى . يُوجد من يطلب ويدين " [يو 8 : 48ـ50].
1) القصص : 8.
====================
قارون وهامان مصريان
الشبهة: ...
إن قارون يهودى ، وفرعون مصرى ، وهامان فارسى فكيف قاوم هامان نبى الله موسى وهو لم يكن فى زمانه ؟ ...
الرد على الشبهة :
إن هامان ليس اسم شخص ، وإنما هو لقب يدل على نائب الرئيس .وبهذا المعنى يكون هامان ـ أى النائب عن فرعون ـ قد قاوم نبى الله موسى - عليه السلام - . ...
==================
العجل الذهبى من صنع السامرى ...
الشبهة: ...
إن مدينة السامرة فى فلسطين لم يكن لها وجود لما خرج بنو إسرائيل من مصر ، مع موسى ، وسكنوا أرض سيناء . وفيها عمل لهم هارون العجل الذهبى كطلبهم . فكيف نتخيل سامرياً يضع لهم العجل قبل أن يكون للسامريين وجود ؟ ...
الرد على الشبهة :
1 ـ إنه ليس فى فلسطين مدينة تسمى بمدينة السامرة . وإنما كان للسامريين مملكة فى فلسطين ، عاصمتها " نابلس " المسماة قديماً " شكيم " وكانت هذه المملكة مكونة من عشرة أسباط . وكان للسبطين مملكة فى فلسطين عاصمتها " القدس " المسماة قديماً " أورشليم ".
2 ـ ولما صعد موسى عليه السلام إلى جبل الطور وتلقى التوراة ، نزل فوجد اليهود يعبدون عجلاً جسداً له خوار . فسأل عن ذلك فدلوه على من أغراهم بعبادتهم . فأمسك به وسأله ( ما خطبك يا سامرى ) أى ما هذا الذى فعلته أيها المضل ؟ لأن كلمة ( سامرى ) تطلق على المضل . ولا تطلق على شخص كاسم من الأسماء.
وبهذا المعنى لا يكون الذى أضلهم رجل مسمى بالسامرى ، حتى يتوجه الإشكال . وإلا يلزم أن يكون السامرى من أسماء المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ فإن اليهود قالوا له : " إنك سامرى ، وبك شيطان " [يو 8 : 48]. ...
==============
أبو إبراهيم آزر ...
الشبهة: ...
إن فى التوراة أن أبا إبراهيم اسمه تارح . وقد أخطأ القرآن فى قوله إن أباه اسمه آزر . ... الرد على الشبهة :
إن الأنساب مختلفة بين التوراة السامرية والعبرانية واليونانية . وإن عدد السنين لكل أب من آدم إلى إبراهيم مختلف فيه بين نسخ التوراة الثلاثة ، ولوقا كاتب الإنجيل أزاد على الأسماء قينان . نقلا عن اليونانية . ومعنى هذا أنه كان يجب على المؤلف تصحيح كتبه قبل أن يوجه نقده . ولذلك جاء فى القرآن الكريم : ( إن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذى هم فيه يختلفون ) (1).1) النمل : 76.
=================
مريم العذراء بنت عمران ...
الشبهة: ...
إن القرآن نسب مريم العذراء إلى عمران أبى موسى النبى . وقال : إنها أخت هارون النبى ـ عليه السلام ـ وهذا يخالف ما جاء فى إنجيل لوقا أنها بنت هالى [لوقا 3 : 23] ويخالف التاريخ لأن بين مريم وهارون ألف وستمائة سنة. ...
الرد على الشبهة :
فإن المعترض نقل عن الإنجيل أن مريم بنت هالى . ونقله خطأ . والنص هو : " ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة . وهو على ما كان يُظن ابن يوسف بن هالى بن متثات بن لاوى بن ملكى بن ينّا بن يوسف " إلى أن أوصل نسبه إلى " ناثان بن داود " عليه السلام .وهذا النص لا يدل على أنه نسب مريم كما قال المؤلف ، وإنما يدل على أنه نسب المسيح . فكيف يكذب القرآن بنسب ليس لها ؟ وكيف ينسبون المسيح إلى يوسف بن هالى . وفى الإنجيل أنه لا أب له ولا سبط له ؟ ذلك قوله عن يوسف : " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " [متى 1 : 24] ، وكيف يكذبون القرآن بنسب على سبيل الظن ؟ ذلك قوله : " وهو على ما كان يُظن " وفى إنجيل متى أن المسيح ابن يوسف بن يعقوب بن متّان بن اليعازر بن آليود . إلى أن أوصل نسبه إلى سليمان ـ عليه السلام ـ [ متى 1 ].
والحق : أن مريم ابنة عمران الأب المباشر لموسى ـ عليه السلام ـ وهو أب مباشر لموسى ، وهو أب لمريم لأنه رئيس العائلة التى تناسلت هى منها . وهارون ابن عمران . وهى من نسل هارون ـ عليه السلام ـ فيكون هو أخوها على معنى أنها من نسله . أما أبوها المباشر فاسمه " يهويا قيم " وأمها اسمها " حنة " كما جاء فى إنجيل يعقوب الذى لا يعترف به النصارى .
والنسب هكذا :(8/47)
إبراهيم ـ إسحاق ـ يعقوب ـ لاوى وهو الابن الثالث ليعقوب . وأنجب لاوى ثلاثة هم جرشون وقهات ومرارى . وبنوقهات عمرام ويصهار وحبرون وعزئييل . وبنو عمرام هارون وموسى ومريم.
وقد وصى موسى عن أمر الله تعالى أن تتميز الأسباط التى تريد الإرث فى بنى إسرائيل . وذلك بأن تتزوج كل بنت فى سبطها . ففى سفر العدد : " وكل بنت ورثت نصيباً من أسباط بنى إسرائيل ؛ تكون امرأة لواحد من عشيرة سبط أبيها ؛ لكى يرث بنو إسرائيل كلُّ واحد نصيب آبائه " [عدد36 : 8]. ووصى بأن يتفرغ سبط لاوى للعلم والدين ، ولا يكون له نصيب فى الأرض ، وإنما يسكن بين الأسباط فى مدنهم ، ووصى بأن تكون الإمامة فى نسل هارون وحده . وعلى هذه الشريعة نجد فى بدء إنجيل لوقا : أن " أليصابات " زوجة زكريا ـ عليه السلام ـ كانت من نسل هارون من سبط لاوى ، وكان زكريا من نسل هارون من سبط لاوى . وتزوجت أليصابات زكريا. وأن مريم العذراء كانت قريبة لأليصابات . وإذا ثبت أنها قريبة لها ؛ يثبت أن مريم هارونية من سبط لاوى . يقول لوقا : " كان فى أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبِيّا ، وامرأته من بنات هارون ، واسمها أليصابات . . إلخ " ويقول لوقا : " وهو ذا أليصابات نسيبتك . . إلخ " ؛ قال لها الملاك ذلك وهو يبشرها بالحمل بعيسى ـ عليه السلام ـ فإذا صح أنها قريبة لها ونسيبة لها. فكيف يخطئ المؤلف القرآن فى نسبتها إلى هارون ـ عليه السلام ـ ؟
وفرقة أبِيّا هى فرقة من بنى هارون ، وهى الفرقة الثامنة من الفرق التى عدها داود ـ عليه السلام ـ للعمل فى المناظرة على بيت الرب . وخبرهم فى الإصحاح الرابع والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول . ...
================
نوح يدعو للضلال ...
الشبهة: ...
إن نوحاً ـ عليه السلام ـ قال لله تعالى : (ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً ) (1) ؛ فكيف يدعو نوح ربه أن يزيد الناس ضلالاً ؟ ...
الرد على الشبهة :
إن نوحاً لم يدع ربه أن يزيد الناس ضلالاً ، وإنما دعا على الظالمين من الناس . ومثل ذلك : ما فى التوراة عن الأنبياء فإنهم دعوا على الظالمين ، ولم يدعوا على كل الناس . ففى المزمور الثامن عشر : " من الرجل الظالم تنقذنى " ـ " مثل طين الأسواق ؛ اطرحهم " ، وفى الإنجيل يقول المسيح لله عن الذين آمنوا به : " احفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى " [ يو 17 : 11 ] ولم يدع للكل.
(1) نوح : 24.
============
فرعون ينجو من الغرق ...
الشبهة: ...
إن فى القرآن تناقض فى نهاية فرعون . ففى سورة يونس : ( فاليوم ننجيك ببدنك ) (1) وهذا يدل على نجاته من الغرق ، وفى سورة القصص : ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم ) (2) وهذا يدل على غرقه. ...
الرد على الشبهة :
إن المعترض لم يفسر ( فاليوم ننجيك ببدنك ) على المعنى الظاهرى . وهو إبعاد الجثة عن الهبوط فى اليم ، وتركها على الشاطئ حتى يضعها المحنطون فى المقبرة فيراها كل المصريين فيعتبروا ويتعظوا . وفسر على المعنى المجازى كناية عن إفلاته من الغرق . ووجّه الشبهة على المعنى المجازى وليس على المعنى الحقيقى .
والمعنى المجازى الذى به وجّه الشبهة ؛ موجود فى التوراة عن فرعون . ففيها أنه لم يغرق ، وموجود فيها ما يدل على غرقه . وهذا هو التناقض الذى نسبه إلى القرآن . وسوف نبين ما فى التوراة من التناقض عن غرق فرعون . ونسأله هو أن يوفق بين المعنيين المتناقضين . وما يجيب به فى التوفيق ؛ يكون إجابة لنا .
ففى الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج : " فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذى دخل وراءهم فى البحر . لم يبق منهم ولا واحد " وفى الإصحاح الخامس عشر من نفس السفر : " تغطيهم اللجج . قد هبطوا فى الأعماق كحجر " وفى تفسير التوراة ما نصه : " ولا سبيل لنا هنا إلى الحكم بغرق فرعون ، إذ لا دلالة عليه فى هذا النبأ ، ولا من قول المرنِّم [ مز 78 : 53 و 106 : 11] وساق المفسرون أربع حجج على عدم غرقه . ومعنى قولهم : إن قول المرنِّم لا يدل على غرقه هو : أن داود ـ عليه السلام ـ فى المزمور 78 والمزمور 106 قال كلاماً عن فرعون لا يدل صراحة على غرقه .
ونص 78 : 3 هو " أما أعداؤهم فغمرهم البحر " ونص 106 : 11 هو " وغطّت المياه مضايقيهم . واحد منهم لم يبق ".
هذا عن عدم غرق فرعون .وأما عن غرقه ففى المزمور 136 : 15 " ودفع فرعون وقوته فى بحر يوسف ؛ لأنه إلى الأبد رحمته " وفى ترجمة أخرى : " أغرق فرعون وجيشه فى البحر الأحمر إلى الأبد رحمته (3) " ومفسرو الزبور ـ وهم أنفسهم الذين صرحوا بعدم غرق فرعون ـ كتبوا عن فرعون : " فإن هذا الأخير قد حاول جهد المستطاع أن يرجع الإسرائيليين إلى عبوديتهم ؛ فما تم له ما أراد ، بل اندحر شر اندحار " ا . هـ .
ومن هذا الذى قدمته يكون من الواجب على المعترض حل التناقض الموجود عنده فى أمر فرعون ، قبل أن يوجه كلامه إلى القرآن .
1) يونس : 92.
(2) القصص : 40.(8/48)
(3) جمعية الكتاب المقدس فى لبنان سنة 1993م.
============== ...
انتباذ مريم ...
الشبهة: ...
إن فى القرآن : أن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقيًّا ، واتخذت لها حجاباً من قبل أن تحبل بالمسيح . فلماذا انتبذت ؟ هل كانت فى مشاجرة مع أهلها وهم المشهورون بالتقوى ؟ ولماذا تسكن فتاة عذراء بعيدة عن أهلها ؟
فى القرآن تناقض فى هذا المعنى . وهو أنه صرح بأنها كانت فى المحراب فى كفالة زكريا ، وصرح بأنها انتبذت . أى خرجت منهم بعد مشاجرة .
وقال المؤلف : إن القرآن قد خالف الإنجيل فى مكان سكناها من قبل الحبل بعيسى ـ عليه السلام ـ ففى القرآن : أنها كانت تسكن فى محراب أورشليم ، أو فى أى مكان مجهول . وفى الإنجيل أنها كانت تسكن فى " الناصرة " [لو 1 : 26ـ23]. ...
الرد على الشبهة :
1 ـ جاء فى إنجيل يعقوب : أن مريم وهى فى سن الثالثة : ذهبت بها أمها بصحبة أبيها إلى " أورشليم " وسلماها إلى كهنة هيكل سليمان ، وكانت علامات السرور تبدو عليها . ثم تركاها ورجعا إلى أورشليم ، وعاشت مع الراهبات المنذورات إلى أن حبلت .
2 ـ وإن أنت نظرت فى خريطة فلسطين . تجد حبرون أسفل أورشليم وقريبة منها ، وتجد الناصرة على نفس الخط وبعيدة عن أورشليم .
فتكون أورشليم غرب الناصرة ، وشرق حبرون .
3 ـ وفى الإنجيل : " وفى ذلك الوقت ولد موسى وكان جميلاً جدًا . فربى هذا ثلاثة أشهر فى بيت أبيه . ولما نُبذ ؛ اتخذته ابنة فرعون ، وربته لنفسها ابناً " [أعمال 7 : 21]
قوله " ولما نبذ " لا يدل على أن أهله كرهوه وإنما يدل على أنهم وضعوه فى التابوت وهم لوضعه كارهون . ومن ينتبذ عن قوم ؛ لا يدل انتباذه عنهم على كرهه لهم ، وإنما يدل على ابتعاده عنهم لسبب أو لأسباب . وإذا صح وثبت أن ابتعادها عنهم كان لعبادة الله ؛ يثبت أنها لم تنتبذ لمشاجرة.
4 ـ وقد تبين أن " الناصرة " من نصيب سبط زبولون ـ وهو من أسباط السامريين ـ وهى من سبط يهوذا ـ على حد زعمه ـ فكيف تكون من سكان الناصرة ؟ وإذا كانت من سكان الناصرة ، فلماذا أتت إلى أورشليم لتعدّ مع سكانه ا. وسكان أورشليم من سبطى يهوذا وبنيامين ؟ فالحق ما قاله القرآن أنها كانت هارونية . ومعلوم أن زكريا وامرأته ويوحنا المعمدان كانوا من التابعين لأهل أورشليم . ...
==============
مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها. ...
الشبهة: ...
مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها لقد ولدت مريم السيد المسيح فى بيت لحم كما تنبأ أنبياء التوراة بذلك قبل حدوثه بمئات السنين ، وليس بجوار جذع نخلة . ووضعت مريم وليدها فى مذود [لوقا 2 : 2ـ20] وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها : أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول . فإذا مرّ بها أحد تقول : (إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا ) (1) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة ؟ ...
الرد على الشبهة :
1 ـ ولادة المسيح فى بيت لحم ـ كما قال المعترض ـ تدل على أن مريم من سكان الخليل التى هى حبرون ، ولا تدل على أنها من سكان الناصرة . ففى خريطة فلسطين تجد بيت لحم تحت أورشليم ، وبعدها حبرون . وعلى هذا تكون مريم بعد حملها بالمسيح وإحساسها بدنو الوضع . قد اتجهت إلى حَبرون (فأجاءها المخاض )عند بيت لحم . ولو كانت من الناصرة وأحست بالحمل وبالوضع . لاتجهت إلى الناصرة . وعندئذ يكون الوضع فى مكان بين أورشليم وبين الناصرة . فقولهم بالمخاض فى بيت لحم يصدق القرآن فى أنها كانت من نسل هارون الساكنين فى حبرون .
2 ـ وقول المعترض : إن التوراة تنبأت بولادة المسيح فى بيت لحم . يقصد به ما جاء فى سفر ميخا وهو " أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكونى بين ألوف يهوذا ، فمنك يخرج لى الذى يكون متسلطاً على إسرائيل ، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل " [ميخا 5 : 2].
والنبوءة موضوعة وليست من النص الأصلى . بدليل : أن المسيح كان من الهارونيين من جهة أمه ، وبيت لحم من مدن سبط يهوذا . ولو كان له أب لأمكن للنصارى نسبته إلى سبط أبيه . ولكنه لا أب له ؛ فكيف ينتسب إلى سبط يهوذا أو غير سبط يهوذا ؟ وبدليل : أن المتسلط على إسرائيل وهو النبى الأمى الآتى على مثال موسى . يكون ملكاً وفاتح بلاد . ولم يكن المسيح ملكاً ولا فاتح بلاد . . وبدليل : أن سفر ميخا مرفوض من السامريين . وبدليل أن شراح سفر ميخا يصرحون بالتناقض فيه . والنبوءة من مواضع التناقض التى صرحوا بها . يقول الشراح : " هناك تعليمان متشابكان فى كتاب ميخا : الأول : الله يدين شعبه ويعاقبه [ف1 ـ 3 : 6 : 1 ـ 7 : 7] الله يعد شعبه بالخلاص [ف 4ـ 5 و 7 : 8ـ20] حين يُعيده إلى حاله السابقة ويجعله بقيادة رئيس من نسل داود [5 : 1ـ4].
3 ـ وقد جاء فى إنجيل متى الأبوكريفى معجزة النخلة.
4 ـ وكلام المسيح فى المهد جاء فى برنابا وفى إنجيل الطفولية العربى ، وجاء فى تاريخ يوسيفوس .(8/49)
5 ـ وقال المعترض : إن المسيح كلم أمه من تحتها : أن تهز جذع النخلة . . إلخ . وهو قد قال بذلك على قراءة " مَنْ تحتَها " والحق : أن الذى ناداها هو ملاك الله نفسه . . وسياق الكلام يدل على أنه الملاك .فإنه قد قال لها : ( كذلك قال ربك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً ) (2)، ولما حملته وانتبذت به وأجاءها المخاض وتمنّت الموت ؛ عاد إلى خطابه معها فقال : ( ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سريا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلى واشربى وقرى عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا ) (3).
وأما كلام المسيح فهو لم يقل إلا ( إنى عبد الله أتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا أينما كنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيًّا وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقيا والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) (4).
6 ـ المعترض قد غالط فى نقل المعنى بقوله : " وغريب أن يكلمها وليدها من تحتها : أن تهز جذع النخلة وتأكل من البلح وتشرب من الجدول ؛ فإذا مر بها أحد تقول : ( إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا ) (5) فأين الصوم وهى الآكلة الشاربة المتكلمة ؟ ".
ووجه المغالطة : أنه يقول فإذا مر بها أحد تقول . . إلخ . والمعنى الصحيح : أنها لا تقول لكل أحد يمر عليها إنها صائمة عن الطعام والشراب . وإنما تقول : لا أتكلم مع أحد فى أمر ابنى فى هذه الأيام . فجملة ( فإما ترين من البشر . . ) جملة مستأنفة لا صلة لها بالطعام وبالشراب . وقولها : ( إنى نذرت للرحمن صوما ) تعنى به المعنى المجازى وهو الإمساك عن الكلام بدليل : ( فلن أكلم ) ولم تقل فلن آكل .
(1) مريم : 26.
(2) مريم : 21.
(3) مريم : 24ـ26.
(4) مريم : 30ـ33.
(5) مريم : 26.
============== ...
لكل أمة رسول منها إليها. ...
الشبهة: ...
إنه جاء فى القرآن أن لكل أمة رسول منها . وهذا يناقض الكتاب المقدس فى أن الأنبياء والرسل هم من بنى إسرائيل وإليهم وإلى كل العالم . فإذا صدق ما فى القرآن فكيف لم يخرج للأمم فى إفريقيا وأوروبا وأمريكا واستراليا وآسيا : أنبياء منهم وإليهم ؟ ولو كان لهذه الأمم أنبياء ـ منها وإليها ـ لجاز أن يكون للعرب رسول منهم. ...
الرد على الشبهة :
إن كلمة الرسول تأتى على الحقيقة وتأتى على المجاز . فعيسى ـ عليه السلام ـ رسول على الحقيقة . وإذا هو أرسل واحداً من الحواريين إلى قرية من القرى فإنه يكون رسول رسول الله عيسى على المجاز . ففى إنجيل متى : " هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : " إلى طريق أمم لا تمضوا . . " [متى 10 : 5].
وابتداء الدعوة إلى الله كان فى زمن أنوش بن شعيث بن آدم ؛ لقوله : " حينئذ ابتُدئ أن يُدعى باسم الرب " [تك 4 : 26] وظل الحال على هذه الدعوة التى كانت دعوة إلى مكارم الأخلاق وعدم سفك الدماء ظلماً إلى زمان نوح ـ عليه السلام ـ ولم يكن من المطعومات شىء محرم فلما خرج نوح من السفينة أعطاه الله شريعة فيها أن كل الطعام حلال ، وأن يحب المرء لأخيه ما يحبه هو لنفسه ، وليس فيها شريعة تبين أن هذا حلال وهذا حرام . ففى الإصحاح التاسع من سفر التكوين : " كل دابة حية تكون لكم طعاماً . كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع . . " وظلت شريعة نوح سائدة على العالم إلى أن جاء موسى ـ عليه السلام ـ وأعطاه الله التوراة ( موعظة وتفصيلاً لكل شىء ) وأمره أن يخصص سِبط لاوِى من بين الأسباط ليعرفها ويعرّفها للناس .
وهذا الذى ذكرته هو ما يقول به أهل الكتاب جميعاً ، ونص عليه أهل الكتاب فى كتبهم . وعنه فى القرآن الكريم : ( كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل ) (1) وهو حلال من أيام نوح ـ عليه السلام ـ وعلى ذلك نسأل المعترض هذا السؤال وهو أن الناس من آدم أبى البشر إلى موسى الكليم كانت رسلهم من بنى إسرائيل أم من غير بنى إسرائيل ؟ إن قلت إن رسلهم كانت من بنى إسرائيل يكذبك الواقع والكتب التى تقدسها ، وإن قلت كانت من غير بنى إسرائيل فلماذا وجهت السؤال إلى المسلمين ؟
أما من موسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن علماء بنى إسرائيل من اللاويين والهارونيين كانوا يبلغون التوراة لليهود وللأمم ، وإذا انطلق واحد منهم إلى الأمم ؛ فإنه يكون رسولاً إلى الأمم . ليس على الحقيقة ، وإنما على المجاز بمعنى أنه رسول رسول الله موسى ـ عليه السلام ـ وظلوا على هذا الحال إلى زمان سبى بابل سنة 586 ق . م فإنهم وهم فى بابل حرفوا التوراة ، وقصروا شريعة موسى على اليهود من دون الناس ، وابتعدوا عن دعوة الأمم ، وتعصبوا لجنسهم وتآمروا على الأمم ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ) (2).(8/50)
ومن قبل سبى بابل كان علماؤهم يدعون العرب إلى الله على وفق شريعة موسى . فيكون العالم الداعى رسولاً مجازا ً. وهكذا فى سائر بلاد العالم . أما من بعد السبى وتخلى العلماء عن الدعوة فإن كل أمة سارت على ما عندها من العلم . وقد وبخهم المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ على إهمالهم فى دعوة الأمم بقوله : " لكن ويل لكم أيها الكتبة والفَرِّيسِيُّون المراءون ؛ لأنكم تُغلقون ملكوت السموات قدام الناس ؛ فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون " [ متى 23 : 13].
ثم حث أتباعه بالانطلاق إلى بلاد اليهود أولاً بأمرين هما أن يعملوا بالتوراة ، وأن يستعدوا لتركها إذا ما ظهر محمد رسول الله الذى يبشر به . وإذا فرغوا من دعوة اليهود فى بلادهم ينطلقون إلى الأمم ، وسماهم رسلاً مجازا ً. فقال : " إلى طريق أمم لا تمضوا ، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة . وفيما أنتم ذاهبون ، اكْرِزوا قائلين : " إنه قد اقترب ملكوت السموات " [متى 10 : 5]. وملكوت السموات هو مجىء محمد صلى الله عليه وسلم بعد مملكة الروم كما أنبأ النبى دانيال فى الإصحاح السابع من سفره.
(1) آل عمران : 93.
(2) آل عمران : 75.
=============== ...
خَلْط الأسماء ...
الشبهة: ...
ذكروا آيتين من سورة الأنعام ، وأوردوا الشبهة على نص الآيتين حيث قالوا :
جاء فى سورة الأنعام (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين ) (1).
والترتيب التاريخى هو :
أيوب ـ إبراهيم وابن أخته لوط وابناه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب وابن حفيده يوسف ومن بعده موسى ـ هارون ـ داود ـ سليمان ـ إلياس ـ اليسع ـ يونس ـ زكريا ـ يحيى ـ عيسى. ... الرد على الشبهة :
1 ـ إن الضمير فى ( ومن ذريته ) يعود إلى نوح ، ولا يعود إلى إبراهيم وذلك لأن ( لوطا ) ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما خرج معه مهاجراً إلى الله ، بعدما آمن له . وفى التوراة " ولوطاً ابن أخيه " [تك 12 : 5].
2 ـ إن الترتيب التاريخى غير حاصل لأسباب منها : أنه يريد بيان فضلهم وصلاحهم ؛ ليقتدى الناس بهم .
وفى التوراة أنبياء لا يعرفون تواريخهم ولا يعرفون نسبهم ، ومنهم " أيوب " فإن منهم من يقول إنه من العرب ومنهم من يقول إنه من الأدوميين ومنهم من يجعله اسماً فرضيًّا . بل إن الأنبياء أصحاب الأسفار كإشعياء وإرمياء وملاخى وحَبقّوق وميخا ؛ لا يعرفون هم أنفسهم السابق منهم عن اللاحق .
وقد جمعوا أسفارهم فى وقت واحد . ففى الكتاب المقدس الصادر عن دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط سنة 1993م ما نصه : " كانت أول لائحة وضعت فى سبيل " قانونية " العهد القديم وأسفاره تضم أسفار الشريعة الخمسة فى أيام عِزْرا [نح 8 : 1] حوالى عام 400 ق . م ثم زاد المعلمون الأسفار النبوية من يشوع والقضاة حتى إشعياء وإرمياء وحوالى سنة90 ق . م التقى معلمو الشريعة اليهود من مختلف البلدان ، فى بلدة " يمنية " الواقعة فى " فلسطين " وثبتوا لائحة نهائية وكاملة للأسفار المقدسة . . إلخ (2).
(1) الأنعام : 84-86.
(2) ص 3 الكتاب المقدس طبعة لبنان سنة 1993م.
============ ...
أخنوخ وليس إدريس. ...
الشبهة: ...
إنه فى القرآن اسم إدريس . واسمه فى التوراة أخنوخ . وقال البيضاوى فى تفسيره : إن إدريس هو أخنوخ . ونحن نسأل من أين جاء فى القرآن اسم إدريس ؟ والصواب أنه أخنوخ . ... الرد على الشبهة :
إن اسمه فى التوراة السامرية " حنوك " والنص هو :
" وسلك حنوك فى طاعة الله وفُقد ؛ إذ تولته الملائكة " [تلك 5 : 24] والتوراة اليونانية تضيف حرف السين فى آخر الاسم ليعلم أنه اسم مثل يوسيفوس ـ إدريانوس . وإدريس ؛ فى آخره السين ، وكذلك يونس . وهو فى العبرى يونان .
وعيسى ـ عليه السلام ـ فى اليونانى " إيسوس " ، وفى العبرى " يهو شوّع " وينطق أحياناً " أيشوع " و " يسوع ".
وأخنوخ له سفر لا يعترف به النصارى . ومع ذلك نقل منه يهوذا فى رسالته : " انظروا جاء الرب مع ألوف قديسيه ؛ ليحاسب جميع البشر ، ويدين الأشرار جميعاً على كل شر فعلوه ، وكل كلمة سوء قالها عليه هؤلاء الخاطئون الفجار " [يهو 1 : 14ـ15].
وهذا النص يثبت أن كل امرئ بما كسب رهين ، خلافاً لاعتقاد النصارى فى موت المسيح على الصليب لِيُكَفِّر عن خطايا آدم .(8/51)
ومفسرو التوراة يستدلون من نقله على ثبوت الحياة من بعد الموت ورأى فيلبسون من قوله " الله أخذه " أن ذلك تلطف بالتعبير عن الوفاة قبل إكمال العمر ، وأن فى ذلك دليلاً على وجود حياة وراء هذه الحياة الأرضية . ونزيد على ذلك : أن نقل أخنوخ فى متوسط العصر الذى قبل الطوفان ، وأن حياته كانت على الأرض 365سنة وهو عدد الأيام فى السنة الشمسية وكانت سنة العبرانيين 354 يوماً وسنة الكلدانيين 360 يوماً " ا . هـ . ...
==============
نوح لم يتبعه الأراذل. ...
الشبهة: ...
إن فى القرآن أن نوحاً ـ عليه السلام ـ نجا معه جماعة من المؤمنين من غير أولاده . وهذا يخالف ما فى التوراة وما فى الإنجيل من أنه لم ينج معه من المؤمنين أحد غير أولاده . وأن القرآن بين أن الكافرين بنوح وصفوا المؤمنين به بأنهم أراذل. ...
الرد على الشبهة :
1- إن الذين خرجوا من السفينة حسب نص التوراة العبرانية :
(1- سام . 2- حام . 3- يافث . 4- نوح . 5- امرأته . 6- زوجة سام . 7- زوجة حام . 8- زوجة يافث ) فيكون العدد ثمانية.
2- والدليل على صحة ما فى القرآن : هو أن قابين لما قتل هابيل ؛ ولد حنوك ولد عيراد ، وعيراد ولد محويائيل ، ومحويائيل ولد متوشائيل ، ومتوشائيل ولد لامك ، ولامك ولد يابال . الذى كان أباً لساكنى الخيام ورعاء المواشى . واسم أخيه يوبال الذى كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار ، واسم أخيه توبال قابين . الضارب كل آلة من نحاس وحديد [تكوين 4].
قوله عن الثلاثة : الذى كان أباً لساكنى الخيام ورعاء المواشى ـ الذى كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار ـ الضارب كل آلة من نحاس وحديد ؛ يدل على أنه كان من الناجين غير أبناء نوح . ولذلك قال مفسرو التوراة : " وسلالة قابين سلالة الحياة المدنية ، وسلالة شعث سلالة الحياة القدسية ".
============== ...
تهاويل خيالية حول برج بابل ...
الشبهة: ...
إنه جاء فى سورة النحل ( قد مكر الذين من قبلهم.. ) (1) ثم قال : قال البيضاوى : قيل : المراد به نمرود بن كنعان فإنه بنى صرحاً ببابل. ...
الرد على الشبهة :
إنه وجه الشبهة على كلام مفسر . وهذا المفسر لم يجزم بأن تفسيره هو الصحيح بدليل قوله : " قيل " فكيف يورد شبهة على كلام مفسر ؟
(1) النحل : 26.
============== ...
اختراع طفل ينطق بالشهادة ...
الشبهة: ...
إنه فى سورة يوسف (وشهد شاهد من أهلها ) (1) وذكر تفسير الشيخ البيضاوى وهو أنه قيل إنه ابن عمٍّ لها صبيًّا فى المهد. ...
الرد على الشبهة :
إن المعنى المراد هو : وشهد شاهد من أهل الشهادة بقرينة الحال . ومع هذا فإنه لا يصح توجيه شبهة على قول مُفَسِّر، خاصة أنه قال : " قيل ".
(1) يوسف : 26.
قلت : قد مر في شبهات حول القرآن أنه طفل نطق بالمهد وهو الصحيح
===============
الكعبة بيت زحل. ...
الشبهة: ...
فى سورة البقرة : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) إلى قوله : ( إنك أنت السميع العليم ) (1).
ثم قال : كيف تكون الكعبة بيت الله ، وقد بنيت أول الأمر لعبادة كوكب زحل ؟ واستدل على قوله هذا بأقوال مؤرخين.
وقال : إن فى الكتاب المقدس : أن إبراهيم دُعى من " أُور " الكلدانيين إلى أرض كنعان ، وتَعَرَّب فيها. ...
الرد على الشبهة :
1 ـ إن أقوال المؤرخين ليست حُجة.
2 ـ إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يُدع من " أور " كما قال هذا المعترض . وإنما خرج من أرض آبائه وهو لا يعلم أين يذهب.
ففى الإصحاح الثانى عشر من سفر التكوين : " وقال الرب لأبرام : اذهب من أرضك ، ومن عشيرتك ، ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أُريك ؛ فأجعلك أمة عظيمة ، وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة " [تك 12 : 2] وكان خروجه عن " حاران " والدليل على أنه من " حاران " : " وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران " [تك 12 : 4] وفى سفر أعمال الرسل : " فخرج حينئذ من أرض الكلدانيين ، وسكن فى حاران " [أع 7 : 4] ففى التوراة أنه خرج من حاران ، وفى الإنجيل أنه خرج من أرض الكلدانيين.
فأى النصين هو الصحيح ؟ ...
=============
إسماعيل بين الأنبياء ...
الشبهة: ...
إن القرآن ذكر أن إسماعيل كان ( رسولاً نبيًّا ) وفى التوراة أنه إنسان وحشى . وهذا تناقض . ...
الرد على الشبهة :(8/52)
1- أما إنه كان رسولاً فهذا لا إشكال فيه . فإن الشريعة التى كان عليها هى شريعة نوح ـ عليه السلام ـ وكان يبلغها للناس كما يبلغها غيره . 2- أما إنه كان نبيًّا فهذا هو الإشكال عند المؤلف ، وهو ليس بإشكال . لأن النبى هو المنبئ بغيب ، ويقع الغيب من بعده كما أنبأ به . فلننظر فى إسماعيل ـ بحسب تفسير كلمة النبى عندهم ـ هل أنبأ بغيب أم لا ؟ إنه من إبراهيم الذى سار مع الله ، ودعا إليه ، ورغب فيه . ولسيره ، وعده الله بالبركة فى إسماعيل وإسحاق . والبركة ملك ونبوة وإذْ وُعد إسماعيل بنبى من نسله ، وأنبأ بتحقق هذا الوعد . ووقع كما قال . فإنه قد ظهر منه محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يكون نبيًّا.
ففى التوراة : " ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ؛ ظهر الرب لأبرام وقال له : " أنا الله القدير . سر أمامى ، وكن كاملاً ؛ فأجعل عهدى بينى وبينك وأكثرك كثيراً جداً " [تك 17 : 1ـ2] وعن البركة فى إسحاق : " وأباركها وأعطيك أيضاً منها أبناء أُباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون " [تك 17 : 16] ، وعن البركة فى إسماعيل : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً . . " [ تك 17 : 20] وقد قام ببركة إسحاق نبى الله موسى ، وقام ببركة إسماعيل نبى الله محمد. و إسماعيل قد أنبأ به من قبل ظهوره. ...
==============
أبناء يعقوب يطلبون أن يلعب يوسف معهم ...
الشبهة: ... إنه جاء فى سورة يوسف من القرآن الكريم أن إخوة يوسف احتالوا على أبيهم فى أخذ يوسف منه بقولهم : ( أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ) (1) وليس فى التوراة هذه الحيلة. ...
الرد على الشبهة :
إن ما جاء فى القرآن ، ولم يجئ فى التوراة ؛ لا يدل على إيراد شبهة على القرآن ، وذلك لأن نسخ التوراة الثلاثة العبرانية واليونانية والسامرية لا تتفق على القصة اتفاقاً تامًّا . ففى اليونانية صواع الملك . وليس فى العبرانية صواع الملك. ففى التوراة العبرانية ترجمة البروتستانت : " ولما كانوا قد خرجوا من المدينة ولم يبتعدوا ؛ قال يوسف للذى على بيته : قم اسع وراء الرجال ، ومتى أدركتهم فقل لهم : " لماذا جازيتم شرًّا عوضاً عن خير ؟ أليس هذا هو الذى يشرب سيدى فيه . وهو يتفاءل به ؟ أسأتم فيما صنعتم " [تك 24 : 4ـ5] وفى الكتاب المقدس ترجمة 1993م بلبنان الصادر عن دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط : " فما أن خرجوا من المدينة ، وابتعدوا قليلاً حتى قال يوسف لوكيل بيته : قم اتبع هؤلاء الرجال . فإذا لحقت بهم فقل لهم : لماذا كافأتم الخير بالشر ؟ لماذا سرقتم كأس الفضة التى يشرب بها سيدى . وبها يرى أحوال الغيب ؟ أسأتم فيما فعلتم " .
فكأس الفضة فى نسخة ، وهو غير موجود فى نسخ أخرى .
(1) يوسف : 12.
==========
أبناء يعقوب يطلبون أن يلعب يوسف معهم ...
الشبهة: ...
إنه جاء فى سورة يوسف من القرآن الكريم أن إخوة يوسف احتالوا على أبيهم فى أخذ يوسف منه بقولهم : ( أرسله معنا غدا يرتع ويلعب ) (1) وليس فى التوراة هذه الحيلة. ... الرد على الشبهة :
إن ما جاء فى القرآن ، ولم يجئ فى التوراة ؛ لا يدل على إيراد شبهة على القرآن ، وذلك لأن نسخ التوراة الثلاثة العبرانية واليونانية والسامرية لا تتفق على القصة اتفاقاً تامًّا . ففى اليونانية صواع الملك . وليس فى العبرانية صواع الملك. ففى التوراة العبرانية ترجمة البروتستانت : " ولما كانوا قد خرجوا من المدينة ولم يبتعدوا ؛ قال يوسف للذى على بيته : قم اسع وراء الرجال ، ومتى أدركتهم فقل لهم : " لماذا جازيتم شرًّا عوضاً عن خير ؟ أليس هذا هو الذى يشرب سيدى فيه . وهو يتفاءل به ؟ أسأتم فيما صنعتم " [تك 24 : 4ـ5] وفى الكتاب المقدس ترجمة 1993م بلبنان الصادر عن دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط : " فما أن خرجوا من المدينة ، وابتعدوا قليلاً حتى قال يوسف لوكيل بيته : قم اتبع هؤلاء الرجال . فإذا لحقت بهم فقل لهم : لماذا كافأتم الخير بالشر ؟ لماذا سرقتم كأس الفضة التى يشرب بها سيدى . وبها يرى أحوال الغيب ؟ أسأتم فيما فعلتم " .
فكأس الفضة فى نسخة ، وهو غير موجود فى نسخ أخرى .
(1) يوسف : 12.
================ ...
وليمة نسائية وهمية ...
الشبهة: ...
إنه جاء فى سورة يوسف أن امرأة العزيز هيأت وليمة لبعض السيدات وأنهن قطعن أيديهن . وهذا غير معقول . ...
الرد على الشبهة :(8/53)
كانت دعوة موسى ـ عليه السلام ـ فى الأصل عالمية لليهود وللأمم . وكان فيها الدعوة إلى حميد الصفات . وكان فيها عدم احتقار اليهودى للأممى ، وعدم التعدى على أمواله وحرماته . وكان فيها الحث على دعوة الأممى إلى معرفة الله وعبادته . وفى زمان سبى بابل حَرَّف اليهود التوراة ، وامتنعوا عن دعوة الأمم إلى معرفة الله ، وأباح اليهود لأنفسهم أخذ الربا من الأميين ، والزنا بنسائهم ، وسفك دمائهم وما شابه ذلك من الصفات الذميمة . وكتبوا ما يدل على ذلك فى التوراة ، وحذفوا من التوراة حال تحريفهم لها ما يمنعهم عن ظلم الأميين . ومن هذا الذى حذفوه : دعوة يوسف ـ عليه السلام ـ للمصريين الذين كانوا معه فى السجن إلى عبادة الله تعالى وترك الآلهة المتعددة ، وحذف قول النسوة ليوسف : ( ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ) (1) لأن هذا يتعارض مع تخليهم عن دعوة الأمم ، ويتعارض مع ما اتفقوا عليه من العبث بنسائهم . وألا يكن هذا صحيحاً . فما هذه الترهات المكتوبة فى التوراة عن الأنبياء وغيرهم ؟ ففى التوراة أن لوطاً ـ عليه السلام ـ زنا بابنتيه [تك 19] وأن سليمان ـ عليه السلام ـ أحب نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون [الملوك الأول 11].
وقال كاتب التوراة : إن سليمان ـ عليه السلام ـ هو ابن داود من زوجة أُورِيّا الحِثِّى . أى أنه تعدى على زوجة رجل من الأمم هو من قبيلة بنى حث وليس من اليهود . وإذا كان هذا هو المكتوب بغية التعدى على نساء الأمم ؛ فإن العقل لا يتصور أن يضع فى التوراة عفة يوسف عن نساء الأمم . ولا يتصور العقل أن يكتب عن يوسف أنه فسر حلم الملك من قبل أن يخرج من السجن . لأنه لو كتب ذلك لكان معناه أن يوسف يحسن إلى من أسيئ إليه . وهو يريد لليهود أن يسيئوا لمن يحسن ولمن لا يحسن .
وإن أصر مورد الشبهة على إيرادها . ففى نسخ التوراة زيادة ونقص ، وفى نسخ الإنجيل أيضاً . ومن أمثلة ذلك : المزمور المائة والحادى والخمسين ؛ فإنه فى النسخة القبطية فقط .
(1) يوسف : 31.
=============== ...
عدم سجن بنيامين. ...
الشبهة: ...
إن فى القرآن أن يعقوب قال لأبنائه بعد رحيل بنيامين إلى مصر : ( بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعاً ) (1).
وقال المؤلف : إن المفسر البيضاوى يقول : إنه يقصد بقوله ( بهم جميعاً) يوسف وبنيامين وأخيهما الذى توقف بمصر.
وإن القرآن جعل عدد مرات مجىء إخوة يوسف لمصر أربع مرات بدل ثلاث كما جاء فى التوراة ، وأن فى القرآن أن يوسف حبس بنيامين ، وأن إخوة يوسف رجعوا إلى أبيهم بدون شمعون وبنيامين. ...
الرد على الشبهة :
الخلاف بين التوراة وبين القرآن فى سرد حوادث القصة لا يدل على عيب فى القرآن ، ويدل على ذلك : ما فى التوراة من زيادة ونقص فى النسخة الواحدة ، وفى النسخ الثلاث . ومع هذا ففى التوراة ما يدل على ما جاء فى القرآن ومن ذلك :
1 ـ أن يوسف كان قد أنجب ولدين فى مصر هما أفرايم ومنسّى [تك 46 : 20] ويعقوب أبوه من الأنبياء الملهمين ، ويدل على ذلك أنه يقول : ( إنى لأجد ريح يوسف ) (2) ـ ( يا بنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله ) (3) فإذا قال ( بهم ) بضمير الجمع . وقد صرح من بعد بفقد اثنين هما : يوسف وأخيه فقط ؛ لا يدل ضمير الجمع على ولد ثالث محبوس فى مصر ، وإنما يدل على ولدى يوسف .
2 ـ أن فى التوراة ما يدل على سجن بنيامين وهو أنه لما دبر حيلته فى استبقائه وتمت الحيلة ، طلبوا منه أن يطلقه فرد عليهم بقوله : " حاشا لى أن أفعل هذا . الرجل الذى وُجد الكأس فى يده ؛ هو يكون لى عبداً ، وأما أنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم " [تك 44 : 17].
فقوله : " هو يكون لى عبداً " معناه : أنه استبقاه فى " مصر ".
3 ـ وفى التوراة ما يدل على بقاء كبيرهم فى مصر ، مع يوسف وبنيامين . وكبيرهم هو " راوبين " لا شمعون كما قال المعترض إنه أخذه رهينة ، ولا يهوذا كما قال كاتب التوراة
ومما يدل على بقاء كبيرهم : أنه استعطف يوسف بقوله : " فالآن ليمكث عبدك عوضاً عن الغلام عبداً لسيدى ، ويصعد الغلام مع إخوته ؛ لأنى كيف أصعد إلى أبى والغلام ليس معى ؟ لئلا أنظر الشر الذى يصيب أبى " [تك 44 : 33ـ34].
(1) يوسف : 83.
(2) يوسف : 94.
(3) يوسف : 87. ...
===============
قميص سحرى. ...
الشبهة:
إنه جاء فى القرآن أن قميص يوسف لما رآه يعقوب ؛ أتى بصيراً إلى مصر مع أهله ، وقد كان قد عمى من الحزن .
ونقل من كتب التفسير أنه كان قميص إبراهيم . . إلخ.
واستبعد شفاء يعقوب برؤية القميص . ...
الرد على الشبهة :(8/54)
إن التوراة مصرحة بعمى يعقوب ، وأنه سيبصر إذا وضع يوسف يده على عينيه . ذلك قوله : " أنا أنزل معك إلى مصر ، وأنا أصعدك أيضاً . ويضع يوسف يده على عينيك " [تك 46 : 4] هذه ترجمة البروتستانت. وفى ترجمة الكتاب المقدس بلبنان : " أنا أنزل معك إلى مصر ، وأنا أصعدك منها . ويوسف هو يغمض عينيك ساعة تموت " فيكون النص فى عدم العمى صراحة فى هذه الترجمة .
واتفقت التراجم على ضعف بصر يعقوب " وكانت عينا يعقوب كليلتين من الشيخوخة ، ولم يكن يقدر أن يبصر " [تك 48 : 10].
واستبعاد شفاء يعقوب برؤية القميص ؛ لا محل له . وذلك لأن فى التوراة من هذا كثير . فنبى الله اليسع ـ عليه السلام ـ لما مات ودفنوه فى قبره ؛ دفنوا معه بعد مدة ميتاً . فلما مست عظامه عظام اليسع ؛ ردت إليه روحه .
وهذا أشد فى المشابهة من قميص يعقوب ففى الإصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الثانى : " ومات اليشع فدفنوه . وكان غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة ، وفيما كانوا يدفنون رجلاً إذا بهم قد رأوا الغزاة ؛ فطرحوا الرجل فى قبر اليشع .فلما نزل الرجل ومسَّ عظام اليشع ؛ عاش وقام على رجليه " [2مل 13 : 20ـ21]. ...
===============
ابنة فرعون أو زوجته.
الشبهة: إن فى القرآن أن امرأة فرعون هى التى التقطت موسى ـ عليه السلام ـ ويقول : إن فى التوراة أن الملتقطة له هى ابنة فرعون وليست امرأته . وهذا تناقض .
الرد على الشبهة :
إن كلمات التوراة مشكوك فيها. والدليل على ذلك : أن اسم الرجل فى موضع ، يأتى فى موضع آخر باسم آخر . وكذلك المرأة . وهذا يتكرر كثيراً . فإسماعيل ـ عليه السلام ـ كانت له ابنة اسمها " محلث " وتزوجت " العيس " بن إسحاق ـ عليه السلام ـ [تك 28 : 9] وفى ترجمة لبنان " محلة " وفى نفس الترجمة " وبسمة " وفى ترجمة البروتستانت " بسمة " [تك 36 : 3].
وفى كتب تفسير التوراة تصريح بكلمات ملتبسة مثل " ثم يذبحه كل جماعة إسرائيل فى العشية " [خر 12 : 6] يقولون : " العشية " هذه اللفظة ملتبسة . . " والشيخ الكبير فى أرض مدين مختلف فى اسمه . ففى الخروج [2 : 18] " رعوئيل " وفى الخروج [4 : 18] " ثيرون " والابن الأول لموسى فى ترجمة " جرشوم " وعند يوسيفوس " جرشام " وفى ترجمة السبعين " جرسام " [خر 2 : 22].
==============
طرح الأولاد فى النهر صدر قبل ولادة موسى لا بعد إرساليته
الشبهة: إن فى سورة الأعراف : أن الملأ من قوم فرعون بعد ولادة موسى وظهور نبوته قالوا لفرعون : أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ؟ وقد رد عليهم بقوله : ( سَنُقَتِّل أبناءهم وتستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) (1).
وفى سورة القصص : أن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى وهذا تناقض
الرد على الشبهة :
إن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى ـ عليه السلام ـ وهو فيما بعد يهدد باستمرار القتل والزيادة فيه .
1) الأعراف : 127.
===============
هناك شبهات مثارة بشأن الأنبياء في القرآن الكريم. وعلينا أن نعلم أن عقيدة أهل السنة والحماعة هي أن الأنبياء معصومون من ارتكاب الكبائر ومن الإصرار على الصغائر. والآن إلى الشيهات المثارة في هذا الشأن:
1- ... عصى آدم ربه فغوى وأن من يعص الله فهو في نار جهنم. نقول أن المعصية تشمل الكبائر والصغائر وأن معصية آدم من الصغائر إذ صدر منه النسيان وضعف العزيمة بعد أن وقع في حبائل الشيطان بنص القرآن الكريم. وقد استغفر آدم وزوجه وتابا إلى الله فتاب الله عليهما كما أخبرنا الله في كتابه الكريم. ثم اجتباه الله وهداه.
2- ... الخطيئة ثابتة في القرآن الكريم الذي يقرر أن الله أخذ من بني آدم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة. وجاء في السنة النبوية أن آدم جحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته وخطيء فخطئت ذريته. وهذا توارث للخطيئة في العقيدة المسيحية. نقول أن الآية تعني والله أعلم أن الله غرس الفطرة في الإنسان منذ البدء وهي حب البحث عن الله ومعرفته. فالله هو الأصل والحقيقة:
12311 حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به قال فيقول نعم قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم ان لا تشرك بي شيئا فأبيت الا ان تشرك بي." (مسند أحمد. ج3. ص 127)(8/55)
أما أن آدم نسى وخطيء فصار ذلك في ذريته، فإنها الطبائع البشرية التي يشترك فيها كل البشر ولا تعني خطيئة محددة هي خطيئة آدم. فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. وفي الإسلام كل فرد مسلم مسئول عن أعماله قولًا وفعلًا بين يدي الله تعالى. وفرض الإسلام فرائض وسنَّ سننًا وكلها تكفِّر الذنوب والخطايا وترفع درجة العبد المسلم عند الله. وعلينا أن نعلم أن خروج آدم من الجنة هو لاستخلافه وذريته في الأرض. فقد كانت الجنة عبارة عن حديقة في الأرض دربه الله فيها على الطاعة وعلى النتائج الوخيمة للمعصية ليبدأ خلافته في الأرض عن خبرة وتجربة يعطيها لأولاده.
كما يحتجون في ذلك بقوله تعالى:
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال 25)
لا يصيب العذاب والبلاء الذين ظلموا فقط وأنما يعم الجميع لسكوتهم عن المنكر وعدم النهي عنه أو الثورة أو الاحتجاج ضده.
3- ... زعموا أن الآية:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (الأعراف 189، 190)
تدل على أن آدم وحواء أشركا بالله تعالى. نقول أن هذ تفسير خطأ لأنه في حديث الشفاعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتذر آدم عن التقدم ويذكر ذنبه المعروف للجميع ولا يذكر غيره. فدل ذلك على عدم وجود ذنب آخر، والسنة النبوية تفسر القرآن. وما يقوله قائل بشأن أي آية في القرآن الكريم لا يخرج عن إحدى ثلاث: إما وحي يشرح له، أو تفسير لغوي عرض له المفسر، أو رأي أدلى به. فما يقوله البعض من رواية ابن كعب أن آدم وحواء سميا ابنهما باسم "عبد الحارث" لا دليل عليه. فهي رواية مقطوعة السند. فمن الذي أخبر أُبَيَّ ابن كعب الذي كان كتابيًّا واسلم بهذه الرواية وهو لا يوحَى إليه. لذلك علينا أن نفرق بين التفسير والتأريخ. التفسير هو تناول الآية في إطار سياقها وكلماتها. والتأريخ هو وجود رواية تلقي الضوء على التفسير. وإذا كانت بلا سند يُرْمى بها ولا يُلْتَفت إليها البتة. وقد ذكر ابن كثير أنه على مذهب الحسن البصري بخصوص هذه الآية. فهو يرى أن المراد هنا ليس آدم وحواء وإنما المشركون من ذريته، ولهذا ختم الله الآية بعبارة " فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" بالجمع. وقد ذكر آدم وحواء أولًا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس. وبذلك تحمل الآيتان على المعنى العام الذي يشمل كل من يشرك بالله تعالى. لذلك كانت صيغة ما تلى الآية جمعًا:
"أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ." (الأعراف 191، 192)
4- ... نوح دعا على الناس:
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} (نوح 24)
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (نوح 28)
نلاحظ هنا أن سيدنا نوح قد دعا على الظالمين الذي استكبروا عن الحق وصدوا عن سبيل الله وكفروا بحرية العقيدة وحرية الاختيار. وهو نفس تفسير سيدنا نوح:
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح 26، 27)
فذكر الفجور قبل الكفر. لأن الإيمان والكفر مخير فيهما الإنسان. ولكنه منهيٌّ أن يفجر ويحجر على الناس حريتهم واختيار عقيدتهم.
وقالوا أن ابن نوح في الحقيقة ليس ابنه. لقوله:
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (هود 46)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (التحريم 10)
إنه ليس ابنه ثم كيف يعصي نوح ربه الذي قاله له ناهيًّا:(8/56)
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (المؤمنون 27)
أولًا: يتضح من الآية " فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ" أن نوحًا ظن أن ابنه داخل في أهله ونسي الاستشناء "إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ" يؤكد قول سيدنا نوح:
{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (هود 45)
وحين نبهه الحق تبارك وتعالى إلى خطأ ظنه بقوله: " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" أناب إلى الله سريعًا:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (هود 47)
فرد عليه الحق عز وجل بعدها مباشرة:
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (هود 48)
ثانيًّا: أن ابن نوح هو ابنه على وجه الحقيقة بدليل قول الله بنفسه "ونادى نوح ابنه". وإنما معنى "إنه ليس من أهلك" أي من الناحية الإيمانية. وقوله "فخانتاهما" فالمراد الخيانة في الإيمان كقوله: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} (النساء 105) و "{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الأنفال 71). لذلك قال ابن عباس: " مَا بَغَتْ اِمْرَأَة نَبِيّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمَا فِي الدِّين"
5- ... نسبوا الشرك لسيدنا إبراهيم في قول سيدنا إبراهيم "قال هذا ربي" عندما رأى كوكبًا وكررها عندما رأى القمر ثم فعلها مع الشمس "هذا ربي هذا أكبر" وأخطأ عندما نظر إلى النجوم وقال "إني سقيم". ونسبوا له الشك في قوله: "رب أرني كيف تحيي الموتى" فقال له الله: "او لم تؤمن" وكل هذا مردود لأنه في الحالة الأولى يقوم سيدنا إبراهيم بمناظرة قومه وإقامة الحجة عليهم:
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (الأنعام 80)
فبدأ بالمدح "هذا ربي" ثم بلفت النظر إلى جهل هذا القول في محاججته "لا أحب الآفلين" فالنجوم والكواكب تظهر وتختفي، والله لا يغيب ولا يتغير. وتوضح الآيات سير المناظرة ليصل بهم في النهاية إلى بطلان ما يعبدون من دون الله وأن العبادة لابد أن تكون لله الواحد الأحد فقط:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام 76 - 79)
بذلك يكون إبراهيم اظرين لأنه من الموقنين بشهادة الله له:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام 75)
ثانيًا: أما نظره في النجوم، فلم ينظر إليها نظرة عبادة وإنما ليبتعد بفكره عن دعوة قومه له بحضور عيدهم، ولينفرد بالأصنام فيحطمها. وسياق الآيات يمتدح فيه اللهُ إبراهيمَ. لقد نظر إلى النجوم وقال مقالته ليذهب تفكير قومه مذهبًا خطأً لينتهز الفرصة ويكسِّر أصنامهم. أما تسمية هذا بأنه "كذب" فيحسب للأنبياء الذين يعتبرون هذا خطأ منهم وهو ليس كذلك. فقوله "إني سقيم" هو مثل قول الله "إنك ميت وإنهم ميتون" فهو دال على المستقبل ولا شيء فيه. وقوله "{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} ( 63 الأنبياء) فهذا من قبيل الاستدلال ليوجِّه قومه أن يسئلوا الصنم الكبير. وقد وقع عليهم هذا وقع الصدمة المسكتة:(8/57)
"{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ. فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ. ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هََؤُلآءِ يَنطِقُونَ. قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ. أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الأنبياء 63 – 67)
وقول سيدنا إبراهيم بشأن السيدة سارة "هي أختي"، فهي بالفعل اخته في الإيمان. ومع ذلك يحسب الأنبياء هذا التعريض خطأ فسبحان الله الذي اختار أنبياءه ورسله بهذا القدر وهذا المستوى الإيماني العجيب.
ثالثًا: هناك فرق كبير بين طلب الأنبياء من الله وطلب أقوامهم الذي يأتي جحودًا أو للتعجيز في ظنهم. فقوم موسى طلبوا منه أن يروا الله جهرة، فغضب الله عليهم لأنهم شكُّوا وعلقوا إيمانهم على هذا الحدث. وطلب سيدنا موسى نفس الطلب شوقًا وحبًّا في الله. كذلك عندما طلب سيدنا إبراهيم من الله أن يريه تجربة حية عيانًا لإحياء الموتى. طلب ذلك ليس لأنه لم يؤمن أو لأنه يشك، وإنما ليزداد إيمانًا. إذ الإيمان درجات، وقد أراد إبراهيم الانتقال لمستوى أعلى من الإيمان من خلال المشاهدة والمعاينة. وقد رأى بنو إسرائيل معجزات المسيح فما زادهم إلا نفورًا وجحودًا. ولما سمع النبي محمد صلى الله عليه وسلم قومًا يقولون: "شك إبراهيم ولم يشك نبينا"، قال بأسلوب بليغ رائع يؤكد استحالة ذلك بحق الأنبياء وأنهم يطلبون المزيد من الله عن حب وشوق لا عن شك أو ريبة: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"
6- ... زعموا أن سيدنا لوط لم يتوكل على الله حق توكله حين قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (هود 80) مستشهدين بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام:
3207 حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء هو بن أخي جويرية حدثنا جويرية عن أسماء عن مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب وأبا عبيد أخبراه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته." (البخاري. ج3. ص 1239)
الرسول هنا يتعجب أن سيدنا لوط يريد معونة من أهله، والمعونة بجواره وهم الملائكة في صورة بشرية وهو لا يدري. وسيدنا لوط يقصد بذلك معونة بشرية من أهله ومن المؤمنين به تكفيه ليقف في وجه الظلم والطغيان الذي لا يحترم ضعيفًا. ألم تقرأ قول الظالمين لسيدنا شعيب: "{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (هود 91). يقول الرسول عليه الصلاة والسلام مؤكدًا هذا المعنى:
10916 حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أمية بن خالد ثنا حماد بن سلمة وأبو عمر الضرير المعني قال ثنا حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفاء لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد. قال: قد كان ياوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته فما بعث الله عز وجل بعده نبيا الا بعثه في ذروة قومه." قال أبو عمر: "فما بعث الله عز وجل نبيا بعده إلا في منعة من قومه." (مسند أحمد. ج2. ص 533)
فلا تعارض بين من يتوكل على الله حق توكله وفي نفس الوقت يطلب الأسباب التي نثرها الله في الكون ليأخذ بها وإلا عد ذلك تواكلًا.
كما ادعوا أن سيدنا لوط طلب من قومه أن يزنوا مع بناته بدلًا من القواط بضيوفه (أقول: القواط، نسبة لقوم لوط، ولا أقول: اللواط، نسبة إلى سيدنا لوط، فلا يجوز أن ننسب الفاحشة لنبي من أنبياء الله وهو الذي نهى عنها):
{وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } (78) سورة هود
{وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ. قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ. وَاتّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ. قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ. قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } (67 - 71) الحجر
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} (هود 79)(8/58)
هنا أراد سيدنا لوط أن يحمي ضيوفه فعرض على رؤساء قومه أن يزوجهم بناته إن كانوا ينوون قضاء شهوتهم بطريق شرعي. وقد كان يحل زواج المؤمنة من الكافر، وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. فقوله: "هؤلاء بناتي هن أطهر لكم" أي بالزواج فهو حلال. ولا تفهم "أطهر" كتفضيل، فهذا لا يصح، وإنما هذا أسلوب بلاغي من أسايب العرب مثل "الله أكبر وأعلى وأجل". وكان سيدنا لوط يعلم علم اليقين رفضهم للحلال وإسراعهم نحو الحرام، ولكنه فعل هذا حتى لا تكون لهم أدنى حجة قبل أن يأخذهم الله بعذاب بئيس ويقطع دابرهم:
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (الأعراف 81)
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (النمل 55)
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (العنكبوت 29)
7- ... زعموا أن سيدنا يوسف بن يعقوب عزم على القيام بالفاحشة، في قوله:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف 24)
مستشهدين بروايات ساقطة إذ لا سند لها. والآن ننظر في بعض الآيات:
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ(32)قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ(35)....... قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(51)ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52)وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(53)وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ(54)قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(56)وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
فَاسْتَعْصَمَ...... شهادة من صاحبة الشأن ببراءة سيدنا يوسف.
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.......... إشارة إلى العزيمة على الفرار من معصية الله.
حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ....................... شهادة من نساء راودن يوسف عن نفسه.
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52)وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ....... هذا كلام امرأة العزيز لأن يوسف كان ساعتها سجينًا، بدليل قوله بعدها مباشرة: "َقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي."
أما الآية: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا....." فيقصد من الهم حديث النفس والخاطر بغير تصميم ولا يؤاخذ عليه الفرد. فيؤجر سيدنا يوسف لخوفه من الله وخشيته له مع وجود الإغراءات الدنيوية وليكون الأنبياء قدوة لنا. وتؤاخذ امرأة العزيز لأنها تعدت حديث الخاطر والنفس إلى التنفيذ والدعوة إلى الفاحشة والإلحاح عليها. وقوله: " لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ..." أي علم من خلال شرع الله أنه ما كان له أن يقع فيها. فكفى بشرع الله وكلامه برهانًا.
8- ... ادعوا أن سيدنا يونس عصى ربه وظن أن الله غير قادر عليه، وذلك في قوله عز من قائل:
{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء 87)(8/59)
{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } (الصافات 140 - 142)
ذهب سيدنا يونس تاركًا قومه مغاضبًا لهم على إصرارهم على الكفر وعدم الاستجابة لأمر الله لهم بالإيمان. فتركهم بدون أمر من الله له بذلك. ظن بذلك أنه يفعل ذلك في الله فظن أن الله لن يعاقبه ولن يقدر عليه بمعنى يُضَيِّق عليه الخناق. وذلك واضح في قوله: "{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الشورى 12). فالرجل اجتهد وأخطأ، والاجتهاد ليس بذنب. لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
3215 حدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أبا العالية حدثنا بن عم نبيكم يعني بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى." (البخاري. ج3. ص 1244)
ولما أعلمه الله أن هذا خطأ وأن قرار النبي بشأن مهمته وأداء رسالة الله إنما يصدر من منزِّل الرسالة وهو الله، استغفر سيدنا يونس لهذا الاجتهاد الخاطيء (الأنبياء 87)
9- ... وقالوا: كيف يقتل موسى نفسًا؟ وذلك في قوله:
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} (القصص 15)
سيدنا موسى كما هو واضح من الآيات لم يقصد أن يقتل. فالحادث قتل خطأ. وأن سيدنا موسى نوى أن يغيث من استغاث به واستجار. وكان موسى شديد القوة فوكز المعتدي بضربة واحدة فمات منها، وشهد سيدنا موسى أن هذا من عمل الشيطان الذي يوسوس ليوقع الخلاف بين الناس فيقع ما لا تحمد عقباه وما لا يتوقعه أحد. وقد قال سيدنا موسى: "{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (الشعراء 20) وذلك من "ضل فلان الطريق" من عدم معرفته بمعالمه ولا يقدح هذا في الشخص نفسه. كذلك سيدنا موسى الذي لم يكن نبيًّا بعد ومن ثم لا توجد شريعة يضبط عليها عمله.
وقالوا كيف يرفض موسى الموت وهو من قضاء الله وقدره؟ وكيف يفقأ عينَ ملك الموت وهو ملاك يختلف في طبيعتع عنَّا، واستشهدوا بالحديث:
1274 حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت فرد الله عليه عينه وقال ارجع فقل له يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة قال أي رب ثم ماذا قال ثم الموت قال فالآن فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق ثم الكثيب الأحمر." (البخاري. ج 1. ص 449)
واضح من الحديث أن موسى لم يعرف ملك الموت في البداية وأن الملك عندما رجع إليه وخيره اختار موسى لقاء ربه دون تردد ومرحبًا بذلك في شوق. أما فقأ عين ملك الموت فلأنه متشكل في هيئة بشرية فينطبق عليه ما ينطبق على البشر. والله أعلم بخلقه سبحانه.
كذلك يُخَطِّئون القرآن الكريم لما ذكر السامري في وقت لم يكن للسامرة وجود:
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه 85)
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (طه 87)
نقول أنه ليس شرطًا أن يدل الاسم "السامري" على حتمية وجود مدينة اسمها السامرة وهو من أهلها فتسمى بها. لنقرأ ما يلي:
وَاشْتَرَى (عُمْرِي) جَبَلَ السَّامِرَةِ مِنْ شَامِرَ بِوَزْنَتَيْنِ مِنَ الْفِضَّةِ، وَبَنَى عَلَى الْجَبَلِ. وَدَعَا اسْمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَاهَا بِاسْمِ شَامِرَ صَاحِبِ الْجَبَلِ [السَّامِرَةَ]. (1 مل 16: 24)
لقد قام المشتري وهو الملك عُمْرِي بشراء جبل وبنى عليه مدينة سماها باسم البائع وهو شامر (أو شامير أو شاميد، وتعني المحفوظ) فصارت "السامرة" مشتقة من اسم شخص وليس العكس. كذلك يمكن تمييز الفرد بلقب مشتق من اسم أبٍ من آبائه. فيمكن تسمية بني شامر بـ"السامريين":
وَبَنُو مَرَارِي إِخْوَتُهُمْ. عَنِ الْيَسَارِ أَيْثَانُ بْنُ قِيشِي بْنِ عَبْدِي بْنِ مَلُّوخَ. بْنِ حَشَبْيَا بْنِ أَمَصْيَا بْنِ حِلْقِيَّا بْنِ أَمْصِي بْنِ بَانِي بْنِ شَامَِرَ. بْنِ مَحْلِي بْنِ مُوشِي بْنِ مَرَارِي بْنِ لاَوِي. وَإِخْوَتُهُمُ اللاَّوِيُّونَ مُقَامُونَ لِكُلِّ خِدْمَةِ مَسْكَنِ بَيْتِ اللَّهِ. (أخبار أول 6: 44 – 48)(8/60)
وَبَنُو شَامِرَ: آخِي وَرُهْجَةُ وَيَحُبَّةُ وَأَرَامُ. (أخبار أول 7: 34)
فشامر أحد أحفاد لاوي هنا، ويمكن تسمية نسله بـ"السامريين". وقد وقع اللاويون في كبيرة عبادة العجل:
وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّةِ وَقَالَ: «مَنْ لِلرَّبِّ فَالَيَّ!» فَاجْتَمَعَ الَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاوِي. فَقَالَ لَهُمْ: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ الَهُ اسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ الَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ اخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ». فَفَعَلَ بَنُو لاوِي بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَوَقَعَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاثَةِ الافِ رَجُلٍ. (خر 32: 26 – 28)
فالظاهر هنا أن من وقع في هذه الكبيرة هو لاوي ويمكن أن يكون من أبناء شامر أي سامري. وبذلك يسقط الاحتجاج على تسمية القرآن للشخص المشرك بـ"السامري". وقد قرأت بحثًا موثقًا على الرابط التالي:
http://www.islamic-awareness.org/Quran/Contrad/External/samaritan.html
أنقل لكم خلاصته:
Until the middle of the 20th century it was commonly believed that the Samaritans originated from a mixed race people living in Samaria at the time of the Assyrian conquest (722-721 BCE). In recent years however, new research based on a more careful study of the Chronicles of the Samaritans has led to a re-evaluation of their origins. Specifically, with the publication of Chronicle II (Sefer ha-Yamim), the fullest Samaritan version of their own history became available. A historical analysis of this chronicle reveals that the Samaritans are the direct descendants of the Joseph tribes, Ephraim and Manasseh, and until the 17th century C.E. they possessed a high priesthood descending directly from Aaron through Eleazar and Phinehas. The common ancestry of both the Jews and Samaritans was also established by recent genetic studies, going back to Cohen or the Jewish priestly family. This study also validated both local and foreign origins of the Samaritans.The missionaries and apologists, ignorant of the Samaritans' own version of their history as well as recent scholarly investigation and critical analysis, content themselves with repeating the 100 year old claim made by William St. Clair Tisdall. Unfortunately, Tisdall was also not fully cognizant with the Chronicles of the Samaritans; consequently, the missionaries and apologists make claims contrary to recent historical investigation.
The Qur'anic mention of the name al-Samiri sometimes translated as "the Samaritan" (Qur'an 20:85, 87 and 95) is entirely consistent with modern investigations into the origin of the Samaritan sect.
حتى منتصف القرن العشرين كان من المعتقد أن السامريين هم من جنس مختلط عاشوا في السامرة في زمن الغزو الأشوري (722 – 721 ق.م)
وحاليًا ظهرت أبحاث مبنية على دراسة أكثر دقة لأخبار السامريين وقد أدت إلى إعادة النظر في أصلهم. خاصة مع نشر سفر الأخبار الثاني (سفر هاياميم) وهو النسخة الأكمل المتاحة عن تاريخهم.
ويكشف تحليل لهذا السفر عن أن السامريين هم الأحفاد المباشرين المنحدرين من أسباط سيدنت يوسف بن يعقوب ومن قبيلتي إفرايم ومنسى. وحتى القرن 17 ق.م تمتعوا بكهنوت عالٍ ورثوه عن سيدنا هارون عبر العازر وفينحاس. والسلالة الشائعة المنحدرة من اليهود والسامريين قد اعترفت بها دراسات جينية معاصرة وترجع بهم إلى كوهين أو الأسرة الكهنوتية اليهودية. وقد أيدت الدراسة كلًا من أصول السامريين المحلية والأجنبية.
ولكن المبشرين ومن على شاكلتهم وقد جهلوا نسخة السامريين التاريخية وتجاهلوا التحليلات النقدية والتحقيقات المعاصرة، أقنعوا أنفسهم بترديد زعم وليام كلير تسدال منذ 100 عام. ولسوء الحظ لم يكن تسدال على معرفة تامة بسفر تاريخ السامريين وبالتالي جاء ادعاء المبشرين والمدافعين مخالفًا للتحقيق التاريخي المعاصر. ويذكر القرآن اسم "السامري" مترجمًا أحيانًا إلى the Samaritan (20: 85، 87، 95) ويتوافق تمامًا مع التحقيقات (الدراسات) الحديثة في أصل طائفة السامريين.
10- ... قالوا أن سيدنا داود أخطأ واستشهدوا بقول الله عز وجل:(8/61)
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُواْ عَلَىَ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَىَ سَوَآءِ الصّرَاطِ. إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ وَظَنّ دَاوُودُ أَنّمَا فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ. يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 21 – 26)
ذكرنا أن السهو والنسيان لا يقدح في الأنبياء. سيدنا داود هنا في موقف يحسد عليه إذ فاجأه ملكان في هيئة بشرين متخاصمين. وفوجيء بهما في داخل محرابه. فلما استمع إلى احدهما حكم على الفور ونسي أن يستمع للطرف الآخر. ولما غادرا المكان ورجع داود لطبيعته وهدوئه علم أن هذا تجربة من الله يدربه فيها على تحري العدل وعدم التأثر والارتباك. فما كان منه إلا أن خر راكعًا لله مستغفرًا. فلم يؤاخذه الله على ذلك وإنما أمره باستيعاب الدرس جيدًا لأنه خليفة في الأرض وعليه أن لا يتبع الهوى مستقبلًا فالهوى من أسباب الضلال. والخطاب هنا للمؤمنين، وهذا أسلوب من أساليب اللغة العربية وهو خاب القائد ويقصد به المؤمنين في عصره ومن بعده. فإذا كان الله يقول للنبي " {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ .. الأحزاب: 1) فإن ذلك يؤثر في المؤمن تأثيرًا كبيرًا ويؤدي به إلى الإسراع في تقوى الله أكثر.
يدعي بعض المسيحيين أن هذه القصة هي هي التي وردت في (2 صم 12: 1 – 14). وهذا تضليل لا يخفى على أحد. لنقرأ أولًا الفقرات:(8/62)
«فَأَرْسَلَ الرَّبُّ نَاثَانَ إِلَى دَاوُدَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: «كَانَ رَجُلاَنِ فِي مَدِينَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاحِدٌ مِنْهُمَا غَنِيٌّ وَالآخَرُ فَقِيرٌ. وَكَانَ لِلْغَنِيِّ غَنَمٌ وَبَقَرٌ كَثِيرَةٌ جِدّاً. وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إِلاَّ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ صَغِيرَةٌ قَدِ اقْتَنَاهَا وَرَبَّاهَا وَكَبِرَتْ مَعَهُ وَمَعَ بَنِيهِ جَمِيعاً. تَأْكُلُ مِنْ لُقْمَتِهِ وَتَشْرَبُ مِنْ كَأْسِهِ وَتَنَامُ فِي حِضْنِهِ، وَكَانَتْ لَهُ كَابْنَةٍ. فَجَاءَ ضَيْفٌ إِلَى الرَّجُلِ الْغَنِيِّ فَعَفَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَنَمِهِ وَمِنْ بَقَرِهِ لِيُهَيِّئَ لِلضَّيْفِ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ نَعْجَةَ الرَّجُلِ الْفَقِيرِ وَهَيَّأَ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ». فَحَمِيَ غَضَبُ دَاوُدَ عَلَى الرَّجُلِ جِدّاً، وَقَالَ لِنَاثَانَ: «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ الْفَاعِلُ ذَلِكَ، وَيَرُدُّ النَّعْجَةَ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ لأَنَّهُ فَعَلَ هَذَا الأَمْرَ وَلأَنَّهُ لَمْ يُشْفِقْ». فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: «أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ! هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: أَنَا مَسَحْتُكَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَنْقَذْتُكَ مِنْ يَدِ شَاوُلَ وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ سَيِّدِكَ وَنِسَاءَ سَيِّدِكَ فِي حِضْنِكَ، وَأَعْطَيْتُكَ بَيْتَ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَلِيلاً كُنْتُ أَزِيدُ لَكَ كَذَا وَكَذَا. لِمَاذَا احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ؟ قَدْ قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ لَكَ امْرَأَةً، وَإِيَّاهُ قَتَلْتَ بِسَيْفِ بَنِي عَمُّونَ. وَالآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ احْتَقَرْتَنِي وَأَخَذْتَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ لِتَكُونَ لَكَ امْرَأَةً. هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَئَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجِعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ». فَقَالَ دَاوُدُ لِنَاثَانَ: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ». فَقَالَ نَاثَانُ لِدَاوُدَ: «الرَّبُّ أَيْضاً قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ. غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِهَذَا الأَمْرِ أَعْدَاءَ الرَّبِّ يَشْمَتُونَ فَالاِبْنُ الْمَوْلُودُ لَكَ يَمُوتُ».
كما هو واضح فالقصة مختلفة تمامًا، ونكتفي بالإشارة إلى:
1- ... حكم داود بقتل الرجل المعتدي وأن يأخذ الفقير أربعة أضعاف ما خسر. وهذا مخالف للشريعة.
2- ... وصف الرب داود بأنه محتقر لكلام الرب. وهذا كفر.
3- ... أن الرب لم يعتب عليه في حكمه، وإنما ترك الموضوع برمته ليعاتبه فيما مضى.
4- ... توعد الرب بأن يُمَكِّن قريب داود من نساء داود نفسه ويرتكب معهن جريمة الزنى جهارًا نهارًا.
5- ... توعده الرب بموت ابنه الرضيع الذي لا ذنب له مع إعفاء داود من الموت حينئذٍ.
11- ... يحتجون بما جاء من روايات بشأن قوله في سيدنا سليمان:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص 34)
كل الروايات باطلة لأنه هناك فرق كما قلنا بين التفسير والتأريخ. التفسير يدور حول المعاني والألفاظ، والتأريخ يدور حول الروايات. والرواية التي لا سند لها وغير موثقة توثيقًا علميًّا لا يلتفت إليها البتة. وأما ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن هذه الآية فهو ضعيف كما قال السيوطي فى كتابه "اللألىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة. ج2" والصحيح هو ما جاء في السنة الصحيحة:
3242 حدثنا خالد بن مخلد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل ولم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو قالها لجاهدوا في سبيل الله." (البخاري. ج3. ص 1260)
فلم يقل ........... أي سهوًا منه ونسيانًا ولا نشغاله بأمر ما. والسهو والنسيان لا يقدح في حق الأنبياء. فقد نسي رسول الله أن يقول: "إن شاء الله" ذات مرة، فنزل قوله تعالى:
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف 23 ، 24)(8/63)
ويدعون أن سيدنا سليمان كان يفضل حب الدنيا على حب الله:
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنّيَ أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّىَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالأعْنَاقِ) (ص: 31 – 3)
عرضت على سيدنا سليمان الخيل الجميلة الكثيرة وقت العشي وهو من الظهر أو العصر إلى نهاية النهار. فغفل عن ذكر الله وتسبيحه سهوًا ونسيانًا. فعدها خطيئة مبررًا ذلك بأنه أحب الخير عن ذكر الله نافلةً. ودومًا تجد في القرآن الكريم الأنبياءَ ينسبون أي سهو أو نسيان أو ترك الأوْلَى بأنه خطأ. وهو في الحقيقة ليس كذلك لأن الله لا يؤاخذ بالسهو والنسيان. ولذلك لم يستغفر سيدنا سليمان من ذلك بل وأخذ يمسح بيديه على أجسام الخيل تعبيرًا عن حب نعم الله والاعتراف بفضله سبحانه.
12- ... ويقولون أن أيوب نسب الضر للشيطان في قول القرآن الكريم:
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ص: 41)
إن كلمة "الشيطان" لا تطلق فقط على إبليس وذريته، بل تطلق على كل ما يضر:
الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس والحيوانات. (مختار الصحاح)
قال عليه السلام: (الحسد شيطان والغضب شيطان) (مفردات غريب القرآن للأصفهاني)
وعليه تنصرف لفظة "الشيطان" إلى كل ما يضر من الجن والإنس والحيوانات والميكروبات وما شابه بل والصفات المذمومة كالغضب والحسد. ويفسر ذلك قول سيدنا أيوب نفسه:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (83) سورة الأنبياء
هذا والسلام عليكم
ورحمة الله
وبركاته
أخوكم وصديقكم وزميلكم
زيد جلال
Zaidgalal
=================
طرح الأولاد فى النهر صدر قبل ولادة موسى لا بعد إرساليته
الشبهة:
إن فى سورة الأعراف : أن الملأ من قوم فرعون بعد ولادة موسى وظهور نبوته قالوا لفرعون : أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ؟ وقد رد عليهم بقوله : ( سَنُقَتِّل أبناءهم وتستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) (1).
وفى سورة القصص : أن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى وهذا تناقض
الرد على الشبهة :
إن قتل الأبناء واستحياء النساء كانا من قبل ولادة موسى ـ عليه السلام ـ وهو فيما بعد يهدد باستمرار القتل والزيادة فيه .
1) الأعراف : 127.
===============
صَدَاق امرأة موسى
الشبهة:
إن فى سورة القصص أن موسى أصدق امرأته من مدين خدمة ثمانى أو عشر لأبيها . وفى التوراة أنه كان له سبع بنات لا اثنتين ، وأنه لم يصدق المرأة . لا بالخدمة ولا بما يقوم مقامها.
الرد على الشبهة :
هب أنه كان عنده سبعة . وقدم له اثنتين لائقتين بحاله لينتقى واحدة منهما . فما هو الإشكال فى ذلك ؟ وحال يعقوب مع خاله " لابان " ، كحال موسى مع كاهن مديان . فإنهما كانا يتعيشان من رعى الغنم . وخدم يعقوب خاله سبع سنين صداقاً لابنته الأولى " ليئة " وخدم سبع سنين أخرى صداقاً لابنته الأخرى " راحيل " وموسى هارب من أرض مصر بلا مال . فكيف يتزوج فى أرض غريبة بلا مال .
وفى النص ما يدل على ما اتفقا عليه . وهو " فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل . فأعطى موسى صفورة ابنته " ارتضى على ماذا ؟ ولماذا قال بعد الارتضاء : " فأعطى موسى صفورة ابنته " ؟ والنص كله هو : " وكان لكاهن مديان سبع بنات . فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن . فأتى الرعاة فطردوهن . فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن .
فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال : ما بالكن أسرعتن فى المجئ اليوم ؟ فقلن : رجل مصرى أنقذنا من أيدى الرعاة ، وإنه استقى لنا أيضاً وسقى الغنم . فقال لبناته : وأين هو ؟ لماذا تركتن الرجل ؟ ادعونه ليأكل طعاماً . فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل ، فأعطى موسى صفورة ابنته " [خر 2 : 16] وفى النص السامرى : " فلما أمعن موسى فى السكنى مع الرجل ؛ أعطاه صفورة ابنته لموسى زوجة ".
===============
لم ترث إسرائيل مصر.
الشبهة:
إن فى القرآن أن بنى إسرائيل ورثوا أرض مصر بعد هلاك فرعون . وهذا خطأ فإنهم لم يرثوا إلا أرض كنعان .
الرد على الشبهة :
1 ـ على قوله : إن دعوة موسى كانت خاصة لبنى إسرائيل . فإن حدود مصر تبدأ من " رفح " وهم يقولون : إن المواعيد هى من النيل إلى الفرات . فيكون الجزء من رفح إلى النيل داخلاً فى الإرث .
2 ـ والإرث ليس لاستغلال خيرات الأرض وتسخير أهلها فى مصالح اليهود .(8/64)
ولكنه " إرث شريعة " فإن الله قال لإبراهيم ـ عليه السلام ـ : " سر أمامى وكن كاملاً " [تك 17 : 1] أى امشى أمامى فى جميع البلاد لدعوة الناس إلى عبادتى وترك عبادة الأوثان . وقد سار إبراهيم ودعا بالكلام وبالسيوف . ولذلك سرّ الله منه ، ووعده بمباركة الأمم فى نسل ولديه إسحاق وإسماعيل . والبركة معناها : ملك النسل على الأمم إذا ظهر منه نبى . وسلمه الله شريعة . ولما ظهر موسى ـ عليه السلام ـ وسلمه الله التوراة . أمره بنشرها بين الأمم . وإذا نشرها بين أمة فإنه يكون وارثاً لهذه الأمة " إرث شريعة " إذ هو بنشرها يكون بنو إسرائيل والأمم متساوون أمام الله فيها . وما فائدة بنو إسرائيل إلا التبليغ فقط . وبه امتازوا عن الأمم . ويدل على ذلك : إرثهم لأرض كنعان ـ كما يقولون ـ فإنهم ورثوها لنشر شريعة التوراة فيها ، وكان الإرث على يد طالوت وداود ـ عليهما السلام ـ وقد قال داود ـ عليه السلام ـ لجالوت وهو يحاربه : إن الحرب للرب . أى أن القتال فى سبيل الله . ذلك قوله : " وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب ؛ لأن الحرب للرب . وهو يدفعكم ليدنا "[صموئيل الأول 17 : 47].
وإذا أراد الله نسخ التوراة يكون معنى النسخ إزالة ملك النسل اليهودى عن الأمم ليقوم النسل الجديد بتبليغ الشريعة التى أقرها الله فيهم لتبليغها إلى الأمم . وهذا ما حدث فى ظهور الإسلام . فإن بنى إسماعيل ـ عليه السلام ـ حاربوا وملكوا ونشروا القرآن وعلموه للأمم . ولهم بركة .
فإن الله قال لإبراهيم عن إسماعيل : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه " [تك 17 : 20].
وفى التوراة عن بركة إبراهيم : " وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض " [تك 12 : 3] ومعنى مباركة جميع أمم الأرض فى إبراهيم : هو أن نسله يبلغون للناس شرائع الله .
وفى التوراة عن إرث بنى إسماعيل للأمم : " ويرث نسلك أمماً ، ويعمر مدناً خربة " [إش 54 : 3 ].
3 ـ وكتب المؤرخين تدل على أن بنى إسرائيل أقاموا فى مصر . وقد نقل صاحب تفسير المنار فى سورة يونس عن يونانيين قدماء أن موسى ـ عليه السلام ـ رجع إلى مصر بعد هلاك جنود فرعون وحكم فيها ثلاث عشرة سنة.
===============
ضربات مصر عشر لا تسع.
الشبهة: ضربات مصر عشر لا تسع إن فى التوراة أن الآيات البينات عشر . وفى القرآن تسع (1). وهذا تناقض .
الرد على الشبهة :
إن مفسرى التوراة صرحوا بالاختلاف فى عدد هذه الآيات.
فالآية الثانية وهى الضفادع ؛ يوجد من يقول إنها التماسيح.
والآية الثالثة قال بعضهم إنها ضربة القمل ، وقال بعضهم إنها ضربة البعوض.
والآية الرابعة قال بعضهم إنها ذباب الكلب خاصة ، وقيل مطلق ذباب.
(1) المقصود بالآيات التسع ما جاء فى القرآن الكريم فى قوله تعالى : (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) سورة الإسراء : 101 ، وقد ورد ذكر آية الطوفان فى قوله تعالى : (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين) سورة الأعراف : 133، أما بقية الآيات التسع فقد وردت فى آيات قرآنية أخرى.
================
الفهرس العام
شبهات حول الأنبياء 3 ... 1
شبهه حول نبي الله سليمان ... 1
شبهة شاول الملك أو جدعون القاضى ... 2
شبهة - فرعون بنى برج بابل بمصر ... 3
رؤية رسول الله صلى الله عليه و سلم ... 4
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ? (الصافات-107 ... 7
شبهة قصة ذى الكفل ... 11
شبهة لم تنزل مائدة من السماء ... 11
نبى الله يونس - هل عصى ربه او غوى ؟ ... 13
المَلام لمَن أخطأَ في حقّ يونس عليه السلام ... 15
المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يونس بن متى عليه السلام ... 17
شبهة هاجر أو السيدة العذراء ... 24
شبهة سليمان أو أبشالوم ... 25
نوح دعا على قومة بالضلال ... 25
شبهة هل طلبوا رؤية الله ؟ ... 26
المفهوم الصحيح لقول أبو الأنبياء : إني كَذَبت ثلاث كذبات وإِنَّي سَقِيمٌ ... 27
الأنبياء معصومون ولو أنكر الجاهلون . ... 29
النبي لو ط يزني ببناته !!!! ... 40
دفاعا عن نبي الله لوط وابنتيه ... 43
عصمة الأنبياء شبهات وردود ... 48
مجموعه من الشبهات والرد عليها ... 55
يوسف همّ بالفساد ... 83
بحث قصير لإثبات نبوة نبى الله داود ... 84
دفع شبهات القرود حول قصه أوريا مع النبى داود ... 88
كشف تحريف اللئيم لقصة هاجر و ابنها الحليم ... 91
هامان وزير فرعون ... 98
قارون وهامان مصريان ... 99
...
...
...(8/65)
الباب الرابع- شبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم
(1) زواج الرسول صلى الله عليه وسلم
أ.د. بكر بن زكي عوض
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حدثني أحد الأصدقاء الثقات أنه دخل على إحدى غرف الدردشة الصوتية ووجد فيها مسلمين ونصارى يتناقشون عن الديانتين, ولاحظ أن أكثر موضوع كان يحرج المسلمين هو زواج الرسول – صلى الله عليه وسلم - من تسع نساء، وسؤالي هو: هل يمكن أن أجد لديكم شرحاً مفصلاً لهذه الزيجات وظروفها والحكمة منها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، وبعد:
أخي السائل: إن تعدد الزوجات معروف في الرسالات السابقة كما هو معروف في رسالة الإسلام وحياة الرسول –عليه الصلاة والسلام-.
وإذا كنت تناقش نصرانياً أو تريد أن تناقشه فإليك الآتي:
(1) إن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم قد عددوا الزوجات ووصل الأمر بهم إلى الزواج من مئة مثل داود الذي لم يكتف بتسع وتسعين حتى تزوج تمام المئة بعد موت زوجها، وسليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وأربعمائة جارية كما في العهد القديم مصدر التشريع الأول عند النصارى(ما جئت لأنقص بل لأكمل).
(2) كافة نصوص العهد القديم تأذن بالتعدد وتبيحه للأفراد رسلاً أو بشراً.
(3) لم يرد نص واحد يحرم التعدد في النصرانية وقد تأثر النصارى بالبلاد التي نشروا فيها النصرانية، ففي أفريقيا يأذنون بالتعدد ويبيحون الزواج للقساوسة، وفي أوروبا يحرمون التعدد ويحرمون الزواج على القساوسة ويبيحون الصداقة.
(4) النص الذي يستشهد به النصارى على تحريم التعدد هو(أما علمتم أن الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى وقال لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فما جمعه الله لا يفرقه إنسان). فجعلوا من ضمير الإفراد في قوله: "امرأته" أن الرجل لا يتزوج إلا بامرأة واحدة. والنص قد فهم على غير وجهه، فالمسيح حين سئل "أيحل لأحدنا أن يطلق امرأته لأي علة كانت..." كانت إجابته كما سبق.
(5) أن الإجابة لا صلة لها بالتعدد بل بالنهي عن الطلاق لا التزوج.
(6) المسيحية تأذن بالتعدد بالتتابع ولكنها ترفضه بالجمع وينتهي التعدد عند الرابعة متتابعاً حتى لا يكون الإنسان غاوياً، وتسمح بالخلة والصديقة بدون حد ولا عد.
(7) كان العرب يجمعون بين أربعين امرأة في وقت واحد كدليل على الرجولة وطلب للولد.
(8) بالنسبة لتعدد زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- فإنه يرجع إلى أسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية يمكن بيانها –والله أعلم- على النحو التالي:
أولاً: الأسباب الاجتماعية:
(1) زواجه من خديجة – رضي الله عنها- وهذا أمر اجتماعي أن يتزوج البالغ العاقل الرشيد وكان – عليه الصلاة والسلام - في سن الخامسة والعشرين وظلت معه وحدها حتى توفيت وهو في سن الخمسين.
(2) تزوج بعدها بالسيدة سودة بنت زمعة وكانت أرملة لحاجة بناته الأربع إلى أم بديلة ترعاهن وتبصرهن بما تبصر به كل أم بناتها.
(3) حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها بعد وفاة زوجها إكراماً لأبيها سـ3هـ.
(4) زينب بنت خزيمة استشهد زوجها في أحد فتزوجها سـ 4هـ.
(5) أم سلمة هند بنت أمية توفى زوجها ولها أولاد فتزوجها سـ4هـ.
ثانيا: الأسباب التشريعية:
(1) زواجه من عائشة – رضي الله عنها - فلقد كان بوحي، حيث رآها في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
(2) زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد بالتبني فنزل قول الله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) [الأحزاب: 4] (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) [الأحزاب: 5] وبعد خلاف مع زوجها طلقت منه وأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها لإقامة الدليل العملي على بطلان التبني، وذلك سنة خمسة للهجرة.
ثالثاً: الأسباب السياسية:
- كان لبعض زيجات الرسول – صلى الله عليه وسلم - بعداً سياسياً من حيث ائتلاف القلوب والحد من العداوة وإطلاق الأسرى... إلخ، ومن هن:
(1) جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة وقعت في الأسر، تزوجها سنة 6 هـ.
(2) أما حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تنصر زوجها وبقيت على إسلامها، وكان للزواج منها كبير الأثر في كسر حدة أبي سفيان في العداء للإسلام، حتى هداه الله.
(3) صفية بنت حيي بن أخطب كانت من سبي خيبر أعتقها الرسول وتزوجها سـ7هـ.
(4) ميمونة بنت الحارث تزوجها سـ 7هـ.
مات من هؤلاء اثنتان في حياة الرسول وهما خديجة وزينب بنت خزيمة وتوفى الرسول – صلى الله عليه وسلم - عن تسع.
وأما الجواري فهما مارية القبطية التي ولدت إبراهيم وتوفى صغيراً، وريحانة بنت زيد القرطية.
إذن التعدد بدأ في سن الثالثة والخمسين من عمره فهل هذا دليل الشهوة، ومن يشتهِ هل يتزوج الثيبات وأمهات الأولاد والأرامل، كيف وقد عرض عليه خيرة بنات قريش فأبى!(9/1)
إن التعدد كله لحكم منها – فضلاً عما سبق - بيان كل ما يقع في بيت النبوة من أحكام عملاً بقوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) [الأحزاب: 34], وإذا كان الحكم الشرعي لا يثبت بخبر الواحد غالباً فإن للتعدد أثره في إثبات الأحكام بالتواتر، كما أن زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم - اختلفت أحوالهن بين غنى وفقرٍ وحسب ونسب وبساطة لكل من يتزوج بأي صورة من هذه الصور قدوة في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم - مع زوجته التي تطابق حال زوجه وتعددهن فيه بيان لكل ما يمكن أن يقع من النساء داخل البيت كالغيرة والصبر والتآمر وطلب الدنيا؟ والتواضع ونشر العلم والرضى... إلخ.
إن بسط الكلام في هذا الأمر متعذر في هذه العجالة واقرأ زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم - لبنت الشاطئ. تعدد الزوجات لأحمد عبد الوهاب. الرحيق المختوم (الجزء الثاني) للمباركفوري.
---------------
(2) حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة
أ.د محمود حمدي زقزوق
هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [عبس وتولى] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).
الرد على الشبهة:
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم في نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أي أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحي.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كي تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هي جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى-(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول), (قل أطيعوا الله والرسول), (من يطع الرسول فقد أطاع الله), (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة في هذا البلاغ الإلهي الذي اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذي يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله، الذي يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهي.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذي يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله، يقول الشيخ محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل-: "... ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم في أقوالهم، وأمانتهم في تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذي أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها، بمحض فضله، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطرة السليمة، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [أي الاتصال بالسماء والتبليغ عنها] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدي الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون".
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..(9/2)
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل في مناطق وميادين الاجتهاد التي لم ينزل فيها وحى إلهي.. فإنه معصوم في مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى في مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحي والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول في هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى). وبلاغة ما هو بقول بشر، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه، والتي هي ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة، رضوان الله عليهم في كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السُّنة والسيرة:
"يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟.." فإن قال: إنه الوحي. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هي طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم، لأن علم الله - مصدر الوحي - مطلق وكلى ومحيط، بينما علمهم نسبى، قد تخفى عليه الحكمة التي لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأي والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين في الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة في كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - في مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).
وحتى لا يقتدي الناس باجتهاد نبوي لم يصادف الأولى، كان نزول الوحي لتصويب اجتهاداته التي لم تصادف الأولى، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى). ومن مثل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير). ومن مثل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهي للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة في البلاغ الإلهي، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحي المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التي يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحي والبلاغ قول بشر، بينما هي - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذي بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هي الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ
----------------------
(3) دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام
أ.د محمود حمدي زقزوق
زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هي:
1. إن العهد والنبوة والكتاب محصورة في نسل إسحق لا إسماعيل.؟!
2. إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!
3. إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً(1)؟!
4. إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام؟!
الرد على الشبة:(9/3)
ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدي هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات في هذا المجال.
وجود "البشارات" وعدمها سواء.. أجل: إن وجود البشارات وعدمها في الكتب المشار إليها آنفًا سواء، وجودها مثل عدمها، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل "الخارجي" بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة؛ فهي رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغني عما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء في هذا الدليل "القرآن العظيم" حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام في دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس في حاجة إلى "تلك البشارات" حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.
وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:
1- بشاراته صلى الله عليه وسلم في التوراة.
2- بشاراته صلى الله عليه وسلم في الإنجيل.
أولاً: البشارات في التوراة تعددت البشارات برسول الإسلام في التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها "الأصلي" من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
فهي أشبه ما تكون برسالة مغلقة محي "عنوانها" ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام " الداخلي " الذي فيها يقطع بأنها " له " دون سواه؛ لما فيها من "قرائن" وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها:
"وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته".
فقال: "جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران"(2).
في هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى عليه السلام التي تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هي قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذي تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحي وفاران هي مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
والبشارتان:
الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام.
والثانية: خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وموقف اليهود منهما النفي: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفي - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم في ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن "فاران" هي "إيلات" وليست مكة. وأجمع على هذا "الباطل" واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن "فاران" هي مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له!! أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر "فاران" على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد في قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هي وابنها فنزلت وسكنت في "برية فاران"(3). على أنه يلزم من دعوى واضعي قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد في التوراة. لأنه لم يبعث نبي من "إيلات" حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذي به غار حراء ، الذي تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحي.
وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة في العبارة المذكورة:
جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.(9/4)
وفي بعض " النسخ " كانت العبارة: "واستعلن من جبل فاران" بدل "تلألأ".
وأياً كان اللفظ فإن "تلألأ" و"استعلن" أقوى دلالة من "جاء" و"أشرق" وقوة الدلالة هنا ترجع إلى "المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم "المجيء" وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هي إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هي وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه "سارة" طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " في المكان المعروف الآن " ببئر سبع " ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى "إيلات" كذَّبت "زمزم الطهور" دعوى "بئر سبع"؟ وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور "عملاقين" تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجيء نص آخر في التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون.
وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
"أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"(4).
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى في آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بني إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.
أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هي نفي ، ويقدرون قبل الفعل "أقيم" همزة استفهام يكون الاستفهام معها "إنكارياً" وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك؟!
بطلان هذا الرأي وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
"ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه " ؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفي. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!
الثاني: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل..؟!
موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلي فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.
الحق الذي لا جدال فيه:
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون ، ولا في صموئيل كما يدعى اليهود في أحد قوليهم.
ولا في عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل.
ولو كان المراد واحداً منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبياً منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم...)(5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم...)(6).
وأما انتفاء الشرط الثاني ، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل "موسى" عليه السلام.(9/5)
فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام.
وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هي الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهي أحد شرطيْ البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها؟!
الشرطان متحققان في رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفي الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذي هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطيْ البشارة:
ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التي لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثاني من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
في المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التي لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة في قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7).
اسمعي يانيت وأميلي أذنك ، وانسي شعبك وبيت أبيك ، فيشتهي الملك الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدي له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك في إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء في كل الأرض اذكر اسمك في كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والآبد " وقفة مع هذا الكلام في المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التي ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فهو الذي قاتل بسيفه في سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(8).
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام في القرآن الحكيم ، وفي أحاديثه وتوجيهاته ، التي بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التي سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعاني ما ليس في غيرها.
أما المقطع الثاني (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهي التي تترضاها الأمم بالهدايا. وهي ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهي التي يذكر اسمها في كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع في " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفي مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة. خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هي دين الله إلى الأبد الأبيد.
وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملئ بالإشارات الواضحة التي تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولولا المنهج الذي أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير؛ ولذا فإننا نكتفي بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
" قومي استنيري؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هي الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك ، والملوك في ضياء إشراقك.
ارفعي عينيك حوالي وانظري. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد، وتحمل بناتك على الأيدي ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتي إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبًا ولبانًا ، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي، وأزين بيت جمالي.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك…(9).(9/6)
وبنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم...(10).
دلالة هذه النصوص:
بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.
فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جداًُ إلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار، وقيدار هوولد إسماعيل عليه السلام الذي تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذي تنحر عليه الذبائح؟ كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هي طرق حضور الحجاج إليها. ففي القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما في العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى "الطائرات" وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتي:
1- الجمال ، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال!!
2- السفن ، قال فيها: وسفن ترشيش تأتي ببنيك من بعيد!
3- النقل الجوى، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟!!
أليس هذا أوضح من الشمس في كبد السماء.
على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم في حج أو عمرة!!
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى في قول الله تعالى: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء)(11).
ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدي العاملة الآن، وذوي الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت في محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه "العاصمة المقدسة", فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين، ومثلها المدينة المنورة.
ومنها كثرة الثروات التي مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التي تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة "صهيون" ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم. ولكننا نضع الأمر بين يدي المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة "صهيون".
لقد خرب " بيت الرب " في القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التي تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
وأين هي المواكب التي تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.
وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذي يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذي تدافع عنه.
والفاصل بيننا ـ في النهاية ـ هو الله الذي لا يُبدل القول لديه.
وتنسب التوراة إلى نبي يدعى "حبقوق" من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات.
تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلي بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القوم.
مسالك الأزل يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك... سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق... سلكت البحر بخيلك..(12).
دلالات هذه الإشارات:
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعاني التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان في مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذي بمكة المكرمة التي هي فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التي كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.(9/7)
فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة ، التي تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسى عليه السلام والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشارة حبقوق فهي خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن في كلام حبقوق إلا هذا "التحديد" لكان ذلك كافياً في اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:
• منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
• ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.
• ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا في ظل رسالة الإسلام.
على أن كلام حبقوق ملئ بالرمز والإشارات مما يفيدنا في هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:
أحدهما: أن في الإشارات الصريحة غناء عنها.
وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.
بشاراته صلى الله عليه وسلم في العهد الجديد أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التي يتعين أن تكون "بشارات" برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
تلك البشارات تعلن أحياناً في صورة الوعد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخرى بالروح القدس. ومرات باسم المعزى أو الفارقليط ، وهي كلمة يونانية سيأتي فيما بعد معناها ، تلك هي صورة البشارات في الأناجيل في صيغها المعروفة الآن.
ففي إنجيل متى وردت هذه العبارة مسندة إلى يحيى عليه السلام المسمى في الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(13).
فمن هو ملكوت السماوات الذي بشر به يحيى؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى؟!
هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(14).
فلو كان المراد بملكوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه "البشارة" على لسان عيسى؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشارة لا تكون إلا بشئ محبوب سيأتي، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشيء "مكروه" قد يقع.
فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.
إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام.
فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات في عبارة عيسى عليه السلام ـ قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح في عبارة يحيى؛ إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى عليه السلام.
أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعي ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفي صيغة الصلاة التي علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروي مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبي الإسلام. وهذا هو نص مَتَّى في هذا "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك"(15).
ووردت هذه الصيغة في إنجيل لوقا هكذا: "متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك.."(16).
ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين، ويشفون الأمراض ثم قال: "وأرسلهم ليكرزوا ـ أي يبشروا ـ بملكوت الله"(17).
أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: "جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله " (18).
فهؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقون على أن يحيى وعيسى (عليهما السلام) قد بشرا بملكوت الله الذي اقترب.
فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟! وأكاد أجزم بأن عبارة "المسيح ، قد كمل الزمان" لا تعني سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة!!
أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات في مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام " الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزى (اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى)(19) الروح القدس، الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم"(20).
كما يروي يوحنا قول المسيح ـ الآتي ـ مع تلاميذه: "إنه خير لكم أن انطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر وعلى دينونة"(21).(9/8)
ويروي كذلك قول المسيح لتلاميذه: "وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ".. ؟!(22).
فمن هو المعزى أو روح القدس أو روح الحق الذي بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا؟!
إن المسيح يقول: إن ذلك المُعَرِّى أو الروح القدس لا يأتي إلا بعد ذهاب المسيح، والمسيح ـ نفسه ـ يُقِرُّ بأن ذلك المُعَرِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا، وأعم نفعاً وأبقى أثراً، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
وكلمة "خير" أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابي ليأتيكم المعزى ولو كان "المُعَزَّى" مساويًا للمسيح في الدرجة لكانا مستويين في الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
ومن باب أولى لو كان "المعزَّى" أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل.
ثم يصف المسيح ذلك المُعَرَّى أو الروح بأوصاف ليست موجودة في المسيح نفسه عليه السلام.
ومن تلك الأوصاف:
أ ـ إنه يعلم الناس كل شيء. وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح في الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.
ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجناس البشر ، عربا وعجماً ، في كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.
جـ ـ إنه يخبر بأمور آتية ، ويذكر بما مضى. وقد تحقق هذا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذي كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم في القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون في الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم... إلخ.
وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذي دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين... إلخ.
ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع في كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أي أنها أرشدت إلى كل شيء. وعلمت كل شيء مما يحتاج تعلمه إلى وحي وتوقيف..!
ذلك هو الإسلام ، ولا شيء غير الإسلام.
وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح عليه السلام بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل, وأنه عبده ورسوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)(23).
وشهادة رسول الإسلام لعيسى عليه السلام منصوص عليها في بشارات عيسى نفسه به (صلى الله عليه وسلم). فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح عليه السلام قوله الآتي: "ومتى جاء المعزَّى الذي سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي.. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء"(24).
روح القدس هذا، أو المعزَّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عيسى لم يبشر بنفسه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبياً بعد عيسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبي قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزَّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى "الأفضلية" إذ هو خاتم النبيين، الذي جاء بشريعة خالدة عامة، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى " وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشِّر وكفي بذلك شواهد.
أما البشارة باسم "الفارقليط" فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقدس.
ومعلوم أن الكتاب المقدس خضع للترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.
وتحت يدي ـ الآن ـ نسختان من الطبعات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط، وموضوع مكانها كلمة المعزى.
بيد أنني وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم "الفارقليط" كما أن الشيخ رحمت الله الهندي (رحمه الله) نقل في كتابه "إظهار الحق" نصوصاً "عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت في لندن معنى "الفارقليط": كلمة يونانية معناها واحد مما يأتي:(9/9)
الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد. أو معناها كل ما تقدم. فمعنى "فارقليط" يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.
وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد.
وفي الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد".
"الفارقليط" روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم"(25).
ومقارنة هذين النصين بالنص المقابل لهما الذي نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديثة حذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التي في الطبعات الحديثة للكتاب المقدس أصلها مترجم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهي " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التي معناها الحماد والحامد... والتي يتمسك بها المسلمون!
وهذه المحاولات مردودة لسببين:
أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التي فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة, وهم غير متهمين في عملهم هذا.
وثانيهما: ولو كانت الكلمة "هي: الباراكليتس" فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة؟!
بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة؟!
وأيًا كان المدار: فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التي أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شيء ـ يمكث معكم إلى الأبد.
فهذه الأوصاف هي لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم في صرفها عنه فلن تنصرف.
ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهي: محمد صلى الله عليه وسلم عربي الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية؟!
رد الشبهة:
نرد عليها من طريقين:
الأول: وهو مستمد من واقع القوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال "بولس" أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفي أيامنا هذه كثرت المنشورات التي تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيح عليه السلام وحوارييه ؟! هل هي العبرانية أم اليونانية؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أي أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات؟!
فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم.؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف!!
وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون!!
الثاني: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربي اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذي جاء به عربي اللسان، عالمي التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة في الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربي ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدها وأجناسها.
وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيمًا، وهذه أبرز ملامحه:
أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.
فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي.
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبط بمصر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمي.
وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغساني شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.
كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.(9/10)
ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية في حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.
ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربي ، ومن النصارى من هم عرب خلص كنصارى نجران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.
رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.
خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت في مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره في انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هي محلها. قضت على القبطية في مصر وعلى الفارسية في الشام وعلى البربرية في شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هي لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.
سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامي ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.
سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربي اللسان واللغة. ومن هؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم في إنماء الفكر الإسلامي منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم.
إن كل مجال من مجالات النشاط العلمي في الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التي كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.
إن وحدة اللغة في الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.
وصلت إلى الهند والصين في أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسي في أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبي فرنسا شمالاً. وتوطدت في قلب الكون:
الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادي، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها في كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها.
وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح في كل مجالات الحياة الإنسانية استوعبت شقيقته الكبرى " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهي لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان. وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا.
إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون في ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربي فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومي لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.
ومسلم غير عربي استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث، والفقه، والتشريع، والنحو، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون.
ولكنه ذنب العرب المسلمين لا ذنب اللغة. فهي مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ في أن يلتقي كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة.
إن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عالمي الدعوة وإن كان عربي اللسان والجنس.
وإن الإسلام الحنيف عالمي التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربياً ، ورواده الأوائل عرباً.
------------------
(1) رددنا على هذه الادعاءات في " الإسلام في مواجهة الاستشراق في العالم " مرجع سبق ذكره.
(2) سفر التثنية: الإصحاح (33) الفقرات (1-2).
(3) سفر التكوين (21 - 21).
(4) سفر التثنية: الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19).
ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟ أي لا أفعل هذا.
(5) الجمعة: 2.
(6) البقرة: 129.
(7) المزمور (45) الفقرات (2 - 17) مع الحذف اليسير. (8) الأنبياء: 107.(9/11)
(9) مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك " ؟! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر!!
(10) سفر أشعياء الأصحاح (60) الفقرات (4-12) مع حذف يسير.
(11) القصص: 57.
(12) (3 ـ3 ـ15) مع الحذف.
(13) الإصحاح (3) الفقرة (2).
(14) الإصحاح (4) الفقرة (17).
(15) الإصحاح (6) الفقرة (9ـ10).
(16) الإصحاح (11) الفقرة (2).
(17) الإصحاح (9) الفقرة (2).
(18) الإصحاح (1) الفقرة (14 ـ15).
(19) هذا إيضاح وليس من النص.
(20) الإصحاح (14) الفقرات (24 ـ 26).
(21) الإصحاح (16) الفقرتان (7 ـ8).
(22) الإصحاح (16) الفقرة (13).
(23) مريم: 34.
(24) الإصحاح (15) فقرتا (26 ـ 27).
(25) انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمت الله الهندي تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا. نشر دار التراث.
------------------------
(4) قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم!
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
ما ذنب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يقع قومه ومن أرسل إليهم في خطيئة الزنا أو أن يكونوا من أصحاب الجحيم؟!! مادام هو صلوات الله وسلامه عليه قد برئ من هذه الخطيئة ولاسيما في مرحلة ما قبل النبوة، وكانت مرحلة الشباب التي يمكن أن تكون إغراءً له ولأمثاله أن يقعوا في هذه الخطيئة؛ لاسيما وأن المجتمع الجاهلي كان يشجع على ذلك, وكان الزنا فيه من الأمور العادية التي يمارسها أهل الجاهلية شبانًا وشيبًا أيضًا. وكان للزنا فيه بيوت قائمة يعترف المجتمع بها، وتُعلق على أبوابها علامات يعرفها بها الباحثون عن الخطيئة، وتعرف بيوت البغايا باسم أصحاب الرايات.
ومع هذا الاعتراف العلني من المجتمع الجاهلي بهذه الخطيئة، ومع أن ممارستها للشباب وحتى للشيب لم تكن مما يكره المجتمع أو يعيب من يمارسونه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقع فيها أبدًا, بل شهدت كل كتب السير والتواريخ له صلى الله عليه وسلم بالطهارة والعفة وغيرهما من الفضائل الشخصية التي يزدان بها الرجال وتحسب في موازين تقويمهم وتقديرهم، وأرسله الله سبحانه ليغير هذا المنكر.
هذه واحدة, والثانية: أن الرسالة التي دعا بها ودعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم حرّمت الزنا تحريماً قاطعاً وحملت آياتها في القرآن الكريم عقاباً شديداً للزاني والزانية يبدأ بعقوبة بدنية هي أن يجلد كل منهما مائة جلدة قاسية يتم تنفيذها علناً بحيث يشهدها الناس لتكون عبرة وزجراً لهم عن التورط فيها كما تقول الآية الكريمة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (1).
فإذا كان الزانيان محصنين أي كل منهما متزوج ارتفعت العقوبة إلى حدّ الإعدام رمياً بالحجارة حتى الموت.
ولا تقف العقوبة عند ذلك, بل نرى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تضع مَنْ يمارسون هذه الخطيئة في مرتبة دونية من البشر حتى لكأنهم صنف منحط وشاذ عن بقية الأطهار الأسوياء فتقول الآية الكريمة عنهم: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (2).
من الذي يحمل المسئولية عن الخطيئة؟ فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد طهر من هذه الخطيئة في المجتمع الذي كان يراها عادية ومألوفة، ثم كانت رسالته صلى الله عليه وسلم تحرمها التحريم القاطع والصريح، وتضع مرتكبيها في مرتبة الانحطاط والشذوذ عن الأسوياء من البشر..
فلِمَ يُعَيّر محمد صلى الله عليه وسلم بأن بعض قومه زناة؟ وهل يصح في منطق العقلاء أن يعيبوا إنساناً بما في غيره من العيوب؟!! وأن يحملوه أوزار الآخرين وخطاياهم؟!!
وهنا يكون للمسألة وجه آخر يجب التنويه إليه وهو خاص بالمسئولية عن الخطيئة أهي فردية خاصة بمن يرتكبونها؟ أم أن آخرين يمكن أن يحملوها نيابة عنهم ويؤدون كفارتها؟!
إن الإسلام يمتاز بأمرين مهمين:
أولهما: أن الخطيئة فردية يتحمل من وقع فيها وحده عقوبتها, ولا يجوز أن يحملها عنه أو حتى يشاركه في حملها غيره وصريح آيات القرآن يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليه ما اكتسبت)(3). ثم: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)(4). وورد هذا النص في آيات كثيرة.
أما الأمر الثاني: فيما أقره الإسلام في مسألة الخطيئة فهو أنها لا تورث، ولا تنقل من مخطئ ليتحمل عنه وزره آخر حتى ولو بين الآباء وأبنائهم وفي هذا يقول القرآن الكريم: (واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً)(5).
(هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)(6).
(ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)(7).
(يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها)(8).
(ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)(9).
(كل نفس بما كسبت رهينة)(10).(9/12)
وغير هذا كثير مما يؤكد ما أقرَّه الإسلام من أن الخطايا فردية وأنها لا تورث ولا يجزى فيها والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.
وما دام الأمر كذلك فلِمَ يُلام محمد صلى الله عليه وسلم ويعاب شخصه أو تعاب رسالته بأن بعض أهله أو حتى كلهم زناة مارسوا الخطيئة التي كان يعترف بها مجتمعه ولا يجزى فيها شيئاً أو ينقص الشرف والمروءة أو يعاب بها عندهم من يمارسها؟!
وحسب محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقع أبداً في هذه الخطيئة لا قبل زواجه ولا بعده، ثم كانت رسالته دعوة كبرى إلى التعفف والتطهر وإلى تصريف الشهوة البشرية في المصرف الحلال الذي حض الإسلام عليه وهو النكاح الشرعي الحلال، ودعا المسلمين إلى عدم المغالاة في المهور تيسيراً على الراغبين في الحلال، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج الرجل بأقل وأيسر ما يملك من المال، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أن شاباً جاءه يرغب إليه في الزواج وما كان معه ما يفي بالمراد فقال له صلى الله عليه وسلم: [التمس ولو خاتماً من حديد](11).
أكثر من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يزوج بعض الصحابة بما يحفظ من القرآن الكريم.
لهذا لم تقع خطايا الزنا في المجتمع في العهد النبوي كله إلا في ندرة نادرة، ربما لأن الحق سبحانه شاء أن تقع وأن يقام فيها الحد الشرعي ليسترشد بها المجتمع في مستقبل الأيام؛ كتشريع تم تطبيقه في حالات محددة يكون هادياً ودليلاً في القضاء والحكم.
هذا عن اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأن أهله زناة، وهو كما أوضحنا اتهام متهافت لا ينال من مقام النبوة ولا يرتقى إلى أقدام صاحبها صلى الله عليه وسلم. وقد أتينا عليه بما تستريح إليه ضمائر العقلاء وبصائر ذوى القلوب النقية.
أما عن اتهامه صلى الله عليه وسلم بأن أهله من أصحاب الجحيم، فهي شهادة لجلال التشريع الذي أنزله الحق - على محمد فأكمل به الدين وأتم به النعمة.
بل إن ما يعيبون به محمداً صلى الله عليه وسلم من أن أهله من أصحاب الجحيم ليس أبداً عيبًا في منطق العقلاء ذوى النصفة والرشد؛ بل إنه وسام تكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولرسالته الكاملة والخاتمة في أن التشريع الذي نزلت به سوَّى بين من هم أقرباء محمد صلى الله عليه وسلم وبين من هم غرباء عنه في جميع الأحكام ثواباً وعقوبة.
بل إن التشريع الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نص صراحة على التزام العدل خاصة حين يكون أحد أطرافه ذا قربى فقال القرآن: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)(12). وقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)(13).
أما في السنة النبوية فحديث المرأة المخزومية ـ من بني مخزوم ذوى الشرف والمكانة ـ التي ارتكبت جريمة السرقة وهى جريمة عقوبتها حدّ السرقة وهو قطع يد السارق كما تنص عليه آيات القرآن، وشغل بأمرها مجتمع المدينة لئلا يطبق عليها الحدّ فتقطع يدها وهى ذات الشرف والمكانة فسعوا لدى أسامة بن زيد – حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لها لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها](14).
وعليه فكون بعض آل محمد وذوي قرباه من أصحاب الجحيم كأبي لهب عمه الذي نزلت فيه سورة المسد: (تبت يدا أبى لهب وتب)(15) وغيره ممن كان نصيرًا لهم مع بقائه على شركه..
كون هؤلاء من أصحاب الجحيم لأنهم بقوا على شركهم ولم تنفعهم قرابتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم هو في الواقع شهادة تقدير تعطى لمحمد ورسالته التي سوَّت في العدل بين القريب وبين الغريب، ولم تجعل لعامل القرابة أدنى تأثير في الانحياز ضد الحق لصالح القريب على الغريب. وما قاله المبطلون هو في الحق وسام وليس باتهام.
وصلى الله وسلم على النبي العظيم.
--------------------------
(1) النور: 2.
(2) النور: 3.
(3) البقرة: 286.
(4) الأنعام: 164.
(5) البقرة 48.
(6) يونس: 30.
(7) إبراهيم: 51.
(8) النحل: 111.
(9) الجاثية: 22.
(10) المدثر: 38.
(11) رواة البخاري [كتاب النكاح].
(12) التوبة: 113.
(13) الأنعام: 152.
(14) رواة البخاري [كتاب أحاديث الأنبياء].
(15) المسد: 1.
-------------------
(5) مات النبي صلى الله عليه وسلم بالسم
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:(9/13)
حين تصاب القلوب بالعمى بسبب ما يغشاها من الحقد والكراهية يدفعها حقدها إلى تشويه الخصم بما يعيب، وبما لا يعيب، واتهامه بما لا يصلح أن يكون تهمة، حتى إنك لترى من يعيب إنساناً مثلاً بأن عينيه واسعتان, أو أنه أبيض اللون طويل القامة، أو مثلاً قد أصيب بالحمى ومات بها، أو أن فلاناً من الناس قد ضربه وأسال دمه؛ فهذا كأن تعيب الورد بأن لونه أحمر مثلاً؛ وغير ذلك مما يستهجنه العقلاء ويرفضونه ويرونه إفلاسًا وعجزًا.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم قدمت له امرأة من نساء اليهود شاة مسمومة فأكل منها فمات صلى الله عليه وسلم.
وينقلون عن تفسير البيضاوي: أنه لما فتحت خيبر واطمأن الناس سألت زينب بنت الحارس - وهى امرأة سلام بن مشكم (اليهودي) - عن أي الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: إنه يحب الذراع لأنه أبعدها عن الأذى, فعمدت إلى عنزة لها فذبحتها, ثم عمدت إلى سمّ لا يلبث أن يقتل لساعته فسمَّت به الشاة، وذهبت بها جارية لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا محمد هذه هدية أهديها إليك.
وتناول محمد الذراع فنهش منها.. فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع والكتف تخبرني بأنها مسمومة؛ ثم سار إلى اليهودية فسألها: لم فعلت ذلك؟ قالت: نلت من قومي ما نلت... وكان ذلك بعد فتح "خيبر" أحد أكبر حصون اليهود في المدينة, وأنه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنها.
ثم يفصحون عن تفسير البيضاوي: أنه صلى الله عليه وسلم لما اقترب موته قال لعائشة ـ رضي الله عنهاـ: "يا عائشة هذا أوان انقطاع أبهري(1).
فليس في موته صلى الله عليه وسلم بعد سنوات متأثرًا بذلك السُّم إلا أن جمع الله له بين الحسنيين، أنه لم يسلط عليه من يقتله مباشرة, وعصمه من الناس, وأيضًا كتب له النجاة من كيد الكائدين, وكذلك كتب له الشهادة ليكتب مع الشهداء عند ربهم, وما أعظم أجر الشهيد.
وأيضًا.. لا شك أن عدم موته بالسم فور أكله للشاة المسمومة وحياته بعد ذلك سنوات يُعد معجزة من معجزاته، وعَلَمًا من أعلام نبوته يبرهن على صدقه، وعلى أنه رسول من عند الله حقًا ويقينًا.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يموت في الأجل الذي أجّله له رغم تأثره بالسم من لحظة أكله للشاة المسمومة حتى موته بعد ذلك بسنوات.
000000000000000000000000
(1) الأبهران: عرقان متصلان بالقلب, وإذا قطعا كانت الوفا
---------------------------
(6) تعدد زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم
أ.د محمود حمدي زقزوق
قالوا إنه صلى الله عليه وسلم:
• تزوج زوجة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة).
• أباح لنفسه الزواج من أي امرأة تهبه نفسها (الخلاصة أنه شهواني).
الرد على الشبهة:
الثابت المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر.
والثابت كذلك أن الزواج المبكر كان من أعراف المجتمع الجاهلي رغبة في الاستكثار من البنين خاصة ليكونوا للقبيلة عِزًّا ومنعة بين القبائل.
ومن الثابت كذلك في سيرته الشخصية صلى الله عليه وسلم اشتهاره بالاستقامة والتعفف عن الفاحشة والتصريف الشائن الحرام للشهوة، رغم امتلاء المجتمع الجاهلي بشرائح من الزانيات اللاتي كانت لهن بيوت يستقبلن فيها الزناة ويضعن عليها " رايات " ليعرفها طلاب المتع المحرمة.
ومع هذا كله ـ مع توفر أسباب الانحراف والسقوط في الفاحشة في مجتمع مكة ـ لم يُعرَف عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا التعفف والطهارة بين جميع قرنائه؛ ذلك لأن عين السماء كانت تحرسه وتصرف عنه كيد الشيطان.
ويُرْوَى في ذلك أن بعض أترابه الشباب أخذوه ذات يوم إلى أحد مواقع المعازف واللهو فغشَّاه الله بالنوم فما أفاق منه إلا حين أيقظه أترابه للعودة إلى دورهم.
هذه واحدة..
أما الثانية فهي أنه حين بلغ الخامسة والعشرين ورغب في الزواج لم يبحث عن "البكر" التي تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مجرد المتعة. وإنما تزوج امرأة تكبره بحوالي خمسة عشر عامًا، ثم إنها ليست بكرًا بل هي ثيب، ولها أولاد كبار أعمار أحدهم يقترب من العشرين؛ وهي السيدة خديجة وفوق هذا كله فمشهور أنها هي التي اختارته بعد ما لمست بنفسها ـ من خلال مباشرته لتجارتها ـ من أمانته وعفته وطيب شمائله صلى الله عليه وسلم.
والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها دامت عشرته بها طيلة حياتها ولم يتزوج عليها حتى مضت عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها - رضي الله عنها - زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعًا إلا إبراهيم الذي كانت أمه السيدة "مارية" القبطية.(9/14)
والرابعة أنه صلى الله عليه وسلم عاش عمره بعد وفاتها - رضي الله عنها - محبًّا لها يحفظ لها أطيب الذكريات ويعدد مآثرها وهي مآثر لها خصوص في حياته وفي نجاح دعوته فيقول في بعض ما قال عنها: [ صدقتني إذ كذبني الناس وأعانتني بمالها ]. بل كان صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الثناء عليها والوفاء لذكراها والترحيب بمن كن من صديقاتها، حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة - رضي الله عنها.
أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فكان كشأن غيره من الأنبياء له أسبابه منها:
أولاً: كان عُمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم في أول زواج له صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة تجاوز الخمسين وهي السنّ التي تنطفئ فيها جذوة الشهوة وتنام الغرائز الحسية بدنيًّا، وتقل فيها الحاجة الجنسية إلى الأنثى وتعلو فيها الحاجة إلى من يؤنس الوحشة ويقوم بأمر الأولاد والبنات اللاتي تركتهم خديجة - رضي الله عنها -.
وفيما يلي بيان هذا الزواج وظروفه.
الزوجة الأولى: سودة بنت زمعة: كان رحيل السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثير أحزان كبرى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي محيط الصحابة - رضوان الله عليهم - إشفاقًا عليه من الوحدة وافتقاد من يرعى شئونه وشئون أولاده. ثم تصادف فقدانه صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب نصيره وظهيره وسُمِّىَ العام الذي رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عام الحزن.
في هذا المناخ.. مناخ الحزن والوحدة وافتقاد من يرعى شئون الرسول وشئون أولاده سعت إلى بيت الرسول واحدة من المسلمات تُسمى خولة بنت حكيم السلمية وقالت: له يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلّة لفقد خديجة فأجاب صلى الله عليه وسلم: [ أجل كانت أم العيال وربة البيت]، فقالت يا رسول الله: ألا أخطب عليك ؟.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولكن – من بعد خديجة ؟! فذكرت له عائشة بنت أبى بكر فقال الرسول: لكنها ما تزال صغيره فقالت: تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. قال الرسول ولكن من للبيت ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟ فقالت خولة: إنها سودة بنت زمعة، وعرض الأمر على سودة ووالدها: فتم الزواج ودخل بها صلى الله عليه وسلم بمكة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن سودة هذه كانت زوجة للسكران بن عمرو وتوفي عنها زوجها بمكة فلما حلّت تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة عشر من النبوة.
وعجب المجتمع المكي لهذا الزواج لأن "سودة" هذه ليست بذات جمال ولا حسب ولا تصلح أن تكون خلفًا لأم المؤمنين خديجة التي كانت عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها جميلة وضيئة وحسيبة تطمح إليها الأنظار.
وهنا أقول للمرجفين الحاقدين: هذه هي الزوجة الأولى للرسول بعد خديجة، فهي مؤمنة هاجرت الهجرة الأولى مع من فرّوا بدينهم إلى الحبشة وقد قَبِلَ الرسول زواجها حماية لها وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة.
وليس الزواج بها سعارَ شهوة للرسول ولكنه كان جبرًا لخاطر امرأة مؤمنة خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفي زوجها وتركها امرأة تحتاج هي وبنوها إلى من يرعاهم.
الزوجة الثانية بعد خديجة: عائشة بنت أبى بكر الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من آمن الناس علىّ في ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام..".
ومعروف من هو أبو بكر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن عطائه للدعوة " ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبى بكر "، وأم عائشة هي أم رومان بنت عامر الكناني من الصحابيات الجليلات، ولما توفيت نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها واستغفر لها وقال: "اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم"، وقال عنها يوم وفاتها:
"من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" ولم يدهش مكة نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين؛ بل استقبلته كما تستقبل أمرًا متوقعاً؛ ولذا لم يجد أي رجل من المشركين في هذا الزواج أي مطعن - وهم الذين لم يتركوا مجالاً للطعن إلا سلكوه ولو كان زورًا وافتراء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عامًا ليس بدعا ولا غريبًا لأن هذا الأمر كان مألوفًا في ذلك المجتمع. لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب - على محمد صلى الله عليه وسلم - جعلوا من هذا الزواج اتهامًا للرسول وتشهيرًا به بأنه رجل شهواني غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعًا في ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات كما في هذه النماذج:
- فقد تزوج عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم من هالة بنت عم آمنة التي تزوجها أصغر أبنائه عبد الله ـ والد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.(9/15)
- وعرض عمر على أبى بكر أن يتزوج ابنته الشابة " حفصة " وبينهما من فارق السن مثل الذي بين المصطفي صلى الله عليه وسلم وبين " عائشة " (1).
كان هذا واقع المجتمع الذي تزوج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة. لكن المستشرقين والممتلئة قلوبهم حقدًا من بعض أهل الكتاب لم ترَ أعينهم إلا زواج محمد بعائشة والتي جعلوها حدث الأحداث - على حد مقولاتهم - أن يتزوج الرجل الكهل بالطفلة الغريرة العذراء (2).
قاتل الله الهوى حين يعمى الأبصار والبصائر!
الزوجة الثالثة: حفصة بنت عمر الأرملة الشابة: توفي عنها زوجها حنيس بن حذافة السهمي وهو صحابي جليل من أصحاب الهجرتين - إلى الحبشة ثم إلى المدينة - ذلك بعد جراحة أصابته في غزوة أُحد حيث فارق الحياة وأصبحت حفصة بنت عمر بن الخطاب أرملة وهي شابة.
وكان ترمّلها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يحزنه أن يرى جمال ابنته وحيويتها تخبو يومًا بعد يوم..
وبمشاعر الأبوة الحانية وطبيعة المجتمع الذي لا يتردد فيه الرجل من أن يخطب لابنته من يراه أهلاً لها..
بهذه المشاعر تحدث عمر إلى الصديق " أبى بكر " يعرض عليه الزواج من حفصة لكن أبا بكر يلتزم الصمت ولا يرد بالإيجاب أو بالسلب.
فيتركه عمر ويمضى إلى ذي النورين عثمان بن عفان فيعرض عليه الزواج من حفصة فيفاجئه عثمان بالرفض..
فتضيق به الدنيا ويمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث فيكون رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو قوله: [يتزوج حفصةَ خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان خيرًا من حفصة] (3).
وأدركها عمر - رضي الله عنه - بفطرته إذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول نفسه وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة وارتياح القلب إلى أن الله قد فرّج كرب ابنته.
الزوجة الرابعة: أم سلمة بنت زاد الراكب: من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وكان زوجها (أبو سلمة) عبد الله ابن عبد الأسد المخزومي أول من هاجر إلى يثرب (المدينة) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. جاءت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة بعد وفاة " أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية " بزمن غير قصير.
سليلة بيت كريم، فأبوها أحد أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب؛ إذ كان لا يرافقه أحد في سفر إلا كفاه زاده.
وزوجها الذي مات عنها صحابي من بني مخزوم ابن عمة المصطفي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ذو الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة. وكانت هي و زوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معًا وقد حدث لها ولطفلها أحداث أليمة ومثيرة ذكرتها كتب السير. رضي الله عن أم سلمة..
ولا نامت أعين المرجفين.
الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش: لم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها في العمل الذي تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل؟(4).
هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها– عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا: أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.
ويرد الدكتور هيكل في كتابه "حياة محمد"(5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت في النفوس منذ الحروب الصليبية هي التي تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.
والحق الذي كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبني ـ التي هي في الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها في واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.
ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت في مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبي الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفي بيته الإعلان العلمي عن إبطال هذه العادة.
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التي جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد في هذه ـ المسألة و في موضوع الزواج بزينب حيث تقول: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(6).
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم )(7).
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً)(8).(9/16)
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبني من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة في المجتمع الجاهلي الذي كانت عادة التبني أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير في بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهي به ضراتها وتقول لهن:" زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سمَاوات"(9).
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته في تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهي الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد في عرف المجتمع المكي كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذي لا يمثل حُلم من تكون في مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ في نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء في البخاري من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله](10) قال أنس: لو كان النبي كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هي بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة – وهو الذي زوجها لمولاه "زيد" ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛ وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء في المجتمع الجاهلي غير محجبات فما كان يمنعه – إذًا – من أن يتزوجها من البداية؟! ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدري شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين في قضية إبطال عادة "التبني" التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التي تعلقت بالموضوع في سورة الأحزاب.
أما الجملة التي وردت في قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)(11). فإن ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبني(12).
الزوجة السادسة: جويرية بنت الحارث الخزاعية: الأميرة الحسناء التي لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها أهل مائة بيت من بني المصطلق (التي هي منهم).
كانت ممن وقع في الأسر بعد هزيمة بني المصطلق من اليهود في الغزوة المسماة باسمهم. وكاتبها من وقعت في أسره على مال فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أو خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: وقد أفاقت من مشاعر الهوان والحزن: نعم يا رسول الله. قال: قد فعلت"(13).
وذاع الخبر بين المسلمين: أن رسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق وقائدهم في هذه الغزوة..
معنى هذا أن جميع من بأيديهم من أسرى بني المصطلق قد أصبحوا بعد هذا الزواج كأنهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تيار من الوفاء والمجاملة من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم تجسد في إطلاق المسلمين لكل من بأيديهم من أسرى بني المصطلق وهم يقولون: أصهار رسول الله، فلا نبقيهم أسرى.
ومع أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأسيرة بنت سيد قومها والذي جاءته ضارعة مذعورة مما يمكن أن تتعرض له من الذل من بعد عزة.. فإذا هو يرحمها بالزواج، ثم يتيح لها الفرصة لأن تعلن إسلامها وبذا تصبح واحدة من أمهات المؤمنين.
ويقولون: إنه نظر إليها.
وأقول: أما أنه نظر إليها فهذا لا يعيبه ـ وربما كان نظره إليها ضارعة مذعورة – هو الذي حرك في نفسه صلى الله عليه وسلم عاطفة الرحمة التي كان يأمر بها بمن في مثل حالتها ويقول: [ارحموا عزيز قوم ذل]، فرحمها وخيرها فاختارت ما يحميها من هوان الأسر ومذلة الأعزة من الناس.(9/17)
على أن النظر شرعًا مأذون به عند الإقدام على الزواج - كما في هذه الحالة - وكما أمر به صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عند رغبته في الزواج - قائلاً له: [انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما](14).
وقد توفيت في دولة بنى أمية وصلى عليها عبد الملك بن مروان وهي في السبعين من العمر - رضي الله عنها.
الزوجة السابعة: صفية بنت حُيىّ ـ عقيلة بنى النضير: إحدى السبايا اللاتي وقعن في الأسر بعد هزيمة يهود بني النضير أمام المسلمين في الوقعة المسماة بهذا الاسم، كانت من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها: فماذا في ذلك؟! ولم يكن عتقه إياها وتزوجها بدعًا في ذلك؛ وإنما كان موقفًا جانب الإنسانية فيه هو الأغلب والأسبق.
فلم يكن هذا الموقف إعجابًا بصفية وجمالها؛ ولكنه موقف الإنسانية النبيلة التي يعبر عنها السلوك النبيل بالعفو عند المقدرة والرحمة والرفق بمن أوقعتهن ظروف الهزيمة في الحرب في حالة الاستضعاف والمذلة, لا سيما وقد أسلمن وحسن إسلامهن.
فقد فعل ذلك مع "صفية بنت حُيىّ" بنت الحارس عقيلة بني النضير (اليهود) أمام المسلمين في الموقعة المعروفة باسم (غزوة بني قريظة) بعد انهزام الأحزاب وردّهم مدحورين من وقعة الخندق.
الزوجة الثامنة: أم حبيبة بنت أبى سفيان نجدة نبوية لمسلمة في محنة: إنها أم حبيبة "رملة" بنت أبى سفيان كبير مشركي مكة وأشد أهلها خصومة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
كانت زوجًا لعبيد الله بن جحش وخرجا معًا مهاجرين بإسلامهما في الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكما هو معروف أن الحبشة في عهد النجاشي كانت هي المهجر الآمن للفارين بدينهم من المسلمين حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم وعدوانهم عليهم؛ فإذا هم يجدون في – ظل النجاشي – رعاية وعناية لما كان يتمتع به من حس إيماني جعله يرحب بأتباع النبي الجديد الذي تم التبشير بمقدمه في كتبهم على لسان عيسى بن مريم– عليه السلام – كما تحدث القرآن عن ذلك في صورة الصف في قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد)(15).
لكن أم حبيبة بنت أبى سفيان كانت وحدها التي تعرضت لمحنة قاسية لم يتعرض لمثلها أحد من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة؛ ذلك أن زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلن ارتداده عن الإسلام ودخوله في النصرانية وما أصعب وأدق حال امرأة باتت في محنة مضاعفة: محنتها في زوجها الذي ارتد وخان..
ومحنتها السابقة مع أبيها الذي فارقته مغاضبة إياه في مكة منذ دخلت في دين الله (الإسلام)..
وفوق هاتين المحنتين كانت محنة الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن ثم كانت محنة حملها بالوليدة التي كانت تنتظرها والتي رزقت بها من بعد وأسمتها "حبيبة".. كان هذا كله أكبر من عزم هذه المسلمة الممتحنة من كل ناحية والمبتلاة بالأب الغاضب والزوج الخائن!!
لكن عين الله ثم عين محمد صلى الله عليه وسلم سخرت لها من لطف الرعاية وسخائها ما يسّر العين ويهون الخطب، وعادت بنت أبى سفيان تحمل كنية جديدة، وبدل أن كانت " أم حبيبة " أصبحت " أم المؤمنين " وزوج سيد المسلمين - صلوات الله وسلامه عليه.
والحق أقول: لقد كان نجاشي الحبشة من خلّص النصارى فأكرم وفادة المهاجرين عامة وأم المؤمنين بنت أبى سفيان بصفة خاصة. فأنفذ في أمرها مما بعث به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها له.
وكانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة بنت أبى سفيان نعم الإنقاذ والنجدة لهذه المسلمة المبتلاة في الغربة؛ عوضتها عن الزوج الخائن برعاية سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ وعوضتها عن غضب الأب "أبى سفيان" برعاية الزوج الحاني الكريم صلوات الله عليه.
كما كانت هذه الخطبة في مردودها السياسي ـ لطمة كبيرة لرأس الكفر في مكة أبى سفيان بن حرب الذي كان تعقيبه على زواج محمد لابنته هو قوله: "إن هذا الفحل لا يجدع أنفه"؛ كناية عن الاعتراف بأن محمدًا لن تنال منه الأيام ولن يقوى أهل مكة - وهو على رأسهم - على هزيمته والخلاص منه لأنه ينتقل كل يوم من نصر إلى نصر.
كان هذا الاعتراف من أبى سفيان بخطر محمد وقوته كأنه استشفاف لستر الغيب أو كما يقول المعاصرون: تنبؤ بالمستقبل القريب وتمام الفتح.
فما لبث أن قبل أبو سفيان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى الإسلام وشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وتقدم أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله قائلاً: " إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فهلا جعلت له ما يحل عقدته ويسكن حقده وغيظه، فقال صلوات الله وسلامه عليه في ضمن إعلانه التاريخي الحضاري العظيم لأهل مكة عند استسلامهم وخضوعهم بين يديه:
• من دخل داره فهو آمن.
• ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
• ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن "(16).(9/18)
وانتصر الإسلام وارتفع لواء التوحيد ودخل الناس في دين الله أفواجًا. وفي مناخ النصر العظيم.. كانت هي سيدة غمرتها السعادة الكبرى بانتصار الزوج ونجاة الأب والأهل من شر كان يوشك أن يحيط بهم.
تلكم هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبى سفيان التي أحاطتها النجدة النبوية من خيانة الزوج وبلاء الغربة ووضعتها في أعز مكان من بيت النبوة.
الزوجة التاسعة: ميمونة بنت الحارث الهلالية أرملة يسعدها أن يكون لها رجل: آخر أمهات المؤمنين.. توفي عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزّى العامري؛ فانتهت ولاية أمرها إلى زوج أختها العباس الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث بنى بها الرسول ـ في " سرف " قرب " التنعيم" على مقربة من مكة حيث يكون بدء الإحرام للمعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.
وقيل: إنه لما جاءها الخاطب بالبشرى قفزت من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي والتي نزل فيها قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين..)(17).
كانت آخر أمهات المؤمنين وآخر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه.
----------------
(1) تراجم لسيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ: ص 250 وما بعدها.
(2) المصدر السابق.
(3) انظر سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ ص 324 (4) صحيح مسلم كتاب الفضائل.
(5) حياة محمد ص 29.
(6) الأحزاب: 40.
(7) الأحزاب: 5.
(8) الأحزاب: 37.
(9) رواه البخاري (كتال التوحيد 6108).
(10) رواه البخاري (كتاب التوحيد).
(11) الأحزاب: 37.
(12) انظر فتح الباري 8 / 371 عن سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ ص 354.
(13) رواه البخاري: فتح الباري _ كتال النكاح باب 14.
(14) رواه البخاري: فتح الباري ـ كتاب النكاح باب 36.
(15) الصف: 6.
(16) رواه البخاري – فتح الباري – " كتاب المغازي ".
(17) الأحزاب: 50.
---------------------
(7) محاولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الحق الذي يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التي استندتم إليها ـ يا خصوم الإسلام ـ ليست صحيحة رغم ورودها في صحيح البخاري ـ رضي الله عنه ـ؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة، ولكن أوردها تحت عنوان "البلاغات" يعني أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ، ومعروف أن البلاغات في مصطلح علماء الحديث: إنما هي مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن(1).
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(2) بقوله: "إن القائل بلغنا كذا هو الزهري، وعنه حكى البخاري هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرماني: وهذا هو الظاهر".
هذا هو الصواب، وحاشا أن يُقدم رسول الله ـ وهو إمام المؤمنين ـ على الانتحار، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتني بها، وقد قال القرآن الكريم في ذلك: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(3).
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - في علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
وحين فتر (تأخّر) الوحي بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذي كان ينزل عليه الوحي فيه يستشرف لقاء جبريل، فهو محبّ للمكان الذي جمع بينه وبين حبيبه بشيء من بعض السكن والطمأنينة، فماذا في ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي وما يدع؟ وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (4).
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار، ولكنها تعبير أدبي عن حزن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر في قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه). فكان رده: (سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: (هل كنت إلا بشراً رسولاً)(5).(9/19)
أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
حيث ثبت في صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها؛ منها نبع الماء من بين أصابعه، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة، ومنها تكثير الطعام حتى يكفي الجم الغفير، وله معجزة دائمة هي معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذي وعد الله بحفظه فَحُفِظَ، ووعد ببيانه؛ لذا يظهر بيانه في كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه.
(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص 38، طبعة التعاون.
(2) فتح الباري ج12 ص 376.
(3) الإسراء: 93.
(4) الشعراء: 3.
(5) الإسراء: 93.
-------------------
(8) ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عادية
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
س ـ عليه السلام ـ تمت على هبة من الله تبارك وتعالى للسيدة العذراء مريم ـ عليها السلام ـ وليس من خلال الزواج بينها وبين رجل. فبعض أهل الكتاب (النصارى منهم خاصة) يتصورون أن كل نبي لا بد أن يولد بمثل هذه الطريقة.
وإذا كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم مثل غيره من ملايين خلق الله فإن هذا عندهم مما يعيبونه به صلى الله عليه وسلم ويطعنون في صحة نبوته.
1- فلم يدركوا أن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم هي واحدة من القسمات التي شاركه فيها كل رسل الله تعالى منذ نوح وإبراهيم وغيرهما من بقية رسل الله إلى موسى ـ عليه السلام ـ الذين ولدوا جميعاً من الزواج بين رجل وامرأة. ولم يولد من غير الزواج بين امرأة ورجل إلا عيسى ـ عليه السلام ـ وكان هذا خصوصية له لم تحدث مع أي نبي قبله، ولم تحدث كذلك مع محمد صلى الله عليه وسلم.
2- كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاناً لكونه بشراً من البشر يولد كما يولد البشر ويجرى عليه من الأحوال في أكله وشربه، وفي نومه وصحوه، وفي رضاه وغضبه وغير ذلك مما يجرى على البشر كالزواج والصحة والمرض والموت أيضاً.
3- كان محمد صلى الله عليه وسلم يعتز بهذه البشرية ويراها سبيله إلى فهم الطبيعة البشرية وإدراك خصائصها وصفاتها فيتعامل معها بما يناسبها، وقد اعتبر القرآن ذلك ميزة له في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)(1).
4- كما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم اعتزازه بهذه البشرية وعجزها حين أعلن قومه أنهم لن يؤمنوا به إلا إذا فجّر لهم ينابيع الماء من الأرض، أو أن يكون له بيت من زخرف، أو أن يروه يرقى في السماء وينزل عليهم كتاباً يقرأونه، فكان رده صلى الله عليه وسلم كما حكاه القرآن: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(2).
5- لقد قرر القرآن قاعدة كون الرسل من جنس من يرسلون إليهم؛ بمعنى أن يكون المرسلون إلى الناس بشراً من جنسهم، ولو كان أهل الأرض من جنس غير البشر لكانت رسل الله إليهم من نفس جنسهم وذلك في قوله تعالى: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً)(3).
وعلى المعنى نفسه جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك)(4). وقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا)(5). وقوله تعالى: (لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)(6). وقوله تعالى: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله..)(7). وقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم)(8).
وغير هذا كثير مما أكده القرآن وهو المنطق والحكمة التي اقتضتها مشيئته ـ تعالى ـ لما هو من خصائص الرسالات التي توجب أن يكون المرسل إلى الناس من جنسهم حتى يحسن إبلاغهم بما كلفه الله بإبلاغه إليهم وحتى يستأنسوا به ويفهموا عنه.
ومن هنا تكون "بشرية الرسول" بمعنى أن يجري عليه ما يجري على الناس من البلاء والموت ومن الصحة والمرض وغيرها من الصفات البشرية فيكون ذلك أدعى لنجاح البلاغ عن الله.
-------------------------------
(1) التوبة: 128.
(2) الإسراء: 93.
(3) الإسراء: 95.
(4) البقرة: 195.
(5) البقرة 151.
(6) آل عمران: 164.
(7) المؤمنون: 32.
(8) الجمعة: 2.
---------------------
(9) يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الحق أن الصلاة على محمد، صلى الله عليه وسلم، من ربه ومن المؤمنين ليست دليل حاجة، بل هي مظهر تكريم واعتزاز وتقدير له من الحق سبحانه، وتقديرًا له من أتباعه، وليست كما يزعم الظالمون لسد حاجته عند ربه؛ لأن ربه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
لأن أية مقارنة منصفة بين ما كان عليه، صلى الله عليه وسلم، وبين غيره من أنبياء الله ورسله ترتفع به ليس فقط إلى مقام العصمة؛ بل إلى مقام الكمال الذي أتم به الله الرسالات، وأتم به التنزيل، وأتم به النعمة، فلم تعد البشرية بعد رسالته، صلى الله عليه وسلم، بحاجة إلى رسل ورسالات.(9/20)
لذلك فإن رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي الخاتمة والكاملة حملت كل احتياجات البشرية وما يلزمها من تشريعات ونُظم ومعاملات، وما ينبغي أن تكون عليه من أخلاق وحضارة مما افتقدت مثل كماله كل الرسالات السابقة.
وحسبُ رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، أنها جاءت رحمة عامة للبشرية كلها، كما قال القرآن: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(1).
فلم تكن كما جاء ما قبلها رسالة خاصة بقوم رسولهم، كما قال تعالى:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(2).
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(3).
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(4).
وهكذا كل رسول كان مرسلاً إلى قومه..
وكانت رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى العالمين وإلى الناس كافة، كما جاء في قوله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(5).
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرًا)(6).
ورسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت فوق كونها عالمية، فقد كانت هي الخاتمة والكاملة التي ـ كما أشرنا ـ تفي باحتياجات البشر جميعاً، وتقوم بتقنين وتنظيم شئونهم المادية والمعنوية عبر الزمان والمكان بكل ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
وفي هذا قال الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(7).
وقال في وصفه لإكمال الدين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (الإسلام): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(8).
إن عموم رسالة محمد إلى العالمين، وباعتبارها الرسالة الكاملة والخاتمة؛ يعني امتداد دورها واستمرار وجودها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مصداقاً لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(9).
-------------------------------
(1) الأنبياء: 107.
(2) الأعراف: 65.
(3) الأعراف: 72.
(4) الأعراف: 85.
(5) الأنبياء: 107.
(6) سبأ: 28.
(7) الأحزاب: 40.
(8) المائدة: 3.
(9) التوبة: 33 ، الفتح: 28 ، والصف: 9.
----------------------
(10) محمد صلى الله عليه وسلم أُمّي فكيف علّم القرآن؟!
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
والأمّي إما أن يكون المراد به من لا يعرف القراءة والكتابة أخذًا من " الأمية "، وإما أن يكون المراد به من ليس من اليهود أخذًا من " الأممية "؛ حسب المصطلح اليهودي الذي يطلقونه على من ليس من جنسهم.
فإذا تعاملنا مع هذه المقولة علمنا أن المراد بها من لا يعرف القراءة والكتابة فليس هذا مما يعاب به الرسول، بل لعله أن يكون تأكيدًا ودليلاً قويًا على أن ما نزل عليه من القرآن إنما هو وحي أُوحي إليه من الله لم يقرأه في كتاب ولم ينقله عن أحد ولا تعلمه من غيره. بهذا يكون الاتهام شهادة له لا عليه.
وقد ردّ القرآن على هذه المقولة ردًا صريحًا في قوله:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)(1).
وحسبُ النبي الأمي ـ الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ـ أن يكون الكتاب الذي أُنزل عليه معجزًا لمشركي العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة؛ بل ومتحديًا أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
كفاه بهذا دليلاً على صدق رسالته وأن ما جاء به ـ كما قال بعض كبارهم ـ " ليس من سجع الكهان، ولا من الشعر، ولا من قول البشر ".
أما إذا تعاملنا مع مقولتهم عن محمد (إنه " أمّي " على معنى أنه من الأمميين ـ أي من غير اليهود ـ فما هذا مما يعيبه. بل إنه لشرف له أنه من الأمميين أي أنه من غير اليهود.
ذلك لأن اعتداد اليهود بالتعالي على من عداهم من " الأمميين "، واعتبار أنفسهم وحدهم هم الأرقى والأعظم وأنهم هم شعب الله المختار ـ كما يزعمون. كل هذا مما يتنافي تمامًا مع ما جاء به محمد (من المساواة الكاملة بين بني البشر رغم اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم على نحو ما ذكره القرآن؛ الذي اعتبر اختلاف الأجناس والألوان والألسنة هو لمجرد التعارف والتمايز؛ لكنه ـ أبدًا ـ لا يعطي تميزًا لجنس على جنس، فليس في الإسلام ـ كما يزعم اليهود ـ أنهم شعب الله المختار.
ولكن التمايز والتكريم في منظور الإسلام إنما هو بالتقوى والصلاح؛ كما في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2).
00000000000000000
(1) الفرقان: 5 – 6.
(2) الحجرات: 13.(9/21)
-----------------------
(11) تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
وهى من أسوأ المفتريات على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال ربه عز وجل عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(1).
لكن الحقد حين يتمكن من قلوب الحاقدين يدفعهم إلى المنكر من القول ومن الزور؛ حتى إنهم ليتجرءون على قولٍ لا يقبله عقل عاقل، ولا يجرؤ على مثله إلا المفترون.
في هذه المقولة زعموا أنه حين كان ينزل عليه الوحي بالآيات التي أثبت العلم الحديث المعاصر أنها من أبرز آيات الإعجاز العلمي في القرآن فيما تتصل بمراحل خلق الإنسان من سلالة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم يكون إنشاؤه خلقًا آخر..
زعموا أن كاتب وحيه قال مادحًا مَنْ هذا خلقه: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(2).
ثم أفرطوا في زعمهم؛ فقالوا إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: اكتبها فهكذا نزلت علىّ..
وهنا لابد من وقفة:
فأولاً: مما هو ثابت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا نزل عليه الوحي يأخذ العرق يتصبب من جسده، ويكون في غيبة عمن حوله.. فإذا انقضى الوحي أخذ في ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن، وهذا ما تقرّره كل كتب السيرة.
ثانياً: معنى ما سبق أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأخذ في الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحي، واكتمال نزول الآيات المتعلقة بمراحل خلق الإنسان في سورة " المؤمنون ".
ثالثًا: وبهذا يتضح كذب المقولة أن كاتب وحيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي أملاها عليه وأنه أمر بإثباتها.
رابعًا: إن لفظة " تبارك الله " تكررت في القرآن الكريم تسع مرات، تلتقي جميعها في مواضع يكون الحديث فيها عن قدرة الخالق فيما خلق من مثل قوله تعالى:
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(3).
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(4).
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(5).
(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)(6).
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(7).
فلماذا تعلّم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كاتب وحيه آية " المؤمنون " دون غيرها مما جاء في بقية السور؟!!
0000000000000000000
(1) النجم: 3 ـ 4.
(2) المؤمنون: 14.
(3) الأعراف: 55.
(4) الفرقان: 1.
(5) الفرقان: 61.
(6) الزخرف: 85.
(7) الملك: 1.
-----------------------
(12) محمد صلى الله عليه وسلم يُعظّم الحجر الأسود
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
إنهم في هذه المقولة ـ يريدون أن يتهموه بأنه كان يُعظّم الحجر الأسود ـ بل ويُعظّم الكعبة كلها بالطواف حولها، وهي حجر لا يختلف ـ في زعمهم ـ عن الأحجار التي كانت تُصنع منها الأوثان في الجاهلية، وكأن الأمر سواء!!
وحقيقة الأمر أن من بعض ما استبقاه الإسلام من أحوال السابقين ما كان فيه من تعاون على خير أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، من ذلك ثناء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حِلف كان في الجاهلية يسمى " حِلف الفضول "، وهو عمل إنساني كريم كان يتم من خلاله التعاون على نصرة المظلوم، وفداء الأسير، وإعانة الغارمين، وحماية الغريب من ظلم أهل مكة، وهكذا..
وقد أثنى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الحلف، وقال: "لو دعيت إلى مثله لأجبت".
وأيضًا كان مما استبقاه الإسلام من فضائل السابقين مما ورثوه عن إبراهيم - عليه السلام - تعظيمهم للبيت الحرام وطوافهم به؛ بل وتقبيلهم للحجر الأسود.
وهناك بعض مرويات تقول إن هذا الحجر من أحجار الجنة.
وهنا فقط لا يكون أمامنا إلا ما ثبت من أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُقبل الحجر الأسود عند طوافه بالبيت، وهو ما تنطق به الرواية عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال عن تقبيله لهذا الحجر: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبلك ما قبلتك).
وهنا نقول:
من المستحيل أن يكون تقبيل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحجر الأسود من باب المجاراة أو المشاكلة لعبدة الأصنام فيما كانوا يفعلون.
ومستحيل أيضًا أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فعل ذلك - أي تقبيل الحجر الأسود - دون وحي أو إلهام وجّهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تقبيل الحجر بعيدًا بعيدًا عن أية شبهة وثنية أو مجاراة لعبدة الأصنام.
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: [خذوا عنى مناسككم]؛ فقد أصبح تقبيل الحجر الأسود من بعض مناسك الحجاج والعمّار للبيت الحرام.(9/22)
كما أن تعظيم الحجر الأسود هو امتثال لأوامر الله الذي أمر بتعظيم هذا الحجر بالذات، وهو سبحانه الذي أمر برجم حجر آخر كمنسك من مناسك الحج؛ فالأمر بالنسبة للتعظيم أو الرجم لا يعدو كونه إقرارًا بالعبودية لله تعالى وامتثالاً لأوامره عز وجل واستسلامًا لأحكامه.
-----------------------
(13) كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
أخذوا ذلك من فهم مغلوط لآيات سورة الإسراء: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً )(1).
بعض ما قيل في سبب نزول هذه الآية أن وفد ثقيف قالوا للرسول، صلى الله عليه وسلم، أجّلنا سنة حتى نقبض ما يُهدى لآلهتنا من (الأصنام)، فإذا قبضنا ذلك كسّرناها وأسلمنا؛ فهَمّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقبول ذلك فنزلت الآية.
قوله تعالى: " كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ " أي هممت أو قاربت أن تميل لقبول ما عرضوه عليك؛ لولا تثبيت الله لك بالرشد والعصمة، ولو فعلت لعذبناك ضعف عذاب الحياة وعذاب الممات؛ يعني: قاربت أن تستجيب لما عرضوه، لكنك بتثبيت الله لم تفعل لعصمة الله لك.
وكل مَنْ هُمْ على مقربة من الثقافة الإسلامية يعرفون أن " الهمّ " ـ أي المقاربة لشيء دون القيام به أو الوقوع فيه ـ لا يُعتبر معصية ولا جزاء عليه، وهو مما وضِع عن الأمة وجاء به ما صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله:
(وضِع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به)؛ وعليه.. فإنه لا إثم ولا شيء يُؤخذ على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك.
000000000000000000
(1) الإسراء: 73-75.
------------------------
(14) قَاتَلَ محمد صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
وذلك لما ورد في آيات سورة البقرة:
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (1).
والمسلمون جميعاً وعلى رأسهم إمامهم ورسولهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم وعدم القتال فيها، واعتبار القتال فيها حدثًا كبيرًا أو كأنه كبيرة من الكبائر..
لكن ما الذي يفعله المسلمون إذا ما ووجِهوا من أعدائهم من المشركين بالقتال والعدوان على الأنفس والأموال والأعراض، ليس هذا فحسب بل ماذا يفعل المسلمون إذا فوجئوا بمن يخرجهم من المسجد الحرام وهم أهله وهم أولى به من غيرهم ؟!
إن قانون " الدفع الحضاري " الذي يقره القرآن الكريم لحماية الكون من إفساد المتجبرين والظلمة، ثم لحماية بيوت العبادة للمسلمين والنصارى واليهود أيضًا، والذي عبّرت عنه الآيتان الكريمتان: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(2). وقوله: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3). هذا القانون القرآني ـ وليس قانون من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ـ هو وحده الذي يحمي الكون والناس من إفساد المتجبرين وظلم الظالمين.
وذلك على أساس أن من يمكّن الله لهم في الأرض بما يمنحهم من القوة والثروة والعلم يجب - وبحسب القانون القرآني - أن يكونوا صالحين وأخيارًا؛ بمعنى: أن يستخدموا قوتهم وثروتهم وعلمهم لا في الطغيان والتجبر، ولكن في حماية القيم النبيلة التي يُحمى بها العدل والحق وتمكّن لكل ما هو خير، وتنفي كل ما هو شر حتى تنعم البشرية بالأمن والاستقرار، وتعتدل أمور الحياة والناس.
وهذا ما جاءت الآية التالية للآيتين السابقتين لتقره؛ حيث يقول الله عز وجل: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(4).
ولأن إقرار حقوق عباد الله في أرض الله وحماية المستضعفين من بطش المتجبرين لا يقل حرمة عند الله من حرمة الأشهر الحرم؛ فقد أبيح القتال فيها لمن ظُلموا من المسلمين ومن فُتنوا في دينهم وأُخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا.(9/23)
وهذا ما تقرره الآية: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(5).
0000000000000000
(1) البقرة: 217.
(2) البقرة: 251.
(3) الحج: 40.
(4) الحج: 41.
(5) البقرة: 217.
------------------------
(15) محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما في القرآن
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
أخذوها من فهمهم الخاطئ في مفتتح سورة "الفتح": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا)(1). فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!
وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كتاب كبير مفتوح استوفي فيه كُتَّاب سيرته كل شيء في حياته. في صحوه ونومه وفي حربه وسلمه، وفي عبادته وصلواته، في حياته مع الناس بل وفي حياته بين أهله في بيته.
ليس هذا فحسب, بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه صلى الله عليه وسلم وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال صلى الله عليه وسلم كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته صلى الله عليه وسلم بالصوت والصورة..
ثم جاء القرآن الكريم فسجّل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(2). ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(3). ثم لخص القرآن مجمل شمائله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)(4).
أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذي بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء في سورة الأحزاب في أمر الزواج بزينب بنت جحش, والذي كان القصد التشريعي فيه إبطال عادة التبني من قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا و كان أمر الله مفعولاً)(5).
أقول: مع أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي كتاب مفتوح لم يخفِ التاريخ منه شيئاً, بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه صلى الله عليه وسلم مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم ذلةً ولا ذنبًا في قول أو عمل.
أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا: إنه "مذنب"؟!!!
ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم على شيء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتي كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد صلى الله عليه وسلم - كما ادعيتم – من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.
ونقف أمام الذنب في منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر), فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هي عصمة جميع أنبيائه وفي قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقرّه ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفي الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا في رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.
فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته صلى الله عليه وسلم ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية, لا ما تحدده أعراف الناس.
ومع هذا كله فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به صلى الله عليه وسلم من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب, حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.
أفبعد هذا لا يستحي الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)(6).
000000000000000
(1) الفتح: 2.
(2) الأنبياء 117.
(3) التوبة: 128.
(4) القلم: 5.
(5) الأحزاب: 37.
(6) الكهف: 5.
-------------------------
(16) محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
استند الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم في توجيه هذا الاتهام إلى ما جاء في مفتتح سورة التحريم من قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم)(1).(9/24)
وهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد في بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن. والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له..
فمطلع الآية (لم تحرم ما أحل الله لك) (هو فقط من باب "المشاكلة" لما قاله النبي لنسائه ترضية لهن؛ والنداء القرآني ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذي يعلم تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خلقه العالي الكريم.
ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(2).
وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التي زكّاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(3).
فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه, فهو بمثابة يمين له كفارته ولا صلة له بتحريم ما أحل الله.
00000000000
(1) التحريم: 1.
(2) الحاقة: 44- 47.
(3) النجم: 3- 4.
-------------------------
(17) الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون في هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة بالناس سورة "النجم", فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى)(1)؛ تقول الأكذوبة:
إنه صلى الله عليه وسلم قال: ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق(2) العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم في القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين, وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين!!
وذاعت الأكذوبة التي عرفت بقصة "الغرانيق" وقال - من تكون إذاعتها في صالحهم-: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركي مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين؛ حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم, وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم. ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير في تفسيره الآيات التي اعتبرها المرتكز الذي استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهي في سورة الحج حيث تقول: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)(3), وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: "ذكر كثير من المفسرين هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة, ظنًّا منهم أن مشركي مكة قد أسلموا".
ثم أضاف ابن كثير يقول: "ولكنها - أي قصة "الغرانيق" - من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، ثم قال ابن كثير(4): عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "سورة النجم", فلما بلغ هذا الموضع: (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى). قال ابن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم) ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان".
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس في أمنيات الأنبياء؟! والجواب عنه قد جاء في الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً: ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار, وهو ما جاء في الآية الأولى منهما: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)(5).(9/25)
ثانياً: ليميز المؤمنين من الكفار والمنافقين, فيزداد المؤمنون إيمانًا على إيمانهم؛ وهو ما جاء في الآية الثانية: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)(6).
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازي الذي قال ما ملخصه(7): "قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق, وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول؛ أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(8), وقوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(9), وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ)(10).
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى: روى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث "الغرانيق", وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها البتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة "الغرانيق" بالمعقول فمن وجوه منها:
أ ـ أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفي الأصنام وتحريم عبادتها؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثني عليها؟!
ب ـ ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا فرق - في منطق العقل - بين النقصان في نقل وحى الله وبين الزيادة فيه.
0000000000000000
(1) النجم: 19 -20.
(2) المراد بالغرانيق: الأصنام؛ وكان المشركون يسمونها بذلك تشبيهًا لها بالطيور البيض التي ترتفع في السماء.
(3) الحج: 52.
(4) عن: التفسير الوسيط للقرآن لشيخ الأزهر د. طنطاوى ج9 ص 325 وما بعدها.
(5) الحج: 53.
(6) الحج: 54.
(7) التفسير السابق: ص 321.
(8) الحاقة: 44 ـ 47.
(9) النجم: 3- 4.
(10) يونس: 15.
=====================
قصة الغرانيق المكذوبة
تحت عنوان : ( وحي من الشيطان ) كتب أعداء الإسلام ما يلي :
جاء في سورة الحج : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .))
قال المفسرون : إن محمدا لما كان في مجلس قريش أنزل الله عليه سورة النجم فقرأها حتى بلغ أفرأيتم اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدّث به نفسه ويتمناه - وهو تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لتُرتَجى . فلما سمعت قريش فرحوا به ومضى محمد في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده، كما سجد جميع المشركين. وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. وقد عرفنا أن الله يحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده .
ونحن نسأل : كيف يتنكر محمد لوحدانية الله ويمدح آلهة قريش ليتقرب إليهم ويفوز بالرياسة عليهم بالأقوال الشيطانية؟ وما الفرق بين النبي الكاذب والنبي الصادق إذا كان الشيطان ينطق على لسان كليهما ؟
الجواب :
هذا الكلام مبني على رواية باطلة مكذوبة ، قال عنها ابن كثير وغيره : " لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح " .
وقد سئل ابن خزيمة عن هذه القصة فقال : من وضع الزنادقة .
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ورواية البخاري عارية عن ذكر الغرانيق .
وقال الإمام ابن حزم : (( والحديث الذي فيه : وانهن الغرانيق العلا ، وان شفاعتهن لترجى . فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولامعنى للأشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد )) [ الاسلام بين الانصاف والجحود ] ص 69
واستناداً إلى القرآن والسنة واللغة والمعقول والتاريخ نفسه فإن هذه الرواية باطلة مكذوبة :
1- لأن أسانيدها واهية وضعيفة فلا تصح .
2- لأن النبى صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغه للرسالة محتجين بقوله سبحانه وتعالى :
(( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )) [ الحاقة : 44 ]
3- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الأصنام في الجاهلية إذ لم يعرف عنه أنه تقرب لصنم بل قال : (( بغض إلي الأوثان والشعر )) .
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) للعلامة الألباني رحمه الله في باب كتب وأبحاث ... والله الموفق
------------------------
(18) عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم –
د. سلمان بن فهد العودة
السؤال:(9/26)
لقد تناقشت مع أحد الإخوة في مسألة عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان مما قلته له: إنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من كل زلل، وذلك الأخ - غفر الله لنا وله - أنكر عليَّ هذا، وأورد عليَّ قصته - صلى الله عليه وسلم - مع (ابن أم مكتوم) في (عبس وتولّى). حقيقة يا شيخي لم أجد جواباً، فأسعفنا بعلمك - دلنا الله وإياك إلى سبيل الرشاد - وأفتنا في هذا الأمر الذي أشكل علينا!!
الجواب:
الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما يبلغ عن الله؛ لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [النجم : 3-4]. ولهذا قال تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)، [الحاقة : 44-47]. والأدلة في هذا المعنى متوافرة متكاثرة متواترة على أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما يبلغ عن ربه - عز وجل - لا يقع منه خلاف ذلك لا عمداً ولا سهواً. ولا يشكل على هذا ما ورد في قصة الغرانيق المشهورة – التي أخرجها الضياء في المختارة (247) فهو إفك مفترى، وباطل مفتعل، والكلام في سورة الحج، وبيان حقيقة معناها له موضع آخر غير هذا، ولا يشكل عليه أيضاً كونه - صلى الله عليه وسلم - ينسى الآية أحيانًا، فإن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بمعنى أنه لا يتذكرها، كلا، بل هو قد قرأها وحفّظها أصحابه، ودونها الكُتّاب، ولكنها عزبت عنه تلك اللحظة فأسقطها، أو وقف يتذكرها، وهذه جِبلّة بشرية، ولهذا قال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) [الأعلى: 6-7]. فهذا مما شاء الله، ومما شاء الله أن ينساه - صلى الله عليه وسلم-. ما نسخت تلاوته من آي القرآن الكريم.
أما ما اجتهد فيه -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقر إلا على صواب، ولذلك "عوتب في شأن الأسرى ببدر (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض...) الآية، [الأنفال 67]). انظر الترمذي (3084) عن عبد ا لله بن مسعود، وأبو داود (2690) عن عبد الله بن عباس.
وعوتب في شأن ابن أم مكتوم: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) [عبس: 1-2]. انظر الترمذي (3331) عن عائشة.
وعوتب في شأن زيد بن حارثة وزينب بنت جحش (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه...) الآية، [الأحزاب: 37]، انظر البخاري (4887) عن أنس.
فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلن ذلك لأصحابه، ويحفظه لهم، ويتلوه عليهم، ويتعبدهم بتلاوته، ولم يعبأ بمقالة اليهود والمنافقين، ولا باضطراب ضعفاء النفوس؛ لأن دين الله أعظم من ذلك كله، وهذا من أعظم كمالاته التي حلاّه الله بها، وقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4].
فصلى الله وسلم وبارك عليه، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه، وارزقنا اتباعه ومحبته وإياكم وجميع المسلمين.
--------------------------
(19) عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم
د.مساعد بن سليمان الطيار
السؤال:
فيما يتعلق بعصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم-، هل هو معصوم من الخطأ؟ أو معنى العصمة هنا أن الله عصمه من الناس -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان معصوماً من الخطأ صلوات ربي وسلامه عليه، فما هو التفسير الصحيح لحادثة الأعمى التي نزل فيها قول الله –تعالى- "عبس وتولى" وجزاكم الله خير ونفع بكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:(9/27)
فإنَّ القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقع منه خطأ، مخالف لظاهر القرآن؛ لأن الله سبحانه ـ الذي أرسله بالحق، وهو أعلم به ـ قد عاتبه في غير ما آية، ولا يكون العتاب إلا بسبب وقوع خطأ منه -صلى الله عليه وسلم- وقد يستعظم بعض الناس القول بهذا، زاعمًا أن ذلك ينقص من قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس الأمر كذلك؛ فحق الله أعظم، والإيمان بكلامه الذي نقله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى من هذا الزعم، ولو كان في هذه العتابات الإلهية له ما ينقص من قدره لما ذكرها الله –سبحانه- في حقِّ خليله محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلم مطالب بالأخذ بظاهر القرآن، ومن تأول مثل هذه العتابات الإلهية فإنه سيقع في التحريف والتكذيب بخبر الله –سبحانه- وقد ذكرت في كتابي "تفسير جزء عمَّ" تعليقًا على قوله –تعالى- :"وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ" [الشرح: 2 ـ 3] ما يتعلق بأمر العصمة، وهذا نصُّه : "قال : مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "ذنبك"، قال قتادة من طريق سعيد ومعمر: (كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له)، وكذا قال ابن زيد. وهذه مسألة تتعلق بالعصمة، وللناس فيها كلام كثير، وأغلب الكلام فيها عقلي لا يعتمد على النصوص، وهذا النص صريح في وقوع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الذنوب التي قد غفرها الله له، ولكن لم يبيِّن الله نوع هذه الذنوب، ولذا فلا تتعدى ما أجمله الله في هذه النصِّ، وقُلْ به تسلمْ .ولا تفترض مصطلحاً للعصمة من عقلك تحمل عليه أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتدخل بذلك في التأويلات السمجة التي لا دليل عليها من الكتاب ولا السنة؛ كما وقع من بعضهم في تأويل قوله –تعالى-: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" [الفتح : 2 ]، قال : ما تقدم : ذنب أبيك آدم، وما تأخر: من ذنوب أمتك، وانظر الشبه بين هذا القول وبين قول النصارى في الخطيئة، فالله يقول: "ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك"، وهذا يقول هو ذنب غيره ! والله المستعان". واعلم أنَّ في الرسول جانبان : جانب بشري، وجانب نبوي، أمّا الجانب البشري فهو فيه كالبشر: يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب، ويقوم وينام … إلخ، مع ما ميَّزه الله به في هذا الجانب في بعض الأشياء؛ كسلامة الصدر، والقوة في النكاح، وعدم نوم القلب، وغيرها من الخصوصات التي تتعلق بالجانب البشري. ومن هذا الجانب قد يقع من النبي – صلى الله عليه وسلم - بعض الأخطاء التي يعاتبه الله عليها، ولك أن تنظر في جملة المعاتبات الإلهية للنبي – صلى الله عليه وسلم -؛ كعتابه بشأن أسرى بدر، وعتابه بشأن زواجه من زينب – رضي الله عنها -، وعتابه في عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه -، وغيرها، وقد نصَّ الله على هذا الجانب في الرسل جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم، ومن الآيات في ذلك : "قل سبحان ربي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً " [الإسراء : 93]، ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، من حق له أخيه شيئاً، فلا يأخذ، فإنما أقطع له من النار" (رواه البخاري (6967)، ومسلم (1713)من حديث أم سلمة –رضي الله عنها-. وتكمن العصمة في هذا الجانب في أنَّ الله يُنبِّه نبيه – صلى الله عليه وسلم - على ما وقع منه من خطأ، وهذا ما لا يتأتَّى لأحد من البشر غيره، فتأمله فإنه من جوانب العصمة المُغفلة . وأما الجانب النبوي، وهو جانب التبليغ، فإنه لم يرد البتة أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - خالف فيه أمر الله؛ كأن يقول الله له: قل لعبادي يفعلوا كذا فلا يقول لهم، أو يقول لهم خلاف هذا الأمر، وهذا لو وقع فإنه مخالف للنبوة، ولذا لما سُحِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يُؤثِّر هذا السِّحْرُ في الجانب النبوي، بل أثَّر في الجانب البشري انظر ما رواه البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة – رضي الله عنها-، ومن ثَمَّ فجانب التبليغ في النبي – صلى الله عليه وسلم - معصوم، ويدل على هذا الجانب قوله تعالى : "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى" [النجم: 3-4] الله أعلم.
--------------------------
(20) شبهةٌ تعري النبي صلى الله عليه وسلم أثناء بناءِ الكعبةِ
أبو عبد العزيز سعود الزمانان
في الصحيحين من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُحَدِّثُ: "أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ، عَمَّهُ: يَا ابْنَ أَخِي! لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَهُ عَلَى مَنْكِبِكَ، دُونَ الْحِجَارَة. قَالَ: فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ. قَالَ فَمَا رُؤيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عُرْيَاناً".(9/28)
وبدأ أهل البدع يشنعون؛ كيف تعرى النبي – صلى الله عليه وسلم – فهذا كذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يزعمون, والرد على هؤلاء يكون بما يأتي:
أولاً: هذا الحديث صحيح الإسناد لا غبار عليه, فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (364) كتاب الصلاة – باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها.
فهذا الحديث قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال الزهري – رحمه الله-: "لما بنت قريش الكعبة لم يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام الحلم".
ثانياً: التعري عند أهل العلم يجوز إن كان لمصلحة شرعية راجحة، كجواز التعري أثناء العلاج, بل لا خلاف على جواز أن ينظر الطبيب إلى موضع المرض من المرأة عند الحاجة ضمن ضوابط شرعية مع تقوى الله وصلاح النية، والضرورات تقدر بقدرها، فتعري النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قبل البعثة أولاً, وثانياً كان لمصلحة لكي يضع ثوبه على عاتقه لكي يتقوى بها على حمل الحجارة, وعلى قربة يتقرب بها لله جل وعلا وهي بناء الكعبة.
كما حدث لنبي الله موسى عليه السلام لما اتهمه قومه برجولته فبرّأه الله مما قالوا, وهذا كما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: "كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سوأة بَعْضٍ, وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ (أي ذو فتق) قال: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ! فَجَمعَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُول:ُ ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ! حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سوأة مُوسَى فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ, فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ مُوسَى فطفق ثَوْبَهُ بِالْحَجَر ِضرباً؟ فوالله إِنَّ بِالْحَجَر َِنَدَباً سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ"(1).
وقد ثبت هذا الحديث عند الرافضة ورواه إمامهم ووصيهم السادس المعصوم كما يزعمون، وقد أخرجه مفسرو الشيعة في تفاسيرهم أيضًا:
- ففي تفسير القمي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): "أن بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال, وكان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد من الناس, فكان يوماً يغتسل على شط نهر وقد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه, فعلموا أنه ليس كما قالوا, فأنزل الله: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَاللهِ وَجِيهًا) [الأحزاب/69](2).
ثم إن مفسرهم الطبرسي في مجمع البيان أثبت هذا الحديث فقال: "إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً يغتسل وحده, فقال ما يتستر منّا إلا لعيب بجلده إما برص وإما أدرة, فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر, فمر الحجر بثوبه, فطلبه موسى عليه السلام, فرآه بنو إسرائيل عرياناً كأحسن الرجال خلقًا, فبرأه الله مما قالوا"(3).
قال رئيس علمائهم نعمة الله الجزائري في قصصه (ص 250): "قال جماعة من أهل الحديث: لا استبعاد فيه بعد ورود الخبر الصحيح, وإن رؤيتهم له على ذلك الوضع لم يتعمده موسى عليه السلام, ولم يعلم أن أحدًا ينظر إليه أم لا, وإن مشيه عرياناً لتحصيل ثيابه مضافاً إلى تبعيده عما نسبوه إليه، ليس من المنفرات".
ثالثاً: ونقول نحن كذلك أهل السنة والجماعة كما قال: لا استبعاد فيه بعد ورود الخبر الصحيح, وإن رؤيته له على ذلك الوضع لم يتعمده النبي – صلى الله عليه وسلم - فليس ذلك من المنفرات.
رابعاً: ليس في الحديث أنه تعرى أمام الناس – صلوات ربي وسلامه عليه – فالتعري أمام الناس متعمداً من خوارم المروءة، فأين الدليل أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مشى أمام الناس عارياً لا لشيء وإنما من أجل التعري فقط وأن الكل ينظر إليه!!
فليس في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشى وتعرى أمام الناس، وهذا القول له شاهد عند الطبراني في كما ذكر ذلك الحافظ في "الفتح": "لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع, فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا, قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته".
خامساً: على افتراض أن التعري لمصلحة ظهرت لمن تعرى أنه ذنب، ولكنه ليس من الكبائر، وعقيدتنا أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب ومن خوارم المروءة، لذلك حينما تعرى أمام عمه فقط لم يقر على ذلك وأغشي عليه وما رؤي عريانًا بعد ذلك.
سادساً: نقول للرافضة: ما شأنكم وشأن كشف العورات؟! فدينكم دين جنس ودعوة للتعري والفاحشة وهذه حقيقة.
وسأذكر بعض الأمور التي تؤكد هذا الادعاء:(9/29)
1 - يتهمون النبي بأنه كان ينظر إلى عورات النساء ويخون المؤمنين، وينظر إلى امرأة رجل مسلم وهي تغتسل عريانة!!!
ففي بحار الأنوار(22/217): "قال الرضا: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده, فرأى امرأته تغتسل فقال لها: "سبحان الذي خلقك"!!!
2 - يروون عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا ينام حتى يضع وجهه بين ثديي فاطمة", وفاطمة امرأة كبيرة بالغة, فكيف يضع النبي – صلى الله عليه وسلم – وجهه بين ثدييها – رضي الله عنها-.
3 - يزعمون أن إمامهم المعصوم الثاني عشر الغائب عندما يظهر أنه سيكون عارياً بدون ثياب!! وهذا ما رواه الشيخ الطوسي والنعماني عن الإمام الرضا: "أن من علامات ظهور المهدي أنه سيظهر عارياً أمام قرص الشمس". حق اليقين (ص 347).
4 - الرافضة عندهم الدبر ليس من العورة, وهذا ما رواه الكليني في الكافي (6/512) عن أبي الحسن عليه السلام قال: "العورة عورتان القبل والدبر، فأما الدبر مستور بالإليتين, فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة".
5 - جواز النظر إلى العورات من غير المسلمين, فعن جعفر الصادق قال: "النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار". الكافي (6/512).
6 - يزعمون أن إمامهم المعصوم الخامس محمد الباقر كان يدخل الحمام ويكشف عورته أمام الناس، فعن عبيد الله الدابقي قال: "دخلت حمامًا بالمدينة... فقلت: لمن هذا الحمام؟ فقال لأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام فقلت: كان يدخله؟ قال: نعم, فقلت: كيف كان يصنع؟ قال: كان يدخل يبدأ فيطلي عانته وما يليها ثم يلف على طرف إحليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه، فقلت له يوماً من الأيام: الذي تكره أن أراه قد رأيته" - يقصد عورته المغلظة-. (الكافي 6/508).
--------------------------
(21) الرد على شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعامًا ذبح على الصنم والنصب
أبو عبد العزيز سعود الزمانا
الرد على شبهة أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أكل طعاما ذبح على الصنم والنصب:
تعريف النصب: هي الأصنام والحجارة التي كان الكفار يذبحون عليها.
أخرج الإمام أحمد (1/190) قال: حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن أبيه عن جده قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة هو وزيد بن حارثة فمر بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعواه إلى سفرة لهما فقال يا ابن أخي إني لا آكل مما ذبح على النصب قال فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئًا مما ذبح على النصب قال قلت يا رسول الله إن أبي كان كما قد رأيت وبلغك ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له قال نعم سأستغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة".
الشبهة:
قال المبتدعة والزنادقة كيف يذبح الرسول على النصب والأصنام، وكيف يأكل مما ذبح عليها؟
الرد:
- أولاً: رواية (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب) منكرة ولا تصح.
- قال الشيخ الألباني – رحمه الله-: "أخرجه الإمام أحمد (رقم 5369) من حديث ابن عمر، وقد رواه أيضا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو (1648) وفيه زيادة منكرة، وهي تتنافي مع التوجيه الحسن الذي وجه به الحديث المؤلف وهي قوله بعد: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب, وعلة هذه الزيادة أنها من رواية المسعودي وكان قد اختلط وراوي هذا الحديث عنه يزيد بن هارون سمع منه بعد اختلاطه، ولذلك لم يحسن صنعا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر حيث صرح في تعليقه على المسند أن إسناده صحيح، ثم صرح بعد سطور أنه إنما صححه مع اختلاطه لأنه ثبت معناه من حديث ابن عمر بسند صحيح يعني هذا الذي في الكتاب، وليس فيه الزيادة المنكرة، فكان عليه أن ينبه عليها حتى لا يتوهم أحد أن معناها ثابت أيضاً في حديث ابن عمر".
- ثانياً: حكم على هذه الزيادة بالنكارة الإمام الذهبي أيضا، فالرواية أخرجها البزار(2755) والنسائي في الكبرى (8188) والطبراني (4663) وأبو يعلى (7211) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة قال خرجت مع رسول الله... الحديث.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/221-222):" في سنده محمد – يعني ابن عمرو بن علقمة - لا يحتج به، وفي بعضه نكارة بينة ".(9/30)
- ثالثاً: وهذا العبارة منكرة: "شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا..." وهي نكارة بينة كما قال الذهبي، وهذا نص في أنهم ذبحوها للنصب لا عليه فقط، وهذه الجملة لا تحتمل ولا تليق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وفي سندها محمد بن عمرو بن علقمة قال فيه الحافظ:" صدوق له أوهام " وقال الجوزجاني وغيره:" ليس بقوي"[1] وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/221-222): "لا يحتج به".
- رابعاً: الرواية الصحيحة هي كما جاءت في صحيح البخاري، قال البخاري ( 5499) حدثنا معلَّى بن أسد قال: حدثنا عبد العزيز يعني ابن المختار قال: أخبرنا موسى بن عقبة قال: أخبرني سالم: أنه سمع عبد الله يحدث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه لقي زيد بن عمرو بن نُفَيل بأسفل بَلْدَحَ،-( مكان في طريق التنعيم، ويقال: هو واد) - وذاك قبل أن يُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: "إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكر اسم الله عليه".
وقال البخاري( 3826) حدثني محمد بن أبي بكر قال: حدثنا فضيل بن سليمان قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: حدثنا سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:" أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله. إنكارا لذلك وإعظامًا له".
- قال ابن بطال – رحمه الله -:" كانت السفرة لقريش فقدموها للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبي – صلى الله عليه وسلم – لزيد بن عمرو، فأبى أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش الذين قدموها أولاً: "إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم "( عمدة القاري 11/540).
- خامساً: أين ما يدل في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أكل من هذه السفرة؟ فليس في الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – أكل منها، وإنما غاية ما في الحديث أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولزيد ولم يأكلا منها.
- سادساً: فهذا هو الثابت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عرضت وقدمت له السفرة فامتنع أن يأكل منها، نعم جاء عند أحمد (2/69) من طريق عفان عن وهيب عن موسى. وأخرجه أحمد (2/90) من طريق يحيى بن آدم عن زهير عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر بلفظ:" فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال: "إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه ".
فمما سبق بيانه يتضح أن رواية صحيح البخاري أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – فرفض أن يأكل منها، ثم قدمت لزيد ولم يأكل منها، فلا وجه لطعن طاعن أو لمز لامز ولله الحمد.
ولو افترضنا صحة الرواية التي جاءت عند أحمد، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم السفرة لزيد، فكذلك لا يوجد دليل على أنها ذبحت على نصب أو ذبحت لصنم، وإن كان قد يفهم منها هذا ولكنها ليست صريحة.
- سابعاً: قال الخطابي في " أعلام الحديث " 3/1657:" امتناع زيد بن عمرو من أكل ما في السفرة إنما كان من أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب فتنزه من أكله، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يأكل من ذبائحهم التي كانوا يذبحونها لأصنامهم، فأما ذبائحهم لمأكلتهم فإنا لم نجد في شيء من الأخبار أنه كان يتنزه منها، ولأنه كان لا يرى الذكاة واقعة إلا بفعلهم قبل نزول الوحي عليه، وقبل تحريم ذبائح أهل الشرك، فقد كان بين ظهرانيهم، مقيماً معهم، ولم يُذكر أنه كان يتميز عنهم إلا في أكل الميتة، وكانت قريش وقبائل من العرب تتنزه في الجاهلية عن أكل الميتات، ولعله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتّسع إذ ذاك لأن يذبح لنفسه الشاة ليأكل منها الشلو أو البضعة، ولا كان فيما استفاض من أخباره أنه كان يهجر اللحم ولا يأكله، وإذا لم يكن بحضرته إلا ذكاة أهل الشرك ولا يجد السبيل إلى غيره، ولم ينزل عليه في تحريم ذبائحهم شيء، فليس إلا أكل ما يذبحونه لمأكلتهم بعد أن تنزه من الميتات تنزيهاً من الله عز وجل له، واختياراً من جهة الطبع لتركها استقذاراً لها، وتقززاً منها، وبعد أن يجتنب الذبائح لأصنامهم عصمة من الله عز وجل له لئلا يشاركهم في تعظيم الأصنام بها".(9/31)
- ثامناً: قال السهيلي:" فإن قيل: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة، لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة، مع أن الذبائح لها أصل في تحليل الشرع واستمر ذلك إلى نزول القرآن... ".
- وقال القاضي عياض في عصمة الأنبياء قبل النبوة:" إنها كالممتنع، لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن متعبداً قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح...".
- تاسعاً: ومن التوجيهات كذلك كما قال الشيخ الألباني – رحمه الله -:" توهم زيد أن اللحم المقدم إليه من جنس ما حرم الله، ومن المقطوع به أن بيت محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يطعم ذبائح الأصنام، ولكن أراد الإستيثاق لنفسه والإعلان عن مذهبه، وقد حفظ محمد له ذلك وسرّ به"[2].
- عاشراً: قال الذهبي – رحمه الله-:" لو افترض أن زيد بن حارثة هو الذي ذبح على النصب فقد فعله من غير أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه كان معه، فنسب ذلك إليه، لأن زيداً لم كن معه من العصمة والتوفيق ما أعطاه لنبيه، وكيف يجوز ذلك وهو عليه السلام قد منع زيداً أن يمس صنماً، وما مسه هو قبل نبوته، فكيف يرضى أن يذبح للصنم، هذا محال".
وقال أيضا: "أن يكون ذبح لله واتفق ذلك عند صنم كانوا يذبحون عنده"[3]
- نتيجة البحث:
- 1-: ليس في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذبح على النصب أو أكل مما ذبح على النصب، وغاية ما في الحديث أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولزيد ولم يأكلا منها.
2-: الرواية التي في صحيح البخاري أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – فرفض أن يأكل منها، ثم قدمت لزيد ولم يأكل منها، فلا وجه لطعن طاعن أو لمز لامز ولله الحمد.
3-: جاءت رواية عند أحمد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم السفرة لزيد، وامتنع زيد أن يأكل منها، وكذلك لا يوجد أي دليل على الذبح للنصب أو للصنم، وإن كان يفهم منها هذا ولكنها ليست صريحة.
4-: امتناع زيد بن عمرو من أكل ما في السفرة إنما كان من أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب فتنزه من أكله، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يأكل من ذبائحهم التي كانوا يذبحونها لأصنامهم.
5-: قال الذهبي – رحمه الله-: "لو افترض أن زيد بن حارثة هو الذي ذبح على النصب فقد فعله من غير أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه كان معه، فنسب ذلك إليه، لأن زيداً لم يكن معه من العصمة والتوفيق ما أعطاه الله لنبيه، وكيف يجوز ذلك وهو عليه السلام قد منع زيداً أن يمس صنماً، وما مسه هو قبل نبوته، فكيف يرضى أن يذبح للصنم، هذا محال".
6-: أما ما جاء في بعض الروايات التي فيها (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب) وهذه الرواية منكرة، حكم عليها بالنكارة الإمام الذهبي والإمام الألباني – رحمهما الله -.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
00000000000000000
[1] المغني في الضعفاء ترجمة رقم 5879.
[2]( فقه السيرة ص 82).
[3]( سير أعلام النبلاء 1/135).
--------------------------
(22)شبهة حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش والرد عليها
أبو عبد الله الذهبي
الحمد لله والصلاة و الصلاة و السلام على رسول الله، ثم أما بعد:
أحبتي في الله شاء الله عز وجل ولا مرد لمشيئته أن يطلق زيد بن حارثة زوجته حينما تعذر بقاء الحياة الزوجية بينه و بينها على الوجه المطلوب، و مضت سنة الله في خلقه أن ما رسخ في النفوس بحكم العادة لا يسهل التخلص منه، فقد كانت عادة التبني لا تزال قائمة في نفوس الناس، و ليس من السهل التغلب على الآثار المترتبة عليها، و من أهم هذه الآثار أن الأب لا يتزوج امرأة من تبناه بعد وفاته أو طلاقه لزوجته، فاختار الله تعالى لهذه المهمة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم و أمره بالزواج من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد.
و بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها، أثار هذا الزواج أحاديث همز و لمز و أقاويل كثيرة من قبل المشركين والمنافقين، فقد قالوا: تزوج محمد حليلة ابنه زيد بعد أن طلقها، كما وأن للمستشرقين و من شايعهم في العصر الحاضر، أحاديث في هذا الموضوع، فاتخذوا من هذه الحادثة ذريعة للطعن في رسول الله صلى الله عليه و سلم.(9/32)
والذي أريد أن أتحدث عنه اليوم هو الرد على هؤلاء المستشرقين الذين اتخذوا من هذه القضية مدخلاً للطعن في نبي الله صلى الله عليه وسلم، كما و أنهم تناولوا زواجه صلى الله عليه وسلم بهذا العدد، فجعلوا منه مادة للنيل منه صلى الله عليه وسلم، و وصفوه بأشياء ينبو عنها القلم.
و لما كان هذا الأمر من الخطورة بمكان لتعلقه بأشرف خلق الله على الإطلاق - و كان كل من يطلق لسانه في هذا الصدد يقول: لسنا نبتدع شيئاً، فها هي كتب التفسير و كتب السير تحكي ذلك -، لذا سأقوم الآن بعرض تلك الروايات التي اعتمدوا عليها رواية رواية، متبعاً كل رواية منها ببيان ما وجّه لأسانيدها من نقد، ثم أتبع ذلك بنقدها جميعاً من جهة متونها، و موقف الأئمة المحققين من هذه الروايات.
يقو الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله، و تخفي في نفسك ما الله مبديه، و تخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً}[الأحزاب/37]
إن السبب في طلاق زيد لزينب ومن ثم زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ هو ما كان بين زيد و بين زينب من خلافات، و أنه لم يكن بينهما وئام يؤمل معه أن تبقى الحياة الزوجية بينهما، فطلقها بمحض اختياره و رغبته، و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك، و قد كان الله عز وجل قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب، و أنه ستكون زوجة له، و أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفي هذا و يخشى من مقولة الناس، أنه تزوج مطلقة من كان يدعى إليه، فعاتبه ربه على ذلك. انظر: جامع البيان للطبري(22/11) و تفسير القرآن العظيم لابن كثير(3/489)، و انظر البخاري( برقم 4787).
خلاصة ما جاء في كتب التفسير والتي استدل بها المستشرقون أن هناك سبباً آخر لطلاق زينب، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زينب فجأة و هي في ثياب المنزل فأعجبته، و وقع في قلبه حبها، فتكلم بكلام يفهم منه ذلك، إذ سمعه زيد فبادر إلى طلاقها تحقيقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أن زيداً شاوره في طلاقها، و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاه عن ذلك، لكن في قلبه ضد هذا، و أنه كان راغباً في طلاق زيد لها ليتزوجها، و فوق ذلك فقد أقر الله رسوله على ما فعل، بل عاتبه لِمَ يخفي هذا والله سيبديه.
و رغم شناعة ما جاء في هذه الروايات، و هذا الفهم للآية الكريمة التي تتحدث عن طلاق زيد لزينب و زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها، إلا أنه قد جاز على أئمة فضلاء، ففسروا به الآية الكريمة، وأثبتوا ذلك صراحة في كتبهم وتفاسيرهم.
ومن هؤلاء الأئمة: ابن جرير الطبري في كتابه جامع البيان(22/12)، عند تفسيره الآية ولم يذكر غيره.
و منهم: الرازي في تفسيره(13/184)، حيث ذكر نحواً من كلام ابن جرير.
ومنهم: ابن القيم في كتابه الجواب الكافي(ص 247)، حيث ذكره في معرض سوقه لحكايات في عشق السلف الكرام والأئمة الأعلام.
ومنهم: الزمخشري في تفسيره(3/262).
وأحسن ما يعتذر به عن هؤلاء الأئمة وأتباعهم ممن ذهب يفسر الآية بهذا، أنهم عدوا هذا منه صلى الله عليه وسلم من عوارض البشرية، كالغضب والنسيان، و لكنهم لم يستحضروا شناعة هذا التفسير للآية، و نسبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و لم يدققوا في الروايات التي وصلتهم من جهة أسانيدها و متونها كما فعل غيرهم، ونحن نسأل الله أن يثيبهم على اجتهادهم وأن يغفر لهم.
والآن إلى نقد الروايات..(9/33)
الرواية الأولى ذكرها ابن سعد في طبقاته(8/101) و من طريقه ساقها ابن جرير في تاريخه(3/161): قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن محمد بن يحيى بن حبان، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، و كان زيد إنما يقال له: زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول: "أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه، فلم يجده، و تقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فُضُلاً أي وهي لابسة ثياب نومها -، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله فادخل بأبي أنت وأمي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل، و إنما عجلت أن تلبس لما قيل لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب فوثبت عجلى، فأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولى و هو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا: سبحان مصرّف القلوب، فجاء زيد إلى منزله، فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منزله، فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل؟ قالت: قد عرضت ذلك عليه فأبى، قال: فسمعت شيئاً؟ قالت: سمعته يقول حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه، و سمعته يقول: سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب، فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت؟ بأبي وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها، فيقول رسول الله: "أمسك عليك زوجك"، فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم، فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، فيقول رسول الله: "أمسك عليك زوجك"، فيقول: يا رسول الله أفارقها، فيقول رسول الله: "احبس عليك زوجك"، ففارقها زيد واعتزلها و حلت يعني انقضت عدتها قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة، إلى أن أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم غشية، فسري عنه و هو يبتسم و هو يقول: "من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء؟" وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك..} الآية، القصة كلها.
قالت عائشة: فأخذني ما قرب و ما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع الله لها، زوجها الله من السماء، و قلت: هي تفخر علينا بهذا، قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتد فتحدثها بذلك، فأعطتها أوضاحاً حلي من الفضة عليها.
وإسناد هذه الرواية فيه علل ثلاث، واحدة منها تكفي لرد هذه الرواية:
العلة الأولى: أنها مرسلة، فمحمد بن يحيى بن حبان تابعي، يروي عن الصحابة، و يروي أيضاً عن التابعين، كعمر بن سليم و الأعرج، و غيرهما،(ت 121 هـ) و عمره( 74 سنة)، فهو لم يدرك القصة قطعاً و لم يذكر من حدثه بها. التهذيب(9/507-508).
العلة الثانية: عبد الله بن عامر الأسلمي، ضعيف بالاتفاق، بل قال فيه البخاري: ذاهب الحديث، و قال أبو حاتم: متروك. التهذيب(5/275)، و ميزان الاعتدال(2/448).
العلة الثالثة: محمد بن عمر، و هو الواقدي، إخباري كثير الرواية، لكنه متروك الحديث، ورماه جماعة من الأئمة بالكذب و وضع الحديث. ميزان الاعتدال(3/664).
الرواية الثانية: ذكرها ابن جرير في تفسيره(22/13) قال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش بنت عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فانكشفت و هي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقع ذلك كرهت الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: "مالك؟ أرابك منها شيء؟" قال: لا، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، فذلك قول الله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه }، تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها.
و هذه الرواية فيها علتان:
العلة الأولى: أنها معضلة، فابن زيد و هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ليس بصحابي ولا تابعي، فقد سقط من الإسناد راويان أو أكثر.(9/34)
العلة الثانية: أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا ضعيف باتفاق المحدثين، بل صرح بعضهم بأنه متروك الحديث، قال البخاري وأبو حاتم: ضعفه علي بن المديني جداً، وقال أبو حاتم: كان في الحديث واهياً، و جاء عن الشافعي أنه قال: قيل لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن سفينة نوح طافت بالبيت و صلت خلف المقام ركعتين؟ قال: نعم. و لهذا لما ذكر رجل لمالك حديثاً منقطعاً قال له: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح. و أقوال الأئمة في تضعيفه كثيرة، و هو رجل صالح في نفسه لكنه شغل بالعبادة والتقشف عن حفظ الحديث فضعف جداً. التهذيب(6/178). و يروى عنه شيء كثير في التفسير، فما كان من رأيه في فهم القرآن، فهذا ينظر فيه، وأما ما يرويه مسنداً فغير مقبول، فكيف إذا أرسل الحديث؟!.
الرواية الثالثة: ذكرها أحمد في مسنده(3/149-150)، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل زيد بن حارثة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته زينب، وكأنه دخله لا أدري من قول حماد أو في الحديث فجاء زيد يشكوها إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك زوجك واتق الله، قال: فنزلت { واتق الله و تخفي في نفسك ما الله مبديه } إلى قوله { زوجناكها } يعني زينب.
مؤمل بن إسماعيل قواه بعض الأئمة، و وصفه أكثرهم بأنه كثير الخطأ يروي المناكير، قال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يشبه حديث أصحابه، و قد يجب على أهل العلم أن يقفوا عن حديثه، فإنه يروي المناكير عن ثقات شيوخه، و هذا أشد، فلوا كانت هذه المناكير عن الضعفاء لكنا نجعل له عذراً. و قال محمد بن نصر المروزي: المؤمل إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف و يتثبت فيه، لأنه كان سيء الحفظ كثير الغلط. التهذيب(10/381).
و حديثه هذا قد رواه جماعة من الثقات من أصحاب حماد فلم يذكروا أول الحديث، وإنما ذكروا مجيء زيد يشكوا زينب، و قول النبي صلى الله عليه وسلم له، و نزول الآية. البخاري(برقم 7420) والترمذي( برقم 3212) والنسائي( برقم 11407).
الرواية الرابعة: رواها ابن جرير في تفسيره(22/13)، قال: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } و هو زيد أنعم الله عليه بالإسلام: { وأنعمت عليه } أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه }، قال: وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها، قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشد منها قوله { واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه }، و لو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه }، قال خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس.
و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة هذه القصة مختصرة، قال: جاء زيد بن حارثة فقال: يا رسول الله إن زينب اشتد عليّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها، فقال له: "اتق الله وأمسك عليك زوجك"، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها و يخشى مقالة الناس. فتح الباري(8/524).
وقتادة هو بن دعامة السدوسي أحد الأئمة الحفاظ، مشهور بالتفسير، فما فسره من فهمه للآيات فينظر فيه، وما ذكره رواية فإن العلماء أخذوا عليه كثرة التدليس، فاشترطوا لصحة حديثه أن يصرح بالسماع، و هذا إذا ذكر الإسناد، فإما ما يرسله ولا يذكر بعده في الإسناد أحداً كما في روايته لهذه القصة فهو ضعيف جداً، قال الشعبي: كان قتادة حاطب ليل، و قال أبو عمرو بن العلاء: كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يغث عليهما شيء، يأخذان عن كل أحد. التهذيب(8/351-356). و كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، و يقول: هو بمنزلة الريح. جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي( ص 101).
على أن روايته لتفسير الآية ليس فيه تفصيل كما في الروايات الأخرى، و يمكن رد روايته إلى الروايات الصحيحة في تفسير الآية، فيكون معنى( أحب) و( ودّ) أي علم أن زيداً سيطلقها ولا بد بإلهام الله له ذلك، وتكون خشيته من مقالة الناس حينئذٍ أن يقولوا: تزوج حليلة ابنه.(9/35)
الرواية الخامسة: ذكرها القرطبي في تفسيره(14/190) قال مقاتل: زوّج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حيناً، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينت قائمة، و كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتمّ نساء قريش، فهويها وقال: "سبحان الله مقلب القلوب"، فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبراً، تعظم عليّ و تؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، و قيل: إن الله بعث ريحاً فرفعت الستر و زينب مُتَفَضَّله في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، و وقع في نفس زينب أنه وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء يطلب زيداً، فجاء زيد فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها.
هذه الرواية لم يذكروا لها إسناداً إلى مقاتل، و لو صحت إلى مقاتل لم يفدها شيئاً، فإن مقاتلاً وهو مقاتل بن سليمان فيما يظهر قد كذبه جمع من الأئمة ووصفوه بوضع الحديث، و تكلوا في تفسيره. أنظر ترجمته في التهذيب(10/279-285).
الرواية السادسة: قال ابن إسحاق: مرض زيد بن حارثة فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده و زينب ابنة جحش امرأته جالسة عن رأس زيد، فقامت زينب لبعض شأنها، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طأطأ رأسه، فقال: "سبحان مقلب القلوب والأبصار"، فقال زيد: أطلقها لك يا رسول الله، فقال: لا"، فأنزل الله عز وجل { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه...} إلى قوله {وكان أمر الله مفعولاً }. تعدد نساء الأنبياء و مكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام اللواء أحمد عبد الوهاب( ص 68).
هذه الرواية لم يذكروا لها إسناداً، و لم أقف عليها في سيرة ابن هشام.
و بعد أن تبين ضعف هذه الروايات وسقوطها من جهة أسانيدها، فلننظر فيها من جهة متونها وما فيها من اضطراب ونكارة، من عدة وجوه:-
الوجه الأول: تناقض الروايات المذكورة، ففي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار زيد بن حارثة و هو غائب فاستقبلته زينب، و في بعضها أن زيداً كان مريضاً، فزاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، و كان عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم جالساً هو و زيد و زينب، فكيف يكون زيد غائباً و مريضاً في فراشه في وقت واحد.؟!
الوجه الثاني: والروايات التي ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار زيداً اختلفت في كيفية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله عنها، فرواية تقول بأنه كان واقفاً بالباب فخرجت إليه، و رواية بأنه كان واقفاً بباب زيد فرفعت الريح ستر الشعر فرآها فأعجبته.
الوجه الثالث: تتفق الروايات على أن إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم بزينب ووقوع حبها في قلبه جاء متأخراً، أي بعد أن تزوجها زيد رضي الله عنه، و هذا شيء عجيب، فلقد ولدت زينب ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاوز الثانية عشرة من عمره، و شبت وترعرعت أمامه، فهي ابنة عمته، ألم يلحظ مفاتنها إلا متأخراً، و بعد أن صارت زوجة لدعيّه، و هو الذي زوجها له، والحجاب لم ينزل بعد، فقد نزل صبيحة عرسها، ألا يكون شاهدها، فلوا كان يهواها أو وقعت في قلبه لما منعه شيء من زواجها، فإشارة منه صلى الله عليه وسلم كافية لأن يقدموها له، بل قد ورد أنه وهبت نفسها له. أنظر كلام ابن العربي حول هذا الوجه في كتابه أحكام القرآن(3/1543).
الوجه الرابع: لو افترضنا جدلاً أن حبها وقع في قلبه صلى الله عليه وسلم متأخراً بعد رؤيته لها عند زيد بن حارثة، فبأي شيء يمكن تفسير ما صدر منه صلى الله عليه وسلم و فهم منه زيد و زينب أنها وقعت في قلبه، سواء كان ذلك تسبيحاً أو طأطأة للرأس، أو غير ذلك؟! كيف ذلك و هو الذي نهي عن أن يخبب الرجل امرأة غيره عليه؟ أفيعمل ما قد نهي أمته عنه؟! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا) أبو داود( برقم 5170) بسند صحيح.
ولو افترضنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد إفهامها ذلك، وإنما صدر منه ذلك عفواً دون قصد، فكيف بما ذكروا أنه عقد عليه قلبه من محبته و رغبته أن يطلقها زيد ليتزوجها؟ ولو نسب ذلك إلى آحاد المسلمين لكان ينبغي تبرئته من ذلك.
وفوق ذلك كله كيف يعاتبه الله كما تقول هذه الروايات لأنه أخفي ذلك عن الناس و لم يعلن أنه يحب زوجة زيد، وأنه يود لو طلقها ليتزوجها؟ تَصَوّرٌ مثل هذا كاف في ظهور بطلان هذه الروايات.
الوجه الخامس: هذه الروايات التي فسروا بها الآية لو لم يرد غيرها لم يصح أن يفسر بها كتاب الله تعالى، لسقوطها إسناداً ومتناً، فكيف و قد وردت روايات أخرى في تفسير الآية تفسيراً منطقياً لا إشكال فيه ولا نكارة، فالذي يخفيه صلى الله عليه وسلم هو ما أعلمه ربه أنه ستصبح زوجة له، و الذي يخشاه هو مقولة الناس إنه تزوج حليلة من كان يدعى إليه.(9/36)
والغريب في الأمر أن بعض المفسرين ترك هذه الروايات الصحيحة و التي لا مطعن فيها، و ذكر تلك الروايات الشاذة الغريبة، و منهم من لم يذكرها لكنه ذهب يفسر الآيات على ضوئها.
و إذا اتضح الآن سقوط تلك الروايات سنداً و متناً فإنه لا يفوتني هنا أن أسجل مواقف بعض الأئمة المحققين من المفسرين وغيرهم الذي وقفوا أمام هذه الروايات موقفاً حازماً صلباً، فمنهم من ذكرها و فندها، و منهم من أضرب عنها صفحاً بعد الإشارة إلى ضعفها و نكارتها.
قال ابن العربي بعد أن ذكر ملخص هذه الروايات، و بين عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد. أحكام القرآن(3/1543).
قال القرطبي بعد أن ذكر التفسير الصحيح لما كان يخفيه صلى الله عليه وسلم، وما الذي كان يخشاه من الناس: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المُجّان لفظ عشق فهذا إنما صدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته. الجامع لأحكام القرآن(14/191).
وقال ابن كثير بعد أن ذكر الروايات الصحيحة: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها، و قد روى الإمام أحمد هاهنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. تفسير القرآن العظيم(3/491).
و قال ابن حجر بعد أن ذكر الروايات الصحيحة: و وردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري و نقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها. فتح الباري(8/524).
و هناك ثُلّة كبيرة من علماء الإسلام في العصر الحاضر تفطنوا لمثل هذه الأخبار، ورمقت أبصارهم ما تنطوي عليه من مداخل خطيرة لا تليق بمقام الأنبياء، فأنار الله بصائرهم لكشف النقاب عن هذه الآثار الدخيلة، فكان لهم الفضل في التنبيه وإيقاظ الفكر الإسلامي للتصدي لكل دسيسة يراد منها النيل من قداسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تشويه الحقائق التاريخية في تراث الإسلام.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول، و يجب صيانة النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الترهات التي نسبت إليه زوراً و بهتاناً. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم( ص 275).
و خلاصة الأمر..
كان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش لهلال ذي القعدة من العام الخامس الهجري و هي بنت خمس وثلاثين. ابن سعد في الطبقات(8/114).
روى البخاري في صحيحه( برقم 7420): أن زيداً جاء يشكو زوجته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك"، قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً، لكتم هذه، فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهاليكن، و زوجني الله من فوق سبع سماوات.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
---------------------------
(23) علة كثرة زواج النبي صلى الله عليه وسلم
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
أخرج البخاري في كتاب النكاح:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ:{هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ لَا. قَال:َ فَتَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً}.
قال في الشرح:(9/37)
قوله (فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) قيد بهذه الأمة ليخرج مثل سليمان عليه السلام, فإنه كان أكثر نساء, وكذلك أبوه داود, ووقع عند الطبراني من طريق أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " تزوجوا فإن خيرنا كان أكثرنا نساء " قيل المعنى خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم, وبالأمة أخصاء أصحابه; وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح, إذ لو كان راجحًا ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره, وكان النبي صلى الله عليه وسلم - مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به - يكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطلع عليها الرجال, ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة لكونه كان لا يجد ما يشبع به من القوت غالبا, وإن وجد كان يؤثر بأكثره, ويصوم كثيرًا ويواصل, ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة, ولا يطاق ذلك إلا مع قوة البدن, وقوة البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقويات من مأكول ومشروب, وهي عنده نادرة أو معدومة. ووقع في " الشفاء " أن العرب كانت تمدح بكثرة النكاح لدلالته على الرجولية, إلى أن قال: ولم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه, بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن وكأنه أراد بالتحصين قصر طرفهن عليه فلا يتطلعن إلى غيره, بخلاف العزبة فإن العفيفة تتطلع بالطبع البشري إلى التزويج, وذلك هو الوصف اللائق بهن.
* والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه تقدمت الإشارة إلى بعضها.
أحدها: أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
ثانيها: لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
ثالثها: للزيادة في تألفهم لذلك.
رابعها: للزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
خامسها: لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزاد أعوانه على من يحاربه.
سادسها: نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال, لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
سابعها: الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة, فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ ذاك يعاديه, وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها, فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه, بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
ثامنها: ما تقدم مبسوطًا من خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقلل من المأكول والمشروب وكثرة الصيام والوصال, وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم, وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم.
تاسعها وعاشرها: ما تقدم نقله عن صاحب " الشفاء " من تحصينهن والقيام بحقوقهن, والله أعلم.
جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربي بن كمال.
---------------------------
(24) شبهات وتهم ضد مقام النبوة
شبهات وتهم ضد مقام النبوة(1)
قال الله تبارك وتعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا) [الأحزاب : 57].
ما من نبي ولا رسول أرسله الله عز وجل إلا واجه أعداء يكذبونه ويشككون الناس في صدق نبوته وهذه سنة من سنن الله عز وجل قال تعالى: (كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [الأنعام : 112].
ولم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم بدعاً بين الرسل فقد واجه ما واجهه إخوته من الأنبياء من التكذيب والعناد والقتال والتشريد والسجن والطرد والاستهزاء ولكن ذلك لم يثنه عن دعوته ولم يفلَّ في عزيمته بل كان ثابتاً كالطود الأشم فصبر وهانت عليه نفسه في سبيل الله عز وجل حتى نصره الله عز وجل ورفع له ذكره إلى يوم القيامة.
وقد اتهم نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه كاذب وقيل شهواني وقالوا عنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وأتهم بأنه عدواني ومتعصب وإرهابي وهذه التهم مجرد شبهات واهية تسقط عند أول وهلة من التعرف على شخصيته ودراسة سيرته وتتبع سنته صلى الله عليه وسلم.
وفيما يلي نستعرض كل شبهة أثيرت حول نبينا صلى الله عليه وسلم ونفندها بحجج منيرة كالشمس في رائعة النهار.
الشبهة الأولى: قولهم عنه: (كاذب):
الشبهة الثانية:قولهم عنه (ساحر، كاهن، مجنون):
الشبهة الثالثة: (قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا):
الشبهة الرابعة: وهي من شبه المستشرقين الحديثة وصفهم له صلى الله عليه وسلم بأنه (شهواني):
الشبهة الخامسة: من أعظم الشبه والافتراء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (إرهابي دموي سفاك للدماء):
الشبهة الأولى: قولهم عنه: (كاذب):(9/38)
هذه أضعف فرية افتريت على نبينا صلى الله عليه وسلم وأضعف شبهة يمكن أن يتشبث بها أحد قديماً أو حديثاً، وذلك لما اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم منذ طفولته من صدق الحديث وأمانة في الخلق حتى كانت من أوضح صفاته وأخلاقه التي تميز بها، حتى أنه كان يسمى في الجاهلية بالأمين لصدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم ومما يثبت ذلك ما جرى في قصة بناء قريش للكعبة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم واختلافهم على وضع الحجر الأسود حتى كادوا يقتتلون بسبب إرادة كل قبيلة أن تفوز بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه ولما اشتد الخلاف فيما بينهم وأصرت كل قبيلة على الفوز بهذا الشرف أراد أحد عقلائهم أن يضع حداً للخلاف فقال لهم حكموا بينكم أول داخل عليكم من باب الصفا فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوه مقبلاً قالوا: هذا محمد الأمين رضينا به حكماً. ففي هذه القصة وقد حدثت قبل البعثة أكبر دليل على اشتهاره بالصدق والأمانة فيما بينهم.
ومما يثبت اشتهاره بالصدق بين قريش وعدم شكهم في صدق حديثه حديث أبي سفيان مع هرقل وسؤال هرقل حينما سأل أبا سفيان: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا ثم رد هرقل في آخر الحديث بحكمة قل من يفطن لها إذ قال: وسألتك أتتهمونه بالكذب فقلت: لا فعلمت أنه لن يدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى و الحديث في صحيح البخاري..
ومما يثبت نفي الكذب عنه ما ورد في حديث ركانة بن عبد يزيد في السنن بإسناد فيه كلام. وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال يوماً للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب فإن صرعتني علمت أنك صادق، لقد أثبت صدقه بنفي الكذب عنه مع شدة العداوة وكثرة استهزاءه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في السير. وقد روى الترمذي عن علي أن أبا جهل قال له: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به فأنزل الله تعالى فيهم: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) [الأنعام : 33].
وقد اشتهر بين قريش صدقه صلى الله عليه وسلم حتى إن أبا طالب لما أخبره نبينا صلى الله عليه وسلم بخبر الصحيفة التي كتبتها قريش وأن الأرضة قد أكلتها ولم تترك فيها إلا كلمة واحدة هي (باسمك اللهم) قام أبو طالب يحاجّ قريش حتى فتحوا الكعبة وأخرجوا الصحيفة ووجدوها حقاً كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم فوبخهم أبو طالب بقوله شعراً في هذا:
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة ***متى ما يخبر غائب القوم يُعجب
محا الله منها كفرهم وعقوقهم*** وما نقموا من ناطق الحق مُعرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً*** ومن يختلق ما ليس بالحق يُكذب
وقد كانت علامات الصدق تلوح على محياه صلى الله عليه وسلم حتى قال عبد الله بن سلام الحبر اليهودي في قصة إسلامه أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في وجهه قال: فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب).(رواه ابن ماجه وغيره).
ولو لم تكن فيه آيات مبينة**** كانت بديهته تأتيك بالخبر
000000000000
شبهات وتهم ضد مقام النبوة(2)
الشبهة الثانية:قولهم عنه (ساحر، كاهن، مجنون):
وهذه الصفات التي وصفه بها كفار قريش لما جاءهم بالحق ولم يستطيعوا له رد فجنحوا إلى هذه التهم والأوصاف حتى يصدوا الناس عنه إذ أنه لا يجلس إليه أحد فيعرض عليه الإسلام ويقرأ القرآن على مسامعه إلا أخذ بلب جليسه وأسر قلبه فأراد المعاندون بإثارة هذه الشبهة أن يصدوا الناس عن الجلوس إليه وسماعه خاصة في المواسم التي يجتمع فيها الناس من أنحاء الجزيرة العربية.
هذا عتبة بن ربيعة جاء مندوباً لقريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يترك دعوته فيقول له: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، ثم عرض عليه المال والملك وعرض عليه ما استطاعه من الإغراء حتى إذا فرغ عتبة من كلامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إليه فقال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم (حم* تنزيل من الرحمن الرحيم). [فصلت 1 : 2].
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وقد ألقى عتبة يديه وراء ظهره معتمداً عليهما وهو يسمع منصتاً حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك) سيرة ابن هشام.!!
وعاد عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله قد جاءكم أبا الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، أطيعوني واجعلوها لي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.(9/39)
فهذا عتبة بن ربيعة وهو من صناديد قريش وسادتهم بعدما سمع القرآن وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينفي أن يكون شاعراً أو كاهناً أو ساحراً.
وهذا النضر بن الحارث سيد آخر من سادة قريش وكبير من كبرائهم ممن كفر حسداً وحقداً يقوم في قريش ذات يوم ويقول: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، فقد كان فيكم محمد غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب. وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. قلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل لكم أمر عظيم. فهذه شهادتين من أعدى أعداءه تثبت كذبهم وافتراءهم عليه سيرة ابن هشام..
الشبهة الثالثة: (قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا):
اتهم المشركون نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه جمع أساطير الأولين من الرواة الذين كانوا يتناقلونها ثم كتبها فهو يلقيها عليهم ليدعي بذلك الوحي.
وقد بيّن القرآن الكريم الرد على مثل هذه الشبهة ومفاده أنه كان صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب. وأنه لم يخرج من مكة ولم يسافر إلى البلاد التي تكثر فيها هذه القصص والأساطير التي ادعتها عليه قريش ثم إن ما جاءهم به محكم لا لبس فيه ولا اختلاف ولا عجمة ولا اعوجاج فيه على عكس ما كان يتناقل في عصرهم من أساطير يكذب بعضها بعضاً.
وتحداهم أن يأتوا بمثله فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله فلما عجزوا تحداهم أن يأتوا بعشر آيات مثله، ولن يستطيعوا ولو اجتمع الجن كلهم والإنس على أن يأتوا بمثله، وما زال التحدي قائمًا ليفضح عجزهم وكذبهم وبهتانهم، وهذه الأمم وصلت في العصر الحديث إلى اقتحام الفضاء وتطويع الكائنات فهل يستطيعون ولو اجتمعوا أن يأتوا بآية مثله؟
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) [الإسراء : 88].
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [يونس : 38].
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود : 13].
وأنى لهم أن يأتوا بمثله وهو تنزيل من رب العالمين الحكيم العليم وهو القاهر فوق عباده وهو اللطيف الخبير.
الشبهة الرابعة: وهي من شبه المستشرقين الحديثة وصفهم له صلى الله عليه وسلم بأنه (شهواني):
حين تزوج إحدى عشرة امرأة بينما منع أتباعه من الزيادة على أربع نساء.
والجواب على هذه الشبهة:
أنه ينبغي أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً قط إلا عائشة – رضي الله عنها – كما أنه صلى الله عليه وسلم إبان شبابه وفتوته لم يتزوج سوى خديجة – رضي الله عنها – حين كان عمره خمساً وعشرين سنة وهي امرأة كبيرة فلو كان ذا شهوة لما اكتفى بها وهي المرأة الكبيرة في السن فلم يتزوج عليها حتى توفيت – رضي الله عنها.
وكان زواجه بعائشة – رضي الله عنها – إكراماً لصديقه وأحب الناس إليه وأوفاهم له وأكثرهم إخلاصاً له ولدعوته.
وكذلك كان زواجه بحفصة بنت عمر بن الخطاب إكراماً لأبيها ثاني رجل في الإسلام وثاني وزراءه وإذا لم يكرم عمر بن الخطاب فمن يكرم إذاً؟! وأما زواجه بأم حبيبة وأم سلمة وسودة وميمونة وأم المساكين وهن أرامل فكان إيواءً لهن لما فقدن أزواجهن ولما أصابهن من عذاب واضطهاد في ذات الله تعالى.
وزوّجه ربه تبارك وتعالى زينب بنت جحش وهو كاره لذلك خشية من قول الناس: «محمد تزوج امرأة ابنة زيد» الذي تبناه قبل الإسلام فأراد الله عز وجل أن يهدم قاعدة التبني التي كانت متأصلةً في المجتمع الجاهلي حيث كان للابن المتبنى عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء، فكان أقوى معول لهدم هذه القاعدة أن أمر الله عز وجل نبيه أن ينكح زوجة زيد بعدما طلقها وقد كان ابناً له بالتبني في الجاهلية ليستقر عند العرب عدم جواز التبني.
وكان زواجه لصفية وجويرية مسحاً لدموعها وإذهاباً لحزنهما لموت زوجيهما في معركة قتال دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين رجالهما.(9/40)
كما أن من فوائد زواجه صلى الله عليه وسلم ما كان شائعاً عند العرب من احترام للمصاهرة إذ كانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم. فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة المخزومية لم يقف خالد بن الوليد المخزومي من المسلمين موقفه الشديد الذي وقفه بأحد، وكذلك أبو سفيان قائد المشركين لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة،وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية.
ومن أعظم وأجل مقاصد نكاحه صلوات ربي وسلامه عليه أنه كان مأموراً بتزكية وتعليم الناس ولما كان من المبادئ التي قام عليها بناء المجتمع المسلم ألا يختلط الرجال بالنساء كانت الحاجة داعية إلى وجود نساء مختلفات الأعمار والمواهب (وهن أمهات المؤمنين) فيزكيهن النبي صلى الله عليه وسلم ويربيهن ويعلمنهن ليقمن من بعده بتربية نساء المسلمين فيكفين مؤنة التبليغ في النساء، وقد كان لأمهات المؤمنين فضلٌ كبير في نقل أحواله صلى الله عليه وسلم المنزلية للناس.
أفترى رجلاً يدع الزواج في شبابه من النساء ويقتصر على امرأة كبيرة في السن كخديجة أو كسودة حتى يصل الخمسين من عمره ثم فجأة يجد في نفسه شهوة عارمة فيتزوج بمثل هذا العدد الكبير من النساء؟!.
اللهم إن هذا لا يقوله إنسان عاقل بل لا يقوله إلا مكابر فاجر.
الشبهة الخامسة:من أعظم الشبه والافتراء: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (إرهابي دموي سفاك للدماء):
وهذه التهمة إنما يذيعها المستشرقون في العصر الحديث تشكيكاً في دعوته وصدق نبوته صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الحلم والاحتمال والعفو عند المقدرة والصبر على المكاره الشيء الكثير جداً.
وكل حليم عرفت منه زلة وحفظت عنه هفوة ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزدد مع كثرة الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً، قالت عائشة – رضي الله عنها: ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها أخرجه البخاري، وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضىً.
وقد كان من أعظم دلائل نبوته التي وردت في كتب أهل الكتاب. والتي آمن على مثلها من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما أن حلمه يسبق غضبه.
وقد كان العفو والصفح أحب إليه من الانتقام كما في القصص التالية:
* تصدى له غورث بن الحارث ليفتك به صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطرح تحت شجرة وحده
قائلاً (من القيلولة وهو نوم وسط النهار) دون حرس، وأصحابه قائلون كذلك. وذلك في غزاة، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وغورث قائم على رأسه، والسيف مصلتٌ في يديه وقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الله». فسقط السيف من يد غورث، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك»؟ قال غورث: كن خير آخذ فتركه وعفا عنه. فعاد إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. (أخرجه الإمام أحمد وهو في البخاري مختصراً).
* لما دخل المسجد الحرام صبيحة الفتح ووجد رجالات قريش جالسين مطأطي الرؤوس ينتظرون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتح فيهم، فقال: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم»؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (حسن إسناده ابن حجر في فتح الباري) فعفا عنهم بعدما ارتكبوا من الجرائم ضده وضد أصحابه ما لا يقادر قدره، ولا يحصى عده، ومع هذا فقد عفا عنهم ولم يعنف ولم يضرب. ولم يقتل فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
* سحره لبيد بن الأعصم اليهودي (القصة في صحيح البخاري)، فعفا عنه ولم يؤاخذه. بل لم يثبت أنه لامه أو عاتبه مجرد لوم أو عتاب. فضلاً عن المؤاخذة والعقاب.
* تآمر عليه المنافقون وهو في طريق عودته من تبوك إلى المدينة تآمروا عليه ليقتلوه وعلم بهم وقيل له فيهم فعفا عنهم، وقال: (لا يُتحدث أن محمداً يقتل أصحابه) (القصة في صحيح البخاري).
* لم يذكر في غزوة من الغزوات أنه اعتدى على أحد أو غزا قوماً مسالمين بل كانت غزواته وسراياه موجهة إلى من بدأه بالعداوة وحاول الكيد للإسلام والمسلمين، وكان يأمر أمراءه إذا أرسلهم أن لا يقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا عجوزاً ولا راهباً معتزلاً في صومعته وكان ينهاهم عن التحريق بالنار وإفساد الزرع.(9/41)
وقد غيّر النبي صلى الله عليه وسلم أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب والقتل والإغارة والظلم والبغي والعدوان وأخذ الثأر والفوز بالوتر وكبت الضعيف وتخريب العمران وتدمير البنيان وهتك حرمات النساء والقسوة على الضعيف والولائد والصبيان وإهلاك الحرث والنسل والعبث والفساد في الأرض في الجاهلية، إذ صارت هذه الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة وأغراض سامية وغايات محمودة يعتز بها المجتمع الإنساني في كل زمان ومكان وغدت الحرب جهاداً في تخليص الإنسان من نظام القهر والعدوان.
إن تحول المجتمع إلى نظام العدل والنصف بدلاً عن نظام يأكل فيه القوي الضعيف، حتى يصير المجتمع إلى نظام يصير فيه القوي ضعيفاً حتى يؤخذ الحق منه وصارت بذلك الحرب جهاداً لتخليص المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً. وصارت جهاداً في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة والإثم والعدوان وغدت وسيلة لبسط الأمن والسلامة والرأفة والرحمة ومراعاة الحقوق والمروءة.
أومن قام بتبديل الحرب من شرٍّ محضٍ إلى خيرٍ محضٍ يكون إرهابياً أو سفاكٍ للدماء؟.
أفترى من يأمر بهذا العدل والإنصاف والرحمة والرأفة حتى مع العدو أثناء القتال يمكن أن يوصف بأنه إرهابي أو قاتل أو سفاك للدماء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!!
علماً بأن جميع البلاد التي فتحها بالسيف ظهر فيها الإسلام وانتشر وثبت أهلها على الإسلام، مما يؤكد أن انتشار الإسلام وثباته لصفاته الذاتية فيه وليس انتشاره عائداً إلى نشره بالقوة والسيف فقط كما أن أكثر بقاع الإسلام وبلاده مما فتح سلماً دون حرب أو قتال كما ثبت ذلك في دواوين السيرة وكتب التاريخ.
إن هذه الشبه والتهم التي يطلقها أعداء الإسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم لم تكن يوماً لتوهي من عضد الرسالة أو الرسول الذي بعث بها: (يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) [التوبة : 32].
بل ربما كانت هذه الشبه فأل خير لهذا الدين إذ أنه ومنذ ظهور فجر النبوة المحمدية كانت هذه الشبه والاتهامات سبباً وباعثاً قوياً في إقبال الناس على دعوته صلى الله عليه وسلم فكلما زادت التهم زاد تحري الناس وسؤالهم عن الرسول والرسالة فيقودهم ذلك إلى الانبهار بأضواء النبوة حتى يسلمهم ذلك إلى الدخول في دين الله أفواجاً والحمد لله أولاً وآخراً.
وقولنا لمن يروج هذه الشبه والتهم هو ما قاله حسان ابن ثابت في المنافحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه وهو أجمل ما قيل في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستطع أحد أن يحلق إلى ما دون هذا فضلاً عن أن يساميه وأنّى لهم ذلك وهو المؤيد بروح القدس، يقول – رضي الله عنه:
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه **** وعند الله في ذاك الجزاءُ
هجوت مباركاً براً حنيفاً **** أمين الله شيمته الوفاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفء؟**** فشركما لخير كما الفداءُ
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاءُ
وإذا كان هذا ما قاله مؤمن به، فإن ما ورد عن أعداءه من الثناء عليه كثيرٌ جداً – والحق ما شهدت به الأعداء – فهذا الدكتور مايكل هارت الذي ألف كتاب (المائة الأوائل) يضع في المقام الأول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويعلل ذلك بقوله: ((إن اختيار المؤلف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليكون في رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، إن هذا الاختيار ربما أدهش الكثير من القراء (يقصد بهم القراء من غير المسلمين الذين ألف لهم الكتاب، وإلا فإن المسلمين يعتقدون عقيدة جازمة بأن محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الثقلين) إلى حد قد يثير بعض التساؤلات، ولكن في اعتقاد المؤلف أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي.
لقد أسس محمد صلى الله عليه وسلم ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرناً تقريباً على وفاته، فإن تأثيره لا يزال قوياً وعارماً))*.
ــــــــــــــــــــــــــ
*كتاب (المائة الأوائل في المقدمة) للدكتور مايكل هارت
--------------------------
(25) الآثار النبوية
المجيب د. ناصر بن عبد الرحمن الجديع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
السؤال
أثناء زيارتي لتركيا رأيت في متحف (طوب قابي سراي) في اسطنبول قاعة للأمانات المقدسة، تضم آثاراً نبوية؛ شعرات للرسول صلى الله عليه وسلم، ورسالته للمقوقس، وبردته، وأشياء أخرى، ولم ألاحظ ما يدل على ثبوت ذلك تاريخياً.
فما حقيقة هذه الآثار، و هل يصح أنها نبوية؟
الجواب(9/42)
ليس هنالك ما يدل على ثبوت صحة نسبة هذه الآثار ونحوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب كتاب (الآثار النبوية) المحقق أحمد تيمور باشا ص 78 بعد أن سرد الآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقسطنطينية (اسطنبول): (لا يخفى أن بعض هذه الآثار محتمل الصحة، غير أنا لم نر أحداً من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب ويتنازعها من الشكوك) الخ.
ولا شك في مشروعية التبرك بآثار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، ولكن الشأن في حقيقة وجود شيء من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم في العصر الحاضر.
وإن مما يضعف هذه الحقيقة ما جاء في صحيح البخاري(3/186) عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة) فهذا يدل على قلّة ما خلَّفه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته من أدواته الخاصة .
وأيضاً فقد ثبت فقدان الكثير من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم على مدى الأيام والقرون؛ بسبب الضياع، أو الحروب، والفتن ونحو ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك فقدان البردة في آخر الدولة العباسية، حيث أحرقها التتار عند غزوهم لبغداد سنة 656هـ ، وذهاب نعلين ينسبان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في فتنة تيمور لنك بدمشق سنة 803هـ .
ويلاحظ كثرة ادعاء وجود وامتلاك شعرات منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من البلدان الإسلامية في العصور المتأخرة، حتى قيل إن في القسطنطينية وحدها ثلاثاً وأربعين شعرة سنة 1327هـ ، ثم أهدي منها خمس وعشرون، وبقي ثماني عشرة.
ولذا قال مؤلف كتاب (الآثار النبوية) ص82 بعد أن ذكر أخبار التبرك بشعرات الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه رضي الله عنهم: (فما صح من الشعرات التي تداولها الناس بعد بذلك فإنما وصل إليهم مما قُسم بين الأصحاب رضي الله عنهم ، غير أن الصعوبة في معرفة صحيحها من زائفها).
ومن خلال ما تقدم فإن ما يُدّعى الآن من وجود بعض الآثار النبوية في تركيا أو غيرها سواءً عند بعض الجهات، أو عند بعض الأشخاص موضع شك، يحتاج في إثبات صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى برهان قاطع، يزيل الشك الوارد، ولكن أين ذلك؟ ولاسيما مع مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان على وجود تلك الآثار النبوية، ومع إمكان الكذب في ادعاء نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على بعض الأغراض، كما وُضعت الأحاديث ونسبت إليه صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً.
وعلى أي حال فإن التبرك الأسمى والأعلى بالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو اتباع ما أثر عنه من قول أو فعل، والإقتداء به، والسير على منهاجه ظاهراً وباطناً.
--------------------------
(26) الرد على شبهة اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدنيا والغنائم
الكاتب: الشبكة الإسلامية
من الشبه التي أثارها أعداء الإسلام، وروَّجوا لها بهدف تشويه شخصية محمدٍ صلى الله عليه وسلم، للوصول إلى الطعن في دعوته، وإبعاد الناس عنها، ما يدَّعونه من أنه كان صاحب مطامع دنيوية، لم يكن يظهرها في بداية دعوته في مكة، ولكنه بعد هجرته إلى المدينة بدأ يعمل على جمع الأموال والغنائم من خلال الحروب التي خاضها هو وأصحابه، ابتغاء تحصيل مكاسب مادية وفوائد معنوية.
وممن صرح بذلك "دافيد صمويل مرجليوت " المستشرق الإنجليزي اليهودي، حيث قال: "عاش محمد هذه السنين الست بعد هجرته إلى المدينة على التلصص والسلب والنهب.. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثرت على نفس محمد، والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من قبل ونابليون من بعد ".
والحق، فإن الناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم، والمتأمل في تاريخ دعوته، يعلم علم اليقين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسعى من وراء كل ما قام به إلى تحقيق أي مكسب دنيوي، يسعى إليه طلاب الدنيا واللاهثون وراءها، وهذا رد إجمالي على هذه الشبهة، أما الرد التفصيلي فبيانه فيما يلي:
1-أن ما ذُكر في هذه الشبهة لا يوجد عليه دليلٌ في واقع حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان كما قيل لعاش عيش الملوك، في القصور والبيوت الفارهة، ولاتخذ من الخدم والحراس والحشم ما يكون على المستوى المتناسب مع تلك المطامع المزعومة، بينما الواقع يشهد بخلاف ذلك، إذ كان في شظف من العيش، مكتفياً بما يقيم أود الحياة، وكانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم منذ أن رأى نور الحياة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى..، يشهد لهذا أنّ بيوته صلى الله عليه وسلم كانت عبارة عن غرف بسيطة لا تكاد تتسع له ولزوجاته.(9/43)
وكذلك الحال بالنسبة لطعامه وشرابه، فقد كان يمر عليه الشهر والشهران لا توقد نارٌ في بيته، ولم يكن له من الطعام إلا الأسودان - التمر والماء-، فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: (ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ، فقلت: يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء) متفق عليه. وسيرته صلى الله عليه وسلم حافلة بما يدل على خلاف ما يزعمه الزاعمون.
2-ثم إن هذه الشبهة تتناقض مع الزهد الذي عُرف به النبي صلى الله عليه وسلم، وحث عليه أصحابه، فقد صح عنه أنه قال: (إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) متفق عليه، وقرن في التحذير بين فتنة الدنيا وفتنة النساء، فقال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء) رواه مسلم.
3-ومما يدحض هذه الشبهة وينقضها من أساسها أن أهل مكة عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والملك والجاه من أجل أن يتخلى عن دعوته، فرفض ذلك كله، وفضل أن يبقى على شظف العيش مع الاستمرار في دعوته، ولو كان من الراغبين في الدنيا لما رفضها وقد أتته من غير عناء.
4-أنّ الوصايا التي كان يزود بها قواده تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن طالب مغنم ولا صاحب شهوة، بل كان هدفه الأوحد والوحيد إبلاغ دين الله للناس، وإزالة العوائق المعترضة سبيل الدعوة، فها هو يوصي معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن بقوله: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس ) رواه البخاري.
فهو صلى الله عليه وسلم لم يقاتل أحداً، قبل دعوته إلى الإسلام، الذي تصان به الدماء والحرمات.
5-ومما يُرد به على هذه الفرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتحل من الدنيا ولم يكن له فيها إلا أقل القليل، ففي الصحيح عن عمرو بن الحارث قال : ( ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة ) رواه البخاري، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي) متفق عليه.
6-وكما قيل: فإن الحق ما شهدت به الأعداء، فقد أجرى الله على ألسنة بعض عقلاء القوم عبارات تكذب هذه الشبهة، من ذلك ما قاله "كارليل" : "أيزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وأثاره، حمق وأيم الله، وسخافة وهوس ".
ويقول: "لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه، ومأكله، ومشربه، وملبسه، وسائر أموره وأحواله.. فحبذا محمد من رجل خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الله، قائم النهار، ساهر الليل، دائباً في نشر دين الله، غير طامع إلى ما يطمع إليه أصاغر الرجال، من رتبة، أو دولة، أو سلطان، غير متطلع إلى ذكر أو شهوة ".
7-وما زعمه المستشرق اليهودي "مرجليوت" من أن انتقام رسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة كان لأسباب مصطنعة وغير كافية، فجوابه أن الواقع خلاف ذلك، إذ أبرم النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود معاهدة تقرهم على دينهم، وتؤمنهم في أنفسهم وأموالهم، بل تكفل لهم نصرة مظلومهم، وحمايتهم، ورعاية حقوقهم، ولم يكن في سياسته صلى الله عليه وسلم إبعادهم، ومصادرة أموالهم إلا بعد نقضهم العهود والمواثيق، ووقوعهم في الخيانة والمؤامرة.
وبعد: فلا حجة لمن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب مطامع دنيوية، يحرص عليها، ويسعى في تحصيلها، وإنما هي دعوة صالحة نافعة، تعود بالخير على متبعيها في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين
--------------------------
سب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم سب لجميع المسلمين
إعداد/ زكريا حسيني
الحمد لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق، سيد ولد آدم، حامل لواء الحمد، نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه، الذين جاهدوا معه، وبلغوا رسالة اللَّه للناس، رضي اللَّه عنهم أجمعين.
وبعد:(9/44)
«عن ابن عباس رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ أعْمَى كانت له أُمُّ وَلِدٍ كانت تَشْتِمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فيه، فَيَنْهَاهَا فلا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فلا تَنْزَجِرُ! قال: فلما كان ذاتَ ليلةٍ جعلتْ تَقَعُ في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغْول فوضعه في بطنها واتكأ عليه فقتلها فوقع بين رِجْلَيْهَا طِفلٌ، فَلَطَخَتْ ما هنالك بالدَّمِ! فَلمَّا أصبحَ ذُكِرَ ذلك لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: «أَنْشُدُ اللَّهَ رجلاً فَعَلَ ما فَعَلَ، لي عليه حقٌّ إلاَّ قامَ». فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يَتَزَلْزَلُ حتى قعد بين يَدَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّه، أنا صاحِبُهُا، كانت تَشْتِمُكَ وتقعُ فيك فأَنْهَاها فلا تَنْتَهي، وأزْجُرُها فلا تَنْزَجِرُ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقةً، فلما كان البارحةَ جعلت تشتُمِكَ وتقعُ فيك، فأخذتُ المغْولَ فوضعته في بطنها، واتكأْتُ عليها حتى قتلتها ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَها هَدرٌ».
هذا الحديث أخرجه الإمام أبو داود في سننه في كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (4361)، وأخرجه الإمام النسائي في سننه في كتاب المحاربة باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم برقم (4075)، وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم (8044)، والدارقطني والطبراني في الكبير، وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل (5/92) برقم (1251) وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم.
شرح ألفاظ الحديث/
«أُمُّ وَلَدٍ»: أي غير مسلمة ولذلك كانت تجترئ على ذلك الأمر الشنيع.
«تقع فيه»: أي تَعِيبه وتذمه؛ يقال: وقع فيه أي عابَه وذمَّه.
«فلا تنزجر»: أي: فلا تمتنع.
«فأخذ المِغْوَلَ» بكسر الميم وسكون الغين المعجمة؛ شِبْهُ سيفٍ قصير يشتمل به الرجلُ تحتَ ثِيابِه فَيُغَطِّيه، وقيل حديدةٌ دقيقةٌ لها حدٌّ ماضٍ، وقيل هو سَوْطٌ في جوفه سيف دقيق يشده الفاتِكُ على وَسَطِه ليغتالَ به الناسَ، وقد جاء في بعض نسخِ أبي داود «المعول» بالعين المهملة، وهو آلة حديدية تستعمل في الخطر.
«واتكأ عليها»: أي تحامل عليها.
«فوقع بين رجليها طفل» لعله كان ولدًا لها، والظاهر أنه لم يمت.
«فَلَطَخَتْ» أي لوَّثَتْ.
«ما هناك» أي من الفراش.
«ذُكِرَ ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم » أي ذُكِرَ ذلك القَتْلُ.
«فقال: أَنْشُدُ اللَّهَ رجلاً» أي أسأله بالله وأُقْسِمُ عليه.
«لي عليه حق»: أي يجب عليه طاعتي وإجابة دعوتي.
«يَتَزَلْزَلُ»: وفي النسائي «يدلدل». وكلاهما بمعنى يتحرك ويضطرب في مِشْيته.
«قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم » أي قعد أمام النبي صلى الله عليه وسلم.
«مثل اللؤلؤتين» في الحسن والبهاءِ وصفاء اللون.
«أَلاَ اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»: أَلاَ بالتخفيف أداة تنبيه، وإهدار دمها، أي إبطاله، وأنه لا قصاص عليه في قتلها. قال السندي في شرحه على سنن النسائي: لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله. واعتذار السندي هنا بقوله (لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله لبيان أن لا يجوز لآحاد الناس فعل هذا الرجل الأعمى لأن هذا من وظائف إمام المسلمين).
أقوال العلماء في قتل من سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال السندي رحمه اللَّه: في الحديث دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن اللَّه ورسوله فلا ذمة له، فيحل قتله.
قال المنذري: فيه أن سَابَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل، وقد قيل: إنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين يجب قتله، وإنما الخلاف إذا كان ذميًا، فقال الشافعي: يقتل وتبرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ ما هم عليه من الشرك أعظمُ (أي أنَّ الشرك أعظم من سب النبي صلى الله عليه وسلم) وقال مالك: مَنْ شَتَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قُتل، إلاَّ أن يسلم. انتهى كلام المنذري. نقلاً عن عون المعبود.
ولقد روى أبو داود أيضًا من حديث عليّ رضي الله عنه: «أن يَهُوديَّة كانت تشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقع فيها فخنقها رجلٌ حتى ماتتْ فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها»، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء تحت رقم (1251) 5/91، وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويشهد له حديث ابن عباس رضي الله عنهما - الذي معنا.(9/45)
قال صاحب عون المعبود: فيه دليل على أنه يقتل من يشتم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله. وقال الخطابي: لا أعلم خلافًا في وجوب قتله إذا كان مسلمًا. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وسلم منهم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيُقتل من غير استتابة. ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه. وروى عن الأوزاعي ومالك في المسلم أنها ردة يستتاب منها، وعن الكوفيين إن كان ذميًا عُزِّرَ وإن كان مسلمًا فهي ردة.
موقف اليهود من النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان اليهود أول من أظهروا الحقد والحسد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم، عاهدهم ووادعهم، وكان المنتظر من أمثالهم أن يكونوا أول من يصدقه ويتبعه، وقد كانوا يستفتحون به على المشركين، ويخبرونهم أنه أظلهم زمان آخر الأنبياء، وأنهم إن ظهر فسوف يتبعونه ويقاتلونهم معه، وهم يعرفون ذلك؛ يعرفون أن محمدًا حق وأن الإسلام حق كما يعرفون أبناءهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، ولقد جاءهم الأمر من اللَّه عز وجل أن يؤمنوا به، وأن يفوا بعهده ليوفي بعهدهم، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به، لكن هيهات، فإن قلوبهم قد امتلأت بالحسد عليه صلى الله عليه وسلم، وكانوا حقًا أول من كفر بمحمدٍ ودين محمدٍ صلوات اللَّه وسلامه عليه، ولم يكتفوا بالكفر به، بل حاولوا قتله بكل ما يستطيعون، وبكل ما أوتوا من قوة ومن مكر ودهاء وكيد للإسلام ولنبي الإسلام.
موقف بني قينقاع من الرسول صلى الله عليه وسلم:
فأول قبائل اليهود نقضًا للعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هم بنو قينقاع وذلك في شوال من السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة بدر مباشرة، فحاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد اللَّه بن أبيِّ - وكانوا حلفاءه - فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات.
موقف بني النضير مع النبي صلى الله عليه وسلم:
ثم نقض بنو النضير العهد، وقد أرادوا الغدر برسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج إليهم يستعين بهم في دية رجلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أمية على سبيل الخطأ، وكان بين بني عامر وبني النضير عقد وحلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: نعم، ثم خلا بعضهم ببعض وعزموا على قتله صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة على رأسه وهو جالس بجوار جدار من جدرهم، فأوحي اللَّه تعالى إليه بذلك، فقام منصرفًا، ثم حاصرهم وأجلاهم إلى خيبر والشام. وفي رواية لابن مردويه: أن اليهود بعد غزوة بدر كاتبتهم قريش، فأجمعوا على الغدر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل صلى الله عليه وسلم، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليهم، فرجع وصبحهم بالكتائب فحصرهم ثم أجلاهم.
موقف بني قريظة من الرسول صلى الله عليه وسلم:
تمالأت قريظة مع قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحزبت مع الأحزاب، مُجْمِعةً على قتاله وقتال من معه من المسلمين، ناقضة عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في غزوة الأحزاب، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن توجه إليهم بأمر من اللَّه تعالى، حين نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مخبرًا إياه أن الملائكة لم تضع أسلحتها، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنًا يؤذن في الناس: من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلاَّ في بني قريظة.
موقف يهود خيبر معه صلى الله عليه وسلم:
كان يهود خيبر من أكبر المحرضين للمشركين الوثنيين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا من أهم الأسباب في تجميع الأحزاب للقضاء على الإسلام ونبي الإسلام، فلذلك بعدما استقر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهدأت أحوال المسلمين بها تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى خيبر، لتأديبهم بسبب نقضهم العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.(9/46)
ولقد بيّن القرآن الكريم موقف اليهود من الإسلام والمسلمين في أكثر من آية منه، ومن أجمعها قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) [المائدة: 82، 83]، هذا موقف اليهود من الإسلام ونبي الإسلام عند ظهوره، وبداية انتشار دينه.
فما موقف أعداء الإسلام اليوم؟
لقد تفنن أعداء الإسلام في كل مكان باتهام الإسلام بأنه دين الإرهاب، وذلك يرجع إلى إساءة ربما صدرت من بعض المنتمين إلى هذا الدين! وهؤلاء الأعداء؛ ألا يعرفون عن الإسلام إلاَّ هذه التصرفات التي يتبرأ منها الإسلام وأهله؟ إنهم صموا آذانهم وأغلقوا عقولهم وتغابَوْا - وهم يظهرون للناس أنهم أهل العقل والذكاء والفهم - عن أن يتعرفوا على الإسلام وسماحته، وأنه الدين الحق الذي ارتضاه اللَّه تبارك وتعالى لعباده، وأنهم - أعداء هذا الدين - ما نهضوا ولا عرفوا تطورًا ولا رقيًا إلا باقتباسهم من هذا الدين ما جعلهم يصلون إلى ما وصلوا إليه من رقي ورفعة.
ثم تجرأ أعداء الإسلام على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فصوروه بصور لا تليق بأراذل الناس وسفهائهم فضلاً عن المؤمنين الصالحين، وفضلاً عن رسل اللَّه وأنبيائه الذين هم خير البشر، بل خير الخلق.
سبب جرأة أعداء الإسلام على نبي الإسلام:
إن هذه الجرأة إنما نشأت وظهرت بسبب ضعف المسلمين وجهل الكثير منهم بهذا الدين الحق، الذي قال اللَّه جل جلاله فيه: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). بل إن كثيرًا من المسلمين انبهروا بما عليه أعداء الإسلام من زخرف الحياة الدنيا، فنظروا إلى الدين على أنه أمرٌ هامشي، لا يهتمون به إلا بعد أن يفرغوا من أمور الدنيا، ولو علموا أن سعادتهم في الدنيا والآخرة إنما هي في نسبتهم إلى هذا الدين وتمسكهم به، لتمسكوا به وعَضُّوا عليه بالنواجذ، ولم يفرطوا في شيء منه أبدًا.
سبُّ النبي صلى الله عليه وسلم سبٌّ لجميع المسلمين وطعن في دينهم:
معلوم أن رسل اللَّه عليهم صلوات اللَّه وتسليماته يأتون برسالات اللَّه ليبلغوها إلى أقوامهم، فهم واسطة بين اللَّه وبين عبادة، فمن سبَّ نبيًا من الأنبياء فقد طعن في رسالته، ولا شك أن الطعن في الرسول والرسالة طعن في المرسل - سبحانه - وبذلك نستطيع أن نعرف لماذا أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم اليهودية التي آذته وسبته، وإذا كان المشرك لا يعرف لله عز وجل حقًا ولا يرجو له وقارًا فلا يستغرب منه سبٌّ لنبيٍّ من الأنبياء، أما اليهود فإنهم أهل كتاب، أرسل اللَّه تعالى إليهم رسولاً وأنزل عليهم كتابًا، وفي كتابهم تعظيم شأن هذا النبي، فمن آذاه أو سبه فإنما يكفر بما عنده من العلم، ويكتم الحق وهو يعلم.
وحينما يسب الكفار المعاصرون نبي الإسلام فإن هذا السب والاستهزاء والسخرية إنما هو طعن في دين الإسلام وسبٌّ للمسلمين جميعًا الذين يدينون بدين الإسلام، لذلك وجب على المسلمين أن يهبوا دفاعًا عن أنفسهم وعن دينهم وعن نبيهم.
قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول»: وضرر السبِّ في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها وذل عصمتها وإهانة مستمسكها، وإلاَّ فالرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه في نفسه لا يتضرر بذلك. ا هـ. (ص443).
واجب الأمة تجاه نبيها صلى الله عليه وسلم:
يجب على كل مسلم من المسلمين تجاه نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
1- التعزير والتوقير، والذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، والتعزير كما في التفسير تأييده بالمعونة والنصرة ولا يكون ذلك إلا باتباع سنته.
2- تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه.
3- حبه صلى الله عليه وسلم، وتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ويظهر ذلك في اتباعه والاقتداء به وحده.
4- الحذر من الاستهزاء بشيء من سنته، أو رَدّ شيء منها بالعقل.
5- محبة آل بيته وأزواجه وأصحابه، والتقرب إلى اللَّه تعالى بحبهم.
6- بيان حال من يطعن في صحابته أو أهل بيته.
7- تربية أبناء المسلمين على محبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وتعريفهم حقوقه صلى الله عليه وسلم على الأمة.
8- التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في سلوكه.
9- التعرف على سيرته صلى الله عليه وسلم وجهاده من أجل تبليغ رسالة ربه.
10- وعلى العلماء أن يعملوا على:
أ- إحياء سنته صلى الله عليه وسلم في نفوس الناس.
ب- التمييز بين الصحيح والضعيف مما يُنقل عنه من سنته.
جـ- التحذير من البدع في الدين التي أساءت إلى الإسلام.
د- التحذير من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، بل ينزل منزلته التي أنزله اللَّه تعالى إياها.(9/47)
هـ- الرد على الشبهات والأباطيل التي يثيرها أعداء الإسلام وتفنيدها.
11- على الأمة الإسلامية أن تتصدى للإعلام الغربي واليهودي، والرد على ما يثيرونه من شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام.
12- وعلى الأمة أيضًا أن تُعنى عناية فائقة بالدعوة إلى الإسلام، ودعم الدعاة ليقوموا بواجبهم تجاه الدين.
نسأل اللَّه تعالى أن يرد كيد الأعداء وأن يبطل مكرهم، وأن يعز دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين للدفاع عن دينهم، والذود عن نبيهم، والذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
====================
إيماض البرق في خلق سيد الخلق صلى وسلم عليه الحق
فضيلة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني
الحمد لله الذي قد أنزلا كتابه وللرسول أرسلا..
اللهم لك الحمد حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك..
ولك الحمد زنة عرشك وعدد خلقك ورضا نفسك ومداد كلماتك..
لا تشكر نعمتك إلا بنعمتك.. ولا تنال كرامتك إلا برحمتك..
أنت أهل الثناء والمجد ** فامنن بجميل من الثناء المواتي
يا محب الثناء والمدح إني ** من حيائي خواطري في شتاتي
حمدنا وثنائنا ليس إلا **هبة منك يا عظيم الهبات
لو نظمنا قلائد من جمان ** ومعان خلابة بالمئات
لو برينا الأشجار أقلام شكر ** بمداد من دجلة والفرات
لو نقشنا ثنائنا من دمانا ** أو بذلنا أرواحنا الغاليات
أو وصلنا نهارنا بدجانا ** في صلاة وألسن ذاكرات
أو قطعنا مفاوز من لهيب ** ومشينا بأرجل حافيات
أو بكينا دما وفاضت عيون ** بلهيب المدامع الحارقات
ما أبنا عن همسة من معاني ** في حنايا نفوسنا ماكينات
أي شيء أبقى وأنقى وأرقى ** من حروف بمدحكم مترعات
فالق الحب والنوى جل شائنا.. لم يزل مرغما أنوف الطغاة.. الولي المتين ما خاب ظن لنفوس في فضله طامعات.. الحمد لك لا ند لك.. والملك لك من عالم الذر الخفي إلى الفلك.. ما عام أو ما طار فيه أو سلك.. ما كان من إنس وجن أو ملك.. إلا وقد شهدوا بأن الملك لك.. الحمد لله على توفيقه ومنه وفضله وجوده.. وصلوات الله والسلام ما ناح طير الأيك والحمام.. على النبي المصطفى البشير الهاشمي المجتبى النذير وآله.. ما انبلج الصباح وصحبه ما هبت الرياح.. بذكر الله ترتاح القلوب.. ودنيانا بذكراه تطيب.. من شاء في ظل السعادة هجعته.. فهنا تشاد صروحها وتقام.. أورام نسيان الهموم فهاهنا.. تنسى الهموم وتنسخ الألأم.. سبحان من لا هدي إلا هديه.. نفنى ويبقى الواحد العلام..
أي فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد.. فتيان الحمى وجنود الهدى.. معاقد الأمل ورجال العمل.. قادة السفينة في موج كالجبال.. وليل خافت الذبال.. حداة القافلة في خضم العواصف الهوج والملتويات العوج..
نظر الله هذه الوجوه التي أحسبها في الخير قد رقت أندائها.. وتجاوبت أصدائها.. وغردت أطيارها.. وتنفست أزهارها.. وفاح أريج أصائلها وأسحارها.. فالسعد والإيمان في بسماتها.. والورد والريحان من نسماتها.. في هذه الليلة الغراء.. التي لا أرى فيها إلا المغوار وأب المغوار.. والرجال وأبناء الرجال وأحفاد الرجال..
أحييكم بتحية الإسلام تحية ظامئ لريكم ورياكم.. ومتطلع لسهيلكم وثرياكم.. تحية الأبوة للبنوة.. والشيخوخة للفتوة.. والقرابة للأخوة.. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. تصافح مواطن الإحساس من نفوسكم.. وتخالط معاقد الإيمان من قلوبكم.. وتحرك أوتار الحمية في صدوركم.. سائلين لكم التأييد من ذي العرش المجيد.. وزيادة في النعيم.. وسيادة تدفع إلى حرم العز من ثنية التنعيم..
أهلا بني طه ونون والضحى.. وبني تبارك والكتاب المحكم.. وبني الأباطح والمشاعر والصفا.. والركن والبيت العتيق وزمزم..
حياكم الله وأحياكم للأمة.. ترفعون منارها.. وتورون نارها.. وتقومون منئآدها.. وتصلحون فسادها.. وتنفقون كسادها.. وتحسنون تهيئتها وإعدادها.. فتملكون قيادها.. وتستنشقون رندها وعرارها وشيحها وقيصومها وريحانها..
جمع الهداية قد شرفت منزلا ** قدر المنازل عن سناها نازل
كم سرت فيها نحو ربعك منشدا ** لك يا منازل في القلوب منازل
معشر الإخوة...... غير خاف على الغبي والنبيه.. والحليم والسفيه.. أننا نعيش مرحلة حرجة لم يسبق لها مثال.. الأمة كثير فيما يعد العادون لكنهم مع هذا العدد مبددون..
مدوا يدا لغريب بات يقطعها ** وكان يلثمها لو أنه لطما
أسراهم في سجون البغي ما عرفوا ** لون الحياة وقتلاهم بلا قودي
بنوا اللقيطة داسوا حرمة الصحف ** واستأسد الغي حين استنوق الرشدوا
يهان كتاب الله في حملة إذلال منظمة.. فلا تنشق مرارة ولا تثور حرارة.. فتتخذ مواقف تدل على الثأر للكرامة..
ماذا سيبقى من كرامة ديننا ** لما تداس وتستباح مصاحف
ردود أفعال هلاهيل..!! لا تتناسب مع فداحة المصيبة ومقدار الإهانة..!! فلم يجد أبرهة حتى من يقول: أنا رب الأسرى وللمصحف رب يحميه.. فوا ذلاه..!!!(9/48)
في زمان الصقور صرنا حماما ** كيف يحيا مع الصقور الحماما؟
وقع السقف يا صناديد قومي ** أوى صاحون أنتم أم نياما
لا يهين الجموع إلا رضاها ** رضي الناس بالهوان فهانوا
ولا عجب إذا أرخصت نفسك عند ** قوم فلا تغضب عليهم إن أساءوا
لو كنت من هاشم لم تستبح صحفي ** بنوا اللقيطة من قرد ابن نصرانيا
أمة تداعى عليها الأعداء.. فإذا هي في عمومها غثاء لا منفعة ولا غناء.. في اضطراب واحتراب.. السرائر منها بليت.. والصحائف نشرت.. والدفائن نبشت..
فهي والأحداث تستهدفها ** تعشق اللهو وتعشق الطربَ
تساق إلى الذبح خاضعة ** وترفع للذابحين الذنبَ
تتلمس الهداية من مطالع الظلال.. وتطلب الشفاء بأسباب المرض العضال.. تبحث عن الدليل وهو معها وحي من ربها.. يراد لها ومنها أن تفزع إلى عدوها.. تتعادى لإرضائه.. !! وتتمادى بإغوائه..!! تتنازل عن عقلها لعقله وإن كان مأفونا..!! وعن فكرها لفكره وإن كان مجنونا..!! يراد لها أن تلقح فضائلها برذائله..!! وتهزأ بماضيها افتتانا بحاضره..!! وتسخر من رجالها إعجابا برجاله..!! وتنسى تاريخها لتحفظ تاريخه..!! وتحتقر لسانها احتراما للسانه..!! وتحت ضغط ما يراد لها تضاءلت فيها السوابق.. وتصاهلت عرج الحمير.. وترجل الجنس اللطيف.. مخلفا فينا شبابا للأنوثة ينتمي.. ونطق الرويبضة والتافه.. وأشار بالرأي البليد للذكا.. وتؤم أشباه الرجال نسائها.. خابت ذكور إذ تأمهم نساء.. ووئدت الأخلاق بأيدي نساء بلحى.. من كل ذي وجه لو الناصفاته تندى لكان من الفضيحة يقطر..
بئس المناخ لقد حسبت هوائه ** دنسا وأن بحاره لا تطهر
كل ذلك عبر شبكات وقنوات وصحف ومجلات.. نظَّرَ لها المفسدون.. واستحوذ عليها المستهترون.. لو اطلعت عليها لوليت منها فرارا ولمئت منها رعبًا.. ولازالوا يخصفون عليها زخرف القول غرورا.. واتخذوا معها القرآن مهجورا.. تنفث السموم وتحمل النفاق والتدجيل.. فإذا الحق باطل والأباطيل حقوق والإفك أثوم قيلا.. شعاراها من ذا يعيب هز البطون.. وذاك من روائع الفنون.. الدين أن تبدوا ظريفا مرنا.. وإن عبدت نعجة أو وثنا..
ما الدين بالعفاف والصلاة ** الدين خذ فيه خفة وهات
فيها أعذب مطرب هو الحمار.. وشر مزعج هو الهزار.. وأشجع الشجعان ذاك الأرنب.. والليث رمز الجبن لا تعجب.. دنيا الإعلام تقليب الحقائق.. وتظهر العلقم حلو الرائق.. فأفرزت لنا جيلا غالبه مظلم الروح.. بليد الذهن.. ضعيف الإرادة.. يترنح كالذي يتخبطه الشيطان من المس.. سقط متاع لا يباع ولا يبتاع.. دوٍ كحال الطبل.. ما في جوفه شيء.. ولكن للمسامع يشغل.. هبل إذا اجتمعوا صاحوا.. كأنهم ثعالب ظبحت بين النواويس.. رؤاهم أهدافهم ما عرضت إلا رأيت عجبا.. ترى ناسا يتمنون العمى.. وآخرين يحمدون الصمم..!!
معشر الأخوة..... إن بلائنا ليس في هجمة عدونا فحسب.. بل إن من بلائنا فئة من بني جلدتنا.. هي بمثابة بوق عدونا..!! لا دور لها سوى ترديد كلامه لكن بصوت أعلى..!! آله صماء يديروها على ما شاء..!! ويريدها على ما شاء..!! يحركها للفتنة فتتحرك.. لتغطي الشمس بغربال.. وتطاول العماليق بالتنبال..!! يدعوها لتفريق الصفوف فتستجيب وتجيد التخريب..!! يريدها حمى تنهك فتكون طاعون يُهلك..!! يريدها لسانا فتكون لساناً وعيناً وأذناً ويداً ورجلاً ومقراضاً للقطع وفأساً للقلع ومعولاً للصدع..!! ما يشاء العدو إخماد حركة إلا كانت على يديها الهلكة..!! قد تهيأت فيها أدوات الفتنة.. فجنسها وفردها غبي العين عن طلب المعالي.. وفي السوءات شيطان مريد..!! بينه وبين أمته إدغام بغير غنة..!! كما تدغم اللام في اللام فلا يظهر إلا المتحرك..!! طويل اليد اليسرى وأما يمينه فليس لها في المكرمات بنان..!! يهدم الأمة ويدعي إنهاضها..!!
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها ** أقعد فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها
كم قلت أمراض البلاد ** وأنت من أمراضها
وتحت وطأة تداعي الأعداء.. خرج مدافعون عن الإسلام بمنطق الضعفاء العجزة.. يتمسكون بالقشة لينفوا عنهم التهمة.. فلا الإسلام نصروا..!! ولا لأعدائه كسروا..!! فضروا وما نفعوا..!! بل سوغوا وميعوا وخلطوا البعر بالدر الثمين..!! فلم يميز بين غث وسمين..!! فجاءوا بالكفن في ثياب العرس..!! وعرضوا النوائح في مواكب الفرح..!! فصارت الأمة في عمومها تمثالا.. لا يؤوي بل يغري.. وسراب يخدعوا ولا يروي..(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)..(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ).. إن أمة تتزحزح عن دينها مقدار شعرة.. تنأى عن مراق الفلاح والعزة سبعين ذراعا..!! ومع هذا كله فهي أمة مرحومة.. لا تزال فيها طائفة على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة.. فما زال في الكرخ زند يوري بالمرخ نلمح شعلته.. وما زلنا نرى من السنان صفحته..
لا تقل ذلت فما يصدق ** أن يستذل الفار ليث الأجمي
ما غفا طرفي ** ولا قلبي سها
لم أزل ألمح في روضتنا ** وجنة الورد وأهداب المها(9/49)
لم أزل أحمل في ذاكرتي ** صورة النجم الذي فوق السها
والناس مثل الأرض منها بقعة ** تلقي بها خبثا وأخرى مسجد
لهذا كله كانت هذه الكلمات بعنوان:
((إيماض البرق في خلق سيد الخلق صلى وسلم عليه الحق))
خفق القلب له لما ومض ** بارق شب الجوى لما برق
خلته من بين أسداف الدجى ** أملا من بعد يأس قد برق
إيماض يقول: إن المعركة مع أعداء الله ليست معركة خاطفة سريعة..!! لكنها شاقة طويلة مستمرة..!!(وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ).. نحتاج معها إلى طول نفس.. وشدة صبر.. وعمق إيمان.. ورسوخ يقين.. وبذل جهد.. وتظافر جهود.. لاستنقاذ الغثاء من دوامة السيل.. فالسيل فيه غرق وويل.. ورسولنا صلى الله عليه وسلم في ذلك أسوة.. فإن لم نجعل الإنقاذ نهجا.. فسوف تضيق بالدمع المآقي..!!
إيماض يقول: لئن تخلينا اليوم عن كل وسائل الانتصار المادية.. فقد بقي في أيدينا سلاح من أنضى الأسلحة.. لا يقوم له شيء(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).. والله ما هي إلا نفحة من نفحاته.. تهب على هذا القطيع المبدد.. فإذا قلوبهم مجتمعة.. ونوافرهم متآلفة.. وأخلاقهم شاما..
كلمات رب العالمين بها ** سما عقل وفيها للظلام كواشف
إيماض يقول: زمزم فينا ولكن أين من يقنع الدنيا بجدوى زمزم..؟؟!!
إيماض يقول: إن الدعوة إلى الله بأخلاق الإسلام.. روح تجري.. ونفحة تسري.. حقيقة جذابة.. ليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها..
ولولاها لساوى الليث ذئبا ** وساوى الصارم الماضي قرابا
يشهد بذلك العقل والنقل والقريب والغريب والموالي والمعادي.. يذكر الأستاذ النجار أن أحد عقلاء الغرب وقف يخاطب جمعاً من المسلمين يقول: يا أيها المسلمون إنكم لن تستطيعوا أن تسايروا الغرب اليوم.. لا اقتصاديا ولا عسكريا ولا سياسيا ولا إعلاميا..!! ولكنكم تستطيعون هذا الغرب المتكبر المتغطرس المستعلي يجثوا على ركبهم أمامكم بالإسلام..!! ثم يقول إيتوني بأربعين شاباً يحسنون فهم هذا الدين فهما دقيقا.. ويحسنون تطبيقه على أنفسهم تطبيق دقيقاً.. ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر عرضا دقيقاً.. وأنا أظمن لكم أن أفتح بهم الأمريكيتين الشمالية والجنوبية..!!
حاله:
ولسوف تشرق شمسكم بسمائهم ** يوماً وليست بعد ذلك تغرب
والتاريخ أثبت أن انتشار الإسلام في بقاع من آسيا ورقاع من أفريقيا.. لم يكن بجيوش ولا حشود.. بل بأخلاق الإسلام التي كان يتعامل بها معهم تجار الإسلام..!!
ليس بعد اليقين يا عين شك ** أكد الفعل ما حواه الكلام
إيماض يقول: أننا نعيش أزمة أخلاق وإننا أمة الأخلاق.. وإنما الأمم الأخلاق..
إذا الأخلاق قد ولى ذووها ** فقل يا موت مر بنا سريعا
إيماض يقول: ألا ما أحوج الأمة الغافلة المنقطعة عن القافلة.. إلى صور مثالية عليا لأخلاق فاضلة.. وليس ذلك إلا في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاكيا..
سل الشيح عنها والخزامى ورندها ** وطيب مغانيها وصفو الجداول
فالورد والريحان عرف عبيرها ** والمسك كدرة ماءها والعنبر
إيماض يقول: والله وبالله وتالله.. لا نعرف أحداً كمله الله بكل فضيلة ونزهه عن كل رذيلة.. مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم..!!
فلن ترى في وصفه مثيلا ** مستوجب ثنائي الجميلا
فهو ختام الرسل باتفاق ** وأفضل الخلق على الإطلاق
ما فضيلة إلا وهي صفته إتمام مكارم الأخلاق من مهمة بعثته.. سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلقه. فقالت تنثر الدر عبقريا عجيبا ** ليس من مسقط ولا من عمان
قالت: " كان خلقه القرآن ".. ما خُلق سني دعا القرآن له.. إلا كان أول عامل به وداع إليه.. وما خُلق سيء حذر منه القرآن.. إلا كان أول مجتنب له ومحذر منه..
وحاله(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)..
في وجهه قسمات قد دللن على** ما ضمه القلب من أخلاق قرآن
إيماض يقول:(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)..
فكن في إتباع المصطفى مثل عصبة ** وراء خبير في ملغم بقعة
فمن ينحرف يردى ومن يتبع يفز ** وبين الردى والفوز زح بخطوة
فلزم صفاته وإياك الملل ** إن يستطل الوصف ولم يستطل
اجعله نصب العين والقلب ولا ** تعدل به فهو يضاهي المثلَ
إيماض فحواه:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ).. صلاح القدوة صلاح الأتباع.. وإن صلحت العين صلح سواقيها.. وإن رشد المربي كان موسى.. وإن هو ضل كان السامري..
إنه إيماض برق يكاد يخطف بصر زنيم.. ليس يعرف من أبوه.. نبطي من زجاج مظلم.. نسبة لا يعرف إلا بالسراج.. من أسخن الله عينه وأدنى هلاكه وحينا.. فكشف عن لكنته.. وصرح بسوءته.. يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويطعن في رسالته وفي خلقه.. بل وفي نسبه.. ويا لله..
يريد بقوله تدنيس شمس ** وأين الشمس من دنس وعار(9/50)
ضريبان سلاحه الفسا.. نعوذ بالله وبالله نعوذ.. قد جف من ماء الكرامة وجهه.. لكنه واقحة ولؤم ينقط.. لو أن صاعقة هوت.. ما أثرت في وجه الوقح العديم الماء.. لا تعجبن إذا امتحنت بسخفه.. فالحر ممتحن بأولاد الزنا..!! إنه شواظ يقول:
أرعد وأبرق يا سخيف فما ** على آساد غيل من نباح جراء
أخسأ رقيع فليس كفؤك غير ** ما يجري من الأعفاج والأمعاء
لو ذات سوار لطمتني.. والضرورة دعتني.. ولولا الضرورة لم آته.. وعند الضرورات آتي الكنيف!!
آلا أرغم الله معطسك من شآن.. مغالط أنتن من حلتيت.. وأثقل من كبريت.. وأهدى إلى الظلال من خريت.. وعريت وهريت.. وقطعت وفريت.. وأحرقت وذريت.. وأذبت وأجريت.. أَغريت أم أُغريت.. وضريت أم ضريت.. وتطوعت أم كريت.. ألا خبت.. لو ضربت الجبل بالزجاج ألف ضربة ما انكسر..!! ولو سترت الصبح بكل شيء ما أنستر..!! إنه خيار من خيار من خيار زكاه الله وكفاه.. زكى استقامته(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى).. ونطقه(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى).. وعلمه(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى).. وفؤاده(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى).. وبصره(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى).. وصدره وذكره(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ).. وخُلقه(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. وزكاه كله(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)..
فإذا كتاب الله أثنى مفصحا ** كان القصور قصارى كل فصيح
وأين دوي الذباب والزنبور من نغم الفرقان والزبور..
فما على البدر أن قالوا به كلف ** ولا على المسك أن المسك مفتوت
وطالما أخلي الياقوت جمر غضا ** ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
ومن العجائب والعجائب جمة أن تسخر القرعاء بالفرعاء..!!
والشمس لا تخفى محاسنها وإن غطى عليها برقع الأنواء..
لكن أنى يرى الشمس خفاش يلاحظها ** والشمس تبهر أبصار الخفافيش
إيماض يقول: إن رسول الله عليه وسلم مثلٌ أعلى.. لأقصى ما يبلغه البشر من مراق الكمال.. وغاية تنقطع دونها الآمال.. يقول الصديق من رجح إيمانه بإيمان الأمة: أما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس.. والله ما في طاقة متحدث ولو ألقت إليه البلاغة أعنتها.. أن يتقصى أخلاقه ويستوربها.. لكنها تتحدث عن نفسها..
فالمسك ما قد شف عن ** ذاته لا ما غدا ينعته بائعه
فحسبي وحسبكم أن نُنيخَ ركائبنا على ساحل بحر مسك أخلاقه.. لنظفر منه الليلة بدرة.. وعلى روض ريحان خلاله.. لنشتم منها نفحه.. فيكون العنوان:
((إيماض البرق في شجاعة سيد الخلق))
وأنا على يقين أني لن أبلغ.. من تأمل هذا الخُلق.. في هذه الدقائق.. إلا مقدار ما يبلغه واصف الشمس وهو لا يعرف منها إلا أنها كوكب ينسخ طلوعه سواد الليل..!!
ماذا عسى بلغاء اليوم قائلة ** من بعد ما نطقت حم تنزيل
موضع النجم لا ينال بباع لا تقسه بغيره في جناس.. سبع الغاب ليس مثل السباع.. ما عسى أجمله من ورق العرار إلى العبير والعنبر.. في خير من حملت أنثى ووضعت.. وخير حاف على الدنيا ومنتعل.. إن هي إلا دماجيل للعضد.. وقلائد للجيد.. عجزت فيها عن أداء الواجب.. وأحاول الجبر بالمسنون.. وفضل الله على من يشاء ليس بممنوع ولا ممنون.. وكلن ينفق على قدر استطاعته.. وهو ابن ساعته.. من لم يقل له ربي أعيت عليه مطالبه.. أسألك اللهم أن تجعلها لوجهك الأعلى وأن تقبلها.. أقول والله تعالى المستعان ومن بغيره استعان لا يعان..
شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شجاعته..؟! تناقلتها الأخبار.. وسارت مسير الشمس في رائعة النهار.. حدث عنها لا حرج.. بمكان لا يجهل.. ومنزلة لا تدفع.. تناقلها الرواة بكل فج.. وأهدتها الحواضر للبوادي.. وحسبه أنه نبي.. وأنه أبو الشجعان وصانعهم.. على عينيه ملك الشجاعة فهي طوع زمامه.. ولغيره جمحت وليست تركب.. والذي رفع السماء وعلم آدم الأسماء.. ما شهدت الغبراء أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولا أثبت منه قلبا.. كان طودا لا يتزعزع.. شامخا لا يتزلزل.. لا ترهبه الأزمات.. ولا تهزه الحوادث والملمات..
تروى أحاديث الوغى عن بأسه ** فالسيف يسند والعوالي تطلق
وما رآه فارس إلا استتر ** في فعل النجوم عاين القمر
وحسبه أنه نبي..... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس حين خرج على قومه بدعوة ينكرونها جميعا.. وليس له من معين سوى ربه.. فصدع بها في جميع الأماكن والأزمان والأحوال.. فوق الجبل وفي المسجد وفي الطريق والسوق.. في المنازل والمواسم والحواضر والبوادي حتى في المقابر.. في الحضر والسفر والأمن والقتال والصحة والمرض.. وحين يزور وحين يزار.. دعا من أحبوه ومن أبغضوه.. ومن استمعوا له ومن أعرضوا عنه.. خطيبه يقارع الخطباء.. وشاعره ينازل الشعراء.. دعاته يجوبون الآفاق.. في استنفار دعوي لم تملك قريش أمامه إلا أن تقول: لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون..!!(9/51)
بذل كل وسعه.. واستخدم كل أسلوب ووسيلة مشروعة.. في حلم وأناة وهدوء.. قذف بالحق على الباطل.. فأزاح العلل وسد الخلل.. وقال ما يرضي الله وإن أغضب البشر.. فذهب الزبد جفاء وطاعنا حتى لم يجد من مطاعن.. ونازل حتى لم يجد من منازل.. وبقي صلى الله عليه وسلم قدوة.. يصبوا إليها كل من عرف الحق.. وبالحق يدين مثلا.. أعلى لنفس جمعت.. سطوة العادل في أنس الحليم.. فهو الحياء ما حل في بلد إلا بإذن الله أحياه.. وحسبه أنه نبي..........
كان أشجع الناس.. حين قوطع وحوصر مع بني هاشم في شعب لسنوات بلا ميرة.. حتى اضطروا لأكل ورق الشجر.. وسمع صوت الصبية يتضائون من شد الجوع.. فصبر وما وهن وما ضعف وما استكان.. حتى انتصر وسقطت المقاطعة.. وأحق الله الحق وأبطل الباطل.. وكذلك الحق لا يتغير أصله وسوسه.. وإن تغير لبوسه..
ففي المعادن ما تمضي برونقه ** يد الصباغر لا يصدأ الذهب
والصخر في ظل العقيدة عسجد والآل في ظل العقيد ماء.. والعز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله..
وحسبه انه نبي........ كان صلى الله عليه وسلم شجاعا أشجع من الشجاعة.. وأشد في الحق من الشدة..
ماضي العزيمة والسيوف كليلة ** طلق المحيا والخطوب دواجي
سعى كفار قريش إلى عمه أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سنا ومنزلة وشرفا.. وإنا قد إستنهيناك في ابن أخيك فلم تنه عنا.. وإنا والله لا نصبر على ذلك.. فإما أن تكفه عنا أو ننازلك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا.. فعظم عليه فراق قومه ولم يطب نفسا بإسلام ابن أخيه لهم وخذلانه.. فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي أبقي علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق.. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاذله.. فحلق وحدق ببصره إلى السماء.. ووقفت الدنيا مشدودة السمع لما تفتر عنه شفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأصاخ الكون وأنصت التاريخ لكلمة التي يتوقف عليها مصير السعادة البشرية والحضارة الإنسانية.. فقال: أترون هذه الشمس .؟! قالوا: نعم .! ففي تصميم يفل الحديد.. وعزيمة لا تعرف الهزيمة.. وتحد يقهر الخصوم اللد.. وإصرار يقتحم البحر بجزره والمد.. قال كلمة صريحة لا يقبل معناها التأويل.. ببلاغة لو قست سحبانا بها ألفيته ذا منطق تمتامي.. قال: والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من إن يشعل أحدكم من هذه شمسي شعلة نار.. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري.. على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.. ثم استعبر وبكى وولى.. كأنما أنفاسه حرجف.. وبين جنبيه لظى واقده.. لو مادت الأجبال من تحته.. أو خرت الأفلاك ما زعزع..!
يا لقوة الإيمان وجلال البطولة.. رجل يظن أنه تخلى عنه ناصره الوحيد من أهله.. ثم يقف هذا الموقف العظيم.. إنه ثبات النبوة..
إن يكن أعزل فالحق له سيف ولامه ** فهو في جيش من الإيمان ما فل لهامه
وقف أبو طالب مأخوذا بما سمع ورأى.. وهو في قرارة نفسه يقول: والله ما هذا إلا نبي كريم .. بلغ أسمى درجات الثقة بالله رب العالمين.. فلن ينكس على عقبيه لأنه يأوي إلى ركن شديد.. فما عليه وبين جنبيه دين.. لو أراد به صم الجبال لما قرت رواسيها.. ثم يناديه أقبل يا ابن أخي فأقبل صلى الله عليه وسلم فقال له: إذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك لشيء أبدا.. والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينًا.. حاله:
قم وأبلغ نوره للعلمين ** قم واسمعه البرايا أجمعين
إن تكون في مثل نيران الخليل ** أسمع النمرود توحيد الجليل
فلم يزل يجهر بالتوحيد ولا يخاف سطوة العبيد..! وحسبه أنه نبي صلى الله عليه وسلم.......
كان أشجع الناس صلى الله عليه وسلم.. عرضت عليه المغريات من مال وملك وشرف وجاه ونساء.. نظير أن يتنازل عن دعوته فأبى ذلك العرض وازدراه ورفضه..
متميزا كالليث ديس عرينه ** متوثبا يدعوا الرجال نزالي
لا تذكروا نار الصواعق عنده ** نار الصواعق عنده كذبالي(9/52)
قال قائل قريش: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيله.. قد كان محمد غلاما حدثا فيكم.. أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة.. حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر كاهن شاعر مجنون.. والله ما هو بذلك فانظروا في شأنكم.. وما معهم إلا العناد وما بهم من العقل من الإنصاف مثقال درهم.. أجمعوا رأيهم على أن يفاوض ويغرى بالدنيا والنساء.. وهو القائل صلى الله عليه وسلم: " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ".. انتدبوا لتلك المهمة أبا الوليد بن عتبة.. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟! أنت خير أم عبد المطلب؟! أنت خير أم عبد الله؟! فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لأنه يريد هدايته.. فمن الحكمة أن لا يدخل معه في معارك جانبيه تعيقه عن ذلك الهدف.. لقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يقول أنا أفضل وصدق.. فهو سيد ولد آدم أجمعين.. لكنه بذلك قد يضيع الفرصة الذهبية من هداية هذا الرجل.. وكان بإمكانه أن يثني على آباءه بما فيهم من صفات حميدة.. لكنه بذلك يتيح الفرصة أن يلزمه بما يترتب على ذلك من إتباع دينهم.. وقد فعل ولذا آثر بحكمته عدم الإجابة.. فالسؤال لا يستحق ذلك.. لأنه ليس في صميم الموضوع الذي عقد من أجله الحوار.. فهم عتبة ذلك فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك.. فقد عبدوا الآلهة التي عبت.. وإن كنت تزعم أنك خير منهم.. فقل حتى نسمع قولك.. والله ما رئينا سخلة أشئم على قومه منك.. فرقت جماعتنا.. وعبت ديننا.. وفضحتنا.. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى.. فيقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف.. فنقتتل حتى نتفانى.. وياله من عور عن الحقيقة..
لابد في العور من تيه ومن صلفا ** لأنهم يحسبون الناس أنصافا
من أين يدري الفضل معدومه ** لا يعرف المعروف إلا ذووه
تظن بعض القوم علامة ** وهو إذا ينطق بوم يفوه
ثم ألقى عتبة حباله وعصيه.. إغراءات تغشى البصائر.. وتزيغ الأبصار.. بلغة مسمومة.. ما لامست مستشرفا لها.. إلا أهدته السم ونزعت منه الروح.. وأبقت الجسم.. وكم لعبت بهذا النغمات من نشاز أصابع من على أوتار.. فلم يبالي الصادقون بما وقع منها وطار.. قال: يا محمد إن كان إن ما بك المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.. وإن كنت تريد شرفا سودناك فلا نقطع أمرا دونك.. وإن كنت تريد ملكا ملكناك.. وإن كان شيئا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب حتى نبرئك.. وإن كان إن ما بك النسا فاختر من أجمل نساء قريش عشرًا.. يا محمد قل نسمع..
فلوا كان الحديد للينوه ** ولكن كان أشد من الحديد
في حلم ورحابة صدر.. أعرض عن كرهات عتبة وأغضى عن سبابه.. وقال في أدب النبوة يكنيه: أفرغت يا أبا الوليد..؟ قال: نعم..! فأعلن موقفه الحاسم بشجاعة نادرة.. دون مراوغة أو مداهنة أو استعطاف أو استلطاف.. لأن قضيته قضية عقيدة تقوم على الصراحة والبيان فلا تنازل ولا إدهان..
كالكوكب الدري تلقاه ** العز بين يديه والجاه
والأرض في عينيه خردله ** وعلى عبيد الأرض نعلاه
قذف باطلهم بأوائل فصلت .. فالشمس منها سطعت وحسمت.. ورفعت الحجاب.. وأثارت الإعجاب.. ومحت السلب بالإيجاب..(حم{1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{3} بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ{4})..
عتبة يسمع القرآن من فم من أنزل عليه القرآن.. فيلقي يديه خلف ظهره وقد فغر فوه مأخوذا بسلطان البيان.. ورسول الله قد استحضر عظمة الله الذي خاطبه به.. يتلوه بكل أحاسيسه ومشاعره.. ويهوي به على إغراءاتهم ومطامعهم..
فكان الآي صاعقة عليهم ** تشب على مطامعهم سعيرا
كذالك السيف أمضى وهو هاو ** واقطع مضربا منه شهيرا
لما بلغ قول الله(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).. هب عتبة مذعورا قد خيل إليه أن الصاعقة حلت به.. فأمسك بفم النبي صلى الله عليه وسلم يناشده الله والرحم إلا صمت.. فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم..(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{118} فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ{119}).. انقلب إلى قومه فلما راؤه قالوا: نحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به..!!
قد نطقت بضعفه العيون ** ما أبلغ العيون إذ تبين(9/53)
بادروه.. ما وراءك يا أبا الوليد..؟؟ فقال وقد آمن بسلطان اللغة والبيان وإن لم يؤمن بالقران: ما هو والله إلا أن جئته فعرضت عليه ما عرضت.. ثم سمعت منه قولا والله ما سمعت مثله قط..! والله ما هو بالسحر ولا بالكهانة ولا الشعر ما فقهت إلا قوله..(أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته أن يكف.. ولقد علمتم أن محمد إذا قال شيئا لم يكذب.. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه.. والله ليكونن قوله بالذي سمعته نبأ عظيم.. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد..!! فعاد كالكلب بالوصيد.. وكان قريبا على صحة.. فقد داخلته حروف العلل ولا عجب..!!
من يكن للجرب خلا.. ليس يخلوا من إصابة.. وهل يبصر الرمداء شمس الضحى .؟؟ وهل يحس بطعم العذب من إيف في الفم..؟؟(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)..
معشر الإخوة:
إنها إشارة منه صلى الله عليه وسلم في شجاعة فذة.. مفادها لا لقاء بين الحق والباطل.. لا إجتماع بين النور والظلام.. الاختلاف جوهري يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق.. الأمر لا يحتاج إلى مراوغة ولا مساومة.. ليس إلا الخروج عن الكفر بجملته إلى الإسلام بجملته.. وإلا فالبراءة التامة..(لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ).. إن قوة الهجمة اليوم على الدين.. ينبغي أن تقابل برد في غاية الوضوح.. بعيدا عن التعميم والتمييع.. فالأمر جد لا هزل فيه..(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).. لا بد من الوضوح التام.. في القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجها واحدا..(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2})..
من يملك النبع لن يحتاج من ظمأ ** إلى الدلاء ولن يحتاج للقرب
يا ابن الإسلام.. إن الرؤوس التي رفعها الإسلام تأبى أن تخضع لغير الإسلام.. وإن الألسنة التي استقامة على قول الحق.. تأبى أن يلويها لاوي لغير الحق.. الإسلام دعوة ربانية لا مجال فيها للمساومات.. مهما كانت الدوافع والإغراءات والمبررات.. فإذا نثر الحب وتساقطت العصافير.. وطرح الأب وتهافتت اليعافير.. فكن ليثا ديس عرينه.. ووسم عرنينه.. وأبرق وأرعد.. وقلها بملأ الفم.. مطعم خبيث لا يأكله إلا الخاطئون.. والذي خلق الضب وأنبت النجم والأب.. وفلق النوى والحب.. لو حالف بطن الراحة الشعر.. وسقطت السماء على الغبراء.. وصار الشرق غربا والشمال جنوبا.. فإني لأرجوا الله أن لا يزل لي قدم.. ولا يزيغ لي بصر.. ولا أحيد عن مبدأ حق.. إني على بينة من ربي..
ألا يا قبح الله شهوة أبيع بها ديني..!! وأعق بها سلفي..!! وأهين بها نفسي..!! وأهدم شرفي..!! وأكون عارا على أمتي..!!
عرى العقيدة جلت عن مساومة ** ما قيمتي في الملا من غير معتقدي
هل يصير الحر عبدا آبقا..؟! هل يصير الصقر مثل الرخم..؟! هل يتيه الشهم في أوهامه ينحني بعد بلوغ القمم..؟!.......... لا.......... لا يكون العير مهرا لا يكون.. المهر مهر.. المهر مهر.. وحسب أنه نبي....
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. كبير الهمة.. لا ينقض عزمه.. ولا ينكث عقده..
أصالة عزم أخجلت كل صارم ** من البيض حتى خاف أن يتجردا
وحسب الفتى من عزمه خير ** صاحب يؤازره في كل خطب يئوده
فإن لم يكن للمرء من عزماته ** نصير فأخلق أن تخيب جذوده
أشار الشباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أحد.. بالخروج إلى المشركين خارج المدينة.. وكان صلى الله عليه وسلم يرى القتال داخلها.. فنزل على رأيهم.. وعلم الله أنه ما به إليهم من حاجة.. ولكن ليستن به من بعده من القادة.. كما قال الحسن رحمه الله.. صلى بالمسلمين ثم دخل منزله.. فتدجج بسلاحه وخرج في كامل عدته.. وأمرهم بالخروج إلى العدو.. فندم ذوي الرأي منهم حين شعروا أنه أشاروا عليه بخطه كان يفضل غيرها.. فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فامكث واصنع ما شئت.. فأتى بالإعجاز في باب الإيجاز.. وقال بقلب أسد في همة تدك الجبل الأشم والخصم الألد: ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه..
ماض البصيرة غلاب إذا اشتبهت ** مسالك الرأي صاد الباز بالحجل
إن قال برا وإن ناداه منتصر ** لبى وإن هم لم يرجع بلا نفلي
وحسبه أنه نبي.......... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس..
هو للصديق كما يحب وللعدى ** عند الكريهة ضيغم زئار
يجتمعون على حربه.. ويحرض بعضهم بعضا.. للوقوف في وجهه.. وعدم التقصير في عداوته.. ويتطاولون عليه بالسخرية.. وهو صامد كالجبل الشهيق في علياءه.. يقرر أن ما جاء به سينفذ.. لو كان الثمن إهلاك هؤلاء الصناديد.. وحاله:
إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا ** لا أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث(9/54)
يقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: اجتمع أشراف قريش في الحجر.. فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل.. سفه أحلامنا.. وعاب ديننا.. وفرق جماعتنا فبين هم كذلك.. إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فأقبل يمشي حتى أستلم الركن.. وعداته منه تغص وتشرق.. فمغرب من غيظه ومشرق.. ثم مر بهم وهو يطوف بالبيت.. فغمزوه ببعض ما يقول.. وأشاروا بأعينهم وحواجبهم.. وهروا هرير المجحرات اللواهث.. قال ابن عمر: فعرفت ذلك في وجهه إذ تغير.. وظهرت عليه علامات الغضب.. ثم مضى فغمزوه بمثلها.. ثم مضى فغمزوه بمثلها.. فإذا السكون تحرك.. وإذا الخمود تلهب.. وإذا السكوت كلام.. يستنزل الهلك من أعلى منابره.. ويستوي عنده الرعديد والبطل.. فسل حساما من بيان فهومه.. فرد سيوف الغي مفلولة الحد.. قال : تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده.. لقد جئتكم بالذبح.. ألا إنها لو تنزلت على جبل.. أهوت به وهو خاشع.. فأخذت القوم كلمته.. حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر..
حال الجريظ دون القريظ.. صادف در السل در يدفعه.. في هضبته ترفعه وتضعه.. وإن أشدهم وصات على إيذاءه.. ليرفؤه ويسكنه بأحسن ما يجد من القول.. يا أبا القاسم انصرف راشدا والله ما كنت جهولا.. والله ما كان جهولا صلى الله عليه وسلم..
لكنه جبل الوقار رسا وأشرف ** واعتلى وسما فطأطأت التلال رؤوس
من أنكر الفضل الذي أوتيته ** جحد العيان وأنكر المحسوس
كذلك كان إذا غضب.. ولا يغضب إلا لله ثم لا يقوم لغضبه شيء..
فإذا أوثير رأيت بركان رمى ** حمما ودك الأرض زلزالا
ترى الرجال وقوفا بعد فتكته ** بهم يظنون أحياء وقد قتلوا
وحسبه أنه نبي............ كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. أدركته القائلة في إحدى غزواته في واد كثير العظاح.. فنزل تحت سمرة وعلق بها سيفه.. وتفرق عنه أصحابه.. فجاء أعرابي فاختلط سيفه وسله.. ويا لله عدو متمكن وسيف شاهر وموت حاضر.. يقول: يا محمد أتخافني..؟؟ فلا نفس جزعت ولا حال تغيرت ولا روعة حصلت..!! وما كان إلا الرعد دعوى هديده.. يقول:......... لا........
كأنما الليث شبيه له ** فهو أخو الليث لام وأب
من اتق الله فأسد الشرى ** لديه مثل الأكلب العاوية
قال: فمن يمنعك مني يا محمد..؟؟ فاستحضر عظمة الله وقدرته ونصرته لأولياءه.. وقال..
يهوي فصيح القول من لهواته ** كالصخر يهبط من ذرى ثهلان
............ الله........... فخارت قواه وانحلت وسقط السيف من يده وأمكن من نفسه.. وقال: كن خير آخذ يا محمد فعفا عنه يتألفه.. فالله ما أشجعه وما أحلمه..
تهوي الجبال الراسيات وحلمه ** في الصدر لا يهوي ولا يتزعزع
رجع الأعرابي إلى قومه يقول جئتكم من عند خير الناس.. حاله:
قضيت التعجب من أمره ** فصرت أطالع باب البدل
وحسبه أنه نبي.......... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. خبيرا بفنون المنازلة.. يزلزل الخصم فيوهي بنيانه.. يقوض أركانه.. يرعب جنانه..
عزيمته ترد الغمد سيفا ** وحكمة تر السيف غمدا
إن تعدوا يا سيف لتستعينه ** أجاب قبل أن تتم سينه
ثبت في سنن الترمذي رحمه الله.. أن ركانة مصارع لم يضع أحد جنبه على الأرض.. طلب منازلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصارعته تبجحا بقوته وإعجابا ببنيته وسطوته.. معه ثلاث مئة من الغنم وقال: يا محمد هي لك أن تصارعني..؟؟
وساوس إبليس تغشى النظر ** وتخفي عن العقل نور الفكر
أي ركان أرح المطية ولا تكن ** كمحاول صيد النجوم من المياه الركد
هل لك أن تصارعني يا محمد..؟؟ فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العرض وسيلة لهدف أسمى من المصارعة.. وهو إسلام هذا الرجل مع توظيف هذه الطاقة المتفجرة لإعلاء كلمة الله.. لا يريد صرعه لا يريد قتله.. وإنما يريد حياته.. فما هو إلا الغيث.. أما وقوعه خصب.. وأما ماؤء فطهور صلى الله عليه وسلم.. عامله صلى الله عليه وسلم على أنه غريق بحاجة إلى من ينتشله.. حاله:
يا رب حيران لو شئته ** تدا ظمئآن لو شئت وردت
يقول له: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ فقال: مئة من الغنم.. فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه.. فقال ركانة: هل لك في العود..؟؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ قال: مئة أخرى فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه..
هو بالله وهل يخشى انهزاما ** من يكون الله في الدنيا نصيره
قال: هل لك في العود..؟؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ قال المئة الباقية فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه.. ثم بقي عليه كسرت شوكته ومالت هامته.. ارتطم بالأرض ظهره هوى بأسه وهوت قواه.. ومع ذلك فقد ذهب ماله وصار حاله:
وإني لمقدام وعندك هائب ** وفي الحي سحفان وندك باقل(9/55)
ثم قال: يا محمد والله ما وضع جنبي على الأرض أحد قبلك.. وما كان أحد أبغض إليّ منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.. حاله: والله ما على الأرض أحد أحب إليّ منك اليوم
وأسبلت العينان منه بواكف ** من الدمع يجري بعد سح بوابلي
والليل ولى والظلام تبددا ** والصبح أشرق والضياء تجددا
فصار حال ركانة.. عملت الجزم بي.. وخفضت مني محل النصب.. ثم رفعت حالي.. قام عنه صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.. وهدفه هدايته.. فما الدنيا والله ببغيته.. يرى الدنيا وإن عظمت وجلت لديه.. أقل من شسع النعال.. ومن شيمة العضب المهند.. أنه يخاف ويرجى مغمدا ومجردا.. وحسبه أنه نبي.....
تبلى عظامي وفيها من محبته ** حب مقيم وشوق غير منصرم
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. لا يجارى في قوة رأيه وإدراكه وبعد نظره فطن..
تكاد العمي تبصر الدجى لو ** أنها اكتحلت بنور ذكائه
وقف ضد رغبات أصحابه يوم الحديبية حين بركت ناقته فأعلن مقسما.. والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم.. حاله: مع حرمات الله فديتك بالسويدا من فؤادي.. ومن حدقي فديتك بالسواد.. دارت المفاوضات وسدت قريش السبل وأشيع مقتل عثمان رضي الله عنه.. فبايع أصحابه تحت الشجرة على الموت وعدم الفرار.. وتحت ذلك التصميم أرسلت قريش سهيل للصلح..
ولا ملامة إن هابوا وإن حرجوا ** لا يزار الليث إلا فرق الغنم
أجبتهم معلنا بالسيف منصلتا ** ولو أجبت بغير السيف لم تجبي
النبي صلى الله عليه وسلم يفاوض من مركز قوة.. ويتنازل في بعد نظر وأصالة رأي.. عن بسم الله إلى باسمك اللهم.. وعن رسول الله إلى محمد ابن عبدالله..
عذب المناهل غير أن ورودها ** نار المنايا حوله تتأجج
وكانت قريش إذ تأبى لشرطها ** كباحثت عن مدية تستثيرها
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل برد من جاء من المسلمين مهاجرا ولا العكس.. ويعلل ويقول: من ذهب منا إليهم فأبعده الله.. ومن جاءنا فرد جعل الله له فرجا ومخرجا.. وثقل ذلك على المسلمين وذهلوا عن أنفسهم.. لما أعيد أبو جندل رضي الله عنه إلى أبيه يرفس في قيوده.. يضربه أبوه في وجهه ويأخذ بتلابيبه وهو يستصرخ.. أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما..؟؟
فاضطرمت القلوب واضطربت.. وزلزل الهم قاصيهم ودانيهم.. حتى السماء رأوها غير ما عهدوا.. أما الصديق رضي الله عنه فقد تلقى ذلك بالرضا والتسليم.. فكان قلبه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم حاله:
والكف ليس الزند ينكر قربه ** والعين لا يقسوا عليها المحجر
من لحمه لحمي ومن دمه دمعي ** وعلى محبته أموت وأحشر
أما عمر رضي الله عنه لعظم الوارد عليه.. أبى إلا أن يعلن عما في نفسه فيقول: يا رسول الله ألست نبي الله حقا..؟؟ ألسنا المسلمين..؟؟ أليسوا بالمشركين..؟؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل..؟؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي عمر حرية إبداء رأيه .. مع تسديده بلا عقاب ولا تجريم.. ويقول لعمر في كل ذلك: بلى.. بلى.. فيقول عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا يا رسول الله.. فيقول صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.. ويذعن الفاروق ويؤنب نفسه بعد.. وماهي والله إلا غيرة على الإسلام منه.. فهم بعدها هو وغيره إنما يحقق المكاسب العليا للإسلام.. فهو السنة النبوية والسياسة الشرعية التي يجب أن تقتفى.. فأذعنوا وندموا وعرفوا قصورهم فاقتصروا..
أخاطب البرق إن يسقي ديارهم ** ولو أراد بدمعي أو أراد دمي
معشر الأخوة:
ومع ما فيه الصحابة من غم لا مزيد عليه.. لم يخرجوا عن طوع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهم يرون سهيل فردا في جيش يتمادى في تفاوضه.. فلم ينله أحد بأذى وإنما مرجعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ورسول الله يسعه بالحلم حتى وصل إلى الغاية المنشودة من الصلح.. وانبلج الصبح فإذا الصلح فتح.. والغبن في الظاهر نصر.. سمعوا كلام الله وعظمت حرمات الله..
وكلما أوقدوا نارا بها احترقوا ** وأحدثوا الحرب فيهم يحدث الحرب
هكذا تبدوا شجاعة وسياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملاقة.. إلى جانب سطحية التفكير لدى زعماء المشركين.. فشرطهم الذي اشترطوه تعنتا واستعلاء.. كان وبالا عليهم حيث سبب لهم حروبا عصابات على أيدي أبي بصير وصحبه لم يحسبوا لها حسابا..
حتى أقامت رؤوسا كان يحبلها ** أجلاف قوم وفي أعناقهم صعر
فقدوا الهدف الأعلى من الصلح.. وهو تأمين طريقهم إلى الشام.. فعادوا خاضعين ذليلين يعلنون تنازلهم عن شرطهم الجائر.. ويرجون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤوي كل من جاءه من المسلمين..
فصار لواء الحق بالنصر خافقا ** وظل لواء الشرك بالذل يقهر(9/56)