فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي.
ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (263)
ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (264) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها.
الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل:
من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث :
1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن ذلك يغني شيئًا» فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم(265)
2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا»، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». رواه مسلم (266)
3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». رواه مسلم (267)
4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: «ما هذه الأصوات؟» قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». رواه الإمام أحمد. (268)
ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث:
« ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (269)(3/310)
وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء.
من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (270) ، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: «...وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود» . (271)
ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: «... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات». (272) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أظن يغني ذلك شيئًا».. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن».
2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وتضيف رواية أخرى أنه قال: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ».
فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟
لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا.
فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ».
فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان.
3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط.
والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة.
الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب
يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي:
هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية.
وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟
ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي :(3/311)
1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن.
2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟
3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار.
4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج).
5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا.
6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب.
7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ.
وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم.
ويحسن التنويه هنا بأمرين:
أولهما : إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (273)
وثانيهما: أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب.
وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: « اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف». ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: « وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: «وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ». (274)(3/312)
ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة.
الحجة الخامسة : تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء :
قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (275) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة . (276)
وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية.
السنة تشريع كلها :
والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: «إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب». (177) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق» يعني شفتيه الكريمتين. (278)
أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها.
شريعة الله وشريعة الفقهاء
المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر.
يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول:
«إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (279)(3/313)
أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. «وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء ». (280)
إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه.
وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (281) : شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259).
الشبهة(10) : تغير الأحكام بتغير الزمان
يقول: الدكتور محمد سليم العوا: (إن أصحاب رسول الله، وهم حملة الشريعة، والقائمون عليها من بعده، غيروا بعض السنن المروية عن الرسول لما تغيرت الظروف لعلمهم أنها صدرت عنه – عليه السلام – ملاحظًا فيها حال الأمة ومقتضيات البيئة زمن التشريع دون أن تكون شرعًا لازمًا عامًا في كل حال. ولولا ذلك ما غيروا، ونحن نعيذهم جميعًا من أن يخالفوا حديث رسول الله، وهم يعلمون أنه دين عام، وتشريع لازم لكل الناس في جميع الحالات، وكيف يتصور أن يقع ذلك منهم، وهم أحرص الناس على اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وترسم خطاه ) (282) .
ويقول الدكتور معروف الدواليبي في مقال بعنوان: « النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان »: (لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة التشريع وأخذت به، أما التغيير لحكم لم ينسخ قصة من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيها درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه « لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأمان ») (283)
ويقول الدكتور النويهي: ( إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية، بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام، وعدم التغيير، ولم تكن إلا حلولاً مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل، وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليس بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن الأحوال تستلزمه ) (284).
ومن الأحكام التي وردت النصوص بإثباتها تحديد المواقيت التي يُحْرم منها الحاج والمعتمر، ولكنا نجد من يرى تغيير أو تجاوز هذه المواقيت، بحجة تغير ظروف الزمان والمكان.
يقول الشيخ محمد الغزالي: (إن الاجتهاد في بعض الأحكام العبادية ممكن، وقد صرت إلى هذا الرأي بعد ما قرأت رسالة للفقيه المعاصر الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود عنوانها «جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية » والعنوان يشير إلى الموضوع، فإن مواقيت الحد حددتها السُنَّة، وقد جد في عالم المواصلات ما لا معنى للتغابي عنه ... يقول الشيخ الجليل: والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح، الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح، في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشكلات العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام .(3/314)
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات، آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا، ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكون ذلك من مقتضى أصوله ونصوصه)(285)
ومن الأمثلة على اجتهاد العقلانيين في أمور ثبت بالدليل حرمتها، وغيروا الحكم فيها «مسألة التصوير لذوات الأرواح » حيث قالوا بجوازها بحجة تغير الزمان، فهذا محمد عمارة يوضح اجتهاده في هذه المسألة مستشهدًا بقول إمامه محمد عبده، ونحن مقدمون على استعراض المأثورات والأحاديث النبوية، التي رويت في هذا الموضوع، هي وجوب الاستحضار والتدبر للمناخ والبيئة والإطار الذي قيلت فيه هذه الأحاديث، وذلك حتى ندرك فيها ومنها المقاصد والعلل والحكم والغايات، فهي قد قيلت للمؤمنين بالله الواحد، كانوا حتى الأمس القريب يعبدون الصور والتماثيل، وهؤلاء المؤمنين كانوا محاطين بعبدة الصور والتماثيل الذين لم يؤمنوا بعد ... وصُنَّاع النسيج والأوثان والأدوات – وهم في الأساس من غير العرب – كانوا يزنون مصنوعاتهم ومنسوجاتهم بصور الآلهة – (الأصنام) – ترويجًا لها في البيئة الوثنية ... ومن هنا كان النهي عن هذه «الصور » نهيًا عن الوثنية ودعوة إلى تنقية المنازل والأندية من صور الأصنام المعبودة في الجاهلية، وسعيًا لاجتثاث جذور المرضى الوثنى، وذلك حتى تبرأ هذه الجماعة البشرية تمامًا من الشرك والتعددية، فتخلص العبودية لله وحده، وترسخ في قلوبها عقيدة التوحيد) (286) .
ويقول: (وإذا كانت الأحكام تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، فإن التحريم للتماثيل والصور سيصبح بداهة مرهونًا ومشروطًا ومعللاً بمظنة اتخاذها أندادًا تشارك الله في الألوهية والتعظيم، فإذا ما انتفى هذا السبب، وزالت هذه المظنة انتفى التحريم، وعادت الإباحة حكمًا للصور والتماثيل، من جديد) (287) .
ويستشهد بموقف محمد عبده من التصوير قائلاً: (وفي العصر الحديث: عندما شرعت مدرسة التجديد والإحياء الديني تزيل عن الفكر الإسلامي غبار عصور الجمود والتراجع الحضاري – المملوكية العثمانية – وجدنا واحدًا من أبرز مهندسي ذلك التجديد، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده ... يطرق هذا الباب باجتهاده وتجديده، فيعلن مباركة الإسلام للفنون الجميلة، منبهًا على دور فنون التشكيل – رسمًا ونحتًا وتصويرًا – دورها النافع والضروري في تسجيل الحياة وحفظها، وفي ترقية الأذواق والحواس والاقتراب بالإنسان من صفات الكمال !.. ثم يأتي الأستاذ الإمام إلى القضية الشائكة والخلافية .. قضية الإسلام من هذه الفنون وأصحابها، فيدلي بالقول الفصل في فائدتها – ومن ثم حلها – وذلك لتغير الملابسات والمقاصد التي دعت إلى نفور المسلمين منها في عصر البعثة النبوية، يوم كانت الرسوم والصور والتماثيل إنما تتخذ كي تعبد من دون الله، أو على الأقل كانت مظنة شبهة، لتعظيمها دينيًا، فكان أن نهى عنها الرسول – عليه الصلاة والسلام - ... أما الآن وبعد زوال الخطر بالكلية، وبعد أن لم تعد الرسوم والتماثيل مظنة شبهة العبادة أو التعظيم الديني، وبعد أن وضحت وتأكدت منافعها في ترقية أذواق الأمة، وحفظ حقائق تاريخها وعلومها، فإن رضاء الإسلام ومباركته لها أمر لا شك فيه! .. ) (288) .
وذكر أنه قال في مجلة المنار: (ربما تعرض مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذ كان القصد منها ما ذكر، من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، وأوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام؟ أو مكروه؟ أو مندوب؟ أو واجب فأقول: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محى من الأذهان... وما ورد من حديث « إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون » (289) . أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو. والثاني: التبرك بتمثال من ترسم صورته من الصالحين. والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات) (290) .
ومن أبرز الأدلة التي يستشهد بها أصحاب هذا الاتجاه على تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص تبعًا لتغير الظروف، سهم المؤلفة قلوبهم، ومنع خروج النساء إلى المساجد، وحد السرقة، بالإضافة إلى استدلالهم بكلام ابن القيم عن تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد .
الرد :(3/315)
بعد أن بينا آراء أصحاب هذا الاتجاه في هذه القضية، وذكرنا بعض الأمثلة، ومجمل الأدلة التي يبررون بها ما ذهبوا إليه، أقول: إن ما ثبت حكمه بنصوص القرآن والسنة، فهو حكم دائم وثابت لا يملك أحد تغييره، إلا بتشريع أعلى منه أو مساوٍ له، ينسخ الحكم السابق، وهذا ممتنع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته « شرعًا لازمًا » إنما لا يمكن تغييره، لأنه لا يمكن نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يظن بأحد من علماء المسلمين أن يقصد هذا؛ ولاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدون، وإنما يظن ذلك في الصحابة أهل الجهل والضلال كالرافضة، والخوارج الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونهم، ولو قدر أن أحدًا فعل ذلك لم يقره المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن تجتمع على مثل ذلك) (291) .
وإذا قلنا بهذا، فكيف غير الصحابة الحكم في مثل منع إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وقد ثبت حقهم فيها يقول الله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } [التوبة: 60] ، وكذلك منع النساء من الخروج إلى المساجد، وقد ثبت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » (292) ، وعدم قطع عمر يد السارق في عام المجاعة والله تعالى يقول: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38].
والجواب أن نقول: ما يتوهمه البعض أن هذا تغيير في الأحكام الشرعية ليس بصحيح فالحكم الثابت عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دائم لا يتغير، وإنما تطبيقه على الوقائع هو الذي يمكن أن يتغير، لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، أو لعدم تحقق المناط كما يقول الأصوليون، وبتطبيق هذه القاعدة على هذه القضايا، التي توهم البعض تغير الحكم فيها يتضح الأمر .
أولاً : منع عمر – رضي الله عنه – إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة :
مَنْع عمر إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة، ليس إيقافًا للحكم ولا نسخًا له، ولا أحد يملك ذلك بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، (وإن غاية ما يقال أن النص الذي جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم لم يحدد أشخاصًا بأسمائهم، وإنما أعطى أناسًا بوصف معين هم «المؤلفة قلوبهم »، فمناط الإعطاء إذن أنهم من المؤلفة قلوبهم. فإذا توافر هذا المناط أعطوا، وإذا لم يتوافر لهم يُعطوا، ولا يقال في هذه الحالة أن النص عُدِّل أو ألغي إذا وقف، إنما غاية ما يقال أن النص لم يطبق لتخلف مناطه) (293).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعًا معلقًا بسبب، إنما يكون مشروعًا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. وبعض الناس ظن أن هذا نسخ، لما روي عن عمر: أنه ذكر أن الله أغنى عن التآلف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمن عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك) (294) .
ويؤكد هذا المعنى الشاطبي – رحمه الله – في قوله: (واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف في الأحكام، عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه « دائم أبدي »، لو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلاف في العوائد أو في الشواهد، وكذلك الحكم بعد الدخول، بأن القول قول الزوج في دفع الصداق بناء على العادة وأن القول قول الزوجة بعد الدخول أيضًا بناء على نسخ تلك العادة ليس باختلاف في الحكم، بل الحكم أن الذي ترجح جانبه بمعهود أو أصل، فالقول قول بإطلاق، لأنه مدي عليه وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق، والله أعلم) (295) .
ونخلص بعد هذا إلى أن اجتهاد عمر في هذه المسألة ليس فيها معارضة للنص، ولا يجوز لمسلم أن يقول أن عمر أوقف حكم الآية أو ألغاه .
ثانيًا : منع الصحابة النساء من الخروج إلى المساجد :(3/316)
من الأدلة التي يستدل بها القائلون بتغير الأحكام حسب تغير الظروف، حتى إن كانت ثابتة بالنصوص، ما حدث من الصحابة – رضوان الله عليهم – من منع النساء من الذهاب إلى المساجد، مع ثبوت الإذن لهن من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كانت عائشة – رضي الله عنها – ممن قال بالمنع قائلة « لو أدرك رسول الله ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد » (296) .
يقول محمد سليم العوا عن الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد: (ولو كان هذا شرعًا دائمًا لما ساغ لعائشة مخالفته، وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها فأينما تبين وجهها فشم شرع الله ودينه) (297) .
ونقول جوابًا على هذا، إن ما حدث من الصحابة ليس إيقافًا للحكم الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما كان المنع لعدم تحقيق المناط، فالشرط أن يخرجن غير متزينات.
ذكر النووي – رحمه الله-: (شروط العلماء في خروج النساء بأن لا تكون متطيبة ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة ولا مختلة بالرجال) (298) .
حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات » (299) ، ومعنى تفلة: أي غير متطيبة .
فتتحقيق المناط يكون (هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم، وإذا تبين هذا سقطت دعوى من يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان) (300) .
وعائشة – رضي الله عنها – في قولها بالمنع يكون استنادًا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها علمت أن الإذن بالخروج منها بأمر معين، وهو أن يكون الخروج لمصلحة، وليس لفتنة أو مفسدة (301) .
ثالثًا : إيقاف عمر لحد السرقة عام المجاعة :
يعتبر العقلانيون إيقاف عمر لحد السرقة الثابت بنص القرآن دليلاً على شرعية تغير الأحكام بتغير الظروف، يقول معروف الدواليبي: (اجتهاد عمر – رضي الله عنه – عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد ... وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملاً بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة) (302) .
والجواب أن نقول: الحد الذي أوقفه عمر ليس تغييرًا للحكم الشرعي، وإنما أوقفه لعدم تحقق شروطه (303) ، والتي منها ألا يكون أخذ السارق لسد رمقه يقول ابن حزم: (من سرق من جهد أصابه، فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه) (304) .
ويقول ابن القيم – رحمه الله-: (فإن السنة إذا كانت سَنَة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه – وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء) (305) ، ولو قام عمر بتنفيذ هذا الحد، بدون تحقق شروطه لكان هذا مخالفة شرعية.
( فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السُنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها – كما هو صنيع عمر – لا يقال له أنه خالف الآية) (306)
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/640-648).
الشبهة(11) : موقفهم من الجهاد
يعتبر سيد أحمد خان ومحمد عبده هما أول من أظهر الروح الانهزامية أمام الأعداء المستعمرين، وليت الأمر منهما – على خطورته – وقف عند القول بأن الجهاد دفاع فقط ولكن مما لا تهما للمستعمرين في بلديهما يعبر عن إماتتهما لروح الجهاد، حتى الدفاع منه، ولذلك لم يبق معنى للجهاد إلا للدفاع عن النفس عند سيد أحمد خان الذي (يرى أن الجهاد يشرع فقط للدفاع عن النفس، وفي حالة واحدة فقط هي اعتداء الكافرين على المسلمين من أجل حملهم على تغيير دينهم، أما إذا كان الاعتداء من أجل أمر آخر مثل احتلال الأراضي، فالجهاد غير مشروع ) (307) .
ويقرر محمد عبده أن الجهاد دفاعي فيقول: ( فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله، وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا مُنعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل، فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة، لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، ويقول: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين، فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لأجل الطمع في الكسب .(3/317)
ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان. فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام، ويؤذونهم وأولياؤهم من العرب المتنصرة، ومن يظفرون به من المسلمين، وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم، فقد مزقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعوته وهددوا رسوله، وكذلك كانوا يفعلون، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين، فإن من طبيعة الكون أن بسط القوي يده على جاره الضعيف، ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك .
وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك أنه يحارب للدين، أن يحيي الدعوة الإسلامية، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف، ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلامي – حتى من المنتمين إليه – من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين أنه ليس دينًا إلهيًا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية – فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين) (308) .
وعند تفسير قوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }[التوبة: 29]، يقول رشيد رضا: (هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال، كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم ... ) (309) .
وممن يرجح أن الجهاد شرع للدفاع فقط عبدالوهاب خلاف الذي يقول: (والنظر الصحيح يؤيد أنصار السلم، القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان، لا على الحرب والقتال، إلا إذا أريدوا بسوء، لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم، فحينئذ يفرض عليهم الجهاد دفعًا للشر، وحماية الدعوة وهذا بين في قوله تعالى في سورة الممتحنة المدنية: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }[الممتحنة، 8، 9]، وقوله تعالى في سور النساء المدنية: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء:90]، وقوله في سورة الأنفال المدنية: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وفي كثير من آي الكتاب وأصول الدين ما يعزز هذه الروح السليمة، ويبعد أن يكون الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على الحرب الدائمة، وأن يكون فرض الجهاد وشرع القتال على أنه طريق الدعوة إلى الدين، لأن الله نفى أن يكون إكراه على الدين، وأنكر أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وكيف يتكون الإيمان بالإكراه ويصل السيف إلى القلوب. إن طريق الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده هي الحجة لا السيف، ولو أن غير المسلمين كفوا عن فتنتهم، وتركوهم أحرارًا في دعوتهم ما شهر المسلمون سيفًا ولا أقاموا حربًا) (310) .
ويختار عبدالخالق النواوي القول بأن الجهاد في الإسلام دفاعي ويقول: (وبهذا الاختيار نكون قد تخلصنا مما يوصم به الإسلام في نظر خصومه، إذ يقولون: إن الإسلام كالبلشفية خطر على المدنية تجب محاربته ... ويستطردون بأن الإسلام ليس دينًا إلهيًا في نظرهم لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء) (311) .
والدكتور محمد أبو زهرة يعتبر ( الأصل هو السلْم، وأن الحرب من إغراء الشيطان ) (312) ويرى أن القتال للدفاع فقط فيقول: (نجد نصوص القرآن كلها تتجه إلى بيان أن القتال المطلوب هو دفع قتال المشركين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ونجد الآية التي تبيح قتال العرب كافة تنص على أن ذلك في مقابل اعتدائهم كافة على المسلمين قال تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 36] ) (313).(3/318)
والشيخ محمد الغزالي يرى أن الجهاد دفاع لا هجوم، ويرد حديث: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة » (314) ، ويحاول أن ينفي ما يثار من أن الإسلام انتشر بالسيف، ومما قال: (.... وما من شك في أن الجهاد حق لتأمين الدعوة وهزيمة الفتانين؟
فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم، فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثًا في كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة ... ، وفي هذا الآونة استخرج البعض حديث: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري .. ».
قلت : والكلام للغزالي – ليت لكم سيفًا يحمي الحق، ويرد عنه العوادي! فإن الحق يغرق وليس له صريخ! ... ما لكم ولهذا الحديث؟ قال لي غلام متعالم: إنه يردّ كل ما تقول...!
قلت : سأتجاوز عن ضعف هذا الحديث من ناحية سنده، ولن أطعن في صحته – مع أن الطعن وارد – ولكن اسأل : لماذا لا تتعلمون الدين وتحسنون فقهه والعمل به، ثم تحسنون الدعوة إليه؟ عندما يراكم العالم أدنى مستوى منه فلن يسمع منكم ولن يرتضيكم قادة له، لا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم ... ! ) (315) .
ثم يقول : (... ولم تبدأ سياسة العصا الغليظة إلا بعد أن أوجعت عصى الأعداء جلود المؤمنين، وكسرت عظامهم. هنا نزل قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39] ) (316) .
ومما يوضح موقف الغزالي من الجهاد أيضًا كلامه في كتابه « الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر » إذ يقول: (ومع وضوح المنهج الإسلامي في الدعوة، فإن دخانًا كثيفًا انطلق في جوه، وما نلوم المبشرين والمستشرقين فيما اختلقوا من إفك، وإنما نلوم نفرًا من الناس لبس أزياء العلماء. وهم سوقة، وانطلق في عصبية طائشة يزعم أن الإسلام يمهد لحرب الهجوم وينشر دعوته بالسيف ... ) (317) .
ويحاول أن يرد ما يقال عن أن من الجهاد ما يكون هجومي فيقول: (كيف يصف عاقل اعتراض المسلمين أهل مكة بأنه حرب هجومية، ويسكت بغباء عن أن مكة حظرت الإسلام في أرضها، وطردت أهله واعتقلت بعد ذلك كل من يدخل فيه، هل حرب هؤلاء عدوان؟
وكتب مسكين آخر يقول: إن الحرب عندنا هجومية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون . أي باغتهم دون دعوة ودون انتظار إيمان، ودون إتاحة أية فرصة للنجاة .
وهذا كذب قبيح، وجهل غليظ، فإن الرسول الكريم حارب القوم بعدما أعدوا له وتهيأوا للنيل منه.. وكتب مغفل آخر يزعم أن الحرب ضد هوازن وثقيف كانت هجومية وما فكر في قراءة الجموع التي حشدها زعيم المشركين، والقوى التي دبرها لضرب الإسلام بعد فتح مكة .
إن هناك ناسًا يغلب عليهم القصور العقلي، ولكن لديهم جراءة على إرسال الأحكام البلهاء بثقة العباقرة! وقد أصاب الإسلام شر كبير من هؤلاء المنتسبين إليه الجاهلين به وبتاريخه، فقد جروا عليه تهمًا منكرة) (318) .
ويقول أيضًا: (وهناك شبهة ضعيفة ولكن الإجابة عنها مهمة جدًا، فقد ذكر البعض حديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » .
وظاهر الحديث أن الإسلام دين هجوم لنشر التوحيد .
ونقول: هذا الظاهر باطل، وسبب الخطأ في فهم الحديث كلمة «الناس » التي وردت فيه، أنها لأول وهلة تغني العالم أجمع، .... والحديث يتناول ناسًا معينين، ونقضوا كل عهد، ورفضوا كل حرية، وكرسوا جهودهم وثرواتهم للقضاء على الإسلام ورجاله..) (319) .
ويقول تحت عنوان « ما يسمونه آية السيف »: (لا يوجد ما يسمى آية السيف! هناك جملة من الآيات في معاملة خصوم الإسلام، وفي مقاتلهم أحيانًا لأسباب لا يختلف المشرعون قديمًا وحديثًا على وجاهتها، وعلى أنها تنافي الحرية الدينية في أرقى المجتمعات) (320) .
ويقول: (سمعت من يحتج بالآية: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فقلت له: ألا تكملها ؟ أليس بعدها: { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، فأنى في الآية الدعوة إلى الهجوم، وإعمال السيف في الناس ) (321) .
ويقول أيضًا: (إن الإسلام لم يحارب الكفر لأنه كفر، بل لأنه ضم إلى عجوه الفكري جملة من الآفات الأخلاقية، والمسالك العدوانية لا يجوز قبولها، ولا يصبر حرُّ عليها!) (322) .
وبعد أن يورد الغزالي الآية: { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [التوبة: 13]، يقول: ( في أي لفظ من هذه الألفاظ تشم رائحة الهجوم والتعديّ ؟(3/319)
إنها استثارة للدفاع وحسب! وعندما يأمر بالقتال يذكّر بمآسيهم السابقة وما تركوه في القلوب من جراحات ... قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 14، 15].
ممن يكون شفاء الصدور وذهاب الغيظ؟ لا شك أن هؤلاء الناس تركوا في نفوس المؤمنين جراحات لا تندمل، غرّبوهم، وقتلوا أحبتهم، وضنّوا عليهم بكل حق، وظلوا على هذه الحال ثنتين وعشرين سنة يتربصون بالمسلمين، ويقلبون لهم الأمور ... أعطيناهم حق الحياة بكفرهم، وأبوا أن نعيش بإيماننا! قلنا لهم: لكن دينكم ولنا ديننا فقالوا: ليس لكم إلا الموت.
أولئك هم الذين برئت منهم ذمة الله ورسوله، وأولئك الذين نزل فيهم: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] ، بأي عقل يأتي مفسِّر فيقول: المقصود بهذه الآية كل كافر على وجه الأرضَ أساء أم أحسن! وفّى أم غدر! ظلم أو أنصف! ثم يطلق على هذه الآية المحددة: آية السيف! ويلغي بها مائة آية في العرض الهادئ والجدال الحسن والوعظ البليغ!! ثم تظهر في عصرنا الأسود طوائف من الشباب الأغرار تحمل العصي، وتزعم أن الإسلام دين هجوم، وتريد أن تقاتل روّاد الفضاء) (323) .
ويجيب حسن الترابي في ندوة تلفزيونية عن النصوص التي تحث على الجهاد وترغب فيه ومنها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة: 5]، وقوله صلى الله عليه وسلم: « الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم » (324) .
ويقول في الجواب : ( القول بأن القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول: إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائمًا على علاقات العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت امبراطوريات، إما أن تعدو عليها، أو تعدو عليك) . (325)
ويطيل فهمي هويدي الحديث في محاولة تبرئة الإسلام من القول بأن الجهاد فيه جهاد طلب وابتداء، ويستدل بعدد من الآيات التي تدعو إلى السلم من مثل قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً } [البقرة: 208] وقوله جل وعلا: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } [الأنفال: 61]، وقوله: { وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ... الخ ويقول بعد ذلك: (... ويتفق مع هذا السياق قول الله سبحانه وتعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ }[البقرة: 216] ، أي أنه أمر تفرضه عليكم عداوات الآخرين وظلمهم لكم، عليكم أن تقبلوه مضطرين)(326) .
فهو يرى أن الجهاد دفاع فقط، والإسلام لا يعتمد القتال وسيلة للتبليغ، ولا يكون إلا لأمر اضطراري، يقول: (ومنذ البداية، سلح الله المسلمين بالكلمة، وكان أول ما أنزل الله على نبيه هو: «اقرأ – وليس اضرب » أو «ابطش »، وكان كتاب المسلمين هو القرآن الكريم، ولم يكن سلاح المسلمين سيفًا ولا سوطًا، ولم تكن شريعتهم قانون حرب، والأمر كذلك فإن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعطفًا يكره إلى المسلمون أو نوعًا من «الهبوط الاضطراري » الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامية) (327) .
وعند حديثه عن الحرب المشروعة إسلاميًا يقول: ( يرى الشيخ رشيد رضا أن الحرب الإسلامية تحكمها عدة قواعد :
القاعدة الأولى: أن الأمر بالقتال ورد في سياق الرد على عدوان المعتدين درءًا للمفاسد وتوطيدًا لمصالح المسلمين، وأن هذا الأمر جاء مقترنًا بالنهي عن قتال الاعتداء والبغي والظلم، وهو ما يشهد عليه قوله تعالى:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190].
القاعدة الثانية: أن تكون الغاية الإيجابية من القتال بعد دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن، هي حماية الأديان كلها من الاضطهاد فيها أو الإكراه عليها، وعبادة المسلمين لله وحده، وإعلاء كلمته وتأمين دعوته وتنفيذ شريعته ) (328) .
وبعد ذلك يحاول أن يعلل قيام الغزوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وحروب الإسلام الأولى، ويقول بأن أعداء الإسلام هم الذين أشعلوا نارها، وأطاروا شرارها، وما كان من المسلمين إلا أنهم قبلوا التحدي، وردوا التعدي. وكان تتابع الفتوح بحكم الضرورات الحربية وحدها، وما كان جهاد المسلمين إلا ليؤمنوا دولتهم (329) .(3/320)
ويحاول فهمي هويدي أن يرد دلالة الأحاديث الصريحة في الأمر بالجهاد، فبعد أن يورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ... »، يقول: (وحقيقة الأمر أن المعنى بالناس هنا ليس كل البشر، وإنما هم جماعة من البشر) (330) .
أما عن حديث: « ٍبعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري » فيشكك أولاً في صحته، ثم يقول: وفي شرح معاصر للحديث أنه يعني: أن سيف الإسلام حاضر للقتال في سبيل الله، كلما دُعي إلى ذلك، وأن مصير الشرك والوثنية هو الهزيمة والامتثال لأحكام الله وتعاليمه. وأن الشق الأخير المتعلق بالغنائم خاص برسول الله الذي أبيح له أن يأخذ نصيبًا منها، وهذا الحديث يفهم خطأ إذا عزل عن الموقف الإسلامي الأصيل من قضية الحرب والسلم، الذي تحدده نصوص القرآن الكريم بالدرجة الأولى، وهي النصوص القاطعة في منع العدوان وإشاعة السلام، وفي كل الأحوال، فينبغي أن يوضح في إطار الإعلان عن القوة التي تحمي الحق، وتصد عنه كل عدوان .
والمنطلق الذي ينبغي أن نقرأ به هذا الحديث النبوي، هو ذاته الذي ينبغي أن نفهم به عبارة السيد المسيح في الإصحاح العاشر من إنجيل متى: « ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا » إذ لا يمكن أن يزعم زاعم أنها دعوة لقتال العالم، ومخاطبته بالسيف، وهو ما تقطع بكذبه التعاليم الأساسية للديانة المسيحية. وإنما يقضي الإنصاف أن نستقبل هذه العبارة باعتبارها تلويحًا من جانبه بأن القتال في سبيل الدفاع عن العقيدة يظل واردًا إذا لزم الأمر) (331) .
ويرى محمد عمارة أن الجهاد في الإسلام دفاعي، وهو سبيل يلجأ إليه المسلمون عند الضرورة، أما القول بأن المسلمين مطالبون بقتال مخالفيهم في الدين حتى يؤمنوا بالإسلام فيرى أنها شبهة أصبحت عالقة بسماء الفكر في عالم الإسلام يجب تبديدها، وتبرئة الفكر منها.
ويستدل بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، ويعلق بقوله: ( فالمطلوب هنا ليس قتال المخالفين لنا في الدين، وإنما قتال « الذين يقاتلوننا » من بين هؤلاء «المخالفين » فحكمة القتال وسبب هما «قتال » هؤلاء المخالفين لنا، و «عدوانهم » علينا، وليس مجرد «الخلاف لنا في الدين »! ذلك أن الإسلام لا ينهى، فقط عن مقاتلة المخالفين لمجرد الاختلاف الديني معهم، بل إنه يدعو إلى مودتهم والقسط إليهم طالما لم يقاتلونا في الدين! فإن هم قاتلونا، واعتدوا علينا، وانتهكوا الحرمات، وجب علينا قاتلهم) (332) .
ويرى دلالة الحديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.. الحديث » بقوله: (أما هذا الحديث، والذي يبدوا للعامة وأنصاف المثقفين ثقافة إسلامية، من ظاهر ألفاظه، أنه يدعو إلى مقاتلة المخالفين في الدين، حتى يثوبوا إلى عقيدة التوحيد.. فإن الفقه الحق لمعناه يتطلب ما هو أكثر من النظر العابر لظاهر الألفاظ !
فالمراد « بالناس » الذي أمر الرسول بقتالهم: « المشركون » من العرب أولئك الذين كانوا يمنعون، بالفتنة والعدوان، دعوة الإسلام من أن تتخذ لنفسها القاعة الآمنة التي ينطلق منها الدعاة) (333) .
والقاعدة عنده تتبين من قوله: ( فالذين يكفون الأيدي عن قتالنا ويلقون حبال السلام إلى عالم الإسلام وأهله، لا سبيل لنا عليهم، أما «المنافقون » الذين لا يكفون أيديهم عن قتال المسلمين، فإن « السلطان » الذي قرر الله لنا عليهم يدعونا إلى قتالهم، ردًا للعدوان، وتأمينًا لعالم الإسلام وحريات المسلمين ... « فالعدوان » أو « المسالمة » هو المعيار، ليس « النفاق » ولا الخلاف في الدين) (334) .
وفي ختام كلامه يقول: ( والقتال في الإسلام سبيل يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة.. ضرورة حماية الدعوة، وتأمين الحرية للدعاة، وضمان الأمن لدار الإسلام وأوطان المسلمين. سان كان ذلك القتال «دفاعيًا تمامًا » أو «مبادأة » يجهض بها المسلمون عدوانًا أكيدًا أو محتملاً ... فهو في كل الحالات ضد للعدوان.. أما إذا جنح المخالفون إلى السلم، وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعائه، وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذ، ولا مجال للحديث عن القتال، باسم «الدنيا » كان ذلك الحديث أو باسم « الدين ») (335) .
الرد :(3/321)
من هذا العرض لأقوال هؤلاء المفكرين عن الجهاد، يتبين موقفهم الانهزامي أمام شبه أعداء الإسلام، القائلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه دين العنف والإرهاب، فأراد هؤلاء المفكرون أن ينفوا مثل هذه الشبه، ويدافعوا عن سمعة الإسلام، فوقعوا في المصيدة التي نصبها لهم الأعداء، وقالوا أن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا للدفاع، وأن معارك الإسلام جميعها لم تتخط هذه الغاية، وبذلك حصروا الحكم في أن الجهاد لا يكون مشروعًا إلا للدفاع عن المسلمين، والأرض الإسلامية، وأبطلوا الحكم الشرعي الثابت بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، من أن من الجهاد ما هو جهاد طلب وابتداء، وهو أن يُطلب الكفار في عقر دارهم، ويقاتلون إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام .
وهذا الحكم الذي قال به هؤلاء المفكرون، يتبين بطلانه بأمور منها :
1 – إن النصوص التي استدلوا بها على أن الجهاد دفاعي فقط، من مثل قوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة: 190]، وقوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وقوله تعالى: { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90].
أقول أن استدلالهم بهذه الأدلة استدلال في غير محله، ولا يختلف عن من استدل بقوله تعالى للمؤمنين في مكة : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [النساء: 77]، على حرمة القتال في كل زمان، وهذا ما لا يقول به أحد من المسلمين. لأن هذه الآيات التي استدلوا بها نزلت في المرحلة الثالثة من المراحل التي شرع فيها القتال (336) ، وفيها فرض قتال من قاتل المسلمين فقط. ثم تلا ذلك النصوص التي وضعت الأحكام النهائية في المرحلة الرابعة والأخيرة، وفيها فرض الجهاد لمقاتلة المشركين كافة، وأن يقاتلوا أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة، ومن أدلتها قوله تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5].
يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري – رحمه الله-: (إن قتال الكفار على العموم واجب بالنصوص القطعية من وحي الله كتابًا وسنة، وهذا القتال واجب للهجوم لا للدفاع. كما تصوره بعض المنهزمين هزيمة عقلية، باسم الدفاع عن تشويه سمعة الإسلام والذين اشتبهت عليهم معاني النصوص التي يفيد بعضها الخصوص فأعمتهم هزيمتهم العقلية أو الهوى عن النظر في العمومات الصارفة الناسخة لما قبلها، لكونها عامة ومتأخرة، قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 123]، وقال: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 5]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ». وغير ذلك من النصوص الواضحة التي لا نطيل بها المقام ولكن المهزومين وأصحاب الهوى يضربون صفحًا عن هذه النصوص القاطعة العامة، الناسخة لما قبلها لتأخرها في النزول، ويتمسكون فقط بقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، كما يأخذون التعليل بآية الإذن في الجهاد، غافلين أو متغافلين أن مشروعية القتال جاءت في القرآن على مراحل) (337) .(3/322)
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – رادًا على من استدل ببعض الآيات على أن الجهاد للدفاع فقط: (... وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث: الأولى قوله جل وعلا: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]، والجواب عن ذلك أن هذه الآلية ليس معناها القتال للدفاع، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال: كالرجل المكلف القوي، وترك من ليس شأنه القتال: كالمرأة والصبي ونحو ذلك، ولهذا قال بعدها: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ } [البقرة: 193]، فاتضح بطلان هذا القول، ثم لو صح ما قالوا، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وهذه لا حجة فيها، لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية، هذا هو أحد القولين في معناها.
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف، ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب، كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف، فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من الحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجميع وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا. فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى. والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط قوله تعالى في سورة النساء: { فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90]، قالوا من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله. وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة. ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين، فإذا قووا أمروا بالقتال، كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ، وبهذا يعلم بطلان هذا القول، وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ... ) (338).
2 – القول بأن الجهاد دفاعي فقط، دعوى تدل على الجهل بطبيعة الشر وأهله، فقد أخبر الله وهو أعلم بخلقه بنوايا المشركين تجاه المسلمين، في مثل قوله: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } [البقرة: 217]، وقوله تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]، وقوله: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء: 102] .
وإذا كانت هذه نوايا أهل الكفر تجاه المسلمين، « فكيف يجوز أن يدعى بأن الجهاد في الإسلام لم يشرع إلا عندما يهجم أعداء الإسلام على دار الإسلام، أو على المسلمين، مع أن الله أخبرنا أنهم فاعلون ذلك إن عاجلاً أو آجلاً، وأنهم لا يسالمون إلا وفي نيتهم منازلة المسلمين عندما تتاح لهم الفرص والظروف؛ يؤيد هذا ما أخبر به عز وجل من أن المشركين لا عهد لهم ولا أيمان، فقال سبحانه: + كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ " ، إلى قوله تعالى: { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة: 7-12] ) (339) .
يقول سيد قطب – رحمه الله -: « ... إن الله سبحانه يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة، فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولابد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولابد أن يدافع الباطل عن نفسه، بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة، هذه جبلة ولبست ملابسة وقتية، هذه فطرة وليست حالة طارئة، ومن ثم لابد من الجهاد، لابد منه في كل صورة، ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود، ولابد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح، ولابد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة، وإلا كان الأمر انتحارًا أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين) (340) .(3/323)
3 – ومما يرد به على من زعم أن الجهاد دفاعي فقط أن يقال هذه الدعوى تناقض الواقع الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وواقع الخلفاء الراشدين، فما كان صلى الله عليه وسلم يقنع بفرع راية الإسلام على بقعة من الأرض فقط، ولو صح ما يدعيه هؤلاء المفكرون لاكتفى صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وتأديب كفار قريش، ولما كانت الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء حتى عمت دعوة التوحيد ودولة الإسلام أقطار شتى .
والذي يتدبر الحوار الذي دار بين مجاهدي الإسلام من جهة، وبين كسرى ورستم من جهة أخرى أثناء الفتوحات الإسلامية، لا يجد في كلام المجاهدين ما يشير إلى أنهم جاءوا ليدافعوا عن أنفسهم وأراضيهم، أو يؤدبوا قومًا اعتدوا عليهم ثم يرجعوا عنهم، وإنما يجد في كلامهم ما يدل على سمو رسالتهم، ونبل أهدافهم التي عبروا عنها بقولهم (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ... فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر) (341) .
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/711-726).
________________________________________
(133) انظر تقييد ما ورد من الإطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير «القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإسلامي» مخطوط جامعة أم القرى ص 55، وقد تبين أن هذا الإطلاق غير صحيح.
(134) انظر محاولة لتحديد معنى «التغيّر» لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير «الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان» إعداد محمد راشد علي – كلية الشريعة والقانون – بالقاهرة ص 8-18.
(135) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير.
(136) انظر ما سبق ص232.
(137) رسالة «تغير الأحكام بتغير الزمان» 18-24-25.
(138) تغير الأحكام بتغير الزمان 10.
(139) تغير الأحكام بتغير الزمان 18.
(140) جاء في اللسان: «العرف والعارفة والمعروف ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة «عرف» 9/239).
وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: ( وأمر بالمعروف.. )
وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء – في الجملة- حيث تدور تعريفاتهم لمعنى «العرف» حول ما اطمأنت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولاً أو فعلاً، ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب- وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبوسنة – مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/1949.
(141) والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد، اللسان مادة «عود» 3/316-317، والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولاً أو فعلاً، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثرًا في العادة على إسراع البلوغ وإبطائه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د.أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية، انظر 10-11-12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أ والجماعة بسبب مكتسب أو غير مُكتسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفًا والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي.
(142) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطا معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها.
(143) تعليل الأحكام 71.
(144) المرجع نفسه 56-64.
(145) المرجع نفسه 34.
(146) المرجع نفسه 34.
(147) المرجع نفسه 322.
(148) المرجع السابق 32.
(149) المرجع السابق 37-38.
(150) المرجع السابق 43.
(151) المرجع السابق 61.
(152) المرجع السابق 293.
(153) المرجع السابق 293.(3/324)
(154) المرجع السابق 302، ظاهر من منهج المؤلف أن كتابه- تعليل الأحكام- مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرئ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسأل الله عليه العون والتوفيق.. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها، والله المستعان.
(155) المرجع السابق 282.
(156) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب ردًا وتفنيدًا لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإسلام ويعمل له، فكثيرًا ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة ، ولابد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى ، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل.. والله المستعان..
(157) تعليل الأحكام 37-38.
(158) انظر بيانه فيما سبق ص 232.
(159) سنن أبي داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح» فتح الباري 2/349.
(160) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38-39.
(161) رسالة تعليل الأحكام 39.
(162) المرجع السابق 1/231.
(163) فتح الباري 2/348-349.
(164) معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312.
(165) سنن البيهقي 8/320 الطبعة الأولى 1354هـ - وتعليل الأحكام 60-61-62، وسنن أبي داود 4314.
(166) سنن البيهقي 8/320، وسنن أبي داود 4324.
(167) تعليل الأحكام 61.
(168) انظر ما سبق ص383.
(169) انظر المسألة فيما سبق ص433-434.
(170) سنن أبي داود 4324.
(171) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/220.
(172) وهو من معنى الأثر السابق- انظر المصدر السابق 2/220.
(173) تعليل الأحكام 62-63.
(174) راجع المسألة في كتاب المغني 9/103 إلى 137.
(175) المغني 9/136.
(176) تعليل الأحكام 63.
(177) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لابن العربي 2/615.
(178) معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/130.
(179) فتح الباري 6/129-130.
(180) تعليل الأحكام 32.
(181) سورة النساء : آية 64.
(182) سورة الأحزاب : آية 36.
(183) سورة النور : آية 63.
(184) سورة الحجرات: آية 1.
(185) فتح الباري 6/130.
(186) فتح الباري 6/130.
(187) فتح الباري 12/275.
(188) الموافقات 4/225.
(189) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246.
(190) سنن الترمذي رقم 1474.
(191) تعليل الأحكام 36.
(192) تعليل الأحكام 37.
(193) انظر المغني 308.
(194) المغني 308-309، تعليل الأحكام 36-37.
(195) انظر ما سبق ص358.
(196) سورة البقرة : آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: «راعنا» الخير فاستعمله اليهود وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلاً من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/150 وأعلام الموقعين 3/137. 1/150 وأعلام الموقعين 3./137.
(197) { فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (الأنعام:108).
(198) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «إن رسول الله × قال ، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه» فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه . باب أكبر الكبائر 2/83- صحيح مسلم بشرح النووي.
(199) الموافقات 3/189، 190.
(200) 3/137-159.
(201) الموافقات 3/188.
(202) المصدر السابق 3/192.
(203) المصدر السابق 3/193.
(204) 226، وانظر 200، 391، 509.
(205) انظر أعلام الموقعين 3/143- 154 ونظرية المصلحة 227.
(206) ومثله ما نسبه إلى عمر رضي الله عنه ص 37-38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر رضي الله عنه مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى:+وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ" .
والظاهر - والله أعلم- أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفًا فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.
(207) ومثل ذلك ما قاله في تضمين الصناع ص59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133-137.
(208) انظر الإجماع ص266-384.(3/325)
(209) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص . انظر ما سبق ص413.
(210) انظر رسالة أستاذي «نظرية المصلحة» من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك ، وكذلك ضوابط المصلحة.
(211) تعليل الأحكام 3002.
(212) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل -مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي.. والشذوذ عن الإجماع.
(213) رسالة تعليل الأحكام 92.
(214) تعليل الأحكام 292-293-294-295.
(215) تعليل الأحكام 295-296.
(216) تعليل الأحكام 292-296.
(217) انظر نظرية المصلحة ، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة.
(218) نظرية المصلحة 807.
(219) المرجع نفسه 807.
(220) المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له.
(221) المرجع السابق 293.
(222) انظر هامش ص 413 وما بعدها.
(223) انظر ما سبق ص 460- 461 من الرد على محمد شلبي في التطبيقات التي ذكرها.
(224) بل زاد صاحب رسالة التعليل ص370 الطين بلة، وزعم أن المصلحة تقدم على النص ويترك بها جميع أفراده، وتقدم على الإجماع ، وتعطل النص ولا تنسخه، وهذا المذهب أقبح من مذهب الطوفي ، انظر مقارنة بينهما في نظرية المصلحة 111-113.
(224) انظر ص 149 من هذا البحث.
(225) (هذه المجلة)، كلمة التحرير، د. جمال الدين عطية، ص 7، (المسلم المعاصر)، العدد الافتتاحي، شوال 1394هـ، (نوفمبر 1974م).
(226) انظر (منهاج هذه المجلة) محمود أبو السعود، ص 123 العدد الافتتاحي ـ و(إمكان الاجتهاد في أصول الفقه) د. مصطفى كمال وصفي، ص 131، العددان الأول والثاني (ربيع الأول 1395هـ) و(نظرات في العدد الأول)، يوسف القرضاوي، ص 136 نفس المصدر.
(227) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، ص 257، مجلة العربي، عدد 222، مايو 1977م.
(228) (نظرات في العدد الأول) يوسف القرضاوي، ص 138، (مجلسة المسلم المعاصر)، العدد الأول والثاني ربيع الأول 1395هـ.
(229) تجديد الفكر الإسلامي ص 12.
(230) تجديد الفكر الإسلامي ص 21.
(331) تجديد أصول الفقه ص 29.
(232) انظر الرسالة للإمام الشافعي ص 471 وما بعدها، ففيها هذا المعنى.
(233) منهاج الوصول في علم الأصول (2/273).
(234) جمع الجوامع (2/176).
(235) الفقيه والمتفقه (1/154).
(236) يقصد بقوله: «حالت» تحولت تلك الظروف وتبدلت.
(237) تجديد الفكر الإسلامي ص 11.
(238) تجديد الفكر الإسلامي ص 12 .
(239) تجديد الفكر الإسلامي ص 21.
(240) الفقيه والمتفقه (2/178).
(241) منهاج الوصول في علم الأصول (3/3).
(242) تجديد أصول الفقه ص 22.
(243) الشاطبي : الاعتصام 1/184
(244) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115
(245) معالم في الطريق ص105
(246) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(247) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(248) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي.
(249) المصدر السابق: ص69-71
(250) سورة الملك : الآية 14
(251) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279
(252) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 .
(253) الشعراني: الميزان 1/30 .
(254) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث.
(255) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44.
(256) انظر ص 133 من هذا البحث.
(257) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م.
(258) انظر ص 190 من هذا البحث.
(259) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة.
(260) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259.
(261) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175.
(262) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35.
(263) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270.
(264) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267.
(265) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116.
(266) نفس المصدر ص 117.
(267) نفس المصدر ص 118.
(268) (المسند)، 6/ 123.(3/326)
(269) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29.
(270) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153.
(271) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12.
(272) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117.
(273) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء». فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة.
(274) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283.
(275) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109).
(276) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12.
(177) نفس المصدر، ص 8.
(278) نفس المصدر، ص 8.
(279) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م.
(280) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172.
(281) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.
(282) المصدر نفسه ص38 – 39 .
(283) مجلة المسلمون العدد السادس السنة الأولى ص553 .
(284) مجلة الأدب. بيروت. عدد مايو 1970 ص101 .
(285) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين. محمد الغزالي ص134 – 135 .
(286) معالم المنهج الإسلامي. محمد عمارة ص234 .
(287) المصدر السابق ص232 .
(288) المصدر السابق، ص243 – 244 .
(289) أخرجه البخاري، كتاب اللباس. باب عذاب المصورين يوم القيامة (10/382) ح(5950). ومسلم أيضًا في كتاب اللباس والزينة. باب تحريم صورة الحيوان.. (3/1670) ح(2109) .
(290) معالم المنهج الإسلامي ص245 .
(291) مجموع الفتاوى (33/93 – 94) .
(292) أخرجه البخاري. كتاب الجمعة. باب ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد (2/382) ح(900). ومسلم في كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة .. (1/327) ح(442).
(293) السنة تشريع لازم ودائم ص99- 100 .
(294) الفتاوى (33/ 94) .
(295) الموافقات للشاطبي (285- 286) .
(296) الحديث أخرجه البخاري كتاب الآذان. باب انتظار الناس قيام الإمام العالم (2/349) ح(869). ومسلم في كتاب الصلاة. باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ... واللفظ لمسلم (1/329) ح:445 .
(297) سنة تشريعية وغير تشريعية. محمد سليم العوا ص41 .
(298) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/161) .
(299) سبق تخريجه ص256 .
(300) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية – د. عابد السفياني ص465 .
(301) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (4/164) .
(302) مقال « النصوص وتغير الأحكام » مجلة المسلمون عدد (6) ص555 .
(303) الشروط التي اشترطها الشارع لتنفيذ الحد :
1- أن يكون المسروق نصابًا .
2- أن يكون من حرز .
3- أن لا يكون فيه شبهة ملك .
4- أن لا يكون آخذه محتاجًا إليه لسد رمقه .
انظر: المغني (9/103- 137)، وانظر الثبات والشمول لعابد السفياني ص471 .
(304) المحلى لابن حزم (11/343) تحقيق أحمد شاكر – الناشر مكتبة دار التراث. القاهرة .
(305) أعلام الموقعين (3/ 14) .
(306) الثبات والشمول. عابد السفياني ص472 .
(307) مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد ص130 .
(308) تفسير المنار (2/215 – 216 ) .
(309) المصدر السابق (10/ 289) .
(310) السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية. تأليف عبدالوهاب خلاف ص84- 85. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع. الكويت، 1408هـ- 1988م .
(311) العلاقات الدولية والنظم القضائية في الشريعة الإسلامية، تأليف عبدالخالق النواوي ص109، الناشر دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الأولى 1394هـ- 1974م .
(312) العلاقات الدولية في الإسلامية – تأليف محمد أبو زهرة ص47، الناشر الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1384هـ- 1964م .
(313) المصدر السابق ص89- 90 .
(314) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/50 – 92) .
(315) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، لمحمد الغزالي ص132 .
(316) المصدر السابق ص133 .
(317) الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر. تأليف محمد الغزالي ص13. الناشر مكتبة وهبة. القاهرة. الطبعة الثانية 1405هـ- 1985م .
(318) المصدر السابق ص13 .
(319) المصدر السابق، ص16- 17 .
(320) جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج، تأليف محمد الغزالي ص89. الناشر دار القلم للنشر والتوزيع – دمشق الطبعة الأولى 1411هـ- 1991م .
(321) المصدر السابق ص89 .
(322) المصدر السابق ص90 .
(323) المصدر السابق ص91 – 92 .(3/327)
(324) أخرجه البخاري – كتاب المناقب – باب 28 (6/633) ح: 3644. ومسلم – كتاب الإمارة – باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3/1493) ح: 1873 .
(325) نقلاً عن الرد القويم لما جاء في الترابي والمجادلون عنه من الافتراء والكذب المهين، للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد ص86 .
(326) مواطنون لا ذميون – فهمي هويدي ص234 .
(327) المصدر السابق ص236 .
(328) المصدر السابق ص240 – 241 .
(329) انظر: المصدر السابق ص244 – 249 .
(330) المصدر السابق ص261 .
(331) المصدر السابق ص261 – 262 .
(332) الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية – محمد عمارة ص130 .
(333) المصدر السابق ص131 .
(334) المصدر السابق ص135 – 136 .
(335) المصدر السابق ص136- 137 .
(336) مراحل تشريع الجهاد أربع مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة النهي عن القتال قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) [الناس: 77].
المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض. قال تعالى: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[الحج: 39].
المرحلة الثالثة : وفيها فرض القتال على المسلمين لمن قاتلهم فقط. قال تعالى: ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) [البقرة: 190].
المرحلة الرابعة: وفيها فرض قتال جميع الكفار قال تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) [التوبة: 5].
ويتخلص الحكم في الجهاد بأنه « كان محرمًا ثم مأذونًا به ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين. إما فرض عين على أحد القولين أو فرض كفاية على المشهور ». زاد المعاد لابن القيم (3/71)، وانظر أهمية الجهاد للعلياني ص136- 144، وانظر الجهاد في الإسلام، تأليف صالح اللحيدان ص43- 54، الناشر دار اللواء للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1398هـ- 1978م
(337) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبدالرحمن الدوسري ص137- 138، الناشر مكتبة الرشد للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثانية 1403هـ- 1983م .
(338) مجموع فتاوى، ومقالات متنوعة للشيخ عبدالعزيز بن باز (3/198- 199) .
(339) افتراءات حول غايات الجهاد، للدكتور محمد نعيم ياسين ص119. الناشر دار الأرقم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1406هـ- 1986م .
(340) في ظلال القرآن. سيد قطب (2/497) .
(341) سبق ذكر هذا الأثر ص123، من هذه الرسالة .
======================
الشبهة(12) : الفتوى والتغير بسبب العصر
قال الدكتور هزاع الحوالي : تحت مبحث (مزالق المتصدين للفتوى في عصرنا) : أورد الدكتور يوسف القرضاوي مجموعةً من تلك المزالق، ذكر منها : " الجمود على الفَتاوَى القديمة دون مراعاة الأحوال المتغيرة ".
ويعني بها الجمود على ما سُطِّر في كتب الفقه، أو كتب الفتاوَى القديمة، والإفتاء بها دون مراعاة لظروف الزمان والمكان والعُرف والحال، وهي أمورٌ تتطور وتتغير..
ثم استعرض مجموعةً من الأمثلة على ذلك كالإصرار على ثُبوت الهلال بالعين المجردة، وعدم قبول شهادة من يحلق ذقنه...الخ
وأكد على ضرورة ملاحظة المفْتِي في فتواه الظروف الشخصية للمُسْتَفْتِي- نفسية أو اجتماعية – والظروف العامة للعصر والبيئة.
وكغيره من المقررين لقاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان يستشهد بما ذكره ابن القيم في هذه المسألة – وستأتي في المناقشة- مشيراً إلى أن كلمات ابن القيم في تغير الأحكام بتغير الأزمنة... قد أصبحت مناراً يَهْتَدِي به السائرون ، ويُنَوِّه به المصلحون المعاصرون، وكل من حاول الإسهام في تجديد الفقه الإسلامي ، وإحياء العمل بالشريعة الإسلامية.
وكذلك يستشهد بما أورده القرافي في كتابه الإحكام ، إذ يقول :«إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد» (342) .
استشهد الدكتور القرضاوي بالنص المتقدم- مع اختلاف بعض الكلمات عن المصدر- ولاحظ فيه أن الأحكام التي تتغير هي تلك الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا النصوص المحكمات.
ومع أن النص السابق قيد الأحكام المتغيرة بالمُسْتَنِدَةِ للعوائد والأعراف فقط، دون النصوص ، إلا أن القرضاوي لم يُخْرِج سِوَى النصوص المحكمات، والتي يُفَسِّرها بالقطعيات، (343) مما يُفْهَمُ منه إدخال النصوص ظنية الدلالة تحت المتغير عند القرضاوي.(3/328)
وبعد إيراده لنص القرافي المتقَدِّم، وإيرادِهِ لتلك الملاحظة عليه، استشهد بنصٍ آخر يُفْهُم منه شُمول التغيير لمجال أوسع من الأحكام، هذا النص هو قول القرافي :«فمهما تجدد من العرف اعْتَبِرْه، ومهما سقط أسْقِطْه، ولا تَجْمُد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عُرْفِ بلدك، واسأله عن عُرْف بلده، وأجْرِهِ عليه، وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك، والمُقَرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلالٌ في الدين، وجَهْلٌ بمقاصدِ علماء المسلمين والسلف الماضين» (444) لِيَسْتَنْتِجَ القرضاوِيُّ من هذا النص أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان (445) .
وليست هذه الملاحظة هي المقصودة، إذ المقصود هو تغير الأحكام بناءً عليها، فهو يَخْتَتِم النُّقُولاتِ التي أوردها بقوله:«وهذا ما جعل كثيراً من أهل العلم يقرون أشياء كانوا يُنْكِرونها- أو أكثرهم- منذ سنواتٍ غير بعيدة، نزولاًعلى حُكْم الضرورة ، واستجابةً لنداءِ الواقع، وتطبيقاً لرُوح الشريعة، التي أراد الله بها اليُسْر، ولم يُرِدْ بها العُسْر (446) .
وفي ذكره لأسباب المرونة في الشريعة الإسلامية يذكر من ذلك :
تقرير مبدأ تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف.
ويرى أنه مبدأ تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الصحابة. واستدل على ذلك بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المؤلفة قلوبهم، وقسمة الأراضي المفتوحة ، وطلاق الثلاث وغيرها (447) .
وفي السياق نفسه يتحدث الدكتور عبد المجيد النجار عن تغير الأحكام بتغير الزمان، نتيجة للأوضاع الواقعية التي تُرَجِّح ذلك التغير، ويَسْتدِل- أيضاً- بما ورد عن ابن القيم من قوله في طلاق الثلاث : «... فلما تغير الزمان ، وبعد العهد بالسُّنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل، ونفَقَت في الناس ، فالواجب أن يُرَدَّ الأمرُ إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، من الإفتاء بما يُعَطِّل سوقَ التحليل، أو يُقَلِّلْها، ويُخَفِّفُ شَرها، وإذا عُرِضَ على من وَفَّقَهُ الله، وبَصَّرَه بالهُدَى ، وَوَفَّقَه في دِينِهِ، مسألةُ كَونِ الثلاثِ واحدةً ، ومسألةُ التحليل ، ووَازَنَ بينهما ، تَبَيَّنَ له التَّفاوُت ، وعَلِمَ أي المسألتين أَوْلى بالدِّين ، وأصلح للمسلمين » (448)
والدكتور عبد المجيد النجار يحدد تَدخُّل الواقع فيما كان مظنونا من الأدلة ليختار من احتمالها ما يحقق المصلحة في ظرف واقعي معين. (449)
المناقشة :
القول بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمنة والأحوال والمصالح والعادات قولٌ يُرَدِّدُه أكثرُ المهتمين بالتجديد الفِقْهِيّ أو الأُصوليّ، مؤكدِين استناد هذه القاعدة للتاريخ الفقهي في عصر الصحابة والتابعين ومَن تَبِعَهُم ، بل في عصره صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم.
فأما تغير الأحكام في عصره صلى الله عليه وسلم فلا حُجَّة لهم فيه البتَّة، إذ تشريعه صلى الله عليه وسلم للأحكام تبليغٌ عن الله عز وجل مراده، ولله عز وجل نَسْخُ ما يشاء وإثباته. فكيف يجرؤ شخصٌ على ادِّعاءِ الإقتداء بالمصطفي صلى الله عليه وسلم في نسخ الأحكام وتبديلها!! أفلا يَلْزَمُ من ذلك القول بالتشريع ابتداء أُسْوةً بِِه صلى الله عليه وسلم في ذلك؟!
وأما القول بأن فِقْه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض القضايا يُمَثِّل مُسْتَنَداً للقول بتغير الأحكام بناءً على تغير المصالح فهو قولٌ مردودٌ بما أوردناه في مناقشة العقلانيين. وخلاصته أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يُبَدِّل حُكْماً، وليس له ذلك وإنما حرص – رضي الله عنه – على تحقيق مناط الحكم في كل قضية نُسِبَ إليه التغيير فيها ، فحيث تحقق مناط الحكم تحقق الحكم ، وحيث رأي تخلف المناط قال بتخلف الحكم، وهو المنهج الشرعي الذي تؤيده الأدلة الشرعية ، وتؤكده قواعد الشرعية وكلياتها.
وأما ما ذكروه من إيراد ابن القيم – رحمه الله- لفصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ، فصحيحٌ وواقعٌ. بَيْدَ أنَّ العلاَّمة ابن القيم رحمه الله – كما هو حال بقية السلف- لم يَعْمَد إلى تغيير حكمٍ شرعيٍ تحقق مناطه البتَّة، وأن كل اجتهاد لُوحِظَ فيه تغييرٌ لحكمٍ شرعيٍ إنما كان – في الحقيقة- اتِّباعٌ للشرع، وتحقيق لمناطات أحكامه. (450)
وقد تَتَبَّع بعض الباحثين الأمثلة التي أوردها ابن القيم في الفصل المشار إليه، وصرح بأنه لم يَرِدْ مثالٌ واحدٌ فيها قُدِّمَت فيه مصلحةٌ على نص. (351)
فكل حكم تغير كان إما نصاً بنص ، أو مصلحة بمصلحة راجحةٍ، أو إلحاقُ حكمٍ اجتهاديٍ بأصلٍ مَنصوصٍ عليه. (352)(3/329)
ثم يُقال لهم : هل المقصود من تغيير الحكام بتغير الزمان والأحوال ... أن الحادثة التي تَغَيَّر حُكْمُها هي هي عند تغير حكمها بجميع خصائصها وحيثياتها، أم أنه طرأ عليها اختلافٌ في بعض الخصائص والحيثيات؟
فإن كان الجواب بالأول فهو باطلٌ ؛ إذ ذلك نَسْخٌ للحكم، ولا نسخ بعد عصر الرسالة.
وإن كان الجواب بالثاني فمقبولٌ ؛ إذ أنهما حادثتان لا حادثة واحدة، وكل حادثة لها حكمها المستَقِلُّ عن حكم الأخرى، ومثال ذلك حكم المُؤَلَّفة قلوبُهم، وهم نَفَرٌ من الناس لم يستقِرّ الإيمان في قلوبهم ، جعلت لهم الشريعة حقًا في مال الصدقة، يتألفهم به الإمام ، للثبات على الإسلام، فيُسْلِم مَن وَرائِهم ويَسْلَم المسلمون من شرهم ، وهذا المعني لا يُخْشَى إلا في حالة ضعف الإسلام، وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم.
فالنص يوجب إعطاء المؤلفة قلوبهم لهذا المعنى.
وفي حالة تطبيق النص يجد الإمام أمامه حالتين:
الأولى : حالة ضعف الإسلام ، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية : حالة قوة الإسلام ، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم. فيطبق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم ، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم ، لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا هو تحقيق المناط (353) .
وعند تحليل كلام الدكتور القرضاوي- المتقدم- نجد إشادة بما أشار إليه ابن القيم من تغير الفتوى...، ووصف ذلك بالمنار الذي يهتدي به السائرون، وينوه به المصلحون والمجددون... دون توضيح لمقصد ابن القيم من التغيير، وبيان محل التغيير وحدوده وكيفيته ، وهل يشمل الأحكام المنصوص عليها أم لا يكون إلا فيما لم يُنَصُّ عليه؟ كل ذلك لم يذْكُرْه، وإنما ذكر أهمية القول بمثل هذه القاعدة التي تفتح الطريق ، وتنير السبيل!!
وعندما استشهد بكلام القرافي المنقول من كتابه « الإحكام » لاحظ تقييد القرافي بأن التغيير إنما يكون في الأحكام التي مَدْرَكُها العوائد والأعراف ، لا النصوص المُحْكَمَات . في حين يفهم من كلام القرافي إخراج كل الأحكام التي مدركها النصوص قاطعة كانت أو مظنونة.
وقد تكون هذه الملاحظة تنبيهًا من القرضاوي على ضرورة إخراج النصوص المحكمات عن قاعدة التغيير والتبديل ، إلا أن إيراده لنصٍ آخر لم يرد فيه هذا القيد، بعد الملاحظة مباشرة، يُوهِم أنه يتبَنَّاه ، خاصةً بعد أن أورد القانون الواجب على أهل الفقه مراعاته، وهو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان لتتغير الأحكام عند ذلك، نزولاً على حكم الضرورة واستجابةً لنداءِ الواقع ، وتطبيقاً لرُوح ِالشريعة.
ونحن نعرف أحكام الضرورات، أما الاستجابة لنداء الواقع، وتطبيق روح الشريعة فما إِِِخَالُ مُنْصِفاً يُخالِفُنِي في ضرورةِ تحديدِ المقصودِ بالاستجابة، وتفسير نداء الواقع، وضبط الواقع ذاته، وقِسْ على هذا القول بتطبيق روح الشريعة.
أما قولُ الدكتور عبد المجيد النجار بالموازنة بين احتمالات الدليل (الظني الدلالة) ليُطَبَّق من الاحتمالات ما يحقق المصلحة في ظرفٍ واقعيٍ معينٍ..
فهو قول المحققين وأئمة السلف . والمهم أن تكون المصلحة المرعية منضبطةً بضوابط الشرع- كما تقدمت الإشارةُ إليها أكثر من مرة- فتحقق المصلحة الشرعية المنضبطة بضوابط الشرع ترجيحٌ لذلك الاحتمال على غيره من الاحتمالات.
وأخيراً فإن القاعدة المشهورة «لا يُنكر تغَيُّر الأحكامِ بتَغَيُّر الزمان» ليست قاعدةٌ مُسْتَمَدَةً من أقوال السلف، فهي قاعدةٌ قرَّرَتْهَا مَجَلَّة الأحكام العدلية، (354) وقد وضعها الفقهاء للأحكام التي لا تستند مباشرةً على نص شرعي، بل مصدرها عُرْفٌ أو مصلحةٌ سَكَتََتْ عنها النصوص.
يقول الشيخ مصطفي الزرقا : « مِن المُقَرَّرِ في فِقْه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيراً كبيراً في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية وعلى هذا الأساس أُسِّسَتْ القاعدةُ الفقهية القائلةُ «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان» وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية ، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذكر ، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال » . (355)
وإن كنا نتفق مع الشيخ مصطفي الزرقا في كون القاعدة إنما تتناول الحكام الاجتهادية ، فإننا نختلف معه في مفهوم التبديل والتغيير، فقد أوردنا سابقاً أن التغيير في الحكم لا يمكن أن يقع على صورة واحدة لم تتغير، أما إذا تغيرت الصورة فمن الطبيعي تغير حكمها، إذ أصبح لدينا صورة جديدة تأخذ حكماً آخر.(3/330)
ونحن نعلم أن المصالح التي لم ينص عليها الشارع ، وكذلك الأعراف والعادات التي لم ينشئها الشارع، كل ذلك يمكن أن يتغير من المصلحة إلى المفسدة، فيأخذ حكماً غير حكمه الأول، لأن الصورة الجديدة ليست تلك الصورة الأولي فتأخذ كل صورة حكمها المناسب لها.
فلماذا الإصرار على أن الحكم قد تغير ، بدلاً من القول أن هناك صورة جديدة تتطلب حكماً جديداً؟
وقد يرى البعض أن الخلاف لفظيٌّ. وهو ليس كذلك . إذ القول بثبوت أحكامٍ شرعيةٍ لكل صورةٍ جديدةٍ دليلٌ على شمول الشريعة واستيعابها لكل المستجدات.
أما القول بتغير الأحكام- مع أنه عند التحقيق ليس تغييراً- فإنه يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع، والجرأة على تبديل وتأويل ما تقرر من أحكام ، وتَنْصِيب الواقع- بأعرافه وعاداته ومصالحه- حاكماً على شرع الله.
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 605-613).
الشبهة(13) : قولهم : السُّنَّة منها ما هو عملي ومنها ما هو قولي
قال الدكتور هزاع الحوالي :( أشَرْنا في مَبحثٍ سابقٍ إلى أن السُّنَّة منها ما هو عملي , ومنها ما هو قولي. وتَحَدَّثْنا عن أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لَدَى جُمهورِ الأصوليين، (356) مع توضيح ما يتعلق به منها تشريع وغيره.
وقد ذهب بعض الأصوليين إلى تقسيم السُنَّة من جهة وجوب العمل بها ، إلى قسمين:
الأول : ما يجب العمل بِمَدلوله مُطْلَقاً ، وهذا أغلبُ سنته صلى الله عليه وسلم .
الثاني : ما يُلْتَزَم فيه بِخُطته ومبدئه صلى الله عليه وسلم في تَحَرِّي حُكم الله فيما لا شاهد قطعاً فيه، وذلك بتحري الوسائل والأسباب الحكيمة. (357) وهو قولٌ مستندٌ إلى ما أورده القُرافيُّ من التفريق بين مَنْصِبَي الإمامة والفتوى، بقوله إن للإمام أن يقضي وأن يفتي- كما تقدم – وله أن يفعل ما ليس بفُتْيا ولا قضاء كجمع الجيوش وإنشاء الحروب وحَوْز الأموال وصرفها في مصارفها ، وتولية الولاة، وقتل الطغاة؛ وهي أمورٌ كثيرةٌ تختص به، لا يشاركه فيها القاضي، ولا المفتي... وظهر حينئذٍ أن القضاء يَعْتمد الحِجاج، والفُتيا تَعْتمد الأدلة، وأن تَصَرُّف الإمام الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجِحة أو الخاصة في حق الأمة. (358)
ثم وضَّح ذلك بم أورده في مسائلَ لاحقة إذ يقول: «إنَّ تَصَرُّفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالفُتيا هو إخْبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُه في الأدلة من حُكْم الله تبارك وتعالى ، كما قلناه في غيره من المفتين. وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ هو مُقْتَضى الرسالة. والرسالة هي أمرُ الله تعالي له بذلك التبليغ. فهو صلى الله عليه وسلم ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى، فهو في هذا المقام مُبَلِّغٌ وناقِلٌ عن الله تعالى... فلا يَلْزَم من الفُتيا الرِّواية، ولا من الرواية الفُتيا، من حيث هما روايةً وفُتْيا.
وأما تصرُّفُه صلى الله عليه وسلم بالحُكْم فهو مُغايرٌ للرسالة والفُتيا؛ لأنّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ مَحْضً واتِّباعٌ صِرْفٌ، والحُكم إنشاءٌ وإلزامٌ من قِبَلِه صلى الله عليه وسلم بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجاج...
فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام مُنْشئ، وفي الفُتيا والرسالة متَّبع مبلِّغ وهو في الحكم أيضاً متَّبِعٌ لأمر الله تعالي له بأن يُنْشئ الأحكامَ على وِفْق الحِجاج والأسباب ، لا أنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى ، لأنّ ما فُوِّض إليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى...
وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصفٌ زائدٌ على النُّبوة والرسالة والفثتيا والقضاء، لأنّ الإمام هو الذي فُوِّضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح ، ودرء المفاسد، وقَمْع الجُناة... وهذا ليس داخلاَّ في مفهوم الفُتيا ولا الحُكم ولا الرسالة ولا النُّبوة، بالتَّصَدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة... وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلاّ مجردّ التبليغ عن الله تعالي.
وأما آثار هذه الحقائق في الشريعة فمختلفة :
فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش... فلا يجوز لأحدٍ الإقدام عليه إلاّ بإذن إمام الوقت ِالحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة ، وما اسْتُبيِح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقررً لقوله تعالى: { واتَّبِعوهُ لَعَلَّكُم تَهْتَدُون } (359) .
وما فعله صلى الله عليه وسلم بطريق الحُكم كالتمليك بالشُّفَعة وفُسوخ الأنْكِحة والعقود... فلا يجوز لأحد أن يُقْدَم عليه إلاّ بِحُكم الحاكم في الوقت الحاضر اقتداءَّ به صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام لم يقرر تلك الأمور إلاّ بالحكم، فتكون أمته بعده صلى الله عليه وسلم كذلك.(3/331)
وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلْزَمُنا أن نَّتَّبِع كلَّ حكم ممّا بلَّغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام » (360) .
والقُرافيُّ من خِلال استعراض كلامِه في هذا المجال يتَّضِح مقصودُه من التفريق بين ما كان حقاً للإمام أو الحاكم فلا يُقْدم عليه إلاّ بإذنه، وما كان غير ذلك ممّا يجب الالتزام به من كل فردٍ من غير اعتبار لحكم حاكمٍ أو إذن إمام. ويؤكد ذلك أيضاً ما أورده من مسائل اختلف فيها الفقهاء حول تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم أَهُوَ من باب التصرف بالأمامة فلابد فيها من إذن الحاكم، أم هو من باب التصرف بالفُتيا فيكون حقاً لكل أحد. ولم يُرِد أنّ تلك المسائل مُخْتَلَفٌ فيها من جهة شرعيتها وعدم الشرعية فيها. ويؤكد ذلك أيضا . ما أشار إليه القرافي في مسائل اجتهاد الحاكم قبل هذه المسألة وضرورة استناده للأدلة الشرعية، وجواز نقضه إذا خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي (361) .
فكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من السُّنَّة بِوَصْفِه رسولاً ومبلِّغا أو حاكمًا وإماماً فحُكمُه الاتِّباع والقَبول, إلا أن الاقتداء به فيه على نوعين كما تقدم: عام وخاص ، فالعام ما لم يتوقف فيه على حكم الحاكم أو إذن الإمام وهو كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من جهة كونه مُبَلِّغًا، والخاص هو ما كان حكماً وقضاءً. فالاقتداء به فيه متقرر أيضًا، لكنه واجب ٌفي حق الولاة فقط باعتبار أن ذلك الفعل صدر منه صلى الله عليه وسلم بصفته إمام الأمة ، فهو الذي يقضي بينهم، ويقسم الحقوق والعطايا، ويُجَيِّش الجيوش، ويُقِيم الحدود. فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم مُتَعَيّن في حق الولاة كلٌ بِحَسَبِ المرتبة، فأمير الغزو يُقْتَدي به فيما يتعلق بأمور الحرب وسياستها الشرعية وأحكامها. وليس لكل أحد مباشرة قسمة الغنائم- مثلاً- بنفسه...
والقضاة يَقتدون به فيما كان خاصًا بالقضاء وليس لكل أحدٍ مباشرة الأمر بنفسه وإنما الأمر متعلِقٌ بالقاضي أو الحاكم (362) .
فهل فُهِمَ من كلام القرفي عدم الاقتداء، أم أن المفهوم هو الاقتداء وإن كان على طائفة مخصوصة في مجال مخصوص؟
نقل بعض العقلانيين النص الوارد عن القرافي وفسَّره تفسيراً يتفق وما يريده، فقد ذهب محمد عِماره إلى أن السُّنَّة باعتبار التشريع تنقسم إلى سُنَّة العادة، وسُنَّة العبادة ، مُعَرِّفاً الأولى بأنها ما لا إلزام فيها، والثانية بما لا يتغير حكمها (363) .
ثم يَزيد في توضيح الأمر بأن سُنَّة العادة تشمل كل ما خرج عن دائرة العقائد (الغيبيات) أو العبادات؛ إذ الغيبيات والعبادات- عند عِماره- لا تغيير لحكمها بالاجتهاد، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية (364) .
أما سُنَّة العادة وهي المُتعَلِّقة بفروع المتغيرات الدنيوية فهي مجرد اجتهادٍ نَبويٍّ مُؤَسَّسٌ على العلة. فهذه لا إلزام فيها كما تقدم، بل المُعَوَّل عليه هنا هو المصلحة المستجَدَََّة.
يقول محمد عمارة: « وفي ضَوْء هذه الحقيقة من حقائق المنهج الإسلامي عن العلاقة – علاقة المُزاملَة بين النص وبين الاجتهاد- مَيَّز المحدِّثون والأصوليون في نُصوص السُّنة النبوية بين سُنَّة العادة- وهي التي لا إلزام فيها- وسُنَّة العبادة التي لا تغيير لحكمها- بالاجتهاد- إذا تعلَّقت بالغيبيات التي لا يَسْتقِل العقل بإدراكها، أو بالعبادات ومن ثَمَّ لا يجوز الاجتهاد في تغيير حكمها، وكذلك إذا هي تعلقت بالثوابت الدنيوية، لانتفاء دوران وتغيُّر عللها...ميزوا بينها وبين السنة التي تتعلق بالفروع من المتغيرات الدنيوية، والتي هي اجتهاد نبوي، فهذه تدور أحكامها مع عللها وجوداً وعدماً... فيجوز معها وفيها الاجتهاد الجديد تبعا لما يُسْتَجَدُّ من مصالح» (365) . ثم أورد ما نقلناه من نصٍ متقدمٍ عن القرافي، واستنتج منه ما يلي :
أولاً : أن السُّنَّة تنقسم إلى قسمين:
(أحدهما) : سُنَّةٌ تشريعية (أي من الشرع) وهي شاملة للوضع الإلهي في السُّنَّة الخارج عن إطار اجتهاد الرسول. وحكمها الدوام وعدم الاجتهاد فيها.
(الثاني) : سُنَّةٌ غير تشريعية وهي المتعلقة باجتهادات الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية سواء اكان في السياسة أوفى الحرب أو في المال، وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية، أو بقضائه في المنازعات الذي هو اجتهاد مُؤَسَّسٌ على حُجَج أطراف النزاع، وليس وحْياً معصومًا... وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام (366) .
ثانيا : أن تَوَقُّف السُّنة غير التشريعية على حكم الحاكم أو إذن الإمام يعني استئناف الاجتهاد فيها من جديد بواسطة القضاء المعاصر، وإمام الوقت الحاضر لِتَبَيُّنِ مَدَى توافُرِ شروط إِعْمال أحكامها، وموافقة الحال وتحقيق المصلحة (367) .(3/332)
وفي مناقشة محمد عماره نبدأ ببيان ما ذكره عماره في موضع آخر من حصر السُّنَّة التشريعية في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن فقط فهو يقول: «فنحن مطالبون، حتى نكون متبِعين للرسول، بالتزام سنته التشريعية- أي تفسير القرآن- لأنها دِين» (368) فالسُّنة التشريعية التي كانت في النص السابق ما خرج عن اجتهاد الرسول، أصبحت هنا ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم!! أما الأحكام الواردة في السنة ابتداءً فليست من السُّنة التشريعية- عند عِماره- سواءَ تعلَّقت بالعبادات أم المعاملات. وطالما كانت كذلك فالاقتداء بها غير مُلْزِمٌ. يقول محمد عماره: «أما سُنَّتُه غير التشريعية ومنها (469) تصرفاتُه في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء، ومثلها ما شابهها من أمور الدنيا ، فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزامنا بالمعيار الذي يُحقِّق المصلحة للأمة، فإذا حَكَمْنا كساسةٍ بما يحقق مصلحة الأمة كُنَّا مُقْتَدين بالرسول، حتى ولو خالفت نُظُمُنا وقوانينُنا ما رُوِيَ عنه في السياسة من أحاديث لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة» (370) .
إذن نحن هنا أمام مساحة كبيرة نتحرك فيها بعقولنا وبما نراه من مصالح فقط، سواء اتفقت هذه المصالح مع أحكام الشريعة أم خالفتها، وسواء أكانت مصالح حقيقية كلية أم جزئية مُتَوَهَّمَة. فالمهم هو إضفاءُ الشرعية على كل النظم والقوانين – وإن صادمت النصوص- طالما كانت هذه النظم وتلك القوانين متعلقة بميدان السُّنة غير التشريعية ، وما أوسعه من ميدان عند عماره وأصحابه!!
« وهكذا يصبح- بناء ًعلى فَهم الدكتور- لزامًا علينا عدم الالتفات إلى كافة النصوص الواردة في السياسة والحرب، كأحكام الجماعة، والإمامة، والبيعة، والسمع والطاعة، وأحكام المحاربين والبُغاة، وأحكام المرتدين، وأحكام اليهود والنصارى والمشركين، وعامة أحكام دار الحرب، ودار الإسلام، وأحكام السِّلْم من المعاهدات وضوابطها، وكذلك أحكام الاجتماع، وحفظ نُظُم الدولة، وحدود الله، وفيها أحكام الحدود والتعزيرات ونحوها وشروطها، وأحكام الأسرة في النكاح والطلاق والعدة والرضاع والنفقة وغير ذلك، وأحكام القضاء والشهادة واليمين ونحوها، وكذلك أحكام النظام المالي وأحكام النظام واحكام البيوع... طالما أن المقصود هو أن نعمل بما نرى نحن أنه المصلحة لا ما تراه النصوص » (371) .
صحيحٌ أن هناك من السُّنة النبوية ما يتعلق به الاقتداء والإتباع وهو غالب سنته صلى الله عليه وسلم ، ومنه ما لا يتعلق به اقتداءٌ أو إتباع كما تقدم في الحديث عن بعض أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أشار إليه بعض المحققين مما ليس هو من باب تبليغ الرسالة، بل مرده لرأيه صلى الله عليه وسلم في أمور دنيوية مُسْتندُها التجرِبة كتأبير النخل وطلبه يوم بدر النزول في مكان ظَنَّه صالحًا للحرب، وما فعله صلى الله عليه وسلم بحكم الجِبِلَّة والطبيعة، أو كان خاصًا به صلى الله عليه وسلم ... فهذا لا يَلْزَمُ مِنْه الإتباع ولا يتعلق به تشريع، وهو القليل النادر في سنته صلى الله عليه وسلم.
وأما ما كان من باب تبليغ الرسالة فلا جدال في وجوب الاقتداء به فيه. وغير صحيح أن كل ما يتعلق بالمتغيرات الدنيوية هو من باب سُنَّة العادة وبالتالي تندرج تحت السُّنة غير التشريعية ، فهي دعوى تفتقر إلى الدليل، بل الدليل يصادمها، إذ أن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً شملت ميادين كثيرة- أشار إليها محمد عماره أيضاً- كالحروب والأموال والحدود والمنازعات والطلاق والنكاح والعقود... فهل تخلو هذه الميادين عن حكم الشرع!!
إن كثيراً من الميادين المتقدم ذكرها مَنْصُوصٌ على حُكْمه في القرآن والسُّنة، وإنما أدخلها القرافي تحت تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضي كونه حاكمًا أو إماماً ليؤكد على أن من يتولاها هو الحاكم أو الإمام لا عامة الخلق، لا ليثبت القرافي عدم الإلزام في أحكامها كما حاول عماره تفسير ذلك.
ومحاولات عمارة متعددة في تأويل النص حسب الاتجاه، فعندما أورد قول القرافي «فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بأذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه» قال مُعَلِّقًا ومُؤَوِلا ً«إن ما أُخِذَ عن اجتهاد الرسول، باعتباره إمام الدولة، وليس عن الرسالة المُبَلَّغة، أو الفُتيا المتعلِّقة بها، فمردُه إلى إمام الوقت الحاضر؛ أي الدولة الإسلامية المعاصرة ، التي تَسْتأنف ما ورد فيه من السُّنة غير التشريعية، تُمْضي منها ما لا يزال مُحَقِّقًا للمقاصد، وتَستبدِل أحكاماً جديدةً لما لا تتوافر شروط إعمال حكمه... كل ذلك باجتهاد جديد» (372).(3/333)
فهو قد بدأ التأويل بالقول إن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره إمام الدولة ليس له علاقة بالرسالة المُبَلَّغَة، وهذا افتئاتٌ عليه صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم بوصفه إمامًا كان يُنَفِّذ أحكام الله تعالى الموحَى بها إليه، وما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم من اجتهاداتٍ أقرَّه الله تعالى عليها فهي واجبة الإتباع أيضاً، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما أو حاكمًا أشرْنا إلى وجوب الاقتداء به فيه من الحكام والولاة.
وتصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم إتباع لأمر الله له بأن ينشئ الأحكام على وفْق الحجاج والأسباب كما أشار إلى ذلك القرافي وغيره. وذكره عماره دون تعليقٍ عليه، فإذا كان صلى الله عليه وسلم متبِعاً لأمر الله فإن إتباعه في طريقته في الحكم والإمامة واجب علينا حسب التقسيمات والاختصاصات المشار إليها سابقًا.
وقد أصاب عماره في رد تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إمامًا إلى إمام الوقت الحاضر، لكنه فسَّر ذلك الردَّ باستئناف ما ورد وإعادة النظر فيه، واستبدال الأحكام... كل ذلك باجتهادٍ جديدٍ. إنه لم يذْهبَ كما ذهب غيره إلى وجوب اقتداء الحكام والأئمة به صلى الله عليه وسلم في هذا المجال، بل ذهب إلى تقرير استئناف النظر وتأسيس الحكم على اجتهادٍ جديدٍ.
فلم يكف تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، وإخراج جانب كبير من جوانب الحياة عن مظلة الشريعة بادعائه أنها من السنة غير التشريعية، ولا إلزام في أحكامها- أقول لم يكف ذلك بل هو مُصِرٌّ على إعادة النظر واستنباط الأحكام بمنهجٍ واجتهادٍ جديدين عمادهما المصلحة، والمصلحة فقط، وهي مصلحة تُدْرَك بالعقل ولها المرتبة الأولى في عملية النظر والاجتهاد، حتى وإن صادمت نصاً قطعي الدلالة والثبوت، فالنصوص ليست مراده لذاتها؛ وإنما المراد المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها؛ يقول عماره:«فالنصوص الدينية التي جاءت بها الرسالة لتحقيق مصالح العباد في فروع المتغيرات الدنيوية، ليست – كما تشهد بذلك بداهة الفطرة- ليست مرادهً لِذاتها، وإنما هي مُرادةٌ لعللها وغاياتها ومقاصدها، وهي تحقيق مصالح العباد، فهي- أي أحكامها المُستَنْبَطَة منها- تدور مع هذه العلة الغائية- المصلحة- وجودًا وعَدَمًا ويشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلةٍ تغيرت ، أو بعادةٍ تبدَّلت ، أو بِعُرْفٍ تَطَوَّر، الذي سبق تغير العلة، وتبدل العادة، وتطور العرف، فوجود النص لم يمنع من الاجتهاد الذي يُثْمِر حُكْمًا جديداً » (373) ولا يظن القارئ أن النص المُتَقدِّم الظَّنِّي الدلالة أو الثبوت!! يقول:«ثم- وهذا هام جداً في هذه القضية- إن الاجتهاد مع وجود هذا النص ، قطعي الدلالة والثبوت، المتعلق بالمتغيرات من الفروع الدنيوية ليس معناه الاجتهاد الذي يرفع وجود النص رفعاً دائمًا ومُؤَبَّدًا ، فهو اجتهادٌ لا يتجاوز النص فَيُلْغِيه، وإنما يتجاوز الحكم المستنبَطَ منه، وهذا التجاوز للحكم ليس مَوْقِفَاً دائماً وأبدِياً... فالحكم المُجْمَع عليه، المُؤَسَّسُ إجماعه على نصٍ قطعي الدلالة والثبوت إذا كان متعلقاً بعلة غائبةٍ تَبَدَّلت، أو بعادةٍ تغيرت، أو بعُرُفٍ تطور،- أي إذا لم يَعُد مُحَقِّقا للمَقْصِد منه ، وهو المصلحة- فلابد من الاجتهاد فيه ومعه اجتهاداً يُثمر حكماً جديداً يحقق المقصد- المصلحة- فإذا عادت العلة الأولى، أو العادة القديمة فكانت المصلحة مُتَحَقِّقة بالحكم القديم، عاد الاجتهاد إليه من جديد، كل ذلك والنص قائمٌ نَتْلوه، ونتعبد بتلاوته» (374) هذا هو اجتهاد عمارة إذن، وميدانه قطعي الثبوت والدلالة الذي نقل عدم جواز الاجتهاد فيه، لقطعية ثبوته، وقطعية دلالته (375) . وهما الأمران اللذان لا مجال معهما لاجتهاد إلا لمن أراد تجاوز النص وهو ما يؤدي إليه اجتهاد محمد عماره، ولا عبرة بقوله «فهو اجتهاد لا يتجاوز النص فيلغيه» إذ لا معنى لإلغاء النص سوى إلغاء حكمه المستنبط منه بدلالته القطعية، أما إلغاء النص برفعه- أي بنسخه- فليس ذلك لمحمد عماره الذي يقرر أن اجتهاده الجديد في النص قطعي الثبوت والدلالة قد يُلغِي الحكم أو يُعيدُه- حسْب المصلحة- مع بقاء النص للتعبد والتلاوة مما يؤكد أن اجتهاده لم يتجاوزه ويلغيه، فهو قائمٌ ثابتٌ.
فهو يُطَمْئِنُنا على أنه لن يَنْسخ النصوص أو يغيرها، وإنما سَيُغير أحكامها فقط!! فلماذا الهلع والخوف إذن؟!(3/334)
إنه هلعٌ وخَوفٌ ولَبْسٌ من عَوامِ الفِكر الإسلامي – المقصود أنصار النص- ولا يستند شيئ منه إلى مَنطق أو حُجة يقول: «أما النصوص، قطعية الدلالة والثبوت، والتي تعلقت بأمور هي من الفروع الدنيوية، ومن المتغيرات فيها، والمعللة بعلة غائبة فتلك هي التي يُثير الموقشف منها اللَّبْس الذي نُعالجُه الآن... وفي اعتقادي أن هذا اللَّبْس قائمٌ في نطاق عَوام الفكر الإسلامي وحدهم لأنه- كما سنرى- ليس له منطقٌ أو حجةٌ أو أساس» (376) المنطق هو- إذن- تحكيم العقل وتقديمه على الشرع باعتماد ما يُدْركه العقل وحده من مصالح قد تكون جزئيةً أو مُتَخَيَّلَة، وردُّ النصوص القطعية، أو تأويلها بما يتناسب والواقع المعبِّر عنه بالعادة والعرف.
ولابد من الإشارة إلي مستنده ودليله الذي لم يتجاوز شهادة أهل الاختصاص في الفكر الإسلامي أو بعبارةِ عمارة «أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي» فإن كان مقصده- كما هو المتبادَر- المختصين في فكر عماره العقلاني فهذا هو المُتَوَقَّع منهم ، فأين الدليل إذن؟
وإن كان يُشير إلي علماء الشريعة فقد نقلنا الإجماع- في مباحث سابقةٍ- على أن المصلحة لا يجوز اعتبارها عند مخالفة النص. وسيأتي زيادةُ توضيحٍ لهذا في مبحث المصلحة عند العقلانيين من هذا الباب.
وتكفي الإشارة هنا إلى عدم استقلال العقل بإدراك المصالح، مما يترتب عليه – بالضرورة- عدم اعتبار المصلحة العقلية المصادمة للنص. ومن أدلة ذلك:
أولاً : أن معرفة مقاصد الشرع الكلية المراعية لمصالح العباد، إنما عُرِفَت عن طريق تَتَبُّع الجُزئيات، وهي نصوص الشرع المُتَضَمِّنة للأحكام الشرعية المحققة للمصالح؛ وإذا كانت المصالح معروفةً عن طريق النص فإن إِبْعادَه والاكتفاء بالعقل في تحديد المصلحة هدم للمصلحة ذاتها- باعتبارها مقصداً شرعيا- بهدم الطريق المُوَصِّل إليها.
ثانياً : أن العقل في المسائل الشرعية تابعٌ للنَّقْل، فَعَلَيْه الوُقوف عند حدود النقل؛ إذ أن تَعَدِّيْهِ لها إبْطالٌ للشرع (377) .
ثالثاً : أن التشريع هو حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، وتشريعه عز وجل هديً ونور ومصلحة تتحقق للملتزمين به، المنفذين لأحكامه، فما حسَّنه الشرع فهو حَسَنٌ ومصلحة، وما قَبَّحَهُ فهو قبيحٌ ومَفسدة. ولو كان للعقل أن يحقق الهداية وحده، ويتَّعَرَّف على مصالح الناس وحده ، لما كان إرسال الرسل وإنزال الكتب. صحيحٌ أن العقل يعرف القُبْح والحُسْن في الأشياء ، لكن المؤَكَد أن معرفته لها معرفة ٌإجمالية لا تنفذ إلى التفصيلات المتعلقة بالزمن والمكان والأفراد والجماعات. أما شرع الله العليم الخبير فهو المتضَمِّن للمصلحة الحقيقية الشاملة التي يَقْصُرُ العقل عن الإحاطة بها والتعرف على جميع جوانبها.
وقد أشار إلى ذلك ابن القيم (378) - رحمه الله- بقوله: «بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشرع بتفصيله، أو قُبْحَه، فيدركه العقل جملةً ، ويأتي الشرع بتفصيله، وهذا كما أن العقل يدرك حُسْنَ العدل ، وأما كون هذا الفعل المُعَيَّن عدْلاً أو ظلماً فهذا مما يَعْجَز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد. وكذلك يعجز عن إدراك حُسْنِِ كل فعل وقبحه. فتأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتَبْيِينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك تأتي بتقريره. وما كان حسناً في وقت قبيحاً في وقت ، ولم يَهْتَدِ العقل لوقتش حُسْنِه من وقت قبحه أتَتْ الشرائع بالأمر به في وقت حسنه، وبالنهي عنه في وقت قبحه. وكذلك الفعل يكون مشتملاً على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك. فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة ، وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحةً لشخصً ، مفسدةً لغيره، والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحةٌ له، وفي ضِمْنِه مصلحةٌ عظيمةٌ، لا يهتدي إليها العقل، فلا تُعْلَمُ إلا بالشرع: كالجهاد والقتل في الله. ويكون في الظاهر مصلحة، وفي ضِمْنِه مفسدةً عظيمةً لا يهتدِي إليها العقل، فتجئ الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة » (379) .
وهكذا نتأكد من كون العقل قاصراً عن إدراك المصالح في كل الظروف والأحوال. فإذا تقرَّر هذا يتقرَّرُ قَبْلُه ومَعَهُ وبَعْدَهُ أن نصوص الشريعة وأحكامها هي الطريق الحقيقي الموصِّل للمصلحة الحقيقية.
لا نقول هذا تَغْيِيباً للعقل ودوره، بل تقريرًا لحكم العقل نفسه القاضي بأن مصلحة الخلق كامنةٌ في شرع الله. فكيف يبقى هذا الحكم قائماً مع القول بتجاوز النصوص من أجل مصلحة تَوَهَّمَها العقل ولم يتضمنها النص؟(3/335)
ثم إننا ندرك أن العقل يتكَوَّن في أحضان البيئة، فيتأثر بأنماطها وأفكارها وسلوكياتها مما يجعل أحكامه بعيدةً عن الحياد والموضوعية، فتأتي مصالحه على هذا التصور؛ ولذا فإن العقلانيين كثيراً ما يقيسون المصالح بمقاييس الواقع والظروف وملائمة الأحوال ومسايرة العصر، ويدعون أن هذه مصالح تَعَرَّف عليها العقل وحَكَم بها، ثم يَضَعونها في مواجهة مع النص الذي يتضمن مصلحة حقيقية، ولحرصهم على تغليب جانب الواقع والظروف الراهنة ومسايرة العصر، تراهم يُعْلُون من شأن ما تَوَهَّمُوه من مصالح، مُؤَكِّدين على أنها نتاج النظرة العقلية الموضوعية ، وما دامت كذلك فهي مصلحة عامة لقبول كل العقلاء لها ، وطالما كانت عامة فَلْيَغِب النص الجزئي، ولتكن المصلحة الجديدة هي حكم الشرع ومقصده. وهذا هو الاجتهاد الجديد: إلغاء للنصوص بإلغاء أحكامها، بناء ًعلى عدم توافر الشروط المناسبة لتطبيقها، والبحث عن حكم ما من الأحكام ، والبحث عن حكم ما من الأحكام المتماشية مع العصر وأحواله، المحققة للرغبات، والمُضْفِيَة على كل المُمارسات لباسَ التشريع ، بِدعْوَي أن هذه هي المصلحة، والمصلحة مقصد شرعي عظيم!!
أما قول محمد عماره عن تبدل العادة وتطور العرف وأثر ذلك في إلغاء حكم النص- حتى ما كان قطعي الثبوت والدلالة- أو تأخيره...
فالرد عليه ببيان أن اختلاف العوائد لا يؤثر في الأحكام المنتظمة لها ، أي أن العوائد لا تخرج عن أحكام الشرع، فإذا تعلق حكم شرعي بعادة ما ظل مرتبطا بها على الدوام، فإذا لاحظنا اختلافا في العادة فلا نقول بأنها العادة الأولي قد تغيرت ليتغير حكمها المرتبط بها ، بل نقول بأنها عادة أخري تعود لأصل شرعي آخر يحكم به عليها ، فتظل كل العوائد محكومة بالشرع . وهو ما أشار إليه الشاطبي بقوله: «واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأن الشرع موضوعٌ على أنه دائمٌ أبَديٌ، لو فُرِض بقاءُ الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيد . وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلف رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم به عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التكليفي مُرْتَفِعٌ عن الصَّبِيّ ما كان قَبْل البلوغ ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف . فسقوط التكليف قبل البلوغ، ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب ، وإنما وقع الاختلاف في العوائد، أو في الشواهد » (380).
أما اختلاف الأحكام باختلاف الأحوال والأزمنة فيكفي هنا ما ذكره الدكتور عابد سُفْياني (381) بقوله : «إنَّ تَغَيُّر الأحوال والأزمنة لم تُغْفِله الشريعة بل وضعت له أحكاماً تخصه... فاختلاف الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة، وفترة الضعف جعل الله لكل زمنٍ حكماً يخصه في حال القوة، وكذلك في حالة المجاعة والحاجة، وفي حال الاكتفاء... ولا تَعْنِي مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم للعقل البشري، كَلاَّ فإنها لم تَتْرك ذلك له ، لا في العبادات ولا في المعاملات...
وإِنَّ تَغَيُّر الفَتْوى إذا تغير تحقيق المَناط لكي تَنْتَظِم كلُّ واقعةٍ تحت حُكمِها الشرعي ، لا صِلةَ لَهُ البَتَّةَ بتغير أحكام الشريعة بزعم تغير المصالح بتغير الأزمنة، ومن هنا فإن الفقه الإسلامي يتجدد ولا يَجْمُد ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها الشرعي حسب تحقق منَاطها ، فإن جاء زمنٌ آخر تجددت تلك الواقعة على صورةٍ أخرى وتغير تحقيق مناطها ، وُضِعَت تحت حكمها الخاص بها وهكذا... ولكل واقعةٍ بحسب تحقق مناطها، حكمٌ ثابتٌ يحقق المصلحة في جميع الأزمان » (382) .
وإذا كان محمد عماره يرى أن السُّنة يُؤْخَذُ منها ويُتْرَك وِفْقَ المعيار الذي تبَنَّاه. فإنَّ لمُحَمَّد إقْبال رَأياً آخر أَكْثرَ تَطَرُّفًا:
فهو يُقِرُّ بأنَّ هناك أحاديث تتضمن أحكاماً تشريعية، وأحاديث ليس لها طابعٌ تشريعيٌ. ولم يقف عند القسم الثاني. أما القسم الأول: وهو ما تضمن أحكاماً تشريعية فلم يذهب مذهب «عماره» في عَدِّهِ من السُّنة التشريعية بشرط أن يكون تفسيراً للقرآن الكريم- كما تقدم- بل يرى إقْبالُ عَدَمَ الأخْذِ بالأحاديث مطلقاً في تقنين الأحكام المعاصرة.
وحُجَّتُه أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مُحَاولَته لِبناءِ شريعةٍ عالميةٍ تشمل الشعوب المختلفة، كان لابد له من جعل أُمةٍ مُعَيَّنة نواةً، فَيُعَلِّمَها ويُطَبِّقَ المبادئ التي ينادي بها على حالاتٍ واقعيةٍ، في ضَوءِ العادات المُمَيِّزة للأمة التي هو فيها، وأحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق هي أحكامٌ خاصةٌ بتلك الأمة، إذ ليست مقصودةً بذاتها، وإنما المقصود ما تهدِفُ إليه من مبادئ، فلا مَجال لفَرْضِها على الأجيال المقبلة (383) .(3/336)
إنه الادِّعاء ذاته الذي يَشْغُبُ بِه العقلانيون: استلهام المبادئ العامة والمقاصد الكبرى دون النصوص والأحكام الجزئية!!
إنه لأمْرٌ عجيبٌ أن نَسْتنَتِْج المبادئ والمقاصد من أحكام الشريعة الجزئية ونصوصها التفصيلية، ثم نَأْبَى تطبيقَها في عَصْرِنا الحاضر بشدَعْوَى أنها لم تَعُدْ مُحَقِّقة للمصالح التي حققتها فيما مضي من الأزمان، وأن المصلحة لا تتحقق إلا من خلال ما نَسُنُّه من أحكامٍ، أو نُقَنِّنُه من قوانين!!
لقد غدا الفكر البشري- عند العقلانيين- أشمل وأهدَى وأرْحَمَ وأنْفَع للبشرية من تشريع الخالق العالم الخبير!!
وتطَرُّف إِقْبال ليس قاصراً على رأيه فقط ، بل يتناول جرأته على الزَّعْم بأنَّ أبا حَنِيفَة- رحمه الله- لم يَعْتمد على الأحاديث التشريعية لِمَا يراه من أنها خاصةٌ بالعرب في عصر الرسالة، وعالميةُ الإسلام تَمْنَعُ من اعتمادِ ما فيها من أحكام.
وقد رُمِيَ أبو حنيفة- رحمه الله- بِمُخالفَةِ السُّنَّة ودافَعَ عنه غير قليلٍ من العلماء (384) .
ولم يَقُلْ أحدٌ- قَبْلَ إِقْبال فيما نعلم- بأن عدَمَ احتجاج أبي حنيفة ببعض الأحاديث كان لرأيه بأنها خاصة بعصر النبي صلى الله عليه وسلم .
ويَخْلُص محمد إقبال إلى أن «موقف أبي حنيفة على الجملة من الأحاديث التي تشتمل على أحكام تشريعية بَحْتَةٍ هو في نظري موقف جد سليم. وإذا رأى أصحاب النزعة الحرة في التفكير العصري أنه من الأسلم ألا تُتَّخذ هذه الأحاديث من غير أدني تفريق بينها أساساً للتقنين، فإنهم يكونون بذلك قد نهجوا منهج رجلٍ من أعظم رجال التشريع بين أهل السُّنة » (385) .
وهكذا يتطور النظر العقلاني في سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم :
فبعد أن بدأ الأمر برَدِّ خبرِ الآحاد في مجال العقائد وقبولِه في الفروع بشرط موافقته للقرآن الكريم نجد الشيخ محمد الغزالي يَنْصِبُ مِيزاناً جديداً للاهتداء إلى الصحيح من الأحاديث ، هذا الميزان هو «فِطْرة الشيخ» وهي هنا تعني ذوقه المُنْبَجِسُ من العاطفة والعقل، أو رأيه المستند إلى العقل وضغط الواقع. ومع هذا فليس ما صح بهذا الطريق، أو هذا الميزان، مقبولاً عند الشيخ في بعض القضايا الخطيرة التي لم يذكر تفصيلاً لها، والتي لابد فيها من حديثٍ متواترٍ، أو شبيهٍ بالمتواتر، إذ لا يكفي فيها حديث آحاد حتى مع جلالة راويه!!
ثم نري الدكتور رفيق العجم يُضِيف شَرْطَين آخَرَين لِقَبول الحديث هما: اتفاقه مع رُوح الشريعة، واتفاقه مع مُعْطيات القرآن الكريم. وهما شرطان يقصد بهما رد الأخبار الصحيحة متواترة كانت أم آحاداً. نقول ذلك بعد استعراضنا للتحليل الذي قال به العجم، وأشرنا إليه سابقاً.
ثم أتى محمد عماره لِيُقَسِّمَ السُّنة إلى تشريعية وغير تشريعية جاعلاً القسم الأكبر منها غير تشريعي لتعلقه بالدنيا وأحوالها ومجالاتها، وقَصْرِه للتشريعي على ما تعلق بالعقائد والثوابت من العبادات.
ثم أعلن نظريته المُبْتَكَرة في الاجتهاد القائلة بالاجتهاد في النص قطعي الدلالة والثبوت اجتهاداً يغير حكمه أو يرفعه حيناً دون آخر ، مؤكداً على نجاح النظرية بموافقتها على بقاء النص دون إزالة أو تغيير!! وأظنه يريد منا أن نشكرَه على موافقته على إبقائه على النصوص دون نَسْخٍ لها لِنَتَمَكَّن من التعبُّد بها في صَلواتِنا، كما يقول!!
ثم يأتي محمد إقبال لِيُعْلِنَ في جُرْأَةٍ ما خَشِي الآخرون إعلانه؛ إذ يقول بأن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية غير مُجْدٍ البَتَّة، وتَرْكُها، وعدم جعلها أساساً للقوانين هو الأولى؛ لأنها بتفصيلاتها خاصة بالأمة التي عاصرت الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. وكأنه رأى أن هذه الجُرْأة لم تُحْدٍث الاستجابةَ المرغوبة، أو حتى الهِزَّة الفكرية التي يريدها ، فتَمادَى في تضجرئه ليؤكد أن هذا ليس رأيًا له فحسب ، بل قال به الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- وجعله أساس مذهبه!!
وباطلاعٍ يسيرٍ على أصولِ مذهبِ الإمام أبي حنيفة- رحمه الله- ينكشف هذا الزيف، وتَبْطُل تلك الافتراءات.
وكثيرون أولئك الذين نهجوا هذا النهج ممن يُوصَفُون بالمُفَكرين الإسلاميين وقد تَتَبَّع أقوالهم باحثٌ مُعاصِرٌ وعَقَّب عليها بما يلي: «ونكْتفي بما أوردنا من أمثلةٍ
تدل على هذا المُنْعَطَفِ الخطر في طريق ديننا وعقيدتنا، من أبناء جِلْدَتنا، والناطقين بِلُغَتِنا، وهذا الفريق من الكُتَّاب المسلمين الذين رَكَّزُوا جهودهم على مُخالفة الأئمة الأعلام السابقين، وأعْطَوا أنْفُسهم حق الاجتهاد تفسيراً وتأويلاً ، وقد أعطوا أنفسهم حرية القول وفق أفهامهم فوصلوا إلى الخطأ في القول ، والشطط في الاجتهاد في مذهبهم الذي تمذهبوه. وذلك ليصلوا إلى مرتبة النُّبوغِ الذي من أعظم وأسهل شروطه ضعف الدين. وضعف الدين أضمن للنجاح في مضمار الثقافة العصرية من قوة العلم » (386) .
( المرجع : محاولات التجديد في أصول الفقه ودعواته ، للدكتور هزاع الحوالي ، ص 344-360).(3/337)
الشبهة(14) : ادعاؤهم أن الشريعة مجرد مقاصد
( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟
الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد.
* الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد:
هذا الفهم « التقدمي » للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في «روح» الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟
لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! – ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد...
إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل.
* الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية:
إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض «الإخوة في الوطن والثورة والحرية...»(3/338)
معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل:
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بِِلَيْلَى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاك
* الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة:
إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا.
ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة.
وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .:
إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات.
وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة..
إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!!
يقول الإمام الشاطِبِي: «إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه» (387) .
ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ « الغاية تُبَرِّر الوسيلة» ، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، «ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله – تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط » (388) .(3/339)
وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:«والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه» (389) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع.
ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع:
ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ؟
إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح «ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي» (390) ومِن الأقسام كذلك: «ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها » (391) .
وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على « الكُلِّيات ِالخَمْس »، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات – الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة.
وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة.
* وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل – كما يقول العلماء – في «أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع » (392) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً:
- أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة.
- أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله.
- الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء...
- ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة.
- أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر.(3/340)
- أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء – طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (393) .
كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه..
وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في « الإفتاء » لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون.
وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة.
والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى – الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها «تَعَبُّداً لله»، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه (رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ"..(3/341)
إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (394) . وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي «إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان » (395) .
وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف – تبْعاً لذلك – أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك .
إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها.
لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: «فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به» (396) .
وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: «لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم» وفي روايةٍ أنه قال: «إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة» (397) .
وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى « مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء» يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ).
________________________________________
(342) انظر :«الإحكام» ص231-232
(343) انظر : الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص42
(444) الفروق للقرافي ج1 ص176-177
(445) راجع فيما تقدم : الفتوى بين الانضباط والتسيب للقرضاوي ص90-103
(446) المرجع السابق ص99
(447) انظر :الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص82
(448) أعلام الموقعين لابن القيم 3/48
(449) انظر : في فقه التدين فهما وتنزيلاً 2/76
(450) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص525
(351) انظر :مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد 272
(352) المرجع السابق ص271
(353) انظر :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد سفياني ص449 فما بعدها.
(354) مجلة دونت فيها المعاملات الفقهية في عهد الدولة العثمانية ، بدئ في تأليفها عام 1285ه وتم ترتيبها عام 1293ه انظر فلسفة التشريع في الإسلام لصبحي محمصاني ص94.
(355) انظر : مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد ص262
(356) راجع : «ضوابط المصلحة عند جمهور الأصوليين» الضابط الثالث: عدم معارضة المصلحة للسُّنَّة في هذا البحث.
(357) انظر: «ضوابط المصلحة» للطوفي ص 166.
(358) « الإحكام» للقرافي ص32-41.
(359) الأعراف : 158.
(360) انظر :« الإحكام » للقرافي من ص86 إلى ص96.
(361) انظر :«الإحكام» ص75.
(362) انظر: «أفعال الرسول» للعروسي ص174-175.
(363) انظر:«معالم المنهج الإسلامي» ص114
(364) المرجع السابق ص114
(365) «معالم المنهج الإسلامي» ص114-115
(366) المرجع السابق ص115
(367) المرجع السابق ص119
(368) انظر: «الإسلام وقضايا العصر» ص25(3/342)
(469) يلاحظ أن ما ذكره من أمثلة بعض السنة غير التشريعية عنده لا كلها، فالمسكوت عنه أكثر من المنطوق به.
(370) «الإسلام وقضايا العصر» ص25
(371) «غزو من الداخل» لجمال سلطان ص38
(372) «معالم المنهج الإسلامي» ص118
(373) «معالم المنهج الإسلامي» ص102
(374) «معلم المنهج الإسلامي» ص102
(375) انظر: «الاجتهاد في الشريعة الاسلامية» لمحمد صالح موسى ص22 وكذلك «الاجتهاد في الشريعة الإسلامية» لمحمد فوزي ص17 والاستصلاح للزرقا ص89
(376) المرجع السابق ص102
(377) انظر «الموفقات» المقدمة العاشرة ج1/87
(378) سبقت الإشارة إلى قول ابن القيم في مباحث المقاصد لدى الشاطبي.
(379) «مفتاح دار السعادة» ج2ص117.
(380) «الموفقات» ج2 ص286
(381) أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. له :الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية.
(382) انظر :«الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية» ص540
(383) انظر:«تجديد التفكير الديني في الإسلام»ص197
(384) انظر :« أبو حنيفة» للأستاذ محمد أبو زهرة.
(385) انظر :« تجديد التفكير الديني في الإسلام» ص198-199
(386) الدكتور حمد الجمال في كتابه: «اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر في مصر» ج1 ص294/ 295.
(387) الشاطبي : الاعتصام 1/184
(388) عبد المجيد النجار : العقل والسلوك في البنية الإسلامية ص115
(389) معالم في الطريق ص105
(390) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(391) إمتاع العقول بروضة الأصول : ص107-110
(392) د. وهبة الزُّحيلي : نظرية الضرورة الشرعية : ص67-68 انظر كذلك كتاب : ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للبُوطي.
(393) المصدر السابق: ص69-71
(394) سورة الملك : الآية 14
(395) محمد أبو القاسم حاج حمد : العالمية الإسلامية الثانية ص279
(396) ابن القيم : أعلام الموقعين 3/5 (نقلا عن كتاب العقل والسلوك للنجار).
(397) الشعراني: الميزان 1/30 (نقلا عن كتاب شريعة الإسلام للقرضاوي).
********************
الفهرس العام
أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر ... 1
قضية الحِجاب ... 3
حفظ الإسلام حقوق المرأة ... 5
القرآن لا يشهد بصحته الكتاب المقدس ... 45
أسئلة حول ما ذكر في القرآن والحديث في صحة التوراة والإنجيل الموجود في عهدنا اليوم ... 60
هل الكتاب المقدس هو التوراة و الإنجيل ؟ ... 76
هل القرآن يقرر ألوهية المسيح عليه السلام ؟؟ ... 81
الرد على خلق المسيح من الطين كهيئة الطير ... 86
ما الدليل على أن الدين الإسلامي هو الدين الصحيح وليست المسيحية أو اليهودية؟ ... 99
الدّين هل استنفد أغراضه ؟ ... 101
الإسلام .. والرق ... 117
الاسلام ... والرأسمالية ... 145
الإسلام … والملكية الفردية ... 153
الإسلام … ونظام الطبقات ... 160
الإسلام … والصدقات ... 165
الإسلام …والمرأة ... 168
الإسلام … وَالعقوبات ... 201
الإسلام … والحضارة ... 206
الدين والكبت ... 217
الإسلام …وَحرية الفكر ... 222
الإسلام … والمثالية ... 231
الإسلام … والشيوعية ... 237
كيف السبيل إلى تحقيق الإسلام ؟ ... 245
إبطال إدعاء الغرابة في كلام القرآن الكريم ... 248
افتراءات الغرب على المرأة المسلمة ... 257
كلام القرآن المتناقض ... 271
كيف غير المخترعون المسلمون وجه العالم ... 276
هل انتشر الإسلام بحد السيف ... 282
التسري ... 318
الرق ... 324
قضية الحجاب ... 329
شبهات حول الإسلام - حول المرأة ... 331
رد شبهة المساواة بين الكلب والمرأة ... 337
الرق وملك اليمين وهدي الإسلام في ذلك ... 341
لم يمنع الإسلام الرق ولكنه حث على العتق وجعله عبادة ... 342
تصحيح شبهات حول الإسلام والقرآن ... 343
كتب في الردود على أباطيل وشبهات المناوئين للدين، والواجب لدى الرد عليهم ... 345
ضرب الزوجة بين الحرمة والإباحة ... 347
الخطاب في الشرع موجه إلى الرجال والنساء ... 348
شبهات حول الإسلام ودفعها ... 349
جواب شبهات حول الإسلام ... 353
تعدُّد الزَّوجات في الإسْلام ... 357
الجزية ... 406
ادعاؤهم أن وجود الله كوجود الإنسان .. ... 421
ادعاؤهم أن وجود الله ينافي حرية الإنسان! ... 425
حصر إيمانهم بالمحسوسات فقط . ... 426
ادعاؤهم أنهم أولى من المسلمين بأرض فلسطين . ... 431
زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لنا : ... 442
الشبهة(1) : القول بأزلية المادة وأبديتها .. ... 449
القول بالتطور ... 462
الشبهة(1) : قولهم: إن "الديمقراطية" توافق الإسلام في الجملة. ... 482
الشبهة(1):قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) ! ... 514
الشبهة(1): قولهم : لماذا تلزمونا بفهم السلف ؟ ... 559
الشبهة(3) : تقديمهم المصلحة على النص وشبهات أخرى ... 583
الشبهة(6): قولهم بتغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان ! ... 654
الشبهة(12) : الفتوى والتغير بسبب العصر ... 755(3/343)
الباب الأول- شبهات حول الإسلام (3)
الرد الشافي على رسالة المنصرين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد الصادق الأمين والمبعوث رحمة للعالمين , أما بعد :
لا يزال قول المولى عز وجل في أمهات الحقائق في شأن أهل الكتاب: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }المائدة13- يتثبت ويتأكد , ليعلن للباحث المنصف أن التحريف أصل من أصول أهل الكتاب في إثبات عقائدهم الوثنية وثوابتهم الكفرية .
فكثيرًا ما تراهم محاولين جاهدين إثبات عقائدهم بتحريف وخبث ومكر لا تجده إلا فيهم, فهو سمتهم وطبعهم الذي ورثوه عن آبائهم !
فبعد أن عجزوا عن إثبات صحة عقائدهم من أسفارهم المحرفة نظرًا لأن أسفارهم حجة عليهم لا لهم , وبعد أن جاء القرآن الكريم ليكشف كذبهم وإفكهم وزيفهم وتحريفهم , رأيناهم يحاولون العبث في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لعلهم يغلبون , مصداقًا لقول المولى سبحانه وتعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت26 .
قال شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله : ( فتبين أنهم ( أي النصارى ) يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة , وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد ) ( الجواب الصحيح 1/ 115 ) .
وقال رحمه الله في شأن ما يستدل به النصارى من آيات الذكر الحكيم : ( ان جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها , فهو حجة عليهم لا لهم , وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتاب الله وكلام أنبيائه , كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم , وذلك لعظمة كتب الله المنزلة على أنبياؤه , فإنه جعل ذلك هدى وبيانًا للخلق وشفاء لما في الصدور , فلابد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل , والصدق والكذب , لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم , لا من قبل أنبياء الله تعالى ) ( الجواب الصحيح 2/240 , 241 ) .
فالأمر كما قال الله : {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ }المائدة13 !
ولقد وقفت على إحدى رسائلهم التي كثيرًا ما يستدلون بها ويقومون بإرسالها عبر البريد الإلكتروني ( email ) على شبكة المعلومات الدولية لعوام المسلمين , وذلك بغرض إثبات أصل عقائدهم الأول وهو ( ألوهية المسيح ) من خلال تحريف آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن نبي الله عيسى عليه السلام !
ورأيت بهذه الرسالة من الكذب والتحريف والتزيف ما إن يطلع عليه المنصف منهم إلا وعلم عدم أمانة علماء أهل الكتاب في النقل والبيان , بل هم كذابون محرفون للكلم عن مواضعه !
ولهذا عزمت أن أبين خداع كاتبيها في تلك الرسالة التي سميتها " قال إني عبد الله " .
تأصيل
أولاً : في بيان عقيدة القرآن الكريم تجاه ألوهية المسيح .
- سورة آل عمران : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {80 } ) .
- سورة النساء: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً {171} لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172} ) .(4/1)
- سورة المائدة: ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17}).
- سورة المائدة: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ ِإلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {74} مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75} قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {76} ) .
- سورة التوبة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31 } ) .
- سورة المائدة: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {77 } ) .
- سورة المائدة : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلََهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيَ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } 116 - 117 { ) .(4/2)
- سورة مريم : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً * فَاتّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمََنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لّلْنّاسِ وَرَحْمَةً مّنّا وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىَ جِذْعِ النّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هََذَا وَكُنتُ نَسْياً مّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزّىَ إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيّاً * وَالسّلاَمُ عَلَيّ يَوْمَ وُلِدْتّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للّهِ أَن يَتّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنّ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِن مّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لََكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } 16- 40 { ) .
- سورة الزخرف : ( وَلَمّا جَآءَ عِيسَىَ بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلاُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ السّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } الزخرف 62 – 65 .
- سورة مريم : ( وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمََنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السّمَاوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الأرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرّحْمََنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرّحْمََنِ أَن يَتّخِذَ وَلَداً * إِن كُلّ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرّحْمََنِ عَبْداً * لّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدّهُمْ عَدّاً * وَكُلّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) مريم 88- 95 .
ثانيًا : في بيان أن النصارى لا يوجد عندهم شهادة على لسان المسيح تفيد ألوهيته بل على النقيض من ذلك .
" أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب." ( مرقس 13/32).
" أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً.كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة، لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" (يوحنا 5/30).
" قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئاً من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علّمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه " (يوحنا 8/28).
" الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل.لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
" فسألها ما تريدين؟ قالت: أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك. فأجاب يسوع ... وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعدّ لهم من أبي " (متَّى 20/20-22).(4/3)
" ولكن أسألك من أجل هذه الجماعة، ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني " (يوحنا11/26).
" أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه" (لوقا 7/13).
" فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يوحنا 6/14).
"إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20/17).
"يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من الله بقوات وعجائب" (أعمال 2/22).
" ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد، الذي في السماوات. ولا تدعوا معلمين، لأن معلمكم واحد، المسيح"(متَّى 22/9-10).
" وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟ فقال له: لماذا تدعوني صالحاً، ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (متى 19/17).
" كلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته، وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/2-3).
" إن أول الوصايا هى اسمع يا اسرائيل : الرب إلهنا إله واحد وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هى الوصية الأولى" (مرقس 12 : 28 – 34 ) .
" ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة : من هذا , فقالت الجموع : هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل "( متَّى 21 : 10-11 ) .
" انه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مُرسله " ( يوحنا 14 : 16 ) .
" ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " (يوحنا 8 : 40 ) .
" الله لم يره أحد قط " ( يوحنا 1 : 18 ) .
" أبي أعظم مني " ( يوحنا 14 : 28 ) .
الرسالة وبيان زيفها
فصل : في قولهم ( الولادة العجيبة )
يقول المنصرون في بداية رسالتهم : ( كل إنسان في هذا العالم ولد من أب وأم بشريين. وحتى الأنبياء، ولدوا بطريقة طبيعية.بينما القرآن يخبرنا بأن المسيح لم يولد بطريقة طبيعية كسائر البشر ولم يكن له أب أرضي ) .
إعلم أرشدك الله أنه لما كان من عادة اليهود والنصارى سب الأنبياء وقذفهم بما لم يقذفوا به شرار الناس عندهم , كان حق على الله جل وعلا كتبه على نفسه أن يبرأ سيرتهم من هذا القذف , قال تعالى : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}المجادلة21, فهم صفوة خلق الله وخيرتهم , ولهذا جاء القرآن الكريم بهذا التعظيم والتبجيل لهؤلاء الكواكب النيرة , المعصومة المطهرة , للرد على اليهود والنصارى فيما زعموه في حق أفضل البشر عليهم من الله أفضل الصلوات وأتم التسليمات .
وكان فيما زعمه النصارى في حق المسيح عليه السلام أنهم قالوا في قانون إيمانهم : ( نؤمن بالله الواحد الآب ضابط الكل ، مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، و بالرب الواحد يسوع المسيح الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها ..... ) فظهر أنهم يقولون بولادة المسيح من الله ولادة جنسية لا مجازية ( تعالى عما يقوله المثلثون ) !
ومهما كانت محاولتهم الفاشلة في إثبات أن مفهوم الولادة ولادة مجازية لا جنسية فكتابهم يفضحهم ويكشفهم و يفحمهم !
إذ جاء في إنجيل لوقا – الإصحاح الأول – ما نصه " فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ يَحْدُثُ هَذَا، وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ فَأَجَابَهَا الْمَلاَكُ: الرُّوحُ الْقُدُسُ َيحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ , لِذلِكَ أَيْضا فَالْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ." ( لوقا 1: 34 – 35 ) .
فانظر إلى هذا النص الفاضح الدال على الفعل الجنسي الواضح !
وجاء في نسخة الملك جيمس التي تعتبر المرجع الأم لشتى النسخ المعول عليها عندهم ما نصه ( يوحنا 3 : 16 ) :
16For God so loved the world that he gave his only begotten Son, that whosoever believeth in him should not perish, but have everlasting life.
وفي نسخة الملك جيمس الحديثة ( المنقحة ) لا يزال النص فيها :
16For God so loved the world that He gave His only begotten Son, that whoever believes in Him should not perish but have everlasting life.
فهذا النص من الطوام التي يجهلها العوام , فالنص أعلاه يثبت أن المسيح ولد ولادة جنسية لا مجازية !
ومما زعمه اليهود أيضًا ونالوا به من شخص المسيح عليه السلام هو قولهم في " التلمود " : (يسوع الناصرى موجود في لجات الجحيم بين القار والنار وأمه مريم أتت به (حملت به) من العسكري بندرا سفاحًا ( بالزنا ) والكنائس النصرانية بمثابة قاذورات وأساقفها أشبه بالكلاب النابحة وقتل المسيح من الأمور المأمور بها ومن الواجب دينيًا أن يلعن اليهودى ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني ) .(4/4)
فهذا مما ناله المسيح عليه السلام من اليهود والنصارى , فلما جاء القرآن المنزل على سيد ولد عدنان القائل باللسان : ( أنا أولى الناس بعيسى ) ( أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ) , رفع عنه كذب النصارى , قال تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الأنعام:101), وقال تعالى : ( وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمََنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلََهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ ) ( الآنبياء 26-29) , وقال تعالى : ( أَلاَ إِنّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( الصافات 151 – 152 ) .
ورفع عنه قذف اليهود وتشنيعهم , قال تعالى : ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىَ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً )( النساء 156 ).
وبَيَّن القرآن الكريم مفهوم الولادة في أبسط إسلوب وأوضح بيان , قال تعالى : (قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( آل عمران 47 ) , وقال تعالى : ( إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ) ( آل عمران 59- 60) .
وهكذا كان القرآن الكريم أولى بأنبياء الله جل في علاه من أقوامهم !
فولادة المسيح عليه السلام ضل فيها النصارى شر ضلالة وشنَّع عليها اليهود شر تشنيع فجاء القصص القرآني الإلهي المعجز ليرد على هذه الضلالات وتلك الخرافات التي أحدثها المخربون على مر العصور , فهو ليس ولد الله , وليس إبنًا لله , ولكنه عبد الله ورسوله , خلق بمعجزة باهرة كما خلق الله أدم من تراب ثم قال له كن فيكون , فالله هو القادر الذى لا يحيط قدراته حد , فهو قادر على خلق ألف شخص مثل المسيح عليه السلام بكلمة منه " كن فيكون " !
أما عن قولهم أن كل من هب ودب ولد بالفطرة الجنسية بين الرجل والمرأة إلا المسيح فلقد ولد من أم دون أب وهذا دليل على أولوهيته وبنوته لله , فهو مردود عليهم , فهل الولادة الإعجازية دليل على ألوهية المولود ؟! , لو قلتم نعم أيها النصارى فوجب عليكم الآتي :
1-تأليه أدم عليه السلام فلقد خُلق من دون أب ولا أم .
2-تأليه حواء فلقد خُلقت من أب دون أم .
3-تأليه الكاهن ملكي صادق المذكور عندكم في الرسالة إلى العبرانيين : ( لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم , كاهن الله العلي , الذي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك وباركه , الذي قسم له إبراهيم عُشرًا من كل شيء , المُترجم أولا "ملك البر" ثم أيضًا "ملك ساليم" أي " ملك السلام " بلا أب , بلا أم , بلا نسب , لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة , بل هو مُشبه بإبن الله , هذا يبقىكاهنًا إلى الأبد ) ( الرسالة إلى العبرانيين 7 : 1- 3 ) .
4-تأليه الكبش الذي أنزله الله على إبراهيم ليفدي به ابنه الذبيح , فهذا الكبش لا أم له ولا أب , بل أنزله الله على إبراهيم بمعجزة فريدة , فهو بذلك أفضل من كبشكم, فخروفكم له أم , أما هذا فليس له أب ولا أم ! , وهذا ثابت عندكم في سفر التكوين : ( فناداه ملاك الرب من السماء وقال : " إبراهيم! أبراهيم! " , فقال : " هأنذا " , فقال: " لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا , لأني علمت أنك خائف الله , فلم تمسك ابنك وحيدك عني " , فرفع إبراهيم عينه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنيه , فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه ) ( التكوين 22 : 11- 13 ) , فهذا الخروف أعظم من خروفكم الذي بذل نفسه عنكم على حد زعمكم !
ورأينا استشهاد النصارى على ألوهية المسيح من السنة المطهرة , حين استدلوا زورًا وباطلاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام : " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " ( أخرجه البخاري ومسلم وأحمد ) . فزعموا أن الشيطان ليس له سلطان على المسيح مما يعني أنه الله ذاته , وأن هذه الفضيلة والكرامة لم تكن لأحد من البشر إلا للمسيح عليه السلام !(4/5)
وأقول : بل هذا كذب صريح , لأن الشيطان ليس له سلطان على الأنبياء وعلى عباد الله المخلصين بنص القرآن الكريم حكاية عن الشيطان الرجيم : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }ص82 – 83 , وكما أن الشيطان لم يمس المسيح وأمه جعل الله هذه الكرامة والفضيلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم , فلقد قال عليه الصلاة والسلام : " أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله باسم الله , اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا , ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبدا " ( أخرجه البخاري ومسلم وبقية أصحاب السنن ) .
فصل : في قوله تعالى ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا )
يقول النصارى في رسالتهم : ( فالمسيح ولد من مريم العذراء وبدون علاقة مع رجل لأن الله نفخ من روحه في العذراء البتول فالمسيح هو الإنسان الوحيد الذي ولد من روح الله. والقرآن يشهد على ذلك : "وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" (سورة التحريم 12) ) .
والنصارى في هذا الأمر قد ضلوا وأضلوا , وحسبنا أن ننقل ما قاله القمص المطموس صاحب العقل الملحوس زكريا بطرس في إحدى حلقات برنامجه ( الموكوس ) : أن الله كيان وفيه روح والمسيح هو هذه الروح !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( أما قوله تعالى : ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا ) وقوله في سورة الأنبياء : (وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ } 91 { ) فهذا قد فسره قوله تعالى : ( فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنّيَ أَعُوذُ بِالرّحْمََنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ) ( مريم 17 – 19 ) .
وفي القراءة : (لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً ) ( مريم 19 ) .
فأخبر أنه رسوله وروحه – أي جبريل عليه السلام – وأنه تمثل لها بشرًا , وأنه ذكر أنه رسول الله إليها , فعلم أن روحه مخلوق مملوك له , ليس المراد حياته التي هى صفته سبحانه وتعالى .
وكذلك قوله : (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا ) ( التحريم 12 ) , وهو مثل قوله في آدم عليه السلام (فَإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر 29 ) , وقد شبه المسيح بآدم عليه السلام في قوله : (إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ ) ( آل عمران 59- 60) .
والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال : روحي , فروحه في هذا الباب هى الروح التي هى في البدن , وهى عين قائمة بنفسها , وإن كان من الناس من يعني بها الحياة , والإنسان مؤلف من بدن وروح , وهى عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم .
والرب تعالى منزه عن هذا , وأنه ليس مركبًا من بدن وروح , ولا يجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله : روحي , بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحى والهدى والتأييد , ونحو ذلك ) ( الجواب الصحيح 2 / 116 ) .
فصل : في قوله تعالى ( اللّهُ الصّمَدُ )
قوله تعالى واصفًا ذاته ( الصّمَدُ ) به من الإعجاز ما يُرَدُ به على من جعل الله جل في علاه مركبًا من بدن وروح كالنصارى في فهمهم لآيات القرأن الكريم , فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن سوء فهمهم راجع إلى جهلهم المبين بذات رب العالمين !
فظنوا أن ( مِن رّوحِنَا ) أى من روحه التي في بدنه تعالى الله عما يصفه به الجاهلون !
والذي ساعد في ظهور هذا التجسيم هو ما يوجد في كتابهم في وصف الرب جل في علاه, مثل أن موسى يرى أجزاء الله المؤخرة : " ثم ارفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يرى " ( الخروج 33-23 ) أو أن يعقوب تصارع مع الله وقدر عليه : " فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل اسرائيل لأنك جاهدت مع الله و مع الناس وقدرت " (التكوين 32-23) أو أن الله مثل الإنسان الثمل : " فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط من الخمر " ( مزامير 78- 65 ) أو أن الله ينفث دخانًا من أنفه ويطير في الهواء على ظهر الملائكة : " فارتجت الأرض وارتعشت , أسس السماوات ارتعدت وارتجت لأنه غضب , صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت , جمر اشتعلت منه , طأطأ السماوات ونزل وضباب تحت رجليه , ركب على كروب وطار ورئي على أجنحة الريح " ( صموئيل الثانى 22 : 8 – 11 ) , تعالى الله عما يصفون !
فجاء لفظ ( الصمد ) بمعانيه النيرة لترد على هؤلاء المبطلين !(4/6)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه المعانى والتي منها : المصمت الذى لا جوف له !
وتفسير ( الصمد ) بأنه الذي لا جوف له معروف عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا وعن ابن عباس والحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وقتادة وبمعنى ذلك قال سعيد بن المسيب قال : هو الذي لا حشو له , وكذلك قال ابن مسعود: هو الذي ليست له أحشاء , وكذلك قال الشعبي : هو الذي لا يأكل ولا يشرب , وعن محمد بن كعب القرظي وعكرمة : هو الذي لا يخرج منه شيء , وعن ميسرة قال : هو المصمت . ( مجموع الفتاوى17 / 215) .
وقال الجوهرى : ( المصمد ) لغة في ( المصمت ) وهو الذى لا جوف له . ( مجموع الفتاوى17 / 226) .
قال ابن أبى العز في شرح الطحاوية : ( والله تعالى هو الأحد الصمد ، لا يتجزأ ، سبحانه وتعالى ، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية ، تعالى الله عن ذلك ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }الحجر91 , والجوارح فيها معنى الإكتساب والإنتفاع . وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة . وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى ، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى . فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني ، سالمة من الإحتمالات الفاسدة ، فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً ، لئلا يثبت معنى فاسد ، أو ينفى معنى صحيح . وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل ) ( شرح الطحاوية ص 132 ) .
فكيف يعقل بعد هذا أن نصف الله بأنه مركب من بدن وروح ثم يأتى ضال ويقول أن فلان يمثل روح الله التي في بدنه ؟ !
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في : ( بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية 2/58 ) : ( .... إسمه الصمد ينفى عنه التفرق والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه .... ) , وقال 2/59: ( .... ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد....) .
وبالتالى لا يمكن أن يتفرق بذاته أو يتمزق إلى أقانيم أو يتركب من أقانيم أو من بدن وروح , فانظر إلى تلك العقول المريضة التي شبهت الله بخلقه وهو الذي{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11.
ويقول إبن تيمية رحمه الله في ( بيان تلبيس الجهمية 2/248 ) :
( ... قد أخبر الله تعالى في كتابه أنه الصمد وقد قال عامة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم أن الصمد هو الذي : (لاجوف له) وقالوا أمثال هذه العبارات التي تدل على أن معناه – أي الصمد – أنه لا يتفرق... وهذا يدل على أن صمديته تنافى جواز التفرق والإنحلال عليه...) .
ويقول رحمه الله : ( وأما إسم ( الصمد ) فقد إستعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم فلم يقل( الله صمد ) بل قال ( الله الصمد ) فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه فإنه المستوجب لغايته على الكمال , والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه فإنه يقبل التفرق والتجزئة وهو أيضًا محتاج إلى غيره فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى , وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق ويتقسم وينفصل بعضه من بعض , والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك , بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه كما قال في آخر السورة ( وَلَم يَكُن لَه كُفُوًا أَحَد ) إستعملها هنا في النفي أي ليس شيء من الأشياء كفوًا له في شيء من الأشياء لأنه أحد ) ( مجموع الفتاوى17/238) .
فصل : في قولهم ( كلمة الله )
يقول النصارى في رسالتهم : ( دعي المسيح "كلمة الله" في القرآن :" إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " آل عمران45 , وقال القرآن أيضاً : " إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ " النساء 171 , إن لقب كلمة الله خص به القرآن المسيح وحده ولم يخص به أحداً سواه وينبغي أن تعلم أن المسيح لم يُدعى "كلمة الله" لأنه مخلوق بكلمة الله بل دُعِيَ بذات كلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي..وجميع الأنبياء تكلموا بكلام الله ولم يُقَلْ عن أي نبي أنه كلمة الله ، ويجب أن تعلم أن الكلمة هي إعلان المتكلم، لأنها تترجم أفكار المتكلم وتبين مقاصد المتكلم وتدل على سجايا المتكلم ) .(4/7)
ونقول بحول الله وقوته : أما قولكم : ( دعي المسيح "كلمة الله" في القرآن : { إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }آل عمران45 , وقال القرآن أيضاً : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } النساء 171 ) فهذا ظاهر فيه خبثكم وتحريفكم , فالآية الأولى لا يظهر فيها أن المسيح هو كلمة الله لكن يظهر فيها أنه بكلمة الله كان وهذا واضح في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ) ولكنكم كعادتكم تحاولون أن تنثروا التراب في العيون فتعمى بعض الشيء عن تحريفكم!
وأما استدلالكم بالآية الثانية فباطل لعدة وجوه , منها : أنكم لم تذكروا الآية كاملة وهى قوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ * لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }النساء171 , والآية فيها من الأدلة ما يبين أنكم محرفون كذابون , إذ بدأ الله الآية موجهًا خطابه إليكم , ناهيًا إياكم عن الشرك به والكذب عليه , وعن المغالاة في دينكم , ثم بين أن مغالاتكم في دينكم تظهر على سبيل المثال لا الحصر في معتقدكم أن المسيح إله , فنهاكم عن ذلك وبين حقيقة المسيح حين قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ ) أي أنه بشر رسول من عنده ولا يزيد على ذلك , وأنه (كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) أي خلقه بكلمة القدرة التي ألقاها إلى مريم وهى قوله تعالى : {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}آل عمران47 , وقال تعالى : {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }البقرة117 , ولهذا قال تعالى في سورة مريم : {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }مريم21 , ولهذا لما مدح الله مريم عليها السلام قال عنها : {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}التحريم12-أي بوعده وقدرته جل في علاه والتي منها خلقه لابنها , فالمسيح صار بالكلمة وليس هو الكلمة , وقال تعالى : (وَرُوحٌ مِّنْهُ) وسيأتي بيانها , ثم أعقبها المولى جل وعلا بدعوة التجديد الإيماني لنقضكم أصول الإيمان جملة وتفصيلاً وكفى بعقائدكم دليلاً , فقال تعالى: ( فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) أي كيف يكون له ولد وهو الله الذي ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) .
ولهذا لم تنقلوا الآية كاملة لعلمكم اليقيني أن فيها خزيكم وكشف باطلكم , ثم جاءت تعقيبات رب البرية في كشف الحجج النصرانية , فقال تعالى : {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }النساء172 .
وقال تعالى : {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}آل عمران 79-80 , قال الإمام فخر الدين الرازي في تعقيبه على الآيات : (اعلم أنه تعالى لما بين أن عادة أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أنه من جملة ما حرفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الألهية ) ( التفسير الكبير 2/109 ) .(4/8)
أما قولكم : ( إن لقب كلمة الله خص به القرآن المسيح وحده ولم يخص به أحداً سواه ) فهو كذب واضح , لأن لله كلمات لا حصر لها وقد أقر القرآن الكريم ذلك , فليس المسيح وحده كلمة لله أي من خلقه , قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة37 , وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}البقرة124 , وقال تعالى : {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}الأنعام34 , وقال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }الأعراف158 , وقال تعالى : {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }الكهف109 , وقال تعالى : {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }لقمان27 , وقال تعالى : {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }يونس19, وقال تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }هود119 , وقال تعالى : {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً}الفتح15 , وقال عليه الصلاة والسلام : " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو في سبيل الله " (متفق عليه) . وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع : ( اتقوا الله في النساء فإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) ( أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والدرامي ) .
أما قولكم : ( وينبغي أن تعلم أن المسيح لم يُدعى "كلمة الله" لأنه مخلوق بكلمة الله بل دُعِيَ بذات كلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي ) , فهو من تخريفكم وتجسيدكم للرب جل في علاه , لأن الله تبارك وتعالى كلماته كثيرة كما بينا وكلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته , ولم يقل أغبى أغبياء هذا الكون أن فلان ابن فلان يمثل تجسيدًا لكلمة الله أي نطقه الذاتي الداخلي والعياذ بالله , إنما يُعبد الإله الموصوف بالقدرة وصاحب الكلمات التي بها نرى هذه القدرة وهى أوامره ووعوده , قال معمر عن قتادة : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم) وهو قوله : كن فكان , وكذلك قال قتادة وشاذان بن يحيي : ليس الكلمة صار عيسى , ولكن بالكلمة صار عيسى , وقال الشعبي وأحمد : فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له : كن فكان عيسى " بكن " وليس عيسي هو الكن , و لكن بالكن كان عيسى . (الجواب الصحيح 1/ 157 , 158 , وانظر تفسير ابن كثير 2/293 ) .
قال الحافظ ابن كثير : ( قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }آل عمران45-أي بولد يكون وجوده بكلمة الله أي يقول له كن فيكون ) ( تفسير ابن كثير 2 / 24 ) .
فالمسيح ليس الكلمة ( اللوجوس ) كما يعتقد النصارى ولكن المسيح كان بالكلمة كما كان الخلق بالكلمة التي هى أمر الله ووعده !(4/9)
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مفهوم " الكلمة " في أسلوب ماتع يقنع المكابر المعاند , حيث ذكر شيخ الإسلام في كتابه ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هى " كن " كما جاء في مقدمة سفر التكوين بالعهد القديم ( وقال الله ليكن نور , فكان نور ..... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه ومياه .... وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء ....إلخ ) وفي القرآن الكريم:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82 - وليس المسيح هذه الكلمات بل المسيح خلق بكلمة من هذه الكلمات أي بأمر من هذه الأوامر الربانية " كن فيكون " ( الجواب الصحيح 2 / 103 ) .
أما قولكم : ( وجميع الأنبياء تكلموا بكلام الله ولم يُقَلْ عن أي نبي أنه كلمة الله ويجب أن تعلم أن الكلمة هي إعلان المتكلم ، لأنها تترجم أفكار المتكلم وتبين مقاصد المتكلم وتدل على سجايا المتكلم ) , فنقول : وهل جاء في كتابكم أن المسيح قال عن نفسه أنه : تجسيد لكلمة الله الداخلية الذاتية كما تزعمون أم قال أنه يتكلم بوحي من الله كغيره من الأنبياء ؟!
( ولست أفعل شيئًا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي ) ( يوحنا 8 : 28 ) .
( لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية : ماذا أقول وبماذا أتكلم , وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية . فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم )( يوحنا 12 : 48-50 ) .
فكيف يكون المسيح كلمة الله الذاتية الداخلية الناطقة بعد كل هذا ؟!
أليس هذا أكبر دليل على أنه رسول من الله يتكلم بوحي من الله جل في علاه ؟!
بل إن المسيح أقر ذلك حين قال : ( والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني ) ( يوحنا 14 : 24 ) , أي أنه ليس كلمة الله الذاتية الناطقة , إنما هو يتكلم بوحي من الله كغيره من الأنبياء .
ثم إن هناك العديد من الكلمات للرب في كتابكم المقدس فقد ورد في سفر أرميا [ 33 : 14 ]: (ها أيام تأتي يقول الرب : وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل وإلي بيت يهوذا في تلك الايام ) .
وورد في سفر اشعيا [ 2 : 3] : ( لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن اورشليم كلمة الرب) . وورد في المزمور الخامس بعد المئة الفقرة الثانية والاربعين ما نصه :( لأنه ذكر كلمة قدسه مع ابراهيم عبده ) . وورد في سفر أخبار الايام الاول [ 16 : 15 ] ما نصه: (اذكروا إلي الأبد عهده الكلمة التي أوصى بها إلي ألف جيل الذي قطعه مع ابراهيم). وجاء في سفر الأمثال الإصحاح الثلاثين الفقرة الخامسة : ( كل كلمة من الله نقية ).
فصل في قولهم ( روح الله )
يقول النصارى في رسالتهم : ( دعي المسيح روح الله في القرآن : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171. وكلمة (روح منه) فسَّرها الإمام الرازي بقوله : " أنه روح لله لأنه واهب الحياة للعالم في أديانهم". وفسرها الإمام البيضاوي بقوله : "سُمِّيَ روحاً لأنه كان يحيي الأموات وقلوب البشر "
ومن المهم أن نعرف الفرق بين قول القرآن عن آدم : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ}السجدة9 , وبين قوله عن المسيح : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171. فالقول (نفخ فيه من روحه) يعني أن النفخة لأدم صادرة من الروح . والقول الثاني (روح منه) يعنى أن المسيح هو ذات الروح معطي الحياة ) .
قال الإمام أحمد : ( قالت النصارى روح الله من ذات الله , وكلمة الله من ذات الله , كما يقال : هذه الخرقة من هذا الثوب ) ( الجواب الصحيح 2 / 158 ) .
إن النصارى يؤمنون أن المسيح يمثل روح الله التي في ذات الله وكيانه والعياذ بالله , فهذا هو منهجهم في فهم النصوص , فهم يمثلون ويجسمون الله تعالى عما يصفون ويقولون أنه جسد وروح كسائر مخلوقاته وأن المسيح هو هذه الروح التي محلها البدن , ونسوا ما جاء في نفس القرآن الذي يستدلون به : { لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}الشورى11. بل ونسوا ما جاء في كتابهم : " أيها الرب إله إسرائيل , لا إله مثلك في السماء والأرض " ( أخبار الأيام الثاني 6 : 14 ) , وأيضًا : " ليس مثل الله " (تثنية 34 : 26 ) , " فبمن تشبهون الله ؟ وأي شبه تعادلون به ؟ " ( إشعياء 40 : 18). فكيف بعد كل هذا يوصف الله بالبدن والروح ؟!(4/10)
إن هذا التجسيم والتمثيل والتشبيه درب من دروب الكفر الذي يمتليء به الكتاب المقدس, ولهذا عندما تعرضوا لآيات الذكر الحكيم كقوله تعالى : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171 . جسدوا الوصف كعادتهم فظنوا أن المسيح روح الله التي فى كيان الله والعياذ بالله , وبمعنى أخر فهم ظنوا أن ( من ) في الآية للتبعيض !
ولهذا قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : ( قوله تعالى (وَرُوحٌ مِّنْهُ) كقوله في سورة الجاثية : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الجاثية13 . أي من خلقه ومن عنده وليست ( من ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة , بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى...وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ }الأعراف73 . وفي قوله : {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ }البقرة125 ) ( تفسير ابن كثير 2/294 ).
فالله ليس كمثله شيء حتى نشبهه بالإنسان المركب من كيان وروح , إنما المقصود روح من خلقه جل وعلا , فكل منا بداخله روح من الله أي من خلقه جل في علاه , كما جاء في الحديث النبوي الذي أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ... ) , وهذا عين ما حدث لمريم عليها السلام , فلو طبقنا منهج النصارى في الفهم المادي لأصبح كل واحد منا هو الله وروحه التي في كيانه والعياذ بالله !
وقال الألوسي رحمه الله: ( حكي أن طبيبًا نصرانيًا حاذقًا للرشيد ناظر على بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية : ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) فقرأ الواقدي قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) الجاثية13 . فقال : إذاً يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا ، فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحًا شديدًا ) (روح المعاني 6/25 )
وقولهم أن هناك فارق بين قوله تعالى حكاية عن آدم عليه السلام : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ}السجدة9 , وقوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام : {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ }النساء171 , غلط محض , وأكبر دليل على أنه لا فارق بينهما هو القرآن الكريم ذاته , إذ ساوى في آية صريحة بين خلق آدم عليه السلام وخلق المسيح عليه السلام فقال تعالى : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران59 , وهذا رد قاطع فصل ما هو بالهزل , يبين الحقيقة في أوضح صورة .(4/11)
وأما قولهم : ( وكلمة (روح منه) فسَّرها الإمام الرازي بقوله : " أنه روح لله لأنه واهب الحياة للعالم في أديانهم" ) , فهذا تحريف وطمس للحقائق , فليس في استدلالهم ما يفيد أن المسيح روح الله التي في كيانه – تعالى الله – بل على العكس , حيث أن قول الإمام يفيد أن المسيح عليه السلام كان يرشد الناس إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم بصفته رسول من الله , ولقد بين الإمام أن هذا التعبير قيل في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}الشورى52 , ثم إنهم نقلوا وجهًا واحدًا من وجوه عدة فصلها الإمام الرازي وبين فيها كفرهم وضلالهم , فلقد قال رحمه الله : ( واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية ، والتقدير: يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح ، وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح ، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم ، فلهذا قال للنصارى : {لا تغلوا في دينكم } , وقوله : {ولا تقولوا على الله إلا الحق} يعني لا تصفوا الله بالحلول والإتحاد في بدن الإنسان أو روحه ، ونزهوه عن هذه الأحوال . ولما منهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق ، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده . وأما وقوله : {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} فاعلم أنا فسرنا {الكلمة} في قوله تعالى : {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح} [آل عمران: 45] والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال : {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] . وأما قوله : {وروح منه} ففيه وجوه: الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح ، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح ، والمراد من قوله {منه} التشريف والتفضيل كما يقال : هذه نعمة من الله ، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة. الثاني : أنه كان سببًا لحياة الخلق في أديانهم ، ومن كان كذلك وصف بأنه روح . قال تعالى في صفة القرآن : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى: 52] الثالث: روح منه أي رحمة منه ، قيل في تفسير قوله تعالى : {وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22] أي برحمة منه ، وقال عليه الصلاة والسلام : فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه. الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب ، فإن الروح والريح متقاربان ، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله {منه} يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه ، وهذا كقوله : {فنفخنا فيها من روحنا} . الخامس: قوله {روح} أدخل التنكير في لفظ {روح} وذلك يفيد التعظيم ، فكان المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية ، وقوله {منه} إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم. ثم قال تعالى :{فآمنوا بالله ورسله} أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها ) ( مفاتيح الغيب 10/46 ) .(4/12)
وأما عن قولهم : (وفسرها الإمام البيضاوي بقوله : "سُمِّيَ روحاً لأنه كان يحيي الأموات وقلوب البشر " ) , فهذا أيضًا ليس فيه ظاهر دعواكم أن المسيح روح الله التي في كيانه والعياذ بالله , بل فيه أن المسيح عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله كما قال تعالى : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49 . وكما قال تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110 . وهذا أمر لم يخص الله به المسيح عليه السلام في القرآن , بل كان لجده إبراهيم أيضًا , قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }البقرة260 .
وأما عن إحيائه لقلوب البشر فهذا شأن الأنبياء جميعًا , فهم طب القلوب وهداية الصدور لما فيه مصالح البشر الدينية والدنيوية .
ثم إن كتابكم بين أن روح الله لا تحل في جسد إنسان : " فقال الرب: لا تَثُبتُ رُوحي في الإِنسانِ لِلأَبَد ، لأَنَّه بَشَر " (التكوين6/3 – الترجمة الكاثوليكية ) .
وفي كتابكم أيضًا أناس وصفوا أنهم أرواح الله , ففي سفر التكوين جاء في حق يوسف ما نصه : "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله " (التكوين 41/38) , ومثله قول موسى: " قال له موسى: هل تغار أنت لي ، يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء ، إذا جعل الرب روحه عليهم" (العدد 11/29) ، ويقول كتابكم أيضًا : " يقول الله: ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رؤى ويحلم شيوخكم أحلاماً" (أعمال 2/17)
فصل في قولهم ( الوجيه في الدنيا والآخرة )
يقول المنصرون في رسالتهم : ( الوجيه في الدنيا والآخرة : لقد لقب المسيح بالوجيه في الدنيا والآخرة في سورة آل عمران 45. وقال مفسروا الإسلام بالإجماع: "الوجاهة في الدنيا هي النبوة وفي الآخرة هي الشفاعة " ( البيضاوي 99 ) . رغم أن القرآن يحصر الشفاعة بالله وحده حيث يقول : "ولله الشفاعة جميعاً" سورة الزمر 44 . لكن القرآن في سورة آل عمران 45 يبين أن الشفاعة من امتيازات المسيح.. وهذا يدل أن هذا اللقب الذي منح المسيح هو لقب إلهي ) .(4/13)
بالنسبة لقول الإمام البيضاوي أن الوجاهة في الدنيا هي النبوة وفي الأخرة هي الشفاعة فليس فيه ما يثبت الألوهية لصاحب النبوة , بل إن هذا من كراماته النبوية عليه السلام , وهذه الشفاعة ليست الشفاعة العظمى التي خص الله بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام , إنما هي الشفاعة الصغرى والتي وعدها الله من شاء من خلقه من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء , قال تعالى : {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }مريم87 , وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }طه109 , وقال تعالى : {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }سبأ23 , وقال تعالى : {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }الزخرف86 , وقال تعالى : {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }الأنبياء28 , وقال تعالى : {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }النجم26 , وقال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}البقرة255 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه ) ( أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة ) , وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة , يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه , ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه قال فيشفعان ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( قد أعطى الله كل نبي عطية فكل قد تعجلها وإني أخرت عطيتي شفاعة لأمتي وإن الرجل من أمتي ليشفع للفئام من الناس فيدخلون الجنة وإن الرجل ليشفع للقبيلة وإن الرجل ليشفع للعصبة وإن الرجل ليشفع للثلاثة وللرجلين وللرجل ) ( أخرجه أحمد والترمذي ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( يوضع الصراط بين ظهري جهنم عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومجدوح به ثم ناج ومحتبس به منكوس فيها فإذا فرغ الله عز وجل من القضاء بين العباد يفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدنيا يصلون بصلاتهم ويزكون بزكاتهم ويصومون صيامهم ويحجون حجهم ويغزون غزوهم فيقولون أي ربنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون صلاتنا ويزكون زكاتنا ويصومون صيامنا ويحجون حجنا ويغزون غزونا لا نراهم فيقول اذهبوا إلى النار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه قال فيجدونهم قد أخذتهم النار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه ومنهم من أخذته إلى نصف ساقيه ومنهم من أخذته إلى ركبتيه ومنهم من أزرته ومنهم من أخذته إلى ثدييه ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه فيستخرجونهم منها فيطرحون في ماء الحياة قيل يا رسول الله وما ماء الحياة قال غسل أهل الجنة فينبتون نبات الزرعة وقال مرة فيه كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا فيخرجونهم منها قال ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها ) ( متفق عليه ) .
فالمسيح يتساوى في هذا الأمر مع غيره من الأنبياء , ولو كان أمر الشفاعة خاصًا به عليه السلام فليس هذا دليلاً على ألوهيته , وإلا لكان محمد صلى الله عليه وسلم إلهًا , إذ هو صاحب الشفاعة الكبرى يوم الفزع الأكبر , يوم يتنحى الأنبياء عنها بما فيهم المسيح عليه السلام قائلين : إن الله قد غضب اليوم غضبًا عظيمًا !(4/14)
فلقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة رضى الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا فيقول آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ... نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ابن مريم فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيًا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبًا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتون محمدًا فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى " .
فصل في قولهم ( العلم بالغيب )
يقول المنصرون : ( العلم بالغيب: وهذه صفة لا تتوفر إلا عند الله عز وجل ولكن القرآن نسبها للمسيح حيث قال القرآن بلسان المسيح : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }آل عمران 49 . وهذا يدل على أن المسيح يعرف أسرار الناس . كذلك يورد القرآن أن المسيح كان يعلم المستقبل المجهول ، حيث يورد القرآن نبوة المسيح الكبرى عن آخرته ، وأنه سوف يموت ويبعث عقب موته حياً: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }مريم33 ) .
قال تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }الجن 26-27 , والمتأمل في الآية الكريمة يجد أن الله تبارك وتعالى يُطلع الرسول على بعض الغيب ليُثَبِتَه ويجعل ذلك برهانًا على صدقه فيما يدعيه أمام الناس , وهذا العلم بالغيب ليس علم الغيب الكلي , ولهذا قال الله حكاية عن المسيح عليه السلام : { وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}آل عمران 49, وهذا علم خاص لا يقارن بعلم الله الغيبي الكلي , فماذا يمثل الإخبار بالمأكل والمشرب والملبس أمام الإخبار بميعاد القيامة مثلاً ؟! بل ماذا يمثل أمام علم الله الكلي الغيبي ؟!
وهذا الأمر قد حدث مع كثير من الأنبياء غير المسيح عليه السلام , بل لقد ذكر القرآن الكريم في سورة الكهف أن الخضر عليه السلام كان يعلم الغيب بإذن الله في حين أنه لم يكن حتى بنبي , بل عبد صالح رزقه الله من لدنه علمًا !
وكذلك يوسف عليه السلام عندما أخبر عن غيب رآه فرعون في رؤياه فوقع كما أخبر عليه السلام !(4/15)
وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على العديد من الغيبيات مثل أشراط الساعة والتمكين لدينه وانتصاره على الكفار , وانتصار الروم على الفرس , وتحريف اليهود والنصارى لأسفارهم , وانتشار الإسلام في شتى أنحاء المعمورة وغير ذلك الكثير !
وكل هذا غيب جزئي لإثبات النبوة وصدق الرسالة والرسول ليس إلا , فالذي دعاكم لقول ذلك , هو عدم وجود نص صريح على لسان المسيح عليه السلام يقول فيه أنه إله وأنه مستحق للعبادة .
وإخباره عليه السلام أنه سوف يبعث حيًا في آخر الزمان إنما هو دليل نبوة وليس دليل ألوهية , ولو كان عليه السلام يعلم الغيب الكلي الموجِب للألوهية فكيف عجز عن معرفة ميعاد الساعة عندما سُئل عنها : ( أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب ) (مرقس 13/32) ؟!
فكيف تدعي النصارى بعد ذلك ألوهيته ، فالجهل بالغيب مبطل لها ؟!
وليس ما يجهله المسيح هو موعد القيامة فحسب ، بل كل ما غاب عنه فهو غيب يجهله إلا ما أطلعه الله عليه ، ولذلك نجده عندما أراد إحياء لعاذر يسأله : " فانزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ " (يوحنا 11/33-34).
ولما جاءه رجل يريد منه شفاء ابنه من الجنون : " فسأل أباه كم من الزمان منذ أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه." (مرقس 9/11) .
والمسيح عليه السلام قال عن البيركليت في إنجيل يوحنا : " ويخبركم بأمور آتية " ( يوحنا 16 : 12-13 ) , فلو كان المسيح يعلم الغيب الكلي لما بشر برسول يأتي من بعده يخبر بأمور غيبية آتية ولاستأثر هو بهذا العلم !
وليس المسيح وحده من تنبأ بالمغيبات ، فقد تنبأ قبله يعقوب فقال لأبنائه: "اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام…" (التكوين49/1-27).
ومثله تنبأ صموئيل وإيليا (انظر صموئيل(1)10/2-9، ملوك (1)21/21-24)، وقد تحققت نبوءتهما في (ملوك (2)10/1-17، 9/30-37).
ومثل هذا كثير في أسفاركم (انظر صموئيل (1)19/23-24، ملوك 4/8-18، 8/12-13، يوحنا 11/49-52).
وقد جاء في وصف بلعام بن بعور الكافر الذي قتله موسى عليه السلام بأنه " يعرف معرفة العلي الذي يرى رؤيا القدير" (العدد 24/15-19) وبلعام هذا ليس بنبي , وذكرت الأسفار عدداً من تنبؤاته التي تحققت .
فصل في قولهم ( المسيح بلا خطية )
يقول المنصرون ( عصمة المسيح عن الخطية : يشهد القرآن أن لكل الأنبياء والرسل خطايا معينة ويذكر الأخطاء لبعضهم ما عدا المسيح. فقد كان المسيح بريئاً وطاهراً. نقرأ في القرآن أن المسيح لقب "بالغلام الزكي". وهذا ما جاء على لسان الملاك جبرائيل في حديثه مع مريم العذراء: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً }مريم19. وأجمع المفسرون العلماء مثل الطبري والرازي والزمخشري أن كلمة (زكيًا) تعني صافياً وتقياً وبلا خطية لا توجد آية في القرآن تبين أن المسيح طلب الغفران من الله فقد عاش معصوماً من الخطية وبريئاً من كل الذنوب. كذلك يتكلم القرآن عن المسيح أنه كان مباركاً دائماً حيث يقول القرآن على لسان المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }مريم31. لقد ظل المسيح في كل لحظة من لحظات حياته المبارَك أينما كان ) .
إن القرآن الكريم لم يذكر خطيئة واحدة لأي نبي من أنبياء الله , ولذلك تجد أن المنصرين قد عجزوا عن الإتيان بخطيئة واحدة من القرآن الكريم لأنبياء الله , بل جاء كلامهم مبينًا لعظمة الأنبياء عندنا , وتكريم القرآن الكريم لهم بعد أن لطخوا سيرتهم في أسفارهم , فذكروا أنهم زناة وسكيرون عراة , وكذابون خونة ( وحاشاهم ) !
فجاء القرآن الكريم ليكشف كذبهم على أنبياء الله , ويبين مكانة هؤلاء النجوم اللامعة التي بها نهتدي وبسلوكهم القويم نقتدي .
والقرآن الكريم لا يذكر للمسيح خطيئة كما لا يذكر لإخوته من الأنبياء , لأنهم أشرف الخلق وصفوتهم , وهم في عصمة الله وحفظه . بل أنتم الذين تنسبون إلى المسيح عليه السلام من الخطايا والذنوب ما هو منها بريء .
( يوحنا 7 : 6- 11 ) " فقال لهم يسوع : إن وقتي لم يحضر بعد , وأما وقتكم ففي كل حين حاضر . لا يقدر العالم أن يبغضكم , ولكنه يُبغضني أنا , لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة . اصعدوا أنتم إلى هذا العيد , أنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد , لأن وقتي لم يكمل بعد . قال لهم هذا ومكث في الجليل . ولما كان إخوته قد صعدوا حينئذ صعد هو أيضًا إلى العيد , لا ظاهرًا بل في الخفاء " .
وهكذا نرى أنكم نسبتم الكذب إلى ربكم , فبعد أن أخبر تلاميذه أنه لن يذهب للإحتفال بالعيد , ذهب هو في الخفاء !
كما أنكم نسبتم إليه الكذب عندما أخبر عن أحداث نهاية الزمان وخراب الهيكل وزعم أنه : ( لن يزول هذا الجيل حتى تحدث هذه الأمور كلها ) ( متَّى 24 : 34 ) , هذا وقد مضى جيل التلاميذ وجاء بعده مئات الأجيال ولم يحدث شيء مما أخبر !(4/16)
وعن هذا الكذب يقول " جون فنتون " عميد كلية اللاهوت بإنجلترا وصاحب التفسير الشهير لإنجيل متَّى ص 21 : " أن شيئًا من هذا لم يحدث كما توقعه متَّى " !
ولنقرأ هذا السب والقذف الصادر عن فم ربكم يسوع :
( متَّى 11: 20-21 ) " حِينَئِذٍ ابْتَدَأَ يُوَبِّخُ الْمُدُنَ الَّتِي صُنِعَتْ فِيهَا أَكْثَرُ قُوَّاتِهِ لأَنَّهَا لَمْ تَتُبْ: "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا!" .
( متَّى 16: 23 ، مرقس 8: 33 ) " فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا لِلَّهِ لَكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ" .
( متَّى 23: 31-33 ) " فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ. فَامْلَأُوا أَنْتُمْ مِكْيَالَ آبَائِكُمْ. أَيُّهَا الْحَيَّاتُ أَوْلاَدَ الأَفَاعِي كَيْفَ تَهْرُبُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ جَهَنَّمَ؟ " .
( لوقا 24: 25) " فَقَالَ لَهُمَا: "أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ".
( متَّى 3: 7-8 ) " فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ قَالَ لَهُمْ: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" .
(غلاطية 3 : 13 ) " إِنَّ الْمَسِيحَ حَرَّرَنَا بِالْفِدَاءِ مِنْ (لَعْنَةِ الشَّرِيعَةِ)، إِذْ (صَارَ لَعْنَةً ) عِوَضاً عَنَّا، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ " .
( يوحنا : 2 : 1 – 10 ) " وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ . وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً. 7قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: امْلَأُوا الأَجْرَانَ مَاءً . فَمَلَأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ – لَكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا – دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ : كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ " وكانت هذه أولى معجزات المسيح في الكتاب المقدس " تحويل الماء إلى خمر " ! وعن سلوكه الفظ مع أمه فلا ريب أنه اكتسبه من العشارين والخطاة الذين كانوا في رفقته: " جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ بَنِيهَا "( متَّى 11 : 19 ) .
قال تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام : {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}مريم32 !
فصل في قولهم ( معجزات المسيح )
لقد ظن النصارى أن المسيح عليه السلام صار إلهًا لأنه أحيا الموتى وشفا المرضى , فسألوا المسلمين : من غير الله يحي الموتي ويشفي المرضى ؟ !(4/17)
إن القرآن الذي يستدلون منه ذكر حقيقة هذا الأمر وهو أن المسيح عليه السلام لم يفعل تلك المعجزات من قوته الذاتية , بل الفاعل والمُسبب لها هو الله العلي القدير , قال تعالى : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49 . وقال تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110 .
وكما ذكرنا هذا أمر لم يخص الله به المسيح عليه السلام , بل أجراه الله على يد جدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا . فلماذا المغالطة والزعم الباطل أن المسيح فعل هذه المعجزات بقدرته وسلطانه ؟!
بل إن ما عندكم من نصوص كتابية تُثبت على لسان المسيح أنه لم يكن له من الأمر حيلة إلا ما أعطاه الله إياه لتثبيت ضعفاء الإيمان ولهداية من لا إيمان له , وفي هذا يقول بطرس : "يسوع الناصري رجل قد تبرهن من قبل الله بقوات وعجائب صنعها الله بيده " (أعمال 2 / 22) . وهذا ما أكدته النصوص الإنجيلية ، ونقلته عن المسيح ، فعندما أتى المسيح بما أتى به من المعجزات كان يؤكد أنها من الله عز وجل ، ولم ينسبها إلى نفسه فقال: "أنا بروح الله أخرج الشياطين" (متَّى12/28).
وقال:" كنت بإصبع الله أخرج الشياطين " (لوقا 11/20).
وعندما جاء لإحياء لعازر : "رفع يسوع عينيه إلى فوق، وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي , ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني " (يوحنا 11/41-42).
ولما أراد إطعام الجمع من الأرغفة الخمس أيضاً : "رفع نظره نحو السماء، وبارك وكسر" (متَّى 14/19).
ولما جيء له بالأصم : " رفع نظره نحو السماء وأنَّ، وقال: افثأ.أي انفتح، وللوقت انفتحت أذناه، وانحل رباط لسانه، وتكلم مستقيماً" (مرقس 7/34-35).
وقال: " دُفع إلي (أي من الله) كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متَّى 28/18).
وأيضاً قال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً " (يوحنا 5/30).
ويقول :" الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي" (يوحنا 10/25).
وأما الذين رأوا معجزات المسيح فقد عرفوا أن ما يصنعه إنما هو من المعجزات التي يعطيها الله لأنبيائه، ولم يفهم أحد منهم ألوهية صاحب هذه المعجزات، فعندما شفي الصبي من الروح النجس "بهت الجميع من عظمة الله" (لوقا 9/34).
ولما شفى المرأة المقوسة الظهر : " استقامت (أي المرأة) ومجدت الله" (لوقا 13/13).
ولما أقام المفلوج ورأت الجموع ذلك : " تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا " (متَّى 9/8).
وهو ما قاله عنه الأعمى الذي شفاه : " فقالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له يسوع" (يوحنا 9/ 10-11) .
ولنقرأ قصة إحياء ابن أرملة نائين من الموت : "11 وذَهَبَ بَعدَئِذً إِلى مَدينَةٍ يُقالُ لَها نائين، وتَلاميذُه يَسيرونَ معَه، وجَمعٌ كَثير. 12فلَمَّا اقَتَرَبَ مٍن بابِ المَدينة، إِذا مَيْتٌ مَحْمول، وهو ابنٌ وَحيدٌ لأُمِّه وهي أَرمَلَة. وكانَ يَصحَبُها جَمعٌ كثيرٌ مِنَ المَدينة. 13فلَمَّا رآها الرَّبّ أَخذَتُه الشَّفَقَةُ علَيها، فقالَ لَها: ((لا تَبكي! )) 14ثُمَّ دَنا مِنَ النَّعْش، فلَمَسَه فوقَفَ حامِلوه. فقالَ: ((يا فتى، أقولُ لَكَ: قُمْ! )) 15فجَلَسَ المَيتُ وأَخَذَ يَتَكَلَّم، فسَلَّمَه إِلى أُمِّه. 16فاستَولى الخَوفُ علَيهم جَميعاً فمَجدَّوا الله قائلين:((قامَ فينا نَبِيٌّ عَظيم، وافتَقَدَ اللهُ شَعبَه! )) 17وانَتَشَرَ هذا الكَلامُ في شَأنِه في اليَهودِيَّةِ كُلِّها وفي جَميعِ النَّواحي المُجاوِرَة. " ( لوقا 7 : 11 – 17 ) .
ولما أرادت مرثا أخت لعازر أن يحيي أخيها قالت: " أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه" (يوحنا 11/22).(4/18)
وتحكي الأناجيل ما يؤكد أن هذه المعجزات لم تكن إلا هبة من الله ، وكان المسيح يحذر أن لا يؤتاها في بعض المواطن ، لذلك لما تقدم إلى لعازر الميت خاف أن لا يتمكن من صنع معجزة : " قال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟ فانزعج يسوع أيضاً في نفسه" (يوحنا 11/37-38).
وفي مرات أخر طلب منه الفريسيون آيات : " فتنهد بروحه، وقال لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم: لن يعطى هذا الجيل آية، ثم تركهم ودخل السفينة ومضى" (مرقس 8/11-13).
ولما تكاثرت جموع اليهود عليه تطلب آية لم يعطيهم بل قال: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية " (متَّى12/38-39).
ثم لو كان ما يصدر من المسيح من آيات تدل على ألوهيته لم يأمر بإخفائها ، وهي السبيل الذي يدل الناس على حقيقته؟ فقد قال المسيح للأبرص لما شفاه : " انظر، لا تقل لأحد شيئاً" (مرقس1/44).
ولما شفى الأعميان قال: " انظرا لا يعلم أحد" (متَّى 9/31).
وقال للأعمى الثالث لما شفاه: "لا تدخل القرية، ولا تقل لأحد في القرية" (مرقس8/26).
وتكرر منه ذلك : " فعلم يسوع وانصرف من هناك.وتبعته جموع كثيرة فشفاهم جميعاً. وأوصاهم أن لا يظهروه" (متَّى 12/15-16)، فالمسيح بإخفائه للمعجزات يريد أن لا ينشغل الناس بالمعجزات عن دعوته وجوهرها , ويريد أن يمنع الفتنة من أن تدخل في قلوبهم فيظنون أنه إله !
وفعل العجائب لا يدل على الصدق فضلاً عن النبوة أو الألوهية ، فإن المسيح ذكر بأن كذبة سيفعلون المعجزات ويزعمون أنهم أحباء المسيح وأتباعه , لقد جاء في إنجيل متَّى أن المسيح قال : " ليس كل من يقول لي : يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، وكثيرون سيقولون في ذلك اليوم: يا رب أخرجنا الشياطين باسمك، وصنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط، فاذهبوا عني يا فاعلي الإثم". (متَّى7/21-23).
ومعجزة إحياء الموتى معجزة عظيمة من معجزات المسيح عليه السلام التي أثبتها القرآن الكريم ، وأخبر بأنها من عند الله , وهو ما يتفق أيضاً مع ما جاء في الإنجيل ، فقد قال عيسى عليه السلام للذين شاهدوه وعاصروه : " لست أفعل من ذاتي شيئاً، لكنني أحلم بما أسمع، لأني لست أنفذ إرادتي، بل إرادة الله الذي بعثني " (يوحنا 6/38).
لكن النصارى يصرون على أن إحياء الموتى يدل على ربوبية المسيح وألوهيته، ويتجاهلون نصوصاً كتابية أسندت ذات الفعل لغير المسيح , فلم لا تقول النصارى بألوهيتهم ؟!
فلئن كان المسيح أحيا لعاذر (انظر يوحنا 11/41-44)، فإن إلياس أحيا ابن الأرملة : "وقال أيها الرب الهي أيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأتَ بإماتتك ابنها – وحاشا لله أن يسيء- فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه.فسمع الرب لصوت إيليا، فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش." (انظر ملوك (1) 17/19-24).
واليسع أيضاً أحيا ميتين أحدهما حال حياته، والآخر بعد وفاته، فقد أحيا ابن الإسرائيلية التي جاءته : " دخل اليشع البيت، وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلّى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي، ووضع فمه على فمه، وعينيه على عينيه، ويديه على يديه، وتمدّد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك وصعد وتمدّد عليه، فعطس الصبي سبع مرّات ثم فتح الصبي عينيه" (انظر ملوك (2) 4/32-36).
كما أحيا اليسع بقدرة الله بعد موته ميتاً وضعه أهله على قبر اليسع، فعاد حياً : " فيما كانوا يدفنون رجلا إذا بهم قد رأوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر اليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام اليشع عاش وقام على رجليه" (انظر ملوك(2) 13/21).
وحزقيال النبي أحيا بشراً كثيراً إذ فر قومه وهم ألوف حذر الوباء، فأماتهم الله ثم جاءهم نبيهم، فقال لهم: " فقال لي تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم وقل للروح: هكذا قال السيد الرب، هلم يا روح من الرياح الأربع، وهبّ على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً". (انظر حزقيال 37/9-10).
والعجب من استدلال النصارى بإحياء الموتى لإثبات ألوهية المسيح مع أنهم أثبتوا هذه القدرة للحواريين، والمقصود ما جاء في قصة إحياء بطرس لطابيثا , فقد جاء في أعمال الرسل أن بطرس أحيا طابيثا بعد أن ماتت وغسلها أهلها : " وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثا الذي ترجمته غزالة.... وحدث في تلك الأيام أنها مرضت وماتت.فغسلوها ووضعوها في عليّة. ... فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلّى، ثم التفت إلى الجسد وقال: يا طابيثا قومي.ففتحت عينيها.ولما أبصرت بطرس جلست" ( أعمال 9/36-41).(4/19)
كما يغفل النصارى عن تلك النصوص التي تتحدث عن موت المسيح الذي عجز عن دفع الموت عن نفسه ، كما عجز عن ردها إلى الحياة من جديد ، حتى أعاده الله وأقامه من الأموات زعمًا ، وقد تكاثرت النصوص على إيراد هذه الحقيقة حتى بلغت خمسة عشر نصاً ، منها : " فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ومنها : "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15)، وكذا : "المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله" (أعمال 4/10).
ولئن كان المسيح عليه السلام قد شفى الأبرص (انظر متَّى 8/3) فإن اليسع شفى أبرصاً، وأمرض آخر وذريته من بعده بالبرص : " فأرسل إليه اليشع رسولاً يقول: اذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن فيرجع لحمك إليك وتطهر.....فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد.وخرج من أمامه أبرص كالثلج" (انظر ملوك (2) 5/10-27).
وإن طعم ببركة المسيح خمسمائة من خمسة أرغفة (انظر متَّى 14/19-21)، فقد أطعم الله عز وجل بني إسرائيل - وهم زهاء ستمائة ألف - المن والسلوى أربعين سنة ، وكل ذلك ببركة موسى عليه السلام (انظر الخروج 16/35-36).
ولئن كان المسيح قد حول شجرة التين إلى يابس ( انظر متَّى 21/18-19)، فإن موسى حول العصا اليابسة إلى حية (انظر الخروج 7/9)، وهو أعظم، إذ قد يدخل يبس الشجرة في قانون الطبيعة لكن تحويل العصا إلى حية معجز بكل حال.
وأما الظلمة التي يدعي النصارى حصولها عند صلب المسيح زعمًا فهي ليست – بكل حال- بأكبر من الظلمة التي استمرت على أرض مصر ثلاثة أيام بسبب كفرهم بموسى (انظر الخروج 10/22-23).
وأيضاً فإن يشوع لما حارب الأموريين وكادت ليلة السبت أن تدخل ناجى ربه فقال: "أمام عيون إسرائيل : يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر دوم على وادي أيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب….فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل" (يشوع10/12-13)، وهذا الذي حصل ليشوع لا يقتضي ألوهيته وهو أعظم من غياب الشمس ثلاث ساعات، فإنها قد تغيب بالغيوم، وهو داخل في السنن المعهودة، أما توقف دوران الكرة الأرضية فهو أعظم من ذلك بكثير.
ثم لئن كانت الطبيعة تطيع المسيح فإن ذلك قد حصل مع الأنبياء أيضاً، فإيليا أطاعته النار حتى قال: " إن كنت أنا رجل الله فلتنزل نار من السماء تأكلك أنت والخمسين الذين لك، فنزلت نار الله من السماء وأكلته هو والخمسين الذين له" (ملوك(2)1/9-11).
وكذا أطاع البحر إيليا : " وأخذ إيليا رداءه، ولفه، وضرب الماء فانفلق إلى هنا وهناك فعبر كلاهما (اليشع وإيليا) في اليبس" (ملوك(2)2/7-8)، وقد رأينا كيف أطاعت الشمس والقمر يشوع.
وأما صيام المسيح أربعين يوماً فلا يدل على ألوهيته إذ أنه : "جاع أخيراً" (متى 4/2)، فلئن كان صومه وصبره يدل على ألوهيته فإن جوعه يكذبه ويدل على بشريته ونبوته.
وقد كان مثله لموسى حيث يقول: "أقمت في الجبل أربعين نهاراً وأربعين ليلة لا آكل خبزاً ولا أشرب ماء" (التثنية 9/9).
ومثله حصل مع النبي إيليا حين أكل أكلة ثم "سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهاراً وأربعين ليلة إلى جبل الله" (ملوك (1)19/7-8).
ولئن قال النصارى برفع المسيح للسماء وجلوسه عن يمين الله، فإن مثل ذلك حصل مع إيليا الذي رفع من غير أن يصلب أو أن يصفع أو أن يصاب بسوء (انظر ملوك (2)2/11-12)، ومثله حصل مع اخنوخ (انظر التكوين 5/24)
فصل في ضعف رب النصارى
إن المتأمل في الأناجيل يضرب من العجب كفًا بكف كلما رأى تلك النصوص التي وصفت المسيح بأنه ضعيف هزيل وكلما تذكر دعوى النصارى أن المسيح هو الله القوي المتين . يقول الأستاذ علاء أبو بكر : " الله القوي , المتين , العلي المتعالي , لا يكل ولا يتعب , الصمد , القادر , المقتدر : ( أما عرفت أم لم تسمع ؟ إله هذا الدهر خالق أطراف الأرض لا يكل و لا يعيا ) إشعياء 40 : 28 . ( تزلزلت الجبال من وجه الرب ) قضاة 5 : 5 . ( الرب القدير الجبار الرب الجبار في القتال ! ) مزامير 24 : 8 . ( هوذا بزجرتي أنشف البحر . أجعل الأنهار فقرًا . ينتن سمكها من عدم الماء ويموت بالعطش . ألبس السماوات ظلامًا وأجعل المسح غطاءها)إشعياء 50 : 2-3 . ( أما الرب الإله فحق , هو إله حي وملك أبدي . من سخطه ترتعد الأرض و لا تطيق الأمم غضبه ) إرميا 10 : 10 . وهذا لا ينطبق على يسوع : وأسره الشيطان لمدة أربعين يومًا في البرية , ولم يدعه يأكل أو يشرب حتى أكمل كل تجربه ثم تركه الشيطان إلى حين : ( أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية أربعين يومًا يُجرب من إبليس ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام . ولما تمت جاع أخيرًا ) لوقا 4 : 1-2 .(4/20)
كما كان خائر القوة , يدعوا إلهه أن ينجيه : ( وظهر له ملاك من السماء يقويه ) لوقا 22 : 43 – وعجبًا لإله يقويه خلقه – ونام ليستريح : ( وفيما هم سائرون نام ) لوقا 8 : 23 . وتعب من السفر فاستراح : ( فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر ) يوحنا 4 : 6 .وجاع وأكل: (12وَفِي الْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ) مرقس 11: 12.وكان يهرب من اليهود : ( وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه ) يوحنا 7 : 1 .( فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه . فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانية ... ) يوحنا 11 : 53 – 54 . ( فرفعوا حجارة ليرجموه . أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم هكذا ) يوحنا 8 : 59 . " ( أسماء الله الحسنى ويسوع تطابق أم تنافر ص 13-15 ) .
فصل في قولهم ( صُلب من أجل معاصينا )
يقول المنصرون : ( نحن نعلم أن كل البشر خطاة.. وليس أحد من البشر صالحاً ولا واحد لأن الجميع أخطأوا وفسدوا وزاغوا عن طريق الحق (الإنجيل الشريف رسالة رومية 3: 23). إنما الله منح في المسيح رحمة خاصة لكل الناس رحمة لا تدين الخطاة ولا تهلكهم بل تنجي الخطاة من غضب الله ودينونة الله العادلة: "لأن المسيح لم يأت ليدين العالم بل ليخلص به العالم"(الإنجيل الشريف يوحنا 3: 17). إن الإنسان لا يمكنه أن يرضي الله بأعماله الحسنة لأن الله قدوس ويكره الخطية رغم أنه يحب الخاطيء . ولكي يتصالح الإنسان مع الله فهو يحتاج إلى ذبيحة تكفر عن ذنوبه وتغطي عيوبه . والذبح هنا ليس الخروف الصغير بل شخص المسيح . لقد حكمت العدالة الإلهية على الإنسان الخاطيء لأنه كسر شرائع الله. وينبغي على الإنسان الخاطيء أن يدفع أجرة الخطية التي هي الموت. ولكن بسبب محبة الله للإنسان الضعيف أرسل الله شخص المسيح (الذبح العظيم) ليفتدي الإنسان الخاطيء ويدفع قصاص الخطية على الصليب. ويجب أن لا ننسى أن الله محب وعادل. عدالة الله تقتضي عقاب الإنسان الخاطيء ، ومحبة الله تقتضي بأن يغفر للإنسان الأثيم الذي هو عاجز عن خلاص نفسه . إن المسيح الخالي من الذنوب والخطايا دفع أجرة خطايا البشرية جمعاء بموته على الصليب وأصبح موت المسيح هو الحل الوحيد لمشكلة الخطية لأنه بموته الكفاري وفى مطاليب العدالة الإلهية وافتدى الإنسان حيث مات عوضاً عنا ) .
إن الذى دعاكم إلى القول بصلب المسيح , هو ما أقررتم به حين قلتم أن أدم وجميع ولده إلى زمان المسيح عليه السلام كانوا كلهم ثاوين في جهنم بخطيئة أبيهم أدم حتى فداهم المسيح بإهراق دمه عنهم على خشبة الصليب , أخبرونا كيف نفهم هذا ؟ كيف نفهم أن الله تعالى أدخل موسى بن عمران الجحيم وخلده فيها بعد أن كلمه واصطفاه وفضله , وبعثه إلى عباده نبيًا وهاديًا , ولم يكفر بعد ذلك؟!
وكذلك إبراهيم الذي كان قد اتخذه الله خليلاً واصطفاه وفضله بهدايته ؟ وكذلك كل الأنبياء؟ , ولا جرم أنه لو كان ذنب أدم بقى في أعناق أولاده , حتى أنقذوا منه بدم المسيح , لنطقت به التوراة , ولصرح به الأنبياء , لأنه أمر شنيع ومصاب للعالم بشيع , بل إن التوراة قالت : ( لا يُقتل الآباء عن الأولاد ولا يُقتل االأولاد عن الآباء , كل إنسان بخطيئته يُقتل ) ( تثنية 24 : 16 ) .
ولقد كنت أتعجب وأضرب كفًا بكف كلما اطلعت على قول علماء النصارى أن المسيح صُلب وعُوقب من أجل خطايا البشر ! , معاقب ممن؟ من الله , ومن هو الله ؟ إنه المسيح في زعمهم , عجبا له!!
إنه المُنتَقِمُ والمُنتَقَمُ منه , والحقود والمحقود عليه , إنه الظالم يأخذ نفسه بذنب غيره , وهو المظلوم , لأنه صلب بذنب غيره!
ولنا الحق أن نسأل : لماذا قتل الإله الآب الإله الإبن زعمًا ؟ بل بإعتبار أن الواحد ثلاثة واحد والواحد ثلاثة(زعمًا) نقول لماذا قتل الإله نفسه؟!
والجواب من أجل أن تنقطع الآلام ,وهل انقطعت الآلام بعد الصلب المزعوم أم بقيت تتجدد على اختلاف الزمان ؟!
أرأيت لو أن رجلاً له سبعة أولاد , منهم ستة عاصون , مجرمون , عاقون , والسابع منهم مطيع , فأراد هذا الوالد أن يسامح أبناءه المجرمين , وأن يغفر لهم , فأعلن لأولاده : إذا أردتم عفوي ومغفرتي , فاقتلوا أخوكم المطيع أكفر خطايكم ,فماذا تقول عن هذا الأب؟!
ستقول : إنه أب مجنون ولا شك , فماذا اختلف هذا الأب عن أب النصارى !
أي عدل هذا ؟ تقتلني بذنب غيري وتسمي هذا عدلاً ؟ والطامة الكبرى أنهم ينسبون ذلك العدل الذي هو ذروة الظلم إلى الله , فهل هذا مقبول ومعقول عندكم ؟!(4/21)
ونسأل : لو أنك لبثت ثوبًا أبيضًا ,ثم وقعت عليه نقطة حبر , أتزول إذا غسلت ثوبك وكل الأثواب ؟ الإجابة لا بالطبع , فإذا لوثت ثيابك فأنت المسئول عن ذلك ولا ذنب لأحد في ذلك , فقم و اغسل ثيابك وطهر نفسك , أما أن العالم يخطيء ويقتل الله ابنه كفارة عن الخطية التي فعلها عبده ,فهذا ما يضرب الإنسان كفًا بكف لتصوره !
لماذا يقتل الله ابنه الوحيد البريء من أجل ذنوب الأخرين ؟!
أليس الأعقل والأعدل أن يقوم الله الغفور الرحيم بمغفرة ذنب المذنبين ,قائلاً لهم : تطهروا من أخطائكم وتوبوا الى أقبلكم ؟ ألم يكن أوفق لعدل الله ورحمته أن يعفو عن عباده بدلاً من أن يعاقب ابنه الوحيد , قال تعالى : {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً }النساء110 . وأعجب كلما ذُكرت خطيئة أدم عليه السلام لماذا يتحمل أبناء أدم وزر هذه الخطيئة ؟ وما الذي يجعلها دينًا في عنق أبناء أدم جميعًا لا يكفرها إلا الصليب ؟ ولمن ؟!
ياللعجب!!! الله تعالى عما يصفون الذي ارتكب أدم في حقه الخطيئة بدلاً من أن يكفر عنها أدم بنفسه , يكفر الله عنها! , ويحمل وزرها أبناء أدم حتى يؤمنوا بأن الله قد صلب نفسه بعد أن ضرب وشتم وبصق في وجهه وسمرت قدماه ويداه , فداء لمخلوق من مخلوقاته , ما معنى كل هذا ولما كل ذلك؟!
وأعجب ما في الأمر أن بعض المنصرين استدلوا بقصة فداء الله لإسماعيل بالكبش على ثبوت عقيدة الفداء في الإسلام أيضًا , ونسأل : هل كان نزول الكبش تكفيرًا عن خطايا البشر أم مكافأة لإبراهيم عليه السلام لتصديقه الرؤيا ؟! , قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم : {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }الصافات105 , وكان أيضًا مكافأة لإسماعيل عليه السلام لإسلامه نفسه لأمر ربه جل وعلا , ولهذا مدحه الله في كتابه العزيز قائلاً : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً}مريم54, فلقد كان الكبش مكافأة لهما , وذكرى لنا نتدبر بها قول الله جل وعلا:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}الرحمن60 .
فأي رحمة هذه التي تصور الرب بالخروف المذبوح فداء عن مخلوقاته ؟!
لقد قال المسيح عليه السلام قولاً لو فقهه هؤلاء المجانين لما نطقوا بهذا الهذيان , قال المسيح عليه السلام : " فاذهبوا وتعلَّموا ما هو . إني أريد رحمة لا ذبيحة . لأني لم آت لأدعو إبرارًا بل خطاة إلى التوبة " ( متَّى 9 : 13 ) .
فالذي قال في يوم من الأيام عن نفسه : " ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مُرسله " ( يوحنا 14 : 16 ) , لهو بحق النبي الذي قال الله في شأنه : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً {172} ) .
ومن له السمع فليسمع ! .... ومن له العقل فليتدبر !
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,,
المراجع والمصادر :
1- القرآن الكريم .
2- كتب السنة .
3- تفسير القرآن العظيم – الحافظ ابن كثير .
4- روح المعاني – الألوسي .
5- التفسير الكبير ومفاتيح الغيب – الإمام الرازي .
6- أنوار التنزيل وأسرار التأويل – الإمام البيضاوي .
7- الكتاب المقدس – ترجمة الفانديك .
8- الكتاب المقدس – الترجمة الكاثوليكية للرهبنة اليسوعية .
9- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح – شيخ الإسلام ابن تيمية .
10- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية- شيخ الإسلام ابن تيمية .
11- مجموع الفتاوى – شيخ الإسلام ابن تيمية .
12- شرح العقيدة الطحاوية – الإمام إبن أبي العز الحنفي .
13- سلسلة الهدى والنور – د/ منقذ السقار .
14- رد افتراء النصارى بألوهية المسيح في القرآن – د/ جمال محمد سعيد .
15- أسماء الله الحسنى ويسوع تطابق أم تنافر- أستاذ/ علاء أبو بكر .
16- معركة الوجود بين القرآن والتلمود – د/ عبد الستار فتح الله سعيد .
17- الصلب والتثليث في ميزان الإسلام – د/عمر بن عبد العزيز قريشي .
18- المسيح في مصادر العقائد المسيحية – لواء مهندس/ أحمد عبد الوهاب .
19- النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام – لواء مهندس/ أحمد عبد الوهاب .
20- المسيح في الإسلام - الشيخ/ أحمد ديدات .
21- ثم يقولون هذا من عند الله – مهندس/ محمود سعد مهران .
22- موقع التراجم الإنجليزية واليونانية والعبرية للكتاب المقدس على شبكة المعلومات الدولية:
http://www.biblegateway.com/versions/
=================
أين قال النبي أن اليهود والنصارى حرفوا كتبهم؟!
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد(4/22)
سؤال يكرره النصارى كثيراً .. (( أين قال نبيكم أن الكتاب المقدس محرف؟! )) ... (( نتحداكم أن تثبتوا أن رسول الإسلام قال إن الكتاب المقدس محرف!!! ))
وحتى نخرس هذه الألسنة التي تتكلم بما لا تعلم ويكثر نقلهم عن الجهلة أمثال زكريا وعبدالمسيح و ... إلخ إلخ
فجمعت بعض الأحاديث من كلام المصطفى وبعض الآثار عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم في تحريف اليهود والنصارى كتبهم؛
• روى الطبراني في المعجم الكبير:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يَحْيَى بن أَبِي سَمِينَةَ، ح وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عَمْرٍو الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن بَشَّارٍ بندَارٌ، قَالا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن عُمَرَ، حَدَّثَنَا النَّهَّاسُ بن قَهْمٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بن عَوْفٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ مُعَاذَ بن جَبَلٍ، لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ رَأَى الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لأَحْبَارِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، وَرَأَى النَّصَارَى يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سَجَدَ لَهُ، فَقَالَ:"مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟"فَقَالَ: إِنِّي قَدِمْتُ الشَّامَ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لِعُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَرَأَيْتُ النَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقِسِّيسِيهِمْ وَرُهْبَانَهُمْ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: تَحِيَّةَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ:"كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَمَا حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ، لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا".
والحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير 7/20 برقم 7141 والحاكم في المستدرك برقم 7433 وقال « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه » ورواه أحمد برقم 18591
• روى البخاري في صحيحه:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ
برقم 6815 ورواه عن ابن عباس أيضاً بلفظ آخر
2488 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
{ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا }
أَفَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ وَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ
والحديث رواه البخاري برقم 2488 و 6969 ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8/249 وابن أبي حاتم في تفسيره برقم 799
• روى الطبري
1395 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)، الويل: جبل في النار، وهو الذي أنزل في اليهود، لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة. فلذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال:(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
ولكن هذا الحديث لم يصح لجهالة حال اثنين من الرواة في سنده
• قال الضحاك عن ابن عباس: إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.(4/23)
جاء في تفسير البغوي 2/59 في تفسير قوله تعالى { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ }
• حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " " وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " , قال: هُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَابْتَدَعُوا فِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ".
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره برقم 3787
• حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، حتى بلغ:"وهم يعلمون"، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله.
رواه الطبري برقم 7292
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رافع وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف , فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا ؟ قال : بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها ، وكتمتم ما أمرتم أن تبينوه للناس , فأنزل الله تبارك وتعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }المائدة68. ( أسباب النزول للسيوطي والواحدي ص 169 , والحديث لا يخلوا من علة الضعف لوجود محمد بن محمد الأنصاري في سنده وهو مجهول , لكن الحديث له شاهد يقويه ذكره القرطبي في تفسيره عن ابن عباس أيضًا رضي الله عنهما ( 3 / 158-159 ) ) .
و" أحدث الشيء " أي ابتدعه , والبدعة شرعًا : هى ما استحدث في الدين ولم يكن له أصل , وهذه إشارة جلية منه صلى الله عليه وسلم على وقوع التحريف اللفظي والمعنوي في أسفار أهل الكتاب .
أما عن "الجحود" فتعريفه عند أهل اللغة : " هو نكران الشيء حقدًا وبغضًا مع العلم به ". وهذا يتفق تمامًا مع أراء علماء النصارى في أن كتبة الأسفار هم الذين أخطأوا عن قصد ومع ذلك يدعون صحة الكتاب المقدس , فهذا من إعجاز مجامع كلمه صلى الله عليه وسلم .
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا ) الآية) ( أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب"الإعتصام بالكتاب والسنة" برقم (6814) وفي كتاب " التوحيد " برقم (6987) وانفرد به ).
وهكذا نجد الترياق المبين في كلام رب العالمين بتفسير رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم , فعقيدتنا هى أننا نؤمن أن تلك الكتب والأسفار التي عند أهل الكتاب بها صدق خُلط بكذب , وهذا قوله عليه الصلاة والسلام (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) والمحك في هذا الأمر هو القرآن الكريم فهو الحاكم والرقيب والشهيد والأمين على وحي السماء لرسل رب الأرض والسماء .
* أخرج البخاري في كتاب " فضائل القرآن " عن أنس بن مالك رضي الله عنه : ( أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى) ( أخرجه البخاري برقم( 4604 ), والترمذي في " تفسير القرآن " برقم ( 3029 ) ) .
وكان هذا في وجود معظم الصحابة رضوان الله عليهم , مما يعني علمهم اليقيني مما استاقوه من كلام ربهم وفهمهم لسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام بأن اليهود والنصارى قد حرفوا أسفارهم فاختلفوا من بعد ذلك يكفر بعضهم بعضًا .
* ذكر البخاري في مقدمته لكتاب " الإعتصام بالكتاب " في صحيحه قول معاوية رضي الله عنه في حق كعب الأحبار هكذا : ( إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب ) . يعني أن كعب الأحبار كان يخطيء فيما يقوله في بعض الأحيان لأجل أن كتبهم محرفة مبدلة . فنسبة الكذب إليه لذا , لا لكونه كذابًا , فإنه كان عند الصحابة من خيار الأحبار . فقوله : ( وإن كنا مع ذلك... ) يدل صراحة على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلمون أن كتب اليهود والنصارى محرفة
==================
كان رسول الله يصاب بالصرع ؟
كتب السيف البتار
فتراء او شبهة يسعى أعداء الدين من خلالها السعي لتشويه الإسلام بالطعن في الله ورسوله والقرآن المجيد
سنناقشكم بالعقل والمنطق قبل الخوض في تفاصيل الرد على كلام الجهلاء .(4/24)
سيدنا محمد فتى شريف من فتيان قريش وهو الملقب من أهلها بالصادق الأمين والقرآن نزل بأسلوب عربي ، وتحدى العرب وهم أهل فصاحة وبلاغة وبيان وأصحاب تعبير جميل واداء رائع ، ونزل في قريش التي جمعت في لغتها كل لغات القبائل العربية ، وقد خرج منها صناديد محاولين تكذيب سيدنا محمد ورسالته وكفروا بدعوته ، فباللهِ عليكم :
هل سمعنا منهم مَنْ يقول هذا أو ذاك أو طعن في القرآن أو سيرة النبوية الشريفة ؟
فواللهِ لو كان فيهم مطعن ما تركوه .
رجل حاربته البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله، تجادل في عنف، وتشرد في جموح، وتتطاول في قحة، وتتعنت في عناد، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين.
عرضوا عليه المال والجاه والسلطان فرفض وقال :
"والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهِرَه الله أو أهلك دونه"
ذاق من الأذى أشكال وألوان ... فصبر
طردوه من مسكنه ... فصبر
حاربوه بالسلاح ... فصبر
ولكن في النهاية نصره الله
فما هو المكسب الذي جناه إن كان كاذب ؟
فكل هذه الحروب والإهانات لمن أرسله الله لينذر بـ : لا إله إلا الله ؟
ولكن ما وضح لنا أن أهل العصر الجاهلي كانوا أكثر فصاحة وبلاغة وفطنة من أهل الألفية الثالثة وعصر الحاسب الألي والصواريخ عابرة القارات والأقمار الصناعة .
فالحمد لله الحرب قائمة بين معسكر الخير ومعسكر الشر إلى يوم القيامة والله ناصر عباده الصالحين
بسم الله نبدأ بطرح الشبهة والتي تتمثل في 19 صفحة .
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى .
الصفحة الأولى
اقتباس: ... ...
مقدمه
لا نوعية ولا كيفية الوحي ، ولا الموحى إليه في الإسلام ، يمكن ان يطمئن لهما أي إنسان يبحث بصدق ونزاهة عن الحقيقة .
حالة من الغرابة شملت كل جزئية من جزئيات الوحي والموحى إليه .
حالة غريبة من الوحي انفرد بها نبي الإسلام على أنبياء الله ورسله أجمعين.
حالة وحي غريبة في كيفيتها وفي نوعيتها. وغريبة في أماكن وأوقات نزولها . وغريبة في كيفية التأكد منه. وغريبة بما كانت تسببه من أزمات نفسية وجسدية للنبي ..
حالة النبي النفسية والجسدية عند نزول الوحي اليه، كانت تعكس حالة مراضية اكثر من كونها حالة إيحائية نبوية .
انها حالة من الهلوسة والهذيان اكثر من كونها حالة وحي من الرحمان.
حالة تخبط اكثر من كونها حالة تأكد .. حالة شك وتشتيت اكثر من كونها حالة يقين وتثبيت .
حتى معنى الوحي والتنزيل في القران غير واضح المعالم ولا يقطع بمعنى واضح .
الذي يتابع أخبار الوحي والموحى إليه في الإسلام ، سوف يخرج بنتائج يحار معها لمؤمن وغير المؤمن . نتائج لا يحمد عقباها الا كل باحث نزيه.
رد 1
بسم الله الرحمن الرحيم
------------
نبدأ أخى بالكلام العلمى الطبى الذى لا يستطيع أى [ جاهل] أن يشكك فيه
ولقد قمت بجمع بعض المعلومات عن الأمراض العقلية وأعراضها
-----------
العوامل التي تسبب الأمراض النفسية والعقلية.
هناك عوامل كثيرة تلعب دوراً مباشرا أو غير مباشر في أصابة الفرد بالأمراض النفسية والعقلية منها:-
* تغيرات كيمائية في المخ.
* العوامل الوراثية.
* الأحداث السيئة في الطفولة.
* الجو الأسري المضطرب أو المفكك.
* عوامل اجتماعية كالفقر والبطالة وعدم توفر السكن الملائم
ولو طبقنا هذا على حياة الرسول لن نجد اى عاملاً منها قد توفر فى مراحل طفولته ونشأته وصباه
فلو قال أحد الجهلاء أن العامل الأول [ تغيرات كيمائية في المخ. ] قد يحدث للإنسان فى أى وقت
سيكون الرد ...
1- لو حدث هذا فأين كان أهله وعشيرته وأصدقاؤه ..ألم يلاحظوا هذا؟؟؟
2- هل الشخص الذى يصاب بالإضطرابات النفسية والتى قد تؤدى إلى التأثير على تصرفاته وأفعاله وكلامه يمكن أن يصفه مجتمعه الذى يعيش فيه بصفة [ الصدق] و[ الأمانة] وهما صفتان تتطلبان التوازن النفسى والعقلى للشخص ..
3- هل يمكن أن تستأمن السيدة خديجة إنساناً مصاباً بالإضطراب النفسى على تجارتها ومالها ؟؟؟ بل إنها وكلت مهمة مراقبته لغلامها [ ميسرة ] والذى رافقه فى أول رحلة للتجارة ولم يرى عليه ما يجعله يشك فى سلوكه ...ولو رأى غير هذا لكان حكاه لسيدته خديجة بعد عودته من رحلة التجارة ولكانت أعفته من العمل معها
4- السيدة خديجة التى رغبت فى الزواج من الرسول بعد ما رأته من أخلاقه وصفاته وساندته وطمأنته عندما جاءها يرتجف بعد نزول جبريل عليه السلام عليه لأول مرة وأخبرته أن الله لن يخزيه أبداً لأنه ذو خلق عظيم ....فهل الزوجة التى قضت مع زوجها حياة زوجية إمتدت إلى 25 عاماً أنجبت خلالها سبعة من الأبناء لن تعرف أحوال زوجها وحالته النفسية والعقلية ؟؟؟
-------------
تنقسم الأمراض النفسية إلى عدة أنواع :-
1- العصاب:(4/25)
هو اضطراب وظيفي نفسي في صورة أعراض نفسية وجسمية مختلفة منها القلق والاكتئاب والوسواس والأفكار المتسلطة والمخاوف الشاذة والتردد المفرط والشكوك التي لا أساس لها قسرية يجد المريض نفسة مضطرا إلى أدائها رغما عنه:
أنواع العصاب.
أ- الاكتئاب
ويشعر مرضى الاكتئاب بالقنوط واليأس، وعدم الأهمية في الحياة، ويعاني مُعْظمهم من الأرق وفُقدان الشهيّة للطعام، والصّداع وآلام الظهر والصدر، وبطء الحركة والتفكير، وصعوبة التركيز في الأعمال، وجموح الأفكار. وقد يشعر بعضهم بالهياج والرّعب. ويلجأ كثير منهم للانتحار زهدًا في الحياة، وهربًا من مشكلاتهم الخاصة.
وينقسم الاكتئاب إلى نوعين اعتمادًا على شدته. فهناك الاكتئاب الشديد الذي تظهر فيه بعض الأعراض الذّهانية مثل الأوهام، ولذلك يُطلق عليه اسم الاكتئاب الذهاني. وهناك النوع الثاني وهو الاكتئاب الخفيف الذي تظهر فيه بعض أعراض القلق. ولذلك يسمى أحيانا باسم الاكتئاب العُصابي.
ب- القلق
حالة من الانزعاج والتوتّر وعدمِ الراحة، نتيجة لتوقع خطر ما، من مصدر مجهول. والخوف دون مسوغ في بعض الأحيان.
القلق وما يتعلق به من اضطرابات. تُعد الاضطرابات أمراضًا عقلية، يشعر فيها المريض بالخوف دون مبرر (أي خوف من المجهول). وتنقسم اضطرابات القلق إلى خمسة أقسام:
1- القلق العام 2- الرُهاب 3- اضطراب الهلع 4- اضطراب الوَسْوَسَة القسري 5- الاضطرابات التفارقية (الانعزالية).
القلق العام يُعدُّ نوعًا من الخوف الدائم غير المُبَرَّر، وقد يستمر مابين شهر أو أكثر. ومن أعراضه التوتر العضليّ، والغثيان، وسرعة دقات القلب، والإصابة بنوْبات من البرد أو الحرارة، وسرعة الإثارة، و الانزعاج، والانفعال، وصعوبة المعاشرة والمعاملة، والانزعاج الدائم لتوقّع حدوث مصائب فظيعة.
الرُهاب هو الخوف الشديد الدائم من بعض الأشياء أو المواقع. ومنها رهاب الأماكن المفتوحة ورُهاب الأماكن المغلقة. فكل من يعاني من رهاب ما، نجده يتجنب مايُخيفه، وقد يُصاب بالغثيان والرعب الشديد والهلع إذا اضطر أو قُسِر للاقتراب مما يخيفه.
اضطراب الهلع شعورٌ عميق بالخوف الفُجَائيّ. وغالبًا مايحدث في النساء أكثر من الرجال، وأثناء حدوثه، يشعر المريض بقِصَرِ التنفس، وسرعة دقات القلب، والعرق، والارتعاش والنَّمِل، وقدَ يُصاحب هذه الأعراض الشعور بالخوف من الموت. وقد تستغرق فترة الخوف ما بين عدة دقائق إلى عدة ساعات، وقد يصاب الإنسان بنوبة واحدة، وقد تتكرر خلال أشهر أو أعوام.
اضطراب الوسوسة القسري يَحْدث نتيجةً لدوافع غير منطقيّة، ولايمكن التحكّم فيها، وتؤدي لظهور الوسوسة وحالات القسر. وتُعد الوسوسة نوعًا من الأفكار المرْعِبَة أو غير المفهومة للمريض التي تنتابه ولايمكنه تجاهلها، مثل التفكير الدائم في ارتكاب أفعال عنيفة أو الشعور الدائم بالتلوث. أما القَسْر فهو تلك الأفعال التي يقوم بعملها المريض بصورة مُكرَّرة دون أي سبب مثل تكرار غسْل اليدين وتكرار عد الأشياء.
ويَعْتقد مرضى القسر بإمكانيّة منع حدوث حادثة ما بهذه الأفعال. ولكنهم يدركون ـ في الوقت نفسه ـ عدم منطقية سلوكهم، ولايستمتعون بعمله، ولكنهم يُجبَرون عليه، وذلك لشعورهم بالتوتر إذا قاوموا هذه الأفعال. ويمكن أن تعوق هذه الأفعال القسرية العنيفة حياة الإنسان ونشاطاته الطبيعية.
الاضطرابات التفّارقية (الانعزالية) تعني فُقدان الشخصية أو تَغْيرها، ومن أمثلتها الشائعة مرض النَّسيان النفسي ـ أي فُقدان الذاكرة النفسي ـ حيث ينسى الإنسان ماضيه بخيره وشره، ومنها أيضًا مرض الشرود النفسي حيث ينسى الإنسان كل ماضيه وينتقل من بلدة إلى أخرى وينتحل شخصيّةً أخرى. وهناك أيضًا من يعانون من اضطراب تبدُّدِ الشخصية وهم يعتقدون أنهم يراقبون أنفسهم من البعد ولايستطيعون التَّحكُّم في أفعالهم. ويعاني بعض الناس من مرض اضطراب الشخصية المتعدِّدة إذ يكون للواحد منهم شخصيتان أو أكثر مُنْفصلتان إحداهما عن الأخرى. وتسود إحداهما على الأخرى في أوقات مُحدَّدة
2- الذهان:
وهو نوع من الأمراض العقلية الشديدة ينتج عن تغيرات كيمائية أو تلف في المخ والمصاب له يتكلم ويتصرف بشكل غير طبيعي ووظائفه العقلية والجسدية تكون في المخ في حالة غير طبيعية واضطراب شديد بالإضافة إلى أنه يكون غير مدرك كليا لعواقب تصرفاته ولا يدرك بأنه مريض لذا يرفض أخذ الدواء والعلاج.
أنواع الذهان وأعراضه :
أ - الفصام شيزوفرينيا ومن أعراضه مايلي:
1- العزلة والانسحاب عن الناس .
2- سماعة أصوات غريبة ورؤية أشياء غير موجودة في الواقع.
3- سلوك سلبى تجاه الأحداث وانعدام المسئولية .
4- يهمل نفسة وملابسة ونظافته الشخصية
5- قلة التركيز.
ب - التوهمات { ضلالات أضطهادية }
ومن أعراضه:-
1- وساوس وهمية مرتبطة بشعور الفرد بالمخاوف والاضطهاد والظلم والحسد ممن حوله.
2- شعور الفرد بعدم فهم الآخرين له.(4/26)
3- إحساس الفرد بأن الناس تتكلم عنه بالسوء.
4- المغالاة والغرور وينسب لنفسه شخصيات عظيمة مثل ( أنا ملك عظيم)
ج- ذهان هوسي اكتئابي ومن أعراضه مايلي:
1- حالات متعاقبة من الشعور بالحزن الشديد أو الفرح الشديد دون سبب مباشر.
2- حالات نشاط مستمرة غير عادي.
3- كثرة الكلام في مواضيع غير مترابطة.
4- أحيانا يشتد في الصياح وينفعل ويزعق وقد يحطم الأشياء وقد يصبح عدواني.
5- يضحك كثيرا وبصوت عالي.
6- حالة ضيق شديد وانعزال عن الناس .{ في حالة اكتئاب }
3- الصرع:- يظهر الصرع في أي فئة من الفئات العمريه المختلفة وفي كلا الجنسين ولكنه أكثر شيوعا بين الأطفال والمراهقين ، والصرع مرض عضوي عصبي يظهر على هيئة نوبات تصيب الشخص وفيها يفقد الوعي ويسقط أرضاً ثم تظهر لدية حركات تشنجية منتظمة في أجراء مختلفة من جسمه أو أعراض أخرى.
أسباب الصرع:-
هناك أسباب متعددة للصرع منها التغيرات التي تظهر على شكل إفرازات كهربائية غير طبيعية في المخ . والعوامل الوراثية ، ووجود عيوب خلقية بالمخ . وقد تؤدي إصابات الرأس والتهابات المخ إلى الصرع في جميع الأعمار .
أنواع الصرع وأعراضه.
الصرع الأصغر ومن أعراضه:-
1- السرحان .
2- فقدان الذاكرة .
3- فقدان الكلام أو الكلام غير المفهوم.
4- توقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.
5- فقدان النشاط العادي.
الصرع الأكبر وأعراضه :
1- تصلب في الجسم.
2- احتقان في الوجه.
3- هزات متكررة في الجسم كله.
4- أعراض أخرى مصل التبول اللاإرادي ولعاب كثيف في الفم وعض اللسان.
3- الصرع البؤري:-
يكون المريض في كامل وعية وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة ومن أعراضه:-
1- تشنجات حركية .
2- تشنجات حسية .
3- تخيلات مرئية أو سمعية أو شميه ( هلاوس )
4- إحساس داخلي بالخوف.
---------
الاضطرابات العُضْويّة. الاضطرابات العُضْويّة يؤدِّي بعضُها مثل التشوهات الخِلْقيّة وإصابات وأمراض الدِّماغ إلى حدوث بعض الأمراض العقلية مثل الهذيان والخرف.
الهذيان. يُعد حالةً مرضيّة، يَفْقد فيها الشخص إحساسه بما يحيط به، ويسرح فيها بفكره، ويتشتت ذهنه، وتلتبس عليه الأمور، ويتكلم بكلام غير مفهوم، ويأتي بأفعال غير منطقية، ويشعر فيها بخداع البصر والهلوسة وغالبًا ما يَهيجُ ويثور ويَنْفعل، ولكنه قد ينغلق على نفسه، وتفتُر هّمته في بعض الأحيان. وفي الغالب يحدث الهذيان في الصغار والكهول نتيجةً للإصابة ببعض أمراض الكبد والكُلَى والحمَّى وإصابات الرأس والتسمّم، ويبدأ فجأة ولايستمر أكثر من أسبوع.
الخَرَف. مرض عقلي لايصيب إلا الكهول نتيجةً لتلف في بعض الأنسجة الدِمّاغيّة، ويشعر فيه المصاب بضعف في القدرات العقلية، وخصوصًا في الذاكرة والفكر والحكم على الأشياء. فمثلاً ينسى المصابون بهذا المرض الأسماء والمحادثات والوقائع الحديثة، ولايهتمون بصحتهم ولا يكترثون بالنظم الاجتماعية، ويتغير سلوكهم وتَتَغَيَّرُ شخصياتهم.
إذن بعد هذا الكلام العلمى عن ما ينتاب المصاب بالإضطراب العقلى والنفسى من اعراض واضحة صريحة يستشعرها من حوله وتؤثر على سلوكه وإدراكه يتضح أن الإفتراء على محمد [[والذى نزل عليه كتاباً أذهل العرب من اصحاب الفصاحة والبلاغة ببلاغته وإعجازه البيانى واللفظى والنحوى وما إكتشفه أهل العلم من إعجاز علمى وما إحتواه من سرد لقصص السابقين وإخباره عما يدور فى نفوس البشر ولم يطلع عليه أحد وما يحتويه من إخبار لأحداث مستقبلية ..ولعل إخبار القرآن بمصير ابى لهب وزوجته فى الآخرة وهما لايزلان على قيد الحياة أنهما لن يؤمنا بدعوة الإسلام ..وتحقق ذلك بالفعل لهو من إعجاز القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ]] قد أبطل هذا الإفتراء الساذج والذى لا ينم إلا عن إفلاس وخيبة تجعلنا نصفهم بالإختلال العقلى والنفسى
والله اعلم
رد 2
بخصوص موضوع الحاله المرضيه والوحي او الصرع علي حد زعمهم او علي حد جهلهم وهو التعبير الاصح
بحثان من احسن ما قرات في هذا الموضوع :
كان الوحى ينزل على رسول الله بطرق مختلفة وهذه الطرق هى :
1-الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وحيه
2- ما كان يلقيه الملك فى روعه من غير ان يراه كما قال النبى "ان روح القدس نفث فى روعى انه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله واجملوا فى الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق عل ان تطلبوه بمعصية الله"
3-كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه
4- ان يرى الملك فى صورته التى خلقه الله عليها
5- كلام الله له بلا واسطة وكان يوم المعراج
6- كان يأتيه فى مثل صلصلة الجرس وكان اشده عليه فيتلبس به الملك حتى ان جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد الحر وحتى ان راحلته لتبرك به الى الارض اذا كان اكبها ولقد جاءه الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها(4/27)
وقد جرى النصارى فى الطعن بكيفية نزول الوحى مجرى المستشرقين الذين ظهروا فىا لقرن التاسع عشر فة وقت كانت الموضه ايامها الصاق تهمة الصرع والهوس بكل العظماء ولكى نفند هذا الاتهام لابد لنا من تعريف الصرع اولا والصرع هو"مجموعة من الامراض المميزة باضطرابات متكررة فى الوظائف العصبية للمخ نتيجة اضطراب مستوى الكهربية فى المخ"
epilepsy:"Group of diseases charaterized by paroxysmal changes in neurological function caused by abnormalities in the electrical activites of the brain"
each episoide is called seizure ,seizure may be convulsve or non convulsne
اى ان النوبات اما ان تصحبها تشنجات او لا تصحبها تشنجات
types of epilepsy
1- focal(جزئيه ) وهو طبعا خارج الحسابات
2- status epilepcy وهو ايضا خارج الحسابات
3- primary generalized وهذا هو المقصود
a-grand mal (tonic- clonic) وهذا هو المقصود
b- petite mal(abscence seizers) مرفوض طبعا لأنه عبارة عن فقدان للوعى بدون تشنجات
c- myoclonic وهو مرفوض ايضا لأنه عبارة عن انقباض سريع للغاية يؤثر على الجسم كله
d- atonic وهو مرفوض ايضا لأنه عبارة عن فقدان للقوة الموضوعيه تحفظ وضع الجسم
e- infantile وكل عاقل يعرف انه مرفوض من اسمه
ولنبدأ بدراسة النوع الذى يشتبه فى كونه المقصود
Grand mal( tonic - clonic)l
وهو يتكون من ثلاث مراحل :
1-preconvulsive:ماقبل التشنج
خلالها يشعر المريض بخوف بدون سبب
2- covulsive: مرحلة التشنج
وتنقسم الى اربع مراحل :
-aura مقدمة
وبها هلاوس سمعية وبصرية
والهلوسة تعريفها هو "احساس ذاتى خاص بالشخص بدون مؤثر خارجى"
halhusination :" subjective sensation without external stimulus."
-loss of conciousness فقدان الوعى
-tonic stage مرحلة الانقباض
وتكون مصحوبة بانقباض عضلات الجسم متضمنه عضلات التنفس وتكون مصحوبة بازرقاق لون الجسم
-clonic stage (convution) مرحلة التشنجات
وعادة يحدث ازرقاق للجسم وكسور وعض اللسان وتبول لا ارادى وصعوبة فى التنفس
3- post convulsive stage مرحلة ما بعد التشنج
وفى هذه المرحلة ينام المريض لمدة تصل الى تسع ساعات وبعدها يعانى من صداع شديد ونسيان وارتباك وارهاق واحيانا شلل كامل مؤقت
اذا على مستوى الصورة الاكلينيكية اما على مستوى اسباب الصرع فان اسباب الصرع تختلف باختلاف الاعمار وتنقم الى :
0-2 years infant
2-12 years child
12-18 years adolescent
18-35 years young adult
above 35 years old adult وهذا هو المقصود
وتتلخص اسباب الصرع فى هذا السن فيما يعرف ب
cerebrovascular strock وهى تعرف على انها"فقدان للوعى بصورة جادة نتيجة لأنسداد احد الشرايين المغذية للمخ المتبوعة بشلل احد الاطراف او كلها"
وهى فى ابسط صورها تنتج عن شلل نصفى ز كما ان عدة نوبات من الصرع على مدى 23 عام بدون اى مضاعفات ككسور او عض اللسان او ما شابه شىء لا يصدق كما ان الموت فى هذه الحالات بدون علاج يحدث اثناء احدى النوبات
refrances
- cecil text book of medicine
- taber cyclopedic medical dictionary
ويتضح من السابق ان التحليل العلمى لهذه الشبهة كفيل بتفنيدها ولكن بقى شىء هو ان الرسول لم يكن وحده الذى هوجم فقد هوجم بولس ايضا وارجعوا الى ما قاله جيرالد ميسادييه الذى تكلم عن العلاقات الحميمية التى جمعت بين بولس وكل من تيوثاثى واوينزيم الذين احبهما "وفقا للجسد "على حد قوله ز ولم يكن هو الوحيد فهناك العديد من الباحثين الذين تعرضوا لها ومنهم الاب الطبيب مارك اوريزون وخصوصا ان بولس تزوج من ابنه الحاخام ثم طلقها وهاجم الزواج بعد ذلك
د.هشام عزمي :
فضلاً عن هذا فالصرع كان مرضًا معروفًا لعرب الجاهلية و لم يكن ليغيب عنهم كون رسول الله صلى الله عليه و سلم مصابًا به لو كان حقًا .
و الدليل على هذا رواية أم زفر الشهيرة في الصحيحين .. ففي صحيح
البخاري كتاب المرضي حديث رقم 5220 :
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ .(4/28)
و في صحيح مسلم كتاب البر و الصلة و الآداب حديث رقم 4673 :
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَا حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو بَكَرٍ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ قَالَتْ أَصْبِرُ قَالَتْ فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا .
قال الإمام النووي في شرحه للحديث : (( حَدِيث الْمَرْأَة الَّتِي كَانَتْ تُصْرَع وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الصَّرْع يُثَاب عَلَيْهِ أَكْمَلَ ثَوَاب )) .
و في مسند الإمام أحمد بن حنبل حديث رقم 3070 :
حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عِمْرَانَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَأَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكِ أَنْ يُعَافِيَكِ قَالَتْ لَا بَلْ أَصْبِرُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ أَوْ لَا يَنْكَشِفَ عَنِّي قَالَ فَدَعَا لَهَا .
فهذا كله فيه دليل على كون الصرع مرضًا معروفًا للعرب الجاهليين و لم يكن يخفى عليهم إصابة الرسول صلى الله عليه و سلم به لو كان كذلك خاصةً مع وجود العديد من الصحابة ثاقبي النظر المعروفين بالفراسة و دقة النظر و الذين لم تكن تخفى عليهم أدق الملاحظات كعمر بن الخطاب مثلاً .
الخوف والفزع الَّذي انتابه لِمَا سمع ورأى في الغار حتَّى جعله يقطع خلوته، ويسرع إلى البيت مرتعش الفؤاد، فإنه يوضح أن ظاهرة الوحي هذه لم تأت متمِّمة لشيء ممَّا كان النبي صلي الله عليه وسلم يتصوَّره أو يخطر في باله، وإنما فوجئ بها وبالرسالة دون أي توقُّع سابق. كما أن ذهاب خديجة به لابن عمها دليل على أنها لم تكن تعلم كنهه مما جعلها تسأل قريبها ورقة عنه.
هل يتصور منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد وهل يصح في الأذهان أن أحدا يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول للعالم في صراحة ليس هذا الفخر فخري وما هو من صنعي وما كان لدي استعداد أن آتي بشيء منه وأنتم تعرفونني وتعرفون استعدادي من قبل ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ويجافي العرف والعادة وينافي مقررات علم النفس وعلم الاجتماع فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق وليس شيء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم الذي جمع الله به شمل أمة وأقام به خير ملة وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد في هذا المجد الخالد ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به وأي وجه لمحمد في أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد فليس شيء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله ( مناهل العرفان ج 2 ص 293)
ما أروع ما وصفة القرآن من الحالة الذي سيقولها أعداء الإسلام على مر العصور واتهام أن القرآن نتيجة تعلم الرسول من بشر وهذا دليل الإعجاز القرآني على مر العصور والأيام
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ {103}سورة النحل. صدق الله العظيم
اقتباس:
المدعي
أن الحالة التي كانت تعتري النبي صلى الله علية وسلم عند تلقي الوحي من جبريل، وهو على حالته الملكية، وهي الحالة التي كان النبي يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويسمع له غطيط ( صوت النائم إذا احتبست أنفاسه ) كغطيط النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه، هي حالة صرع تتمخض عما يخبر به أنه وحي(4/29)
المحكمة: على المدعى أن يقدم لنا رده على مسألة هل فعلا كان مصابا بالصرع أم لا ؟
المدعى عليه: يجب أن نعرف ما هو الصرع وأنواعه وأعراضه ومضعفاته ونتائج الإصابة به وهل هذه الأشياء أصابت الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا ؟
التعريف:
الصرع هو حالة عصبية تحدث من وقت لآخر اختلال وقتي في النشاط الكهربائي الطبيعي للمخ. وينشأ النشاط الكهربائي الطبيعي للمخ من مرور ملايين الشحنات الكهربائية البسيطة من بين الخلايا العصبية في المخ وأثناء انتشارها إلى جميع أجزاء الجسم، وهذا النمط الطبيعي من النشاط الكهربائي من الممكن أن يختل بسبب انطلاق شحنات كهربائية شاذة متقطعة لها تأثير كهربائي أقوى من تأثير الشحنات العادية. ويكون لهذه الشحنات تأثير على وعى الإنسان وحركة جسمه وأحاسيسه لمدة قصيرة من الزمن وهذه التغيرات الفيزيائية تسمى تشنجات صرعية ولذلك يسمى الصرع أحيانا "بالاضطراب التشنجي". وقد تحدث نوبات من النشاط الكهربائي غير الطبيعي في منطقة محددة من المخ وتسمى النوبة حينئذ بالنوبة الصرعية الجزئية أو النوبة الصرعية النوعية.وأحيانا يحدث اختلال كهربائي بجميع خلايا المخ وهنا يحدث ما يسمى بالنوبة الصرعية العامة أو الكبرى. ولا يرجع النشاط الطبيعي للمخ إلا بعد استقرار النشاط الكهربائي الطبيعي. ومن الممكن أن تكون العوامل التي تؤدى إلى مرض الصرع موجودة منذ الولادة، أو قد تحدث في سن متأخر بسبب حدوث إصابات أو عدوى أو حدوث تركيبات غير طبيعية في المخ أو التعرض لبعض المواد السامة أو لأسباب أخرى غير معروفة حالياً. وهناك العديد من الأمراض أو الإصابات الشديدة التي تؤثر على المخ لدرجة إحداث نوبة تشنجيه واحدة. وعندما تستمر نوبات التشنج بدون وجود سبب عضوي ظاهر أو عندما يكون تأثير المرض الذي أدى إلى التشنج لا يمكن إصلاحه فهنا نطلق على المرض اسم الصرع يتميز بنوبات من فقدان الوعي ترافقها اختلاطات متعممة. وتستمر النوبة فترة قصيرة ثم تزول. أم الفاصلة بين نوبة وأخرى فقد تكون بضعة أشهر في الحالات الخفيفة، بينما يمكن أنَّ تحدث النوبة بضع مرات في اليوم الواحد وذلك في الحالات الشديدة ، وهو نوبات متكررة مفاجئة مصحوبة بنقص في الوعي إلى حد الغيبوبة أحيانا.. وهناك أنواع مختلفة للنوبات التي قد تنتاب المريض؛ فمنها الصغرى والكبرى المتكررة المستمرة، وأقل هذه النوبات حدة هي الصغرى التي لا تستغرق سوى عدة ثوان، ولا تحدث تشنجات، أما النوبة النفسية الحركية فتسبب فقدانًا تامًّا في الوعي، مصحوبة بحركات أتوماتيكية غريبة كالجري، والصراخ، والهيجان، والعدوان، وجذب الملابس... إلخ
الأشكال والأعراض:
قبل أنَْ تحدث نوبة الصرع، تسبقها حالة مخبرة - تخبر المريض عن قدوم النوبة - تسمى النسمة وتتجلى مظاهرها بأشكال عديدة من الاضطرابات الحسية، كأن يشم المريض رائحة خاصة أو يسمع أصواتاً غريبة أو يرى أشكالا أو أشباحاً خاصة أو يشعر بطعم غريب في فمه... وأحياناً تكون بشكل حس مزعج في إحدى مناطق البدن، أو بشكل نفخة كالريح - ومنه تسميتها بالنسمة. وعليه يمكن تعريف النسمة بأنها الاضطرابات الحسية التي تتقدم نوبة الصرع والتي تنبيء عن قرب ظهور النوبة المفاجئ.
هذا وإن للصرع أشكالاً عديدة، أهمها:
أولاً - الصرع الكبير:
قد تكون النسمة في هذا الشكل غير موجودة أحياناً، وتمر حوادثه بثلاث مراحل؛ فقدان الوعي، والارتجاجات، وعودة الوعي. يبدأ فقدان الوعي فجأة ويرافقه فقدان الحركة، فيسقط المريض بشكل تشنجي ويظهر الزبد على الفم، وقد يعض المريض لسانه كما قد يتبول أو يتغوط. وتستمر هذه المرحلة حوالي الدقيقة الواحدة. وأخيرا تبدأ فترة الهدوء فيصبح التنفس عميقاً ويعود الوعي تدريجياً... وتنتهي النوبة. وعندما يصحو المريض يكون في حالة ذهول ولا يذكر شيئاً مما جرى.. ولكنه يشعر بصداع شديد يدفعه للنوم العميق، ليستفيق بعدها وقد عاد طبيعياً. وبعض المرضى يستطيع أنَّ يعود إلى أعماله الاعتيادية بعد انتهاء
الصرع الكبرى وأعراضه:
1- تصلب في الجسم.
2- احتقان في الوجه.
3- هزات متكررة في الجسم كله.
4- أعراض أخرى مثل التبول اللاإرادي ولعاب كثيف في الفم وعض اللسان نوبة مباشرة.
ثانياً: الصرع الدائم:(4/30)
وفي هذا الشكل تتعاقب النوبات بصورة مستمرة دون فاصلة، فيبقى المريض فاقداً وعيه بشكل دائم مع حدوث نوبات اختلاجية بين حين وآخر ولهذا فإن المريض قد يموت نتيجة للجهد العضلي العصبي الدماغي. وعليه فأن هذا الشكل من الصرع شديد الخطورة ونشير إلى أنَّ الحرارة ترتفع فيه كثيراً. يبدو الشخص واعياً أثناء نوبات الصرع الجزئية المركبة لكنه غالبا لا يدرك من حوله أثناء النوبة. وقد يكون الشخص قادراً على السمع ولكنه لا يكون قادراً على الاستجابة للقريبين منه. و تبدو عادة هذه النوبة مشابهة لنوبة صرع التغيب في كون الإنسان قد يبقى محملقاً في الفراغ. و تدوم النوبة عموماً لفترة أطول وقد يكون هنالك بعض التصرفات أو الحركات اللاإرادية مثل تقليب أو تمطيط الشفاه أو المضع أو حركات طرفية لا إرادية مثل حركة يد متكررة متماثلة بعكس النوبة الغيبية التي تنتهي فجأة بعد "30 " ثانية أو أقل، بينما تدوم نوبة الصرع الجزئية المركبة عادة لمدة دقيقة إلى دقيقتين وتحتاج إلى فترة أطول لاسترداد الوعي والنشاط. وليس مستغرباً أن تبدأ نوبة الصرع الجزئية كنوبة بسيطة تتطور إلى نوبة صرع جزئية مركبة ومن ثم تتحول إلى نوبة ارتجاجية كبيرة أو نوبة تشنجية.
ثالثاً - الصرع الجزئي:
يسمى أيضاً (صرع جاكسون )، وتكون النسمة فيه واضحة ويتبعها ذهول واضطراب في الذاكرة دون أنَّ يفقد المريض وعيه، وتظهر اختلاجات وتشنجات عضلية في موضع واحد من الجسم فقط، ثم تنتشر إلى الأقسام المجاورة. ويشار إليها عادة بالنوبات التحذيرية أو النسمة ( الحس الشخصي) وهي الإحساس الشخصي الذي يسبق النوبات الاشتدادية. حيث يكون الشخص واعياً بالكامل خلال هذه النوبات ولا يفقد وعيه. تعتمد أعراض هذه النوبات على الجزء النشط من الدماغ أثناء النوبة. وقد تشمل الأعراض رجفة في جزء واحد من الجسم، خوف، قلق، غثيان، الإحساس بالضحك والذي قد يتطور إلى أصوات عالية أو رائحة مميزة كذلك أضواء أو تغير فى النظر أو إحساس بتنميل و لسعات كهربائية فى أجزاء من الجسم. علماً بأن الأعراض تختلف إلى حد كبير من شخص إلى آخر تبعاً لموقع نشاط النوبة في الدماغ.
الصرع البؤري:-
يكون المريض في كامل وعية وقد يتذكر ما حصل له خلال النوبة ومن أعراضه:-
1- تشنجات حركية.
2- تشنجات حسية.
3- تخيلات مرئية أو سمعية أو شميه ( هلاوس )
4- إحساس داخلي بالخوف
رابعاً - الصرع الصغير:
ويدعى كذلك (الغياب الصرعى ) والنسمة فيه قد تكون مفقودة، وهي إنْ ظهرت كانت خفيفة. ويتميز هذا الشكل باضطراب بسيط في الوعي لعدة ثوان فقط ثم يعود المريض طبيعياً رأسا. وهكذا فإن الصرع الصغير يختلف عن الأشكال السابقة بعدم فقدان الوعي وعدم ظهور الاختلاجات. وقد تحدث هذه النوبة دون أنَّ يشعر بها أحد ولا تؤثر على سير عمل المريض. فمثلاً يكون المريض واقفاً بين رفقائه وهو يتكلم في موضوع مهم، وفجأة يتوقف عن الكلام بضع ثوان، يعود بعدها لتكملة حديثه طبيعياً... وقد يلاحظ عليه لشحوب الوجه أثناء توقف الكلام. إنَّ الصرع الصغير يبدأ عادة منذ الطفولة ويستمر حتى دور المراهقة وعند ذلك إما أنَّ يشفى أو أنَّ يتحول إلى الصرع الكبير.
الصرع الأصغر ومن أعراضه:-
1- السرحان.
2- فقدان الذاكرة.
3- فقدان الكلام أو الكلام غير المفهوم.
4- توقف الجسم عن أي حركة تليها رمشات في العينين.
5- فقدان النشاط العادي.
الصرع والنوبات النفسية:
وهى أكثر الاضطرابات شيوعا وفى هذه الحالات يحدث فقدان في الوعي قبل حدوث نوبة التشنج أو بعدها أو بديلا عن حدوث التشنج ويظهر المريض تصرفات وتفاعلات غير واعية وقد يصاحب ذلك ارتباك واضطراب فى التفكير وقلق وخوف تأخذ النوبة الصرعية شكل نوبة هياج مع وجود هلاوس أو خوف أو عنف شديد وعادة يصاب مريض الصرع بالانفصام.
فهل أصاب الرسول الله صلى الله علية وسلم أي شيء من هذا بالطبع لا ولا يوجد أدنى دليل لوجود شبهة في ذلك وإليك رد هذه الفرية لترى أنهم طعنوا في غير مطعن، وطاروا في غير مطار.(4/31)
(1) إن النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء كان أصح الناس بدنا وأقواهم جسما، وأوصافه التي تناقلها الرواة تدل على البطولة الجسمانية. وقد بلغ من قوته أنه صارع ركانة بن عبد يزيد فصرعه، وكان ركانة هذا مصارعا ماهرا، ما قدر أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، ولما عرض عليه النبي الدعوة قال: صارعني فإن أنت غلبتني آمنت أنك رسول الله، فصارعه الرسول فغلبه، فقيل إنه أسلم عقب ذلك( التاريخ الكبير رقم 1146، الجرح والتعديل رقم 2342، مشاهير علماء الأمصار رقم 187، الثقات رقم 437، الإصابة رقم 2691) والمصاب بالصرع لا يكون على هذه القوة، وقد شهد للنبي رجل غريب عن الإسلام ولكنه منصف قال الكاتب الأجنبي ( بودلي) في كتابه( الرسول حياة محمد ) مفندا هذا الزعم:" لا يصاب بالصرع من كان في مثل الصحة التي كان يتمتع بها محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبل وفاته بأسبوع واحد، وإن كان ممن تنتابه حالات الصرع كان يعتبر مجنونا، ولو كان هناك من يوصف بالعقل ورجاحته، فهو محمد"
(2) إن مريض الصرع يصاب بآلام حادة في كافة أعضاء جسمه يحس بها إذا ما انتهت نوبة الصرع، ويظل حزينا كاسف البال بسببها، وكثيرا ما يحاول مرضى الصرع الانتحار من قسوة ما يعانون من آلام في النوبات فلو كان ما يعتري النبي صلى الله عليه وسلم عند الوحي صرعا لأسف لذلك وحزن لوقوعه ولسعد بانقطاع هذه الحالة عنه، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.
لقد فتر الوحي عن الرسول مدة فحزن لذلك حزنا شديدا، وكان يذهب إلى غار حراء وقمم الجبال عسى أن يعثر على الملك الذي جاء بحراء وبقي محزون النفس من هذه الحالة حتى سرى عنه ربه يوصل ما أنفصم من الوحي.
(3) إن الوحي لم يكن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال التي قالوا عنها إنها صرع إلا أحيانا وأحيانا كان يأتيه وهو في حالته الطبيعية فلا غيبوبة ولا قلق ولا غطيط، وذلك حينما كان يأتيه جبريل في صورة رجل، وكان الجالسون لا يعرفون أنه جبريل، ولكن النبي كان يعلم ذلك حق العلم وذلك كما حدث في الحديث الطويل الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما والذي يعتبر سجلا جامعا لأصول الإيمان والإسلام والإحسان.
ويدل على حالتي الوحي هاتين الحديث الذي رواه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها " أن الحارث بن هشام – رضي الله عنه – سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عتي وقد وعيت منه ما قال: وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ".قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا "( صحيح مسلم رقم 2333، صحيح البخاري رقم 2،3043)وهل سمعنا أن الصرع من الأنواع كلها المشروحة هل يأتي بصوت كصلصة الجرس أو دوي النحل لا يوجد صرع يسمعه الجالسين من حوله وهذا دليل آخر على عدم التمييز بين الوحي والصرع لمن يحاول اتهام الرسول الله صلى الله علية وسلم
(4) إن الثابت علميا أن المصروع حالة الصرع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تاما، فلا يدري المريض في نوبته شيئا عما يدور حوله، ولا ما يجيش في نفسه كما أنه يغيب عن صوابه، وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور ويصبح المريض بلا إحساس.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد الوحي يتلو على الناس آيات بينات، وتشريعات محكمات، وعظات بليغات، وأخلاقا عظيمة، وكلاما بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة تحدى به الناس قاطبة – عربهم وعجمهم – أن يأتوا بأقصر سورة منه فما استطاعوا فهل يعقل من المصروع أن يأتي بشيء من هذا ؟ اللهم إن هذا أمر لا يجوز إلا في عقول المجانين إن كانت لهم عقول.
(5) في حالة الصرع تمر بذهن المريض ذكريات أو أحلام مرئية أو الاثنان معا وتسمى " بالهلاوس"وقد أثبت الطب أيضا أن الذكريات التي تمر بالمريض لابد أن يكون قد عاش فيها المريض نفسه حتما إذ أن النوبة الصرعية ما هي إلا تنبيه لصورة أو صوت مر بالإنسان ثم أحتفظ به في ثنايا المخ، وقد أمكن طبيا أجراء عملية التنبيه هذه بوساطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس " الهلاوس" التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع، وكلما تكررت نوبة الصرع تكررت نفس الذكريات أو " الهلاوس" فهذا مريض يسمع أغنية أو قطعة من شعر، أو حديثا من أي نوع كان في نوبة صرعه، ويتكرر سماعه لها في كل نوبة، ولابد أن يكون ما سمعه في النوبة قد سمعه يوما في طفولته. أو شبابه، أو قبل مرضه، وكذلك إذا كانت النوبة تثير منظرا لابد أن يكون قد مر عليه.(4/32)
وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما يعتري النبي صلى الله عليه وسلم نجده يردد آيات لا يمكن إطلاقا أن يكون قد سمعها من قبل في حياته، فهي آيات واردة على لسان الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعمر البشر الأرض مثل قوله سبحانه( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ)(30 البقرة) ؛ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا {50}سورة الكهف
وآيات أخرى فيها قول الله يوم القيامة مثل (حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(سورة النمل 84)
وكذلك الآيات التي تحكي عصور ما قبل الإسلام، والمقاولات والمحاورات التي جرت بين أقوام عاشوا قبل الرسول بآلاف السنين وذلك مثل قوله سبحانه وتعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {37}آل عمران إلى غير ذلك من الأحاديث والأحوال لم تمر بالرسول قطعا فهي لم تختزن بالتالي في المخ لتثيرها نوبات صرعية فيتذكرها، وبذلك يقرر الطب الحديث في أحدث اكتشافاته بالنسبة للصرع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون هناك أدنى شبهة في إصابته بالصرع إطلاقا، وأن ما كان يعتريه إنما هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه وتعالى، هذا الوحي الذي أخبره الله فيه عما مضى، وعما يستقبل.
(6) ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان في أنهم لا ينالون من نبينا محمد صلى الله علية وسلم وحده، وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف أوحى بها من عند الله سبحانه فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم ؟ وما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد من إيحاءات ونبوءات ؟ وهل يقولون في وحي نبي الله موسى وعيسى – عليهما السلام – ما يقولون في وحي نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
اللهم إن هذا الطعن لا يفوه به إلا أحد رجلين: إما رجل مخرف، وإما رجل مخرب مدمر يريد هدم الأديان.(المدخل لدراسة القرآن الكريم د/ محمد بن محمد أبو شهبة ص95-99) وأكبر دليل على إبطال هذه الفرية الكاذبة أن مصاب الصرع يصاب مع الأيام بضعف شديد في الذاكرة والرسول الله صلى الله علية وسلم مات بكامل ذاكرته حقا إنها فريه خائبة ساقطة نتيجة الحقد الدفين أنني أطالب المحكمة بعد كل ذلك بما يلي ويشترك كل منصف سواء كان مسلما أو غير ذلك من الذين يستخدمون القواعد العلمية أن يحاكموا هؤلاء تخيلوا كم إنسان على وجه الأرض مات وهو يستمع إلى هذه الضلالات ولا يعرف الحقيقة ربما لو عرف الحقيقة لتغيرت حياته كم حرمتم أناسا على وجه الأرض من أن يتعايشوا مع دين الإسلام وكم حرمتم شابا من أن يدخل دين الله وكم حرمتم امرأة بهذه الأكاذيب لقد أجرمتم في حق البشرية وفي حق أنفسكم لقد صنعتم البغضاء بلا سبب سوى أنكم تكرهون شيئا أسمة الإسلام ولقد تربيتم على ذلك وظلمتم الإسلام فهل لكم أن تتراجعوا عن أسلوبكم الذي أفقدكم المصداقية وحرمتم أناسا كان من الممكن أن يكونوا نبراسا للبشرية أنني أشكر هيئة المحكمة على حسن إنصاتها والقضاة الشرفاء فى أنحاء الأرض والمحكمة التي أتسع صدرها لكي نصل للحقيقة معا شكرا لكم جميعا
===============
القتال والسيف بين الإسلام والنصرانية
صدق الله القائل:
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"
وقبل أن ابدأ اجاباتي عليك .. هل إذا كنت طالبا في إحدى الكليات .. ولاتستذكر دروسك ولا تهتم بها فأخذ والدك معك طريق النصح بالحكمة والموعظة الحسنة ولكنك لم تستجب .. فاستخدم معك طريق التحذير من العاقبة فلم تستجب .. فاستخدم معك طريق الشدة وهو مشفق عليك اثناء استخدامها .. فاستجبت في هذه المرحلة .. وجاء الإمتحان فنجحت وفزت .. هل ستلوم اباك أم ستشكره وتعترف بجميله؟ .. فهذا هو دور الإسلام أن يقودك إلى رضا الله عنك .. وفي النهاية لاإكراه في الدين "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
الأستاذ عبد الله .. لا شك أن هناك فرق كبير بين القتال في القرآن .. والكتاب المقدس .. وأظنك تعلم هذا!(4/33)
ففي سفر حزقيال 9: 6 وَاضْرِبُوا لاَ تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ.
و في سفر صموئيل الأول 15: 3 - 11 " وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً طِفْلاً وَرَضِيعاً, بَقَراً وَغَنَماً, جَمَلاً وَحِمَاراً"
و سفر هوشع 13 : 16 يقول الرب : "تجازى السامرة لأنها تمردت على إلهها بالسيف يسقطون تحطم أطفالهم والحوامل تشق"
هل دعا الإسلام إلى شق بطون الحوامل وقتل الأطفال .. يارجل؟
أين ذلك من قول القرآن "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا"
كان الرسول يوصى الجيش قبل أن يتحرك بقوله: “انطلقوا باسم الله .. وعلى بركة رسوله .. لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ، لا تغلوا ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، .. إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور .”
لو انك استأجرت منزلا من شخص عظيم و هو الذي أسسه وأنشأه .. وطالبك هذا الشخص بدفع الإيجار واحترام آداب المنزل .. وأرسل اليك شخصا طالبا منك أن تدفع قيمة الايجار لصاحب البيت وتضع قيمة الإيجار في حسابه الشخصي في البنك .. وأكد عليك ذلك مرارا وتكرارا .. إنه لن يقبل غير ذلك .. فإذا بك تضع القيمة الايجارية .. في حساب الشخص الثاني .. فهل يرضى عنك صاحب البيت.؟! .. فلماذا تغضب حينما يأمرك الله بدفع الجزية .. بعدما عبدت غيره .. ويرسل رسولا ليدعوك إلى العودة للحق .. فإن أبيت فالجزية كما فعل السابقون من الأنبياء والرسل .. هل تريد أن تعيش في خيره وتعبد غيره؟!
و هذا هو ترتيب الدعوة في الإسلام
1- "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
فإن لم يستجيبوا
2- "وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ"
فإن لم يستجيبوا
3- "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"
فإن لم يستجيبوا
4- "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ " .. فإن اعطوا الجزية .. فلهم مالنا وعليهم ماعلينا
لماذا تعترض على هذه الآيات .. وعلى دفع الجزية؟!!!!! هل تقرأ كتابك المقدس !!! لاأظن ذلك !!
ألست تؤمن أن داود هو النبي والملك وابن الرب وجد من أجداد ... الرب المسيح ... أقرأ ما يفعله النبي الملك .
في سفر صموئيل الثاني 8 : 1 عن نبي الله داود : وقهر أيضاً الموآبيين وجعلهم يرقدون على الأرض في صفوف متراصة، وقاسهم بالحبل . فكان يقتل صفين ويستبقي صفاً . فأصبح الموآبيين عبيداً لداود يدفعون له الجزية .
لقد كان داود يفعل ذلك .. وأنتم تقولون عنه أنه النبي والملك وابن الله وجد المسيح ويفعل ذلك ليس من نفسه ولكن بأمر من الرب .. ودينكم دين المحبة .. ومع أنني لم أسمع بأي مسلم يفعل مثل ذلك .. فلماذا يكون دينكم دين المحبة؟ .. والإسلام دين ارهاب؟ .. ليس ذلك عدلا!
هل سمعت الموآبيين كانوا عبيداً لداود ( الملك وابن الاله والنبي في نظركم ) ............ بعد التنكيل بهم .. و يدفعون له الجزية يا متمني الحوار لا مشاكل وهم عبيد .. هل المسلمون استعبدوكم .. بالطبع .... لا .. فمن منا الإرهابي ؟
إن المسيح عليه السلام كان يؤدي الدرهمين للرومان!!!! وذلك بشهادة بطرس ....... فعلام تعترض يارجل؟ ألست تريد أن تقتدي بالمسيح؟.
اقرأ في انجيل متى 17 عدد 24-27
" ولما جاءوا الى كفر ناحوم تقدم الذين ياخذون الدرهمين الى بطرس وقالوا أما يوفي معلمكم الدرهمين25 قال بلىفلما دخل البيت سبقه يسوع قائلا ماذا تظن يا سمعان ممن ياخذ ملوك الارض الجباية او الجزية أمن بنيهم ام من الاجانب26 قال له بطرس من الاجانب قال له يسوع فاذا البنون احرار27 ولكن لئلا نعثرهم اذهب الى البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع اولا خذها ومتى فتحت فاها تجد استارا فخذه واعطهم عني وعنك "
اذا الملوك تأخذ الجزية من الأجانب!!
بعد صعود السيد المسيح يأمر بولس أتباعه وأنت منهم باعطاء الجزية أيضا كما في رومية 13 عدد 1-7(4/34)
1 لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. لانه ليس سلطان الا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. 2 حتى ان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لانفسهم دينونة. 3 فان الحكام ليسوا خوفا للاعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد ان لا تخاف السلطان. افعل الصلاح فيكون لك مدح منه. 4 لانه خادم الله للصلاح. ولكن ان فعلت الشر فخف. لانه لا يحمل السيف عبثا اذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. 5 لذلك يلزم ان يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل ايضا بسبب الضمير. 6 فانكم لاجل هذا توفون الجزية ايضا. اذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه. 7 فاعطوا الجميع حقوقهم. الجزية لمن له الجزية. الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف والاكرام لمن له الاكرام"
هل سمعت .. الجزية لمن له الجزية!!! .. فهدأ من روعك يارجل .
-عندما دخل بنو اسرائيل بأمر الرب إلى الارض المقدسة مع نبيهم يشوع أخذوا الجزية من الكنعانيين،
فسفر النبي يشوع 16 : 10 يقول :
(( فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر. فسكن الكنعانيون في وسط افرايم الى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية ))
كانوا عبيداً تحت ماذا .. الجزية . عبودية وجزية
وسفر القضاة 1 : 28 -33 يقول:
1: 28 و كان لما تشدد اسرائيل انه وضع الكنعانيين تحت الجزية و لم يطردهم طردا
1: 29 و افرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر
1: 30 زبولون لم يطرد سكان قطرون و لا سكان نهلول فسكن الكنعانيون في وسطه و كانوا تحت الجزية
1: 31 و لم يطرد اشير سكان عكو و لا سكان صيدون و احلب و اكزيب و حلبة و افيق و رحوب
1: 32 فسكن الاشيريون في وسط الكنعانيين سكان الارض لانهم لم يطردوهم
1: 33 و نفتالي لم يطرد سكان بيت شمس و لا سكان بيت عناة بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الارض فكان سكان بيت شمس و بيت عناة تحت الجزية لهم .
و سفر ملوك الأول 4 : 21 يقول:
فكانت هذه الممالك تقدم له "سليمان" الجزية وتخضع له كل ايام حياته
-الرب يأمر أنبيائه ان يضعوا الناس تحت التسخير والعبودية بخلاف الجزية التي أهون بكثير من هذا النظام .... فعلى سبيل المثال نجد في سفر التثنية 20 : 10 أن الرب يأمر نبيه موسى قائلاً : حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح. فان اجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.
أليست هذه النصوص كلها أوامر من الرب لأنبياءه بأخذ الجزية بل بتطبيق نظام العبودية على أعدائهم من الامم الاخرى ؟
الاستاذ حبيب عبد الملك
====================
من يسبّح الله كيف يكون هو الله أو إلها مع الله؟!
منذ ظهر الاسلام قبل اربعة عشر قرنا من الزمان، لم يتوقف سيل الشبهات التى يثيرها المشككون والمبطلون من خصوم هذا الدين تشكيكا فى مصادره أو فى نبيه أو فى مبادئه وتعاليمه، ولا تزال الشبهات القديمة تظهر حتى اليوم فى أثواب جديدة يحاول مروجوها أن يضفوا عليها طابعاً علميا زائفا.
هذه الشبهات تبين جهلاً فاضحا بالاسلام وسوء فهم لتعاليمه، سواء كان ذلك بوعى أو بغير وعي. من الشبهات المثارة سؤال يتردد وهو هل النجوم رجوم الشياطين؟ حملنا هذه الشبهة الى فضيلة المفتى على جمعة مفتى الديار المصرية فقال: الاسلام دين موحى به من رب العالمين يخبرنا عن صدق ويقين، وهو القائل سبحانه: "ما اشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" "الكهف 51"، والاسلام ليس بدعاً من الاديان ولذلك نرى أن الكتب المقدسة تذكر ذلك، فان الله تعالى يقول: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا" "الجن 8 ـ9". قال ذلك حكاية عن الجن، وليس المعنى كما فهم الغرب، وانما المعنى هو أن الله جعل على السماء حراسا من الملائكة، وخلق لهم ادوات عقاب تناسب اجسام الشياطين، وهى الشهب، فاذا جاء شيطان رماه احد الملائكة بشهاب وليست الشهب كواكب كالقمر والشمس، وانما هى ادوات عقاب كالسيف فى يد الجندى المحارب.
ويضيف د. على جمعة مفتى مصر فى الاصحاح الثالث من سفر التكوين: ان الله لما طرد آدم من الجنة وهى جنة عدن، ليعمر الارض التى اخذ منها، اقام شرقى جنة ملائكة تسمى الكروبيم، ووضع لهيب سيف متقلب فى اياديهم لحراسة طريق شجرة الحياة: "فأخرج الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى اخذ منها فطرد الانسان، وأقام شرقى جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة".(4/35)
يقول المفسرون: "ان الكروبيم من الملائكة المقربين وهو فى الفارسية بمعنى الحارس" وكان عملهم وقت طرد آدم هو "حراسة الفردوس، لئلا يرجع الانسان اليه". وفى القرآن تفسير الشهب بشواظ من نار، فى قوله تعالي: "يامعشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون الا بسلطان فبأى آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران" "الرحمن 33 35". فقد جعل للجن غير ما جعل للانس من ادوات العقاب، ولم يجعل للجن كواكب ترمى بها كالقمر والشمس، وانما جعل للجن "شواظ" أى "شهبا".
يعترض البعض فى الغرب على قول الحق تبارك وتعالي: "إنما النسيء زيادة فى الكفر" "التوبة 37" أن النسيء الذى فى السنة القبطية من الحساب الفلكي.. فكيف يكون العلم كفراً؟
ان النسيء فى الآية الكريمة هو ما كان يفعله المشركون من تبديل الأشهر الحرم مكان الأشهر الحلال ليستحلوا بذلك القتال فيها، ولا علاقة له بالأيام التى تضبط السنة القبطية للزراعة، ومن هنا يتبين مدى محاولة التلبيس والتدليس الذى يضحك منها العارفون مع حزنهم ان يصل الترصد ضد كلام الله سبحانه والعمل على ان لا يصل الى الخلق باعتباره الكلمة الاخيرة للعالمين الى هذا الحد الرخيص من التلاعب بالألفاظ والمصطلحات.
يقولون ان فى القرآن الرعد يسبح الله وان فى الاحاديث النبوية أن الرعد ملك من ملائكة الله ونحن نعلم ان الرعد هو الكهرباء الناشئة عن تصادم السحاب فكيف يكون الرعد ملكاً؟
الغرب لاينكر تسبيح الرعد لله، وذلك لأن فى التوراة ان الرعد يسبح لله وكل شيء خلقه، فانه يسبحه، وإنما هو ينكر كون الرعد ملكا، فمن اكد له ان الرعد ملك؟ ليس فى القرآن أنه ملك. والاحاديث النبوية تذكر ان للرعد ملكا، وليس ان الرعد ملك، الفرق واضح، ففى التوراة عن التسابيح لله: "شعب سوف يخلق، يسبح الرب" ويقصد شعب محمد صلى الله عليه وسلم "مزمور 102: 18" وفى سفر الزبور: "تسبحه السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها" "مز 69: 34" وفى سفر الزبور: "سبحوا الرب من السماوات، سبحوه فى الأعالي، سبحوه ياجميع ملائكته، سبحوه ياكل جنوده، سبحيه يا أيتها الشمس والقمر، سبحيه يا جميع كواكب النور، سبحيه يا سماء السموات، ويا أيتها المياه التى فوق السموات. لتسبح اسم الرب، لأنه امر فخلقت، وثبتها الى الدهر والأبد وضع لها حدا فلن تتعداه. سبحى الرب من الارض يا أيتهاالتنانين وكل اللجج. النار والبرد. الثلج والضباب. الريح العاصفة كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمر وكل الارز. الوحوش وكل البهائم، الدبابات والطيور ذوات الاجنحة. ملكوت الارض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الارض، الاحداث والعذاري، ايضا الشيوخ مع الفتيان، ليسبحوا اسم الرب، لأنه قد تعالى اسمه وحده مجده فوق الارض والسماوات" "مزمور 148". وفى الأناجيل الاربعة: "يسبحون الله بصوت عظيم" "لوقا 19: 37"، "وهم يمجدون الله ويسبحونه" "لو 2: 20"، "وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوى مسبحين الله وقائلين: المجد لله فى الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" "لو2: 13" وكان عيسى عليه السلام يسبح الله تعالى مع الحواريين، ففى مرقس: "ثم سبحوا وخرجوا الى جبل الزيتون" "مر 14: 26" وفى متي: "ثم سبحوا وخرجوا الى جبل الزيتون" "متى 26: 30" ومن يسبح الله كيف يكون هو الله او إلها مع الله؟ وفى القرآن الكريم "سبح اسم ربك الاعلي" "الاعلي1" وفى الزبور "سبحوا اسم الرب سبحوا يا عبيد الرب" الى أن قال "كل ما شاء الرب صنع فى السماوات والأرض فى البحار وفى كل اللجج المصعد السحاب من اقاصى الارض الصانع بروقا للمطر المخرج الريح من خزائنه" "مز 531" وفى سورة الحجر يقول الحق تبارك وتعالى "وارسلنا الرياح لواقح" "22" و"ان من شيء الا عندنا خزائنه" "21".
اللهم اهدنا واهدي بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى
واجعلنا اللهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
اللهم آمين يارب العالمين
================
الرد على زكريا بطرس في اثبات التجسد من القران
اقتباس:
** المذيع : نرجو من قدسك أن تشرح لنا كيف أن المسيح هو الله الذى ظهر فى الجسد نرجو إيضاحاً أكثر .(4/36)
** زكريا : لقد قلنا قبلاً أن الله فى الكتاب المقدس ظهر فى صورة مادية ، فيقول أن الله ظهر لموسى فى العليقة أى شجرة ، ونفس الشئ ذكر فى القرآن فى سورة القصص وسورة طه وسورة النمل الذى يقول فيها " هل آتاك حديث موسى إنقضى الأجل وصار بأهله فأنس من جانب الطور ناراً فقال لأهله أمكثوا فأنى آنست ناراً لعلى آتيكم بخبر منها أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ، فلما آتاها نودى من شاطئ الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة . وهنا بالتحديد يتكلم من شاطئ الوادى الأيمن وليس من السماء وفى البقعة المباركة من الشجرة بمعنى أكثر تحديداً يقول يا موسى إنى أنا الله رب العالمين أخلع نعليك لأنى بوادى المقدس طوى . وطوى هنا اسم الوادى وأضيفت إليها فى سورة طه لا إله إلا أنا وفى سورة النمل يضيف إليها بورك من فى النار ومن حولها !!
فمن إذن فى النار ومن حولها ونلاحظ هنا استخدام كل أدوات التأكيد منها إن التأكيدية .. ففى الآية يقول إنى أنا الله رب العالمين وهناك أسلوب أخر فى التوكيد وهو تكرار الكلمة إنى أنا والياء فى " إنى " ضمير المتكلم يؤكدها مرة أخرى بأنا وهذا تكرار لضمير المتكلم والمفروض فى الحالة العادية يقول أنا رب العالمين أو إنى رب العالمين وهناك أسلوب آخر للتوكيد وهو أسلوب القصر فى لا إله إلا أنا بمعنىأنه لا يوجدإله آخر إلا أنا الله .. فمثلاً نقول ما هذا إلا كوب . أى أنه ليس شئ أخر غير أنه كوب وهذا هو لا إله إلا أنا .
ونلاحظ هنا استخدام أدوات التأكيد فى أن وتكرار الكلمة وأسلوب القصر . إذن الله ظهر فى الشجرة .
والمعتزلة هنا يقولون أن كلام تجسد فى الشجرة وتكلم منها كمثل تجلى الله فى الجبل وتكلم منه وإذا تجلى فى الجبل والشجرة وتكلم منها فهل هذا صعب وعسير أن تجلى فى إنسان ؟ فهل هذا كفر ؟
وهناك فريق إسلامى يقول أن هذا ليس كفر ولا إله إلا الله مثل أهل الناصرية والإسحاقية فى كتاب الملل والأهواء والنِحَل الجزء الثانى صفحة 25 يقولون أن الظهور الروحانى بالجسد الجسمانى لا ينكره عاقل كظهور جبريل وهو روحانى فى صورة إعرابى وتمثله فى صورة البشر والأحاديث النبوية تقول أن جبريل كان يظهر للرسول فى صورة طحية الكلبى يعنى فى صورة إنسان كامل وهنا نقول أن أهل النصيرية والإسحاقية يؤيدون الظهور الروحانى فى صورة جسد وهذا ممكن جداً ولا ينكره عاقل ..
وفى سورة مريم 19 أيضاً . وأذكر فى الكتاب مريم إذ أنتبذت من أهلها أى ( اعتزلت ) مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً أى " ستراً " فأرسلنا لها روحنا أى " الذين يقولون عليه جبريل " فتمثل لها بشراً سوياً أى إنسان كامل أى أخذ صورة إنسان كامل وهنا الملاك وهو روحانى أخذ صورة إنسان كامل مادى بشرى وهذا ما ينادى به أهل النصيرية وعلى ذلك خلصوا إلى هذا القول أن الله تعالى قد ظهر بصورة أشخاص .
إذن القرآن يشهد أن الله يظهر فى صورة جسد وأهل العلم والمعرفة يشهدوا أيضاً بذلك ولا ينكره عاقل والآن لماذا يستبعد الأخ المسلم هذه الفكرة ؟ أتعرف لماذا ؟ لأنه لا يدرس ولا يقرأ ولا يبحث والقضية هنا هى ضحالة المعرفة والأخ المسلم بكل أسف شديد أنه نشأ كده وتربى كده وعرف كده وهذه أمور مسلمات ولا يوجد فيها نقاش وهى غير قابلة للتفكير ومن صغره أفهموه أن النصارى كفرة ومُشركين ويعبدون إنسان يأكل ويشرب وينام ويعمل كذا وكذا وهكذا أُغلقت الأمخاخ … لا لا لا أنتم كفرة .
للرد على هذا الكلام يجب أولاً أن أنصح الجميع بالتعامل مع زكريا بطرس على أنه إنسان مريض بمرض عقلي فريد من نوعه .
فلو نظرنا لقصة سيدنا موسى عليه السلام نجد الآتي :
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى - فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (طه10-11)
ثم
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ (القصص30)
فلنعلم أن شاطىء الوادي " جانبه " وجاء النداء عن يمين موسى من شاطىء الوادي من قبل الشجرة وقوله: { مِنَ الشَّجَرَةِ } بدل من قوله: { مِن شَاطِىء الْوَادِى } بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء كقوله:
{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ }[الزخرف: 33]
والبقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطىء الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: « فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى»: طه: 12.(4/37)
و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شيء محيط ، قال تعالى: « و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»: الشورى: 51.
و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به
و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليهم السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ.
و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ .
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ (القصص30)
وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خريطة تفصيلية للمكان .
وبهذا نجد ونفهم ونعقل بأن سيدنا موسى عليه السلام رأي النار تشتعل في فرع من الشجرة ، والنار تزاد أشتعالاً ، والشجرة تزداد خضرة ، فلا النار تحرق الشجرة بحرارتها ولا الشجرة تُطفيء النار برطوبتها فقد أرود ذلك السيوطي في الدر المنثور 6/ 413 وقال بأن موسى عليه السلام آتى الشجرة ليلاً وهي خضراء والنار تتردد فيها فذهب يتناول النار فمالت عنه فذعر وفزع .
فلو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله
فهل الشجرة هي المتكلم وهي الله رب العالمين ؟
ولو أتبعنا أقوال زكريا وأعتبرنا ان هذا الكلام صادر من شخص عاقل : فلماذا تجسد الله باليسوع وأذل نفسه وأصبح سائل منوي ثم حيوان منوي ثم تلقيح بويضة ثم ...ثم .. ثم .. إلى أن تبول وتبرز على نفسه / علماً بأنه كان من السهل على الله أن يتجسد كما تجسد في شجرة .؟
والسؤال : تجلى الله للجبل فأنهار فكيف طاقة الشجرة تجسد الله فيها ؟
وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (الأعراف143)
فكيف تجسد الله بالشجرة بعد ما قيل بسورة الأعراف ؟
يازكريا أبو جهل نحن ندرس ونقرأ ونبحث لكي لا يقال أننا مسلمين بالبطاقة فوجدنا أننا الحق وأنتم على الباطل لأنكم تفسرون القرآن على آهوائكم
لأن الأفضل أن تثبت التجسد من كتابك وليس من كتاب المسلمين لأنك لو قرأت العهد القديم لوجدت أن الله لم يظهر لموسى ولم يتجسد في الشجرة فلماذا تريد أن تثبت ذلك من القرآن بالباطل إلا انك تحاول بأن تلعب بالنار التي تحرقك بكشف المسلمين كذبك .
سفر خروج
33: 20 و قال لا تقدر ان ترى وجهي لان الانسان لا يراني و يعيش
سفر التثنية
5: 24 و قلتم هوذا الرب الهنا قد ارانا مجده و عظمته وسمعنا صوته من وسط النار هذا اليوم قد راينا ان الله يكلم الانسان و يحيا
======================
هل يوجد ثالوث في القرآن ؟
استشهد زكريا بطرس بايه في القران بوجود الثالوث بل و تفسيره من نفس الايه ومن ايات اخرى من نفس السورة سنجد ان القران يرد عليه بنفسه ولكن افلا يتفكرون.
بعد بحث و محاولات من العبد لله الموحد به و مؤمن بنبيه الكريم خاتم الانبياء و المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و جدت اني لو وجدت ردا سأنشره فورا و عندما بدات البحث بسماع سورة النساء و قراته بكيت لان الرد و الجواب موجود باول سطر و اول اية في السوره الكريمه
تعالوا يا اخواني اطلعكم على ذلك الموضوع لعلي استفيد بارائكم و خبرتكم فانا احبو في دنيا الكتابه فما لكم ان تتصورواخوفي من الكتابه في هذا الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم
} يَا - أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {النساء/170{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ
إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً {النساء/171} لَّن(4/38)
يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا {النساء/172}
لن نغالي في الشرح الايات في تشرح نفسها.........هل اعترف القران بالثالوث ؟؟
في الايه171 من سورة النساء تقول ثالوث تشرحه بكل تفصيلاته تعالوا نشرحها بالارقام عشان نتأكد
بدأنا في شرح الثالوث في الايه بالمسيح أي بلغة الارقام (1)= رسول الله (1)+كلمة الله(1)+روح الله(1)=(3)
وسوف نرى انه في سورة البقرة الاية رقم87
"وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ"
عشان لو فيه حد عنده اعتراض على روح الله
نرجع للمعادلة
المسيح عيسى ابن مريم الرسول الكلمه الروح القدس
1 = 3
وهنا ذكر الواحد انه المسيح و( ليس الله) الرسول الكلمه(نطق في المهد و ذللك اية للكافرين ) وايدناه بالروح القدس , دعنا نرى ما الروح القدس هى احدى صفات الله و ليست الله فالله اكبر من ان تكون كل صفاته هي الروح القدس لكنها من الصفات القوية التى يمكنها جعل البشر يؤمنوا به فقد نزل المسيح على بني اسرائيل الذي فضلهم على الامم و لكن زاد طغيانهم فما فانزل الروح القدس لتأييد الرسول الكلمه ولكن بعد كل هذا (اقراء المكتوب باللون الاسود بعد الاية الخاصة بالثالوث) تقولون انه ثالث ثلاثه الهاء تعود على الله امزلتم تعبدون المعجزه بدل المستحق المعبود الاله الواحد الملك القدوس الرحيم النور كلها صفات لله و كلها تذكرنا بالمعجزة التي بين ايديكم معجزة الثالوث مثل معجزات كثيره وهبها الله لانبائه لكن الله جعل وجود المسيح نفسه معجزة (الثالوث) انتم لا ترون في القران معجزه سأريكم المعجزه
بدأ الله السورة المنيرة بالتالي:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ
الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {النساء/1} وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا {النساء/2
معنى حوبا : اثم كبير
بعد بحث طويل و جدت ان هناك اشياء في وزن الكلام بالقران به اسرار كثيرة
فمثلا لو اخذنا ختام الايتين
ان الله كان عليكم رقيبا
2 4 3 5 5
مجموع الارقام = 19
انه كان حوبا كبيرا
3 3 4 5
مجموع الارقام = 15
في الايه الاولى يصف الله فيه نفسه رقيبا على الناس اي صفه له وقد قال تعالى رقيبا و ليس الرقيب في هذه الجمله و ذكر اسمه ايضا الله اي انه الله بكل صفاته الا محدوده رقيبا (احدى صفاته) و نحن قلنا ان الله أخبرهم بمعنى الثالوث المذكور انه معجزه فقط ليس غير ذللك و اليكم المعجزه هنا معجزه
في الايه الثانية يصف فعل الناس باكل مال اليتيم بالاثم الكبير
تمام ؟؟ فما دخل ذلك بالثالوث و القران ؟؟؟
الثالوث معادله 3=1
اي لو ادخلنا الرقمين بصوره او باخرى على الارقام في الايتين يجب ان نكون لنا وقفة فالمعادله الثلاثة يساوا واحد و احنا نعرف ان الواحد بيساوي و احد
طب لو خدنا 3 من الايه التي تصف الله بصفه ( غير صفة الروح القدس معنى ذللك تعدد صفاته الا محدوده)
19-3=16
و لو اضفنا واحد علي ارقام الايه التى وصف الله بها الناس
15+1=16
16 =16(معادله يفهمها البشر)
وصلت يعني لو ربنا جعل المسيح (1 ) معجزه بين الناس نتاج عن( 3)الرسول والكلمه و الروح القدس (من صفات الله) نصل ان الثالوث معجزه فقط كمعجزات القران فوزن اليه الولى نفس و زن الثانية بمعادلة الثالوث
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا{النساء/174}
من نفس السورة اية174
وقد استهل الله اياته كما نرى في السورة ب:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ
الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {النساء/1}
اهى مصادفة ان يبدا الله السورة بتذكير الناس انهم من نفس و احد (ادم عليه السلام) الذي نفخ الله فيه من روحه و يتحدث في اخر الصوره عن الثالوث المعجزة عيسى بن مريم عليه السلام
اهي مصادفة الوزن ايضا 16=16(4/39)
كيف بعد كل هذا تقولون ان القران من تاليف بشر او وحي الشيطان من يستطيع من الجن و الانس ان ياتي بمثل هذا الكلام المرتب المحكوم الله خلق لنا العقل لنعرفه و هذا ما يميزنا عن باقي المخلوقات والعقل صفه اهداه الله لنا عندما نفخ في ادم من روحه فقد كان اول اختبار لادم هو اختبار العقل الذى تباهى به الله امام ملائكته ولنا لقاء اخر في هذا الموضوع باذن الله.
بقلم الاخ عبد القدوس
=================
فى الإتيان بمثله
سأنقل لك الشبهة كما جاءت وبعد ذلك نبدأ بالرد على ما جاءبها من أكاذيب
الحاسم فى الإتيان بمثله
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
(يونس:38)
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور:34)
إليك التحدي الذي تريده هذه الآيات:
سورة التراب
لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَال ( 1) ٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَاب( 2) وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَاب ( 3)َ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 4 ) فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( 5) *
سورة الخلع
( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك و تثنى عليك الخير كله نشكرك ولا نكفرك ونترك ونخلع من يفجرك)
ومعنى نخلع من يفجرك: نترك من يعصيك ويلحد فى صفاتك.
سورة الحفد
( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلى ونسجد واليك نسعى و نحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق)
معنى نحفد: نبادر ونسارع الى طاعتك.
فهل ترى هذه الآيات بالقران؟؟؟ طبعاً لا.
إذن أنا أتيت لك بمثله وهى آيات عددها اكبر من سورة الكوثر بالقران .. فما تعليقك على هذا الإتيان بمثله الذي أتيت لك به؟؟؟
أسئلة:
السؤال الاول: ان سورة الحفد وسورة الخلع هم مجرد دعاء.
الإجابة: وماذا فى ذلك ؟؟ ان سورة الفاتحة فى القران هى كلها مجرد دعاء فقط ايضا .. وتجد بالقران الكثير من آيات الدعاء ايضا المتفرقه هنا وهناك مثلا:
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (ابراهيم:40)
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)
(آل عمران:38)
فآيات الدعاء هى قران ايضاً... فالدعاء لا يعنى انه ليس قران ...
وتقدر ان تقول أننا آتينا بمثل سورة الفاتحة.
السؤال الثانى: هذه السور هى تندرج تحت بند الناسخ والمنسوخ.
الإجابة: الناسخ والمنسوخ هو فى الأحكام ولكن بكل تأكيد لا يوجد فى الأخبار او القصص او الدعاء
ان الله فى القران يغير من كلامه فى الأحكام مثلا تغيير عدة المتوفى زوجها حيث إن الله أمر المتوفَّى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشراً-
أمر بالعدّة أن تكون حولاً كاملاً في قوله: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ ; (البقرة 2: 240) هذه الآية منسوخة بآيةٍ سبقتها هي: “وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ; (2: 234).
وايضا الناسخ والمنسوخ حيث يقولون قصد به الله التدريج كما ترى فى :
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (لأنفال:65)
وهنا يعد الله المؤمنين بأنة 20 منهم يغلبون 200 وال100 يغلبون 1000 وعندما طبق نبى الاسلام هذة الآية وجد الهزيمة فماذا يفعل ؟؟؟ تنزل آية مضادة للماضية.
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
(لأنفال:66)
وهنا صحح الله الوضع.(4/40)
وحتى النبى المعصوم تم تغيير حكم الله فى ( الأحزاب 52) حيث يقول الله لرسوله ( لايحل لك النساء من بعد ولا ان تبدل بهن من ازواج ولو اعجبك حسنهن ) وهنا نهى تام عن الزواج غير ان الله رجع فى كلامة وبدل هذا بأمر مناقض هو الآية 50 ( انا احللنا لك ازواجك ) الى قولة (وامراة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبى ان اراد النبى ان يستنكحها ) فقارن معى القول ( لا يحل لك) بالقول( انا احللنا لك) والغريب جدا ان التحليل اتى اولا ثم التحريم اتى بعد ذلك ويكون المنسوخ اولا ثم الناسخ بعد ذلك.
لكن من المستحيل التصديق بان دعاء مثل سورة الخلع وسورة الحفد يمكن ان ينسخه ويلغيه الله !!!!! او كلام ليس به اى أحكام مثل سورة التراب يمكن ان ينسخه اى يلغيه الله .. هل الله بيحب النسخ والالغاء هكذا بدون اى سبب؟؟ ونلاحظ ان الله اذا نسخ امرا اعطى بديل له ولكن فى الخلع والحفد لم يعطى بديل.
هل تقول أن هاتين السورتين منسوختين عزيزي القارى؟؟؟
فانا اقول لك أستغرب جدا هذا ... لماذا؟
و ما الداعي لنسخهما؟
فهما لم تحملا أي من الأحكام التي احتاجت لظرف ما أن تُنسَخ.
فهل يمكن أن ننسخ الاستعانة بالله والاستغفار والثناء عليه و عدم الكفر به ؟؟؟ هذا بالنسبة للخلع مثلاً.
مراجع :
سورتي الخلع والحفد :
ذكر الحافظ السيوطي في ( الإتقان ) سورتين سمّاها: ( الحفد ) و ( الخلع ) وروى أنّ السورتين كانتا ثابتتين في مصحف اُبيّ بن كعب ومصحف ابن عبّاس، وأنّ أمير المؤمنين علّمهما عبدالله الغافقي، وأنّ عمر بن الخطّاب قنت بهما في صلاته، ... وأنّ أبا موسى كان يقرؤهما (الإتقان في علوم القرآن 1 : 226.)
سورة التراب
هناك أحاديث واردة حول سورة كانوا يشبّهونها في الطول والشدّة بسورة براءة، ومنها :
ما رواه مسلم في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والسيوطي في الدّر المنثور عن مسلم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي، عن أبي موسى الأشعري، أنّه قال لقرّاء أهل البصرة: « وإنّا كنّا نقرأ سورة كنا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فنسيتها غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلاّ التراب ») صحيح مسلم 2 : 726 ح 1050 ، المستدرك على الصحيحين 2 : 224 ، الدر المنثور .
(البخارى كتاب الرقاق 5957 حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَا أَدْرِي مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ *)
فيقول هنا ابن عباس فى حديث البخارى السابق انه لا يعرف هذه الآيات ان كانت من القران ام لا .. ولو كان القران معجزة قاهرة واضحة ولم يعرف العرب ان يأتوا بمثلها فكيف لا يعرف ابن عباس القران المعجزة من الغير معجزة؟؟؟ فواضح هنا ان القران ليس معجزة ويوجد مثله لان المعجزة تكون واضحة ظاهرة تماما بحيث يسهل جدا معرفتها وإيضاحها.. وإلا كان ابن عباس يكون واثقا كل الثقة مفرقا بوضوح بين القران وبين غيره.
المشكلة أن القرآن يقرر سلفاً أن الإنسان لن يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ، فنجده يقول :
(لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)
(وَلَنْ تَفْعَلُوا)
و هذا نوع من الرفض المسبَق يجب أن ننبه له .
فهو يشبه من قول المتنبي : "لا أحد يستطيع أن يكتب بطريقتي ، و لن يستطيع أحد أن يكتب عشر قصائد ، بل قصيدة مثل قصائدي "
المشكلة أن المعيار هنا هو معيار المتنبي الشخصي تماماً، فكلما جئناه بقصيدة على غرار قصائده، ابتسم لنا ساخراً وقال هذه لا تصل إلى كعب قصائدي، وهكذا يفعل من يؤمنون بشِعرِه مهما كتبتَ لهم من قصائد تشبه قصائد المتنبي أو تفوقها جودة و بلاغة، سيبقى ردهم أبدا ودائماً (هه، هذه تزويرات مفضوحة و لا تصل إلى كعب المتنبي)، لأنهم يؤمنون إيمان كامل أن المتنبي قال: "لا أحد يستطيع أن يكتب بطريقتي، ولن يستطيع أحد أن يكتب عشر قصائد، بل قصيدة مثل قصائدي " .
ويمكنك أن تقيس على كل الأدباء المميزين بلغتهم وأساليبهم الخاصة بنفس الطريقة .
فالشاعر نزار قباني مثلاً سيقول لك أن شعره أجمل شعر في العالم، و كلما أتيت له بقصيدة لو كانت للمتنبي، سيقول لك هي جميلة لكني شعري أجمل. و هكذا الحال مع تلاميذه ومعجبيه .(4/41)
لذلك أقول، أن الاحتكام إلى المؤلف نفسه أو الأتباع في تقرير الأبلغ والأجمل والأجوَد هو احتكام غير صحيح، وهو يشبه أن يقول أحدهم أن القران ليس من عند الله، فيردّ عليه شخص بأن الله قال أنه تنزيلٌ من رب العالمين، فهذا استدلال فاسد، لأن الشيء لا يكون شاهداً على نفسه .
من هنا نستنتج أن ما سيُكتَب من آيات تحاكي أسلوب القرآن سيكون رفضها قاطع سلفاً من الأخوة المسلمين خصوصاً لأنهم يتحلّون بثقة كاملة في استحالة خروج نص يشبه القرآن، لكننا غير مُجبرين باتباع مقاييسهم الشخصية .
ولو قال أحدهم أن الكفار نفسهم شهدوا ببلاغة القرآن، سنقول أنهم قالوا :
أنه كلامٌ بشريٌ عادي: "إن هو إلا قول البشر " المدثر 25
وأن محمداً مجنوناً: "وما صاحبكم بمجنون" التكوير 22 ، "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" القلم 2 ، "
ويقولون إنه لمجنون " القلم 51
وشاعراً: "و ما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون " الحاقة 41
وكاهناً: " و لا بقول كاهنٍ قليلاً ما تذكّرون " الحاقة 42
ومفترى : " يقولون افتراه " هود 13
وأن القرآن أساطير الأولين : " إذا تُتلى عليه ياتنا قال أساطير الأولين " المطففين 13 + القلم 15
" قرآناً عجبا " سورة الجن : هذا رأي الجن به ، لكن كيف يمكن أن نحتكم إلى الجن .
وساحراً: " إن هو إلا سحرٌ يؤثر" المدثر 24
فهذا هو رأي أهل قريش في القرآن، أثبتها القرآن في رده عليهم، وكلها آراء لا تمنح النص القرآني أي إعجاز، اللهم إلا قولهم أنه سحر .
و هل إذا سحر النصُّ القارئَ يعني أنه وحيٌ من عندِ الله ؟؟؟ ليس بالضرورة .
و عندما ينقل لنا التاريخ الإسلامي محاولات الأقدمين في تقليد القرآن، نجده يذكر لنا قصص مضحكة تشبه تلك التي نقلوها عن مسيلمة حين قال يحاكي القرآن :
الفيل وما ادراك ما الفيل
الفيل ،له خرطوم طويل
الضفدع له نقيع ينقع
و الوبر كذا و كذا
ثم يضحكون رضاً و فرحاً ويحمدون الله أن المحاولة فاشلة مضحكة .
ويتناسون إن أي قصيدة إذا حاولت أن تأتى بمثلها قالوا عليك نفس ما يقولونه تماما عندما تأتى بمثل القران فيقولون بان التقليد هنا هو محاولة فاشلة.
فارجو ان يأتي أحد ببيت من أي قصيدة تعجبه ثم يأتي ببيت مثله متطابق تمام الانطباق من جميع الاتجاهات وان لم يستطع فتكون هذه القصيدة معجزة لانهم لم يقدروا على الإتيان بمثله.
مثلا هل تقدر ان تأتى لي بمثل هذا البيت :
( وقف الخلق ينظرون جميعا ... كيف أبني قواعد المجد وحدي )
ومثلا تتكرر بالقران ستة مرات آية هى ( الم) (البقرة:1) فأنا أعطيك آية من عندي من تأليفي هي ( س ص ع ) او ( ك ل م ) فهل تريني كيف تقدر على الإتيان بمثلها ؟؟
فان لم تقدر ان تأتى بمثلها ... أكون قد أعطيتك آية معجزة.
وان أتيت بمثلها سأرى كيف فعلت ذلك وسأفعل نفس فعلتك تماما واتبع نفس الطريقة وأعطيك آية هي مثل( الم ) القرآنية .. وبذلك أكون قد أتيت لك بمثله.
وهذا كمثال لآيات قرآنية كثيرة.
نبدأ بالرد : بسم الله الرحمن الرحيم
قول الحق سبحانه (بمثل) . معناها أن الحق سبحانه وتعالى يطلب المثيل ولا يطلب نص القرآن وهذا إمعان وزيادة في إظهار عجز القوم الذين لا يؤمنون بالله ويشككون في القرآن.
وقوله تعالى: "وأدعو شهداءكم".
معناه أن الله سبحانه وتعالى زيادة في التحدي يطالبهم بأن يأتوا هم بالشهداء ويعرضوا عليهم الآية ليحكم هؤلاء الشهود إذا كان ما جاءوا به مثل القرآن أم لا. أليس هذا إظهار منتهى القوة لله سبحانه وتعالى لأنه لم يشترط شهداء من الملائكة ولا شهداء من الذين اشتهر عنهم الصدق. وأنهم يشهدون بالحق. بل ترك الحق سبحانه لهم أن يأتوا بالشهداء وهؤلاء الشهداء لن يستطيعوا أن يشهدوا أن كلام هؤلاء المشككين يماثل سورة من القرآن. الله سبحانه وتعالى طلب منهم أن يأتوا بأي شهداء متحيزين لهم.
ولكن إياكم أن تقولوا يشهد الله بأن ما جئنا به مثل القرآن. لأنكم تكونون قد كذبتم على الله وادعيتم شيئا لم يقله سبحانه وتعالى .
قال تعالى ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب لا يفلحون . متاع قليل ولهم عذاب أليم )
فالصدق أن تتطابق النسبة الكلامية والنسبة الواقعية. "والكذب" ألا تتطابق النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية .. هذا المفهوم ضرورة لعرض معنى الآيات الكريمة.
إذن فقوله تعالى "صادقين" أي أن تتطابق النسبة الكلامية التي ستقولونها مع نسبة واقعية تستطيعون أن تدللوا عليها. فإن لم يحدث ذلك فأنتم كاذبون فالله سبحانه وتعالى يريد منكم الدليل على صدقكم .
فأعلنها رسول الله على الملأ بأمر من الله واسمع بها الناس جميعاً؛ لأن القضية قضية تحد للجميع فقال :
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً "الإسراء88" )
ولو نظرنا لما جاء عن المسيحيين بالباطل أعلاه نقول لهم :
من قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط؟(4/42)
لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقية للدعوة الأولى، هؤلاء الذين سيحملون عبء الدعوة، ويسيحون بها في شتى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر.
فالغيبيات التي يخبرنا بها، والكونيات التي يحدثنا عنها، والتي لم تكن معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن، وهو منزل على نبي أمي، وفي أمة أمية غير مثقفة، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، ومازلنا حتى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أن يكشف لنا عن معناها.
وفي الماضي القريب توصل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله:
{فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره "7" ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "8"} (سورة الزلزلة)
وبتقدم وسائل البحث توصلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة، فظن البعض أن هذه لا ذكر لها في القرآن، وظنوا أنهم تصيدوا على القرآن مأخذاً، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى:
{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين "61" } (سورة يونس)
والقرآن يقول (أصغر) لا صغير، فلو فتتنا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله، ألا ترى في ذلك إعجازاً؟
فالتحدي أن يأتوا (بمثله) لأنه لا يمكن أن يأتوا به نفسه مرة أخرى؛ لأن الواقع لا يقع مرتين.
إذن: المتصور في مجال التحدي أن يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلاشك أن المشبه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أولى
فالحق سبحانه في قوله:
{لا يأتون بمثله .. "88"} (سورة الإسراء)
لا ينفي عنهم أن يأتوا بقرآن، بل بمثل القرآن، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة، فهل يقدرون على الأصل؟!
فالمتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب للتحدي، وهذا التنزل يدل على ارتقاء التحدي، فبعد أن تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن، تحداهم بعشر سور، ثم تحداهم بسورة واحدة، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي، فلاشك أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن.
وهذا التنزيل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات، فنقول: صعد إلى الهاوية، وانحدر إلى القمة. ومع هذا التنزل لم يستطيعوا الإتيان بمثل آية واحدة من كتاب الله.
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدي، فليس الهدف منه تعجيز القوم، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخلق، فالجميع أمام الإله الواحد سواء، وهذه هي القضية التي تزعجهم وتقض مضاجعهم، والقرآن سيثبت لهم صدق محمد، وسيرفع من مكانته بين القوم .
فنكرر قول :
إذن: المتصور في مجال التحدي أن يأتوا بمثله، فلو قلت: هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلاشك أن المشبه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أولى
المصدر خواطر الشيخ الشعراوي
============
خرافة الإسلام المعتدل
العنف النصرانى فى التاريخ
"القول بأن الإسلام المعتدل خرافة هو الخرافة"
بقلم: فنسينزو أوليفيتى (مؤلف كتاب "مصدر الإرهاب- العقيدة الوهابية السلفية وعواقبها")
ترجمه عن الإنجليزية د. إبراهيم عوض
فى مقال نُشِر مؤخرًا فى مجلة "السِّبِكْتِيتَرْ" البريطانية يهاجم الزعيم الأنجليكانى باتريك سوكْدِيو المسلمين ودينهم هجوما عنيفا. ترى هل يَثْبُت ما كتبه المؤلف فى ذلك المقال على محك التمحيص؟
الواقع أن مقالة باتريك سوكديو: "خرافة الإسلام المعتدل" فى "السبكتيتر" اللندنية بتاريخ 30 يونيه 2005م تعكس اتجاها خطيرا فى الحرب على الإرهاب، إذ تحت ستار الرغبة فى تعريف الغربيين بالإسلام نجده ينشر نفس التضليل الذى تقوم عليه الكتابات العدائية لذلك الدين على مدار أكثر من ألف عام، وهذا من شأنه أن يكون أداة مباشرة فى يد أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوى وغيرهما، لأنه يشجع فكرة "صراع الحضارات" التى يرغبون فى دوامها على نحوٍ جِدِّ مَقِيت. وإنه لمن المهم جدا أن نعرف الإسلام على نحو أفضل مما نعرفه الآن وأن نكافح وباء التطرف بكل ما فى أيدينا من إمكانات. بيد أن سوكْدِيو وأمثاله يفسدون القضية بطريقتهم التى يَسْعَوْن من ورائها إلى خدمة أغراضهم هم، وذلك من خلال تحويل الحرب على الإرهاب إلى إشعال حرب دينية على الإسلام ذاته.
العنف الإسلامى:(4/43)
ويتضح انحياز سوكْدِيو منذ البداية، فهو يزعم أن الإرهابيين يمثلون الإسلام حقا، إذ يقول: "ينبغى علينا أن نصدقهم إذا قالوا إنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام. أليس من الغطرسة الشديدة والتنكر التام لليبرالية أن ننكر عليهم الحق فى تعريف أنفسهم بأنفسهم؟". أما فى باقى المقالة فهو يبذل جهدا مكثفا لإنكار حق التعريف الذاتى على سائر المسلمين الآخرين الذين يقولون إنهم يرفضون التفاسير المتطرفة للإسلام. والحقيقة أن 5% فحسب من المسلمين هم الذين يمكن تصنيفهم على أنهم أصوليون، وأن 1., . % فقط من هؤلاء الخمسة فى المائة يُبْدُون قدرا من الميل نحو ممارسة الإرهاب أو "العنف الدينى". إنها إذن "قمة التنكر للّيبرالية" أن نعرّف نحو المليار وثلث المليار من المسلمين بأنهم إرهابيون رغم أنهم لا صلة بينهم وبين "العنف الدينى" بأى حال، لمجرد أخطاء يرتكبها هامش ضئيل لا يزيد عن 005,. %. وعلى أكثر تقدير فإن واحدا فقط من كل 200000 مسلم يمكن اتهامه بالإرهاب. أى أن كل ما هنالك من إرهابيين فى العالم لا يزيدون عن 65 ألفا ليس إلا، وهو تقريبا نفس عدد القتلة الطُّلَقاء فى الولايات المتحدة وحدها، فضلا عن أكثر من 200 ألف قاتل أمريكى فى العام الواحد فى أمة تعدادها لا يتجاوز 300 مليون نسمة.
ويدعى سوكْدِيو أن على المسلمين "الالتزام بالصدق والإقرار بالعنف الذى يصبغ تاريخهم". ومع ذلك فحين نأخذ فى الاعتبار أن معظم الكتب التى تتحدث عن اعتداءات المسلمين قد كُتِبت بأقلامٍ مسلمةٍ كان من الصعب القول بأن المسلمين بوجه عام قد اختاروا تجاهل الفظائع التى ارتكبوها فى الماضى. وبطبيعة الحال هناك مسلمون ينكرون بعضا من ذلك الماضى، بالضبط مثلما أن هناك بريطانيين لا يزالون ينكرون فظائع الحقبة الاستعمارية، ومثلما أن هناك أمريكيين ينكرون المجازر التى اجترحوها فى حق سكان أمريكا الأصليين، ومثلما أن هناك ألمانًا ينكرون المحرقة التى قضت على ستة ملايين يهودى. إلا أن الحقيقة المرة مع ذلك كله تقول إن الحضارة النصرانية قد ارتكبت من الفظائع ما يزيد كثيرا جدا على ما ارتكبته الحضارة الإسلامية، حتى لو وضعنا فى الحسبان التعداد الأكبر الذى بلغه أصحابها والعمر الأطول الذى استغرقه تاريخها.
العنف النصرانى:
الحق أنه لا وجود فى أى مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامى لمثل ذلك المبدإ الذى كان ينادى به القديس أوغسطين، وهو : "عليكم أن تنصِّروهم قَسْرًا وإكراهًا". بل إن القرآن ليقول العكس من ذلك تماما كما فى الآية السادسة والخمسين بعد المائتين من سورة "البقرة"، ونصها: "لا إكراه فى الدين". لقد أدت فكرة أوغسطين المرعبة التى توجب إكراه الجميع على "التطابق" مع "العقيدة النصرانية الصحيحة" إلى قرون من سفك الدماء الذى ليس له فى تاريخ البشرية نظير. أجل، لقد عانى النصارى أثناء سلطان الحضارة النصرانية أكثر مما عانَوْا تحت سلطان الرومان قبل مجىء النصرانية أو أى سلطان آخر طوال التاريخ. لقد تجرع الملايين غصص التعذيب وذُبِحوا ذبحا باسم النصرانية أثناء البدع الآريوسية والدوناتية والألبيجينية، ودعنا من محاكم التفتيش المختلفة أو الحروب الصليبية التى كانت الجيوش الأوربية تقول فيها وهى تجزر رقاب المسلمين والنصارى معا: "اقتلوهم عن بَكْرة أبيهم، ولسوف يميز الله من يخصّونه ممن لا يخصّونه". وغَنِىٌّ عن القول أن هذه الاعتداءات التى قام بها النصارى، بل كل الاعتداءات النصرانية على مدار التاريخ، لا صلة بينها على الإطلاق وبين السيد المسيح أو حتى بينها وبين الأناجيل كما نعرفها. أجل لا يوجد مسلم واحد يمكن أن يؤاخذ السيد المسيح (الكلمة التى صارت جسدا بالنسبة للنصارى والمسلمين جميعا)، فكيف إذن تواتى سوكْدِيو نفسُه على محاسبة القرآن (كلمة الله التى صارت كتابا بالنسبة للمسلمين) على الاعتداءات الإسلامية (التى تقلّ كثيرا جدا عن نظيرتها النصرانية)؟
والواقع أن ذلك العنف الأعمى الذى لا يعرف التمييز لا يقتصر البتة على "عصور الظلام" فى أوربا أو على فترة واحدة من التاريخ النصرانى دون سواها، فحركات الإصلاح الدينى والحركات المضادة لها قد دفعت كلتاهما بالمجازر التى ارتكبها النصارى بعضهم فى حق بعضهم إلى آمادٍ قياسيةٍ غير مسبوقة، إذ تمت إبادة ثلثى النصارى فى أوربا خلال تلك الفترة. ثم لا ينبغى أن ننسى الحروب النابليونية من 1792 إلى 1815م، ولا تجارة الرقيق الأفريقى التى حصدت أرواح عشرة ملايين إنسان، أو الغزو الاستعمارى المتلاحق، فضلا عن الحروب والبرامج والثورات والإبادات الأخرى. إن أعداد السكان الأصليين الذين أبيدوا فى شمال أمريكا ووسطها وجنوبها لترتفع إلى رقم العشرين مليونا فى خلال ثلاثة أجيال لا غير.(4/44)
وبالإضافة إلى ألوان التخريب والعنف الأوربى فى الماضى، أخذت الحضارة الغربية الحروب مرة أخرى إلى مسافاتٍ لم تعرفها البشرية من قبل حتى إن أحد الإحصاءات المتحفظة ليصل بعدد المقتولين قتلا وحشيا فى القرن العشرين إلى أكثر من مائتين وخمسين مليونا يتحمل المسلمون منها وِزْر أقل من عشرة ملايين ليس إلا، على حين يُسْأَل النصارى أو المنتمون إلى النصرانية عن مائتى مليون من ذلك العدد. و يعود معظم أعداد هؤلاء القتلى إلى الحرب العالمية الأولى (20 مليونا، 90 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى") والحرب العالمية الثانية (90 مليونا، 50 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى"، أما الباقى فقد وقع أغلبه فى الشرق الأقصى). وبالتأمل فى ذلك التاريخ المرعب يجب علينا نحن الأوربيين جميعا أن نعى تماما الحقيقة الساطعة التى تؤكد أن الحضارة الإسلامية أقل بما لا يقاس من ناحية القسوة والوحشية من الحضارة النصرانية. ترى هل كانت المحرقة التى راح ضحيتها 6 ملايين يهودى من صنع حضارة المسلمين؟
وفى القرن العشرين وحده نجد أن الغربيين والنصارى قد ارتكبوا من جرائم القتل أضعاف ما وقع من الدول الإسلامية عشرين مرة على أقل تقدير. ولقد تسببنا نحن الغربيين فى هذا القرن الذى لم يشهد التاريخ مثله دموية فى إيقاع الإصابات بين المدنيين بما لا يقاس به ما صنعه المسلمون على مدار تاريخهم جميعا: انظر إلى إزهاق أرواح 900000 رواندى عامى 1992م و1995م فى بلدٍ أكثر من 90% من سكانه نصارى، أو انظر إلى إبادة أكثر من 300000 مسلم، وكذلك الاغتصاب المنظم لأكثر من 100000 امرأة مسلمة فى البوسنة، على يد نصارى الصرب. فهذه الحقائق البشعة تقول بلغة الأرقام والإحصاءات التى لا تعرف الكذب إن الحضارة النصرانية هى أشد حضارات التاريخ عنفا ودموية، وإنها مسؤولة عن إزهاق مئات الملايين من الأرواح.
لقد كان إنتاج الأسلحة النووية واستعمالها كفيلا فى حد ذاته بأن يجعل الغرب يتوارى خجلا أمام باقى شعوب العالم: فأمريكا هى التى صنعت الأسلحة النووية، وأمريكا هى الدولة الوحيدة التى استخدمت الأسلحة النووية، والدول الغربية هى التى تسعى إلى الحفاظ على احتكار الأسلحة النووية. وعلى هذا الأساس فليس لنا الحق بتاتا فى الاعتراض على حيازة الدول الأخرى لهذه الأسلحة إلا إذا أثبتنا أننا متجهون إلى التخلص منها تماما.
ولا بد من القول بأن الإسلام، رغم اشتماله على مفهوم الحرب المشروعة دفاعا عن النفس (كما هو الحال فى النصرانية، وكذلك البوذية)، لا مكان فى ثقافته (أو فى أية ثقافة أخرى من الثقافات الموجودة الآن) لإمكانية تحويل العنف إلى مثلٍ أعلى أو جعله وثنا معبودا كما فعلت الثقافة الغربية. إن الغربيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ناس مسالمون، بيد أن الرقة والسموّ اللذين يطبعان الأناجيل بطابعهما، وكذلك الطبيعة المحبة للسلام التى تتسم بها الديموقراطية، ليس لها فى الحقيقة أى انعكاس فى الثقافة الغربية الشعبية إلا على سبيل الندرة. بل على العكس نرى الاتجاه التام لتلك الثقافة، متمثلا فى أفلام هوليوود وبرامج التلفاز الغربية وألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية والمسابقات الرياضية، ينحو منحى تمجيد العنف وتزيينه. ومن ثم فإن المعدلات النسبية لجرائم القتل (وبخاصة القتل العشوائى والقتل المسلسل) فى العالم الغربى (وبالذات فى الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى فى أوربا كلها بصفة عامة) أعلى من مثيلاتها فى العالم الإسلامى فى البلاد التى لا يوجد فيها حروب طائفية، وذلك على الرغم من أن الغرب يتمتع بثروة أضخم كثيرا. ترى هل قرعت سمعَ سوكْدِيو يومًا الكلماتُ التالية من إنجيل متى؟:
"7 1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا،2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ 5يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!".
القرآن واللجوء إلى العنف:(4/45)
ومثل معظم الكتابات الجدلية المعادية للإسلام يشكل باقى مقالة سوكْدِيو خليطا من الحقائق والأوهام. فعلى سبيل المثال يزعم سوكْدِيو أن كثيرا من الآيات القرآنية التى تدعو إلى السلم قد نسختها الآيات التى نزلت بعدها. صحيح أن كثيرا من علماء المسلمين يقولون إن الآيات اللاحقة تنسخ الآيات السابقة، غير أن نطاق النسخ يختلف من عالِمٍ إلى آخَرَ اختلافا بعيدا: فبعض العلماء يرى أن الآيات المنسوخة لا تتجاوز خمس آيات، على حين يرى علماء آخرون أن عدد المنسوخ يتجاوز 150 آية. وعلى ذلك فزَعْم سوكْدِيو بأنه "متى وُجِد تعارض فى الآيات القرآنية كان اللاحق منها ناسخا للسابق" هو تبسيطٌ مُخِلّ. ذلك أن الادعاء بتقدم الآيات الداعية إلى السلم جميعها على الآيات المحبّذة للحرب وانتساخها بها هو، بكل بساطةٍ، ادعاء زائف. فمثلا هناك آيات نزلت فى العامين الأخيرين من حياة محمد (عليه السلام) تنهى المسلمين عن الانتقام ممن أخرجوهم من بيوتهم: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة/ 2)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة/ 8).
ومن الصعوبة بمكان أن يتخيل الواحد منا رسالة أقوى من هذه الرسالة فى الدعوة إلى العدل والعفو والتصالح. وفضلا عن ذلك فكثير من علماء المسلمين يستشهدون بالآيات المبكرة التى تحض على السلام فى دعوتهم للشباب المسلم إلى نبذ تطرف المتطرفين، فهل يُؤْثِر سوكْدِيو أن يُصِيخ الشباب المسلم السمعَ لأولئك الذين يفسرون له تلك الآيات على أنها قد تم نسخها كما يقول؟
ومن اللافت للنظر أن سوكْدِيو، شأنه شأن من يفسرون القرآن من المتطرفين، يسىء الاستشهاد بالآيات القرآنية باقتطاعها عن سياقها الذى وردت فيه، قائلا إن الآيتين التاسعة والخمسين والستين من سورة "الأنفال" تحضان على الإرهاب، رغم أن الآية الأخيرة لا تدعو فى واقع الأمر إلى شىء من هذا، بل تشكل مع الآية التى تعقبها كلا واحدا، ونصها: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا". وبالمناسبة فهذه الآية هى أيضا من الآيات المتأخرة فى النزول. وفى هذا السياق نجد الآية الستين تأمر المسلمين بألا يقفوا موقفا سلبيا تجاه تهديدات عدوهم، ثم تأتى الآية الحادية والستون لرسم حدود هذا الأمر فى الواقع العملى. وعلى هذا فليس فى الآية على الإطلاق أية دعوة إلى الإرهاب. ولربما لو كان سوكْدِيو يلمّ بالعربية إلمامًا جيدًا لكان فهمه للقرآن أفضل، لكنه يفتقر إلى مثل هذا الإلمام المطلوب، وهو ما يجعل من الصعب علينا الاقتناع بما يقوله عن الإسلام وتعاليمه مهما يكن المنصب الذى يشغله أو اللقب الذى يتحلى به.
ويمضى سوكْدِيو قائلا إن الإنسان يمكنه الاختيار بين الآيات التى تحبّذ العنف وتلك التى تدعو إلى السلام. وهذا صحيح، إلا أنه سيكون فى هذه الحالة متسرعا تسرعا شديدا فى القول بأن القرآن يرحب بالعنف أكثر مما يرحب العهد القديم (كما هو الحال مثلا فى سفر "اللاويين" أو سفر "يوشع"). فإذا قلنا إن القرآن يحبذ العنف، فما القول إذن فى نصوص العهد القديم التى تأمر أمرا صريحا بالقتل وإبادة البشر؟ ففى الفقرة رقم 17 من الأصحاح الحادى والثلاثين من سفر "العدد" يقول موسى بشأن الأسرى المديانيين الذين قتل بنو إسرائيل أقاربهم: "فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا". كما أن الفقرات 1- 9 من الأصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول تحكى لنا قصة النبى صموئيل حين أمر الملكَ شاول بمحو العمالقة من الوجود على النحو التالى: "3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا". أما النبى محمد فقد نهى أتباعه عن مثل هذا التطرف قائلا كما جاء فى تفسير ابن كثير للآيات 190- 193 من سورة "البقرة: " اغزوا فى سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع"، ومثله ما ورد فى "المغازى" للواقدى (3/ 117- 118): "اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا تمنَّوْا لقاء العدو".(4/46)
أما الزعم بأن الحرب التى حضت عليها بعض آيات القرآن تسوّغ الأعمال الحربية العدوانية فهو دليل على الجهل بأن المفسرين التقليديين قد ضيّقوا نطاق تلك الآيات. فمثلا هناك الآية الرابعة من سورة "التوبة" التى أسىء تفسيرها فى عصرنا، ونصها: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ". فمن ناحيةٍ نرى المتطرفين يستغلون هذه الآية فى إراقة الدماء البريئة، ومن الناحية الأخرى فإن أعداء الإسلام يستغلونها فى الزعم بأن القرآن إنما هو كتاب عدوانى يحض على شن الحرب دون توقف. لكنْ بالاستناد إلى الروايات التقليدية فإن هذه الآية لا يمكن اتخاذها صَكًّا على بياضٍ لقتال غير المسلمين، إذ لا تَصْدُق فى الواقع إلا على أولئك المشركين الذين ناهضوا المسلمين الأوائل وهددوا وجودهم ذاته تهديدا. وكما قال أحد كبار الفقهاء، وهو أبو بكر بن العربى (من أهل القرنين الحادى عشر والثانى عشر)، فـ"قَوْله تَعَالَى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَرَاهِبٍ وَحُشْوَةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ".
ويمكن المضىّ فى الاستشهاد بهذه التفسيرات إلى ما لا نهاية. ومنها يتبين بكل وضوح أن تسوية سوكْدِيو بين "المسلمين المتشددين" و"علماء المسلمين القدامى" الذين يقولون إن "الإسلام هو دين السيف" ليست متهافتةً فقط بل تشويهًا مطلق للحقائق. وعلى هذا فإما أن سوكْدِيو غير مؤهل لتحليل التراث الإسلامى والمقارنة بينه وبين الانحرافات الحديثة، وإما أنه يحرّف على نحوٍ متعمدٍ تعاليم الإسلام، وهو فى الحالتين يبرهن على أنه غير جدير بالثقة بتةً.
العِلْم المُرِيب:
ويتبدى العلم المريب عند سوكديو خلال مقالته كلها، وبخاصة عندما يستخدم التفرقة البالية بين مصطلحَىْ "دار الإسلام" و"دار الحرب" من أجل الزعم بأن المسلمين لا يقبلون شيئا سوى الحرب أو النصر. وهذا المصطلحان هما فعلا مصطلحان قديمان مهمان، إلا أن علماء المسلمين قد ذكروا أيضا عددا من الدُّور الأخرى بين هاتين الدارين: فبعضهم يذكر ثلاثا، وبعضهم يذكر خمسا، وبعضهم يذكر سبعا. وفى العصر الحديث نجد أن أغلبية علماء المسلمين ينظرون إلى أوربا وأمريكا بوصفهما "دار صلح"، وهو ما يعنى أن المسلم بإمكانه أن تقوم بينه وبين ذلك العالم علاقات على عدة مستويات، وأنه ينبغى عليه التقيد بقانون تلك البلاد متى ما قرر الإقامة فيها أو القيام بزيارتها. وبناء على هذه التفرقة رأينا من علماء المسلمين من يُفْتِى بأن بمستطاع المسلم الخدمة فى الجيش الأمريكى حتى عندما يكون ذلك الجيش فى حرب مع الدول الإسلامية الأخرى. لكن من يَسْعَوْن فى إثارة الصراع هم وحدهم الذين يمضون فى تضليل الجمهور من خلال تضييق شُقّة العالم بحيث لا يكون هناك إلا دار الإسلام ودار الحرب.
العِلْم الإسلامى:
كذلك يتضح سوء الفهم لدى سوكْدِيو عندما يتناول بالحديث مؤتمر علماء المسلمين الذى عٌقِد مؤخرا بالأردن، والذى أعلن فى بيانه الأخير معارضته لتكفير المسلم، وحدَّد الشروط التى لا بد من توفرها قبل إصدار أية فتوى. وفى رأيه أن هذا من شأنه "أن يلغى الفتوى القيمة التى أصدرها علماء المسلمين فى إسبانيا باعتبار بن لادن مرتدا". ومع هذا فإن حرب البيانات التى يكفر فيها المسلمون بعضهم بعضا هى بالضبط ما يريده متطرفو القاعدة وأمثالهم. ذلك أنهم، بهذه الطريقة، يمكنهم الحكم بالردة على أى شخص يختلف معهم ويقتلونه. ولا ينبغى أن ننسى أن القاعدة، قبل الحادى عشر من سبتمبر 2001م بيومين اثنين، قد اغتالت أحمد شاه مسعود. ولم تكن هذه مجرد مصادفة، بل كانت مسألة إستراتيجية مقصودة، إذ إنهم بالتخلص من أشد المسلمين التقليديين جاذبية ومقدرة على السيطرة على النفوس فى أفغانستان قد استطاعوا التخلص من أعتى العقبات التى تمنع تشويههم للإسلام، إذ هو القائد المصدَّق الذى كان بمكنته فضح الطبيعة الزائفة لادعائهم بأنهم هم الذين يمثّلون الإسلام.(4/47)
ولكى يمنع الفقهُ الإسلامىُّ التقليدىُّ قَتْلَ البشر من أجل الأخطاء أو الذنوب التافهة فإنه لا يجيز لأى إنسان "حرمان" أى مسلم آخر أو تكفيره فى ذنبٍ اجترحه. وبتأكيد هذا المعنى والقضاء على أية إمكانية لتكفير المسلم فى عصرنا الحالى فإن مؤتمر الملك عبد الله قد جعل العالم أكثر أمانا. ولا يصدق هذا الكلام على المسلمين التقليديين "المعتدلين" فحسب، وهم المسلمون الوحيدون الذين يمكنهم عزل المتطرفين وحماية غير المسلمين من ثَمّ، بل يصدق أيضا على اليهود والنصارى وغيرهم، الذين يَعُدّهم القرآن (وكذلك أكابر الفقهاء القدماء من أمثال الإمام أبى حامد الغزالى) "كتابيين". الواقع أن سوكْديو يريد الإبقاء على هذا "الباب" مفتوحا كى يمكنه إخراج المسلمين الذين يبغضهم من دائرة الإيمان. إنه يريد الإبقاء على هذا "السيف" مصلتا على الرقاب، ناسيا تمام النسيان ما جاء فى إنجيل متى (26/ 52) من أن "كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!".
وبالمثل يكشف سوكْديو عن عجزه التام عن فهم الفقه الإسلامى إذ يتساءل قائلا: "ألا يمكن أن يستدعى الملك عبد الله أعضاء مؤتمره إلى الاجتماع كرة أخرى ويأمرهم أن يصدروا فتوى تحرم العنف ضد غير المسلمين أيضا؟". والحق أن هذا هو ما وقع فعلا حين أعلن العلماء المذكورون أن الفتاوى التى تعضد العنف غير المبرَّر هى فتاوى تنقصها الشرعية، إذ ما من شخص يرتكب عملا من أعمال العنف باسم الإسلام إلا ويحاول أولاً تسويغ عمله من خلال إصدار فتوى وإساءة استعمالها، وما من شخص يرتكب عملا من أعمال الإرهاب إلا وهو مقتنع أن الإرهاب الذى يمارسه له ما يسوغه. لقد أكد المؤتمر أن جميع الفتاوى لا بد أن يحكمها نظام ثلاثى من المراجعات والتوازنات الداخلية، ومن ثم كان لا بد لكل من يريد إصدار فتوى أن يكون متحليا ببعض المواصفات الشخصية والعلمية الصارمة، كما لا بد أن يتبع أحد المذاهب الثمانية المعروفة فى الفقه الإسلامى بحيث لا يجوز إصدار أية فتوى تخرج عن حدود تلك المذاهب، وهو بالضبط ما يريد المتطرفون أن يفعلوه. لقد ضم المؤتمر ما يزيد على 180 من العلماء الكبار ينتمون إلى 45 بلدا إسلاميا، واستصدر 17 فتوى هامة تتعلق بذلك الموضوع من أعظم فقهاء المسلمين فى العالم (بما فيهم شيخ الأزهر وآية الله السيستانى والشيخ يوسف القرضاوى). وبهذا لا يكون المؤتمر قد خلع عن المتطرفين رداء الشرعية فحسب، بل (كما قال فريد زكريا فى "النيوزويك" بتاريخ 18/ 6/ 2005م) يكون أيضا قد "شن هجومًا جَبْهَوِيًّا على الأفكار الدينية التى يقوم عليها فكر القاعدة". وهذا، بكل تأكيد، سلاح حيوى فى الحرب ضد الإرهاب، وهو ما يستحق عليه الملك عبد الله ومؤتمره الثناء والتقريظ.
القضاء على التطرف:
ومع ذلك فلا يبدو أن غرض سوكْدِيو هو عزل المتطرفين والقضاء عليهم، بل تتلخص رغبته فى تشويه معانى القرآن وتحريف التاريخ والإساءة إلى المسلمين المعاصرين، وذلك بغية تعضيد دعواه بأن الإرهاب والتطرف كامنان فى طبيعة الإسلام ذاته. وهذا الأسلوب هو بالضبط الطريق الذى سيؤدى بنا إلى خسران الحرب على الإرهاب. إن الحرب الحقيقية هى حرب الأفكار، والأساس الذى تقوم عليه أفكار بن لادن والزرقاوى وغيرهما هو أنهم يظنون أنهم الممثلون الحقيقيون للإسلام. وقد أكد العلماء المسلمون التقليديون من أرجاء العالم أن مثل هذه العقائد والأعمال المنحرفة تمثل فى الواقع انتهاكا لمبادئ ذلك الدين. ونحن بتعاوننا مع أولئك العلماء التقليديين إنما نساعدهم فى تثبيت الفكر الإسلامى الوسطى التقليدى، كما نفضح أفكار المتطرفين وأعمالهم. وهذا هو أنجع الأسلحة وأكثرها مسالمة وفعالية فى الحرب ضد التفسيرات المتطرفة للإسلام، وإذا لم نستخدمه نكون قد فقدنا الموقع الأفضل فى حرب الأفكار. وبالرد على التطرف بتطرف مثله يكون سوكْدِيو ومن على شاكلته قد أعطوا المتطرفين الفرصة كى يحسموا لصالحهم الجوَّ العامَّ الذى يحدّد علاقة الأديان، ومن ثم يمكنهم أن يقرروا مجرى الأحداث أيضا. وبدلا من تزويدنا بتشخيص واقعى للتحديات التى تواجهنا والحلول السلمية الواقعية التى تصلح لها، فإنهم يريدون استغلال الموقف للعمل على طرح أفكارهم وأوهامهم المعادية للإسلام. وهم بهذا إنما يعملون لا ضد المسلمين والإسلام فحسب، بل ضد الإنسانية جمعاء بما فيها النصارى (بل ضد النصارى فى المقام الأول). نيافةَ الأب سوكْدِيو، هل نقول: إلى الأمام يا جنود النصارى؟
Vincenzo Olivetti is the author of Terror’s Source: The Ideology of Wahabi-Salafism and its Consequences.
====================
الرد على إفتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية ( أسئلة عن الإيمان )
( 1 )
أجوبة عن الإيمان بقلم / مصطفى ثابت
agweba@yahoo.com(4/48)
لوحظ في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تزايد الهجوم على الإسلام، وكأن الإسلام الآن أصبح هو العدو اللدود بعد أن نجح الغرب في القضاء على انتشار الخطر الشيوعي، وبعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وسقط حائط برلين. ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام التي أتاحتها الإنترنت، والمحطات الفضائية، بدأت تُشَن حملة واسعة ضد الإسلام. بدأت بشكل هادئ في أول الأمر، وتحولت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لتكون بأسلوب سافر، وفي كثير من الأحوال بأسلوب سافل أيضا. وأولئك الذين يشنون هذه الحملة الشعواء على الإسلام يتّبعون كل ما لديهم من وسائل، بما في ذلك وسائل التدليس والكذب والخداع والإفك.
ويذكرنا حديث هؤلاء عن الإسلام، وانتقاداتهم لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلاقاته مع أزواجه، بحديث الإفك عن السيدة عائشة، الذي أثاره بعض المنافقين، ووقع فيه أيضا بعض المسلمين. ولا شك أن حديث الإفك ذلك قد أحزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحزن المؤمنين المخلصين، ولكن الله تعالى أظهر الحق في نهاية الأمر، وكشف الكذابين والدجالين والمدلسين والمخادعين. ويُسَرّي الله تعالى عن المسلمين فيقول لهم: { إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[ ثم يقول تعالى في الآية التالية ]لَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ[ (سورة النور: 11-12)
واليوم، نسمع مرة أخرى حديث الإفك، بشكل جديد، وبتكنولوجيا حديثة، وبأسلوب أشد خبثا، وبتدبير أكثر مكرا، ولكنه أولا وأخيرا هو أيضا من حديث الإفك، وسوف يكون مآله بإذن الله تعالى نفس مآل جميع أحاديث الإفك في الماضي، فسوف ينكشف الحق ويظهر صدق الإسلام، وسوف ينكشف أيضا الباطل ويظهر كذب الكذابين.
وفي الحقيقة، إن الحملة الشرسة التي تُوجّه ضد الإسلام اليوم ليست جديدة، وهي ليست سوى معركة في حرب طويلة بدأت بعد عصر النهضة في أوربا. كانت أوربا المسيحية تعيش في عصور الظلام، واستمرت في هذا الحال لمدة ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر. ثم بدأ المارد الذي كان يغط في سُبات عميق يستيقظ، وينهض، ويغزو العالم، ويسيطر ويستعمر الشعوب. وطبعا كلمة يستعمر الشعوب هي كلمة تقوم على الكذب والخداع والتدليس، لأن الاستعمار معناه الإعمار والبناء والتقدم، ولكن استعمار الغرب للشعوب كان عبارة عن استغلال الشعوب ونهب ثرواتها والاستيلاء على خيراتها. وفي خلال ثلاثة قرون، استطاع الغرب المسيحي أن يستولى على العالم بأجمعه، وخضعت له الشعوب، وأصبحت دولة مثل بريطانيا تسمى باسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في نفس الوقت، وبكل أسف، تحول المسلمون ليكونوا كما وصفهم سيدنا رسول الله: "غثاء كغثاء السيل"، والغثاء هو ما يحمله السيل من قاذورات وأوساخ.
وكان من الطبيعي، بعد أن انتفخ الغرب المسيحي واستولى على العالم، أن يعمل على نشر المسيحية في العالم، وهكذا بدأت حملات التبشير تغزو كل البلاد التي غزتها الجيوش من قبل. فإن محاولات التنصير كانت دائما تصحب هجمات الاستعمار. ولذلك رأينا في القرن التاسع عشر نشاطا بالغا للحملات التبشيرية في الهند وجنوب شرق آسيا، كما انتشرت أيضا الأنشطة التبشيرية في أفريقيا على أوسع نطاق.
ثم انشغل العالم بعض الشيء في القرن العشرين ببعض المشاكل، فكانت الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني، ثم تلا ذلك الأزمة الاقتصادية التي أثرت في العالم كله في العشرينيات، ثم تلا ذلك الحرب العالمية الثانية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، ثم ظهر الخطر الشيوعي في الخمسينيات والستينيات حيث اندلعت الحرب الباردة بين المعسكرين المسيحيين في الشرق والغرب. ومع حلول السبعينيات بدأت عوامل التفكك تظهر في المعسكر الشرقي، وما أن جاءت الثمانينيات حتى اندحر فيها العدو الشيوعي وزال خطره. وهنا كان لا بد للغرب المسيحي أن يعمل على رأب الصدع الذي أصابه، ويتحول مرة ثانية إلى الإسلام والمسلمين، خاصة وأنه كان يستغله أسوأ استغلال للدفاع عن مصالحه، والوقوف كسد أيديولوجي منيع ضد انتشار الأيديولوجية الشيوعية، ثم عملوا على تشجيع التطرف والعنف بين الجماعات الإسلامية، واستخدموها في أفغانستان لمحاربة الاستعمار الشيوعي. وأهرق المسلمون دماءهم في أفغانستان، وظنوا أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن المصالح الاستعمارية الكبرى، التي استعملتهم واستغلت دماءهم في محاربة الاستعمار الشيوعي السوفيتي.(4/49)
وبعد أن تم القضاء على الخطر الشيوعي، تحوّل الغرب المسيحي لمحاربة أصدقاء الأمس الذين كان يعتبرهم مجاهدين، فإذا به الآن يعتبرهم إرهابيين. وبعد أن لعب صدام حسين الدور المطلوب منه في تقليم أظافر الخطر الشيعي الذي تفجر مع ثورة الخميني، تحول الغرب للقضاء على صدام حسين والقضاء أيضا على من سماهم بالإرهابيين، مع أنه كان السبب الأول في خلقهم وتدريبهم وتسليحهم.
غير أن المعركة لم تكن معركة بالسلاح فقط، فقد كان استخدام السلاح ضد من يحمل السلاح، ولذلك كان لا بد من فتح جبهة أخرى ضد الإسلام والمسلمين، وهي جبهة التبشير المسيحي. وبذلك عاد النشاط التبشيري مرة أخرى بعد أن مر بفترة من الهدوء النسبي في القرن العشرين. وشهد العالم الإسلامي هجمة جديدة للتبشير المسيحي، بدأ الإعداد الجيد لها في الثمانينيات واستمرت في التسعينيات، ثم أسفرت عن وجهها في القرن الواحد والعشرين، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما سبق ذكره.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الحملة الجديدة ضد الإسلام العديد من العوامل، منها:
(1) الدول التي كانت تهتم بالأمور الإسلامية، إما أنها تحولت إلى مسالمة الغرب ومصادقته، وبالتالي عزلت نفسها عن معركة التبشير ضد الإسلام، أو أنها احتضنت فلول الجماعات الإسلامية، فوضعت نفسها تحت مطرقة الغرب وأسلحته.
(2) الكثير من العلماء المسلمين لم يشاءوا أن يصرفوا أوقاتهم وجهودهم في الاهتمام بهذه الأمور، خاصة وأن لديهم من شؤون المسلمين ما يهمهم ويشغلهم عن الاهتمام بشؤون غير المسلمين.
(3) الكثير من الجماعات الإسلامية ظلت تحلم بأن السيف هو الوسيلة الوحيدة لفرض وجودها، عملا ببيت الشعر المشهور للشاعر أبي تمام الذي يقول فيه:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فكان أن تعرضت لمطرقة الغرب وسندان الحكومات التي تعيش تحتها، حتى اضطر بعضها إلى إعلان التوبة، أو استمر يعطي للغرب الذريعة باتهامها بالإرهاب ويتيح له الفرصة للقضاء عليها.
(4) ومع انتشار الإنترنت كوسيلة للاتصال وجمع المعلومات، ومع انتشار الفضائيات التي يسهل استخدامها بعيدا عن أية رقابة ولا تدخل من الحكومات في البلاد الإسلامية، بدأت الحملة المسيحية الجديدة تعمل لنشر المسيحية في العالم الإسلامي وفي الوطن العربي بشكل خاص.
وبطبيعة الحال، لا بأس من أن يعمل أصحاب أي دين على نشر أفكار دينهم، ما داموا يحترمون المشاعر الدينية للآخرين، ولا يحاولون الإساءة إلى معتقدات الآخرين أو استخدام الأساليب الوضيعة من افتراء الأكاذيب واتباع أساليب الخداع. وهنا طلع علينا القُمّص زكريا بطرس يقدم لنا المسيحية التي يؤمن بها، وراح يحدثنا أولا عن التثليث، وعن تجسد السيد المسيح، وعن عقيدة الفداء التي استلزمت صلب المسيح ليكون كفارة عن خطيئة آدم التي يقول إن الجنس البشري قد توارثها. واستمع الكثيرون إلى القُمّص زكريا بطرس، ولكن لوحظ أنه لم يكن يخاطب أتباعه من المسيحيين البعيدين عن الكنيسة فيعمل على إعادتهم إلى الطريق الصحيح كما يراه ويؤمن هو به، وإنما كان يخاطب المسلمين ويحاول إقناعهم بصدق عقائده المسيحية. ولا بأس كما قلنا في أن يدعو الإنسان الآخرين إلى ما يؤمن به من عقائد وتعاليم، ولكنا رأينا القُمّص زكريا بطرس راح يوجه انتقادات لاذعة إلى الإسلام، ويتناول بالتجريح مشاعر ومقدسات المسلمين، ويصف رسول الرحمة بالإرهاب. ولو أنه كان موضوعيا في انتقاداته لما أثار حفيظة أحد، ولكنه راح عن قصد يردد ما سبق أن رد عليه علماء المسلمين من افتراءات وأكاذيب، معتمدا في ذلك على ما جاء في بعض الكتب الإسلامية التي ظهرت في عهود التخلف، أو يستدل بكتب كأنها إسلامية وهي ليست كذلك، فهي إما أن تكون لملاحدة، أو تكون بمسميات إسلامية وهي غير إسلامية، وكان يستعين ببعض العقائد التي تسربت بكل أسف إلى مفاهيم المسلمين، نتيجة لدخول أعداد كبيرة من النصارى في دين الإسلام، ولم يستطع هؤلاء التخلي كلية عما ورثوه من عقائد ومفاهيم، ومع مرور الوقت وجدت تلك العقائد والمفاهيم الخاطئة طريقها إلى الكتب والمفاهيم الإسلامية، وهي معروفة باسم "الإسرائيليات". وبمعنى آخر، راح القُمّص زكريا بطرس يصطاد في الماء العكر، لكي يسيء إلى الإسلام ويعمل على تنصير المسلمين.(4/50)
ومن الواضح أن القُمّص زكريا بطرس لم يقم بهذا العمل بمفرده، وإنما كان هناك الكثير من فرق العمل التي تعمل معه، وتستخرج له المواد اللازمة، وتسجل له النصوص التي يستعين بها. وكُنّا على استعداد أن نسمع له ونحترمه لو أنه التزم بالموضوعية وابتعد عن التزوير والإسفاف، ولكنه لم يلتزم لا بالصدق ولا بالموضوعية، ولا ابتعد عن التزوير والإسفاف. ولعل هذا لم يكن خطأ صادرا عنه، بل كان خطأ من يُعدّون له المواد ومن يكتبون له الموضوعات التي يقدمها. وفي أيّ من الحالتين، فإن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين قد وقعت، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة أن نَرُدَّ عليه، ونُفنّد عقائده، ونفضح الأكاذيب التي قدمها، والتي استطاع بها أن يخدع بعض المسلمين. وقد ظل القُمّص ينادي بأن يرد عليه علماء المسلمين، ويتحدّى علماء الأزهر الشريف، ويتحدى الدكتور زغلول النجار، بل وطالب فضيلة الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يرد عليه. ولعله لا يعلم أنه بذلك قد تجاوز قدره، وأساء الأدب بهذا التحدي، فمن يكون القُمّص زكريا بطرس لكي يتحدى مثل هؤلاء الأفاضل من العلماء؟ إنه ليس إلا قمّصا لا غير، لم يصل إلى أن يكون أسقفا أو كاردينالا، وبالطبع لم يصل إلى كرسي البابوية، فما باله يتحدى شيخ الأزهر وعلماءه؟ وهل يرضى الأخوة المسيحيون أن يخرج علينا واحد من أئمة المساجد مثلا ليتحدى قداسة البابا شنودة وأساقفة الدين المسيحي؟
وعلى أية حال، إنني أقول لجناب القُمّص، إنني قبلت التحدي وسوف أتصدى له، وأنا مجرد واحد من ملايين المسلمين. وقد يقول إنني مجرد فرد لا شأن لي، وقد يقول إنني لا أمثل المسلمين فلا يحق لي أن أتكلم باسمهم. وأحب أن أطمئنه أنني لا أتكلم باسم أحد ولا نيابة عن أحد، وإنما أنا مجرد إنسان مسلم أتاه الله عقلا يستطيع أن يستخدمه في التفكير، ولذلك سوف أتولى تحليل العقائد المسيحية التي قدمها لنا جناب القُمّص، وسوف أبين له وللناس كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، أين هي مواطن الخلل في المنطق الذي استعمله جناب القُمّص. وإنني أرجو من جناب القُمّص، ومن حضرات المشاهدين، المسلمين منهم والمسيحيين، وأيضا من أولئك المسلمين الذين خدعهم المنطق المغلوط الذي قدمه جناب القُمّص، فتركوا الإسلام وقبلوا المسيحية، إنني أرجو منهم جميعا أن يتفكروا فيما أقدمه، ويسمعوا ما أقدمه بأذن ناقدة، ثم يردوا عليّ إن كانوا يستطيعون الرد، فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فكل ما أرجوه هو معاودة التفكير، وعدم الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وكما يقول المثل: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، أو إذا كان من الممكن استعارة كلمات السيد المسيح التي يقول فيها في إنجيل متّى (3:7):
"لا تدينوا كي لا تُدانوا، لأنكم تُدانون بالدينونة التي بها تدينون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك. يا مرائي، أخرج أولا الخشبة التي في عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك".
لا شك أن كل مسلم يحترم المسيح صلى الله عليه وسلم ، ويحترم دين المسيح الذي أنزله الله تعالى عليه. ورغم أن المسلمين على قناعة بأن دين المسيح قد أصابه التحريف، وأن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح قد ضاع ولم يبق منه إلا آثار من أقوال جمعها بعض الناس في كتب اعتبرتها الكنيسة أناجيل معتمدة، رغم كل ذلك فإن المسلمين يحترمون ما يريد النصارى أن يؤمنوا به، ومن أراد أن يعبد إلها من ثلاثة أقانيم فهو حر، ومن أراد أن يعبد بقرة بثلاثة أرجل فهو حر أيضا، ولكن إذا تطاولتَ على ديني، فإنك تعطيني الحق أن أعاملك بالمثل، لأنك أنت الذي بدأت بالعدوان، فأصبح من حقي أن أدافع. وعفوا يا جناب القُمّص، فلن أستطيع أن أدير لك الخد الآخر هذه المرة، ولن أكيل لك الصاع صاعين، بل سأكيله صاعات وصاعات، وكما يقول المثل: على نفسها جنت براقش.
إن المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص تقوم على الكثير من المغالطات المنطقية:(4/51)
أولا: تحريف تفسير بعض الفقرات في الكتاب المقدس لاستخراج معان معينة لم تأت في النص. فمثلا، إذا افترضنا أن كاتبا كان يكتب أقصوصة أو بعث إلى أحد أصحابه برسالة وكتب فيها يصف أن رجلا من أهل الريف أخذ ابنته وذهب إلى السوق واشترى أشياء وحملها هو وابنته إلى المنْزل فكتب يقول: "وقال الأب لابنته أم الخير: احملي البصل، فلما حملته ووصلا إلى الحظيرة قال لها ضعي البصل". ثم نفترض أن مثل هذه القصة أو الرسالة، لسبب أو لآخر، أصبحت جزءا من كتاب مقدس يؤمن به جناب القُمّص، وأراد أن يفسرها ليحقق بها غرضا معينا، نراه يستعمل منطقا غريبا في تفسيرها فيقول: إن الرجل يعني الله لأنه الأب، وابنته أم الخير هي مريم لأنها أم يسوع، ويسوع هو مصدر كل الخير في العالم، ولما قال لها احملي البصل، كان يقصد أن تحمل بالكلمة، أي تحمل يسوع في رحمها، لأن البصل جسم حي يرمز لجسد يسوع الحي، وأيضا البصل طعام فهو يعطي حياة، وكذلك قال يسوع إنه الطريق والحياة، ومن هنا كان البصل رمزا ليسوع، وقد وضعت البصل في الحظيرة، أي أنها ولدت يسوع في حظيرة.
قد يستغرب المشاهد من هذا المنطق، وقد يظن أنني أبالغ في وصف المنطق الذي استعمله القُمّص زكريا بطرس، ولكن هذا هو ما حدث بالضبط، وسوف أبين للمشاهد صدق كلامي عندما أتناول ما قاله وما قدمه جناب القُمّص.
وقد يعترض أحد فيقول إن الكتب المقدسة لا يمكن أن تحتوي على حكايات أو حواديت من صنف حدوتة "أم الخير"، ولكن المشاهد سوف يندهش عندما أقدم له الحواديت والكلمات المكتوبة في بعض الخطابات التي يتصور القُمّص أنها وحي مقدس. وعلى سبيل المثال، فليقرأ المشاهد الجزء الأخير من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس حيث يقول فيها:
"سلم على فرسكا وأكيلا وبيت (فلان الفلاني) أُنيسيفورُس، (فلان) أراستُس بقي في كورِنثوس، وأما (فلان) تُروفيمُس فتركته في (البلد الفلانية) ميليتُس مريضا. بادر أن تجيء قبل الشتاء. يسلم عليك (فلان وفلان وعلان وترتان) أفْبولُس وبوديس ولينُس وكلافَدِيَّة، والإخوة جميعا" (2تي19:4)
فهل يمكن أن يتصوّر عاقل أن هذا الكلام من وحي الله تعالى؟ ومع ذلك فإن بعض الناس يعتبرونه وحيا مقدسا، ولا يستبعد على مثل هؤلاء أن يعتبروا حدوتة مثل حدوتة "أم الخير" وحيا مقدسا أيضا.
ثانيا: المغالطة المنطقية الأخرى التي تقوم عليها المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص زكريا بطرس هي تقديم أفكار صحيحة تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. وقد يكون من الصعب الآن تقديم مثال على هذه المغالطات نظرا لأنها تحتاج إلى شرح طويل، ولكني أعد المشاهد أنه سوف يرى بنفسه حجم المغالطات التي يقدمها جناب القُمّص، وسوف يلمس بنفسه الخلل الذي يقوم عليه منطقه، وما أقامه عليه من عقائد.
ثالثا: المغالطة الثالثة التي يستعملها جناب القُمّص أنه يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز، حتى إن الحقيقة عنده تكون أحيانا مجازا، وفي كثير من الأحيان يعتبر أن المجاز حقيقة. وقد اتبع جناب القُمّص هذه المغالطات بكثرة عند كلامه عن موضوع ما ظن أنه تجسّد السيد المسيح.
رابعا: إنه كثيرا ما يتعمد تزوير النص وتحريفه لكي يستخدمه في إثبات وجهة نظر معينة، فمثلا يذكر للقارئ أن في القرآن المجيد آية تقول: "الرحمن على الكرسي استوى"، ثم يفسر كلمة استوى على أنها تعني القعود على الكرسي، ثم يطلق لسخريته العنان في الاستهزاء بمن يؤمن بأن الله يقعد على الكرسي، وما إذا كان له مقعدة يقعد بها على الكرسي، إلى آخر ما شابه ذلك من أساليبه السفيهة. مع أن الآية القرآنية هي ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[، والاستواء لا يعني القعود على كرسي بمقعدة. وبهذا يتبين أن جناب القُمّص لا يستعمل عقله كثيرا في التفكير، ولا يسمو فكره ليصل إلى مستوى رأسه، إذ ينحدر مستوى تفكيره أحيانا حتى يصل إلى مستوى المقعدة.
خامسا: كثيرا ما يتهم جناب القُمّص المشاهدين المسلمين أنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون، وإذا فهموا فإنهم لا يقبلون الحقائق التي يقدمها، وهي بالطبع ليست حقائق، وإنما هي أكاذيب وأغاليط سوف نكشف عنها له وللمشاهد.(4/52)
سادسا: جناب القُمّص، ومن يستخرجون له المواد التي يستعملها، لديهم ولع شديد باستخراج بعض التفاسير التي تتفق مع مفاهيمهم المغلوطة، ثم يتولى جناب القُمّص تقديمها على أنها المعنى الوحيد الذي يجمع عليه كل المفسرين وكل المسلمين. وهو بذلك يخدع المشاهد لأنه يوحي إليه بشيء يغاير الحقيقة، ولا يقول له إن رأي المفسرين ليس هو رأي القرآن، وإنما المفسرين اجتهدوا، منهم من أصاب ومنهم من أخطأ، فمن أصاب له أجران ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد، ولكن كلام المفسرين ليس ملزما للمسلمين. وهنا يختلف المسلمون عن النصارى، وخاصة أتباع المذهب الأرثوذوكسي والكاثوليكي، حيث يتحتم على الجمهور المسيحي قبول تفاسير البابوات وتفاسير المفسرين. ولكن الإسلام لا يُلزم المسلمين بمثل هذا المبدأ أبدا.
وأخيرا، أقول عن حديث الإفك الذي قدمه لنا القُمّص زكريا بطرس ما قاله القرآن المجيد عن حديث الإفك الذي أذاعه بعض الموتورين من المنافقين، حيث قال تعالى عنه { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[. إن جناب القُمّص أتاح لنا فرصة عظيمة لكشف ألاعيب المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها، كما أنه أتاح أيضا فرصة عظيمة للكثير من المسلمين الذين كانوا تحت تأثير فهم خاطئ لبعض الأمور في التراث الإسلامي أن يصححوا مفاهيمهم. وأيضا أتاح فرصة عظيمة للمسلمين أن يتّحدوا للدفاع عن دينهم وشرف نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وكرامة الكتاب المجيد الذي يؤمنون به.
أيها المسلمون في كل مكان! لقد دق ناقوس الجهاد من أجل نصرة الدين، ليس بالسيف ولا بالسنان، ولا بالعنف والإرهاب، ولا بالتكفير والتفجير، ولكن بالمنطق وباللسان، تماما كما فعل جناب القُمّص، الذي كثيرا ما كانت جراحات لسانه أشد وطأة وأكثر خطرا من جراحات السيف والسنان. إنني أدعو المسلمين جميعا أن يهبوا لهذا الجهاد المجيد، وليطرحوا خلافاتهم جانبا، وليتناسوا ولو مؤقتا، ما يفصلهم عن بعضهم البعض، وليتخلوا عن أساليب التكفير لبعضهم البعض، ولنتحد جميعا لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي كشّر عن أنيابه، وكشف عن مخالبه، وظن أن الإسلام والمسلمين قد صاروا لقمة سائغة يمكن أن يلوكها أو يتلمّظ بها. وندعو الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يوحّد كلمتهم، وأن يكفيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن ينصرهم نصرا عزيزا على كل من تسوّل له نفسه أن ينال من شرف سيدهم وحبيبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يدنس طهارة وقدسية كتابهم العزيز، أو يحط من شأن دينهم الكريم الذي ارتضاه الله لهم. وفقنا الله، ووفق الله المسلمين في عمل كل ما فيه رضاه، ونصرهم سبحانه على أعدائهم وأعداء الدين. آمين.
( 2 )
تكلم جناب القُمّص زكريا بطرس في بداية حديثه في سلسلة "أسئلة عن الإيمان" عن فكرة الثالوث، وبيّن أن المسيحية التي يؤمن بها لا تدعو إلى عبادة ثلاثة آلهة، وإنما هو إله واحد في ثلاثة أقانيم. وراح على مدى أربع حلقات يحاول شرح هذه الفكرة مستخدما أسلوبه الجذاب مع السيدة ناهد محمود متولي. وكما بينتُ في الحلقة السابقة، كان أسلوب جناب القُمّص يقوم على ست قواعد، ولا مانع من الإشارة السريعة إليها لتذكير المشاهد الذي لم ير الحلقة الماضية، بالأسلوب المنطقي المغلوط الذي يستعمله جناب القُمّص، إذ يعتمد في حديثه على ما يلي:
أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ليخرج بمعنى لا يحتمله النص.
ثانيا: يقدم أفكار تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة.
ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز.
رابعا: يتعمد تحريف النص لاستعماله في إثبات وجهة نظره.
خامسا: يتهم المشاهد المسلم بأنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم لا يقبل الحقيقة.
سادسا: يستخدم أراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين.
وبعد الحلقات الأربع الأولى عن التثليث، راح جناب القُمّص يحدثنا في أربع حلقات أخرى عن التجسد، وكيف أن الله قد تجسد في جسد يسوع، وشرح السبب الذي دعاه إلى ذلك وهو تحقيق الكفارة، وهي أن المسيح قد مات على الصليب فداء عن الناس، وبذل نفسه كفارة عنهم ليغفر الله لهم الخطية التي ورثوها عن آدم. وعلى مدى ست حلقات أخرى، حدثنا جناب القُمّص عن الكفارة وشرح أن الكفارة هي المحور الذي يدور حوله الكتاب المقدس كله، وهي العمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية. ولذلك رأيتُ أن أبدأ بتناول هذه الحلقات الست التي تتعلق بالعمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية التي يؤمن بها جناب القُمّص، لنرى في النهاية هل هناك فعلا أساس سليم وقوي تقف عليه هذه المسيحية، أم أن عمودها الفقري مخلوع ومفكك ولا ترتبط فقراته بعضها ببعض.(4/53)
وأنا حين أتكلم عن المسيحية فإني أتكلم عن ذلك الوجه من المسيحية التي قدمها لنا القُمّص زكريا بطرس، فالمسيحية لها أوجه كثيرة، وكما يقول المثل "لها ستون وجه" أي لها أوجه كثيرة. وعلى ذلك فأنا أؤكد احترامي لكل مسيحي لا يؤمن بما يؤمن به جناب القُمّص، وأحترم أيضا حق كل إنسان في أن يؤمن بما شاء من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، فحق الاعتقاد من حقوق الإنسان الأساسية، ولا بد من احترامه، ومن حق كل إنسان أن يعبر عما يؤمن به من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، كذلك فإن من حقه أن يدعو الآخرين إليها، ولكن ليس من حقه تسفيه آراء الآخرين، ولا جرح مشاعرهم، ولا التحقير من مقدساتهم. فإذا فعل أحد ذلك، فإنه يعطي للآخرين الحق في أن يعاملوه بالمثل، ويردوا عليه بنفس أسلوبه، ويكيلوا له بنفس مكياله، وهذا ما يقرره الكتاب المقدس الذي يقول: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى3:7). وقد وقع جناب القُمّص في هذا الخطأ في حق الإسلام والمسلمين، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة للرد عليه، خاصة وأنه كان يتحدى ويطالب وينادي بأن يرد عليه أحد. فشكرا يا جناب القُمّص على هذه الفرصة العظيمة التي أتحتها لنا، ولكن عليك أن تتحمل وزر ما فعلت، ولا تدعو أتباعك أن يهرعوا إلى السلطات لوقف الرد عليك، ولا تطلب منهم أن ينظموا المظاهرات ويعتصموا في الكاتدرائيات ويسجلوا الاعتراضات. لقد بدأت أنت بالعدوان، ونحن لا نفعل شيئا سوى أننا نستجيب لندائك ونقبل تحديك ونرد عليك بما تستحقه، ولكن بالعقل والمنطق وليس بالأكاذيب والمغالطات.
موضوع الحلقات الست التي تناولها القُمّص بطرس من الحلقة التاسعة إلى الحلقة 14 هو موضوع خطيئة آدم عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، ولأن الله عادل، كان لا بد أن يوقع العقاب، والعقاب هو الموت، ونتيجة لذلك ورث الجنس البشري كله الطبيعة البشرية الخاطئة، كما ورث أيضا حكم الموت الأبدي في نار جهنم، ولكن الله رحيم كما هو عادل، ولذلك رحمته اقتضت أن يتجسد ويحل في المسيح ليموت على الصليب، وبذلك يرفع حكم الموت من على البشر، وبذلك يكون نفذ عدله بتوقيع العقوبة على المسيح، وفي نفس الوقت نفذ رحمته بأنه رفع العقوبة من على البشر، لأنه يحبهم ولأن الله محبة.
بدأ جناب القُمّص في الحلقة التاسعة فراح يحدثنا عن الحكاية من البداية. فيقول:
"إن الله لما فكر يخلق إنسان، خلقه على أبدع صورة ومثال، على رأي القرآن برضه يقولك في أحسن تصوير، مش كده؟"
لا يا جناب القُمّص، مش كده! فالقرآن لم يقل في أحسن تصوير وإنما قال { في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[، ولعلها كانت زلة لسان، ولم يكن التزوير متعمّدا، ولكن لو كنتَ اكتفيتَ بتقديم عقائدك دون أن تحاول الاستدلال على صحتها بالقرآن المجيد، لما وقعت في هذا الخطأ.
ثم يستطرد جناب القُمّص فيقرأ من الكتاب المقدس:
"فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه"، ثم يعلق على ذلك فيقول: "مش مناخير وعنين ولكن على صورة البهاء، العظمة، العقل، الخلود، الإنسان مخلوق عاقل زي الله، خالد زي الله، مش كده؟".(4/54)
لأ يا سيدي مش كده! من أين جئت بهذا الكلام، هل قال الكتاب المقدس أن الله خلق الإنسان عاقل زي الله وخالد زي الله؟ أم أن هذا هو مفهومك وتفسيرك الذي تريد أن تقحمه على الكتاب المقدس؟ إذا كان الله خلق الإنسان عاقل زي الله، فلا بد أنه كان يعرف الخير والشر، ولكن الكتاب المقدس يقول إن الإنسان لم يكن يعرف الخير والشر قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، ولذلك بعد أن أكل منها يقول الكتاب عنه: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3)، إذن الإنسان لم يكن عاقلا مثل الله قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ثم تقول إن الإنسان خالد زي الله، ولكن الكتاب المقدس يبين أن الله لم يخلق الإنسان ليكون خالدا مثل الله، إذ يقول: "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية" (تكوين7:2)، أي أن الله خلق آدم من مادة، من تراب، ولو كان الله يريده أن يكون خالدا، لخلقه مثل الملائكة، ولما قال له بعد صدور الحكم عليه: "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود". أي أن العقاب الذي أصدره الله عليه سوف يستمر حتى يعود إلى الأرض، وعودته إلى الأرض ليست بسبب العقاب ولكن بسبب أنه تراب فإلى التراب يعود. فأين الخلود الذي تدّعي به يا جناب القُمّص؟ اقرأ كتابك جيدا، وحاول أن تفهم ما هو مكتوب وليس ما تريد أن تلصقه بالنص. ليس هناك أي كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى أن الله خلق الإنسان ليكون خالدا، بل بالعكس، هناك نص صريح على أنه سيعود إلى التراب لأنه خلق من تراب، ليس لأنه أخطأ، ولكن لأنه خُلق من تراب. فهل تريد منا أن نصدقك ونكذب الكتاب المقدس الذي تؤمن به، أم تريد منا أن نصدقك ونكذب ما قاله الله تعالى في جميع الأديان من أن هذه الحياة الدنيا هي فترة مؤقتة وسوف تنتهي لتبدأ بعد ذلك حياة أخرى، تقول عنها جميع الأديان أنها هي التي سوف يكتب لها الخلود؟
إن ما تقوله يا جناب القُمّص هو محاولة "فاشلة" لتبرير وجود الموت، فقد ظننت كما يظن البعض أن الموت يتعارض مع محبة الله للإنسان، ولذلك كان لا بد من اختراع سبب للموت بعيدا عن الله الذي تصفونه بأنه "محبة"، وكان المخرج من هذه الورطة هو أن تنسبوا سبب الموت لخطيئة آدم. وقد تحتج عليّ وتقول إن الكتاب يقول: "وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تكوين16:2)، ولعلك تستنتج من ذلك أنه لو لم يأكل آدم من الشجرة لعاش إلى الأبد، ولكن هذا الاستنتاج خاطئ لسببين، أولا: إن آدم لم يمت في اليوم الذي أكل فيه من الشجرة؛ ثانيا: إن الله بيّن وشرح معنى قوله "موتا تموت"، كما بيّن أيضا وشرح سبب عودته إلى التراب، فقال: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تُنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا" (تكوين17:3) كانت هذه هي العقوبة التي عبر الرب الإله عنها بقوله: "موتا تموت"، وسوف تستمر هذه العقوبة "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها"، أما لماذا يعود إلى الأرض؟ فيجيب الكتاب المقدس على ذلك بقوله: "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تكوين17:3).
وهنا قد يحلو لجناب القُمّص أن يتهمني بالجهل، وأني لا أقرأ، وإذا قرأت لا أفهم، فيقول إن كلمة "يوم" في قوله "يوم تأكل منها" لا تعني يوم 24 ساعة، ولكن تعني ألف سنة، وبالتالي يكون قصد الرب الإله هو أنك سوف تموت في خلال ألف سنة. فإذا قلنا من أين أتيت بهذا المعنى؟ كانت الإجابة مثيرة للضحك والعجب، إذ سوف يذكر على الفور قول بطرس الرسول في رسالته الثانية الإصحاح 3 والعدد 8 حيث قال: "أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد" (2بطرس8:3). وعلى هذا يكون قوله "يوم تأكل منها موتا تموت" أي أنك إذا أكلت منها فإنك سوف تموت خلال ألف سنة.(4/55)
هذا هو الأسلوب الذي يتّبعه جناب القُمّص، إذ أنه يستعمل فقرات لا علاقة لها بالموضوع ويلوي معناها لتنطبق على الموضوع الذي يتكلم عنه. وتصوروا يا حضرات المشاهدين، هذا الرب الإله العاقل الحكيم، الذي يصدر حكما على إنسان، ولا يشرح له ما يقصده بكلمة "يوم تأكل منها"، وما إذا كان المقصود منها يوم كما هو معروف أو أن المقصود ألف سنة. ثم تأتي من بعد آدم أجيال وأجيال، وهم لا يعرفون أن كلمة يوم تعني ألف سنة، ثم يأتي موسى ويكتب التوراة، أي الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، ولكنه لا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال ويأتي أنبياء يكتبون ويضيفون إلى العهد القديم، ولا يقولون شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال، ثم يأتي السيد المسيح، ولا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم يأتي بطرس الرسول بعد أكثر من 4000 سنة بعد آدم، ويرسل لأصحابه رسالة ورسالتين، وفي الرسالة الثانية يذكر جملة تدل على أن الزمن لا يعني شيئا بالنسبة لله، وأن اليوم عنده كألف سنة والألف سنة كاليوم، وهنا تنفك العقدة، ويجد جناب القُمّص بطرس وزملاؤه معنى لتحديد طول اليوم الخاص بآدم فيقول إنه ألف سنة، مع أن الجملة التي كتبها بطرس الرسول لا تعني ذلك أبدا، بل إنها تعني أن الزمن لا يعني شيئا عند الله. فهل يوجد ما يثير الضحك أكثر من هذا؟
ثم يا جناب القُمّص، لقد شنّفت آذاننا بأن الله محبة، فلماذا تنسب إلى الله القسوة والظلم والسادية الفظيعة هذه؟ هل الله الذي هو محبة يتمتع بعقاب مخلوقه آدم الذي خلقه بمحبة كما تقول؟ لعلك تقول إن الله عادل أيضا، وأن عدله يستدعي تنفيذ العقوبة. ولن أخوض معك في هذه القضية الآن، ولكن العدل كما تراه أنت، وكما يراه كل إنسان عاقل، هو تطبيق العقوبة كما جاءت في القانون، والقانون الذي وضعه الله هو: "يوم تأكل منها موتا تموت". ولو سلمنا معك أن آدم كسر القانون وعصى الله، يكون من مقتضيات العدل أن يُطبق الحكم، وهو: "موتا تموت". فهل هذه هي العقوبة التي طبقها الله؟ إن كتابكم المقدس ينسب إلى الله أنه قال: "لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك". طيب وما ذنب الأرض؟ وهل لعنة الأرض كانت داخلة ضمن القانون الذي وضعه الله؟ وليس هذا فقط، وإنما يسترسل الرب الإله في تفصيل العقوبة التي لم تأت في القانون الذي وضعه بنفسه، فيقول: "بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، شوكا وحسكا تنبت لك وتأكل من عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا"، وهو لم يكتف بهذا، بل إن هذا الرب الإله الرحيم العادل يقول للمرأة: "تكثيرا أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك"، مع أن المرأة المسكينة لم تكن تعرف أن كل هذه البلايا سوف تنصب على رأسها. كل ما كانت تعرفه هو ما قالته للحية: "من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا". فهل من العدل أن يضع الله قانونا للعقوبة ثم عند التنفيذ يطبق عقوبة أخرى إضافية؟ هل يقبل أحد أن يقول القانون: من خالف إشارة المرور يدفع 100 جنيه غرامة، ولكن عندما يقع أحد في هذه الخطيئة، يتبين أنه سوف يقضي كل أيام حياته في الأشغال الشاقة المؤبدة، وأن زوجته سوف تُطرد من البيت، وأن أولاده سوف يُشرّدون، ثم عليه أيضا أن يدفع غرامة المائة جنيه؟ هل هذا هو العدل الذي تنسبونه إلى الله الذي هو محبة؟ اتفضل جاوب يا جناب القُمّص، هل هذا هو الحب الذي يحمله الرب الإله في الكتاب المقدس؟ وهل هذا هو العدل الذي تصرون على التمسك به وبضرورة تطبيقه؟ ولعلك تقول إن مخالفة إشارة المرور لا تعادل خطيئة آدم، هذا صحيح، ولكن مهما عظمت الخطيئة، فإن العدل يقتضي ألا يُزاد في حجم العقوبة عند التطبيق، وإنما يجب أن يُكتفى بتطبيق العقوبة التي جاءت في نص القانون دون أي زيادة، لأن أي زيادة هي مخالفة للعدل، بل هي عين الظلم.
ثم هل من العدل يا جناب القُمّص محاسبة إنسان لا يعرف الفرق بين الخير والشر؟ أنت تدّعي أن الله خلق الإنسان عاقل مثل الله، ولكن كتابك المقدس يقول إنه لم يكن يعرف الخير والشر، وكل ما قاله له الرب الإله هو أن يأكل من جميع شجر الجنة، ولكن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنه يوم يأكل منها موتا يموت. لم يحذره مثلا من أن يسمع لكلام الشيطان، بل لم يخبره أصلا بأن هناك شيطان يريد أن يوقعه في الخطيئة. لم يقل له إن عليه أن يتأكد من مصدر كل طعام تعطيه له زوجته حواء. فماذا حدث؟ تقول يا سيدي بأسلوبك المسرحي إن الشيطان:(4/56)
"راح لحوا، لأن حوا بتحب الاستطلاع، قال لها هوه ربنا قال لكم ما تكلوش من جميع شجر الجنة؟ قالت لأ، مين قالك كده؟ قالنا تاكلو من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة بس، الشجرة دهي، شجرة معرفة الخير والشر. فالشيطان قالها: ليه؟ اشمعنى دي؟ قالت له ربنا قال يوم ما تاكلوا منها موتا تموتا. قالها لا. ابتدا يكذّب ربنا، قال لها لن تموتا، إمّال ربنا منعنا منها ليه؟ آه.. لا.. إنت مش فاهمة. أنا عارف ربنا، أنا كنت عنده فوق، ربنا ده مكّار، خايف، لما تاكلوا من الشجرة دي، تبقوا زيّه، تعرفوا الخير والشر، كده لوحدكم. لما تاكلوا من الشجرة دي، تستقلوا عن الله. سماها تستقلوا عن الله لكن هية في الحقيقة تنفصلوا عن الله".
طيب. لدينا الآن اثنان متهمان بمعصية الله، ألا يقتضي العدل الإلهي أن نبحث في الظروف التي وقعت فيها الجريمة، إن كانت هناك جريمة؟ اثنان لا يعرفان الفرق بين الخير والشر، جاء إليهم الشيطان في صورة حية من مخلوقات الله الذي يحبهما، وقال لهما إنه كان فوق عند ربنا، وإنه عارف إنهما إذا أكلا من الشجرة لن يموتا، وسوف يعرفان الخير والشر مثل الله. فهل يقع اللوم على آدم وحواء لأنهما يريدان أن يكونا مثل الله ويريدان أن يعرفا الخير والشر؟ هل يقع عليهما اللوم لأنهما سمعا لكلام مخلوق من مخلوقات الله الذي هو محبة، لا يعرفان عن ذلك المخلوق شيئا ولم يحذرهما أحد منه؟ أين العدل يا جناب القُمّص؟ إذا كان هناك أحد مسئول عن وقوع آدم في الخطيئة حسب الرواية التي رويتها بلسانك، فهو الرب الإله الذي خلق الشيطان، وسمح له أن يضل آدم وحواء، ولم يحذرهما منه. لا شك أنهما خُدعا، ولكن لم تكن لديهما النية على ارتكاب المعصية، وإنما ظنا أنهما يقومان بعمل طيب، إذ يجب أن نضع في الاعتبار أنهما لم يكونا يعرفان الخير والشر.
ثم يقول الكتاب المقدس: "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت. وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" (تكوين6:3).
إذن حسب كلام الكتاب المقدس، كان الشيطان على حق، لأنهما أكلا من الشجرة ولم يموتا، وانفتحت أعينهما وصارا يعرفان الخير والشر فعلا، بدليل اعتراف الرب الإله الذي قال: "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين 23:3). ثم ما ذنب آدم الذي سمع لكلام زوجته؟ هل كان يعلم أن ما يأكله من يدها هو من الشجرة المحرّمة؟ الكتاب المقدس لا يبين هذا الأمر، بل يبين أنه لم يكن حاضرا عندما كان الشيطان يتكلم مع حواء، لأن الكتاب يقول إن الحية تكلمت مع المرأة، ولو كان آدم موجودا لاشترك في الحديث، ولكن الكتاب يبين أنه لم يشترك في الحديث بتاتا، مما يدل على أنه لم يكن موجودا، وبالتالي فإنه لم يكن يعلم أن الثمرة التي أعطتها له حواء كانت من الشجرة المحرمة. ومما يدل على ذلك أن الله لما سأله: "هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها" لم يقل نعم أكلت منها، لأنه لم يكن يعرف أنه أكل منها إلا بعد أن انفتحت عينه، فعرف أن حواء أعطته الثمرة المحرمة دون علمه، ولذلك قال لله: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تكوين12:3)، أي ما ذنبي أنا، أنت لم تحذرني من هذه الأمور ولم تلفت نظري إليها.
إن أي محكمة أرضية تتمسك بأهداب العدل لا بد أن تحكم لآدم بالبراءة، ومع ذلك نجد أن الكتاب المقدس ينسب للرب الإله العادل أنه لعن الأرض وحكم على آدم أن يأكل شوكا وحسكا وأعشاب الحقل، وأن يقضي كل أيام حياته بالتعب، ويأكل خبزه من عرق جبينه. والغريب أن هذا الرب الإله لم يعترف بتقصيره في تحذير آدم وحواء من الشيطان، وكيف أنه تركهما يقعان في حبائله دون أن يلفت نظرهما إلى الخطر الذي يمكن أن يصيبهما من كلامه.
ثم يأتي جناب القُمّص زكريا بطرس فيتساءل عن السبب في خلق الشيطان، فيقول:
"طب ما هو عارف إن الشيطان حيوقع الإنسان، حيغوي الإنسان ويوقعه، حيوقعه حيوقعه، طب خلقه ليه، سمح له ليه؟" ثم يجيب جناب القُمّص على السؤال الذي وضعه بنفسه فيقول: "الحقيقة إن ربنا مخلقش الشيطان، إمّال إيه؟ الشيطان خلق نفسه؟ لأ. الله خلق ملاك، وكان الشيطان رئيس الملائكة".
(3 )(4/57)
ذكرنا في الحلقة الماضية أن القمّص زكريا بطرس كان يحاول أن يثبت أن آدم وحواء قد وقعا في الخطية عمدا، وعلى ذلك فكان لا بد من تطبيق العقوبة عليهما لأن الله عادل. ولكننا أثبتنا من الكتاب المقدس أن ما حدث يتنافى مع عدل الله تعالى، لأن من مقتضيات العدل أن تُوَقّع العقوبة كما جاءت في نص القانون، وكان نص القانون هو "يوم تأكل منها موتا تموت"، لذلك كان ينبغي أن يموت الإنسان دون أي زيادة إضافية في العقوبة. بينما يرى جناب القمّص، أن العدل الذي يفهمه هو، والذي تعلمه من كتابه المقدس، لا يمنع أن تُضاف عقوبات أخرى عند توقيع العقوبة رغم أنها لم تأت في نص القانون. وطبعا لو طبقنا هذه القاعدة القانونية التي يؤمن بها جناب القمّص في مجتمعاتنا المدنية وفي الاتفاقات بين الأفراد أو بين الدول، لتحوّل العالم إلى فوضى وظلم واستبداد ما بعده استبداد. فمثلا، إذا اتفقت مع عامل على أنه يؤدي لي مهمة معينة في خلال ثلاثة أيام مقابل مبلغ 500 جنيه، مع وجود شرط جزائي، وهو أنه إذا تأخر العامل في إنجاز العمل في المدة المتفق عليها تُوَقّع عليه غرامة تأخير بواقع 100 جنيه عن كل يوم تأخير. ثم نفترض أن العامل تأخر يومين، يكون من العدل خصم مبلغ 200 جنيه من المبلغ المتفق عليه. ولكن حسب عدل الكتاب المقدس، يحق لي أن أخصم منه 400 جنيه أو أكثر، وأن أقوم بضرب العامل ووضعه في السجن، وأن أذهب إلى بيته وأشعل فيه النار، وأجعل حياة زوجته وأولاده جحيما لا يطاق. فهل ترضى يا جناب القمّص أن يطبق أحد عليك مثل هذا العدل؟ وإذا كنت تستنكر هذا التصرف وترفضه، كما يستنكره كل إنسان عاقل، فكيف تسمح لنفسك أن تنسب مثل هذه التصرفات الحمقاء إلى الرب الإله الذي تؤمن به؟ وهل هناك شريعة في العالم تأمر بتطبيق هذا الظلم؟ إنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، أليس من الأولى بك يا جناب القمّص أن تتفكر قليلا فيما تؤمن به من أفكار عقيمة لا تصلح للتطبيق، ولا تليق بالعقلاء، ولا يجوز أن تُنسب للرب الحكيم؟
وكما حاول جناب القمّص أن ينسب وجود الموت إلى خطيئة آدم، لأنه ربما ظن أنه لا يصح لإله المحبة أن يميت مخلوقاته التي يحبها، فإنه حاول أيضا أن يقنعنا بأن الله لم يخلق الشيطان، وإنما خلق ملاكا، وجعله رئيسَ الملائكة، ولكن الكبرياء طغى عليه، فعاقبه الله بأن أنزله إلى الأرض، وهو الذي أوقع آدم في الخطية. وكأنه يقول إن الله ليس مسؤولا عن ضلال آدم وإنما الشيطان هو المسؤول. فإذا سألنا جناب القمّص من أين أتى بهذه المعلومات، نراه يقول إن هذا جاء في سفر إشعياء الإصحاح 14، وفي سفر حزقيال الإصحاح 28. ويستخدم جناب القمّص مواهبه المسرحية فيقرأ لنا من سفر إشعياء، ولا ينسى أن يُدخل تفسيراته بين الكلام، ولذلك وضعنا كلامه بين قوسين، فيقول:
"كيف سقطتِ من السماء يا زُهرةُ بنتَ الصبح (ده تشبيه عن رئيس الملائكة)، كيف قُطعتَ إلى الأرض يا قاهرَ الأمم. وأنت قلتَ في قلبكَ أصعد إلى السماوات، أرفعُ كُرسيَّ فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعدُ فوق مرتفعات السحاب (شوفي الحتة اللي جاية دي بقى) أصير مثل العليّ (كبرياء، عايز يبقى زي ربنا). لكنكَ انحدرتَ إلى الهاوية إلى أسافل الجب".
بعد أن قرأ جناب القمّص هذا المقطع راح يسلينا مرة أخرى بمواهبه المسرحية بقراءة جزء آخر من سفر حزقيال في الإصحاح 28، لكي يثبت لنا أن الرب الإله لم يخلق الشيطان، وإنما خلق ملاكا وجعله رئيس الملائكة، ولكنه سقط فجعل من نفسه شيطانا. ونذهب إلى سفر إشعياء لنبحث عن النص الذي قرأه جناب القمّص فنجد أنه كان يتكلم عن ملك بابل، حيث يقول في نفس الإصحاح مخاطبا النبي إشعياء في عدد 3:
"ويكون في يومٍ يريحك الرب من تعبك ومن انزعاجك ومن العبودية القاسية التي استُعبدتَ بها. أنك تنطق بهذا الهجو على ملك بابل وتقول كيف باد الظالم بادت المُغَطْرِسَةُ. قد كسّر الرب عصا الأشرار قضيب المتسلطين. الضارب الشعوب بسخَطٍ ضربة بلا فتور المتسلط بغضب على الأمم باضطهاد بلا إمساك ... وهكذا إلى آخر الجزء الذي قرأه القمّص. وبعده في العدد 16 يقول: "الذين يرونك يتطلعون إليك، يتأملون فيك. أهذا هو الرجل الذي زلزل الأرض وزعزع الممالك. الذي جعل العالم كقفر وهدم مُدُنَه، الذي لم يُطلق أسراه إلى بيوتهم ... إلى آخره".
فالحديث كله عن ملك بابل الظالم الذي استعبد شعب بني إسرائيل ولم يطلق الأسرى. ولكن جناب القمّص، والمفسرين الذين على شاكلته، يلوون كلمات النص ويطبقونها على الشيطان. هذا هو الأسلوب الذي كثيرا ما يتبعه جناب القمّص، وهذه هي آفة المسيحية التي يقدمها لنا جناب القمّص. تحريف مقاصد الكلمات ولوْي معانيها لفرض معنى معين يريدون أن يلبسوه لكلام الكتاب المقدس.(4/58)
ويذكرني هذا بحدوتة أم الخير، ولحضرات المشاهدين الذين لم يسمعوا من قبل عن أم الخير أقول إنه يُحكى أن كاتبا كان يكتب قصة، وبعد مرور بضعة قرون، تسربت هذه القصة إلى الكتب المقدسة، وأصبحت جزءا منها، ووصل ذلك الكتاب المقدس إلى أيدي شخصية ظريفة مثل شخصية القمّص زكريا بطرس، فراح يفسرها ليؤيد بها مفاهيم دينه، فماذا فعل؟ كانت القصة كالتالي: ذهب الأب وابنته أم الخير إلى السوق لشراء بعض الأغراض، وأثناء العودة قال الأب لابنته: يا أم الخير احملي كيس البصل، فحملته إلى أن وصلا إلى الحظيرة، فقال لها ضعي البصل في الحظيرة". وانتهت القصة، فماذا يفعل بها ذلك الظريف ظُرف جناب القمّص، يقرأها بأسلوب مسرحي، ثم يقول الأب ده يعني الله الآب، وأم الخير يعني مريم أم الإله، لأن يسوع هو منبع الخير، فأم الخير تبقى مريم، فالآب قال لمريم احملي يسوع، فكيس البصل يعني يسوع، مش البصل فيه حياة، وهو طعام حين يأكله الإنسان ينال الحياة، كذلك حين يأكل الإنسان جسد يسوع ويشرب دمه ينال الحياة الأبدية.
وهكذا تتحول حدوته لا قيمة لها ولا أساس، إلى نبوءة عظيمة تقوم عليها عقائد خطيرة. هذه هي المسيحية التي يقدمها لنا جناب القمّص، أقاصيص وحواديت وتفاسير ما أنزل الله بها من سلطان، واختراعات لعقائد وتعاليم بعيدة كل البعد عن العقل والمنطق، لماذا؟ لأنها من تأليف الإنسان، وليست من الله سبحانه وتعالى.
نفس هذا الكلام يكرره جناب القمّص مرة أخرى عندما يحدثنا عن الشيطان المزعوم الذي جاء ذكره في سفر حزقيال الإصحاح 28 فيقول:
"الله بيكلم الملاك، كان اسمه ساتانا إيل، جت منين؟ ساتان يعني شيطان، وإيل يعني الله" ثم يعود إلى أسلوبه المسرحي فيقرأ علينا النص ويُسقط منه بعض الأجزاء، ويضيف عليه شرحه وتفسيره الذي وضعناه بين قوسين، فيقول: أنت خاتم الكمالْ ملآنٌ حكمةً وكاملُ الجمال. كنتَ في عدن جنة الله ..... أنت الكروبُ (شوفي بقى الإثبات إن ده الملاك، كروب- شاروبيم يعني ملاك) أنت الكروب المنبسط المظلل، وأقمتك على جبل الله المقدس كنتَ ..... أنت كامل في طرقك من يوم خُلقتَ حتى وُجِدَ فيك إثمٌ (اللي هوه الكِبْر) .... فأخطأت فأطرحك من جبل الله وأبيدك أيها الكروب المظلل .... قد ارتفع قلبك لبهجتك (آدي الكبرياء) أفسدت حكمتك لأجل بهائك (لما شفت نفسك بهي وجميل دخلك الغرور، فالشيطان حطّ بذرة الغرور في الإنسان) سأطرحك إلى الأرض .... قد نجّست مقادسك بكثرة آثامك ...... وتكون أهوالا ولا توجد بعد إلى الأبد" وتسأل السيدة ناهد: إزاي لا توجد بعد إلى الأبد، فيشرح لها قائلا: يعني لا توجد في محضري إلى الأبد.
وهكذا نرى نفس التزوير وتحريف المعاني، ونفس حدوتة أم الخير موجودة هنا، فلأن النص به كلمة كروب، والكروب يعني ملاك، يبقى لا بد من لوي معنى النص لكي ينطبق على الشيطان، مع أن الفقرة السابقة مباشرة للنص الذي قرأه جناب القمّص تقول: وكان إليّ كلام الرب قائلا يا ابن آدم، ارفع مرثاة على ملك صور وقل له، هكذا قال الرب. أنت خاتم الكمال، ملآنٌ حكمة وكامل الجمال ... إلى آخر النص.
فالكلام كله عن ملك صور، ولا يوجد أي ذكر لساتانا إيل الذي ادّعى جناب القمّص أن الكلام موجّه إليه. وبنفس منطق القمّص، أم الخير تصبح السيدة مريم، وكيس البصل يصبح يسوع، لأن أبوها قال لها احملي كيس البصل، والحمل معناه الحمل في الرحم، فلا بد أن تكون القصة كلها عن مريم وعن حملها ليسوع. منطق غريب وعجيب حقا ذلك الذي يستعمله جناب القمّص، ولكن هكذا تقوم المسيحية التي يؤمن بها، وهذه هي المسيحية التي يدعو المسلمين للإيمان بها.
ومع ذلك سوف نفترض أن كلامه صحيح، وسوف نقبله على علاته وعيوبه، لمجرد المناقشة والتحليل. فهل يا سيدي القمّص، سكت الله عن توضيح أصل الشيطان منذ عهد آدم إلى عهد إشعياء النبي؟ هل ترك الله الناس يجهلون حقيقة الشيطان لمدة 3500 سنة إلى أن جاء إشعياء وحزقيال ليكتبوا عنه، هذا بافتراض أنهم كانوا يكتبون عنه وليس عن ملك بابل وملك صور كما يقول الكتاب المقدس. هل هذا هو الرب الحكيم الذي هو محبة، يترك شعبه في جهل وفي ضلال طوال هذه المدة ولا يُعرّفهم حقيقة الشيطان، وأنه كان رئيس الملائكة كما تزعم يا سيدي القمّص، أو كما يزعم من سبقوك في تفسير الكتاب المقدس الذين دوّنوا آراءهم فاعتبرها الناس أنها وحي مقدس؟ وهل رئيس الملائكة الذي هو "خاتم الكمال الملآن حكمة وكامل الجمال" الذي يقول عنه الله "أنت كامل في طرقك من يوم خُلقتَ" هل يمكن لهذا الكائن أن يرتكب الإثم ويأخذه الغرور ويتسلط عليه الكبرياء؟ ومن أين عرف بهذه الآثام؟ هل كان هناك شيطان آخر أضله، أم أنه تعلمها من الله، والعياذ بالله؟(4/59)
يا للداهية ويا للمصيبة الكبرى!! إذا كان يمكن لخاتم الكمال الملآن حكمة وكامل الجمال الكامل في طرقه، أن يرتكب الإثم، فما هو الضمان أن لا يرتكب ملاك آخر الإثم أيضا، ثم يضل المؤمنين الطيبين من أمثال القمّص زكريا بطرس بعد أن يدخل فردوس النعيم في ملكوت الحياة الأخرى؟ بل ما هو الضمان أن لا يتحوّل جناب القمّص زكريا بطرس نفسه إلى شيطان يضل بقية المؤمنين في فردوس النعيم؟ بل الأدهى من هذا وذاك، ما هو الضمان أن لا يتسرّب الإثم إلى الرب الإله نفسه، فيتحوّل إلى شيطان والعياذ بالله؟ إذا كان خاتم الكمال الملآن حكمة، الكامل الجمال، الكامل في طرقه، يمكن أن يتسرب إليه الإثم فليس هناك ضمان لأي شيء، ويصبح الدين كله أكذوبة كبيرة وأسطورة غبية سفيهة لا يؤمن بها إلا السفهاء من الناس. مش كده؟ مش كده يا جناب القمّص؟ هل هذه هي المسيحية التي تدعو إليها المسلمين؟
ألم يخبرك الذين يكتبون لك ويعدّون لك المواد التي تتفضل بقراءتها أن في القرآن المجيد آية تبين وظيفة الملائكة وأنهم كما يقول الله تعالى { لا يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[ (التحريم:6). هذه هي الحكمة الحقيقية يا جناب القمّص، وهذا هو كتاب الحكمة الذي يبين أن الملائكة لا يمكن أن يعصوا الله تعالى، وأن الله أعطاهم القدرة على أن يفعلوا كل ما يأمرهم به. فالملائكة مسخّرون في تحقيق مشيئة الله، وليس لهم إرادة منفصلة عن إرادة الله، ولا يمكن أن يعصوه أبدا في كل ما يأمرهم به. وأما هذه الأفكار الهابطة التي يقول بها جناب القمّص عن الملائكة، والتي لا تليق أبدا بحكمة الله، فهي نفسها التي تسربت إلى مفاهيم بعض المسلمين القدماء، وشاعت تلك الخرافات حتى أخذها بعض المفسرين على أنها حقائق، وراحوا يفسرون كتاب الله العزيز تماما كما يفهم جناب القمّص كتابه المقدس، فاخترعوا قصة ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا إن ملاكين أرادا أن ينْزلا إلى الأرض ويعيشا معيشة بني آدم، ولكن الله حذرهما من الوقوع في الإثم، غير أنهما أصرّا على طلبهما فسمح الله لهما بالنّزول إلى الأرض، فقابلا امرأة بغية على جانب كبير من الجمال، كانت هي الشيطان في زي امرأة، فأرادت أن تزني معهما، ولكنهما رفضا أن يقعا في الخطيئة، فسقتهما خمرا حتى إذا سكرا رضيا أن يزنيا معها، وبعد ذلك راحا يعلمان الناس السحر. فعاقب الله المرأة بأن جعلها كوكب الزُّهرة الذي يظهر عند الصباح، وعاقب الملاكين بأن علقهما في بئر لينالا فيه العذاب كل صباح حين يظهر كوكب الزهرة. ومن هنا سُمّي الشيطان باسم "زُهرة بنت الصبح"، كما جاء في سفر إشعياء.(4/60)
هذه هي التفاسير التي جاءت من الإسرائيليات، والتي يحلو للقمص أن يقتبس منها كثيرا، ويقول إنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما كُتُب المسلمين بتقول كده. ما هو للأسف أن هذه الكتب مملوءة بالإسرائيليات التي تسربت إلى كتب المسلمين من كتبكم وأفكاركم يا جناب القمّص. هذه الأفكار التي تسيء إلى الله تعالى، وتصوّره والعياذ بالله في صورة إنسان أحمق لا يعرف ماذا يفعل. ألا تتفق معي يا جناب القمّص أن الله بكل شيء عليم؟ وما دام يعلم الغيب فكيف فات عليه أن يعلم أن رئيس ملائكته سوف يسقط ويتحوّل إلى شيطان؟ ولعلك تريد أن تتعلم ما هو الشيطان وكيف جاء إلى الوجود؟ عليك إذن أن تقرأ التفاسير الصحيحة الخالية من خرافات الإسرائيليات، لتعرف أن الشيطان في اللغة العربية يُطلق على كل ما هو بعيد عن الله وكل ما يسبب الأذى أو الهلاك، فأنت تكون شيطانا إذا كنت بعيدا عن الله، أو إذا عملت على إضلال الناس وتسببت في هلاكهم. والصديق الذي يضر صاحبه يكون شيطانا بالنسبة له، والمرض الذي يؤذي المريض يكون شيطانا كذلك، والحيوان الذي يؤذي الإنسان يكون شيطانا، والأفكار التي تجول بخاطرك وتدفعك إلى عمل السيئات تكون شيطانا، والشهوات والغرائز التي تدفعك إلى معصية الله تكون شيطانا، وهكذا. ولعلمك يا جناب القمّص، فإن الله تعالى حينما خلق الإنسان خلق له أيضا غرائزه وشهواته، وهذه الغرائز والشهوات ليست أمرا سيّئا في ذاتها، فليست هي من فعل الشيطان، وإنما هي من فضل الله ونعمته، بل إن حياة الإنسان والإنسانية كلها لا تستقيم بغيرها. فتصوّر مثلا حياة الإنسان الذي لا توجد لديه شهوة الجنس، كيف يمكن له أن يعمل على استمرار النوع؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة التملك، كيف يمكن له أن يحافظ على بيته وأمواله وأولاده؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة حب النفس، كيف يمكن له أن يحافظ على حياته ويعتني بنفسه؟ وتصوّر حياة الإنسان الذي لا توجد له شهوة الأكل والشرب، كيف يمكن أن يحافظ على حياة جسده ويستمر على قيد الحياة؟ إن وجود كل هذه الشهوات وغيرها ضروري لفائدة الإنسان، وإشباع هذه الشهوات أمر هام وحيوي. والغرض من شريعة الله هو تنظيم إشباع هذه الشهوات، فإذا أحسن الإنسان استعمال هذه الشهوات والرغبات والغرائز، وعمل على إشباعها بالطرق الصحيحة التي بينها الله تعالى في شريعته، فإنه ينال السعادة في الدنيا وفي الآخرة. وإذا أساء الإنسان استعمال نفس هذه الشهوات والرغبات والغرائز، وعمل على إشباعها بغير الطرق التي بيّنها الله تعالى في شريعته، فإنه ينال الخزي والهوان في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوجود الشهوات والرغبات والغرائز في حد ذاته ليس بشيء سيئ، ولا هو ضار بالإنسان، ولا هو من عمل الشيطان، وإنما هو من فضل الله تعالى ومن نعمته. ولعلك تذكر العائلة التي حدثتنا عنها، تلك العائلة الطيبة الغنية التي زرتها في مقتبل شبابك، وكان لديهم نقطة حزن، وهي أن لديهم شاب عمره 16 أو 17 سنة، ولكنه لا يتحرك إلا إذا حركوه، ولا ينام إلا إذا أناموه، ولا يستيقظ إلا إذا أيقظوه، ولا يذهب إلى المرحاض إلا إذا أخذوه إليه، ولكنه لا يؤذي أحدا بل هو مثل الكرسي، حيثما يذهبون به إلى أي مكان يذهب معهم دون أي اعتراض، وإذا تركوه ظل على حاله لا يتحرك. لقد كان وجود هذا الشاب هو نقطة الحزن لدى تلك العائلة الطيبة، وقد ذكرتَ أن هذا الشاب البائس كان فاقد العقل. لا، هو لم يكن فاقد العقل، بل كان فاقدا للشهوات والرغبات والغرائز، وعندما تغيب هذه النعم، لا يستطيع العقل أن يعمل، فيتوقف عن النمو والتقدم والرقي. إذن الشهوات والرغبات والغرائز هي نعمة من الله تعالى، ولكنها تتحول إلى مصدر شر أو إلى شيطان إذا أساء الإنسان استخدامها، وتتحول إلى مصدر خير وسعادة إذا أحسن الإنسان استخدامها. فالله تعالى يقول في سورة الشمس: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا & فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا & قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا & وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[.(4/61)
هذا قبس بسيط من نور تعاليم الإسلام يا جناب القمّص، ولك أن تقارن بين سمو هذه التعاليم الراقية، وبين ما تقدمه لنا من أفكار متهافتة عن رئيس للملائكة تحول إلى شيطان يضل الناس. لك أن تقارن بين إله خلق ملاكا وجعله رئيسا للملائكة، ولعله لم يكن يعلم أنه سوف يفسد ويدخله الكبرياء، وإن كان يعلم فلماذا خلقه؛ وبين إله خلق نوازع ورغبات وغرائز في الإنسان لتساعده على الحياة والتقدم والرقي، وأنعم عليه بالشريعة التي تُعرّفه كيف يستعمل هذه النوازع والرغبات استعمالا طيبا فيسعد ويفلح ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[، وعلمه أيضا أن سوء استخدام هذه الغرائز والنوازع سوف يؤدي به إلى الشقاء والخيبة ]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[. هذا هو إله المحبة الحقيقية، إله الحكمة والعدل المطلق، وليس الإله الذي يحكم بالعذاب الأبدي في بحيرة النار والكبريت على إنسان غلبان لا يعرف الخير والشر، لمجرد أول خطية يرتكبها وهو لا يعلم ما إذا كان ما يفعله هو خيرا أم شرا.
المهم. يقول لنا جناب القمّص "إن آدم سقط في الخطية، وأن هذا السقوط يستلزم عقوبة، لأن أجرة الخطية موت، ولكن الله في محبته لازم يغفر، وعشان يغفر لازم يكون فيه خطة فداء، وهذا هو ما سوف نتكلم عنه بتسلسل في الحلقات الجاية. مش كده؟" نعم. كده يا جناب القمّص.
( 4 )
الأسلوب الذي يتبعه جناب القُمّص في استدلالاته، وهو أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. وقد رأينا حقيقة ذلك في الحلقة السابقة عندما فسر جناب القُمّص، أو نقل عن المفسرين، تفسيرهم للكلام الذي قيل في حق ملك بابل وملك صور، فحوّله ولوَى معانيه ليستدل به على أن الشيطان كان رئيس الملائكة. ثانيا: يقدم جناب القُمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة. ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات، وسوف نرى في هذه الحلقة مثالا على ذلك. رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتفق مع وجهة نظره، وسوف نرى أيضا مثالا على ذلك في هذه الحلقة. خامسا: يتهم المشاهد المسلم بالجهل، وأنه لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم فهو لا يقبل الحقيقة. سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين. وسوف نرى أيضا في هذه الحلقة أمثلة كثيرة من هذا النوع.
يتكلم جناب القُمّص في هذه الحلقة عن جنة آدم وكيفية دخول الخطية إلى حياة الإنسان، فيقول إنها دخلت حياة الإنسان بحسب الشيطان، حيث إنه أعطى ثمرة الشجرة المحرّمة إلى حواء لتأكل منها. ويذكر جناب القُمّص أن الشجرة المحرمة لم تكن شجرة تفاح ولا شجرة مانجو، ولكنها كانت شجرة طبيعية استُخدمت فقط كرمز، مع أن الكتاب المقدس واضح تمام الوضوح في أنها كانت شجرة معرفة الخير والشر، وأن آدم وحواء بعد أن أكلا منها انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، وحتى الله نفسه قال "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3). فمن نصدق يا ترى؟ جناب القُمّص الذي يقول إنها كانت شجرة طبيعية، أم نصدق الكتاب المقدس الذي يقول إنها شجرة معرفة الخير والشر، ويقدم الدلائل على أن من يأكل منها تنفتح عينه ويصير عارفا للخير والشر؟ طبعا جناب القُمّص يعلم تماما أنه ليس هناك من شجرة تجعل من يأكل منها يعرف الخير والشر، وأن هذه فكرة أسطورية خرافية ولا يصح أن تكون موجودة في كتاب مقدس، فيحاول أن يقنعنا بأنها كانت شجرة عادية طبيعية. طبعا هو معذور، فماذا يفعل؟ يعترف بالحقيقة ويقول إن كتابه المقدس يحتوي على خرافات؟ طبعا لا. لا بد أنه يدافع عنه، فهو معذور.
بعد ذلك يشرح جناب القُمّص كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان فيقول إنه لما آدم وحواء أكلا من الشجرة المحرّمة، فقد كسرا الوصية وشقا عصا الطاعة، وبذلك دخلت الخطية في حياتهما، والخطية هنا كما يقول: "جُرثومة". ثم يقول جناب القُمّص بالنص:
"في الكتاب المقدس، في سفر يشوع بن سيراخ، وهو من أسفار إيه إل ... مش موجودة في الكتاب، الأسفار القانونية الثانية، تقول كدة: "لأن جرثومة الخطية متأصلة فيه".(4/62)
ونحن نسأل يا جناب القُمّص، أين هذا السفر المسمّى بسفر يشوع بن سيراخ؟ ولماذا لا نجده في الكتاب المقدس الذي تؤمن به؟ فماذا حدث له؟ هل نُسخ يا ترى أم أنهم نسوا أن يطبعوه. لقد قضيت يا جناب القُمّص أياما وأسابيع وحلقات بعد حلقات تحدثنا حديثا واهيا متهافتا عما أسميته بالنسخ في القرآن، ورحت تنقل عن بعض علماء العصور الوسطى الذين قالوا بوجود النسخ في القرآن، ورحت تتحدى وتسخر وتهزأ وتسأل عن الآيات المنسوخة. وقد رد عليك بعض الأخوة وشرحوا لك أنه لا يوجد نسخ في القرآن، وأن الذي قال بوجود النسخ في القرآن هم بعض العلماء الذين لم يفهموا بعض الآيات التي تحتوي على أحكام معينة، فظنوا أنها تتعارض مع أحكام في آيات أخرى. لقد كان رأيهم بوجود النسخ في القرآن مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد أخطأوا في هذا الاجتهاد فلهم أجر على اجتهادهم على كل حال. وقيل لك إن الكثير من علماء المسلمين في العصر الحديث كتبوا العديد من الكتب لبيان عدم وجود أي نسخ في القرآن، غير أنك أردت أن تصطاد في الماء العكر، فرحت تتحدث عن القرآن الكريم باعتباره كتابا ينسخ بعضه بعضا، إلى أن وقعت في نفس الحفرة التي أردت أن تحفرها للقرآن، واعترفت بلسانك بوجود سفر من الأسفار المقدسة، التي يعتبرها بعض المسيحيين من وحي الله تعالى، بينما لا يعتبرها الآخرون كذلك. فماذا حدث لتلك الأسفار المقدسة، هل نُسخت؟ وهل نُسخت لفظا وبقيت حكما، حتى إنك تستشهد بها؟ أم أنها نُسخت لفظا وحكما؟ وهل هذا هو الكتاب الذي تريد من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم الكريم ليقبلوه باعتباره كتابا مقدسا، وهو يحتوي على أسفار مقدسة لدى البعض وغير مقدسة لدى البعض الآخر؟ ألم أقل لك يا جناب القُمّص أن من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة؟ والمسيح قال: من كان منكم بلا خطية فليلقها بحجر، ورغم أنك محمّل بالخطايا باعترافك، فإنك مع ذلك تقذف بالأحجار يمينا وشمالا، وطبعا لا بد أن تقع بعض هذه الأحجار فوق رأسك يوما ما، وها قد جاء اليوم لتعلن بنفسك، وتعترف بلسانك، بوجود النسخ في الكتاب المقدس.
ثم نعود إلى الموضوع الأصلي، وهو كيف دخلت الخطية إلى حياة الإنسان، فتقول:
"المرض اللي كان عند الشيطان كان مرض إيه؟ الكبرياء. فهو حط العدوى في آدم وحوا، لما خد الثمرة وأكل منها وأعطى حوا، فسال عليها لعاب الكبرياء، فأكلت فصار فيها ميكروب وجرثومة الكبرياء، ... ، فأصبحت جرثومة الخطية في دم البشرية، مش بس آدم وحوا، النسل أيضا أصبح بهذا الشكل".
ومن الواضح يا جناب القُمّص أنك تخلط بين التشبيهات والحقائق، وتمزج بين الحقيقة والمجاز، فليس للخطية ميكروب ولا جرثومة، وهي لا تنتقل بالعدوى وإنما بالممارسة، والخطية لا يمكن أن تكون في دم البشرية، لمجرد أن آدم وحواء قد أخطآ، فالكتاب المقدس مملوء بالشواهد التي تدل على أن الآباء لا يحملون أمام الله وزر أخطاء الأبناء، كما لا يحمل الأبناء وزر أخطاء الآباء. يقول الكتاب المقدس: "لا يقولون بعد الآباء أكلوا حِصْرِما وأسنانُ الأبناء ضرِسَت، بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحِصرِم تضرَسُ أسنانُه" (إرميا29:31)، ويقول كذلك: "النفس التي تخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون وإثم الشرير عليه يكون" (حزقيال20:18). هذا هو العدل الذي يليق بأن يُنسب إلى الله تعالى، وأما أن يخطئ إنسان واحد، فيُدان الجنس البشري كله، فهذا ظلم عظيم على الجنس البشري بأكمله، ولا يليق أن يُنسب الظلم إلى إله العدل والمحبة.(4/63)
والغريب يا جناب القُمّص أنك تحاول أن تستشهد بما كتبه بعض علماء المسلمين، مثل ما قاله الترمذي: "جحد آدم فجحدت ذريته، وأخطأ آدم فخطئت ذريته"، أو ما قاله الرازي في تفسير الآية 28 من سورة يوسف { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ حيث قال الرازي: "أي ميالة إلى القبائح، راغبة في المعصية، والطبيعة البشرية تواقة إلى اللذات". ولتعلم يا جناب القُمّص أن أقوال العلماء من المسلمين هي مجرد اجتهاد من جانبهم، وهم قد يصيبون وقد يخطئون في اجتهادهم، وبالتالي فإن قولهم ليس ملزما لجميع المسلمين. وحيث إنك مولع بالاستشهاد بأقوال العلماء، فإني أقول لك مرة أخرى إن أقوالهم ليست ملزمة، وعلى هذا فلن أحاول أن أجيب عليها أو أبررها أو أخطئها أو أفندها، وتكفيني أقوالك أنت أو ما تسوقه من آيات القرآن المجيد. وأما استشهادك بالآية ]إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[، فلا يعني أن نفس كل إنسان أمارة بالسوء، بل إن النفس لدى المرأة التي قالت هذه الجملة هي الأمّارة بالسوء، فهي التي كانت تريد أن ترتكب الزنى مع يوسف صلى الله عليه وسلم ، وكانت تعيش في مجتمع منحط أخلاقيا، وإلا، فلماذا لم يوافق يوسف على ارتكاب الزنى معها لو أن نفسه هو أيضا كانت أمّارة بالسوء؟ ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القُمّص لتعرف أنه قال للمرأة: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله"؟ (تكوين9:39). فهل هذه النفس الكريمة التي تمتنع عن ارتكاب الفحشاء تكون أمّارة بالسوء؟ من الواضح أن الرازي قد أخطأ في تفسير الآية إن كان قد عممها على جميع الناس، فالمثال الذي قدمه يوسف صلى الله عليه وسلم يثبت لك أنت وهو أنكما مخطئان في فهمكما للنفس البشرية. ولكن أنت طبعا معذور يا جناب القُمّص، فأنت تردد ما كتبوه لك، وتقرأ ما سبق إعداده لك، ولم تقم بنفسك لتبحث وتتعلم وتتعرف على حقائق الأمور، مع أنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وكان الأوْلى بك أن تخرج الخشبة التي في عينك قبل أن تنظر إلى عيون الآخرين وتظن أن فيها قذى. ولو أنك قرأت وبحثت يا جناب القُمّص لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس اللوّامة، التي تلوم نفسها على فعل المعصية لأنها تكره المعصية وتستنكر ارتكاب الإثم، ولكنها لضعفها قد تقع في المعصية، فتسرع بالتوبة والندم والاستغفار، وتلوم نفسها على ضعفها. ولو أنك قرأت أكثر لعلمت أن القرآن الكريم يتحدث أيضا عن النفس المطمئنة، التي استطاعت أن تتغلب على الإثم، وصارت مطمئنة في حضن محبة الله تعالى، فلا يستطيع الشيطان أن يؤثر عليها، فيقول الله لها: { يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ & ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً & فَادْخُلِي في عِبَادِي & وَادْخُلِي جَنَّتي[ (الفجر:27)
العجيب يا جناب القُمّص أنك رجل دين، كما يبدو من ملابسك، ومن لقبك الذي ينادونك به، مع أنك تقاعدت عن وظيفة القُمّص، كما سمعت، أو أنك طُردت من الخدمة كما يقولون. وعلى أي الأحوال، كان ينبغي عليك أن تستزيد من المعرفة وتوسع أفق قراءاتك، ولا تكتفي بما يعدونه لك لتردده أمام الكاميرات، إذ من العيب الكبير على رجل دين أن يتكلم في مسائل الدين وهو يجهل إلى حد كبير، الكثير مما يتكلم عنه. عيب يا أبونا عيب! إن هذا قد يكون مقبولا من الصغار، سواء صغار السن أو صغار المقام، ولكن أنت تبدو وقد تخطيت الخمسين أو الستين من العمر، ومقامك كبير بين الناس الذين يصدقون ما تقول، فكان من الواجب عليك أن تكون أكثر ثقافة وأوسع اطلاعا، أو على الأقل تحصر نفسك في المسيحية التي تؤمن بها، ولا تقحم نفسك فيما أنت لست أهلا له، وما قد يعلو على مفاهيمك ومداركك.(4/64)
ثم ماذا أقول يا جناب القُمّص عن سوء القصد وخُبث النيّة؟ أنا لا أتهمك أنت بهذا، فأنت معذور كما قلتُ، وإنما هؤلاء الذين يكتبون لك المواد، ويُعدّون لك البرامج، ويستخرجون لك الآيات التي تستشهد بها، ألم يقرأوا الآية كلها التي انتزعوا منها جزءا وتركوا بقيتها؟ فلماذا فعلوا هذا؟ هل لأن بقية كلمات الآية ليس لها علاقة بالموضوع أم لأنهم يريدون أن يغشوا المشاهد ويخدعوا السامع ويُلبسوا الحقائقَ ثوبَ الباطل؟ إن الآية يا جناب القُمّص هي { وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ[، ومن الواضح أن في الآية استثناء، فليست كل نفس أمّارة بالسوء، والله تعالى لم يخلق النفس أمّارة بالسوء، وإنما كما ذكرت لك في الحلقة الماضية، خلق الله في النفس الشهوات والغرائز والنوازع، لتدفع الإنسان إلى التقدم والرقي. وهذه الشهوات والغرائز في حد ذاتها ليست سيئة ولا فاسدة، بل هي مفيدة وضرورية ولا بد من وجودها لفائدة الإنسان نفسه. فلو لم تكن شهوة الجنس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على استمرار نوعه، ولو لم تكن شهوة حب النفس موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على حياته ويعتني بنفسه، ولو لم تكن شهوة التملك موجودة لما استطاع الإنسان أن يحافظ على بيته وأمواله وأولاده، ولو لم تكن النفس تواقة إلى اللذات، لما استطاع الإنسان أن يتناول أطايب الطعام وأنواع الشراب والعصائر، ولكان مثل البهيمة التي تأكل نفس العشب كل يوم طوال أيام حياتها. فهذه الشهوات يا جناب القُمّص ضرورية لحياة الإنسان، وهي من نعم الله تعالى عليه، وهي في ذاتها خير لأنها تفيد الإنسان وتفيد المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن سوء استخدامها هو الذي يضر ويسيء إلى الإنسان وإلى المجتمع، فهي مثل السيارة مثلا الآن، تساعد على انتقال المرء من مكان إلى مكان بسرعة وبراحة، ولكن سوء استخدامها يؤدي إلى عواقب وخيمة للفرد وللمجتمع. وإذا نظرت حولك فيما خلق الله للإنسان، لوجدت أنه سبحانه قد سخّر للإنسان كل شيء، فنعَمه أكثر من أن تُعد أو تُحصى، ولكن سوء استخدام الإنسان لهذه النعم هو الذي يضره ويجلب عليه الخسران. إن النار تحرق وتدمر وتخرّب عند إساءة استعمالها، ولكنها تعطي الدفء عند شدة البرد، وتدير الآلات الضخمة من أجل زيادة الإنتاج. وهكذا الشهوات والغرائز والنوازع، إذا استعملها الإنسان الاستعمال الصحيح، عاش حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وإذا أساء استعمالها، انقلبت حياته إلى هم وغم وعاش في خزي وهوان في الدنيا والآخرة، أما هي في حد ذاتها فهي من نعم الله تعالى وفضله، وبدونها لصار الإنسان مثل الحجر الأصم الذي لا يتحرك ولا يضر ولا ينفع.(4/65)
ولذلك، حينما خلق الله الإنسان، وخلق له هذه الشهوات والغرائز، وأعطاه هذه النوازع والدوافع، أعطاه أيضا شريعة تنظم له كيفية إشباع هذه الشهوات دون الاقتراب من سوء استعمالها، وعبّر عن ذلك بوصف "الجنة"، فشريعة الله وقوانينه جنة، وهي تحتوي على كثير من الأوامر والنواهي التي تنظم حياة الإنسان القائمة على حسن استعمال هذه الشهوات والغرائز والنوازع والدوافع، وهذه الأوامر والنواهي مثل الأشجار المتفرعة، فهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالعبادات، أو شجرة العبادات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بالمعاملات، أي شجرة المعاملات، وهذه مجموعة الأوامر التي تختص بشئون الزواج والأسرة وتربية الأبناء، أي شجرة الأسرة، وهذه أيضا مجموعة النواهي والمحرّمات التي يجب تجنبها حتى لا يضر الإنسان نفسه، أي الشجرة المحرمة. وكل هذه الأشجار تحتويها الشريعة، أي الجنة التي عندما يعيش فيها الإنسان يعيش في نعيم مقيم. ولما قال الله تعالى لآدم: { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[، كان يخاطبه بأسلوب مجازي جميل، فيقول له إنه يستطيع أن يشبع جميع شهواته، ويرضي جميع غرائزه، أي يأكل من جميع أشجار الجنة، ويستمتع باللذات التي خلقها الله تعالى له، إذا اتبع الطريق الصحيح الذي عرّفه الله تعالى إياه، ثم حذّره من الاقتراب من الشجرة المحرّمة، أي من مجموعة النواهي أو حدود الله التي يجب ألا يقترب منها الإنسان، كما يقول تعالى ]تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا[ (البقرة:187). فإذا عاش الإنسان في جنة الشريعة هذه، وأكل من جميع أشجارها ما عدا الشجرة المحرّمة، فإنه يُشبع غرائزه ويستمتع بالحياة، ويعيش مستورا بمحبة الله وينعم بقربه، فيصبغه الله بصبغته { صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً[ (البقرة:138)، ويزوّدُه بزاد التقوى { وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[ (البقرة:197)، ويَكسيه أيضا بخير لباس وهو لباس الرحمة والمحبة والتقوى { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ[ (الأعراف:26). ولذلك طالما بقيَ الإنسان في هذه الجنة، يقول الله تعالى له { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى & وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[ (طه:118). أما الخروح من هذه الجنة فهو يؤدي إلى المعاناة والشقاء، ولذلك يقول تعالى للإنسان ]فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى[ (طه:116). ولكن مع مرور الزمن، يحدث أن ينسى الإنسان بعض الأمور، وقد يجتهد في تفسير بعض الأوامر فيخطئ، ولكنه ليس خطأ تعمّد، ولا خطأ تمرّد، وإنما خطأ نسيان دون قصد، وهذا ما صدر من آدم صلى الله عليه وسلم ، إذ يقول تعالى عنه { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[ (طه:115)، أي أنه لم يكن يقصد أن يرتكب المعصية، وإنما فعلها من باب النسيان، ولم يكن له عزم على ما فعل. فقد كان يود الخلود لرسالته، ويبتغي النجاح في مهمته، وهي تحقيق الخلافة في الأرض، فلهذا خلقه الله وجعله خليفة في الأرض. وعندما يتبين للإنسان أنه أخطأ حتى ولو بدون قصد، ويتضح له أنه عصى حتى ولو بغير تعمّد، فإن الإنسان السوي يخجل من معصيته، ويستحي من ذنبه، ويعتبره عورة ينبغي أن يخفيها، ويسأل الله تعالى أن يستره ولا يفضحه. وهكذا إذا نُزع عن الإنسان لباس التقوى، تظهر سوءاته وعوراته، فيسرع بتغطية تقصيره، ويهرع إلى أوامر الله تعالى، أي إلى أوراق الاستغفار ليغطي بها سوءته، فالاستغفار يعني طلب التغطية، فيطلب من الله تعالى المغفرة والرحمة. ولذلك يقول تعالى { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ[. لقد زال عنهما لباس التقوى فبدت لهما سوءات المعصية التي كانت بغير قصد وبسبب النسيان، فطفقا يسألان الله تعالى المغفرة لكي يغطي ذنبهما ويعيد إليهما لباس التقوى، فالعودة إلى ارتداء لباس التقوى هي التوبة، وإعادة لباس التقوى إلى الإنسان هي قبول توبته من الله تعالى. ولذلك قالا ]رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنْفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف:23)، فتقبّل الله تعالى توبتهما، وأعاد لهما لباس التقوى، إذ يقول سبحانه { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ (البقرة:37). وهكذا، أصبحت القصة كلها عبرة وموعظة لبني آدم كي يكونوا على حذر من فتنة الشهوات والغرائز، فلا يسيئون استعمالها. فهي كالنار، تفيد إذا أحسن الإنسان استعمالها، وتحرق وتُهلك إذا أساء الإنسان استخدامها. ونفس هذه الشهوات والغرائز التي تسبب السعادة واللذّة والنعيم للإنسان تتحول فتكون شيطانا يسبب الخزي(4/66)
والهوان والهلاك للإنسان، ولذا يحذر الله تعالى بني آدم فيقول { يَا بَني آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ (أي من جنة شريعة الله التي فيها ينالون رضوانه) يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا (أي لباس التقوى والقرب من الله تعالى) لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا[ (الأعراف:77). وهنا لمحة جميلة تبين حكمة العقاب والغرض منه، فالغرض من نزع لباس التقوى ليس هو الانتقام أو التشفّي أو إيقاع الضرر، وإنما { لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا[ أي لكي يري المخطئ نتائج خطئه قبل أن يراها الآخرون، ويدرك المسيء عواقب إساءته قبل أن يفتضح أمره، فيعمل على تدارك الأمر، ويلتمس تغطية تلك السوءة بالتوبة وبالاستغفار، أي بطلب استعادة لباس التقوى لكي يغطي به تلك العورة التي بدت له، فلا تظهر أمام الآخرين.
ما أعظم هذه التعاليم، وما أسمى هذه المفاهيم، وما أروع هذه التوجيهات، وما أنبل هذه الإرشادات، وما أحلى هذه الاستعارات، وما أجمل هذه الكنايات والتشبيهات، التي تعطي الكلام روعة وحلاوة، وتكسبه جمالا وطلاوة. ولك يا جناب القمّص أن تقارن بين ما يقدمه القرآن المجيد من تعاليم ومفاهيم، وبين ما يقدمه الكتاب المقدس من حكايات وأساطير، على الأقل فيما يختص بقصة آدم وجنته. فإذا نظرت إلى كتابك بعيون الكناية والمجاز، فلعلك تجد في القصة شيئا يستحق الاهتمام، وإذا نظرت بعيون المادية والحرفية، فلن تجد في القصة إلا خرافة وأوهام.
ومرة أخرى أطلب من حضرات القراء أن يتفكروا فيما أقول، وليقارنوا بين ما سمعوه من جناب القمّص في شرحه وفهمه للكتاب المقدس، وبين ما قدمت من شرح وفهم للقرآن المجيد. ثم لهم بعد ذلك أن يقرروا أي المفاهيم هي التي تليق بجلال الله تعالى، وأي التعاليم هي التي يمكن أن تصدر عن إله الحكمة والمحبة والرحمة. عسى أن يوفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، ويهدي القلوب إلى طريق الحق والرشاد. آمين.
( 5 )
والموضوع الذي نعالجه هو موضوع خطية آدم التي يدّعي جناب القمّص أن الجنس البشري كله قد ورثها منه، وأن الله قد جعل عقوبة لهذه الخطية وهي الموت، ولذلك يعتقد جناب القمّص بحسب التعاليم التي يؤمن بها من الكتاب المقدس أن الجنس البشري كله أصبح يستحق العقوبة لأنه ورث الخطية، ولما كان الله قاضيا عادلا، فإن عدله يستلزم تطبيق العقوبة. غير أن الله رحيم أيضا، ورحمته تريد أن تغفر هذه الخطية، لأنه يحب بني آدم، ولكن وقف العدل في الطريق، ومنع الله من ممارسة صفة الرحمة حتى يطبق العدل أولا. وهكذا، يصوّر لنا جناب القمّص الله تعالى وكأنه قد أصبح في ورطة شديدة ويريد أن يجد منها مخرجا.
يقول جناب القمّص أن آدم وحوا عصيا الله، وأكلا من شجرة معرفة الخير والشر التي نهاهما عنها، ونتيجة لذلك، لعن الله الأرض بمن فيها، وقال إنها سوف تنبت شوكا وحسكا، وإنه ينبغي على الإنسان أن يأكل من عشب الحقل، ويأكل خبزه بعرق جبينه كل أيام حياته، كذلك فقد أظهر الرب الإله غضبه على حواء وعلى كل نساء العالمين، فقال إنه سوف يكثّر أتعاب حبلها ويجعلها تلد بالوجع، ويكون اشتياقها إلى الرجل الذي جعله يسود عليها. ويستغرب الإنسان العادي من هذا الغضب المتفجر الذي صبّه الله على رأس آدم وحواء، مع أن جناب القمّص يقول لنا إن الله قاض عادل، ولم يكن في حيثيات الحكم سوى أنهما إذا أكلا من الشجرة فسوف يموتان، دون أي ذكر للعنة الأرض، أو تكثير آلام الحبل، أو وجع الولادة، أو الأكل بعرق الجبين. بل لقد أصاب بركان الغضب الذي تفجر جميع الثعابين والحيات في العالم، إذ صدر حكم ذلك الرب الذي يقول عنه جناب القمّص إنه قاض عادل، بأن تمشي الثعابين على بطنها وتأكل ترابا، وذلك لمجرد أن الشيطان اتخذ صورة الحية عندما أغوى آدم وحواء. ولكن ما ذنب الثعابين والحيات في العالم، وما هي الخطيئة التي ارتكبوها؟ لكن العجيب في الأمر أننا لا نرى أي حية تأكل ترابا، بل تأكل حيوانات أو طيور أو حشرات، ولكن لا توجد في العالم كله حية واحدة تأكل ترابا، فماذا حدث لهذا الشق من الحكم؟ هل نسي الله تطبيقه أم أنه غفر للحيات ولم يغفر لآدم وحواء؟ هل لديك جواب يا جناب القمّص؟؟
ويتفضل جناب القمّص فيشرح لنا معنى حكم الموت الذي صدر على آدم وحواء، وبالتالي حسب زعمه، على جميع أفراد الجنس البشري كله، فيقول:
"إيه الموت ده؟ نوعه إيه؟ (ثم يتولى جناب القمّص الإجابة على نفسه فيقول) الموت ده.. حكم الموت ده له 3 أنواع، مهمين أوي إن احنا نعرفهم عشان حيترتب عليهم إيه.. 3 نتائج، أول حكم وأخطر حكم وأخطر نوع هو الموت الروحي، وهو الانفصال عن الله".
ويشرح جناب القمّص معنى الموت الروحي والانفصال عن الله فيقول:(4/67)
"الله موجود في كل مكان، لكن علاقة الحب اللي كانت بينا وبينه الخاطي رفضها، مش عايز يخضع لربنا، عايز يعيش على مزاجه، يعمل اللي في دماغه، يمشي حسب أهواؤه، يمشي حسب ملذاته، يمشي حسب غرائزه، يمشي حسب شهواته. يبقى فين ربنا في حياته؟ فتجيب السيدة ناهد متولي وتقول: كده يبقى انفصل عن الله.
ثم يشرح جناب القمّص النوع الثاني من الموت فيقول:
"الموت الثاني هو الموت الأدبي أو العار، الكتاب بيقول عار الشعوب الخطية".
ثم يشرح جناب القمّص النوع الثالث من الموت فيقول:
"العقوبة اللي بعد كده بقى جهنم الأبدية. تبقى عقوبة الخطية انفصال عن الله، خزي وعار، وجهنم النار الأبدية. بيقولك إيه بقى في جهنم النار الأبدية، يقولك: "الله يقول للأشرار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية" ده في متّى الإصحاح 25، وفي متّى 13 يقول إيه: "فيطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان".
وقد آثرت أن أنقل كلام جناب القمّص بالحرف الواحد حتى لا يظن المشاهد أني أتجنى عليه، وحتى لا يتهمني أحد بأني أبالغ في وصف التعاليم التي ينسبها جناب القمّص إلى الكتاب المقدس. ولكي يرى المشاهد مدى الإساءة البالغة التي يسيئون بها إلى الله تعالى، ويقدمونه في صورة ممقوته، ممسوخة ومشوّهة، فتعالى الله رب العالمين عما يصفون!
وأرجو من حضرات المشاهدين أن يتصوروا وجود ذلك الإله، الذي يقول عن نفسه إنه قاض عادل، فيخلق اثنين من البشر، ولا يعلّمهما شيئا، ولا يحذّرهما من أحد، ولا يُعرّفهما الخير والشر، وإنما يسمح لهما أن يأكلا من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة، ويقول لهما "يوم تأكلا منها موتا تموتا"، فيأكلان منها بناء على نصيحة من مخلوق من مخلوقات ذلك الإله خدعهما، فتكون النتيجة أن يلعن هذا الإله الأرض، ولا يحكم على الخاطئيْن فقط بالموت، بل يحكم أيضا بالموت على آلاف الملايين من البشر من ذريتهما، ويتبين فيما بعد أن حكم الموت لا يعني الفناء ونهاية الوجود فحسب، بل يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب المتواصل في النار الأبدية، لجميع الجنس البشري بأكمله. فهل يمكن أن يكون لدى مثل هذا الإله ذرّة من العدل؟ وهل يمكن أن يوصف مثل هذه الإله بالحكمة أو بأن لدية نتفة من العقل؟ تعالى الله عما يصفون!
يا ناس! اتقوا الله! ولا تنسبوا إليه عقائد عقيمة مخزية، يخجل منها أسوأ دكتاتور في العالم، وينفُر أشد المستبدين استبدادا من أن يتّصف بها. وكل هذا لكي تأتوا بعد ذلك وتقولوا إنه أراد أن يرفع عنكم كل هذه البلاوي التي اخترعتموها بأن يأتي ويتجسّد في المسيح، ويُصلب ويموت حتى يحقق عدله ورحمته؟ وأنت يا جناب القمّص، الذي دعوتنا في برامجك أن نترك الإسلام ونتخلى عنه، من أجل ماذا؟ من أجل الإيمان بإله ذي وجهين، أحدهما ظالم مستبد شديد القسوة عديم الحكمة، والآخر تدّعي أنه محب ورحيم؟ هل فقدت عقلك وحكمتك أنت الآخر لتدعو الناس إلى قبول مثل هذا الإله الظالم الرهيب الإرهابي المتعطش إلى سفك الدماء، حتى ولو اقتضى الأمر أن يسفك دماء ابنه الوحيد البريء؟
ولماذا كل هذه المسرحية السخيفة العابثة؟ ألم يكن هذا الإله يعلم الغيب، ويعلم ماذا سيحدث لآدم وحواء، وماذا سيحدث للبشرية؟ ولنفرض أن آدم وحواء قد أخطآ، أما كان من الأفضل أن ينفذ فيهما حكم الموت، أي الفناء وعدم الوجود، ثم يعيد عملية الخلق مرة أخرى، فيخلق آدم جديدا وحواء جديدة، ولا يكرر خطأه معهما في هذه المرة، فيحذرهما من الملائكة التي تتحوّل إلى شياطين، ويلفت نظرهما إلى عواقب المعصية، ويشرح لهما نتائج عدم الطاعة، ويعلمهما الفرق بين الخير والشر؟
وأنت تقول يا جناب القمّص إن الله جعل حكم الخطية هو الموت، فلماذا وضع هذا الحكم أصلا، إذا كان سيؤدي في النهاية إلى أنه يضحي بابنه الوحيد ويجعله يُقتل على الصليب فداء للناس، وهو في الحقيقة ليس فداء للناس، وإنما هو تصحيح للخطأ الذي ارتكبه هو عندما أصدر مثل هذا الحكم. فلو أنه أصدر حكما آخر معقولا، يتسم بالعقل والحكمة التي يجب أن يتصف بها الإله، لما كان هناك ما يدعو إلى هذه القسوة الفظيعة والبشاعة المروعة في تعذيب الناس في أتون النار الأبدية أو في سفك دماء إنسان بريء، لكي يحقق عدله.(4/68)
أمن أجل خطية واحدة، يحكم هذا الإله على الناس جميعا بالعذاب الأبدي المتواصل في النار الأبدية، فيقول لهم "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية"؟ ولعلك يا جناب القمّص تقول: إن الله قال إن أجرة الخطية هي موت، والله لا يستطيع أن يغير كلامه. لا يا جناب القمّص. إن هذا أسوأ مثل يمكن أن يحتذي به أحد، بل يجب إذا أساء أحد الحكم في أمر من الأمور، أو اتخذ قرارا غير صائب، فعليه أن يغيره ويرجع عنه، فهذا شأن العقلاء من الناس، والآلهة أولى أن تكون أكثر عقلا وأشد حكمة. ثم، ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القمّص؟ ألا تعرف أن الرب قال لموسى: "رأيت هذا الشعب وهو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وافنيهم فأصيّرك شعبا عظيما. فتضرّع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرَجَهم بخُبث ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض. إرجع عن حُمُوّ غضبك، واندم على الشر بشعبك ... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" (الخروج32: 9-14).
انظر يا جناب القمّص إلى كتابكم المقدس، ولك أن تفخر بحكمة موسى الذي تدّعون أنه كتب هذا الكلام، وتعتبرونه كلاما مقدسا، عندما وجد أن الرب إلهه سوف يسيء التصرّف، وسوف يحمو غضبه على شعبه ويفنيهم، فخاف من شماتة المصريين، حتى لا يقولوا إن الرب أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال ويفنيهم، فنصحه نصيحة مخلص أمين أن يرجع عن حمو غضبه، ويندم على الشر الذي كان ينوي أن يفعله بشعبه. وهنا أدرك الرب الإله مدى خطأه واندفاعه الأرعن، فسمع لنصيحة موسى، ورجع عن حمو غضبه، وندم على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.
يا حسرتاه على ذلك الكتاب الذي ينسب مثل هذه الخرافات إلى الله العزيز الحكيم! ويا حسرتاه على أن موسى لم يكن موجودا مع آدم وحواء عندما أصدر الإله حكمه عليهما، وإلا لنصحه أن يرجع عن حُموّ غضبه ويندم على الشر الذي يريد أن يطبقه على رأس البشرية كلها. ويا حسرتاه على أن ذلك الإله راح في حمو غضبه يلعن الأرض ومن فيها، ويحكم بالموت على كل الجنس البشري، ويقضي عليهم بالعذاب الأبدي في النار الأبدية التي في بحيرة النار والكبريت، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان!!! ألم يكن من الأفضل يا جناب القمّص لو أن هذا الإله قد تحلى بشيء من حكمة موسى واستطاع أن يتمالك نفسه عند حمو غضبه؟ بل ألم يكن الأفضل من هذا وذاك أن يفكر ذلك الإله قليلا قبل أن يصدر قرارات خطيرة مثل هذه، فيحكم على البشرية كلها بالحريق في النار الأبدية؟ وإذا قلنا إن الفاس وقعت في الراس، كما يقولون في الأمثال، ألم يكن من الحكمة أن يرجع ذلك الإله عن هذه القرارات الغاشمة الظالمة، ويندم على هذه الأفعال الطائشة المستبدة؟ أم أنكم ترون أنه كان يريد أن يتجسد في المسيح بأي وسيلة، وبأي حجة، مهما كانت بشعة وقاسية، ومهما كانت كريهة وممقوتة.(4/69)
لا شك يا جناب القمّص أن الرب الذي تذكرون أنه أراد أن يتجسد من أجل حبه للبشرية، كانت لديه خطة عمل عندما بدأ الخلق، فماذا كانت تلك الخطة، ولماذا خلق الإنسان بالذات؟ يقول كتابكم المقدس: "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى الدبابات التي تدب على الأرض" (تكوين26:1). وحتى الآن يصوّر الكتاب المقدس الأمر كأنه فكرة عابرة خطرت على بال الله تعالى دون أي تخطيط سابق لها. ثم يقول: "فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض" (تكوين27:1). ويبدو من هذه الفقرة أن الغرض من خلق الإنسان هو أن يتكاثر ويملأ الأرض ويخضعها ويتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. ونجد تأييدا لهذا الكلام في الإصحاح الثاني من سفر التكوين حيث يقول الكتاب: "كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل الأرض. وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة" (تكوين5:2). وبصرف النظر عن أن هذا الكلام غير صحيح وغير علمي، ويناقض جميع الاكتشافات العلمية منذ أول اكتشاف للخليقة حتى يومنا هذا، وبغض الطرف عن أنه لا يوجد عالم جيولوجي واحد في العالم كله يقول إن الإنسان خُلق قبل النباتات والحيوانات، ويمكنك يا جناب القمّص أن تزور أي متحف للتاريخ الطبيعي في بلاد الغرب التي تمرح فيها، أو تقرأ شيئا عن تاريخ الديناصورات التي نجد حفرياتها وبقاياها في أماكن كثيرة، لتعلم أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون كلاما من وحي الله تعالى لأنه محض هراء ولا أساس له من الصحة من الوجهة العلمية والواقعية، إلا أننا سوف نتجاوز عن كل هذا لأن هذه الأخطاء العلمية لا تتعلق بموضوعنا، فنحن نريد أن نعرف لماذا خلق الله الإنسان، والكتاب يقول إنه خلقه ليعمل الأرض. ثم يقول الكتاب بعد سقوط آدم المزعوم: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أُخِذَ منها" (تكوين22:3).
من كل هذا يا جناب القمّص نعلم أن الرب الإله خلق الإنسان ليعمل الأرض، وأنه وضعه في جنة عدن لفترة مؤقتة وهو يعلم أنه سيخرج منها ليعمل الأرض التي أُخذ منها، أي أن الإنسان بخطيئته في الجنة (إن كان قد أخطأ فعلا) قد حقق الغرض الذي خلقه الله من أجله، وهو أن يعمل الأرض. فلو لم يخطئ الإنسان لظل يعيش في الجنة، ولظلت الأرض بدون أن يعملها أحد. فإذا كان الإنسان بخطيئته قد حقق غرض الله من خلقه، فلماذا كل هذا الغضب واللعنات التي صبها على الأرض وعلى البشرية كلها وقضى بتعذيبها في النار الأبدية؟ هل لديك جواب على هذا يا جناب القمّص؟(4/70)
ولعلك يا جناب القمّص تتساءل عن الغرض الذي من أجله خلق الله الإنسان كما يقدمه الإسلام العظيم. ألا فاعلم يا عزيزي أن الله خلق الإنسان من أجل غرض عظيم وهدف نبيل، وهو عبادة الله تعالى. وبالطبع فإنك مثل من هم على شاكلتك من الناس، سوف تسرع لتقول: وهل الله محتاج لعبادة الإنسان؟ بالطبع لا، فهو يقول: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ & مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ & إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[ (الذاريات:56-58). إن العبادة يا جناب القمّص ليست في إقامة الشعائر وأداء الطقوس، وإنما هذه الشعائر والطقوس وسيلة من الوسائل التي تعين الإنسان على عبادة الله. فما معنى العبادة إذن؟ إن العبد هو الشخص الذي يملكه سيده، فيُسَخّر كل عمله في خدمة سيده، ويكون رهن إشارته في كل وقت وفي كل آن. وقد يملك السيد عقارا، وقد يملك أرضا، وقد يملك مالا، وقد يملك متاعا، وقد يملك حيوانا أليفا أو داجنا، ولكن لا تُطلق كلمة "عبد" على أيّ من هذه الأشياء التي يملكها السيد، وإنما تُطلق كلمة "عبد" على الإنسان فقط الذي يملكه السيد، وذلك لأن العبد يشترك مع سيده في الكثير من صفاته وأخلاقه. أي لا بد أن تكون هناك صفات مشتركة بين السيد وبين من يمكن أن يُسمّى عبدا. ومن هنا يكون التعبد هو توافق صفات العبد مع صفات السيد المعبود، وبهذا يكون معنى قول الله تعالى بأنه خلق الإنسان لكي يعبده، أي أنه خلقه لكي تتوافق صفاته مع صفات الله تعالى، أي خلقه من أجل أن يتصف بصفات الله الربانية فيكون إنسانا ربانيا، ليس بمعنى أن الله تعالى يحل فيه والعياذ بالله، وإنما بمعنى أن تتجلى وتظهر فيه الصفات الربانية، في حدود بشريته الإنسانية. فتتجلى على الإنسان الصفات الإلهية، كما تتجلى الشمس في المرآة الصغيرة. فإذا وجّهت المرآة الصغيرة نحو الشمس ونظرت فيها، فإن الشمس التي يبلغ حجمها مليون مرة قدر حجم الأرض، تظهر في تلك المرآة الصغيرة. إنها ليست الشمس حقيقة، ولكنها تتجلى في المرآة. كذلك فإن العبد الحقيقي هو الذي تتجلى فيه الصفات الربانية، في حدود بشريته، بدون تجسد ولا حلول. فكما يكون الله رحيما يكون الإنسان رحيما أيضا، وكما يكون الله غفورا يكون الإنسان غفورا أيضا، وكما يكون الله كريما، يكون الإنسان كريما أيضا، وكما يكون الله حليما يكون الإنسان حليما أيضا، وكما يكون الله ودودا يكون الإنسان ودودا أيضا، وهكذا تتجلى الصفات الإلهية ويظهر أثر الأسماء الحسنى على ذلك العبد الذي يتجه نحو الله تعالى، تماما كما تظهر الشمس في المرآة التي تتجه نحو الشمس. وعلى هذا تكون العبادة هي التخلق بأخلاق الله تعالى، أي بالشكل الذي حث به رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين بقوله: "تخلقوا بأخلاق الله"، وكما لخص هو كل مهمته ورسالته في جملة صغيرة حيث قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".(4/71)
هذه يا جناب القمّص التعاليم الإسلامية العظيمة عن عبادة الله الحكيم الرحيم الحليم الغفور الودود، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العظمى، وليس هو ذلك الإله الممسوخ المشوّه الذي تقدمه لمشاهديك يا جناب القمّص، وتصوّره على أنه والعياذ بالله إله ظالم مستبد، يخلق إنسانا مسكينا ضعيفا، لا حول له ولا قوة، ولا علم له ولا معرفة، ولا يعرف الفرق بين الخير والشر، ثم بعد أول خطأ غير مقصود يصدر منه، يلعن الأرض بما فيها، ويتفجر حمو غضبه على المرأة المسكينة هي الأخرى فيكثّر أتعاب حبلها وآلام ولادتها، بل وينال غضبه أيضا الحيات والثعابين في العالم، فيضطرهم إلى المشي على بطونهم وأكل التراب، ثم ينسى ويتغاضى عن موضوع أكل التراب بالنسبة للحيات، ولكنه لا ينسى ولا يتغاضى عن تعذيب البشرية كلها في أتون جهنم النار الأبدية. ثم تأتي سيادتك يا جناب القمّص وتحاول أن تقنعنا بأن مثل هذا الإله الظالم الغاشم المستبد هو قاض عادل. لا، بل الأغرب من هذا أنك تحاول يا جناب القمّص أن تقنعنا بأنه إله محبة. لا شك طبعا أن الله تعالى إله رحمة وإله محبة، ولكنكم بتفسيركم المشوّه للكتاب المقدس، وبرغبتكم المستميتة الخائبة في إثبات تجسد الله في جسد المسيح، وفي محاولاتكم الفاشلة لرفع السيد المسيح إلى مصاف الآلهة وجعله ابنا لله، اضطررتم أن تنسبوا لله تعالى أوصافا حمقاء، وقدمتم لنا إلها آخر مشوها، غير الله تعالى الذي أنزل توراته على موسى صلى الله عليه وسلم ، والذي أنزل إنجيله على عيسى صلى الله عليه وسلم . ثم تأتي بعد ذلك يا جناب القمّص لتقول لنا إن هذا الإله الظالم المستبد هو إله محبة، لأنه قدم ابنه الوحيد ليكون فداء عن خطايا البشرية، فتجسد في صورة إنسان كان بريئا هو الآخر، ولكنه اقتحم عليه إنسانيته، وتلبّس في جسده، ليموت على الصليب ويفدي البشرية المعذبة التي سبق وأصدر عليها حكم العذاب في أتون النار الأبدية. ولو كان هذا هو الحق يا جناب القمّص، ولو افترضنا جدلا أن ذلك الإله الظالم المستبد قد تجسد بالفعل ليفدي البشرية، ويمنع عنها ذلك العقاب الأبدي اللانهائي المستمر في أتون النار الأبدية، لما دل ذلك على أنه إله محبة، وإنما يدل على أنه أدرك خطأه، وعرف مقدار ظلمه، وفهم حقيقة استبداده ورعونته وجنونه، وأراد أن يصلح ما أفسده بحمو غضبه وقلة حكمته.
دعك من هذا الإله يا جناب القمّص، فليس له وجود إلا في مخيلة من اخترعوه، وتَوَجه إلى الله تعالى رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، واعبده مخلصا له الدين، واستعن به لكي يهديَك إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ينجيك أنت وأمثالك من صراط المغضوب عليهم ومن صراط الضالين. آمين
( 6 )
وقد بدأ جناب القمّص حلقاته بأن حدثنا عن مفهوم الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية عن اللاهوت، وأنا أقول الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية، لأن المسيحية ليست هي فقط ما يؤمن به جناب القمّص، وإنما لها أشكال وألوان، ولكل شكل ولون عقائد ومفاهيم، وهي إذا كانت عند البعض شرقا، فهي عند الآخرين غرب، وإذا اعتبرها البعض شمالا، اعتبرها البعض الآخر جنوبا. وليست هذه مبالغة أو افتئاتا على المسيحية، فهذه هي الحقيقة التي يدركها جيدا جناب القمّص، ويعرف أن الصيغة التي يؤمن بها من المسيحية هي مجرد صيغة من مئات الصيغ التي يزعم أتباع كل صيغة أنها هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها السيد المسيح.
المهم. حدثنا جناب القمّص بعد ذلك عن حتمية تجسد الإله كما يتصوره، وذلك لكي يفدي البشرية على حد قوله، إذ يقول إن آدم أخطأ، وكان الحكم الذي وضعه الرب للخطيئة هو الموت، أي الانفصال عن الله تعالى، والخزي والعار، ثم العذاب الأبدي في أتون جهنم النار الأبدية، ليس لآدم فقط وإنما للبشرية كلها. وقد بينت في الحلقة السابقة كيف أن هذا الحكم يتعارض مع حكمة الله تعالى ولا يليق بأن يصدر عن إنسان عاقل حكيم، فضلا عن أن يُنسب إلى الله تعالى رب العالمين. ولكن، دعونا نستمر مع جناب القمّص إلى باب الدار كما يقولون في الأمثال.
يقول جناب القمّص إن الله عادل، فهو كما قال عنه الكتاب المقدس: "الله قاض عادل" (مزامير11:7)، ولذلك إذا حكم فلا بد أن ينفّذ حكمه. ولكن الله أيضا رحيم، فلا بد أن يرحم، إذ يقول الكتاب المقدس: "الرب إله رحيم رؤوف غافر الإثم والمعصية والخطية" (الخروج24: 7،6). وهنا تقول السيدة ناهد متولي إن أحباءنا في الإسلام يتمسكون بهذا ويقولون إن الله غفر الإثم. فيقول جناب القمّص:(4/72)
"ده اعتراض مهم أوي، وينبغي إن احنا نوضّحه. مش كده؟". أيوه كده يا جناب القمّص. فماذا قال جناب القمّص؟ قال بالحرف الواحد: "دلوقتي لما الله أصدر حكم الموت، بييجي الإنسان يتوب، بننتظر من الله يغفر، طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده؟ حيروح فين؟ يرجع في كلامه؟ إنت تُبت.. خلاص أنا مسامحك.. خلاص يا ابني مسامحك؟ لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته، أصدر حكم يبقى هوه الحكم، مش كده؟... ومن هنا نشأت المشكلة بين الرحمة والعدل. لو العدل أخد قصاصه يبقى مفيش رحمة، ولو الرحمة غفرت وسامحت يبقى مفيش عدل، وحاشا لله إن أي صفة من صفاته تُمَس. وهوه عشان النقطة دي بالذات كانت قصة الفداء كلها، إن عشان خاطر ربنا يغفر ويرحم، لازم يبقى فيه فدية تتحمل الحكم بتاع العدل".
ليتني يا حضرات المشاهدين كنت أستطيع أن أسمعكم كلمات جناب القمّص بصوته حتى تعلموا أني لم أنقص منها شيئا ولم أضف إليها شيئا، ولتروا بأنفسكم وتسمعوا بآذانكم الخلل الذي في تصوّر جناب القمّص ومن هم على شاكلته. لقد طلع علينا جناب القمّص بمفهوم عجيب وغريب عن العدل، مفهوم لا نراه مكتوبا في أي قانون من قوانين العالم المتحضر، ولا حتى في العالم المتخلف. مفهوم لا يعمل به أحد من البشر في العالم، إلا المجانين أو الطغاة المستبدين. فيقول إن العدل يقتضي أنه إذا صدر حُكم فيجب أن يُنفّذ الحكم، أي إذا صدر الحكم بعقوبة معينة فالعدل هو أن تُنفّذ هذه العقوبة. هل هذا مفهوم العدل عندك يا جناب القمّص، وعند المسيحية التي تدعونا إليها، أنه لا بد من تنفيذ عقوبة الحكم الصادر؟ أم أن العدل يقتضي أولا ألا يصدر الحكم أصلا إلا بعقوبة تتساوى مع الجرم؟ ألم تقرأ في كتابك المقدس يا جناب القمّص أن العين بالعين، والسن بالسن؟ هذا هو العدل يا جناب القمّص، وهو أن تكون العقوبة مساوية للجرم الذي وقع أو معادلة له. ليتك يا جناب القمّص تتعلم من حكمة القرآن الكريم، ولا تعتمد فقط على من يكتبون لك المواد التي تقرأها ويعدّون لك البرامج التي تقدمها. يقول القرآن الكريم في سورة الشورى: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[ هذا هو العدل يا جناب القمّص، أما تنفيذ العقوبة أو عدم تنفيذها فهذا ليس عدلا، وإنما هو حكمة. إذا اقتضت الحكمة تنفيذ العقوبة، لأن في تنفيذها إصلاح المذنب، فيجب تنفيذ العقوبة. وإذا اقتضت الحكمة عدم تنفيذ العقوبة والعفو عن المذنب لأن العفو عنه يؤدي إلى إصلاح المذنب، أو إلى منع فساد يكون أكبر من فساد المذنب، فيجب عدم تنفيذ الحكم. ولذلك يقول تعالى { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[، وهذا هو العدل، وأما الحكمة فهي ]فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[، أي أن العفو الذي ينتج عنه إصلاحٌ هو عين الحكمة، ويكون من الظلم المخالف للعدل ألا يعفو الإنسان في هذه الحالة. أما إذا كان العفو يؤدي إلى فساد وظلم، فيجب تنفيذ العقوبة لمنع الظلم، لأن الله لا يحب الظالمين.
هذه يا جناب القمّص حكمة الإسلام العظيم، الذي تتهمه بأنه دين إرهاب، هذه هي الحكمة التي لا تأتي إلا من عند أحكم الحاكمين. أما ما تدعونا إليه، فهو من أفكار البشر التي أقحموها على الكتاب المقدس، فحرّفوا الحكمة التي أنزلها الله تعالى فيه، والتي لا تزال آثارها تشهد بجريمة التزوير والتحريف. وأما الأفكار البشرية التي كتبها بولس، أو التي أُقحِمت على الكتاب وفُرضت على الناس باعتبارها أسفارا مقدسة، فهي أيضا تشهد بجريمة التزوير والتحريف، لأنها تخالف العقل والمنطق والواقع الحياتي لجميع الناس.(4/73)
إن دساتير الدول وقوانينها لا تنص أبدا على أن العدل هو في حتمية تطبيق العقوبة وتنفيذ الأحكام، وإنما العدل هو ألا تصدر الأحكام إلا على أساس عادل، ولا تُنفّذ العقوبة إلا إذا كانت تتساوى مع الجرم الذي وقع. إنك يا جناب القمّص من مواليد مصر، كما تدل على ذلك لهجتك المصرية، فهل رأيت في مصر قانونا ينص على أن العدل هو في تنفيذ العقوبة؟ وقد سافرت إلى أستراليا وإلى قبرص وإلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث تعلمت فيها ما تعلمت، فهل رأيت في تلك البلاد قانونا ينص على أن العدل يحتم تنفيذ العقوبة في جميع الأحوال. إن الكثير من الدول تعطي رئيس الدولة حق العفو، وفي الولايات المتحدة الأمريكية حق العفو في يد رئيس كل ولاية. ألم تقرأ في كتابك المقدس يا جناب القمّص أن بيلاطس، الحاكم الذي قدّموا أمامه السيد المسيح لمحاكمته، فلم يجد عليه علة أو ذنبا، وأراد إطلاق سراحه، ولكن الغوغاء من الناس صاحوا: اصلبه اصلبه، فلما أراد أن يطلقه بمناسبة عيد الفصح، قالوا لا، اطلق لنا براباس؟ فهل كان في العفو عن مذنب وإطلاق سراحه منافاة للعدل؟ وإن كان، فلماذا لم يعترض عليه المسيح؟ ولماذا سكت يوحنا المعمدان عن عادة إطلاق سراح أحد المذنبين في العيد، وهو الذي لم يسكت عن أعمال هيرودس وفضحه في كل مكان؟ ولو كان العدل يقتضي تنفيذ الحكم كما تدّعي يا جناب القمّص، فلماذا لم يعدل السيد المسيح نفسه؟ العجيب يا جناب القمّص أنك تكرر قولك بأن المسلمين لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، مع أن هذا القول يبدو أنه ينطبق على جنابك. وأنا الحقيقة في غاية العجب والدهشة، وأريد أن أسألك: ألا تقرأ كتابك المقدس يا جناب القمّص؟ لا شك أنك قرأته مرات ومرات، فما بالك تقرأ ولا تفهم المكتوب فيه؟ إن كنت لم تقرأ، فالجاهل معذور، وإن كنت قرأت وفهمت، فما كان لك أن تخطئ هذا الخطأ الفاحش. صحيح أنت إنسان، ويمكن أن تنسى أو تخطئ، ولكنك أيضا رجل دين، وتدعو المسلمين أن يتركوا إسلامهم ويتّبعوا مسيحيتك، واستطعت بأسلوبك البارع والمخادع أن تقنع بعض المسلمين باعتناق المسيحية، ولا لوم عليك في هذا، ولكن كان ينبغي عليك أن تقول لهم كل الحقيقة، وحسب القاعدة التي وضعتها جنابك ومن هم على شاكلتك ممن وضعوا أساس المسيحية الخاطئة التي لا يعرفها السيد المسيح، كان ينبغي عليك أن تقول لهم إن السيد المسيح نفسه لم يطبق العدل، وكان يكفي أن تقرأ عليهم ما جاء في إنجيل يوجنا الإصحاح الثامن، وهو كما يلي:
"ثم حضر أيضا (أي يسوع) إلى الهيكل في الصبح وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم. وقدّم إليه الكتبة والفرّيسيون امرأة أُمسِكت في زنا، ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا معلم، هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجَم، فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجرّبوه لكي يكونَ لهم ما يشتكون به عليه، وأما يسوع فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر. ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض. وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تُبَكّتهم خرجوا واحدا فواحدا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين. وبقيَ يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط. فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدا سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك، أما دانك أحد؟ فقالت لا أحد يا سيد. فقال لها يسوع ولا أنا أَدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضا".
والآن يا جناب القمّص، سؤالنا هو: لماذا لم يدن يسوع المرأة؟ إن كنت تقول إن الخطاة تسربوا الواحد تلو الآخر، ولم يستطع أي منهم أن يرمها بحجر، فهذا مفهوم، ولكنه هو الذي بلا خطية، لماذا لم ينفذ الحكم، بل لم يدنها أصلا؟ لعلك تقول إنه جاء ليموت من أجل البشر لا ليقيم عليهم الحد، ولكن يا سيدي هذا كان قبل واقعة الصلب، حيث كان ناموس موسى لم يُنسخ بعد، وكان لا يزال واجب العمل به، وتصديقا لذلك قال المسيح: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" (متّى17:5). أليس الإله الذي تجسّد فيه هو الذي أنزل هذا الناموس على موسى؟ أليس هذا هو حكمه الذي قرره بنفسه؟ فلماذا تخلى عن العدل، وغيّر كلامه، وبدّل كلماته، ولم ينفذ الحكم؟
وهل نسيت يا جناب القمّص ما ذكرناه في الحلقة السابقة، وما كان من أمر موسى في سفر الخروج حين قال له الرب: "رأيت هذا الشعب وهو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وافنيهم فأصيّرك شعبا عظيما. فتضرّع موسى أمام الرب إلهه وقال: لماذا يا رب يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرَجَهم بخُبث ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض. إرجع عن حُمُوّ غضبك، واندم على الشر بشعبك ... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه" (الخروج32: 9-14).(4/74)
ألم تقرأ أيضا يا جناب القمّص في سفر يونان كيف أن الرب أرسل يونان النبي (أي يونس صلى الله عليه وسلم ) إلى أهل نينوى ليخبرهم بحكم الله عليهم، وهو "بعد أربعين يوما تنقلب نينوى" (يونان4:3)، "فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحا من كبيرهم إلى صغيرهم، وبلغ الأمر ملك نينوى فقام عن كرسيه وخلع رداءه عنه وتغطى بمسح وجلس على الرماد، ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلا لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئا، لا ترع ولا تشرب ماء، وليتغط بمسوح الناس والبهائم ويصرخوا إلى الله بشدة ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك. فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه" (يونان3: 5-10).
وماذا يا جناب القمّص عن سفر حزقيال والإصحاح 18؟ ألم تقرأ فيه ما يلي: "النفس التي تخطئ هي تموت ... فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا فحياة يحيا، لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تُذكر عليه، في برّه الذي عمل يحيا. هل مسرّةً أُسَرّ بموت الشرير، يقول السيد الرب، ألا برجوعه عن طرقه فيحيا. وإذا رجع البار عن بره وعمل إثما وفعل مثل كل الرجاسات التي يفعلها الشرير، أفيحيا؟ كل برّه الذي عمله لا يُذكر، في خيانته التي خانها وفي خطيّته التي أخطأ بها يموت. وأنتم تقولون ليست طريق الرب مستوية، فاسمعوا الآن يا بيت إسرائيل، أطريقي هي غير مستوية؟ أليست طرقكم غير مستوية؟ إذا رجع البار عن برّه وعمل إثما ومات فيه فبإثمه الذي عمله يموت. وإذا رجع الشرير عن شره الذي فعل وعمل حقّا وعدلا فهو يُحيي نفسه، رأى فرجع عن كل معاصيه التي عملها فحياة يحيا، لا يموت" (حزقيال18: 20-27)
فأين ذلك المفهوم الغريب عن العدل الذي تحدثنا عنه يا جناب القمّص؟ إن الكتاب المقدس، سواء كان في العهد القديم أو في الأناجيل، يبين أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة، وأن الله لا يُسرّ بموت الشرير، بل برجوعه عن طرقه وتوبته فيحيا. وأنت يا جناب القمّص تقول لنا ساخرا بالحرف الواحد:
"دلوقتي لما الله أصدر حكم الموت، بييجي الإنسان يتوب، بننتظر من الله يغفر، طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده؟ حيروح فين؟ يرجع في كلامه؟ إنت تُبت.. خلاص أنا مسامحك.. خلاص يا ابني مسامحك؟ لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته، أصدر حكم يبقى هوه الحكم، مش كده؟"
لأ طبعا مش كده وألف مش كده. ويا ترى هل تنتظر من الناس أنهم يصدقونك ويصدقون هذه الصورة القبيحة القميئة لإله قاسٍ ظالم مستبد يعتبر أن العدل هو في تنفيذ العقوبة مهما كانت، أم يصدقون هذه المقتطفات والاقتباسات التي قدمتها لك وللناس كي يعرفوا حقيقة المسيحية التي تدعو إليها؟ إنك أنت ومن هم على شاكلتك تريدون أن تبالغوا في حكم العقوبة، وفي شدتها، وفي قسوتها، وفي هولها، وفي مصيبتها، وفي شمولها لكل البشرية، كي تأتوا بعد هذا وتقولوا مش مهم كل هذا، فإن إله المحبة قد تجسد في المسيح وجاء ليحمل عنكم العقوبة، ويموت فداء لكم. إنها كذبة كبرى تلك التي اخترعتموها من أجل أن تبرروا تجسد الله في المسيح، ولأنها فكرة بشرية فلا بد أن ينكشف زيفها، وتظهر تناقضاتها، ويتبين خطؤها، لأن من اخترع هذه الكذبة لم يدرك أنه يسيء إساءة بالغة إلى الله تعالى، ويصمه بأقذع الصفات.
إن العدل الذي تحدثنا عنه يا جناب القمّص، ليس في تنفيذ الحكم تحت جميع الظروف، وإنما في عدم صدور الحكم أصلا إلا بما يتفق مع قواعد العدل. ومع ذلك، وحتى إذا كان الحكم قد صدر حسب قواعد العدل، فلا ينبغي أن يُنفذ في كل حالة. وعليك أن تتعلم يا جناب القمّص من يونان النبي، الذي اغتاظ لأن الله لم ينفذ حكمه الذي أصدره على أهل نينوى بل رجع عنه، فقال له الرب: "هل اغتظت بالصواب"؟ أي هل لك حق أن تغتاظ؟ ثم علمه درسا مفيدا، حبذا لو تقرأه يا جناب القمّص لتتعلم أنت أيضا كيف أن الرحمة لا تتعارض مع العدل، بل هي فوق العدل. يقول الكتاب المقدس أن الله أنبت يقطينة على يونان النبي لتظلله من الشمس ففرح بها فرحا عظيما، ولكن الله أعد دودة صغيرة عند طلوع فجر الغد فضربت اليقطينة فيبست، وطلعت الشمس على يونان وأرسل الله ريحا حارة فضربت الشمس رأس يونان، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي، لأنه حزن على اليقطينة التي ماتت. فقال الله ليونان: أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولم تربها، التي بنْت ليلة كانت وبنْت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من مائة وعشرين ألف نسمة من البشر الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟ (راجع القصة في الإصحاح الرابع).(4/75)
أرأيت يا جناب القمّص؟ أرأيت كيف يغير الله حكمه من أجل مائة وعشرين ألف من البشر، كانوا خاطئين وكانت طرقهم رديئة وكان الظلم في أيديهم، ولكنهم تابوا وندموا وطلبوا الغفران من إله المحبة الذي لم يتجسد ولم يدخل في جسم إنسان، فرحمهم ولم ينفذ حكمه فيهم، ولم يقل لهم كما قلت أنت "طب وحكم الموت يروح فين؟ العدل ده حيروح فين؟ انتم عايزني أرجع في كلامي ويطلع القمّص زكريا بطرس غلطان؟ مش ممكن! أنتم تتوبوا وأنا خلاص أسامحكم؟ أقولكم روحوا يا ابني انت وهوه خلاص سامحتكم؟ طب ولو عملت كده مين يصدق القمّص زكريا بطرس؟؟
وعفوا يا جناب القمّص إذا كنت قد استشهدت بكلامك مع شيء من التصرف!!
والآن نعود مرة أخرى إلى آدم وحواء، اللذين تقول عنهما أنهما أخطآ، ولنفترض أنهما أخطآ، فهل هذا الإله الرحيم الشفوق يصدر هذا الحكم القاسي الذي فسرته أنت يا جناب القمّص بأن الموت يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب لهما ولجميع البشرية في أتون جهنم النار الأبدية إلى أبد الآبدين؟ حتى الأطفال الذين يموتون في سن الطفولة دون أن يعرفوا شيئا عن فلسفات جناب القمّص زكريا بطرس؟ يا للهول ويا للقسوة!
لو أنك يا جناب القمّص اكتفيت بتفسير الموت على أنه الانفصال عن الله، لقلنا نعم، جايز. ولو أردت أن تضيف أيضا الخزي والعار، لقلنا لا مانع ولا ضير، فلا شك أن موت الخطية يعني البعد عن الله، ومن يبتعد عن الله لا بد أن ينال الخزي والعار. ولكنك أضفت العذاب في النار الأبدية وجمعت كل البشرية في هذا العذاب، وترى أن هذا يتساوى مع حجم خطيئة فرد أو فردين، وهذا يا جناب القمّص هو عين الظلم بل وقسوته، ولا يمكن أن نقبل بأن يُنسَب هذا الظلم إلى الله الغفور الرحيم، حتى ولو كان على استعداد أن يتجسد مئات المرات، ويُصلب ألوف المرات، فإن هذا لا ينفي الظلم الذي ارتكبه بإصدار مثل هذا الحكم الجائر الظالم المستبد.
حبذا يا جناب القمّص لو أنك أعدت التفكير في الموضوع كله برمته، وحبذا أيضا لو أعادت السيدة ناهد متولي وكل أولئك الذين خدعتهم بكلامك وأسلوبك الذي يبدو للوهلة الأولى أنه صحيح، ولكن بعد التفكير والتمحيص، يتبين أنه يسيء أكبر إساءة إلى الله تعالى، ويصفه بأقذع الأوصاف. ولن يغير من الأمر شيء أن تتشدق بعد ذلك بأن إله المسيحية إله محبة، فقد كان الأولى به أن يكون عادلا أولا، فلا يصدر حكما جائرا، قبل أن يكون إلها للمحبة.
عسى أن يهديكم الله تعالى إلى الحق، ويفتح أعينكم لتروا الحق الذي أفسدته فلسفات الإغريق وملاحدة اليونان ووثنيات الرومان، فتعبدون الله الواحد الذي لا يتجسد، إله المحبة والرحمة والعدل. آمين.
( 7 )
جناب القمّص يتّبع في حديثه أسلوبا يبدو أنه منطقي، ولكنه مغلوط ومخادع، فهو يعتمد في حديثه على ما يلي؛ أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، ليخرج بمعنى لا يحتمله النص، كما فعل ذلك حين فسر كلام الكتاب المقدس عن ملك بابل وملك صور بأنه يتعلق برئيس الملائكة الذي تحوّل إلى شيطان. ثانيا: يقدم جناب القمّص أفكارا تبدو أنها صحيحة، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة خطيرة. ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقائق والتشبيهات. رابعا: يتعمّد أحيانا تحريف النص ليتّفق مع وجهة نظره. خامسا: يتهم المسلمين بالجهل، وأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يريدون أن يقبلوا الحقيقة. سادسا: يستخدم آراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين كما هو الحال عندهم في المسيحية، حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين، وإلا يُعتبر المرء كافرا ومرتدا ويُفصل من الكنيسة، وبهذا لا يستطيع أحد أن يستعمل عقله، بل عليه أن يقبل ما قرره المفسرون وحسب. وقد بينت في حلقات سابقة أن الوضع في الإسلام يختلف عن الوضع في المسيحية، فتفسيرات المفسرين غير ملزمة لجميع المسلمين، والمفسرون علماء أجلاء اجتهدوا بغرض تبسيط المفاهيم الدينية أو لشرح معاني ما فهموه من القرآن المجيد، ولكنهم معرّضون للصواب والخطأ، وقد اختلفوا مع بعضهم البعض، ونقل بعضهم عن المفاهيم المسيحية السائدة والأفكار الإسرائيلية، وهذه كلها تُسمّى الإسرائيليات. وعلى هذا، ومع كل الاحترام والتقدير لأولئك المفسرين، فإن أقوالهم ليست من أسس الإسلام، وهي غير ملزمة لجميع المسلمين، وبالتالي فرأيهم ليس حجة لجناب القمّص كي يحتج به، وهو بالطبع يفعل هذا ليُكسب أقواله شرعية ومصداقية لدى بعض الناس الذين يجهلون هذه الأمور، وذلك من أجل أن يخدعهم ويزيّن لهم أقواله، ولكن نحن له بالمرصاد، وسوف ينكشف الكذب ويفتضح الدجل ويظهر الحق بإذن الله.(4/76)
كنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة التي صدر بها الحكم، ولكن العدل هو أن لا يصدر الحكم أصلا إلا بعقوبة تتساوى مع الجرم الذي وقع، أما تنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة فهو ليس عدلا، وإنما هو حكمة. فإن كان من الحكمة تنفيذ العقوبة، لأن ذلك سوف يُصلح من شأن الجاني أو المجتمع، فيجب أن تنفذ العقوبة، وإن كان من الحكمة عدم تنفيذ العقوبة، لأن الجاني قد أدرك خطأه، أو لأن تنفيذ العقوبة سوف يؤدي إلى فساد أكبر من فساد الجاني، فيجب ألا تنفذ العقوبة. وكان جناب القمّص قد زعم أن حكم الله لا بد أن ينفذ، لأنه لا راد لكلام الله ولا مبدل لكلماته. والغريب أنه يستشهد بآيات قرآنية لا علاقة لها بموضوع تنفيذ العقوبة التي صدر بها أي حكم. وهذا يبين حقيقة ما ذكرته عن أسلوبه وهو أنه يسيء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم ليخرج بمعنى لا يحتمله النص. ومع أنه لم يفسر النص القرآني في هذه الحالة، إلا أن استشهاده بالنص كان غرضه أن يوحي بمعنى معين للسامع أو المشاهد، وهذا المعنى لا يحتمله النص، تماما كما أقول مثلا (وهو مجرد مثال) في حق جناب القمّص أن تصرفه هذا يذكرني بالآية التي تقول: { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزَّهُمْ أَزًّا & فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[ (مريم:84)، فأنا لا أقدم للآية أي تفسير، وإنما أترك السامع والمشاهد ليستنتج ما يشاء. لماذا لا تستشهد بكتابك المقدس يا جناب القمّص عندما تريد أن تبرهن على صحة عقيدة تؤمن بها، بدلا من هذا الأسلوب الملتوي الذي تريد أن تؤثر به على مشاهديك من المسلمين؟
وقد بينت لجناب القمّص في الحلقة الماضية أن الله أصدر عدة أحكام بالموت والهلاك، ولكنه لم ينفذها، فقد أراد أن يهلك قوم موسى الذين عبدوا العجل، ولكن موسى تشفع لهم فعفا الله عنهم. وحكم بهلاك قوم يونس وتدمير مدينتهم نينوى ولكنهم تابوا فعفا عنهم. والمسيح نفسه لم ينفذ الحكم على امرأة قُبِض عليها وهي تزني، مع أن الشريعة التي أنزلها الإله الذي كان متلبسا فيه، كما يؤمن بذلك جناب القمّص، كانت تنص على حتمية توقيع العقوبة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب المقدس مما يجعلنا نتساءل: ألم يقرأ جناب القمّص جميع هذه الأمور في كتابه المقدس؟ بالطبع لا بد أن يكون قرأها، وفي هذه الحالة يكون هناك 3 احتمالات: إما أنه لم يفهمها، فيجب عليه ألا يتهم المسلمين بأنهم إذا قرأوا لا يفهمون؛ وإما أنه فهمها وحرّف معانيها ليُصدق الأكذوبة التي يعيش فيها، وهي حتمية تنفيذ العقوبة في كل حالة، أو أنه فهمها وأراد إخفاءها عن سامعيه ومشاهديه حتى لا يظهر الخلل فيما يقول به. لا يا جناب القمّص. لا تظن أن المسلمين لقمة سائغة تستطيع أن تلوكها، أو أنك تستطيع أن تخدعهم بهذا الأسلوب، واعلم يقينا أن فيهم من يعرف كتابك المقدس خيرا مما تعرفه أنت، وهم لن يتركوك لتخفي الحقائق وتنشر الأكاذيب، وإنما سوف يلاحقونك ويكشفون كل زيف فيما تقول، ويظهرون الحق، فالحق من أسماء الله الحسنى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بعد ذلك حكى لنا جناب القمّص مثالا لكي يشرح موضوع أن العدل يتناقض مع الرحمة، ولا يمكن تحقيق الاثنين معا إلا إذا تطوّع أحد ليتحمل العقوبة حتى يأخذ العدل قصاصه، فيمكن بعد ذلك تطبيق الرحمة. واسمح لي يا جناب القمّص أن أسألك بإخلاص: ألا تشعر بأن ذلك الإله الذي تتضارب صفاته لا يستحق العبادة؟ ألا تنفر نفسك من إله يعجز عن أن يمارس صفة من صفاته لأن صفة أخرى تمنعه وتريد هي أن تتحقق أولا؟ ألا يذكرك مثل هذا الإله بمدمن المخدرات الذي يريد أن يمتنع عن تناول المخدرات، ولكن العادة تمنعه من ذلك وتريد أن تُشبَع أولا؟ ألا تفكر في كثير من السكيرين والمقامرين الذين يريدون أن يتوقفوا عن سكرهم وقمارهم، ولكنهم لا يستطيعون ذلك لأن هناك دافعا آخر يمنعهم ويريد أن يُشبَع ويتحقق أولا؟ ألا تستهجن نفسك أن تكون أنت أحد هؤلاء؟ ألا تشمئز نفسك من أن يصيبها هذا الخلل فتفقد كرامتك واحترامك لنفسك وتتحوّل إلى إنسان عاجز عن أن يتحكم في نوازعه ودوافعه؟ فكيف بالله عليك يا جناب القمّص تنسب مثل هذه الصفات الدنيئة إلى الإله الذي تعبده، ثم تزعم بعد هذا أن هذا الإله هو إله المحبة؟ إن هذا الإله المريض يجب ألا يكون له وجود إلا في مخيلة المرضى من الناس، وحاشا لرب العالمين أن يتصف بصفات المدمنين والسكيرين والمقامرين.
أما المثال الذي قدمه جناب القمّص فهو كما رواه للسيدة ناهد متولي كما يلي:(4/77)
"أنا استلفت ألف جنيه من حضرتك، وصرفت الفلوس دي على ابن عندي عيان، وورايا ديون وحاجات. مدّيكي ميعاد وجه ميعاد السداد ومفيش عندي فلوس أسَدّد، فات سنة مفيش، فات سنتين مفيش. يا عم هات الفلوس، مفيش.. حجيب منين؟ ده أنا مديون لغيرك وغيرك كمان، ديون ماشية. وأنت إنسانة حقانية وعادلة وعايزة حقك برضه لمصلحتك وأولادك. فبتشتكيني في المحكمة فبروح قدام القاضي. إنت أخدت ألف جنيه من المدام دي؟ أيوه حصل. يعني معترف، والاعتراف ده سيد الأدلة. أنا ما بنكرش، حبقى قسيس وانكر؟ مقدرش. طيب ادفع لها الفلوس. ياريت يا حضرة القاضي، أنا بتمنى، ده أنا غلبان ومديون لفلان وفلان وابني عيان ومش عارف عندي إيه ومشاكل كتير طيب، أجيب منين؟. القاضي شاف فيّ الصدق وشاف فيّ الاعتراف. بس المحكمة بالعدل، لكن الراجل ده كان عنده رحمة، بقى في مشكل، وشايف مشكلتي وشايف احتياجي. حيسجني بالفلوس؟ لا انتِ استفدتِ حاجة، وأنا كما حزوّد المشكلة لأن عيلتي محتاجة للي يصرف عليها. فالراجل ده من رحمته يوْجد الحل، لأنه لو حكم عليّ بالسجن أنتِ مش حتستفيدي، ولو قال لي طب مع السلامة روح شوف عيالك يبقى ظلمِك، فالراجل يعمل إيه؟ يقول لي أنت مديون بكام؟ أقول له مديون بألف. إنتي لكِ الألف دول يا ست؟ تقولي له أيوه، يروح مطلع من جيبه دفتر الشيكات، وكاتب لك شيك بألف جنيه. فتقول السيدة ناهد: يبقى كده أنا خدت حقي. فيقول القمّص: خدتِ حقك وأنا اترحمت. ده مش كده وبس. يقول لي أنا عارف إنك غلبان ومسكين ومحتاج فلوس، خد كمان شيك بألف جنيه ده عشان تغطي نفسك. ده حق ده رحيم. هكذا الأمر مع الله، صدر حكم بالموت، الله لا يعود في كلامه أبدا، ده ملك الملوك ورب الأرباب، لا راد لكلامه، بس لازم يوْجد حل عشان يدّي الرحمة".
هذا هو المثال الذي قدمه جناب القمّص، وهو المثال الذي يقدمونه دائما لشرح فكرة العدل والرحمة. والقصة من فوق السطح تبدو معقولة ولكنها ملآنة بالمغالطات وتفيض بالمفارقات. والإنسان السوي يا جناب القمّص، حينما يضرب مثلا أو يعطي تشبيها، فيجب أن ينطبق كلامه على الحالة التي يريد أن يشرحها، ولكن مثالك بعيد كل البعد عن فكرة عدل الله تعالى ورحمته.
أولا: أنت قلت في مثالك إنك استلفت من السيدة ناهد متولي ألف جنيه، يعني ذنبك يتعلق بالسيدة ناهد، فلما لم تستطع أن تدفع لها حقها اشتكتك في المحكمة عند القاضي. ولكن الحالة التي لدينا تختلف عن ذلك، إذ أن الخطأ الذي وقع فيه آدم لم يكن في حق حواء، وإنما كان في حق الله، أي في حق القاضي نفسه.
ثانيا: يبدو أن السيدة ناهد متولي غلبانة مثلك، وهي في حاجة إلى استعادة الألف جنيه من أجل أولادها، ولكن الله ليس "غلبانا" مثلكما، وليس في حاجة إلى أن يستعيد شيئا من آدم.
ثالثا: القاضي الذي في المحكمة يحكم بين طرفين أمامه، هما أنت والسيدة ناهد، فلا يستطيع أن يحكم لطرف على حساب الطرف الآخر. وأما الله فهو ليس قاضيا عادلا وحسب، وإنما هو العدل المطلق، وهو لا يحكم بين طرفين أمامه، وإنما هو خصم وحكم في نفس الوقت، وبهذه الصفة يستطيع أن يتنازل عن حقه كما فعل القاضي في مثالك يا جناب القمّص.
رابعا: قل لي يا جناب القمّص، لو أنك استلفت مبلغ الألف جنيه من ذلك القاضي الرحيم، ولم تستطع السداد، وهو يعرف حالتك ويعرف مدى عجزك عن السداد، فهل كان يحكم عليك بالسجن لعدم السداد، أم يتنازل عن حقه ويعطيك أيضا ألف جنيه أخرى لتقضي بها أمورك؟ وهل تستطيع في هذه الحالة أن تقول عنه إنه غير عادل لأنه لم يضعك في السجن، أم تقول إنه عادل ومحسن ورحيم؟
خامسا: لو كانت السيدة ناهد مليارديرة، وأنت استلفت منها ألف جنيه ولم تستطع السداد، هل كانت تطالبك بالسداد وتأخذك إلى المحكمة، أم أنها كانت تتنازل عن حقها من باب الإحسان يا جناب القمّص؟
سادسا: إن مثالك هذا يسيء جدا إلى الله تعالى، إذ يصوّره على أنه كائن أناني، يريد أن يحصل على حقه بأي وسيلة، حتى ولو اضطر أن يضحي بابنه الوحيد.
سابعا: استدلالك بأن الله لا يعود في كلامه أبدا، وأنه لا بد أن ينفذ عقابه لأنه ملك الملوك ورب الأرباب، لا يقوم على أساس ويتعارض مع الحكمة. فإن الملك لا يعود في كلامه إذا أمر بالإنعام على شخص وتبين فيما بعد أنه لا يستحق، ولكن إذا أمر الملك بعقوبة فمن حقه أن يصدر أمرا بالعفو أيضا.
ثامنا: كيف تُعلّمون أتباعكم فضيلة العفو يا جناب القمّص، إذا كان من تتخيلون أنه إله محبة، لا يتنازل عن حقه أبدا إزاء إساءة من إنسان غلبان، حتى ولو اقتضاه هذا أن يسخط نفسه في شكل إنسان، أو يقتحم جسد إنسان بريء ويدفع به إلى القتل على الصليب لكي يقتص لحقه؟(4/78)
تاسعا: مما يدل على خطأ المثال الذي قدمته عن الله تعالى أن بطرس الرسول سأل السيد المسيح كم مرة يغفر لأخيه إذا أخطأ في حقه، هل يغفر له سبع مرات؟ فقال له: "لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات". فإذا كان المسيح يحض الإنسان على أن يغفر لأخيه 490 مرة، فهل يكون العدل عندكم أن يعذب الله البشرية كلها في أتون جهنم النار الأبدية لأول خطأ صدر من آدم؟
عاشرا: ألم تقرأ المثال الذي قدّمه المسيح عن ملكوت الله، إذ قال: "لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانا مَلِكا أراد أن يحاسب عبيده، فلما ابتدأ في المحاسبة قُدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة، وإذ لم يكن له ما يوفّي، أمَر سيده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ما له ويُوَفي الدّيْن، فخر العبد وسجد له قائلا يا سيد تمهّل عليّ فأوفيك الجميع. فتحنّن سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدّيْن" (متّى23:18). فهل كان هذا الملك غير عادل عندما تنازل عن الدّين؟ وما هو وجه الشبه بين هذا المثال وملكوت السماوات لو أن العدل يعني أن ينفذ الملك العقوبة في كل حال؟ أرجو يا جناب القمّص ألا تخدع من سوف يسألونك هذا السؤال فتقول لهم إنني اقتبست جزءا من المثال وتركت الجزء الباقي، لأن الملك في النهاية أمر بتنفيذ العقوبة على ذلك العبد. وأنا بالطبع لم أترك الجزء الباقي من المثال، وإنما أردت فقط أن أبين لك ولأتباعك أن مبدأ العفو عن المذنب جائز ولا يناقض العدل أبدا، لأن الرحمة دائما فوق العدل. أما بقية المثال فهي كالتالي: "ولما خرج ذلك العبد وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديونا له بمئة دينار، فأمسكه وأخذ بعنقه قائلا: أوفني ما لي عليك. فخر العبد رفيقه على قدميه وطلب إليه قائلا تمهّل عليّ فأوفيك الجميع، فلم يرد بل مضى وألقاه في سجن حتى يوفيَ الدّيْن. فلما رأوا العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدا وأتوْا وقصّوا على سيدهم كل ما جرى. فدعاه حينئذ سيده وقال له أيها العبد الشرير، كل ذلك الدّيْن تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضا ترحم العبد رفيقك كما رحمتك أنا؟ وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين حتى يوفيَ كل ما كان له عليه. فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته".
هذه هي بقية المثل يا جناب القمّص، وكما ترى فإني لا أخفي شيئا، ولا أستشهد بجزء من آية مثل { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ[ وأترك الباقي كي أخدع السامعين والمشاهدين ليفهموا معنى خاطئا للآية. وكما ترى، لقد وضع الملك ذلك العبد في السجن لأن العبد لم يرحم كما رُحم، وليس لأن الملك أراد أن يطبق العدل حسب مفهومك أنت، ويقتص منه كل حقه. وعلى أي حال فإن ذلك العبد معذور، لأنه لم يسمع مواعظك، ولم ير صورتك البهية وأنت تشرح للسيدة ناهد مفهوم المسيحية للعدل، وإلا لوقف ذلك العبد وقال للملك: "يا جلالة الملك، لقد سمعتُ من جناب القمّص زكريا بطرس أن العدل يعني تنفيذ العقوبة، وأنت يا جلالة الملك لم تكن عادلا حين عفَوْت عني وتركت لي الديْن، ولكني أردت أن أكون مسيحيا صالحا، وأردت أن أكون عادلا كما أن إله المسيحية عادل، فطالبت ذلك العبد بما لي عنده، فلما لم يستطع السداد ألقيت به في السجن، فهكذا يُنفّذ العدل في المسيحية، فلماذا تغضب مني يا جلالة الملك"؟
فما رأيك في هذا يا جناب القمّص؟ هل لديك إجابة؟
نعم.. لعلك تتمحّك الآن في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وابنه، وتقول كما قلت في حديثك:
"بغض النظر عن الاختلافات وما إذا كان الابن هو إسحاق أو اسماعيل، فإن الله طلب منه أنه يقدّم ابنه، "... رأى في المنام أنه إيه.. بيدبحه، فخده وراح. ولما وَتَلَهُ للجبين، يعني نزّله ورفع السكين، سمع صوت، انظر، ما تعملش حاجة لابنك، التفت، لقى إيه؟ الفدا.. الفداء. كان لازم الفداء ده؟ ليه.. طب ما ربنا قال له ادبحه، وربنا يقول له خلاص ما تدبحوش، وخلصت العملية". وهنا تضحك جنابك مع السيدة ناهد وتقول: "ما هو لو كان ربنا يقول كلام ويرجع فيه ويقول كلام ويرجع فيه، الحكاية تبقى.. ما فيش قوانين في الدنيا، مش كده؟ لكن ربنا عشان خاطر يفدي أو ينقذ هذا الشخص ويخلصه من حكم الذبح قال: فديناه بذبح عظيم. يبقى كده نفّذ الاتنين الحكم والفداء، الحكم في الفادي والرحمة للمخطئ. لكن ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه يتوب يقول له طب روح.. خلاص".(4/79)
ولتعلم يا جناب القمّص أنه لم يكن هناك خاطئ يستحق الرحمة في قصة إبراهيم وابنه، فاستدلالك بها ليس في محله. ثم هل ما تقوله يا جناب القمّص حق أم كذب؟ هل "ما فيش إطلاقا إن ربنا.. بمجرد إن هوه (أي الإنسان) يتوب يقول له طب روح خلاص"؟. فعلا يا جناب القمّص. أنت على حق، وما تقوله هو الحق. ولكنه يختص بالمسيحية التي تؤمن بها أنت، والتي لم تأت من عند الله ولكنها من أفكار البشر، ولذلك لم يذكر العهد القديم ولا الأناجيل هذه العقائد التي تروّجها يا جناب القمّص. فلا يوجد إطلاقا في مسيحيتك أن الإنسان يتوب فيغفر له الله الغفور الرحيم، ولذلك فإنك تحاول أن تشوّه النص الذي جاء في العهد القديم والذي يقول "الرب إله رحيم ورؤوف ... غافر الإثم والمعصية والخطية" (خروج34: 6-7)، فتقول: "هوه بيغفر، يقدر يغفر، بس لازم يِوْجد الفدا.. الحل". هذه هي الزيادة التي أدخلتها يا جناب القمّص على النص، وذلك من أجل أن تبرر الفداء، الذي تزعم أنه اقتضى التجسد، الذي تزعم أن الإله الابن قام به، وذلك من أجل أن تبرر مذهب التثليث في المسيحية التي تؤمن بها.
كلمة أخيرة أود أن أقولها عن موضوع الآية { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[، إذ يقول تعالى:
]فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ & فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ & ونَادَيْنَاهُ أَن يَآ إِبْرَاهِيمُ & قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ & إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلآءُ الْمُبِينُ & وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ[ (الصافّات: 102-107).
إن العظيم في الأمر هو أن الله تعالى أراد أن يبين لإبراهيم وإسماعيل، وبالتالي لجميع من يأتي بعدهما، مدى إخلاص كل منهما وطاعته لله تعالى. وكان إبراهيم قد أثبت من قبل طاعته وولاءه لله تعالى، وذلك حين أمره الله أن يأخذ ابنه الوحيد اسماعيل ويتركه في واد غير ذي زرع في وسط الصحراء الجرداء، فكان هذا حكما بتعريضه للموت والهلاك، كالقتل أو الذبح، ولكن إبراهيم أطاع الأمر وأثبت ولاءه لله تعالى. وكان على إسماعيل أن يثبت أيضا نفس هذه الطاعة والولاء. فكانت الرؤيا لإبراهيم أنه يذبح إسماعيل، وهنا أثبت إسماعيل أيضا طاعته وولاءه لله تعالى بأن قال { يَآ أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ[. ولما أراد كل منهما أن ينفذ الرؤيا حرفيا، قال الله تعالى لإبراهيم ] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ[، ولم يقل قد صدّقتما الرؤيا، مع أن كليهما كانا مشتركين في التنفيذ الحرفي، إذ لم يكن الغرض هو تنفيذ الرؤيا حرفيا، وإنما كان الغرض إثبات طاعة وولاء إسماعيل، أما إبراهيم، فكان قد صدّق الرؤيا من قبل، أي أنه كان قد حققها حين أطاع أمر الله بترك إسماعيل في ذلك الوادي دون ماء أو طعام، وقد أبقى الله تعالى على حياة إسماعيل، لأن من نسله سوف يأتي نبي عظيم، الذي شُبّه بالذبح العظيم، وذلك لأن الذبح قربان يتقرّب به الإنسان إلى الله تعالى، فهو وسيلة من وسائل التقرّب إلى الله، وكذلك فإن النبي العظيم الذي سوف يأتي من ذرية إسماعيل سوف يكون هو وحده الوسيلة لمعرفة الله الواحد والتقرب إليه، وهو الذي سوف يدعو البشرية كلها إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولذلك فهو الذي يستحق أن يوصف بإنه ذبح عظيم، أي أنه قربان عظيم، أي أنه هو الوسيلة العظيمة لمعرفة الله والتقرب إليه. أما الكبش أو الخروف فلا يستحق أن يوصف بأنه ذبح عظيم، لإنه مجرد وسيلة فقط من وسائل التقرب إلى الله تعالى. وبالتالي فإن موضوع هذه القصة لا يتعلق بشيء عن موضوع الفداء الذي يتكلم عنه جناب القمص.
بقي أن أهمس في أذنك برجاء يا جناب القمّص، وهو أن تطلب ممن يعدّون لك البرامج، ويكتبون لك المواد التي تقرأها، أن يضعوا الحركات من فتح وكسر وضم وتشديد فوق الحروف حتى تستطيع أن تقرأها قراءة صحيحة، فالآية التي ذكرتها في حديثك هي { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ[، وليست "ولما وتَلَهُ للجبين"، فإن الخطأ في قراءة آيات القرآن الكريم، سواء كان متعمّدا أو غير متعمّد، فهو يؤذي مشاعر المسلمين، ولك جزيل الشكر.
( 8 )(4/80)
تعرضنا في الحلقتين الماضيتين لموضوع العدل والرحمة، وأوضحنا أن الرحمة لا تناقض العدل، وأن العدول عن تنفيذ العقوبة لا يتعارض مع العدل، وأن الكتاب المقدس نفسه يذكر أن الله عدل عن تنفيذ العقوبة في عدة مواضع بالنسبة لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومدينة نينوى التي تاب أهلها فعفا عنهم. وفي الأناجيل نقرأ أيضا أن المسيح نفسه لم ينفذ العقوبة على امرأة ضُبطت وهي تزني، وكان يُعلّم الناس العفو عن المسيء، وضرب مثلا يتبين منه أن العفو وعدم تنفيذ العقوية لا يتناقض مع العدل. وهكذا يتبين أن الفكرة التي قدمها لنا جناب القمّص زكريا بطرس والتي تقوم عليها عقيدة الفداء، وهي أن العدل يتناقض مع الرحمة، هي فكرة نابعة من عقول البشر الذين جاءوا بعد المسيح، وشوهوا المسيحية الجميلة التي جاء بها السيد المسيح، ليخلقوا مسيحية ممسوخة لا تقوم على منطق ولا أساس سماوي. وفي هذه الحلقة سوف نكشف زيف عقيدة أخرى اخترعها البشر وهي، مبدأ الفداء والأسس التي يقوم عليها.
يقول لنا جناب القمّص زكريا بطرس إن مبدأ الفداء الذي من أجله تجسد المسيح ومات على الصليب هو المحور الذي يدور حوله الكتاب المقدس، وعندما تسأله السيدة ناهد متولي أن يقدم الأدلة من الكتاب المقدس ومن القرآن الكريم، يقول إن الكتاب المقدس مملوء بالأدلة التي تتكلم عن الفداء. وللأسف إن جناب القمّص يكذب ولا يقول الحقيقة، وأنا أتحداه أن يقوم بعملية حسابية بسيطة، يجمع فيها عدد المرات التي تكلم فيها العهد القديم والأناجيل عن وحدانية الله وكل ما له علاقة بعبادة الله وحده، ثم يجمع عدد المرات التي تكلم فيها العهد القديم والأناجيل عن عقيدة الفداء المزعوم التي يتجسد فيها الله في شكل إنسان لكي يموت نيابة عن البشر، ثم عليه أن يخبرنا ويخبر العالم كله بالنتيجة. وأنا أقول له مقدما إنه لن يجد في العهد القديم أي تعليم صريح يتكلم عن عقيدة الفداء هذه، وكل ما هناك مجرد ذكر لأمور يفسرها جناب القمّص على مزاجه، ويتخذ منها رموزا يدعي أنها ترمز لعقيدة الفداء، تماما كما ذكرنا فيما سبق عن قصة أم الخير. ولحضرات المشاهدين الذين لم يتابعوا حلقاتنا من قبل نقول إن أحد القصاصين كان يكتب قصة، فكتب فيها إن رجلا من الفلاحين ذهب مع ابنته إلى السوق ليشتري بعض الأغراض وأثناء عودتهما قال الأب لابنته، وكان اسمها "أم الخير": احملي كيس البصل يا أم الخير وضعيه في الحظيرة، فلما وصلا إلى الحظيرة، وضعت أم الخير كيس البصل في الحظيرة. ونكتفي يهذا الجزء من القصة التي نفترض أنه لسبب أو لآخر، تسربت هذه القصة إلى بعض الكتب التي يعتبرها بعض الناس أنها مقدسة. ثم يأتي جناب القمّص فيفسرها ويدّعي أنها كانت ترمز لولادة السيد المسيح، وذلك لأن فيها بعض الألفاظ التي تتشابه مع قصة ولادة المسيح، فيقول إن الأب هو الله الآب، وابنته أم الخير هي مريم، لأن الخير يرمز للسيد المسيح، ولما قال لها الأب أن تحمل كيس البصل كان يقصد أن تحمل السيدة مريم بالسيد المسيح بقوة الروح القدس، لأن البصل طعام يعطي الحياة لمن يأكله، وأن وضع أم الخير كيس البصل في الحظيرة كان نبوءة تدل على أن مريم سوف تضع المسيح في حظيرة.
وهكذا يا حضرات المشاهدين يقوم جناب القمّص بالربط بين بعض الكلمات المتشابهة ليخرج علينا بعقائد جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، وينسبها للكتاب المقدس، وتقوم كلها على تحميل النص ما لا يحتمل. وحين تسأله السيدة ناهد متولي أن يذكر للمشاهدين ما جاء في الكتاب المقدس عن عقيدة الفداء يذكر لها 3 وقائع فقط لا غير، وهي كما يلي:
(1) أن آدم وحواء بعد أن أخطآ عرفا أنهما عريانان، فخاطا لأنفسهما مآزر من ورق الشجر، ولكن عندما تطلع الشمس كان ورق الشجر يجف فتنكشف عورتهما، فصنع الرب لهما أقمصة من جلد وألبسهما. ثم يتساءل جناب القمّص بعبقريته المهولة: طب جاب الجلد منين؟ ثم يرد فيقول: من الذبيحة من الفداء، وهو يقصد أن هذه الذبيحة ترمز لموت المسيح على الصليب! وعفا الله عنك يا أم الخير.(4/81)
(2) أن آخر ضربة من الضربات التي أنزلها الله بفرعون والمصريين هي قتل الابن البكر للناس والحيوانات والبهائم، وتصادف هذا أن يكون في عيد الفصح لدى اليهود، فقال الرب لموسى أن يضع اليهود علامة من دم خروف الضحية على بيوتهم، حتى عندما يمر ملاك الموت يرى العلامة فيعبر عن هذا البيت، وأما البيت الذي لا توجد عليه علامة يكون بيت للمصريين فيدخل فيه ويقتل ابنهم البكر. ويلوي جناب القمّص هذه الواقعة ليقول إن الخروف يرمز للفداء، أي أنهم ذبحوا الخروف بدلا من ابنهم البكر فكان فدية، وبذلك يتركهم ملك الموت ويعبر عنهم. مع أن القصة لا تمت بصلة إلى هذه العقيدة الشاذة التي ينسبها جناب القمّص إلى خروف الفصح، وملاك الموت لا يحتاج إلى علامة من دم حتى يدخل أو يعبر، وإنما أراد الله أن تكون هذه آية للمصريين ليروا أن بيوت بني إسرائيل التي عليها هذه العلامة لم يدخلها الموت. وهكذا نرى نفس الأسلوب في تفسير قصة أم الخير.
(3) أن شريعة موسى كانت تحتوي على تقديم فدية عندما يخطئ واحد من اليهود، ويدّعي جناب القمّص أن هذه الفدية ترمز للفدية التي قدمها المسيح بموته على الصليب، مع أن ملايين اليهود الذين مارسوا هذه الشعيرة وألوف الملايين من المسلمين الذين مارسوا أيضا هذه الشعيرة ويمارسونها في عيد الأضحى، لم يكتشفوا هذا السر الخطير الذي اكتشفه جناب القمّص ومن يؤمنون بهذه المسيحية المشوهة التي اخترعوها لتحقق ما يريدون أن يقحموه على الكتاب المقدس من عقائد وأفكار من صنع البشر، ومسّاك الله بالخير يا أم الخير!
هذه هي الوقائع الثلاث التي ذكرها جناب القمّص عن عقيدة الفداء، التي يدّعي أن محور الكتاب المقدس يدور حولها. وهو لا يكتفي بهذا فحسب، بل يدّعي أن هذه العقيدة موجودة أيضا في القرآن الكريم، فيقول إنه في الآية 32 من سورة المائدة يقول تعالى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَني إِسْرَآئِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[. وهنا تتجلى العبقرية القمّصية في التفسير فيسأل: لماذا على بني إسرائيل بالذات، ثم يجيب على نفسه: لأنهم هم الذين صلبوا المسيح!!. ثم يستمر في تفسيره العبقري فيقول: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، يعني من قتل نفسا بريئة طاهرة ما عملتش فساد في الأرض ولم ترتكب الإثم، (مع أن الآية لا تشترط أن تكون النفس المقتولة بريئة وطاهرة ولم تفسد، إذ يمكن أن تكون تلك النفس سارقة أو مرتشية أو تغتاب الناس أو تسيء معاملة الجيران، ومع ذلك فلا يصح قتلها بغير أن تكون قد قتلت نفسا، أو أفسدت في الأرض فسادا شديدا يعادل قتل النفس). ثم يقول: فكأنما قتل الناس جميعا، وهنا نجد أنه يفسرها بمعنى أنه قد قتل الناس جميعا بالفعل. ثم يقول: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي أن من أحيا هذه النفس البريئة الطاهرة فقد أحيا الناس جميعا، ويستنتج من هذا عقيدة الفداء المزعومة، فيقول: من هي النفس البريئة الطاهرة التي قُتلت ثم عادت إلى الحياة غير المسيح؟ أي أنه افترض أن المسيح قد مات وعاد إلى الحياة بالفعل، مع أن هذه هي النتيجة التي يريد أن يصل إليها من المقدمات التي يحدثنا عنها. وهكذا نراه يستخدم النتيجة في إثبات صحة المقدمة، وهذا خطأ منطقي، لأنه لا بد أن تكون المقدمات صحيحة لتصل إلى صحة النتيجة وليس العكس. يعني مثلا إذا أردنا أن نثبت جرم أحد المجرمين، فقلنا إن الرجل كان موجودا في مكان الجريمة، ولم يكن أحد سواه هناك، فهذا يدل على أنه ارتكب الجريمة. فهنا ذكرنا مقدمات صحيحة ووصلنا إلى النتيجة المترتبة عليها وهي ارتكاب الجريمة. أما جناب القمّص فيقول: حيث إن الرجل ارتكب الجريمة فلا بد أنه كان في مكان الجريمة، أي أنه يستخدم النتيجة لإثبات صحة المقدمة، ثم يقول بعد ذلك، وحيث إنه ثبت أن الرجل كان في مكان الجريمة فلا بد أن يكون هو الجاني، وهو بذلك يستخدم المقدمة لإثبات صحة النتيجة. وكذلك في التفسير الذي يقدمه للآية يستخدم النتيجة، وهي ما يزعمه من قتل المسيح وعودته إلى الحياة، ليثبت المقدمة وهي فكرة الكفارة والفداء، ثم يعود ويقول إن وجود فكرة الكفارة والفداء هي من أجل بيان صلب المسيح. ومع ذلك فهو يدّعي أنه يتكلم بالمنطق ويخاطب عقلية القرن الواحد والعشرين.(4/82)
ويضيف جناب القمّص استدلالاته العبقرية على وجود مبدأ الفداء في الإسلام، فيستشهد بما فعله عبد المطلب جد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نذر أن يذبح ابنا من أبنائه الذكور إذا رزقه الله بعشرة من البنين، فخرجت القرعة على عبد الله أصغر أبنائه وأحبهم إليه، فأراد أن يفديه بذبح عشرة من الجمال، ولكنه حين اقترع خرجت القرعة على عبد الله، فزاد عدد الجمال إلى عشرين وثلاثين إلى أن بلغت مائة فخرجت القرعة على الجمال، وبهذا نجا عبد الله من القتل. وجناب القمّص يرى بذكائه الخارق أن هذا دليل على وجود مبدأ الفداء في الإسلام الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يكن قد ولد بعد!! أرأيتم يا حضرات المشاهدين كيف أن القمّص يلوي الحقائق ويزيفها ليخرج بالنتيجة التي يريد أن يؤيد بها فكره الذي لا يقوم على أساس ولا منطق؟
كذلك فإنه يدّعي أن ذبح الذبائح عند المسلمين دليل على وجود فكرة الكفارة في الإسلام، وذلك لأن الذبائح تُكفّر عن الذنوب، حيث جاء في الكتاب المقدس مبدأ "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". وحينما نتقصّى عن ذلك المبدأ العجيب، نجد أن الله لم يعلمه لآدم، ولم يعلمه لنوح، ولم يعلمه لإبراهيم، ثم أنزل على موسى التوراة ولم يذكر فيها هذا المبدأ العجيب، ولم يعلمه لأحد من الأنبياء بعد موسى، ولم يعلمه حتى للمسيح، ولم يعلمه أيضا لتلاميذ المسيح، وإنما عُثر على هذا المبدأ في رسالة من مؤلف مجهول، لا يُعرف من كتبها على وجه التحديد، ولو أن البعض يقول إن بولس هو الذي كتبها، ولكن هناك أدلة على غير ذلك. وليس هذا كلامي يا جناب القمّص، فأنا لا آتي بشيء من عندي، ويمكنك أن تراجع نسخة الكتاب المقدس الأمريكي الجديد The New American Bible، المطبوع في نيويورك في 27 يوليو (تموز) عام 1970، ويحمل موافقة رئيس أساقفة واشنطن، لتعلم يا جناب القمّص أن رسالة العبرانيين مجهولة المصدر. وهذه هي الرسالة التي جاء فيها هذا المبدأ العجيب: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"، وكأن الله، تعالى عن ذلك، كان مثل دراكيولا، متعطشا للدماء، فلا يعفو ولا يغفر إلا إذا سفك له الإنسان دماء ضحية بريئة، ولذلك فهو أيضا لا يستطيع أن يعفو ولا يغفر إلا إذا سفك دماء ابنه البريء!!
ألا فاعلم يا جناب القمّص أن الذبيحة في الإسلام تُسمّى "قربانا"، لأنها وسيلة للقرب من الله تعالى، والإنسان حين يذبح الضحية فكأنه يقول يا رب إني أموت عن خطاياي كما تموت هذه الضحية، ومنذ الآن فإني أبدأ صفحة حياة جديدة في طاعتك، حياة تقوم على البر والتقوى وعمل ما تحب وترضى. فليس ذبح الضحية في حد ذاته هو الذي يأتي بالمغفرة، وليس في دم الضحية من شيء يستجلب المغفرة من الله تعالى، وإنما العمل الذي يقوم على التقوى هو الذي يتقبله الله. ولذلك يقول تعالى عن هذه الذبائح والأضحيات { لَن ينَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتَكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ[ (الحج:37). وفي قوله تعالى { سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } قاعدة تنسف نسفا فكرة الفداء التي تقوم عليها المسيحية الباطلة. فالآية الكريمة تقرر أن الله تعالى سخّر لنا هذه الحيوانات، وجعلها في خدمتنا وتحت تصرّفنا، لأنه كرّمنا وجعلنا أفضل منها، ولذلك فقد وضع الله تعالى مبدأ التضحية بالأدنى في سبيل الأعلى والأعظم. فالأمّة إذا تعرضت للعدوان تضحّي ببعض أبنائها في الحرب في سبيل مصلحة الأمّة والحفاظ على كيانها، ولكن الإنسان الذي يضحّي بالأمة في سبيل مصلحته يُعتبر خائنا. كذلك فإن المرء إذا أصاب إصبعه تسمّما يهدد سلامة اليد، فقد يضطر إلى التضحية بالإصبع ويبترها في سبيل المحافظة على اليد، ويضحي باليد في سبيل المحافظة على الذراع، ويضحي بالذراع في سبيل المحافظة على الجسد، ولكنه لا يضحي برأسه في سبيل المحافظة على إصبعه، إذ لا يفعل ذلك إلا المجانين أو من يريدون الانتحار. فالله تعالى سخر هذه الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان لكي تكون وسيلة يتقرّب بها إلى الله، ويتعلم أن يضحي بشهوات نفسه، التي هي أدنى، في سبيل الحصول على رضا الله تعالى الذي هو أعلى وأعظم وأكبر من الإنسان، فقال { لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[.
هذه هي فلسفة التضحية والفداء في الإسلام يا جناب القمّص، وليست هي في سفك الدماء لإله متعطش للدماء، لا يغفر إلا إذا سُفك الدم. كذلك فإن مبدأ الفداء الذي تقوم عليه مسيحيتك يقلب الأمور، ويجعل التضحية بالأعلى في سبيل الأدنى، أي تضحية ابن الله البريء من أجل الإنسان الخاطئ. وأنت تسمّي هذا محبة، ويكررها قساوسة المسيحية في كل مناسبة، للتدليل على محبة الله للإنسان، مع أن التضحية بالأعلى من أجل الأدنى يدل على الخبل والجنون والخيانة.(4/83)
وبعد أن نسب جناب القمّص إلى الله تعالى أنه قضى بالموت والعذاب الأبدي في جهنم النار الأبدية على كل البشرية، يقول إن الله يريد أن يغفر للبشرية، ولكنه لا يستطيع ذلك لأنه لا بد أن ينفذ العدل أولا قبل أن يرحم ويغفر، فلا بد أن يجد فاديا يُنفذ فيه حكم الموت هذا، فيستطيع بعد ذلك أن يغفر للبشرية. ثم يتساءل جناب القمّص عن شروط هذا الفادي ويقول إن الخطية يقاس حجمها وجُرمها، وكبرها أو صغرها، بالشخصية الْمُساء إليها. ولا أعلم من أين أتى بهذه القاعدة التي لم تأت في أي كتاب سماوي أو غير سماوي، اللهم إلا الكتب التي تقوم على الأفكار الإنسانية أو الشيطانية. ثم يقدم مثالا على ذلك فيقول: لو أنه أخطأ في حق شخص عادي بسيط مثل الفرّاش الذي يعمل في مكتبه، فماذا يكون علاجها أو فداؤها؟ ورقة بخمسين جنيه أو مائة جنيه ويقول له خد دول لأولادك، اشرب بهم شاي، فيسأل الفراش: ليه يابيه عشان إيه ده يا بيه؟ فيقول له: أنا غلطت في حقك يا ابني وشتمتك، فيقول: ياريت تشتمني كل يوم يا بيه. ثم يقول: لو أنا ارتكبت الجرم ده نفسه أو قلت الشتيمة دي ضد رئيسي أنا، أقوله خد الميت جنيه دول؟ طبعا لأ، العملية كبرت. ولو أنا أخطأت بنفس الجرم ده ضد رئيس الجمهورية؟ فتقول السيدة ناهد متولي: تروح ورا الشمس. فيضحك الإثنان ثم يقول جناب القمّص: فلما الخطية كبرت، كبرت بحجم من يُساء إليه وقيمة من يُساء إليه. طب تعالوا بقى للي يغلط في حق ربنا، أي إنسان مهما كان برضه ولو رئيس جمهورية برضه محدود، لكن الله غير محدود، يبقى الخطأ اللي في حقه يكون إيه؟ غير محدود. ما هو أي حاجة مضروبة في ما لانهاية تبقى ما لانهاية. يبقى خطيتي واحدة في حق الله غير المحدود أصبحت خطية غير محدودة تستوجب عقوبة غير محدودة، موت أبدي. طب لما نيجي نفديها بقى نفديها بفادي شكله إيه؟ غير محدود أيضا. ثم يقدم مثالا آخر فيقول للسيدة ناهد: يعني لو أنا أخدت منك عربية رولزرويس وخبطتها في شجرة، أروح أجيب لك عربية فيات وأقولِك معلش خدي العربية دي بدالها؟ ما ينفعش. العربية رولزرويس تفديها بعربية رولزرويس. خطية ضد الله تبقى محتاجة إلى فداء غير محدود على قد الله، الأمر المستحيل إنه يبقى فيه فادي على الأرض غير محدود، يبقى فيه لازمة إن الله الغير محدود هوه اللي يفدينا، هوه بنفسه اللي يفدي. يبقى ده أول شرط إن الفادي يكون غير محدود، لأن الخطية غير محدودة، وعقوبتها غير محدودة، وفداءها لا بد أن يكون غير محدود، ولا يوجد غير محدود إلا الله، ومن هنا كانت حتمية تجسد الله في المسيح.
أرأيتم يا حضرات المشاهدين كيف أن جناب القمّص يقدم أفكارا تبدو أنها صحيحة، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ولا تجد لها تأييدا لا في الواقع ولا في أي كتاب سماوي، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة خطيرة. ونريد أن نسأل جناب القمّص ما يلي:
أولا: من أين أتى جنابه بهذه القاعدة القمّصية، وهي أن الخطية تقاس بحجم وقيمة من يُساء إليه؟ هل هي موجودة في التوراة أو في الأناجيل الأربعة أو في القرآن الكريم؟ وإذا كانت موجودة، فلماذا لم يذكر لنا ولا مرجع واحد يؤيد به كلامه؟
ثانيا: هل تتفق هذه القاعدة التي اخترعها مع قواعد العدل الذي كان يحدثنا عنه؟ وهل تأخذ الحكومات بهذه القاعدة القمّصية عند وضع القوانين، فنجد مثلا قانونا يقول إذا أنا سرقت من إنسان غلبان عشرة جنيه كانوا كل ما يملكه، فيُحكم عليّ بست شهور سجن، أما إذا ارتكبت نفس الجرم وسرقت عشرة جنيه من جناب القمّص، فيُحكم عليّ بست سنين سجن؟ هل هذا هو المنطق الذي تدّعي أنك تكلم به عقول الناس في القرن الواحد وعشرين يا جناب القمّص؟
ثالثا: هل إذا حملت ابنك وليدك فبال عليك وبللك، فهل تعاقبه أم تعطيه لأمه كي تغير له ملابسه؟ فإذا جئت أنا وفعلت نفس فعل وليدك عليك، فهل يكون تصرفك هو نفس تصرفك تجاه وليدك، مع أن الفعل واحد في الحالتين، والْمُساء إليه واحد أيضا؟ وهل تتوقع من الملك الذي يبلله وليده أن يصدر مرسوما ملكيا بإنزال العقوبة عليه، أما إذا بلل أحدا من الخدم فلا إثم عليه؟ وألا ترى أن الملك الذي يأخذ بالقاعدة التي اخترعتها يكون سفيها أو مجنونا؟ يا سيادة القمّص؟
رابعا: في مثال العربية الرولزرويس، أنت أسأت إلى السيدة ناهد متولي وعانت هي خسارة حين حطمت سيارتها، فمن العدل أن تعوضها بمقدار الخسارة التي عانتها بسببك. ولكن هل نسيت يا جناب القمّص أن الله لا يعاني من أي خسارة إذا أخطأ الإنسان، ولا يستفيد شيئا من طاعته؟ أم أن فكرة التجسد التي ملكت عليك تفكيرك جعلتك تظن أن الله زي حضرتك، تضيق حكمته ويتدنى تفكيره إلى مستوى تفكيرك وحكمتك؟(4/84)
خامسا: ألم يخبرك أولئك الذين يكتبون لك المواد ويعدون لك البرامج أن هناك حديثا قدسيا يقول: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد هذا في مُلكي شيئا. يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئا"؟
هذا يا جناب القمّص هو الإله الحق الذي يستحق العبادة، هذا هو إله الإسلام وإله المسيحية الحقة وإله الأديان كلها، فهو الله تعالى رب العالمين. هذا هو الرب الذي أمر موسى بعبادته وقال يخاطب شعبه: "اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد" (تثنية4:6)، وهو نفس الرب الذي سجد له السيد المسيح وقال إن أعظم الوصايا هي أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذا هو الرب الإله الحكيم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول. وأما الإله الذي اخترعتموه فلا وجود له في هذا الكون، إلا في مخيلة أولئك الذين ضلوا عن الله الواحد الحق، فلا يمكن أن يكون هذا إله محبة، الذي يعتبر أن خطيئة إنسان محدود، خطيئة غير محدودة.
أفق يا جناب القمّص، أفق فإنك في القرن الواحد والعشرين، ولست في زمن بولس الرسول، فلا تنسب إلى الله ما تستحي أن تتصف أنت به من سوء الفكر وقسوة الحكم.
( 9 )
تكلمنا في الحلقات الماضية عن الخلل في عقيدة الفداء في المسيحية، وهي التي تقوم على أن آدم أخطأ فحكم الله عليه بالموت، وتبين فيما بعد أن هذا الموت لا يعني انتهاء الوجود وحسب، وإنما يعني الانفصال عن الله، والخزي والعار، والعذاب الأبدي في نار جهنم الأبدية، وأوضحنا أن هذا يتنافى مع العدل، لأنه من مقتضيات العدل أن يكون القانون واضحا، فلا تكون مثلا عقوبة مخالفة إشارة المرور 100 جنيه، ثم يفاجأ الجاني بأن الغرامة تحتوي أيضا على أنه يجب أن يدفع ألف جنيه إضافية ويُباع بيته ويُفصل من عمله. وعلى هذا، إذا افترضنا أن آدم قد أخطأ، وكان قد قيل له إن عقوبة الخطية هي الموت، لكان من العدل أن لا يُفجأ بعد ذلك بأن عليه أن يُطرد من الجنة، ويعيش كل أيام حياته في تعب وهَمّ، وأن لا يأكل إلا شوكا وحسكا وعشب الحقل، ويأكل خبزه بعرق جبينه، وأيضا زوجته حواء تُطرد هي الأخرى من الجنة، وتُكَثّر كثيرا أتعاب حبلها، وتلد بالوجع وبآلام شديدة، ثم بعد كل هذا يموت أيضا كل منهما. ولا يُكتفى بكل هذا الظلم فحسب، بل يتبين أن هذا الموت ليس هو نهاية لوجودهما، وإنما عليهما أن يعيشا إلى أبد الآبدين يتعذبان في أتون جهنم النار الأبدية. وكأن كل هذا الظلم لم يكن كافيا فطبقه الله على كل البشرية بأكملها. وقد ذكرنا أن هذه القسوة لا تليق بالله تعالى الرحيم الرؤوف الذي يصفه الكتاب المقدس فيقول: "الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية" (خروج6:34). وهذا يتناقض تماما مع تفسير جناب القمّص زكريا بطرس للموت، والذي معناه الحياة الأبدية في تعذيب مستمر في جهنم النار الأبدية.
ثم أوضحنا بعد ذلك أن العدل لا يعني حتمية تنفيذ العقوبة، وإنما العدل هو ألا يصدر الحكم أساسا إلا بعقوبة تتناسب مع حجم الجرم الذي ارتُكِب. أما تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه، فهذا يتوقف على الحكمة، فإن كان من الحكمة تنفيذ الحكم لأن في هذا إصلاح للجاني وحماية للمجتمع، فيجب تنفيذ الحكم، ولكن إذا كان الجاني قد انصلح وكان تنفيذ الحكم سوف يؤدي إلى فساد أكبر من فساد الجاني فمن الحكمة عدم تنفيذ الحكم. ولكن للأسف رأينا أن المسيحية بعد أن حادت عن الطريق المستقيم الذي جاء به السيد المسيح صلى الله عليه وسلم ، قد دخلها التحريف والتزوير والأفكار البشرية، وكان كل هَمّ قساوستها من أمثال القمّص زكريا بطرس أن يخدعوا العامة من الناس ببعض الألفاظ الخاوية عن محبة الله، فينفخوا في حجم العقاب ويشددونه بقسوة يخجل منها أسوأ الظالمين والمستبدين، وذلك لكي يقولوا بعد ذلك إن إله المحبة رفع عنكم كل هذا العقاب، وفداكم بأنه أرسل ابنه الوحيد لكي يموت على الصليب ويحمل عنكم كل هذه اللعنات التي نزلت على رؤوسكم.(4/85)
وأوضحنا بعد ذلك أن الرحمة لا تتناقض مع العدل، فإن العدل من الرحمة، ولكن الرحمة أعم وأشمل وأوسع من العدل، وذكرنا أن الصورة التي يرسمها دعاة المسيحية المحرّفة عن الله تعالى صورة سيئة للغاية ومخزية، إذ يقدمونه على أنه إله تتناقض صفاته مع بعضها البعض، ولا يستطيع أن يمارس صفة الرحمة لأن صفة العدل تمنعه من ذلك، فرغم أنه إله رحيم إلا أنه لا يستطيع أن يرحم إلا إذا أشبع صفة العدل أولا. وقلنا إن هذه الصورة القبيحة تجعل من الله تعالى، والعياذ بالله، مثيلا للمدمنين على المخدرات والسكارى والمقامرين، الذين يريدون أن يتوقفوا عن فعل هذه المساوئ، ولكنهم لا يستطيعون أن يمارسوا إرادتهم ولا أن يتحكموا في صفاتهم الإنسانية النبيلة، وذلك لأن الصفات التي اكتسبوها بحكم العادة تتحكم فيهم وتمنعهم من ذلك، فتعالى الله عما يصفون.
وقد ذكرنا بعد ذلك أن ما يقوله دعاة المسيحية المحرّفة من أمثال القمّص زكريا بطرس عن استحالة امتناع الله تعالى عن تنفيذ حكم العقوبة، إنما هو كذب وافتراء على الله تعالى. وقدمنا أمثلة من العهد القديم ومن الأناجيل على أن الله قد امتنع عن تنفيذ حكم بإهلاك بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، وذلك بعد أن تشفّع لهم موسى صلى الله عليه وسلم ، وأيضا امتنع عن تنفيذ حكم العقوبة بتدمير مدينة نينوى بعد أن تاب أهلها، وإصحاح 18 من سفر حزقيال زاخر بالمواقف التي يذكرها الله تعالى بأنه لا ينفذ حكم الموت إذا تاب المخطئ ورجع عن طريق الشر. وأيضا في الأناجيل رأينا أن المسيح نفسه، قبل واقعة الصلب المزعوم عندما كان لا يزال تحت حكم الشريعة، قد امتنع عن تنفيذ الحكم في امرأة قُبض عليها وهي تزني، وأوصى أتباعه أن يغفروا ويسامحوا بعضهم البعض، وقدم لهم مثالا عن ملك تنازل عن كل الديْن الذي كان له عند أحد عبيده، وحثّهم على أن يتصرفوا على هذا المنوال.
بعد هذا طلع علينا جناب القمّص باختراع جديد، وهو أن حجم الجريمة لا يقاس بمقدار الضرر الناتج عنها للمُساء إليه، كما هو الحال في جميع القوانين في العالم، وكما هو الحال أيضا في تصرفات جميع الناس مع بعضهم البعض، وإنما يقاس حجم الجريمة بقيمة من يُساء إليه. وخرج من هذا بنتيجة عجيبة وهي أن الفداء عن الجريمة يجب أن يتناسب مع قيمة المُساء إليه. والمثال الذي قدّمه هو أنه لو أخطأ في حق الفراش الذي يعمل في مكتبه فيمكن أن يعوّضه بخمسين أو مائة جنيه تكفيرا عن خطئه، ولكن إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيسه يكون حجم الخطأ أكبر، وإذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيس الجمهورية يكون الخطأ أكبر وأكبر، وإذا كان الخطأ في حق الله يكون حجم الخطأ غير محدود لأن الله غير محدود، وبالتالي يجب أن يكون التعويض أو الفداء غير محدود. وهكذا يتبين أن جناب القمّص يخترع حكايات وحواديت قد تبدو أنها معقولة للوهلة الأولى، ولكنها لا تقوم على أساس سليم، ثم يبني على هذه الحكايات والحواديت نتائج خطيرة وعقائد هامة. وقد أوضحت لجناب القمّص الخلل في تفكيره، وذكرت له لو أنه كان يحمل وليده فحدث أن بال عليه وبلله فماذا يكون تصرّفه؟ سوف يعطيه لأمه لتغير له ملابسه. فهل إذا قمت أنا بنفس الفعل الذي قام به وليده، فبللته، أي أن الفعل واحد في الحالتين والْمُساء إليه واحد في الحالتين، فهل يتساوى الخطأ في الحالتين؟ وإذا وقع نفس الخطأ من وليد الملك فبلله، هل يصدر مرسوما ملكيا بإلقاء وليده في السجن لأن قيمة الْمُساء إليه الآن أصبحت أكبر وأعظم من قيمة جناب القمّص؟
لقد خرج علينا جناب القمّص نتيجة لهذا الفكر الفاسد بقاعدة وهي أن حجم الخطأ يُقاس بقيمة من يُساء إليه، وذلك لأنه بطبيعة الحال يريد أن يدلل على ضرورة أن يتجسد الله في المسيح، فلا بد أن ينفخ في حجم الخطأ الذي ارتكبه الإنسان، فيصل به إلى أنه خطأ غير محدود لأن الله غير محدود، وبالتالي لا بد أن يكون الفداء غير محدود أيضا، وحيث إنه لا يوجد غير محدود إلا الله تعالى، فلا بد أن يتجسد الله بنفسه ويقتحم جسد إنسان لكي يَصلُح أن يكون هو الفداء المطلوب. وهكذا يضع جناب القمّص القواعد والقوانين، ويضع القانون الأول وهو أنه يُشترط أن يكون الفادي غير محدود.(4/86)
ويستمر جناب القمّص في سلسلة أحاديثه بتقديم سلسلة أخطائه، فيقول إن الشرط الثاني الذي يجب أن يتوفر في الفداء هو أنه ينبغي أن يكون من جنس الخاطئ، أي لا بد أن يكون إنسانا. وكعادته عندما يبتكر لنا قواعد من أعماق مخه وتفكيره، أو من تفكير من سبقوه من الضالين عن طريق المسيح المستقيم، فإنه لا يقدم لنا شواهد من الكتاب المقدس ليدلل بها على صحة منطقه، وإنما يعطينا أمثلة ويقص علينا حكايات وحواديت. والمثال الذي يقدمه هذه المرة هو أنه لو أخذ من السيدة ناهد متولي عربية رولزرويس وخبطها في شجرة فيجب أن يقدم لها عربية رولزرويس ولا يقدم لها عربية فيات أو نصر أو رمسيس، وأنه إذا كسر لها نجفة فيجب أن يعوّضها بنجفة ولا يكتفي بأن يعطيها لمبة، أي أن الفداء يجب أن يكون من جنس المفدي عنه. ورغم أن استدلاله يبدو صحيحا للوهلة الأولى إلا أنه لا ينطبق على الله تعالى. صحيح إذا تسبب إنسان في خسارة لإنسان آخر فيجب أن يعوّضه عن خسارته بنفس قيمة الخسارة التي لحقت به، ولكن جناب القمّص نسي أنه حينما يخطئ الإنسان في حق الله تعالى فإنه لا يُلحق بالله أي خسارة، وإنما الخسارة تصيب الإنسان نفسه. فمثلا، إذا قلت لك يا جناب القمّص، لا تمش في الطريق المعوج الذي تمشي فيه، لأن فيه حُفر وعقارب وثعابين سوف تضرّك، ومن الأفضل لك أن تمشي في هذا الطريق المستقيم الذي يوصلك إلى غايتك، ولكنك بعنادك المعروف وإصرارك على ارتكاب الخطأ عصيت أمري وأصررت على مشيك في الطريق المعوج، فكانت النتيجة أنك وقعت في حفرة وقطمت رقبتك، وجاءت العقارب لتأبرك وأخذت الثعابين تنهش في جسمك وتتلذذ بأكل لحمك السمين الطري. فهل تضررت أنا بعصيانك أم أنك أنت الذي أسأت إلى نفسك بعنادك وإصرارك على السير في الطريق المعوج؟ هكذا أيضا الحال مع الله تعالى. وقد ذكرت لك الحديث القدسي الذي يقول: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُري فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي: لو أنّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد هذا في مُلكي شيئا. يا عبادي: لو أنّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من مُلكي شيئا". وهكذا ترى يا جناب القمّص أن الشرط الثاني الذي اشترطت وجوده في الفادي الذي زعمت ضرورة وجوده، لا أصل له ولا محل له من الإعراب.
ثم نأتي إلى الشرط الثالث الذي اشترطه جناب القمّص في الفادي المزعوم فيقول إنه يجب أن يكون طاهرا خاليا من الإثم، وحيث إن الأرض كلها خلت من الطاهرين حسب زعمه، فلا بد أن يكون المسيح وحده هو الإنسان الطاهر الأوحد لكي ينطبق عليه سيناريو الفيلم الذي يؤلفه لنا دعاة المسيحية الفاسدة. والغريب أن جناب القمّص يستدل من القرآن الكريم على طهارة السيد المسيح، وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي نتفق فيه مع جناب القمّص، ولكن نختلف معه في أن يكون المسيح وحده من دون الناس هو الطاهر الأوحد، وإنما جميع الأنبياء طاهرون وخالون من الإثم والمعصية التي تُرتكب بقصد التمرّد على أمر الله، أو الخروج المتعمّد على وصايا الله بقصد المعصية، وهذه هي المعاصي والذنوب التي تستجلب غضب الله تعالى، وأما ما يرتكبه الإنسان من خطأ دون قصد أو بغير سوء نية فلا يستجلب غضب الله تعالى، فهو سبحانه عليم وحكيم، فهو يعلم ما في القلوب، وهو حكيم يحاسب الناس على حسب نياتهم، وليس هو كذلك الإله الغليظ القاسي الذي يحاسب الإنسان على أول هفوة فيحكم عليه بالعذاب الأبدي في نار جهنم الأبدية. وسوف يتولى بعض الأخوة الرد على ما زعمه جناب القمّص من أن البشر جميع خطاة بما فيهم الأنبياء والقديسون، وسوف يبينون له وللمشاهد الكريم الخلل أيضا في هذا التفكير. ولكن دعونا الآن نحلل ادعاءات القمّص بأن المسيح لم يخطئ ولم يرتكب أي إثم، وليكن ذلك من الأناجيل وليس من القرآن الكريم الذي يشهد بعصمة وطهارة جميع الأنبياء.
أولا: يدّعي جناب القمّص أن المسيح بدون خطية لأنه وُلد من العذراء مريم، فالكتاب يقول عن مريم "روح الله يحل عليكِ وقوة العليّ تظلّلُكِ". والسؤال يا جناب القمّص هو: أنت تؤمن بأن كل من وُلد من ذرية آدم كان خاطئا لأنه ورث الخطية، وبالتالي كانت مريم أيضا حسب مفهومك مولودة بالخطية، وبالتالي فإن من يولد منها لا بد أيضا أن يكون مولودا بالخطية. فهل إذا حلت عليها روح الله وظللتها قوة العليّ تصبح طاهرة ويمكن أن تلد إنسانا طاهرا؟ إن قلت لا، يكون المسيح مولودا بالخطية ولا يصلح للفداء لأنه ليس طاهرا، ولا أظنك تقول بهذا. وإن قلت نعم، فإنك تنسف مبدأ الفداء والتجسد المزعوم، لأنه كان من الممكن أن تحل روح الله على آدم وتظلله قوة العليّ، وتنتهي المشكلة حيث بدأت.(4/87)
ثانيا: لعلك تقول يا جناب القمّص إن مريم كانت هي العذراء الوحيدة التي لم يمسها رجل، ولذلك حين يحل عليها روح الله وتظللها قوة العلي، يكون المولود منها طاهرا من الخطية. ولن أناقشك يا جناب القمّص فيما إذا كانت مريم هي فعلا العذراء الوحيدة التي أنجبت، مع أن الوثائق الطبية تكذب هذا، ولكن دعنا من الأطباء ووثائقهم العلمية، فهي فقط لمن يحترمون العلم والعقل، ودعنا نوافقك على مبدأك رغم أنه يتعارض مع العلم والعقل. دعني أسألك يا جناب القمّص: ما هي الحكمة العجيبة أن ينتظر الله أكثر من أربعة آلاف سنة حتى تحل روحه على العذراء مريم، مع أن حواء كانت عذراء قبل أن يعرفها آدم لينجب منها، وكان من الممكن أن يحل عليها روح الله وتظللها قدرة العلي، فتنجب ذرية طاهرة، وينفض المشكل.
ثالثا: إذا قلت إن حواء أخطأت ولكن مريم لم تخطئ، يكون هذا اعترافا منك بأنه من الممكن أن يكون إنسان آخر غير المسيح طاهرا لم يرتكب الإثم، وفي هذه الحالة ينهار الأساس الذي تبني عليه قضيتك، وبالتالي فمن الممكن أن يكون الكثير من البشر أيضا لم يخطئوا وخاصة الأنبياء الذين تزعم أنهم أخطأوا جميعا.
رابعا: المسيح مولود من امرأة، وكتابك المقدس يستنكر أن يكون مولود المرأة طاهرا، إذ يقول: "فكيف يتبرر الإنسان عند الله وكيف يزكو مولود المرأة" (أيوب4:25). وأيضا يقول الكتاب المقدس: "من يخرج الطاهر من النجس، لا أحد" (أيوب4:14).
خامسا: يقولون إن الاعتراف سيد الأدلة، والمسيح اعترف بأنه ليس صالحا، فمن نصدق، القمّص زكريا بطرس أم السيد المسيح نفسه؟ وأنت تعرف بالطبع ما أقصد يا جناب القمّص، ولكن دعني أذكر النص حتى يستطيع حضرات المشاهدين أن يحكموا لك أو عليك. في إنجيل مرقس 17:10 جاء ما يلي: "وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية، فقال له يسوع لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله". والآن يا جناب القمّص، إذا قلت إن هذا كان تواضعا من يسوع، فإنك تصمه بالكذب لأنه قال غير الحق. وإذا قلت إن الذي تكلم كان الناسوت وليس اللاهوت فهذا يعني أن الناسوت لم يكن صالحا، فكيف يحل اللاهوت في ناسوت غير صالح؟ أجبنا يا جناب القمّص!
سادسا: سمعتك مرة في أحد أحاديثك تقول يا جناب القمّص إن القرآن الكريم ذكر أن بعض الأنبياء كانوا يستغفرون الله، واستنتجتَ من هذا أنهم كانوا خاطئين لأنهم كانوا يستغفرون الله. ولن أناقشك في هذا المنطق الآن، ولكن قل لي يا جناب القمّص، بنفس المنطق الذي تفكر به، ماذا تستنتج من أن يسوع تعمّد على يد يوحنا المعمدان؟ ألم تكن معمودية يوحنا المعمدان من أجل مغفرة الخطايا؟ يقول إنجيلكم: "كان يوحنا يُعمّد في البرية ويكْرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا" (مرقس4:1). فما هي الحاجة لأن يتعمّد يسوع "بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا" إن كان كما تقول طاهرا بلا خطية؟ وإذا كان عندك رد، أفلا تطبق أيضا هذا الرد على الأنبياء الذين يستغفرون الله تعالى؟
سابعا: الوصية الخامسة من الوصايا العشر تقول: "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض" (خروج 12:20)، ويقول يسوع: "فإن الله أوصى قائلا أكرم أباك وأمك، ومن يشتم أبا أو أما فليمت موتا" (متّى 4:15). فما رأيك يا جناب القمّص فيمن يقول لأمه: "مالي ولك يا امرأة"، كما قال يسوع لأمه حسب كلام يوحنا (4:2)؟ هل كان يشتم أمه أم أنه كان يكرمها؟ وهل تُعلّمون أولادكم في المسيحية التي تدعون الناس إليها أن يعاملوا أمهاتهم بهذا الشكل ويخاطبوهم بهذه اللغة الوقحة؟ وهل صحيح أن أيام يسوع لم تطل على الأرض لأنه لم يكرم أمه؟
ثامنا: هل سلاطة اللسان وسب الناس وشتمهم من الأخلاق الحميدة يا جناب القمّص؟ وما رأيك في المعلم الذي يسأله الناس أن يريهم آية فيسبّهم ويقول لهم أنتم: "جيل شرير وفاسق" (متّى39:12)؟ وما رأيك فيمن يسبّ رجال الدين لأنه يختلف معهم ويراهم على خطأ، هل يكون من حقه أن يقول لهم: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (متّى13:23)؟ وهل من حقه أن يشتمهم فيقول: "أيها القادة العميان" (متّى16:23)؟ وهل من حقه أن يسبهم فيقول: "أيها الجهّال والعميان" (متّى19:23)؟ وإن كانوا هم على خطأ من ناحية العقيدة، فهل من حقه أن يسبّهم ويسبّ آباءهم أيضا فيقول: "أيها الحيات أولاد الأفاعي" (متّى 33:23)؟ وأنا طبعا أختلف معك في العقيدة وأراك على خطأ يا جناب القمّص، فهل هذا يعطيني الحق أن أقول لك "يا شرير، يا فاسق، يا مرائي، يا جاهل، يا أعمى، يا حيّة؟ يا ابن الأفعى"؟ هل هذه أخلاق الطاهرين من الناس الذين يصلحون لكي يحل فيهم اللاهوت يا جناب القمّص؟(4/88)
تاسعا: صحيح أن كتابكم المقدس يصم بعض الأنبياء بارتكاب المعاصي والخطايا، ولكن ما رأيك يا جناب القمّص فيمن يتهم نبيا بأنه ارتكب إثما لم يرتكبه. فمثلا كتابكم يتهم النبي داود بأنه ارتكب الزنى والعياذ بالله، ولكن إذا اتهمته أنا بأنه كان لصا وقاتلا أيضا، أفلا أكون قد افتريت عليه الكذب؟ فما رأيك فيمن يتهم الأنبياء كلهم بأنهم سُرَّاق ولصوص كما فعل يسوع (يوحنا8:10)؟ ألا يكون مفتريا الكذب؟
عاشرا: ما رأيك فيمن يقول: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (أي الشريعة) أو الأنبياء" (متّى17:5)، ويأمر الناس باتباع الشريعة حتى ولو كان من يأمرهم بها هم رجال الدين الفاسدون، فيقول: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيّون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه" (متّى2:23)، ولكن حينما يأخذون إليه امرأة كانت تزني، ويقولون له: "يا معلم هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى أوصانا في الناموس أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت"؟ فيمتنع عن تطبيق الناموس الذي قال إنه لم يأت لينقضه، ويقول للمرأة: "اذهبي ولا تخطئي أيضا" (يوحنا11:8).
وأخيرا: يُقال إن المرأة الزانية قد تابت، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن ألم يكن من الأوْلى به، ابتعادا عن الشبهات، أن لا يسمح لها بأن تدهن قدميه بالزيت وتمسح رجليه بشعرها، خاصة وأنه لم يتزوج، وهناك من يتهمونه بالعجز الجنسي، ويقول الخبراء في أمور الجنس إن مثل هؤلاء الذين يعانون من العجز الجنسي يجدون إشباعا عن طريق ما كانت تقوم به هذه المرأة من أعمال؟
والقائمة يا جناب القمّص طويلة، ولكن الوقت لا يسعفنا، فهناك من يتهمه بالجبن لأنه كان يخفي عن الناس أنه المسيح المنتظر، وهناك من يتهمه بالكذب لأنه كان يقول إنه لن يصعد إلى العيد ثم يصعد بعد ذلك، وهناك من يتهمه بالإرهاب لأنه كان يحض أتباعه أن يبيعوا ملابسهم من أجل أن يشتروا سيوفا، وهناك من يتهمه بالعنف لأنه قلب موائد الصيارفة في المعبد، وهناك من يتهمه بالعمل على نشر الفساد والفوضوية في الأرض لأنه قال: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا" (متّى34:10)، وقال أيضا: "جئت لألقي نارا فماذا أريد لو اضطرمت" (لوقا49:12).
ونحن إذ نؤمن بطهارة المسيح صلى الله عليه وسلم كما نؤمن بطهارة جميع الأنبياء والمرسلين، لنتساءل كيف تكون هذه الشخصية التي أطلقتم عليها اسم "يسوع" تجمع كل هذه النقائص والمثالب والعيوب والذنوب، ومع ذلك تؤمنون بطهارتها وحدها من دون الناس جميعا؟ وإذا كان من يجمع كل هذه النقائص والذنوب طاهرا، فلا بد أن الشيطان الذي حدثتنا عنه يا جناب القمّص، يشعر بأنه لا يزال رئيس الملائكة!!
من الواضح يا حضرات المشاهدين أن المسيحية التي يدعونا إليها جناب القمّص، لا تقوم على أي أساس سليم، وإنما هي حواديت يخترعونها ثم يستنتجون منها قواعد يبنون عليها عقائد خطيرة، لا تليق بعدل الله تعالى ولا بحكمته ولا برحمته، فعسى أن يهدي الله الضالين إلى صراطه المستقيم، وعساه أن يقطع دابر الكذابين والمخادعين، وأن يهدي المخدوعين والمضللين إلى الدين القويم. آمين.
. ( 10 )
نلتقي مرة أخرى في هذه الحلقة العاشرة من حلقات "أجوبة عن الإيمان" لنستأنف الرد على حلقات القمّص زكريا بطرس التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وقد تحدث جناب القمّص عن موضوع "حقيقة الصلب والفداء" فحاول أن يشرح لمشاهديه أن القرآن الكريم يؤيد موضوع صلب المسيح وبالتالي فقد قام المسيح بعملية الفداء التي قدم فيها نفسه ليموت نيابة عن الناس جميعا، وبذلك.. حسب ما يعتقد جناب القمّص، فإنه حقق العدل الإلهي الذي كان يتطلب ضرورة تطبيق العقوبة، حتى يتمكن الله من استعمال الرحمة لكي يغفر الخطية التي ارتكبها آدم وحواء، وتوارثها من بعدهم جميع أفراد الجنس البشري، كما يقول القمّص.
ونحن نريد أن نحلل هذا الكلام ونبحث ما إذا كان المنطق الذي يستخدمه جناب القمّص منطقا صحيحا أو مغالطا ومخالفا لكل عقل ونقل ومنطق وتفكير. وجناب القمّص يبدو أنه حريص كل الحرص على تطبيق العدل الإلهي، ولا يرضى أبدا أن يكون للرحمة عمل ولا تأثير قبل تنفيذ العقوبة حتى يتحقق العدل أولا، فإن هذا العدل يتعلق بالله تعالى، وهو سبحانه بلا شك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة. ولكن كان الأجدر بجناب القمّص أن يشرح لنا أولا ما هو العدل الذي يفهمه جنابه قبل أن يلصقه بالله تعالى، فلعل العدل الذي يفهمه جناب القمّص والذي تقدمه المسيحية، ليس بعدل على الإطلاق.(4/89)
إن العدل قيمة أخلاقية، مثله كمثل الصدق، والأمانة، وغيرها من الخصال الكريمة، ولا يمكن أن يكون للعدل مفهوم في دين من الأديان، وله مفهوم آخر مختلف في بقية الأديان، كما أن الصدق لا يمكن أن يعني قول الحق في دين من الأديان، ويعني قول الكذب في دين آخر، أو أن الأمانة هي أن يرد المرء ما استُؤمن عليه إلى صاحب الأمانة عند طلبها، ولكن في دين آخر يكون مفهومها هو أن تُسلب الأمانة. والعدل الذي تعرفه الدنيا كلها هو أنه إذا تحدد أجر معين يتناسب مع تأدية عمل معين، فإن العدل هو تقديم ذلك الأجر دون أي نقصان لمن يؤدي ذلك العمل. وأيضا إذا تقرر تنفيذ عقوبة معينة تتناسب مع ارتكاب جُرم معين، فإن العدل هو تنفيذ هذه العقوبة دون أية زيادة، فيمن يرتكب ذلك الجرم. هذا هو العدل الذي تقوم عليه القوانين والاتفاقيات بين الأفراد وبين الدول، وهو نفسه العدل الذي تعرفه جميع الأديان، سواء كانت أديانا سماوية أو وضعية. فمثلا إذا اتفق طرفان على أن يقوم الطرف الأول بتأدية عمل معين ويتقاضى عليه عشرة قروش من الطرف الثاني، فإن العدل يقتضي أن يدفع الطرف الثاني العشرة قروش المتّفق عليها دون أي نقصان إذا ما أدى الطرف الأول العمل المطلوب منه. فإذا شاء الطرف الثاني أن يدفع للطرف الأول أجرا أكبر مما تم الاتفاق عليه، كأن يدفع خمسة عشر قرشا أو عشرين قرشا، فإن هذا لا يتعارض مع العدل، وإنما يسمى إحسانا، ولا يعني بتاتا أن العدل لم يُطبّق أو أن الاتفاق لم يُنفّذ. كذلك إذا كان القانون ينص على عقوبة معينة تتناسب مع جريمة معينة، مثل عقوبة الحبس ستة شهور مثلا لمن يسرق بضاعة من محل تجاري، فإن العدل يقتضي ألا يتم حبس المجرم أكثر من ستة شهور. أما إذا تم الحكم بحبس المجرم أربعة شهور أو أقل، أو إذا تم العفو عن المجرم نظرا لظروف خاصة تبرر تخفيض العقوبة أو إلغاءها، فإن هذا لا يتعارض مع العدل، وإنما يُسمى رحمة، وذلك لأن الاعتبارات التي اقتضت تخفيض العقوبة أو إلغاءها أكبر وأعظم وأهم من تنفيذ العقوبة، وبالتالي فإن الحكمة تقتضي تنفيذ الأوْلى والأهم قبل المهم، ولا يتعارض هذا مع العدل، بل إنه يتفق مع الحكمة والرحمة. كذلك إذا كان القانون ينص مثلا على تطبيق عقوبة الإعدام على من يقتل إنسانا بريئا، فلا يكون من العدل تطبيق نفس عقوبة الإعدام على من يسرق قالب من الشكولاتة من محل تجاري، ففي هذه الحالة نرى أن العقوبة لا تتناسب مع الجريمة، وعدم تناسب العقوبة مع العدل يتناقض مع العدل.(4/90)
ولأن أفكار جناب القمّص عن العدل ليست من وحي السماء، ولا هي من أقوال نبي مُرسل من عند الله، فإنها لا تتفق مع هذه القواعد التي ينبني عليها العدل المعروف لدى الناس والمعمول به في جميع أنحاء العالم. ولذلك راح جناب القمّص وأخذ ينفخ في الخطيئة التي ارتكبها آدم وحواء، وراح يخترع لها القواعد والأسس لكي يعتبرها خطيئة كبيرة مهولة غير محدودة بزعم أنها كانت في حق الله غير المحدود. وقد أثبتنا لجناب القمّص وللمشاهدين الكرام أن المبدأ الذي اخترعه جناب القمّص، أو بالأحرى الذي اخترعته المسيحية التي يدعو إليها جناب القمّص، وهو أن الجرم يُقاس بقيمة الْمُساء إليه، لا أساس له بتاتا في أي دين، ولا في القوانين المعمول بها في العالم، ولا في المعاملات بين الأفراد. إن جناب القمّص يحاول عبثا أن يقنعنا بهذا المبدأ الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا نطق به نبي من أنبياء الله، ولا جاء في أي كتاب من الكتب المقدسة، بل ولم تنص عليه التوراة ولا الأناجيل التي يؤمن بها القمّص وأتباعه. إن العدل الإلهي يختلف تماما عن العدل الذي اخترعه جناب القمّص، كما أن العدل الذي يعرفه العالم ويطبقه يختلف أيضا عن العدل الذي يدّعيه القمّص. إن العدل الحقيقي ينص على أن الجرم يُقاس بمقدار الضرر الذي يسببه وليس بقيمة الْمُساء إليه كما يزعم جناب القمّص. وعلى هذا، فإن العقوبة في كل نظام يقوم على العدل لا بد أن تتناسب مع الضرر الناتج عن الجرم بشرط أن يكون فاعل الجرم على وعي تام بما يفعل. وقد ذكر جناب القمّص مثالا ليؤيد به وجهة نظره فقال إنه إذا أساء إلى الساعي الذي يعمل في مكتبه فأخطأ في حقه، فإنه يستطيع أن يرضيه بأن يعطيه مبلغ خمسين جنيها أو مائة جنيها تعويضا عن الإساءة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيسه، أو إذا ارتكب نفس الخطأ في حق رئيس الجمهورية، أو إذا ارتكب نفس الخطأ في حق الله تعالى. وقد يكون هذا الكلام صحيحا عند بعض البشر الذين يُفرّقون بين كرامة الإنسان البسيط والإنسان الذي له مكانة عالية في المجتمع. ولكن، عند الله الذي هو العدل المطلق، فإن الإساءة إلى الساعي البسيط تتساوى مع الإساءة إلى أي شخص آخر مهما كان مستواه الاجتماعي. أما جناب القمّص، فيرى أن قيمة الجرم تزيد وتكبر حسب قيمة الْمُساء إليه. ويترتب على كلام القمّص أن قيمة الجرم تتساوى إذا وقع نفس الجرم في حق نفس الشخص، وهذا النوع من العدل لا يمكن أن يكون إلا من فكر ضال ومنطق ساقط وتفكير تافه. وللتدليل على ذلك نقدم المثال التالي: إذا كان جناب القمّص يحمل طفله الرضيع، وحدث أن بال عليه الطفل وبلله، فكل ما سوف يفعله هو أن يعطي الطفل لأمه لتغير له ملابسه، ثم يذهب هو لتغيير ملابسه المبتلة. فإذا جئت أنا وقمت بنفس العمل الذي قام به الطفل، فبللت جناب القمّص، فهل يرى نيافته أن الجرم متساو لأن الشخص الْمُساء إليه في الحالتين هو نفس الشخص، والعمل الذي وقع في الحالتين هو نفس العمل؟ من الواضح أن المنطق الذي يستخدمه جناب القمّص ليس بمنطق على الإطلاق، ولا يقوم على أي أساس سليم من عقل أو من نقل.(4/91)
والمشكلة في عقيدة الصلب والفداء التي يقدمها جناب القمّص على أنها من عقائد المسيحية، مع أن المسيحية الحقيقية بريئة تماما من مثل هذه العقائد الخاطئة، هي أنها تدّعي بأنها تقوم على العدل، وتحرص على تطبيق العدل قبل الرحمة، مع أنها تتناقض مع أهم أساس من أسس العدل، وهو أن تكون العقوبة متناسبة مع الجرم. فهل معصية الله، بافتراض أن آدم وحواء قد عصيا الله فعلا، هل هذه المعصية تبرر العقوبة التي يزعم جناب القمّص أن الله طبّقها على آدم وحواء وعلى جميع أفراد الجنس البشري، وهي الموت الروحي بمعنى الانفصال عن الله، والموت الأدبي بمعنى نوال الخزي والعار، ثم بعد ذلك العذاب الأبدي المتواصل بلا انقطاع في نار جهنم الأبدية؟ هل هذا هو العدل الذي يحدثنا عنه جناب القمّص؟ هل هذا هو العدل الذي تُعلمنا إياه المسيحية؟ هل هذا هو العدل الذي يتفق مع محبة الله؟ تصوروا مثلا الأم التي تُعلّم طفلها الصغير المشي، فتشرح له كيفية المشي، ثم تقول له إذا لم تتبع أمري في المشي وسقطت فسوف ألقي بك من النافذة عقابا لك، فهل تُعتبر مثل هذه الأم إنسانة عاقلة، تتبع قواعد العدل وأحكامه؟ وإذا وضع أحد الملوك قانونا بأن من يخطئ في حق الملك يعتبر مخطئا في حق جميع أفراد المملكة، وبالتالي يكون عقابه أن يقوم كل فرد في المملكة بضربه ضربا مبرحا متواصلا بلا انقطاع، فهل يوافق جناب القمّص على أن تصرّف هذا الملك يتفق مع قواعد العدل الذي يؤمن به؟ وهل يوافق أخواننا المسيحيون على أن المسيحية التي يؤمنون بها تعتبر هذا التصرّف تصرفا عادلا يتفق مع العدل الذي يرضون أن يتصف به الله تعالى الذي تقوم كل أعماله على المحبة؟ أجيبونا يا سادة، أو على الأقل أجيبوا ضمائركم وعقولكم، وما لا ترضون به لأنفسكم فلا تنسبوه إلى الله، وما لا تعتبرونه عدلا فلا تصفوا به الله.
وإذا كان هذا هو العدل الذي يَرضَى جناب القمّص بإلصاقه بالله تعالى، فهل تحقق هذا العدل بالفعل؟ هل نفذ الله العقوبة في الشخص الذي ارتكب الجرم، كما تقتضي قواعد العدل المعمول به في جميع الأديان السماوية، وكما تقتضي قواعد العدل المعمول به في جميع القوانين البشرية؟
إن جناب القمّص يعترف بنفسه أن العدل الذي يتشدق به، ويصر على أن يكون فوق الرحمة، ويؤكد على ضرورة تنفيذه قبل أن يتمكن الله تعالى من استخدام صفة الرحمة الموجودة فيه، هذا العدل لم يتم تنفيذه لأنه لم يُنفذ في الجاني، وإنما تم تنفيذه في إنسان بريء لم يرتكب إثما ولم يقترف جُرما، هو السيد المسيح صلى الله عليه وسلم . فهو حسب كلام جناب القمّص "إنسان، زيي وزيّك، ولكن بدون خطية، وحل فيه اللاهوت الغير محدود". وقد يظن البعض أنه ما دام اللاهوت الغير محدود قد حل فيه، فإن هذا اللاهوت هو الذي تحمّل العقوبة حتى يتم تنفيذ العدل الذي يحدثنا عنه جناب القمّص، ولكننا نُفاجأ بأن اللاهوت لم يتحمّل أي شيء، ولم يعانِ من أي شيء، ولم يمسه أي شيء، وإنما الذي تحمّل كل شيء هو الإنسان، والذي عانى من الآلام كلها هو الإنسان، والذي دفع الثمن وقدم العوض حسب المفهوم المسيحي هو الإنسان، والذي وقعت عليه اللعنة حسب نص التوراة وحسب ما يقوله بولس هو الإنسان، أما اللاهوت فلم يتأثر بأي شيء من هذا كله. إذ يخبرنا جناب القمّص أن مَثَل اللاهوت والناسوت كمثل النار والحديد، فإذا وضعنا الحديد في النار، نجد أن الحديد يتأثر بالنار، وبذلك يمكن أن نطرق الحديد ونشكّله، ولكن تظل النار كما هي لا تتأثر بالطرق، بل إنها تظل محتفظة بكل خواصها، فهي تلسع وتحرق، ولكنها لا تتأثر بالحديد وما يحدث له، بل إن النار لا تختلط بعنصر الحديد، ولا يتحوّل عنصر الحديد إلى نار. أي أن اللاهوت يظل كما هو لاهوت، ويظل الناسوت أيضا كما هو ناسوت. وهذا يعني أن الذي تأثر بالصلب وما صاحبه من آلام وموت وقيامة ولعنة وغيرها، بافتراض أن كل هذا قد حدث فعلا، هو الناسوت. أما وجود اللاهوت فلم يكن إلا كالعامل المساعد الذي يساعد على حدوث التفاعل ولا يتأثر به.
وما دام قد تبين أن اللاهوت لم يتأثر بالصلب، وأنه بالتالي لم يتأثر بالموت، فهذا يعني أن الذي تأثر بالصلب وتأثر بالموت وتأثر باللعنة هو الناسوت وحده فقط، وهو مجرّد إنسان لا حول له ولا قوة، ولا دخل له في ترتيب عملية الصلب والفداء. بل إن التجسد، بافتراض أنه وقع، قد وقع له دون استشارته ودون استئذانه ودون موافقته. وأنا أتحدى جناب القمّص، وكل فريق العمل الذي يعمل معه ويُعد له البرامج التي يقدمها، أتحداهم جميعا أن يقدموا دليلا من العهد القديم أو من الأناجيل الأربعة على أن الجانب الإنساني في شخصية المسيح، أي الناسوت كما يقولون، قد تم استشارته في عملية التجسد، وأنه قدم موافقته عليها، وأن هذا التجسد المزعوم قد تم بعد أن وافق عليه يسوع الناسوت.(4/92)
وبطبيعة الحال، فإن جناب القمّص وفريق العمل الذي يعمل معه سوف يسرع لكي يشنّف آذاننا بإسماعنا الجملة التي يحلو لهم ذكرها وتكرارها في هذه المناسبة، وهي التي جاءت في إنجيل يوحنا وتقول: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3). وكأني بهم يقولون: انظر، إن المسيح هو ابن الله الذي بذله لكي لا يهلك كل من يؤمن به، والذي يقول هذا الكلام هو المسيح نفسه، مما يدل على أنه يوافق على ما حدث، وإلا لكان قد سجّل اعتراضه. والرد على هذا هو أن الذي يتكلم والذي قال هذه الجملة هو اللاهوت وليس الناسوت، وذلك حسب كلام القمّص نفسه، وحسب كلام إنجيل يوحنا نفسه، الذي ذكر أن الكلمة كان عند الله وأن الكلمة كان الله، وأنه هو الذي تجسد، إذ يقول إنجيل يوحنا (14:1): "الكلمة صار جسدا وحل بيننا". ولكن أين الدليل على أن المسيح الإنسان أو الناسوت هو الذي يتكلم؟ أين الدليل على أن الناسوت كانت له إرادة مستقلة عن إرادة اللاهوت؟ وما هي الشواهد من الكتاب المقدس على أن الناسوت لم يكن خاضعا لنفوذ اللاهوت وتحت سيطرته؟
وتسأل السيدة ناهد متولي جناب القمّص سؤالا في غاية الأهمية، فتقول:
"السؤال المهم جدا.. يقولون: ما ذنب المسيح البريء حتى يدفعه الله للصلب عن الناس؟ يعني معروف إن السيد المسيح مالوش خطية، وإنسان طاهر وبريء، ذنبه إيه يتصلب عن الناس"؟ ويرد عليها جناب القمّص فيقول: "سؤال وجيه.. سؤال وجيه، يعني هل ده يبقى ربنا عادل.. إن هوه يدفع واحد بريء بدل الناس الأشرار"؟
ونتوقع من جناب القمّص أن يسرد على مسامعنا الأدلة من الكتاب المقدس إجابة على هذا السؤال الهام، ولكنه يفاجئنا بأنه يستخرج أدلته من القرآن المجيد، مما يدل على أنه لا يوجد أي إجابة في الكتاب المقدس على سؤال السيدة ناهد. ولا عجب بالطبع أن يخلو العهد القديم والأناجيل الأربعة من إجابة على هذا السؤال، لأن هذا السؤال لم يكن له ما يبرره في العهد القديم ولا في الأناجيل الأربعة، وإنما أصبح له ما يبرره بعد أن اخترع بولس فكرة الفداء وتبرير موت المسيح على الصليب التي اقتضت تجسد الله وبالتالي فكرة التثليث. ولكن على أي حال.. لقد استعان القمّص بالقرآن المجيد، فماذا كانت إجابته؟ يقول:
"سورة البقرة آية 60 تقول: ]كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ[ يقتلون النبيين بغير الحق يعني إيه؟ بيعملوا إيه في النبيين؟ بيقتلوهم، مش كده؟ طب وازّاي ربنا يسمح بقتل النبيين وهم أبرياء"؟ ويضحك جناب القمّص ضحكة الزهو والانتصار، ثم يستكمل حديثه فيقول: "تاني.. حتة تاني.. البقرة آية 86 ]أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ[ بيكلم اليهود، ]أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[ بيقتلوا الأنبياء؟ يعني قتل الأنبياء جائز وهم أبرياء، وقتل المسيح مش جائز بقى؟ مش انتوا بتقولوا المسيح نبي؟ طب أهو اتقتل، فيها إيه"؟ فتقول السيدة ناهد متولي وهي تضحك: "يعني مش أول واحد"، فيؤكد القمّص بقوله: "مش أول واحد.. مش أول واحد بريء، ولكن الله بيكافئ النبي، وسوف يدين الظالم والقاتل، O.K.؟"
هذه هي الإجابة التي قدمها جناب القمّص على السؤال الذي وجّهته إليه السيدة ناهد متولي، وقد آثرت أن أنقلها بنصها ولفظها حتى يتبين المشاهد أني لا أتقوّل شيئا ولا أنسب قولا لجناب القمّص. إن الصبي الصغير يستطيع أن يرى الخلل والخطل في كلام القمّص، ولذلك فإن الإنسان ليعجب، أشد العجب، أية غشاوة تلك التي على عيون هؤلاء حتى إنهم لا يرون الخطأ الواضح في هذا المنطق المغلوط!! إن السؤال هو: ما ذنب المسيح البريء حتى يدفعه الله للصلب عن الناس؟ فكيف تكون الإجابة هي أن قتل الأنبياء جائز؟ ألا يعلم هؤلاء أن الذين قتلوا الأنبياء كانوا من الكافرين والفاسقين والظالمين، فكيف يتساوى فعل هؤلاء مع فعل الله تعالى؟ ألا يعلم هؤلاء أن الله لا يمكن أن يقوم بأعمال الكفرة والفسقة والظلمة؟ ألا يعلم هؤلاء أن هناك فرقا بين أن يسمح الله تعالى بقتل الأبرياء سواء كانوا من الأنبياء أو من البشر العاديين، وبين أن يخطط الله ويدبر ويدفع نبيا لكي يُقتل ظُلما على الصليب؟ إن الله يسمح بوقوع الشر والظلم لأنه قدّر أن يكون للإنسان إرادة حرة يستعملها إذا شاء لمقاومة الشر وتلافي الظلم، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان مسؤولا عن أعماله، ولانتفى أيضا وجود الشر، لأن الله لا يفعل إلا الخير، ولا يأمر إلا بالخير.(4/93)
غير أن جناب القمّص يريد منا أن نصدق أن الله تعالى والعياذ بالله كان يدبر الشر، وكان يخطط لكي يُقتل المسيح على الصليب. جناب القمّص يريد منا أن نؤمن كما يؤمن هو، وكما تؤمن المسيحية التي يدعونا إليها، أن الله تعالى الذي يقول عنه إنه عادل، يمكن أن يدفع بإنسان بريء لكي يموت على الصليب، ولا يرى أن هذا العمل يتنافى مع العدل، ولا يعتبر أنه عين الظلم الذي لا يمكن أن يُنسب إلى الله تعالى ولا يليق به. جناب القمّص يريد منا نحن المسلمين أن نؤمن بدين ينسب إلى الله تعالى نفس الفعل الذي يقوم به الظالمون والعصاة الأشرار، وهو قتل الأنبياء الأبرياء، فيا للمأساة.. ويا للكارثة!! يبدو أنه في المسيحية التي يؤمن بها جناب القمص لا مانع ولا غضاضة من أن يبعث المدّعي العام أو ممثل النيابة بالمتهم إلى حبل المشنقة وهو يعلم أنه بريء. يبدو أن جناب القمّص ومن يتبعونه لا يرون أي غضاضة في تصرّف بعض الأشرار الذين يدفعهم الشيطان لقتل نبي بريء، ولذلك فإنهم لا يستبعدون أن يدفع الله أيضا بعض الأشرار لقتل نبي بريء. ألا يعلم هؤلاء أنهم يساوون بذلك بين فعل الله وفعل الشيطان؟ ثم بعد ذلك يقول لنا جناب القمّص: "ولكن الله يكافئ النبي، وسوف يدين الظالم والقاتل"، فبأي حق يدين الظالم والقاتل، بينما هو نفسه، حسب زعم جناب القمّص ومسيحيته التي يؤمن بها، هو الذي خطط ودبّر ودفع الظالم والقاتل ليقتل المسيح على الصليب، فهو الذي دبّر خطة الفداء المزعوم لكي يتم سفك دم هذا الإنسان البريء لكي يستطيع هو أن يغفر للبشر الحكم الجائر الذي أصدره، أو بالأحرى، الذي أصدره جناب القمّص على البشرية بأكملها بالعذاب الأبدي المتواصل في أتون جهنم النار الأبدية بلا توقف وبغير انقطاع، وذلك لمجرد أن اثنين من مخلوقاته أخطآ وعصيا أمره.
أي عدل هذا الذي تتحدثون عنه وتنسبونه لله تعالى يا جناب القمّص؟ إن عدلكم هذا يقوم على أربعة أسس كلها خاطئة وكلها تتنافى مع العدل الحق، وهي كما يلي:
1) عندكم يُقاس الجرم بقيمة الْمُساء إليه، بينما يقوم العدل الحقيقي على أن الجرم يقاس بمقدار الضرر الذي يتسبب عنه، وليس بقيمة الْمُساء إليه.
2) عندكم لا تتناسب العقوبة مع الجرم، بينما يقوم العدل الحقيقي على ضرورة تناسب العقوبة مع الجرم.
3) عندكم تُنفذ العقوبة في إنسان بريء، بينما يقوم العدل الحقيقي على ضرورة تنفيذ العقوبة في من ارتكب الجرم، أو في العفو عنه في الظروف التي تقتضي العفو.
4) عندكم يتصرف الله تعالى مثل الشيطان، والعياذ بالله، فيدفع الأشرار من الناس لقتل إنسان بريء، وذلك حتى تنجح خطته التي وضعها من أجل تحقيق الفداء، بينما لا يليق بالإنسان السوي أن يتصرف مثل الشيطان، فليس من العدل أن يتشبه الإنسان بالشيطان، ناهيك أن يفعل ذلك الله تعالى الذي هو العدل المطلق.
فإذا كان هذا هو العدل الذي ترضى به يا جناب القمّص، وإذا كان هذا هو العدل الذي تقول به المسيحية التي تفتخرون بها، فنحن نقول لكم: هنيئا لكم هذا العدل، وهنيئا لكم هذه المسيحية، ولكن احتفظوا بها لأنفسكم. أما نحن معشر المسلمين، فنحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الصيغة الساقطة المخزية لمفهوم العدل، ولا نملك إلا أن ندعو لكم الله الهادي أن يهديكم لتتعلموا المعنى الصحيح للعدل الحق، وتعرفوا الإله العدل الحق، وتقبلوا دين العدل والحق.
( 11 )(4/94)
التقينا قبل الآن في عشر حلقات في هذه السلسلة من حلقات "أجوبة على الإيمان" التي نرد بها على القمّص زكريا بطرس في حلقاته التي قدمها بعنوان "أسئلة عن الإيمان". وقد تكلمنا حتى الآن في الحلقة الأولى عن حديث الإفك الذي يتولى جناب القمّص نشره في العالم الإسلامي والأساليب التي يتبعها لتحقيق ذلك، ثم تناولنا بعد ذلك موضوع الصلب والفداء من بداية الحكاية التي حكاها القمّص عن آدم وحواء، وقد أوضحنا أنه حسب ما جاء في التوراة، لم يكن آدم وحواء يعرفان الفرق بين الخير والشر، وعلى ذلك فقد كان من السهل على الشيطان أن يخدعهما فوقعا في الخطأ ولكن بدون قصد. ثم تحدثنا بعد ذلك عن الإنسان والشيطان، وأوضحنا فساد رأي القمّص الذي يدّعي بأن الشيطان كان رئيس الملائكة ولكنه عصى الله تعالى، وذكرنا أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ثم قدمنا بعد ذلك مقارنة بين التفسير المادي لجنة آدم التي ذكرتها التوراة والتفسير المجازي لهذه الجنة حسب ما جاء في القرآن المجيد. وقد أثبتنا بعد ذلك خطأ مبدأ توارث الخطية وتعارض ذلك مع مبدأ العدل الذي تقره جميع الأديان. وتناولنا بعد ذلك في حلقتين موضوع الرحمة والعدل وكيف أن الرحمة لا تتعارض مع العدل، وفي حلقتين أخرييين شرحنا الخلل في عقيدة الصلب والفداء التي قدمها جناب القمّص، ثم تكلمنا بعد هذا عن معنى العدل، ونريد في هذه الحلقة أن نتناول موضوع الرحمة والتكفير عن الذنوب، وما معنى تكفير الإنسان عن ذنوبه، ومعنى تكفير الله تعالى عن ذنوب عباده.
وقد سألت السيدة ناهد متولي جناب القمّص سؤالا هاما فقالت:(4/95)
"بيقولوا ألاَ تكفي التوبة للغفران، فلماذا الصلب"؟ فرد عليها القمّص قائلا: "التوبة لازمة للغفران، لكن الغفران لا يأتي بمجرد التوبة فقط. طبعا الاعتراض بتاع التوبة جاي من سورة البقرة آية 27، إنت قلتيها في جلسة قبل كده { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[ تاب عليه، إنه التواب الرحيم، لكن هل دي معناها الغفران؟ تاب. التوبة، فعل إنسان، والغفران، عمل إلهي. فأنا لازم أتوب، بس التوبة ما هياش كل حاجة، لكن محتاجين إلى..، يعني التوبة ندامة على الماضي، والتوبة اعتراف أو عزيمة على إنه ما يغلطش في المستقبل، يعني يقولك خلاص أنا تبت عن اللي فات، وتوبة آخر نوبة ما عدتش أعمل كده. ده توبة. لكن هل التوبة، بتعالج، الغلط اللي حصل؟ يعني مثلا، إنت ماشية بعربيتك، جه واحد خبط لك العربية، بوّظها. فينْزل يقولك: أنا متأسّف خالص، وما عدتش تاني مرة أخبط لك عربيتك. بس مصلّحش العربية. ما عوضكيش عن العربية. صح؟ العربية total loss فقدان تام. ييجي يقولك: أنا متأسف، خلاص، أنا عرفت غلطتي، متأسف يا مدام، أنا آسف، وثقي إن أنا بعد كده مش حخبط لك عربيتك تاني، استفدنا إيه؟ ولا حاجة. إذن الندامة مطلوبة، والعزيمة مطلوبة، إنه ما يغلطش تاني، لكن لا بد من التعويض. التعويض هو الذي فعله المسيح، مات عوضا عنّا. لأن كان محكوم علينا بالموت، ولا يمكن أن يغفر الخطية إلا بتنفيذ الحكم، وبعدل الله. فجاءت الرحمة، وأعطى نفسه فداء عنا، هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. ماشي؟" فتقول السيدة ناهد: "ماشي. احنا وضّحنا الحقيقة دي برضه في حلقات قبل كده، بس برضه نحب نعيدها عشان كل اللي معانا يفهموا بالظبط إيه، عشان بنلاقي السؤال ده كتير جدا يابونا، ربنا تاب علينا، ربنا غفر الخطية". فيقول القمّص: "هوه صحيح. بس لازم محتاجين إلى كفارة. التوبة كويسة بس محتاجة إلى كفارة". ثم يشرح القمّص مبدأ الكفارة من الوجهة المسيحية، ثم يتساءل قائلا: "طب هل القرآن فيه كفارة؟ طبعا. في سورة المائدة آية 89 بيقول ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ[، اللغو يعني إيه؟ الكلام غير المقصود يعني، ]بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ[، في الأقسام اللي بتحلفوها يعني، ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ[، يعني لو حِلفانة ما لهاش، مش صادق فيها، يعني أي كلمة تتقال، ما بيحاسبكمش، ]وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ[، يعني بما عمدتم، عن عمد، واحد حاطط في دماغه إنه يروح يحلف في المحكمة، ]يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ[، القسم، لو انت أقسمت باطل، وانت متعمّد، حايحاسبكم على كده. طب وبعدين؟ العلاج إيه؟ العلاج؟ آه، شوف العلاج، في نفس الآية: ]فَكَفَّارَتُهُ[، كفارته، التكفير عن القسم، إيه بقى؟ ]إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ..[، ]أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[، رقبة عبد يعني يحرر واحد، ]فَمَن لَّمْ يَجِدْ[، التلاتة دول، ]فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ[. يبقى إذن الحلفان محتاج لكفارة من أربعة. فما بال خطية ضد الله؟ آدي كفارة. واضح؟ طب بصي بقى حاجة تانية. في سورة التغابن آية 9 بيقول إيه؟ ]وَمَن يُؤْمِنم بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ[ الله يكفر عنه سيئاته، ]وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[ يبقى الله لازم يكفّر عن سيئات الإنسان، يكفّر، ...، يبقى فيه تكفير، مش كده؟ وقلنا التكفير ده مش زي التكفير والهجرة. ومن أجل هذا فيه ذبائح الضحية، الأضحى، عيد الأضحى، والذبائح اللي احنا اتكلمنا عليها مرات قبل كده. ف إزاي الإنسان يتجاهل هذه الكفارات، ويقول التوبة بس هي اللي تغفر؟" فتسأل السيدة ناهد: "يعني التوبة لوحدها ما تنفعش؟" فيجيب القمّص: "لكن لازمة، كبداية. عمل إنساني". فتعلق السيدة ناهد قائلة: "لكن عمل الله إنه يكفّر عن سيئاتنا، أظن كده وضحت".(4/96)
وكالعادة، فإني أنقل كلام القمّص بنصه ولفظه، وذلك من أجل تحقيق المبدأ الذي يقول: "كلامك يدينك". فهذا مثال صارخ على براعة جناب القمّص في تقديم أفكار صحيحة، تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. والفكر الصحيح في مقالة القمّص هو أن من يتسبب في الإضرار بشخص آخر فلا بد أن يعوضه عما سببه له من ضرر، ولا يكفي مجرد الاعتذار أو الوعد بعدم تكرار الضرر. أما الأساس الخاطئ فهو أن هذا المثال لا ينطبق على الله تعالى، فلا أحد من المخلوقات مهما كان يستطيع أن يتسبب في الإضرار بالله - عز وجل -، ولو كان هناك إله يصيبه ضرر بسبب السيئات التي ترتكبها مخلوقاته، فإن مثل هذا الإله لا يستحق العبادة، ولا يمكن أن يكون هو الله تعالى الغني عن العالمين.
إن جناب القمّص يقدم لنا صورة غريبة ومستهجنة للمسيحية فيما يختص بأنواع الخطايا والتكفير عنها، وإذا كان جناب القمّص يستنكر على من حطم سيارة السيدة ناهد أن يعتذر فقط عن فعله دون تعويضها، فماذا لو كان قد قال لها إنه سوف يعوضها، وذلك بإنه سوف يحطم رأس ابنه؟ فهل كان هذا يُدخل السرور والرضا في نفس السيدة ناهد؟ أم أنها كانت ستقول عن ذلك الشخص إنه مجنون، فاقد العقل، وإنه ظالم وقاس وقاتل، ذلك الذي يقتل ابنه فداء لسيارة؟
ولكن جناب القمّص يقول إن القرآن الكريم قد أمر بالكفارة، وهو بذلك يريد أن يخدع المشاهد المسلم ويصوّر له الأمور على غير حقيقتها، ويقنعه بضرورة الكفارة من أجل مغفرة الخطايا، حتى يقنعه بعد ذلك بمبدأ الكفارة الخاطئ الذي تقدمه المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها. فالكفارة عند جناب القمّص تعني تقديم العوض عن كل خطية مهما كانت، والعوض يجب أن يتضمن سفك الدم، وإلا فإن الإله الذي يقولون عنه إنه إله محبة لا يستطيع أن يغفر الخطية بدون كفارة، وذلك لمجرد جملة ذكرها كاتب مجهول في مقالة قرر بعض الناس أن يعتبروها جزءا من الكتاب المقدس، وهي جملة: "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". ومن الواضح أن جناب القمّص وأتباعه لا يفهمون معنى التوبة ومعنى الكفارة.
أما التوبة فتعني الرجوع أو العودة، وهي عمل يقوم به العبد كما يقوم به الله تعالى. يُقال تاب العبد إلى الله، ويُقال أيضا تاب الله على العبد. وحينما يتوب العبد إلى الله فإنه يعود إليه بعد أن شعر بابتعاده عن الله تعالى لأحد الأسباب التالية: (1) بسبب ارتكابه السيئة، (2) أو بسبب إحساسه بالتقصير في حق الله لأنه لم يستطع أن يوفيه حقه من الشكر على نعمه رغم قيامه بشكره بقلبه وفكره ولسانه وعمله، (3) أو بسبب قصوره البشري الذي يمنعه من أداء ما يود ويتوق أن يؤديه في سبيل الله تعالى ونصرة دينه ونشر توحيده. والسبب الثاني والثالث لا يتضمن أي شر ولا ارتكاب أي سيئة، وإنما هو إحساس العبد بالمزيد من الحب لله تعالى والاعتراف بفضله وإحسانه. وحين يتوب الله تعالى على العبد فإنه يعود إليه بالعفو والمغفرة والرحمة، بمعنى أنه سبحانه يزداد قربا منه. فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ’’يقول الله - عز وجل - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأَزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا، ومن تقرّب مني ذراعا تقرّبت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيَني بقُراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة‘‘ (صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار). هذا هو إله المحبة الحقيقي، العَفُوُّ الذي يحب العفو، الغفور الذي يتوق إلى المغفرة، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وليس هو ذلك الإله الذي ينسبون إليه حب سفك الدماء، حتى إنه لا يغفر ولا يرحم بدون سفك الدماء.
ونحن حين نقول ذلك فإننا لا نسيء بكلمة ولا بحرف إلى الله تعالى إله المسيحية الحقة، فإله المسيحية هو إله الإسلام، وهو الله تعالى رب العالمين. فهو الذي قال في الكتاب المقدس إنه يريد رحمة لا ذبيحة، وإنه لا يُسر بموت الشرير وهلاكه، وإنما يريد أن يعود الشرير عن طرقه ويحيا، أي أنه يريد أن يتوب الشرير وينال الحياة الأبدية. أما الضالون من البشر، فهم الذين ينسبون إلى الله أمورا لا تليق به، ولا تتفق مع صفاته القدسية، ولا تتلاءم مع عفوه ومغفرته ورحمته.(4/97)
والكفارة أيضا عمل يُنسَب إلى العبد كما يُنسب إلى الرب. فالعبد يكفّر عن ذنوبه والله تعالى يكفر عن ذنوب عبده. وتكفير العبد عن ذنوبه يعني أنه يتوب ويأتي من الأعمال الطيبة ما يزيل أثر عمله السيء، وتكفير الله عن ذنوب عبده يعني أنه سبحانه يستر ويغطي ذنوب عبده، أو أنه يعفو عنها ويمحوها، أو أنه يغفرها ويزيل أثرها. أما تكفير العبد عن ذنوبه فهو يتوقف على نوع هذه الذنوب، فإذا كانت هذه الذنوب تتضمن إساءة إلى حقوق الله تعالى فقط، فتكفيرها يقتضي التوبة وأداء الصالحات من الأعمال الحسنة، فالله تعالى يقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ[ (هود:114)، كما يقول أيضا: ]إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[ (الفرقان:70). أما إذا كانت ذنوب العبد تتضمن إساءة إلى حقوق الله تعالى بالإضافة إلى الإساءة إلى حقوق العباد، فتكفيرها يقتضي أيضا التوبة وأداء الصالحات من الأعمال، ولكن يُشترط أن تتضمن هذه الأعمال الصالحة رد حقوق العباد الذين أساء إليهم أو تعويضهم عنها. ومن هنا كانت الآية التي ذكرها جناب القمّص والتي تتضمن كفّارة القسَم. يقول تعالى ]لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ[ (المائدة:89). فالإساءة المذكورة في هذه الآية هي في حق الله تعالى كما أنها في حق المجتمع أيضا، فهي في حق الله تعالى لأن الإنسان لم يحفظ قسمه، والله تعالى يقول { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ[، والتكفير عن الإساءة في حق الله تعالى كما سبق ذكره هو في التوبة وأداء الأعمال الصالحة. كذلك فهي إساءة في حق المجتمع، لأن قوله تعالى ]عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } يعني صدرت منكم عهود مؤكدة أقسمتم عليها بأغلظ القسم، وهذه العهود المؤكدة بالأقسام تختص عادة بأفراد المجتمع، كأن يقسم الإنسان عمدا في المحكمة، كما ذكر جناب القمّص، ولذلك ينبغي أن تتضمن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المرء أداء حق المجتمع. ولما كان حق المجتمع في هذه الحالة ليس شيئا ماديا، أمر الله تعالى بأداء عمل صالح ينفع المجتمع، وقد حدد الله تعالى هذا العمل بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لا يستطيع القيام بأحد هذه الأعمال، فعليه على الأقل أن يصوم ثلاثة أيام، فالصيام يؤدي إلى التقوى.
أما إذا حدث أن حطم أحد سيارة السيدة ناهد متولي، فهذا خطأ شخصي نتج عنه خسارة للسيدة ناهد متولي، وينبغي تعويضها عنه، بالإضافة إلى الاعتذار أيضا، ولكنه لا يتضمن إساءة إلى حق الله تعالى، إلا إذا فعله المرء عن قصد وسوء نية، فهنا ينبغي أن يتوب المرء أيضا بالإضافة إلى أداء العمل الصالح الذي يتضمن الاعتذار للسيدة ناهد وتعويضها عن الخسارة التي تكبّدتها.(4/98)
ومن هذا يتبين الخطأ الفادح في كلام القمّص الذي يقول إن التوبة لازمة ولكنها ليست كافية لأنه لا بد من الكفارة، والكفارة كما يفهمها جناب القمّص هي في التعويض، مع أن التعويض لا يجوز إلا في حالة وقوع الضرر، ومن المستحيل أن يقع أي ضرر على الله تعالى بسبب خطية الإنسان. فالكفارة لا تعني التعويض في كل حالة، وإنما تعني التوبة وأداء الصالحات من الأعمال. أما الكفارة التي يحدثنا عنها جناب القمّص، بموت المسيح على الصليب، والتي يدّعي أن فيها تعويضا، فلا نجد فيها تعويضا عن شيء. وجناب القمّص يعلم هذا جيدا، ولذلك نراه يقول إن المسيح مات عوضا عنا، وذلك ليقحم مبدأ التعويض في الكفارة، ولكن المسيح لم يمت "عوضا" عنه وإنما، بفرض موته فعلا على الصليب، فقد مات "بدلا" عنا وليس "عوضا" عنا، وبالتالي فليس في الموضوع كله أي تعويض، والمثال الذي قدمه جناب القمّص عن تحطيم السيارة لا ينطبق، لأن التعويض معناه أن تنال السيدة ناهد متولي ما يعوضها عن سيارتها التي تحطمت، ولكن إذا افترضنا أن الشخص الذي حطم سيارتها يمتلك سيارة مشابهة تماما للسيارة التي تحطمت، فهل التعويض يكون في إعطائها السيارة عوضا عن سيارتها المحطمة، أم يكون في تحطيم سيارته التي يمتلكها؟ وإذا افترضنا أن الشخص الذي حطم سيارتها يمتلك سيارة مشابهة تماما للسيارة التي تحطمت، ولكنه يستطيع أن يعوض السيدة ناهد بسيارة أجمل وأفضل من سيارتها، فهل يكتفي بالتعويض أم يتطلب الأمر أن يحطم سيارته أيضا. المقصود هو أن الله تعالى يستطيع أن يعفو ويغفر ويرحم، وبذلك فإنه يهب الإنسان الحياة الأبدية، وذلك إذا تاب الإنسان عن سيئاته وعمل عملا صالحا، أي عندما يكفّر الإنسان عن سيئاته، فإن الله تعالى بدوره يعفو عنه ويغفر له ويشمله برحمته، أي أنه سبحانه يكفّر عن سيئات الإنسان. إن هذا ما حدث مع آدم صلى الله عليه وسلم ، حسب ما أكده القرآن المجيد، إذ أنه تاب إلى الله تعالى فتاب الله عليه، دون أن يضطر إلى أن يتجسد ويقتحم جسد إنسان، ودون أن يلجأ إلى سفك دم إنسان بريء.
إن العفو عن الذنوب معناه أن يستر الله الذنوب ويمحوها فلا يكون لها أثر يراه الناس، وغفران الذنوب معناه أن يزول أثر الذنوب فلا يكون لها أثر عند الله تعالى. وكل من العفو والغفران هما من رحمة الله التي وسعت كل شيء، فإن الله الرحمن الرحيم قد وسعت رحمته كل شيء، وكل شيء يعني كل شيء بما في ذلك جميع صفاته الأخرى، فإن كل صفة من صفاته تنبثق من صفة الرحمة، وعلى هذا فلا تعارض ولا تناقض بين صفاته، لأنها جميعها تنبثق من الرحمة، حتى ولو كانت تبدو في ظاهرها كما لو أنها تتعارض مع الرحمة، فإن هذا التعارض الظاهري إنما هو نتيجة سوء الفهم. فالله تعالى يصف نفسه بأنه غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديدُ العقاب ذو الطَّوْل، وجميع هذه الصفات تنبثق من الرحمة، فمن رحمته أنه يغفر الذنب، ومن رحمته أنه يقبل التوب، ومن رحمته أيضا أنه شديد العقاب، يطول عقابه كل من يستحق العقاب، وذلك لأن الهدف من العقاب عند الله تعالى هو إيصال الرحمة، وليس مجرد الثأر والتشفي. يقول تعالى { مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وءَامَنْتُمْ[ (النساء:147)، أي أن العذاب ليس هو الهدف، وإنما الهدف هو الإيمان بالله وشكر نعمه وأفضاله، فمن يؤمن بالله ويقدّر نعمته وفضله سوف يعامل الناس أيضا بالرحمة، وسوف تتجلى في تصرفاته جميع الصفات الإلهية، أي أنه يتخلق بأخلاق الله تعالى، كما سبق وشرحنا ذلك في حلقة سابقة. كذلك يقول تعالى { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ (السجدة:21). وهذه الآية الكريمة تشرح فلسفة العذاب وأهدافه، فالغرض من العذاب هو { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ أو كما قال الكتاب المقدس "أن يرجع الشرير عن طرقه ويحيا". وعلى هذا فحتى العذاب ينبثق من رحمة الله تعالى، لأن هدفه الإصلاح والتطهير من سموم الإثم، وليس هدفه هو الانتقام أو الثأر، أو توقيع العذاب لمجرد العذاب أو نتيجة لصدور حكم أرعن يفتقد إلى الحكمة والعدل.(4/99)
عجيب حقا أمر هذا القمّص ومسيحيته المغلوطة التي تنسب إلى الله أعمالا يأنف هو منها، ويأنف منها كل إنسان شريف ويأنف منها كل أب محب لأبنائه. وإني أريد أن أسأل جناب القمّص، وأسأل كل أب يؤمن بالمسيحية التي يؤمن بها هذا القمّص، ماذا يكون تصرفه في الحالة التالية: نفترض أن أبا حنونا محبا لأسرته ولأولاده، ثم حدث أنه أحضر سما سائلا في زجاجة لقتل الفئران التي تفّشت في منْزل الأسرة، وكان لا بد من حفظ هذا السم السائل في ثلاجة المنْزل حتى لا يفسد ويفقد تأثيره، فبطبيعة الحال لا بد أنه سوف يخبر جميع أفراد أسرته عن هذا السم ويحذرهم من خطره ويعلمهم الطريقة الصحيحة لاستعماله. ثم نفترض أن أحد أبنائه أحس بالعطش في إحدى الليالي، فذهب إلى البراد وفتحه باحثا عن مشروب يروي به عطشه، فوقع نظره على زجاجة السم، وهنا حدثته نفسه بأن هذا السائل ليس سُمًّا وإنما هو شراب لذيذ، وأن أباه قد كذب على أسرته حين حذرهم منه، وأنه خدعهم لأنه يريد أن يبقيه لنفسه ويحرمهم منه. وهنا تناول الابن زجاجة السم وشمها فوجد رائحتها طيبة، ثم ذاق منها بطرف لسانه فوجد طعمها لذيذا، فرفعها على فمه وراح يعب منها إلى أن أفرغها في جوفه. وبعد برهة، بعد أن بدأ السم يسري في أحشائه وأحس بالألم، راح يصرخ ويتأوه، فسمع أباه صراخه وأسرع إليه. وهنا أدرك الأب أن ابنه قد عصاه وخالف أمره وشرب السم. فماذا يفعل القمّص زكريا بطرس لو كان هو ذلك الأب المحب الحنون؟ وماذا يفعل كل أب مسيحي يؤمن بمسيحية القمّص لو أنه كان في ذلك الموقف؟ هل يقف ويقول لابنه العاصي: إنك عصيتني فعليك أن تعاني آلام السم عقابا لك، أم أنه يذهب فيقتل ابنه البكر فداء لابنه الخاطئ، أم أنه يأخذه فورا إلى المستشفى، وهو يعلم أنه سوف يعاني هناك الكثير من العذاب والآلام؟ إنه يعلم أنهم سوف يحددون إقامته في غرفة غير غرفته، وسوف يجبرونه على أن ينام في سرير غير سريره، وسوف يمنعونه من الخروج أو اللعب مع أصحابه، وسوف يمنعونه من تناول الأطعمة التي يحبها، وسوف يحرمونه من شرب العصائر والمياه الغازية التي يفضلها، وسوف يسقونه أشربة مرّة، وسوف يعطونه أدوية لا طعم لها ولا تغني من جوع، وسوف يثقبون جسده بالإبر والحقن، وسوف يضعون في فمه خرطوما يصل إلى جوفه لغسل بطنه، وسوف يعطونه حقنا شرجية لغسل أمعائه، وهكذا يظل الابن يعاني من كل هذه العذابات إلى أن يتم شفاؤه ويزول أثر السم من جسمه. ورغم أن الأب يعلم يقينا أن ابنه سوف يعاني من كل هذه الآلام، ولكنه لحبه لابنه، ولحرصه على مصلحته، ولرحمته به، فإنه يخضعه لكل هذه الآلام من أجل تحقيق شفائه، لأنه بعد أن يتم شفاؤه ويعود إلى بيت أبيه لن يشك مرة أخرى في كلامه ولن يعصي له أمرا أبدا.
إذا كان القمّص زكريا بطرس سوف يتصرف كهذا الأب المحب لابنه، وإذا كان كل إنسان مسيحي سوف يتصرف نفس هذا التصرف القائم على المحبة، فكيف يتصرف الله الودود الرحيم الذي هو أرحم الراحمين؟ هل من اللائق أن نقول بأنه سوف يقول لابنائه العصاة: اذهبوا عني يا ملاعين إلى جهنم النار الأبدية؟ أم أنه يخضعهم للعذاب الذي ينبثق من رحمته سبحانه وتعالى، والذي يكون الغرض منه هو نزع سم الإثم من نفوسهم حتى يعيشوا بعد ذلك في جنة ربهم؟
إنني أترك إجابة هذا السؤال لجناب القمّص، ولضميره، ولقلبه، ولعقله، كما أتركها أيضا لكل أب مسيحي، يحب أبناءه ويحرص على سلامتهم، ويعمل لما فيه خيرهم.
( 12 )
هذا لقاؤنا الثاني عشر في سلسلة حلقات "أجوبة عن الإيمان" التي نرد بها على الحلقات التي قدمها القمّص زكريا بطرس بعنوان "أسئلة عن الإيمان". ونريد في هذه الحلقة أن نتناول الموضوع الذي تقوم عليه المسيحية اليوم، وهو موضوع موت المسيح على الصليب. فهل مات المسيح على الصليب كما يقول بذلك جناب القمّص، وكما تؤمن بذلك المسيحية وتعتبر أن هذه العقيدة هي العقيدة المحورية في المسيحية، والتي بدونها لا يكون للمسيحية وجود ولا قيمة، أم أن الله تعالى نجاه من هذه الميتة اللعينة، أي الموت على الصليب؟ إننا نريد أن نبحث هذا الموضوع من وجهة النظر الإسلامية ومن وجهة النظر المسيحية أيضا. ولما كان الموضوع في غاية الأهمية فسوف نخصص له حلقتين أو ثلاثة حتى نوفيه حقه من البحث والتمحيص.
ويبدو أن جناب القمّص لديه ولع شديد بالاستشهاد بآيات القرآن الكريم لكي يثبت عقائده المسيحية لمشاهديه من المسلمين، ولا مانع من هذا بشرط أن يكون هذا الاستشهاد صحيحا وسليما ولا ينطوي على تزوير وتحريف أو لوي وتشويه المعاني. وكالعادة.. تقدم السيدة ناهد متولي الأسئلة ويتولى جناب القمّص الإجابة. والسؤال الذي تقدمه السيدة ناهد هذه المرة هو: "يقول القرآن أن المسيح لم يُصلب، وما صلبوه يقينا، فما ردك على ذلك"؟(4/100)
ويرد جناب القمّص بأنه يود أن يذكر بقية الآيات التي تذكر أن المسيح لم يصلب لكي يعرف المشاهد المسلم أن القمّص وفريق العمل الذي يعمل معه مدركون لأبعاد هذه الحقيقة من القرآن، فيذكر سورة النساء الآية 157. وللأسف فإن جناب القمّص لا يذكر الآيات التي يستشهد بها كاملة، وإنما يقتطع منها بعض الكلمات التي ليست على هواه، ولذلك فسوف أقدم للمشاهد الآيات التي ذكرها القمّص كاملة.
يقول تعالى: { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْج وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمٍ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا إِتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[
ثم يذكر قوله تعالى في الآية 54و55 من سورة آل عمران: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ~ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[
ثم يذكر الآية 33 من سورة مريم حيث يقول تعالى على لسان المسيح ابن مريم { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[
ثم سورة المائدة الآية 117 التي تقول { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ[.
وبعد ذكر هذه الآيات يدعونا جناب القمّص لسماع رأي فقهاء المفسرين فيقول إن الإمام الرازي في تفسيره الجزء الثاني وصفحة 457 يقول: "روى ابن عباس ومحمد بن اسحاق أن معنى ]مُتَوَفِّيكَ[ أي مميتك"، وقال وهب: "تُوفي المسيح ثلاث ساعات"، وقال ابن اسحاق: "تُوفي سبع ساعات". أما الإمام البيضاوي في تفسيره للقرآن على ذات الاية الجزء الثاني صفحة 128 فيقول: ’’قال قوم: "صُلِبَ الناسوت وصعد اللاهوت"‘‘. ويعلق جناب القمّص على هذا التفسير فيقول إن البيضاوي اقترب جدا من الحقيقة، ويستنتج من كلام البيضاوي أن قوله تعالى ]وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ[ وقوله ]وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[ ينطبق على اللاهوت ولا ينطبق على الناسوت، أي أنهم قتلوا وصلبوا الجزء الإنساني في المسيح، ولكنهم لم يقتلوا ولم يصلبوا الجزء الإلهي المتجسد فيه، إذ يؤكد على أن اللاهوت لا يموت.
ويشرح جناب القمّص اختلاف جوهر اللاهوت عن جوهر الناسوت فيشبه ذلك بالحديد والنار، ويقول إن الحديد يتأثر بالنار فيمكن طرقه وتشكيله، ولكن النار لا تتأثر بهذا الطرق لأنها من جوهر يختلف عن جوهر الحديد، وكذلك فإن اللاهوت المتجسد في المسيح لا يتأثر بالموت ولا بالصلب لأنه من جوهر يختلف عن الناسوت. ويبدو أن جناب القمّص في غاية السرور والسعادة بما نقله البيضاوي في تفسيره، ويعترف بأن ما قاله البيضاوي هو ما يقول به المسيحيون بفارق بسيط، وهو أن اللاهوت لم يصعد لأنه ظل في الناسوت بعد موته وصلبه، فهو لا يحتاج للصعود لأنه موجود في كل مكان.
والغريب أن جناب القمّص يدّعي أنه لا يفسر القرآن برأيه، وأنه يستشهد فقط بأقوال المفسرين، مع أنه من الواضح أنه يفسر بل ويحرّف معاني الآيات والكلمات، ولم يذكر لنا تفسير أحد من العلماء لقوله تعالى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ[. وقد أعجبه بالطبع القول الذي ذكره البيضاوي نقلا عن "قوم" لم يُعرّفهم لنا ولم يذكر من هم أولئك القوم، فهو لا ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينقل عن علماء المسلمين، ولا ينقل عن المفسرين، وإنما ينقل عن "قوم" مجهولين أغلب الظن أنهم من النصارى الذين يؤمنون بموضوع الثالوث المسيحي وتجسد اللاهوت في الناسوت كما يؤمن بذلك جناب القمّص وأتباعه. وهكذا نرى جناب القمّص يستدل بآراء النصارى ليثبت للمسلمين صدق آراء النصارى!! وكما يقول المثل.. "شر البلية ما يضحك"!! فلا شك أن المنطق الذي يتّبعه جناب القمّص يثير الضحك والأسى في نفس الوقت، فهو يثير الضحك بسبب وضوح ضحالة وسخافة وعبثية المنطق الذي يتّبعه جناب القمّص، كما أنه يثير الأسى لأن بعض المسلمين يقعون فريسة لهذا المنطق المغلوط، ويصدقون أن هذه الآراء الواهية الخاطئة هي آراء المفسرين المسلمين، فهذا هو ما يحاول جناب القمّص أن يوحي به لمشاهديه من المسلمين.
وتسأل بعد ذلك السيدة ناهد متولي فتقول: "برضه في الآية نفسها بتقول أنه شُبّه لهم، إيه شُبّه لهم دي"؟ فيقول جناب القمّص: "نرجع للإمام الرازي ونشوف شُبّه لهم ده رأيه فيها إيه". وقبل أن يترك كلام البيضاوي لا ينسى أن يكيل له المديح مرة أخرى فيقول: "هوه طبعا البيضاوي فسّر كويس، شُبّه لهم أنهم قتلوا اللاهوت، أو صلبوا اللاهوت، شُبّه لهم، لكن ما اتصلبش في رأي البيضاوي لأنه صعد".(4/101)
وما دام جناب القمّص معجب أشد الإعجاب بكلام البيضاوي، ويعترف بأنه "فسر كويس"، فنحن نريد أن نشاطر جناب القمّص عظيم إعجابه، ونقول إنه بذلك وقع في الحفرة التي كان يحفرها. لقد اعترف بأن قوله تعالى { شُبِّهَ لَهُمْ } يعني "خُيِّل لهم" أنه قد قُتل وقد صلب، ولكنه في الحقيقة لم يُقتل ولم يُصلب. وجميع المفسرين المسلمين متفقون على هذه النتيجة لقوله تعالى { شُبِّهَ لَهُمْ[، ولو أنهم يختلفون على الوسيلة التي تم بها هذا "التخيل" أو هذا "التصوّر". فالبعض يقول إن الله تعالى ألقى شبه المسيح على شخص آخر، وهذا الشخص الآخر هو الذي قُتل وصُلب. وقد عارض الكثير من المفسرين هذا الرأي، بما فيهم الإمام الرازي الذي استشهد به جناب القمّص، والذي استنكر مبدأ إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر، فقال كما ذكر القمص:
"إن جاز أن يُقال إن الله تعالى يُلقي شبه إنسان على آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، فلربما إذا رأينا زيْدًا، فلعله ليس بزيْد، ولكن الله ألقى شبه زيْد على شخص آخر. وإذا تزوج رجل فاطمة، فلعله لم يتزوج فاطمة، ولكن الله ألقى على خديجة شبه فاطمة، فتزوج خديجة وهو يظن أنها فاطمة. لو جاز إلقاء شبه أحد على شخص آخر، فعندئذ لا يبقى الزواج، ولا الطلاق، ولا الامتلاك، موثوقا به".
ولا شك أن كلام الإمام الرازي على جانب كبير من الصحة، ولذلك فإننا نستبعد أيضا هذا الرأي الذي يستبعده الرازي، وعلى هذا فلا بد أن تكون هناك وسيلة أخرى، خُيّل لهم بواسطتها أنهم قتلوا المسيح صلى الله عليه وسلم وصلبوه. ونستطيع أن نضرب لذلك مثالا لما حدث لسيدنا رسول الله وصاحبه أبي بكر إذ هما في الغار بعد هجرتهما من مكة، فجن جنون قريش وأرسلوا وراءهما قصاصي الأثر ليأتوا برسول الله حيا أو ميّتا. وجاء المشركون بالفعل إلى باب الغار، حتى إن أبا بكر كان يخشى أن ينحني أحدهم وينظر في فتحة الغار فيراهما، فطمأنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ’’لا تحزن إن الله معنا‘‘. ولكن السؤال المهم هنا هو: لماذا لم ينحن أحد من المشركين لينظر ما إذا كان أحد بداخل الغار؟ والجواب هو أنه قد شُبِّه لهم، أي خُيِّل لهم، أنه لا يوجد أحد في الغار، وذلك بسبب العوامل والمؤثرات التي رأوها فصرفت أذهانهم عن أن يتصوروا أو يتخيلوا وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وكانت تلك العوامل والمؤثرات هي بيت العنكبوت الذي بنته على فتحة الغار، وبيضة الحمامة التي وضعتها أيضا هناك. كذلك في حالة المسيح صلى الله عليه وسلم ، خُيِّل لهم أنهم قد قاموا بقتل المسيح وصلبه، وذلك بسبب العوامل والمؤثرات التي رأوها، فظنوا أنهم قد قتلوه وصلبوه، ولكنهم في الحقيقة لم يستطيعوا أن يقتلوه ولم يصلبوه. فما هي تلك العوامل التي جعلتهم يتخيلوا أنهم قتلوه وصلبوه؟
أولا: لقد قبض عليه الجند الذين أُرسلوا لإحضاره للمحاكمة، وذلك بعد أن قبّله يهوذا، أحد تلاميذه الذي خانه، وكان قد اتفق مع الجند على أن يلقوا القبض على الشخص الذي يقبّله، وتم هذا العمل أمام الجميع. ورغم أن هذه الواقعة مذكورة في الأناجيل إلا أن هناك اتفاقا عليها، بينما الروايات التي تزعم أن شبهه قد أُلقي على شخص آخر كلها مختلفة، ومتعارضة، فهي تزعم أحيانا أن الذي أُلقي عليه شبهه هو يهوذا الخائن، وأحيانا تقول إنه أحد تلاميذه المخلصين وقد تطوّع لذلك العمل، وأحيانا تذكر أن اسمه سمعان، وأحيانا تقول إنه ليس سمعان ولكنه سرجيوس. وكل هذه الأقوال المتضاربة ليست من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكرها بعض المفسرين مرددين بعض الأقاويل من الإسرائيليات التي كان الناس يتناقلونها، ومن الواضح أن اختلافها وتناقضها وتعارضها مع بعضها البعض هو أبلغ دليل على كذبها وخطئها وعدم صحتها. ولذلك فلا مانع من أن نقبل رواية الأناجيل في هذا الشأن لأنها تتفق مع ما هو معقول، ولا يوجد اختلاف عليها.
ثانيا: إن الشخص الذي تم القبض عليه أحضروه أمام علماء اليهود في حضور الحاخام الأكبر، وقد سألوه العديد من الأسئلة، وكان يجيب عليهم دون أن يصرخ ويقول لهم إنه ليس المسيح وإنما هو فلان الفلاني، مما يدل على أنه كان بالفعل هو المسيح صلى الله عليه وسلم .
ثالثا: نفس هذا الشخص أحضروه أمام الحاكم الروماني بيلاطس البنطي، الذي تولى محاكمته، وأدرك أنه بريء من التهم التي ألصقها به اليهود. وهنا أيضا لم يصرخ ولم ينف أنه المسيح، ولم يقل إنه شخص آخر غير المسيح.
رابعا: نفس هذا الشخص أخذوه لتنفيذ حكم الصلب عليه، ودقوا في يديه المسامير، وعلقوه بالفعل على الصليب، ومع ذلك لم يبد أي تصرّف يُفهم منه أنه ليس المسيح صلى الله عليه وسلم ، بل كان يدعو الله أن يغفر لهم ويقول إنهم لم يكونوا يعلمون ماذا يفعلون.
خامسا: نفس هذا الشخص كان وهو معلق على الصليب، يتكلم مع أحد اللصين اللذين صُلبا عن يمينه وعن يساره، وكان قد آمن به، فقال له: "غدا تكون معي في الفردوس".(4/102)
ورغم أن كل هذه الأمور قد جاء ذكرها في الأناجيل، فليس هناك ما يمنع قبولها، إذ لا ينبغي رفضها لمجرد أنها جاءت في الأناجيل، وإنما يمكن أن نرفضها إذا كانت تختلف مع ما هو معقول، أو إذا كانت تختلف مع نص صريح من وحي الله تعالى جاء في الكتاب المقدس أو في القرآن الكريم. وليس هناك ما هو غير معقول في أن يقبض الجند على نبي من أنبياء الله، أو أن يُقدم ذلك النبي للمحاكمة، أو أن يتعرّض ذلك النبي للتعذيب والابتلاء الشديد. ولعل ما حدا ببعض الناس إلى القول بأن المسيح صلى الله عليه وسلم لم يُعلق على الصليب هو سوء فهمهم لمعنى قوله تعالى { وَمَا صَلَبُوهُ } ، إذ ظنوا أن القرآن المجيد ينفي تعليق المسيح على الصليب. والحقيقة أن هناك فرقا شاسعا بين الصلب والتعليق على الصليب، فالصلب معناه الموت أثناء التعليق على الصليب، أما مجرد التعليق على الصليب بغير الموت فلا يُعتبر صلبا، وإنما يعتبر تعليقا فقط. والفرق بين التعليق والصلب مثل الفرق بين الغطس والغرق، فكل من الغطس والغرق يعني نزول المرء تحت الماء، ولكن إذا خرج المرء من الماء حيا يُقال إنه غطس، ولا يُقال إنه غرق، أما إذا مات وهو تحت الماء فحينئذ فقط يقال إنه غرق. كذلك الحال بالنسبة للتعليق والصلب، كلاهما يعني تعليق المرء على الصليب، فإذا نزل المرء من على الصليب حيا، يُقال إنه عُلّق على الصليب، ولا يُقال إنه صُلب، أما إذا مات المرء وهو معلق على الصليب، فحينئذ فقط يُقال إنه صُلب. ويؤكد القرآن المجيد على هذا المعنى في العديد من الآيات الكريمة، إذ يقول تعالى على لسان فرعون مخاطبا السحرة الذين آمنوا بموسى صلى الله عليه وسلم : { لأٌقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[ (الشعراء:49)، ومن الواضح أن المقصود بكلمة { لأُصَلِّبَنَّكُمْ[ هنا هو الموت والقتل على الصليب وليس مجرد التعليق فقط. كذلك يقول تعالى ]إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ (المائدة:33). ومن الواضح هنا أيضا أن المقصود بكلمة { يُصَلَّبُوا } هو الموت والقتل على الصليب وليس مجرد التعليق فقط. والقرآن المجيد ينفي صلب المسيح في قوله تعالى { وَمَا صَلَبُوهُ[ ولكنه لا ينفي مجرد تعليقه فقط على الصليب.
وعلى هذا، فلا معنى للقول بأن الله تعالى قد ألقى شبه المسيح على شخص آخر، وإنما يكون معنى قوله تعالى ]وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ[ أن اليهود لم يفلحوا في تحقيق قتله عموما، وخاصة لم يحققوا قتله على الصليب، وإنما علقوه فقط، فلما أُغمي عليه شُبّه لهم أنهم قد قتلوه على الصليب، أي أنهم تخيلوا أنهم قد حققوا صلبه، ولكنه لم يُصلب في حقيقة الأمر، لأن الله تعالى لم يقبض روحه، بل ظل حيًّا على الصليب، وأُنزل حيًّا من على الصليب، وبذلك فقد أفسد الله تعالى تدبير اليهود، وهذا معنى قوله تعالى ]وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[، أي أن اليهود دبّروا أمر قتله على الصليب، فدبر الله تعالى أمر نجاته من القتل على الصليب، وخُيّل لهم أنهم حققوا قتله على الصليب، ولكنهم لم يكونوا متيقنين من ذلك، بل كانوا في شك منه، ولذلك فإنهم لا يتبعون في ذلك إلا الظن، والحقيقة أنهم ما قتلوه يقينا.(4/103)
هذا هو المعنى الذي يتفق مع كلام الله تعالى في القرآن الكريم، ويتفق مع العقل، ويتفق أيضا مع الأحداث التاريخية التي وصلت إلينا. وليست كل عبارة جاءت في الأناجيل تكون كاذبة أو خليقة بأن نرفضها، وإنما يتحتّم أن نرفضها إذا كانت تتعارض مع وحي الله تعالى الواضح في الكتاب المقدس أو في القرآن الكريم، أو إذا كانت تتعارض مع العقل وتتناقض مع المعقول من الأمور. وليس في تعليق المسيح صلى الله عليه وسلم على الصليب ما يتناقض مع المعقول من الأمور، فكثير من الأنبياء قد تعرّضوا للأذى الشديد، فصبروا على ما أصابهم في سبيل الله. وها هو سيد الخلق أجمعين - صلى الله عليه وسلم -، لم يُستثن من المعاملة الوحشية التي تلقاها من قومه. وفي إحدى المناسبات بينما كان يصلي، وضع جماعة من الكفار وشاحًا حول عنقه وشدّوه عليه حتى جحظت عيناه. ثم حدث أن جاء أبو بكر الله أكبر فأبعدهم عنه باكيًا وقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله"؟! وفي مرة أخرى كان الرسول الله أكبر ساجدًا في صلاته، فجاءوا بأمعاء بعير وألقوها على ظهره، فلم يستطع النهوض حتى جاءت ابنته فاطمة وأزالت هذه الأثقال عنه. وفي حادثه ثالثة كان يمر بالطريق، فتبعته جماعة من الصبيان أخذوا يصفعون رقبته صائحين بالناس أنه يدّعي النبوة. هكذا كان الرسول الله أكبر يلقَى العداوة والكراهية من هؤلاء الناس، وكان يبدو في أيديهم بلا حول ولا قوة. كان الناس يرجمون بيته بالحجارة من أسطح المنازل المجاورة، وكانوا يلقون على مطبخه الرّوَث والقاذورات ونفايات الحيوانات المذبوحة. وكثيرًا ما كانوا يحثون عليه التراب أثناء أدائه الصلاة. وحدث أن رجمه الغوغاء بالحجارة عندما ذهب إلى الطائف، فشُجّت رأسه، وتدفقت الدماء من رأسه إلى أن وصلت إلى قدميه. وها هو في غزوة أُحُد تتعاوره الأحجار حجرًا بعد حجر، فأحدث الأوّل به جرحًا عميقًا، وجعل الثاني حلقتي المغفر تدخلان في خده، وبينما كانت السهام تتساقط غزيرة متسارعة والرسول - صلى الله عليه وسلم - مثخن بالجراح، كان يدعو الله قائلاً: ’’ربِّ اغفر لقوْمي فإنهم لا يعلمون‘‘ (مسلم، كتاب الجهاد والسير). ورغم كل ما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهوال ومشاق وآلام في سبيل الله تعالى، فإنه سبحانه لم يُلق شبهه على أحد لينقذه مما أصابه، ولكنه مع ذلك يقول { وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[ (المائدة:67)، أي أنه سبحانه يعصمه من القتل بأيدي الناس، وهذا هو ما حدث رغم أن الجيوش قد جُيّشت من أجل قتله، وجاءت الأحزاب من جميع أنحاء جزيرة العرب من أجل القضاء عليه، وألقى اليهود عليه حجرا كبيرا فنجاه الله تعالى، وحاولت امرأة يهودية أن تقتله بالسم فحفظه الله تعالى. وقال الله تعالى في حقه - صلى الله عليه وسلم - ما قال في حق المسيح صلى الله عليه وسلم ، إذ قال { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ (الأنفال:30).
لقد مكر الذين كفروا في حق المسيح صلى الله عليه وسلم كما مكر الذين كفروا في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحالتين كان الله خير الماكرين، ولكنه لم يُلق شبه نبيه على أحد، فما كان الله تعالى ليرضى أن يهين صورة نبيه بأن يجعلها على شخص آخر أقل مكانة وأقل درجة من مكانة نبيه، وإنما دبر سبحانه في الحالتين نجاة نبيه من التدبير السيء الذي خطط له أعداء الله، فأفسد تدبيرهم ونفّذ تدبيره، وأفشل مآربهم وحقق مشيئته. نعم لقد قاسى كل منهما آلام الاضطهاد والتعذيب، ولكن هكذا الأنبياء يكونون دائما هم القدوة والمثل الذي يقتدي به أتباعهم المؤمنون. لقد عُلّق المسيح صلى الله عليه وسلم على الصليب، ولكنه لم يُصلب، إذ نجاه الله تعالى من الموت على الصليب، وهذا ما كان يمكر أعداؤه لتحقيقه. ورُجم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة، ولكنه لم يُقتل، إذ نجّاه الله تعالى من الموت قتلا، فهذا ما كان يمكر أعداؤه لتحقيقه أيضا. لقد تعرّض المسيح صلى الله عليه وسلم مرة واحدة لحادثة الصلب التي نجاه الله تعالى منها، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعرّض مرات ومرات لمحاولات القتل بيد أعدائه، بداية بمحاولة قتله عندما أحاطوا بداره وانتظروه أن يخرج ليقتلوه، فخرج دون أن يتنبهوا لخروجه وهاجر إلى المدينة، وانتهاءً بالمحاولات التي بذلها أبو عامر الراهب ومنافقو المدينة للقضاء عليه والتآمر مع الروم لغزو المدينة.(4/104)
وما دام الله تعالى قد أحبط مكر اليهود فلم يتمكنوا من صلب المسيح صلى الله عليه وسلم ، ولم يستطيعوا أن يحققوا موته على الصليب، فقد أثبت سبحانه بذلك أيضا فساد عقيدة الكفارة وخطأ مبدأ الصلب والفداء. وبذلك، على الأقل من وجهة النظر الإسلامية، نستطيع أن نقول بأن المسيح صلى الله عليه وسلم لم يمت على الصليب. وما دام جناب القمّص مولعا بإيراد رأي العلماء المسلمين من أجل إقناع مشاهديه من المسلمين بما يقوله، فلا بأس من إيراد رأي بعض العلماء المسلمين في الزمن القديم وفي العصر الحديث الذين نهجوا أيضا نفس المنهج، وأكدوا أن المسيح صلى الله عليه وسلم لم يمت على الصليب، وإنما توفاه الله تعالى وفاة طبيعية، دون أن يتمكن أحد من قتله أو صلبه،
================
قانون إيمان النصارى
حوار بين عبد الله وعبد المسيح
صدق الله القائل:
"أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)" سورة آل عمران
يعتقد النصارى أن الله سبحانه واحد في ثلاثة اقانيم ، وثلاثة اقانيم في واحد ، الآب والابن والروح القدس هم واحد : متساوون في المجد متساوون في الأزلية . الآب هو الله . الابن هو الله . الروح القدس هو الله ..... ومع هذا فهؤلاء ليسوا بثلاثة آلهة ولكن إله واحد في ثلاث اقانيم .... مع أن كلمة ( الثالوث ) ولا كلمة اقانيم ليست موجودة في أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم ولا الجديد.
ويعتقد النصارى بأن المسيح هو الله وانه ظهر بثلاث شخصيات "الآب في السماء والإبن يسوع والروح القدس الحمامة المسئولة عن الوحي" وانه قد تجسد في صورة الإبن وتأنس أي صار إنسانا و صُلب ومات وقام بعد ثلاثة أيام وذلك تكفيراً لخطيئة آدم حينما أكل من الشجرة ومن لم يؤمن بذلك فهو كافر ولن يخلص ((من الخلاص)) وهذا الإعتقاد ينفيه تماما الكتاب المقدس ومع ذلك فهم يؤمنون به .
بعد ان تعرضت لمناقشات ومحاورات عديده معهم اثناء تواجدى لفتره من الفترات فى امريكا وفقنى الله سبحانه وتعالى لابدا فى دراسه كتابهم والذى انصح بقراءته فقط لمن كان قلبه معلق بالقران الكريم بشده حتى لا يصاب بقسوة فى قلبه من الادعاءات والتحريف المتواجد به عن الله سبحانه وتعالى وعن انبياء الله جميعا. وهذا حوار دار بيني وبين أحد النصارى حول قانون الإيمان الخاص بهم لكشف مدى تطابقه مع الكتاب المقدس. ومع العلم بأن هذا القانون قد صدر من أحد المجامع "الإجتماعات" عام 325 ميلادية .... بعد رفع المسيح عليه السلام بما يقرب من 300 عاما.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم واجعله حجة على جميع النصارى.
اترككم مع الحوار
فليبدأ عبد المسيح: وليقرأ علينا قانون الإيمان النصراني:
عبد المسيح: ”بالحقيقة نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل خالق السماء و الأرض، ما يُرى وما لايُرى نؤمن برب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد،المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد مع الآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي. تألّم وقُبِرَ وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السموات، وجلس عن يمين أبيه. وأيضا يأتى فى مجدة ليدين الأحياء و الأموات، الذى ليس لملكة إنقضاء ، نعم نؤمن بالروح القدس الربُ المُحيي المنبثق من الآب نسجد له ونمجده مع الآب والابن الناطق فى الأنبياء. وبكنيسة واحدة مقدّسة جامعة رسولية، ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى“
عبد المسيح: " نحن نؤمن باله واحد و ليس ثلاثة"(4/105)
عبد الله: أقول لك كما في رسالة يعقوب "انت تؤمن ان الله واحد حسنا تفعل والشياطين يؤمنون ويقشعرون" .. هذا قولكم بأفواهكم ولكن ماذا عن الثلاث شخصيات المتفرقةن المنفصلة ... الإبن الذي كان يتعمد في نهر الأردن من يوحنا المعمدان ومعترفا بذنوبه "الأقنوم الثاني" ... والحمامة الروح القدس التي كانت فوق رأس الإبن وهو في النهر وتمثل "الأقنوم الثالث" ..... والآب الذي قال عنه الكتاب المقدس "لأنه هل يسكن الله حقا على الأرض؟ .... هاهي السماوات وسماوات السماوات لاتسعك" ...... "وقال عنه يسوع "لم تسمعوا صوته ولاابصرتم هيئته .... إلا اننا نقرأ في الكتاب المقدس أن التلاميذ سمعوا صوته من السماء؟؟ فنحن الآن أمام ثلاث شخصيات متفرقة منفصلة .. تعتبرونهم انتم إلها واحدا.. كيف لاأدري؟
آب في السماء و ابن في النهر و روح قدس كحمامة فوق النهر ...... أليسوا بثلاثة شخصيات متفرقة مختلفة؟ ألم يقل بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 8 : 4 ـ 6 " فنحن نعلم أن لا وثن في العالم و أن لا إله إلا الله الواحد . و قد يكون في السماء أو في الأرض ما يزعم أنه آلهة بل هناك كثير من الآلهة و كثير من الأرباب و أما عندنا نحن فليس إلا إله واحد و هو الآب منه كل شيء و إليه نحن أيضا نصير" ..... فلماذا ايها النصارى اشركتم مع الآب الابن والروح القدس؟! ........ الا تصدقوا قول بولس الرسول؟!!!!
عبد المسيح: نحن نؤمن بالمسيح الإبن كلمة الله الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس كما تؤمنون أنتم ايها المسلمون بالقرآن.
عبد الله: تقولون أن ايمانكم بيسوع كلمة الله كإيماننا بالقرآن كلام الله وهذه كذبة منك ..... انتم تقولون أن يسوع هو الله ونحن المسلمون لم نقل يوما أن القرآن الذي هو كلام الله ..... هو الله ....
عبد المسيح: إن يسوع الابن هنا هو اقنوم الكلمة ....
عبد الله: الكلمة ليست اقنوم بل هي كل مايخرج من فم الله "كن فيكون" وهذا من الكتاب المقدس ....... اقرأوا يقول الله في سفر إشعياء 55:11 "هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي "من فمي" مُثْمِرَةً دَائِماً وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا".
ويقول الله في سفر إرمياء 33 : 19 - 14 : " ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل والى بيت يهوذا . في تلك الايام وفي ذلك الزمان انبت لداود غصن البر فيجري عدلا وبرا في الارض . في تلك الايام يخلص يهوذا وتسكن اورشليم آمنة وهذا ما تتسمى به الرب برنا . لانه هكذا قال الرب لا ينقطع لداود انسان يجلس على كرسي بيت اسرائيل . ولا ينقطع للكهنة اللاويين انسان من امامي يصعد محرقة ويحرق تقدمة ويهيئ ذبيحة كل الايام ثم صارت كلمة الرب الى ارميا"
ألم تقولوا إن يسوع سيجلس على عرش داود!!!! ..... إذن فهو انسان ......... "لا ينقطع لداود انسان" ألم يقل بولس إن يسوع كاهن على رتبة ملكي صادق .... إذن فهو إنسان ......... "ولا ينقطع للكهنة اللاويين انسان"
و هل كلمة الرب التي صارت إلى ارمياء في سفر إرمياء 33 : 19 هي الله؟!! إن الكلمة .. هي التي تكلم بها الله إلى موسى هي نبؤة سفر التثنية 18: 18 - 20 .. وتلك هي النبؤة كما تقولون انتم ايها النصارى ... "لِهَذَا أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَضَعُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُخَاطِبُهُمْ بِكُلِّ مَا آمُرُهُ بِهِ. فَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصَى كَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي، فَأَنَا أُحَاسِبُهُ. وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يَتَجَبَّرُ فَيَنْطِقُ بِاسْمِي بِمَا لَمْ آمُرْهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ يَتَنَبَّأُ بِاسمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ حَتْماً يَمُوتُ. كما في سفر إرمياء 33 : 19 - 14 : " ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم الكلمة الصالحة"
ولذلك كان المسيح يذكر اليهود دائما بهذه النبؤة ويقول لهم ....في انجيل يوحنا 5 : 45 - 47 " يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم . لانكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لانه هو كتب عني . فان كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي". ماذا كتب موسى عن المسيح ابن مريم؟ موسى كتب أن المسيح نبي مثل موسى سيقيمه الله لبني اسرائيل وهذا ما أكده بطرس في سفر أعمال الرسل – الاصحاح الثالث .......22- 26 " فان موسى قال للآباء ان نبيا مثلي سيقيم لكم الرب الهكم من اخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به . ويكون ان كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب . وجميع الانبياء ايضا من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وانبأوا بهذه الايام . انتم ابناء الانبياء والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلا لابراهيم وبنسلك. اليكم اولا اذ اقام الله عبده يسوع ارسله يبارككم برد كل واحد منكم عن شروره"(4/106)
ومن المعروف من الكتاب المقدس أن المسيح ابن مريم له إله ............... هو الله ..... ففي رؤيا يوحنا اللاهوتي 1 :6: " و جعل "أي يسوع" منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه"
وايضا في انجيل يوحنا 20 : 17 "قال لها (أي مريم المجدلية) يسوع .... ولكن اذهبي الى اخوتي وقولي لهم اني اصعد الى ابي وابيكم والهي والهكم". إن يسوع هنا يفرق بين طبيعته و طبيعة التلاميذ بحروف العطف وكذلك استخدامه "اصعد الى ابي وابيكم والهي والهكم" واستخدامه ابي وابيكم والهي والهكم...... لا تقل انه صاعد إلى اللاهوت .......... فاللاهوت لم يفارق الناسوت طرفة عين.
عبد المسيح: "الابن فى قانون الايمان هو كلمة الله و ليس من الصعب الايمان بان الله و كلمته واحد و الايمان بالله و بكلمته واحد"
عبد الله: هنا تحاولون لي أعناق الكلام ..... إنكم هنا تقصدون بكلمة الله انه يسوع الناصري ..... الذي قال عنه يوحنا اللاهوتي "وأقام منا مملكة من الكهنة لإلهه وابيه" ........ أي أن الآب هو إله الإبن بشهادة الكتاب المقدس ..... إذن فالإبن له إله وهوالآب ........ إذن الإبن عبد والآب إلهه ....... فهم لا يتساووا ابدا ......... فالآب أعظم من الابن "و أما عندنا نحن فليس إلا إله واحد و هو الآب منه كل شيء و إليه نحن أيضا نصير". ومن المستحيل أن يصدق أي عاقل أن الله وكلمته واحد كما تقولون انتم أن الله وكلمته المسيح ابن مريم واحد وذلك من الكتاب المقدس " وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل والى بيت يهوذا" .... لو نظرنا هنا هناك مقيم وهو الله "الفاعل" ....... وهناك مقام وهي الكلمة "مفعول به" ........ فهم ليسوا سواءا ..... هل إذا قلت " أكلت تفاحتي" ....... أكون أنا التفاحة والتفاحة واحد؟!
أما الايمان بالله و بكلمته واحد ...... لأنه حينما اقول انني اؤمن بالله ولا أؤمن بوحيه ........ فأنا هنا كافر ........ وليس معنى ذلك أن الله هو وحي الله! ولكني حتى أكون مكتمل الإيمان بالله ........ فلا بد أن اؤمن بكلام الله الذي اوحاه إلى انبيائه ........ فلابد أن اؤمن بالله وبوحيه ايضا.
عبد المسيح: و ما هى المشكلة فى ان نقول ان كلمة الله مولودة منه؟
عبد الله: أقول لك هات برهانك على كلامك .... المسيح يقول طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه ..... و قال الله في سفر إشعياء 55:11 "هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي "من فمي" مُثْمِرَةً دَائِماً وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا" ...... الكلمة غير مولودة بل هي صادرة من الفم ....... وحتى لو قلنا إن الكلمة مولودة ..... فهناك والد أعظم وأقدم وأقوى وهناك مولود أضعف واحدث واضعف.
عبد المسيح: اليس كلامك الذى تكتبه مولود منك؟
عبد الله: لا كلامي صادر من فمي فأنا المتحكم فيه ..... اوجهه كيف اشاء ..... فلست أنا وكلامي متساويان .... هناك متحكم وهو أنا ومتحكم فيه وهو الكلام.
عبد المسيح: يأتى السؤال: متى ولدت كلمة الله ... أليست ازلية؟
عبد الله: الكتاب المقدس ......... ولدت كلمة الله من مريم في عصر هيرودوس لما كانت مخطوبة ليوسف النجار .... وإليكم الدليل من انجيل متى 2:1 "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم "
ومن متى 1:18 " اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس"
عبد المسيح: إن الله ازلى اى لا بداية له
عبد الله: "نعم الله أزلي ..... ولاأحد ينكر ذلك"
عبد المسيح: هكذا ايضا كلمته ..
عبد الله: سأرد عليكم من سفر المزامير 25:6 " اذكر مراحمك يا رب واحساناتك لانها منذ الازل هي" .. لماذا لا تعبدوا المراحم والإحسان؟!!
ولتعبدوا ايضا سليمان وحكمته فقد جاء في سفر الأمثال 8:22-23 "الرب قناني اول طريقه من قبل اعماله منذ القدم منذ الازل مسحت منذ البدء منذ اوائل الارض"
أما عن الكلمة .......... من سفر إشعياء 55:11 "هَكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَصْدُرُ عَنِّي "من فمي" مُثْمِرَةً دَائِماً وَتُحَقِّقُ مَا أَرْغَبُ فِيهِ وَتُفْلِحُ بِمَا أَعْهَدُ بِهِ إِلَيْهَا" الكلمة تصدر من فم الله وقتما يشاء كيفما يشاء واينما يشاء ... وليست الكلمة هي الله .
عبد المسيح: و لهذا فإن قانون الايمان يقول المولود من الاب قبل كل الدهور!!
عبد الله: أقول لك أنا آتي بدليلي من الكتاب المقدس على بطلان كلامك ... لوقا 1:31 "وها انت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع " .... أي حينما تكلم الملاك لم يكن حدثت الولادة فأين دليلك.
عبد المسيح: ان كلمة الله مولودة منه منذ الازل ..
عبد الله: يقول الله في سفر المزامير "ارسل كلمتي" ...... فالكلمة مفعول به وسُترسل من قبل المتكلم ...... فهل يستوون؟!!(4/107)
مرة أخرى هذا هو ميلاد يسوع ...... الرجل ولد في ايام هيرودس الملك و في انجيل متى 1:25 "ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع" وفي انجيل متى 2:1 "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم
عبد المسيح: نأتي إلى .... "نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق" .... و الان انت تعتقد ان جملة اله حق من اله حق تعنى الهين؟ ...... فلهذا لا يوجد ابدا فى المسيحية عبادة لاكثر من اله انما انت لا تفهم.
عبد الله: إذا قلتم هذا "نور من نور" ...فهناك نور مستمد من نور ....... نور فرعي ونور أصلي ....... إذن ليسوا واحد كما اشير انا إلى تلميذ وعالم كبير .... قائلا "عالم من عالم" .......... فهناك عالمين. بالنسبة لقول "إله حق من إله حق" ..... نحن نعلم أن الشق الأول من العبارة يشير إلى يسوع الابن .... الشق الثاني من العبارة يشير إلى الله الآب ........... اننا نعلم أن الكتاب المقدس يناقض تلك المقولة ويهدمها .......... فمن المعروف أن الآب هو إله الابن وذلك من أقوال يسوع الناصري الابن في قوله "وإلهي وإلهكم" ......... وفي قوله "إلهي ... إلهي .... لماذا تركتني" وفي قول يوحنا اللاهوتي في سفر الرؤيا "وجعل منا مملكة من الكهنة لإلهه وابيه" .... وفي قول متى التي نقلها من إشعياء 42 بطرس في أعمال الرسل "هذا هو عبدي الذي أعضده" في كل الأعداد السابقة نجد أن الأبن له إله وهو الآب ........ بينما الآب ليس له إله وهو إله كل شيئ ......... وهو الله الذي قال عنه بولس الرسول .... "ليس لنا إلا إله واحد وهو الآب الذي منه كل شيء"
فإنني إذا قلت أنا .. هذا "عبد الله من مجدي" .. فهناك شخصين مختلفين ..... وهذا لا يختلف عليه اثنان ....... فهنا الابن ليس مثل الآب .. بل الآب أعظم من الابن ..... والآب أعظم من الكل ... وهذا ما قاله يسوع الناصري.
عبد المسيح: ان يسوع الابن "مولود غير مخلوق" .........
عبد الله: أما مولود فهذه حقيقة .... من انجيل متى 2:1 "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم "
أما غير مخلوق فهذا غير صحيح و من الكتاب المقدس ... فبولس يقول أن يسوع مخلوق كورنثوس 1:15 " بكر كل خليقة" .... اذن يسوع مخلوق. ويقول عنه يوحنا اللاهوتي في سفر الؤيا 14:3 " بداءة خليقة الله " .... مرة أخرى إذن من الكتاب المقدس يسوع مخلوق
عبد المسيح: إن الابن الاقنوم الثاني واحد مع الآب الاقنوم الأول في الجوهر ..
عبد الله: وأنا أقول لكم هذا ليس صحيحا .... فقد قال الكتاب المقدس في مواضع كثيرة أن الآب هو الإله الوحيد ........ وانه إله الابن ......... أي ان الكتاب المقدس أكد أن الابن عبد للآب ففي كورنثوس الأولى 8:6 يقول بولس الرسول " لنا اله واحد الآب الذي منه جميع الاشياء ونحن له"
ويقول بولس ايضا في افسس 1:17 "كي يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح "أي إله معلمنا يسوع" ابو المجد روح الحكمة والاعلان في معرفته" وهذا تأكيدي على معنى كلمة رب من انجيل يو حنا 1:38 "فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما ماذا تطلبان . فقالا ربي الذي تفسيره يا معلّم اين تمكث".
فإذا كان الآب "الأقنوم الأول" ..... هو إله الابن "الاقنوم الثاني" ...... وذلك من الكتاب المقدس ...... فكيف تأتي أنت وتقولون انهم واحد في الجوهر .... اليس الآب إله للابن؟!!!!
عبد المسيح: "الذي به كان كل شي"
عبد الله: كيف كان بيسوع كل شيئ وهو يقول "أنا لا استطيع أن افعل من نفسي شيئا" ... وايضا قال لإبني زبدي في متى 20:23 "فقال لهما اما كاسي فتشربانها وبالصبغة التي اصطبغ بها انا تصطبغان واما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي ان اعطيه الا للذين اعدّ لهم من ابي" ..... ألم يقل "ابي اعظم مني"
عبد المسيح: هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ...
عبد الله: أقول لك .... من الذي نزل من السماء؟ ... اهو كرشنا إله الهندوس عبدة البقر أم يسوع الناصري إله النصارى الذين يقولون أن إلههم خروف أم مثرا إله الرومان أم حورس إله المصريين القدماء؟ ..... ثم من اجل خلاص من؟ انني أقول لكم ...... إن ابراهيم والعازر المسكين كانا في الفردوس بغير فداء وخلاص وهذا من أقوال يسوع الناصري نفسه في الكتاب المقدس. نوح كان بارا في الكتاب المقدس بغير فداء ........ابراهيم كان بارا بغير فداءزكريا كان بارا بغير فداء .... و... و....و.....و.....و....أي خلاص وفداء تتكلمون عنه؟
ألم يقل يسوع إنه سيتكئ مع ابراهيم ويعقوب وهما في الملكوت ليشرب معهم خمرا ويأكلوا على مائدته .......بغير فداء ولا خلاص ........ ألم يقل الله لنوح : " لأني إياك رأيت باراً " ( تكوين 7 : 1)(4/108)
اقرا ايضا ...... "كل واحد يموت لأجل خطيته " أخبار الأيام (2) 25/4 و " الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن" حزقيال 18 : 20 و "النفس التي تخطئ هي تموت" حزقيال 18 : 20 و سفر ارميا : " بل كل واحد يموت بذنبه" 31 : 30
و حزقيال 18 : 21 " وَلَكِنْ إِنْ رَجَعَ الشِّرِّيرُ عَنْ خَطَايَاهُ كُلِّهَا الَّتِي ارْتَكَبَهَا، وَمَارَسَ جَمِيعَ فَرَائِضِي وَصَنَعَ مَا هُوَ عَدْلٌ وَحَقٌّ فَإِنَّهُ حَتْماً يَحْيَا، لاَ يَمُوتُ. وَلاَ تُذْكَرُ لَهُ جَمِيعُ آثَامِهِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا. إِنَّمَا يَحْيَا بِبِرِّهِ الَّذِي عَمِلَهُ"
و سفر الأيام " لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته" 25/4
و "فإنه لا يموت بإثم أبيه " حزقيال 18/17 .
فما الداعى إذاً من نزول الإله القدوس وتجسده فى صورة إنسان، ابن آدم الرمة والدود، أو يُصوَّر فى شكل حيوان ، ثم يُصلَب ليغفر لآدم أكله من الشجرة! لماذا يحتاج الإله الغفور الرحيم الذى (لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ) والذى (يَرْحَمُنَا) و(يَدُوسُ آثَامَنَا) (وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ) إلى التجسد والإهانة كما فعل كرشنا وبوذا؟!!!!أليس هو الله الذى (يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ) و(لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ) (وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ) والذى (قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ) وكانت رحمته (مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ) أليس هو الله (الْمَاحِي) (غَافِرُ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ) أي فداء وخلاص تتكلمون عنه .............. أهو فداء بوذا للبوذيين أم كرشنا للهندوس عباد البقر أم يسوع الناصري لكم؟!!!!!!
عبد المسيح: خلاصنا هنا لا تعود على المسيحيين بل الخلاص للجميع و لكن لن يستفيد منه الذى لا يؤمن به.
عبد الله: إن الكتاب المقدس يخبرنا بغير ماتقولون ... اقرأوا هذا مايقوله يسوع يقول لكم ايها النصارى .......... " ليس كل من يقول لي يا رب يا رب "أي يامعلم" يدخل ملكوت السموات . بل الذي يفعل ارادة ابي الذي في السموات . كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب "أي يامعلم" أليس باسمك تنبأنا وباسمك اخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة . فحينئذ أصرّح لهم اني لم اعرفكم قط"
هل تدري من الذين يتحدث عنهم العدد السابق .............. انهم انتم ايها النصارى و لا أحد غير النصارى ........ فمن غيركم الذين يقول ليسوع الناصري يارب يارب .............. كثيرون سيصرح يسوع لهم وقد كانوا يتنبأون باسمه ............ ويخرجون الشياطين باسمه .............. ويصنعون قوات كثيرة باسمه وهي صفات من صفات الأنبياء الكذبة الدجالون كما يقول الكتاب المقدس. هؤلاء الكذبة نسوا الله الذى أرسل المسيح ابن مريم ... وأشركوا به ........ قالوا إن الآب هو الإبن هو الروح القدس ...... كلهم في الواحد .......... ويقول لهم المسيح ... اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ ........ لماذا ياترى ......... ألم يؤمنوا بالصلب .... والقيامة .... والفداء ........ وبولس وبطرس ......... فلماذا لايخلصهم ؟!!!!! ......... فلماذا يبتعد عنهم ..............نعم لأنهم ضلوا الطريق ...................... وكفروا بالله وعبدوا المسيح الذي هو بكر كل خليقة ..... المخلوق ....... دون ....... الخالق.
إن بولس يتحدث عنكم في رومية 1:25 "الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك الى الابد" . إنه انتم ايها النصارى عبدتم يسوع المخلوق "بكر كل خليقة" من دون الله خالق كل شيئ".
إنني اسألكم سؤالا .... هل لا يستطيع الأنبا شنودة أن يسير في الشارع عاريا؟!!! .... لماذا لا يفعل ذلك؟ .... هل هذا لا يليق به ....... بينما يليق بالله العزيز الوحيد الذي ليس له عدم الموت والذي لم يره أحد ولا يستطيع أن يراه الساكن في نور لا يدنى منه ...... هل يليق به أن يُذل على ايدي الرومان واليهود ويلكم ويبصق في وجهه ويموت على الصليب " .....
عبد المسيح: إنه لم يمت على الصليب
عبد الله: لا تقولوا إنه لم يمت ...... فيوحنا يقول في يوحنا 1:14 "وصارت الكلمة جسدا" .... أي وصارت الكلمة التي تقولون انها الله .... صارت جسدا Flesh لحما" وقتل الجسد ...أي أن الله قتل بقولكم ... وهذا كذب ..... الله حي إلى الأبد ... لا يموت ....... الله لم يره أحد ويسوع رآه الناس ....... الله لا يدني منه أحد ..... واليهود والرومان دنوا من يسوع ولكموه. لماذا لا تقبلوا على شنودة ماقبلتموه على الله وماقبله الهندوس عبدة البقر على الله وعبدة مثرا وعبدة بوذا ....... ألم تشعر انك مثلهم ........ الهكم قتل؟!!!!!
عبد المسيح: وتجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء تأنس السيد المسيح هو كلمة الله المتجسد.(4/109)
عبد الله: أقول لكم الكتاب المقدس يهدم كلامكم الذي تتكلمون به ......... يسوع الناصري وهو يتكلم عن الله يقول في يوحنا 4:24 "الله روح" .... وهو يتكلم عن نفسه يقول في لوقا 24:39 "انظروا يديّ ورجليّ اني انا هو . جسوني وانظروا فان الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" ...... و ايضا في يوحنا 19:38 "ثم ان يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس ان يأخذ جسد يسوع . فأذن بيلاطس فجاء واخذ جسد يسوع ". ..... ثم إذا كنتم تقولون أن الكلمة التي هي الله صارت جسدا .... فها هو الجسد ميت في القبر ..... والله لا يموت ........ ألستم تتفقون معي؟!!!!
أما كيف يسوع هو كلمة الله .... أقول لكم اقرأوا .......... يقول الله في سفر إرمياء 33 : 19 - 14 : " ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل والى بيت يهوذا . في تلك الايام وفي ذلك الزمان انبت لداود غصن البر فيجري عدلا وبرا في الارض . في تلك الايام يخلص يهوذا وتسكن اورشليم آمنة وهذا ما تتسمى به الرب برنا . لانه هكذا قال الرب لا ينقطع لداود انسان يجلس على كرسي بيت اسرائيل . ولا ينقطع للكهنة اللاويين انسان من امامي يصعد محرقة ويحرق تقدمة ويهيئ ذبيحة كل الايام ثم صارت كلمة الرب الى ارميا"
ألم تقولوا إن يسوع سيجلس على عرش داود!!!! ..... إذن فهو انسان ......... "لا ينقطع لداود انسان"
ثم اقرأوا ....انجيل لوقا 1: 26-33
"وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله الى مدينة من الجليل اسمها ناصرة 27 الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف . واسم العذراء مريم . 28 فدخل اليها الملاك وقال سلام لك ايتها المنعم عليها . الرب معك مباركة انت في النساء . 29 فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى ان تكون هذه التحية . 30 فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لانك قد وجدت نعمة عند الله . 31 وها
انت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع . 32 هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب الاله كرسي داود ابيه . 33 ويملك على بيت يعقوب الى الابد ولا يكون لملكه نهاية"
انها عن يسوع المسيح الذي سيجلس على عرش داود!!!! ..... ويعطيه الرب الاله كرسي داود ابيه ..... إذن فهو انسان ......... "لا ينقطع لداود انسان"
عبد المسيح: و لكنه اخذ جسد انسانى من السيدة العذراء كما يقول القران ....
عبد الله: أقول لكم ما يقوله القرآن عن المسيح ابن مريم ..... وعنكم يامن عبدتم المسيح ابن مريم
أولا كلمة الله .......... معناها وعد الله
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ثانيا يحيى ابن زكريا "يوحنا المعمدان" ..... سيكون مصدقا بكلمة من الله .... أي بوحي الله
"فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ "
ثالثا المسيح ابن مريم ايضا ..... كلمة من الله ....... أي بشارة من الله
"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " .....
كلمة الله ... كن فيكون
" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تقولوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تقولوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا "
" أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ"
"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ "
" رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ "
رابعا كلام الله ......... أي شريعة الله وأمره
"يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ "
عيسى ابن مريم مثل آدم ..... مخلوقين من مخلوقات الله ...... من تراب(4/110)
"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "
آدم خلقه الله ونفخ فيه من روحه
"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"
مرة ثانية آدم خلقه الله ونفخ فيه من روحه
"ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ"
القرآن يقول أن المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله"
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا "
القرآن يحكم بكفر من اتخذ المسيح ابن مريم الها من دون الله ........ اقرأ
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
القرآن يحكم مرة ثانية بكفر من اتخذ المسيح ابن مريم الها من دون الله ........ اقرأ
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "
هذا هو المسيح ابن مريم ..... عبد لله
"قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا"
هذا هو المسيح ابن مريم ..... عبد لله ورسولا إلى بني اسرائيل
"إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ "
عبد المسيح: فلو كانت ارادة الله ان يظهر فى صورة انسان فلماذا تجعل انت ذلك مستحيلا ؟ اليس كل شىء مستطاع لله حتى لو عجز العقل البشرى عن فهمه؟
عبد الله: لقد اجبتك على كلامكم السابق ولماذا لا يليق بالله العزيز أن يهان ليغفر لآدم خطيئته مع انه بكلمة واحدة قادر على كل شيئ ....... وانتظر اجابتك عن سؤالي لماذا لايسير الأنبا شنودة عاريا في الشوارع .... مع إنه من المعروف أن الأنبا شنودة له القدرة على ذلك؟!
عبد المسيح: "وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي تألّم وقُبِرَ وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما في الكتب"
عبد الله: إنني اسألك من الذي صلب عنكم وتألم وقبر وقام من الأموات؟ .... ألم تقولوا إن يسوع الإله حق؟ ....... لنرجع معا إلى الكلام السابق ..... أي من كلامكم "الإله الحق صلب وتألم وقتل وقبر ............ هل الإله الحق يقتل ويقبر وهو الذي قال "حي أنا إلى الأبد" .... وقال عنه الكتاب "هاهي السماوات وسماوات السماوات لا تسعك" فكيف يقبر وجعلتموه في بطن قبر؟ وهو غير محدود؟!!!!!!!!!!!!
لاتقل لي إنه الناسوت .... ألم تقولوا إن يوحنا 1:1 يقول "في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله" أي بقولكم إن "الكلمة هو الله" .... ثم يمضي يوحنا 1:14 قائلا "والكلمة صار جسدا Flesh" ... أي أن الله صار جسدا Flesh لحما ..... من الذي كان على الصليب وتألم وقتل ... أليس الجسد؟.... أليس الكلمة؟ ..... أليس الكلمة هو الإله الحق؟ ....... وهل الإله الحق يقتل ويموت؟ تقولون لان الله غير محدود .... فلما جعلتموه محدودا في الجسد جسد الصبي يسوع الناصري؟
عبد الله: و لا يموت (طبعا ستعتقد انى اناقد نفسى) الذى مات هو الجسد الانسانى الذى كان متحدا بالجوهر الالهى. و الجوهر الالهى لم يتألم او يموت طبعا.(4/111)
عبد الله: يارجل انكم تقولون الإله الحق صلب عنا على عهد بيلاطس البنطي تألّم وقُبِرَ وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما في الكتب .... فكيف تقولون مرة ثانية إنه لم يمت؟!!!!يوحنا 1:14 يقول "والكلمة صار جسدا Flesh" ... هل تعلم أن كلمة Flesh الموجودة في الترجمات الإنجليزية معناها لحم الخنزير؟ ..... أي أن الله صار جسدا Flesh لحما ..... من الذي كان على الصليب وتألم وقتل ... أنت قلت الجسد الإله الحق؟.... أليس الكلمة الله صار جسدا؟ ....... وهل الإله الحق الذي صار جسدا .......... يقتل ويموت؟
عبد المسيح: اليك تشبيه لتقريب المعنى : موت الانسان هو انفصال روحه عن جسده. فلو رسمنا دائرتين و احدة تمثل الروح و واحدة تمثل الجسد. و حركنا الدائرتين و كاننا نحاكى الموت البشرى. ثم تخيلنا ان هناك دائرة ثالثة قطرها لا نهائى تمثل الجوهر الالهى. الا توافقنى ان مهما بعدت الدائرتين المحدودتين (الروح و الجسد) ستظلا داخل الدائرة الغير محدودة؟
عبد الله: الكتاب المقدس ينقض مثالك السابق حيث نجد أن الدائرتين الصغيرتين الروح والجسد خرجتا خارج الدائرة الغير محدودة "الجوهر الإلهي" ....... حينما نسمع يسوع الناصري يصرخ بصوت عظيم قائلا قبل أن يسلم الروح "إلهي ... إلهي .... لم تركتني" ..... أي أن الدائرة الكبيرة تخلت عن الدائرتين الصغيرتين حتى من قبل أن يتحركا ..... وهذا يهدم نظرية أن اللاهوت لم يفارق الناسوت ..... وإلا لماذا ترك اللاهوت الناسوت؟!!!!!!!!!!!! .... إذن اللاهوت خائن لأن الناسوت كان ينتظر منه وفاء بوعد ...... والناسوت خائر وليس بمؤمن لأنه يتهم اللاهوت بالخيانة!!!
عبد المسيح: هكذا موت السيد المسيح على الصليب : الجسد الانسانى المتحد باللاهوت انفصل عن الروح الانسانية المتحدة باللاهوت فمات الجسد و لكنه مازال متحد باللاهوت و الروح ايضا مازالت متحدة باللاهوت.
عبد الله: أقول لك إنك تتعمد تحريف الكلم .... لأن يسوع قال قبل الموت .... "إلهي .... إلهي ....... لماذا تركتني؟" ..... اللاهوت الخائن ترك الناسوت الغير مؤمن والذي كان ينتظر شيئا من اللاهوت؟
مرة ثانية ..... يارجل انكم تقولون الإله الحق صلب عنا على عهد بيلاطس البنطي تألّم وقُبِرَ وقام من الأموات فى اليوم الثالث كما في الكتب .... فكيف تقولون مرة ثانية إنه لم يمت؟!!!!يوحنا 1:14 يقول "والكلمة صار جسدا Flesh" ... هل تعلم أن كلمة Flesh الموجودة في الترجمات الإنجليزية معناها لحم الخنزير؟ ..... أي أن الله صار جسدا Flesh لحما ..... من الذي كان على الصليب وتألم وقتل ... أنت قلت الجسد؟.... أليس الله الكلمة صار جسدا؟ ....... وهل الإله الحق يقتل ويموت؟ وحتى لاتقولون إنه قام من الأموات من نفسه فإني اتركك مع غلاطية 1:1 يقول بولس "بولس رسول لا من الناس ولا بانسان بل بيسوع المسيح والله الآب الذي اقامه من الاموات" ......... حتى بقول بولس الرسول ....... هل الله الآب الذي لايموت مثل الإبن الذي مات وأقامه الله الآب من الأموات؟ .... هل هذا عدل منكم؟وفي سفر أعمال الرسل 2:32 الذي يقول " فيسوع هذا اقامه الله ونحن جميعا شهود لذلك "
عبد المسيح: وصعد إلى السموات ..........
عبد الله: أقول لك اقرأ لوقا 24 : 51 "وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واُصعد الى السماء" ...... هناك فرق بين صعد واُصعد .... المسيح هنا لم يصعد من نفسه .... فهو مفعول به ........ وايضا في أعمال الرسل 5:31 " هذا رفّعه الله بيمينه". اي أن الله هو الرافع ويسوع هو المرفوع .... فالمسيح لم يقدر أن يفعل من نفسه شيئ ..... ولذلك يقول القرآن "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " .... أي أن الله القوي رفع المسيح الضعيف ......... فهناك فرق بين الله والمسيح. ثم ألم يرفع الله نبيه ايليا حيا ولم يكن قد مات من قبل؟
عبد المسيح: وأيضا يأتى فى مجده ليدين الأحياء و الأموات الذى ليس لملكه إنقضاء.
عبد الله: وأنا أقول لك إن هذا كلام ينفيه الكتاب المقدس ..... فلقد وعد يسوع انه سيأتي سريعا في مجد ابيه ليجازي كل واحد حسب عمله ولكن ذلك لم يحدث ........ فهذه نبؤة كاذبة ..... اقرأ في متى 16: 27- 28 "فان ابن الانسان سوف يأتي في مجد ابيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله . 28 الحق اقول لكم ان من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الانسان آتيا في ملكوته" إن من القيام هاهنا .......... أي .............. ذلك الجيل الذي عاصر يسوع .......... إن اداة تأكيد ونصب ........ تأكيد على إنه من بين الواقفين من سيرى يسوع في السحاب وهو مالم يحدث.(4/112)
وبناء على ذلك يقول بولس في رسالته الأولى الى تسالونيكي 4 :15- 18 إنه لن يموت حتى يرى يسوع الرب آتيا من السماء بهتاف فيأخذه معه في الهواء إلى الأبد : " فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ" ..... وهو مالم يحدث؟!!!
ثم مارأيك في أن بولس يقول ايضا في رسالته كورنثوس 5:13 " ألستم تعلمون ان القديسين سيدينون العالم " ...... إذن فالقديسين سيدينون العالم؟!! ولم يتركوا شيئا ليسوع ........... فاعبدهم من دون الله!!!
يقول بولس في رسالته إلى العبرانيين 13:4 "واما العاهرون والزناة فسيدينهم الله". يسوع لن يدين!!!
وفي كورنثوس الأولى 6:3 يقول بولس "ألستم تعلمون اننا سندين ملائكة فبالأولى امور هذه الحياة" .... فهل بولس هو الله .... وإله الملائكة؟!!!!! .... لأنه سيدينهم!!!!!!
عبد المسيح: نعم نؤمن بالروح القدس الربُ المُحيي المنبثق من الآب نسجد له ونمجده مع الآب والابن الناطق فى الأنبياء" .....
عبد الله: أقول لك وهذا هو عين الضلال ..... ألم يقل بولس "ليس لنا إلا إله واحد وهو الآب" ...... ألم يقل يسوع "للرب إلهك وحده تسجد" .... فالسجود بناءا على قول يسوع يكون للآب الذي في السماء وحده. من المعروف من اعمال الرسل 15:8 أن الله هو الذي يعطي الروح القدس " والله العارف القلوب شهد لهم معطيا لهم الروح القدس كما لنا ايضا" الله هو المعطي الفاعل ........ والروح القدس هو الُمعطى "المفعول به" ......... الفاعل أقوى من المفعول به .......... إذن ليسوا سواء.
وايضا في اعمال الرسل 5:32 الله هو الذي يعطي الروح القدس " ونحن شهود له بهذه الامور والروح القدس ايضا ....... الذي اعطاه الله للذين يطيعونه "اعمال الرسل 10:38 يسوع الذي من الناصرة ... كيف مسحه الله .... بالروح القدس والقوة" ... الله يمسح بالروح القدس .... الله هو الممسح " الفاعل" ........ والروح القدس هو الممسح به "المفعول به الثاني" ......... الفاعل "الله" أقوى من المفعول به الأول وهو يسوع ..........و أقوى من المفعول به الثاني وهو الروح القدس ........ إذن ليسوا سواء.
وأخيرا اين دليلك من الكتاب المقدس على أن الروح القدس منبثق من الآب ؟ ..... فالكاثوليك يقولون أن الروح القدس منبثق من الإبن؟!!!!! .... وحتى لو قلنا إن الروح القدس منبثق من الآب فهناك أصل وهو الآب إله كل شيئ وهناك فرع وهو الروح القدس .......... فهم ليسوا سواء.
الكتاب المقدس يقول أن الله رفع المسيح ابن مريم .......... ولم يصعد هو من نفسه في أعمال الرسل 5:31 " هذا "يسوع" رفّعه الله بيمينه". اي أن الله هو الرافع ويسوع هو المرفوع .... فالمسيح لم يقدر أن يفعل من نفسه شيئ!!!!وفي لوقا 24 : 51 "وفيما هو يباركهم انفرد عنهم واُصعد الى السماء" ...... هناك فرق بين صعد واُصعد .... المسيح هنا لم يصعد من نفسه .... فهو مفعول به!!!!ولذلك يقول القرآن "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " .... أي أن الله القوي رفع المسيح الضعيف ......... فهناك فرق بين الله والمسيح.
الكتاب المقدس يقول بأن يسوع الناصري مخلوق من مخلوقات الله ......... إقرأ بولس يقول أن يسوع مخلوق كورنثوس 1:15 " بكر كل خليقة" .... اذن يسوع مخلوق. ويقول عنه يوحنا اللاهوتي في سفر الؤيا 14:3 " بداءة خليقة الله " .... مرة أخرى إذن من الكتاب المقدس يسوع مخلوق. لذلك بميزانكم ........ يكون آدم أفضل من يسوع ......... وذلك لأن الله خلقه بيديه بلا أب و لاأم ..... بينما يسوع خلقه الله من مريم .... ولذلك فهو انسان ابن انسان!!!! ألا تعدلون؟
عبد المسيح: ألم يقل يسوع مخاطبا إبليس الشيطان في لوقا " للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد"
عبد الله: هل إذا كنت اتلو عليك عدد من الكتاب المقدس وهو ارمياء 25:6 قائلا "ولا تسلكوا وراء آلهة اخرى لتعبدوها وتسجدوا لها ولا تغيظوني بعمل ايديكم فلا اسيء اليكم ". ...... هل معنى ذلك انني أنا المتحدث أم الله .. وإلا فإني سآتي أمامك وأقرأ عليك "أنا الرب إلهك" .. هل ستعبدني حينئذ؟!!
ولماذ حين نقول إن يسوع قال مخاطبا بني اسرائيل "الرب إلهنا إله واحد" ..... فإنكم تقولون إنه كان يكلمهم بما هو مكتوب؟ ........ كذلك فحينما يتكلم يسوع مع ابليس فإنه يقرأ خلاصة النصوص الموجودة في الكتاب المقدس مز 81:9 لا يكن فيك اله غريب ولا تسجد لاله اجنبي .
و في سفر الملوك الثاني 17:35 "وقطع الرب معهم عهدا وامرهم قائلا لا تتقوا آلهة اخرى ولا تسجدوا لها ولا تعبدوها ولا تذبحوا لها" .
وايضا في سفر الملوك الثاني 17:36 نقرأ "بل انما اتقوا الرب الذي اصعدكم من ارض مصر بقوة عظيمة وذراع ممدودة وله اسجدوا وله اذبحوا" . أي ان سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده(4/113)
ونعود نعرج على النص مرة أخرى لوقا 4:5-8 "ثم اصعده ابليس الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان . وقال له ابليس لك اعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ لانه اليّ قد دُفع وانا اعطيه لمن اريد . فان سجدت امامي يكون لك الجميع . فاجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان انه مكتوب للرب الهك تسجد واياه وحده تعبد" الا تذكرك كلمة ابليس لانه اليّ قد دُفع وانا اعطيه لمن اريد ..... بكلمة يسوع دُفع إلي كل سلطان؟!!!! ....... من الذي دفع لابليس ويسوع بالذي معهما؟!!
هذا هو يسوع الناصري في رؤيا يوحنا اللاهوتي 1 :6: " و جعل منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه" أي أن يسوع الناصري له إله ..... وهو الله.
عبد الله: بالنسبة لموضوع الصلب من أجل الخطيئة الأزلية ... يقول الله في سفر حزقيال "الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن "حزقيال 18 :
و انني اسألك سؤالا سنفترض أن تلميذا عند الأستاذ عطاالله قد رسب في الامتحان .... فأمسك الأستاذ عطاالله ابنه وأعطاه لبعض الجاحدين المتخلفين عقليا ليقتلوه .... فلما سألنا الاستاذ عطاالله لماذا تفعل هذا؟ قال حتى استطيع انجاح التلميذ الراسب!!!!!!!!!! ..... هل هذا كلام يعقل؟ أو نفترض انك طالب في كلية الطب وكان ابوك طالبا قبل في نفس الكلية .......... وجاء الامتحان وقد أجبت أنت اجابات ممتازة .... ثم جاءت النتيجة فإذا بك راسب ..... فقال لك استاذ المادة نعم أن اباك اخطأ من 30 سنة ولم أعاقبه ... فأنا اعاقبك أنت!!!! ....فهل هذا عدل؟!!!!!تقولون أنت الهى الهى لماذا تركتنى هذه العبارة لا تعنى أن لاهوته قد ترك ناسوته لا تعنى الانفصال ... وإن كان لم يترك الناسوت فأين هو من أقواله الآتية ..
" أَمَّا الرَّبُّ الإِلَهُ فَحَقٌّ. هُوَ إِلَهٌ حَيٌّ وَمَلِكٌ أَبَدِيٌّ. مِنْ سُخْطِهِ تَرْتَعِدُ الأَرْضُ وَلاَ تَطِيقُ الأُمَمُ غَضَبَهُ" سفر إرمياء 10: 10
"لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ الإِلهُ العَظِيمُ الجَبَّارُ المَهِيبُ الذِي لا يَأْخُذُ بِالوُجُوهِ وَلا يَقْبَلُ رَشْوَةً " سفر التثنية 10: 17 إذن فبما أن اللاهوت موجود في الناسوت فهو محدود في الجسد الميت في القبر ....... وإن قلتم إنه غير محدود في جسد يسوع ....... قلنا إذن فهو في أجساد باقي الناس الذين كانوا عند الصليب ففيهم اللاهوت فهم الهة فاعبدوهم !!!!!
فإذا قلتم إن الناسوت ابن الانسان آدم هو الذي مات أقول لك هذا كذب .... فالكتاب يقول في أخبار الأيام " لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته "25/4 وايضا في حزقيال "فإنه لا يموت بإثم أبيه " حزقيال 18/17
والحقيقة انكم تقولون في قانون الإيمان إن الإله الحق من الإله الحق نزل وتجسد وصلب وقبر ...... فماذا كانت فائدة اللاهوت وهو الذي انزل وحيه في المزامير قائلا في المزمور 6:20 " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص يمينه ".وايضا في المزمور 34:19 يقول ...... " كثيرة هي بلايا الصدّيق ومن جميعها ينجيه الرب"
ولماذا يخبرنا الله في سفر المزامير 34:7 " ان ملاك الرب سينقذ من يخاف الله .... ومنهم المسيح الذي تقولون إنه بلا خطية
ثم نقرأ عن المسيح ابن مريم في انجيل لوقا 22 : 41 هذا النص القاطع ........ "وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ ليقويه "ألم يظهر له ملاك الرب لينجيه؟ ......... كما هو في الكتاب؟!!!!!
إن المسيح جاء له ملاك الرب لينجيه ...... ولكن كتبة الأناجيل ..... يقولون إن يسوع لم ينجيه الله بعد أن ارسا إليه ملاكه ...... ولذلك فهو يقول له لماذا خلفت وعدك و تركتني؟ ..... إنهم يصوروا يسوع بأنه كاذب وأن الله يخلف وعده.
عبد المسيح: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" انما تعنى أن الاب تركه للعذاب تركه يتحمل الغضب الالهى على الخطية ، و تركه يحس بالعذاب . كان ممكنا الا يشعر بالعذاب بقوة اللاهوت ، لو حدث ذلك لكانت عملية الصلب صورية و لم تتم الالام فعلا و بالتالى لم يدفع ثمن الخطية و لم يتم الفداء و لكن الآب ترك الابن يتألم و الابن قبل هذا الترك و تعذب به و هو من اجل هذا جاء كان تركا باتفاق من اجل محبته للبشر مثال تقريبى للمعنى طفلا اصطحبه ابوه لاجراء عملية كفتح دمل مثلا و امسكه ابوه بيديه و بدأ الطبيب عمله و الطفل يصرخ مستغيثا بأبيه "ليه سبتنى" هو فى الواقع لم يتركه بل هو ممسك به بشدة و لكنه تركه للألم و تركه فى حب. هذا مثال لتقريب المعنى و القياس مع الفارق".(4/114)
عبد الله: نأخذ النقطة الأولى و انما تعنى أن الاب تركه للعذاب تركه يتحمل الغضب الالهى على الخطية ..... الكتاب المقدس يقول "لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته"..... الآب الرحيم العادل يعذب انسان بلا خطية ليمحو خطيئة غيره؟..... أي شخص هذا الذي إذا اصيب أحد الأشخاص بدمامل يأخذ غيره ليجري له عملية؟!!!!!! ........ليس هذا ماتعلمناه من الكتاب المقدس ........ فهذا هو كلام الكتاب المقدس عن الخطايا ......... اقرأ (( كل واحد يموت لأجل خطيته )) أخبار الأيام (2) 25/4 (( النفس التي تخطئ هي تموت )) ( حزقيال 18 : 20) سفر ارميا : (( بل كل واحد يموت بذنبه )) ( 31 : 30) ثم تقولون كان ممكنا الا يشعر بالعذاب بقوة اللاهوت ، لو حدث ذلك لكانت عملية الصلب صورية و لم تتم الالام فعلا و بالتالى لم يدفع ثمن الخطية و لم يتم الفداء و لكن الآب ترك الابن يتألم و الابن قبل هذا الترك و تعذب به و هو من اجل هذا جاء كان تركا باتفاق من اجل محبته للبشر الابن لم يقبل هذا ..... ألم يقل .......... "إلهي ... ‘إلهي .... لماذا تركتني؟"
عبد الله: لم يشفق على ابنه الذي كان بلا خطية ....... ويشفق على الجاحدين!!!! ...... أهذا عدل ...... أهذه رحمة؟!!!!!! ثم ألم يقل الله لموسى إنه هو غفَّار الآثام والمعاصى: (وَنَادَى الرَّبُّ: «الرَّبُّ إِلَهٌ رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الْإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. 7حَافِظُ الْإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ.) خروج 34: 6-7
ألم يعرفه نحميا بأنه هو الغفور الحنَّان الرحمن الرحيم: (وَأَنْتَ إِلَهٌ غَفُورٌ وَحَنَّانٌ وَرَحِيمٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ.) نحميا 9: 17 ؟
ألم يعرفه دانيال بأنه هو الغفور الرحيم (9لِلرَّبِّ إِلَهِنَا الْمَرَاحِمُ وَالْمَغْفِرَةُ)دانيال 9: 9
(8الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ. 9لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ. 10لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا. 11لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. 12كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. 13كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ.) مزامير 103: 8-13 ؟
ألم يوحى الله لإرمياء أنه هو الغفور الرحيم (لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ.) إرمياء 31: 34 ؟
لذلك حقَّ على ميخا أن يمدحه قائلاً: (18مَنْ هُوَ إِلَهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ! لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ فَإِنَّهُ يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ. 19يَعُودُ يَرْحَمُنَا يَدُوسُ آثَامَنَا وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ.) ميخا 7: 18-19
أي صلب و فداء تتكلمون عنه .............. أهو صلب و فداء بوذا ....... أم صلب و فداء كرشنا .......... أم صلب وفداء يسوع الناصري؟!!!!!!!!
عبد المسيح: 17قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ". يوحنا 20" اجاوب بسؤال : لماذا يقول ابى و ابيكم و الهى و الهكم – لماذا لم يقال ابينا و الهنا؟؟؟ لان علاقة الابن بالاب تختلف عن علاقتنا بالله – كلمة ابى لا تعنى ابوة جسدية بل كما يقول قانون الايمان "مولود من الاب قبل كل الدهور" اما بنوتنا لله فيمكن تشبيهها بالتبنى – لاننا لا نستحق ان ندعى اولاد الله و لكن الله هو الذى برحمته رفعنا الى هذه الدرجة.(4/115)
عبد الله: أقول لك .....لقد فسرت أنت قول يسوع الناصري في انجيل يوحنا 20 : 17 "قال لها يسوع لا تلمسيني لاني لم اصعد بعد الى ابي . ولكن اذهبي الى اخوتي وقولي لهم اني اصعد الى ابي وابيكم والهي والهكم". إن يسوع هنا يفرق بين طبيعته و طبيعة التلاميذ في استخدامه لكلمة والهي والهكم إن نفس الاسلوب الذي تحتج به موجود في سفر التكوين الاصحاح 43 العدد 23 ........ نجد يوسف يتكلم مع إخوته قائلا لهم.........."فقال سلام لكم . لا تخافوا الهكم واله ابيكم اعطاكم كنزا في عدالكم فضتكم وصلت اليّ ثم اخرج اليهم شمعون" . بناءا على تفسيرك هل أبناء يعقوب آلهه "لاهوت وناسوت" ....... و أبيهم يعقوب عبد؟ ...... أم هل أبناء يعقوب عباد ....... و أبيهم يعقوب إله "لاهوت وناسوت؟ بالطبع لا ...... إن أبناء يعقوب من بني الإنسان ....... وكذلك أبوههم يعقوب إنسان ............ أليس كذلك؟ .......... وإله أبناء يعقوب وإله أبوهم واحد ........... أليس كذلك؟ ............. إذن ليس هناك فرق بين قول يوسف "الهكم واله ابيكم " ............ وقول يسوع ........ "الهي وإلهكم" ........ وإلا فلتعبد يعقوب!!!!
لقد كان يجب أن يقول إني صاعد إلى نفسي ...... لا تقل انه صاعد إلى اللاهوت .......... فاللاهوت لم يفارق الناسوت طرفة عين.!!!!! إن قول يسوع الناصري "وقولي لهم اني اصعد الى ابي وابيكم والهي والهكم" .... سنجد تفسيره في أعمال الرسل 5:31 " هذا "يسوع" رفّعه الله بيمينه". اي أن الله هو الرافع ويسوع هو المرفوع .... المسيح صاعد إلى إلهه .......... إلهه هو الله !!!!
أعيدها عليك من الكتاب المقدس ....... للمرة الثالثة ...... الكلمة يسوع ولد من مريم لما كانت مخطوبة ليوسف قبل أن يعرفها في زمن هيرودس وإليك الدليل من انجيل متى 2:1 "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم "ومن متى 1:18 " اما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا لما كانت مريم امه مخطوبة ليوسف قبل ان يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس"
ألم يقل بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 8 : 6 ". .... فليس إلا إله واحد و هو الآب منه كل شيء و إليه نحن أيضا نصير" أي أن الآب وحده هو الله و الإبن ليس إله؟
لماذا اشركتم مع الآب ....... الابن والروح القدس؟!!!!!!!!! ........ الا تصدقوا قول بولس الرسول يارجل؟!!!! .... حتى بولس تأخذوا ماتريدون من كلامه وتتركون مالاتريدون؟!!!!!
أما بالنسبة لقول يسوع الآب أعظم مني في يوحنا 14:28 "سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي. فهذا صحيح الآب أعظم من الابن لأنه إلهه ....... في رؤيا يوحنا اللاهوتي 1 :6: " و جعل "أي يسوع" منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه" ...... نعم الله الآب هو إله يسوع الناصري فهو أعظم منه من الكلام الذي قاله يوحنا اللاهوتي "وأقام منا مملكة من الكهنة لإلهه وابيه" ........ أي أن الآب هو إله الأبن بشهادة يوحنا اللاهوتي ..... إذن فاالإبن له إله وهوالآب ........ إذن الإبن عبد والآب إلهه ....... فهم لا يتساووا ابدا ......... فالآب أعظم من الابن ........ لأن الآب إله والابن ليس إله. وايضا من كلام بولس بولس في افسس 1:17 "كي يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح "أي إله معلمنا يسوع" ابو المجد روح الحكمة والاعلان في معرفته" وهذا تأكيدي على معنى كلمة رب من انجيل يو حنا 1:38 "فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما ماذا تطلبان . فقالا ربي الذي تفسيره يا معلّم اين تمكث".
عبد المسيح: بل المقصود معنى حرفى ان الابن مولود من الاب قبل كل الدهور و قد وضحت ان هذه البنوة تختلف عن بنوة ادم و البشر لله. و انا اعلم اننا نختلف فى هذه النقطة.
عبد الله: مرة أخرى هذا هو ميلاد يسوع ...... الرجل ولد في ايام هيرودس الملك و في انجيل مت 1:25 "ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر ودعا اسمه يسوع" وفي انجيل متى 2:1 "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في ايام هيرودس الملك اذا مجوس من المشرق قد جاءوا الى اورشليم
عبد المسيح: ارجو توضيح قول القران ان السيد المسيح هو كلمة الله و لماذا قيل عنه ذلك؟ و لماذا هو الوحيد الذى ولد بدون اب "و طبعا ادم وحواء كانا بلا اب وام لانهما مخلوقان و ليسا مولودان"؟؟
عبد الله: أقول لك
أولا كلمة الله ........ في القرآن .. معناها وعد الله(4/116)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ثانيا يحيى ابن زكريا "يوحنا المعمدان" ..... سيكون مصدقا بكلمة من الله .... أي بوحي الله
"فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ "
ثالثا المسيح ابن مريم ايضا ..... كلمة من الله ....... أي بشارة من الله لمريم "كلمة كن فيكون"
"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " ..... كلمة من الله" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تقولوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تقولوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا "
رابعا كلام الله ......... أي شريعة الله وأمره
"يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ "
عيسى ابن مريم مثل آدم ..... مخلوقين من مخلوقات الله ...... من تراب
"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ "
آدم خلقه الله ونفخ فيه من روحه
"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"
مرة ثانية آدم خلقه الله ونفخ فيه من روحه
"ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ"
القرآن يقول أن المسيح ابن مريم عبد الله"
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا "
القرآن يحكم بكفر من اتخذ المسيح ابن مريم الها من دون الله ........ اقرأ
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"
القرآن يحكم مرة ثانية بكفر من اتخذ المسيح ابن مريم الها من دون الله ........ اقرأ
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "
هذا هو المسيح ابن مريم ..... عبد لله
"قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا"
هذا هو المسيح ابن مريم ..... عبد لله ورسول إلى بني اسرائيل
"إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ "
للمرة الثالثة....... الكتاب المقدس يقول بأن يسوع الناصري مخلوق من مخلوقات الله ......... إقرأ بولس يقول أن يسوع مخلوق كورنثوس 1:15 " بكر كل خليقة" .... مرة أخرى إذن من الكتاب المقدس يسوع مخلوق.(4/117)
لم تجبني يارجل .... لماذا لم يسير الأنبا شنودة عاريا في الشوارع .... مع إنه من المعروف أن شنودة له القدرة على ذلك والكتاب المقدس لا يمنعه من ذلك؟!!!!!
عبد المسيح: الثلاثة اقانيم تقولون للتبسيط فالانسان جسد و روح وعقل - انت جسد و روح و عقل - و جسدك و روحك و عقلك هو انت .... اى جسدك + روحك + عقلك = عبد الله فلو قام انسان بضربك سوف يتألم الجسد و ليس الروح و لا العقل.
عبد الله: بمثالك هذا فإنه إذا انفصل الجسد عن الروح عن العقل يصير حبيب عبد الملك ميت ..... فهل حدث ذلك مع الآب الذي في السماء والإبن الذي كان في النهر والحمامة التي كانت فوق النهر؟
ثم إذا كان الأقنوم الثاني " الإبن" هو الجسد ......... ألم يمت الجسد لمدة ثلاثة أيام "وكنت ميتا" .. إذا مات الجسد .... مات الكل لأن الجسد يغذي الروح والعقل .......... فبكلامكم فإنكم تقولون أن الله مات .. وهذا كفر بالله ........... أم هل كان إلهكم مجنونا لمدة ثلاثة أيام لأنه فقد عقله بسبب موت الجسد؟!!!! وهذا كفر آخر!!
أما إذا قام أحد بضرب جسدي فسوف يتألم عقلي لأن به مركز الإحساس ......... وسيكون هناك رد فعل من العقل يصل إلى صدمة عصبية وجنون ..... العقل والروح لن يشعروا بشيئ إلا إذا انفصلوا عن بعضهم البعض ........ فبقولك إذن لم يكن اللاهوت مع الناسوت!!!!!!!!!!!!...... وهذا يناقض ايمانكم.
ثم إن الله يقول في الكتاب المقدس "بمن تشبهوني وتساووني" .......... ويقول ايضا "ليس مثل الله" ........ ويقول ايضا "ليس الله إنسان ولا ابن انسان" ....... من فضلك لا تمثل الله بشيئ!!!!!
عبد المسيح: انا اقول ان اقنوم الابن ازلى ابدى و لكن التجسد له زمن عندما ولد السيد المسيح من العذراء مريم و هذا لا يتعارض مع ذاك.
عبد الله: أقول لك كلامك غير صادق من الكتاب المقدس ......... فالكتاب المقدس يقول بأن يسوع الناصري مخلوق من مخلوقات الله والمخلوق ليس أزلي ......... كورنثوس 1:15 " بكر كل خليقة" .... اذن يسوع مخلوق. وايضا " بداءة خليقة الله " سفر الرؤيا 14:3 .... مرة أخرى إذن من الكتاب المقدس يسوع مخلوق. بولس يقول في افسس 1:17 "كي يعطيكم اله ربنا يسوع المسيح "أي إله معلمنا يسوع" ابو المجد روح الحكمة والاعلان في معرفته"
و يوحنا اللاهوتي يقول في رؤيا يوحنا اللاهوتي 1 :6: " و جعل "أي يسوع" منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه" و بولس يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس 8 : 6 ". .... فليس إلا إله واحد و هو الآب منه كل شيء و إليه نحن أيضا نصير" ايضا بولس في الرسالة الأولى إلى كورنثوس 15:28 يقول " فحينئذ الابن نفسه ايضا سيخضع للذي اخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل "
يسوع يقول "إلهي .... إلهي ..... لماذا تركتني؟"
يسوع يقول " إني صاعد إلى ....... وإلهي وإلهكم" ...... وأعمال الرسل يقول"هذا رفعه الله"
إذن من القوي القادر؟ ..... إنه الله ........ إله يسوع وإله كل شيئ
و من الضعيف العاجز ؟........ إنه المسيح ابن مريم .......... عبد الله ورسوله.
أي تجسد تتكلمون عنه؟ ..... هل هو تجسد براهمة في شكل كرشنا الانسان إله الهندوس؟ ...... أم تجسده في شكل يسوع الإنسان إله النصارى؟ ....... أم تجسد مثرا؟ ....... أم تجسد حورس؟ .......... أين قال يسوع أنا الله المتجسد؟ ........ أقول لك هات برهانك من الكتاب المقدس!!
عبد المسيح: ونؤمن بكنيسة واحدة مقدّسة جامعة رسولية، ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى“
عبد الله: أي كنيسة واحدة تؤمنون بها يارجل وهناك من الطوائف النصرانية ما لا يعد ولا يحصى مثل الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذوكسية والإنجيلية والمارونية والبروتوستانتينية ...... وكلكم يكفر بعضكم بعضا .... ومنكم من يؤمن بقيامة الروح فقط ومنكم من يؤمن بقيامة الروح والجسد معا ..... أين الحقيقة؟ .... أم ما زلتم تخدعوننا؟
الخاتمة
من الكتاب المقدس ......
اللهَ ٌ لا ينام
المزمور121/4 " أنه لا ينعس ولا ينام حافظ اسرائيل"
و يَسُوعُ ينام
انجيل متي 8 : 24 " وكان هو نائما "
انجيل لوقا 8 : 23 "وفيما هم سائرون نام "
انجيل مرقس 4 : 38 "وكان هو على وسادة نائما "
وصدق الله القائل:
" قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
===========
هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير ؟(4/118)
1 ـ تُعد الزكاة فى الإسلام أول ضريبة نظامية فى تاريخ الاقتصاد فى العالم.
فالذى كان يحدث قبل ذلك هو أن الحكام كانوا يفرضون الضرائب حسب أهوائهم ، وبقدر حاجتهم إلى الأموال تحقيقًا لأغراضهم الشخصية.
وكان عبء هذه الضرائب يقع على كاهل الفقراء أكثر مما يقع على كاهل الأغنياء ، أو يقع على كاهل الفقراء وحدهم.
ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة قام بتنظيم جمعها وحدد لها نسبة معينة ، وجعلها تقع على عاتق الأغنياء والمتوسطين ، وأعفى منها الفقراء (1).
وتشريع الزكاة ليس فقط نظامًا ماليًّا ، وإنما هو فى الوقت نفسه عبادة كالصلاة والصيام والحج ، يؤديها المسلم القادر على دفعها ، ليس خوفًا من السلطة التنفيذية ، ولكن تقربًا إلى الله واستجابة لتعاليم دينه.
2 ـ شعر الفقراء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعجزهم عن أداء الزكاة مثل الأغنياء.
ورأوا أن هذا من شأنه أن يعطى للأغنياء ميزة الحصول على الثواب من الله بأدائهم للزكاة وحرمان الفقراء من هذا الثواب مع أنه لا ذنب لهم فى فقرهم.
وقام الفقراء بعرض ما يشعرون به على النبى صلى الله عليه وسلم ، فأوصاهم بالتسبيح والتحميد والتكبير (أى بقول سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر) ثلاثًا وثلاثين مرة عقب كل صلاة ، وبين لهم أن هذا من شأنه أن يرفع من درجاتهم عند الله ويجعل منزلتهم عنده لا تقل عن منزلة الأغنياء الذين يؤدون الزكاة (2).
3 ـ المعيار الذى اعتمده القرآن فى المفاضلة بين الناس بصفة عامة هو معيار التقوى والعمل الصالح كما جاء فى القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3).
والتقوى مفهوم عام يشمل كل عمل يقوم به الإنسان ـ أيًّا كان هذا العمل دينيًا أم دنيويًا ـ طالما قصد به وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم.
فالقرب من الله لا يتوقف على أداء الزكاة أو غيرها من الشعائر الإسلامية فحسب ، بل يتوقف أيضًا على التوجه العام من جانب الإنسان فى كل ما يقوم به فى حياته من أعمال ، وما يصدر عنه من سلوك وما يخرج من فمه من أقوال.
والإسلام يعلق أهمية كبيرة على النية.
فالأعمال بالنيات كما يقول النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] (4).
وهذا يعنى أن الفقير الذى لا يستطيع إخراج الزكاة ويتمنى أن لو كان لديه مال ليزكى به فإنه يثاب على هذه النية مادامت صادقة.
وقد يُخرج الغنى الزكاة ويقصد من وراء ذلك التظاهر أمام الناس والحصول على مكانة بينهم فلا يثاب على ذلك بشىء.
-----------
(1) راجع: محمد قطب: شبهات حول الإسلام ـ ص91 ـ مكتبة وهبة سنة 1960م.
(2) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج2 ص 325 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى.
المطبعة السلفية.
(3) الحجرات: 13.
(4) البخارى- باب الوحى رقم 1 ، والإيمان 41 ، والنكاح 5 ، والطلاق
=====================
تحليل إنكار الله
الشبهة: ...
جاء فى سورة النحل : أن الإكراه على الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان ؛ يجوز . وهذا لا يصح لأنه ليس من الأمانة أن يُزَوِّر الإنسان فى عقيدته. ...
أساسها: ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
إن الضرورات تبيح المحظورات . وهذا موجود بكثرة فى التوراة وفى الإنجيل ومن ذلك : ما جاء فى الإصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الأول أن رجلاً من رجال الله جاء إلى مدينة " بيت إيل " وتنبأ عليه . وقال له الملك ادخل إلى بيتى لأعطيك أجرة ؛ فأبى بحجة أنه أمر من الله أن يعود مسرعا ً. وكان نبى شيخ ساكناً فى بيت إيل . فأتى إليه بنوه وقصّوا عليه قصة رجل الله . فقال لهم : دلونى على الطريق التى رجع منها . فلما لحقه قال له : ارجع معى لتتقوت . فأبى . فقال له النبى الشيخ : " أنا أيضاً نبى مثلك . وقد كلمنى ملاك بكلام الرب قائلاً : ارجع به معك إلى بيتك . فيأكل خبزاً ويشرب ماء . كذب عليه . فرجع معه وأكل خبزاً وشرب ماء [ 1مل 13: 1719].
فقد استعمل الحيلة فى إرجاعه و " كذب عليه "
وفى الأناجيل والرسائل أن بولس كان ذا لسانين وذا وجهين .
فإنه لما ردوه للسياط ، كذب وقال : إننى رومانى الجنسية وقد ولدت حرًّا [أعمال 22: 28] وقال : أنا رجل يهودى من سبط بنيامين [رومية 11:1]. ولما مثل أمام رئيس الكهنة وضربه على فمه قال له بولس : " سيضربك الله أيها الحائط المبيض " ولما شتمه بهذا القول وفى التوراة أنه لا يجوز شتم رئيس الكهنة وَوَجَّه إليه اللوم على مخالفته للتوراة . قال بولس : لم أكن أعرف أيها الإخوة أنه رئيس كهنة ؛ لأنه مكتوب : رئيس شعبك لا تقل فيه سوءا [أع 23: 15] ، [خروج 22: 28].(4/119)
وفى التوراة أن الإكراه على كسر حكم من أحكام الشريعة يسقط العقاب على كسر الحكم . فإن الفتاة العذراء المخطوبة لرجل ، إن وجدها فى الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها ؛ يموت الرجل الذى اضطجع معها وحده " وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئاً. ليس على الفتاة خطية للموت ، بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلاً. هكذا هذا الأمر ، إنه فى الحقل وجدها ؛ فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلصها " [تث 22: 2627].
وفى الإنجيل ينصح المسيح تلاميذه بالحذر من الناس فيقول : " ها أنا أرسلكم كغنم فى وسط ذئاب . فكونوا حكماء كالحيات ، وبسطاء كالحمام. ولكن احذروا من الناس " [متى 10: 1617].
======================
تحليل الحنث فى القَسَم
الشبهة: ...
إنه جاء فى سورة البقرة : ( لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ، ولكن يؤاخكم بما كسبت قلوبكم ) (1) وليس هذا من مفومات النبل والشرف ؛ فإن المسيح قد نهى عن الحلف مطلقاً ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
تنص التوراة على " لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً " [خر 20: 7 ]. وفى سفر اللاويين : " ولا تحلفوا باسمى للكذب " [لا 19: 12].
ومفسروالتوراة يقولون : " اختلف المفسرون فى معنى هذه الوصية فقال قوم : إنها تنهى عن القسم بالله على صحة ما هو كاذب ، وقيل : إنها تنهى عن التهاون والاستخفاف باسمه تعالى ، حتى تحظر على الإنسان أن ينطق باسمه بدون مراعاة الرهبة والاحترام ".
ونَهْىُ المسيح عن القسم ليس عن كل شىء . بل عن القسم على ما هو باطل ، يقول المفسرون : " وقد أبان المسيح فى موعظته على الجبل أن الشريعة منعت عن القسم على صحة ما هو باطل فقط ".
وفى القرآن أن القسم مشروط ( أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ) (2) وليس على الكذب . فيكون اللغو فى الآية مفسراً بغير الكذب .
كبناء مسجد. هل يبنى أو لا يبنى ؟ فإنه إذا حسم التردد بيمين ، ثم بدا له أن يرجع فى الحال ؛ فله ذلك . أما إذا حسم التردد بيمين . وعزم عليه وعقده وأكده ؛ فليس له أن يرجع فيه . وإن رجع فيه يلزمه التكفير عنه . وعلى قوله ( أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ) لايكون الكذب داخلاً فى الموضوع على أى تفسير للغو .
1) البقرة: 225.
(2) البقرة: 224.
=================
تحليل الإغراء بالمال
الشبهة: ...
إن فى القرآن أن من مصارف الزكاة ( والمؤلفة قلوبهم ) وهذا إغراء بالمال للدخول فى الإسلام. ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
إذا كان الإحسان إلى الناس إغراء لهم بالدخول فى الإسلام . فما بال النصارى ينشئون المستشفيات والمبرات الخيرية فى بلاد المسلمين وفى غير بلاد المسلمين لغرض التنصير والصد عن سبيل الله ؟ وفى الدين الإسلامى أخذ الجزية من اليهود والنصارى إذا أصروا على ما نشأوا عليه . ولو كان التأليف إغراء ؛ لما أخذ المسلمون منهم أموال الجزية . ذلك قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (1) .
وهل يسمى النصارى مكارم الأخلاق إغراء ؟ والمؤلفة قلوبهم هم الذين ألف الله بين قلوبهم لقوله : ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) (2) وللتأليف أسبابه . ومنها الإنفاق على طلاب العلم الذين يتولون هدايتهم إلى الله . وذلك بفتح دور للعلم فيها ليتعلم الطلاب لغات الأمم ، ثم ينتشرون لتعليمهم وإزالة شبه الشيطان عن دينهم ، ووضع القرآن بينهم ، وما شابه
ذلك . وهذا يُنفق عليه من أموال الزكاة .
1) التوبة: 29.
(2) الأنفال: 63
============================
تحليل القتل
الشبهة: ...
إن فى القرآن شريعة القتال من أجل إسلام الأُمم . وهذا يُعدّ إكراهاً للناس على قبول الدين بالسيف . ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
إن إبراهيم - عليه السلام - كان يدعو إلى الله ، ومن يستجيب له يكون مساوياً لجميع المؤمنين بالله . ومن لا يستجيب له ويصد عن سبيل الله ؛ كان يحاربه ، وإبراهيم هو أب اليهود والنصارى والمسلمين . ففى سفر التكوين : " بعد هذه الأمور صار كلام الرب إلى أبرام فى الرؤيا قائلاً : لا تخف . أنا تُرس لك ، أجرك كثيرًا جدًا " [تك 1:15] أى حارب أعداء الله وأنا أحميك كما يحمى الترس الجندى من ضربات السيوف . وفى سفر الزبور نبوءة صلى الله عليه وسلم ومن أوصافه فيها : " أما أنت يا رب فترس لى ، مجدى ورافع رأسى . . " [مز: 3] ويقول النصارى إن نبوءة عن المسيح , وهم يعلمون أن المسيح لم يحارب ولم يفتح بلادا ً. وفى هذه النبوءة يصرخ النبى إلى الله أن ينصره ، وقد أجابه من جبل قدسه " بصوتى إلى الرب أصرخ فيجيبنى من جبل قدسه " وجبل قدسه فى مكة المكرمة .(4/120)
وفى التوراة أنه لا يحل لليهود أن يملك عليهم وثنى. فلو فرضنا أن ملكاً وثنياً قصد ديارهم وملك عليهم ؛ تفرض أنهم مأمورون بقتاله ، ذلك قوله : " لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًّا ليس هو أخاك " [تث 15:17] وفى التوراة : " إذا خرجت للحرب على عدوك ، ورأيت خيلاً ومراكب قوماً أكثر منك ؛ فلا تخف منهم ؛ لأن معك الرب إلهك" [تث 20: 1] وهو معهم إذا كانوا يحاربون من أجل دينه ، ونبذ عبادة الأوثان . وذلك لأن داود - عليه السلام - وهو يحارب جالوت ؛ قال له : ´فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل ، وتعلم هذه الجماعة كلها
أنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب ؛ لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا " [صموئيل الأول 17: 4647].
وفى سفر المكّابيين الثانى فى قصة الأم وأولادها السبعة أنها كانت تحرض أولادها على الشهادة فى سبيل الله . ومن كلامها : " لا أعلم كيف نشأتم فى أحشائى . فأنا لم أمنحكم الروح والحياة ، ولا أنا كونت أعضاء جسد كل واحد منكم ، بل الذى فعل ذلك هو خالق العالم . فهو الذى جبل الإنسان وأبدع كل شىء . وهو لذلك سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة . لأنكم الآن تضحون بأنفسكم فى سبيل شريعته " [2مك 7: 2223] . وفى إنجيل لوقا : أن المسيح أرسل تلاميذه إلى مدن بنى إسرائيل وأمرهم أن لا يحملوا زاداً ولا مالاً ولا يلبسوا أحذية . وأن يبشروا باقتراب ملكوت الله . فلما رجعوا " قال لهم : حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية . هل أعوزكم شىء ؟ فقالو ا: لا . فقال لهم : لكن الآن من له كيس ؛ فليأخذه ، ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ، ويشتر سيفاً " [لو 22: 3536] فقد أمرهم بشراء السيوف للحرب . وما يزال النصارى إلى هذا اليوم يحاربون أعداءهم .
وفى إنجيل متى يقول المسيح : " سمعتم أنه قبل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم : لا تقاوموا الشر . بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " [متى 5: 3839].
يريد أن يقول : إن التوراة مكتوب فيها العين بالعين والسن بالسن [خر 21: 24] وأنا أقول لكم : " لا تقاوموا الشر " فى هذا الزمان الفاسد الذى ليس فيه قاضٍ عادل ولا ملك منصف . كما قال صاحب سفر الأمثال فى زمانه : " لا تقل كما فعل بى هكذا افعل به. أرد على الإنسان مثل عمله " [أم 24: 29] فهو وصاحب سفر الأمثال لم يخالفا شريعة موسى فى أوقات العدل . وهما ينصحان أنه إذا عم الظلم . فإنه يجب على المظلوم أن يفوض أمره إلى الله . وقد وافق هو النبى إشعياء ومؤلف سفر مراثى إرمياء على قولهما فى أيام الفساد واشتداد الظلم : " من لطمك على خدك الأيمن ، فحول له الآخر أيضاً " وهذا يدل على أنه فى إرشاداته ونصحه لم يأت بجديد ، مع قوله : " ما جئت لأنقصن الناموس أو الأنبياء " [متى 5: 17].
ففى سفر إشعياء : " بذلت ظهرى للضاربين ، وخدى للناتفين . وجهى لم أستر عن العار والبصق " [إش 50: 6] وفى سفر المراثى : " يعطى خده لضاربه ، يشبع عارا " [مرا 3: 30].
=====================
تحليل النهب
الشبهة: ...
إن الله حلل الغنائم ، وهذا أمر بقتل الناس ونهب أموالهم. ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
إن تحليل الغنائم فى التوراة . ففى سفر التثنية : " وغنيمة المدن التى أخذنا . . الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا " [تث 2: 3536] ، وفى سفر التكوين فى صفات بنيامين : " فى الصباح يأكل غنيمة ، وعند المساء يقسم نهباً " [تك 49: 27] أى محارب .
ومن أوصاف محمد رسول الله فى التوراة أنه يقسم غنائم . ففى نبوءة العبد المتألم : " ومع العظماء يقسم غنيمة " [إش 53: 12] ولكن النصارى يفسرونها على المسيح مع أنه لم يحارب أحداً . وفى المزمور الثامن والستين عن محمد صلى الله عليه وسلم : " الملازمة البيت تقسم الغنائم " [مز 68: 12].
=======================
تحليل الحلف
الشبهة: إن فى القرآن أن صاحب القرآن يقسم بالفجر والليالى العشر . فلماذا يحلف ؟ وهل يحتاج صاحب القول الصادق إلى قسم يؤكد به كلامه ؟
أساسها:
مصدرها:
شيوعها: شائعة
الرد على الشبهة :
إن المعترض يعنى بصاحب القرآن محمداً صلى الله عليه وسلم ولا يعنى مُنَزِّله وهو الله - عز وجل- والقسم من الله نفسه بمخلوقاته هو للدلالة على عظمها وأهميتها ومنافعها للناس . وفى التوراة : " الذى حلف الرب لهم أنه " [يشوع 5: 6] " حلف الرب بيمينه " [إشعياء 62: 8] وفى الإنجيل " ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه ، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه " [متى 23: 2122] وفى الزبور : " أقسم الرب ولن يندم "[مز 110: 4] وفى سفر التكوين : " بذاتى أقسمت ، يقول الرب " [تك 22: 16] وفى سفر أعمال الرسل أن كاهناً وأولاده كانوا يقسمون باسم يسوع المسيح " قائلين نقسم عليك بيسوع " [أع 19: 13].
=======================
تحليل الانتقام(4/121)
الشبهة: يقول المؤلف : إن القرآن يحلل الانتقام يقول تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ما اعتدى عليكم ) (1).
أساسها:
مصدرها:
شيوعها: شائعة
الرد على الشبهة :
إن رد الاعتداء ليس فرضاً على المسلمين . فالفرض إما رد الاعتداء ، أو الصفح عن الجانى . ورد الاعتداء فرض فى التوراة والصفح عن الجانى فى العدل مرفوض فى التوراة . ففى التوراة : " وإن حصلت أذية ؛ تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسِنًّا بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيًّا بكى وجرحاً بجرح ورضاً برضى " [خر 21: 2325].
وليس عندهم دفع الدية فى مقابل العفو عن القاتل . أما فى القرآن الكريم ففيه ( فمن عُفى له من أخيه شىء ؛ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) (2) أى تخفيف من الحكم القديم الذى كان فى التوراة وهو عدم قبول الدية .
00000000000000
(1) البقرة :194
(2) البقرة: 178.
=======================
تحليل الشهوات
الشبهة: 1 - إن القرآن أباح للمسلمين أكثر من زوجة.
2- إن الله فى الجنة سيرزق المؤمنين بنساء من الحور العين . وليست الجنة مكاناً للشهوات الحسية ، ولا يبيح دين من عند الله تعدد الزوجات .
أساسها:
مصدرها:
شيوعها: شائعة
الرد علي الشبهة :
إن هذه الشبهة مكونة من جزأين :
الجزء الأول : تعدد الزوجات ،
والجزء الثانى : إباحة الشهوات الحسية فى الجنة.
والرد على الجزء الأول هو :
إن إبراهيم - عليه السلام - كان متزوجاً من سارة وهاجر وقطورة . وهو أب لليهود والنصارى والمسلمين . وأيضاً كانت له سرارى كثيرة لقوله : " وأما بنو السرارى اللواتى كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقاً إلى أرض المشرق وهو بعد حى " [تك 25: 6 ] وموسى كان متزوجاً من مديانية وحبشية [عدد 12: 1] ويعقوب - عليه السلام - كان متزوجاً من حرتين وأمتين وهما ليئة وراحيل وزلفة وبلهة [تك 29 وما بعده] وكان لداود نساء هن : أخينوعم اليزرعبلية - أبيجايل- معكة - حجيث - أبيطال - عجلة . الجميع ستة عدا بثشبع امرأة أوريا الحثى التى أنجب منها سليمان - عليه السلام - [صموئيل الثانى 3: 15] وكان لسليمان " سبع مائة من النساء السيدات ، وثلاث مائة من السرارى " [ الملوك الأول 11: 3] .
وفى الإنجيل أنه كان للمسيح أربع إخوة هم : يعقوب وموسِى ويهوذا وسمعان [مرقس 6: 3] واتفق النصارى على أن مريم أتت به بغير زرع بشر . وإذ هذا حاله . فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز ؟ اختلفوا . لأن متى قال عن يوسف النجار : " ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر " [مز1: 24] فيكون قد عرفها بعد ولادته . وإن منهم لفريقاً يقولون : " إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت ، وإن الأربعة أولاد ليوسف عن زوجة سابقة له على مريم " . وعلى أية حال فإن غرضنا وهو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة . وفى تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضاً هما أستير وثامار ؛ يكون ملزماً لهم بإثبات التعدد .
والرد على الجزء الثانى هو :
إن التوراة تصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً . فيكون النعيم حسيًّا ، والعذاب حسيًّا . والإنجيل يصرح بالبعث الجسدى والروحى معاً . ولكن بولس صرح بالبعث الروحى لغرض اللغو فى حقيقة ملكوت السماوات . ولسنا ههنا بصدد مناقشته . وإنما نحن ههنا بصدد إثبات البعث الجسدى والروحى . ففى إنجيل مرقس يقول المسيح : " وإن أعثرتك يدك فاقطعها ، خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن يكون لك يدان وتمضى إلى جهنم . إلى النار التى لا تطفأ . حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ . . إلخ " [مر 9: 43 - 44] وفى إنجيل متى " وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك ؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائه ، ولا يلقى جسدك كله فى جهنم " [متى 5: 30].
وفى سفر إشعياء عن المُسرّات فى الجنة : " لم تر عينا إنسان ولم تسمع أذناه ولم يدرك قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه " [إش 64: 4] واستدل به بولس فى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس [2: 9] ، وفى سفر أيوب : " أعلم أن إلهى حى ، وأنى سأقوم فى اليوم الأخير بجسدى وسأرى بعينى الله مخلّصى " [أى 19: 2527] وفى ترجمة البروتستانت : " وبدون جسدى " .
وفى سفر إشعياء عن عذاب جهنم : " يجلس خدمى على مائدتى فى بيتى ، ويتلذذون بابتهاج مع حبور ومع صوت الأعواد والأراغن ولا أدعهم يحتاجون شيئاً ما ، أما أنتم أعدائى فتطرحون خارجاً عنى حيث تموتون فى الشقاء ، وكل خادم لى يمتهنكم " [إش 60: 13].
======================
الحدود فى الإسلام
الشبهة: ... ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
شيوعها: ... شائعة ...
الرد على الشبهة :
إن الدارس للإسلام وأحكامه يدرك حقائق أساسية لتشريع الحدود فى الإسلام نحاول أن نشير إلى بعضها بإيجاز :
أولاً : الحدود فى الإسلام إنما هى زواجر تمنع الإنسان المذنب أن يعود إلى هذه الجريمة مرة أخرى .(4/122)
وهى كذلك تزجر غيره عن التفكير فى مثل هذه الفعلة وتمنع من يفكر من أن يقارف الذنب ، وهى أيضًا نكال " مانع " من الجريمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
ثانيًا : إن من المقرر لدى علماء الإسلام قاعدة " درء الحدود بالشبهات " أى جعل الظن والشك فى صالح المتهم .
ثالثًا : ليس المراد بالحدود التشفى والتشهى وإيقاع الناس فى الحرج وتعذيبهم بقطع أعضائهم أو قتلهم أو رجمهم .
إنما المراد هو أن تسود الفضيلة ، ومن هنا نجد الشرع الشريف ييسر فى هذه الحدود
فإذا اشتدت الظروف فى حالات الجوع والخوف والحاجة تعطل الحدود ، كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى عام الرمادة .
ومن التيسير أيضًا أن الإسلام يأمر بالستر قبل الوصول إلى الحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ يشهد على الزنا : [ لو سترته بثوبك كان خيرًا لك ] (1).
رابعًا : الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل زمان ومكان ، والناس مختلفون فى ضبط نفوسهم ، فلابد من وجود عقاب رادع يضبط أصحاب النفوس الضعيفة من الوقوع فى الجرائم والحدود والردة عن الإسلام حتى يسلم المجتمع من الفساد ظاهرًا وباطنًا
خامسًا : الحدود إنما هى جزء من النظام الإسلامى العام ، فلابد من فهم النظام ككل حتى تفهم الحدود ولا يمكن تطبيق الحدود إلا مع تطبيق النظام الإسلامى ككل وإلا لا ينسجم الأمر ولا تستقيم حكمة الله من تشريعه .
سادسًا : الحدود دعوة صريحة للتخلق بالأخلاق الحسنة التى هى من مقاصد الدين وهى أيضًا طريق إلى التوبة إلى الله ، فالمذنب إذا عوقب بعقاب الشارع الذى هو منسجم مع تكوينه وواقع وفق علم الله تعالى به وبنفسيته فإن هذا يخاطب قلبه ومشاعره بوجوب الرجوع إلى ربه .
ويكفى ارتداع المسلم عن الجريمة ودخوله فى رحمة ربه معرفته بأن ربه هو الذى شرع له هذا الحكم ، فإن هذا وحده من شأنه أن يجعله يتوب وينجذب إلى ربه ويصير مؤمنًا بالله جل جلاله خاصة إذا علم أن هذا الحد يكفر عنه هذا الذنب .
سابعًا : الإسلام دين ، والحدود والتعازير إنما هى فى كل دين بل وفى كل نظام قانونى ومن أراد على ذلك مثال فالتوراة مثلاً تأمر بحرق الزانية والزانى إذا كانت ابنة كاهن .
ذلك قولهم " وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا فقد دنست أباها ، بالنار تحرق [اللاويين 21: 9].
ومن النظم القانونية من يأمر بقتل الخارج على النظام إلى غير ذلك .
ثامنًا : الحدود عقوبات واعية تتناسب مع النفس البشرية والعقوبات البديلة خالية من هذه القيم .
(1) رواه أبو داود.
======================
حد السرقة
الشبهة: ... ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
الرد على الشبهة :
إن النظام الإسلامى كلٌ متكامل ، فلا تفهم حكمة الجزئيات التشريعية فيه حق فهمها إلا أن ينظر فى طبيعة النظام وأصوله ومبادئه ، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملاً ويعمل به جملة واحدة هذا بصفة عامة .
أما بالنسبة لحد السرقة :
فإن الإسلام يقرر حق كل فرد فى الحياة وحقه فى كل الوسائل لحفظ حياته ، ومن حق كل إنسان أن يحصل على هذه الوسائل :
أولاً : عن طريق العمل مادام قادراً على العمل ، فإن لم يستطع أن يحصِّل أسباب الحياة فعلى المجتمع المسلم أن يوفر له ما يحفظ حياته أولاً من النفقة التى تفرض له شرعاً على القادرين فى أسرته .
ثانياً : على القادرين من أهل محلته .
ثالثاً : من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له فى الزكاة فى نظام تكافلى للرعاية الاجتماعية والأمن الاجتماعى .
والإسلام كذلك يتشدد فى تحديد وسائل جمع المال فلا تقوم الملكية الفردية فيه إلا على حلال ، ومن ثم لا تثير الملكية الفردية فى المجتمع المسلم أحقاد الذين لا يملكون ، حيث يمكن لكل أحد أن يصبح غنيًّا بالوسائل المشروعة المتاحة والسوق التنافسية الشريفة . والإسلام يربى ضمائر الناس وأخلاقهم ، فيجعل تفكيرهم يتجه إلى العمل والكسب لا إلى السرقة ، وبذلك يحفظ مصالح الفرد والمجتمع معاً .
إذن فلماذا يسرق السارق فى ظل هذا النظام ؟
إنه لا يسرق إلا للطمع فى الثراء من غير طريق العمل ، والثراء لا يطلب من هذا الوجه الذى يروع الجماعة المسلمة فى دار الإسلام ، ويحرمها الطمأنينة التى من حقها أن تستمتع بها ، ويحرم أصحاب المال الحلال أن يطمئنوا على مالهم الحلال .
فإذا سرق إنسان بعد هذا فإنه لا يسرق وله عذر ، ولا ينبغى لأحد أن يرأف به متى ثبت عليه الجريمة وأحيل أمره إلى النظام .
ونفس الإنسان فطرت على حب المال ولعل هذا هو الذى يدفع معظم الناس إلى العمل والكد. والإسلام دائماً يقوّم دوافع النفس حتى تنضبط إما بالترغيب أو بالترهيب . من هنا حض الإسلام على الكسب الحلال ورغّب فيه ورهّب من السرقة بهذه العقوبة ، حتى يستقيم المجتمع بما فيه من بار وفاجر . يقول رسول الله - صلي الله عليه وسلم - [ إن الله ليدع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ] .(4/123)
ولما كان قطع يد السارق يفضحه ويسمه بسمة السرقة ويطلع الناس على ما كان منه . فقد أقام الإسلام حراسة على من يتهم بالسرقة ، فلا تقطع يده مع وجود شبهة فى أنه سرق كما لا تقطع يده فى الشىء المسروق إذا كان تافهاً لا يعتد به ، أو كان فى غير حرز بل إن السارق فى تلك الحالة يعزر بالضرب أو الحبس ، ولا تقطع يده .
ومن تلك الضوابط التى وضعتها الشريعة لإقامة حد القطع على السارق :
أولاً : أن يكون المسروق شيئاً ذا قيمة أى أن له اعتباراً اقتصاديًا فى حياة الناس . عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ تقطع اليد ـ أى يد السارق ـ بربع دينار فصاعداً ] (1) .
ثانياً : أن يكون المسروق محروزاً ، أى محفوظاً فى حرز .
ثالثاً : أن ما أخذ للأكل بالفم من التمر فهذا لا قطع فيه ولا تعزير .
رابعاً : السرقة فى أوقات المجاعات لا قطع فيها ولذلك أبطل عمر ـ رضى الله عنه ـ القطع فى عام الرمادة حينما عمت المجاعة .
خامساً : العبد إذا سرق شيئا ينظر هل سيده يطعمه أم لا ؟ فإن كان لا ، غرم سيده ضعف ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ فى غلمان ابن حاطب بن أبى بلتعة حينما سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطعهم ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديباً له .
والقاعدة أن الحدود تُدْرَأ بالشبهات .
وهكذا ينبغى أن تفهم حدود الإسلام فى ظل نظامه المتكامل الذى يتخذ أسباب الوقاية قبل أن يتخذ أسباب العقوبة .
فالحدود تمنع من وقوع الجريمة ولذلك نرى على مر التاريخ الإسلامى وعلى مساحة واسعة من بلاد المسلمين أن حد السرقة لم يطبق إلا فى أضيق الحدود وبعدد محدود جداً لا يتجاوز العشرات مع كل هذه الملايين من البشر حيث استقر فى وجدان المسلمين أن السرقة جريمة من الجرائم السيئة التى تهدد الأمن الاجتماعى والمجتمع فى ذاته بحيث تستحق مثل هذه العقوبة البدنية التى تشبه عقوبة الإعدام ، وعلى قدر عظم الذنب والجرم يكون عظم العقاب .
وبعض المعاصرين ينطلقون من نموذج معرفى آخر يقدم بدن الإنسان فى ذاته بغض النظر عن أفعاله وجرائمه . وقد خفى عليهم كل هدى سليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
(1) رواه أبو داود.
====================
حد الزنا
الشبهة: ... ...
أساسها: ... ...
مصدرها: ... ...
الرد على الشبهة :
إن جريمة الزنا لهى من أقذر الجرائم حتى أنكرها كل دين ، بل وأنكرها العقلاء والراشدون من الناس ، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرًا وإن قبلوها سرًا وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج ومن اختلاط للأنساب وحل لروابط الأسرة وقتل لما فى قلوب الآباء من عطف وحنان على الأبناء ، ورعاية وبذلٍ سخى لهم بما يبلغ حد التضحية بالراحة والنفس ، الأمر الذى لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء وذلك لا يكون إلا إذا وقع فى قلوب الآباء وقوعًا محققًا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم .
ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة إلينا من أمريكا وأوروبا عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم وأتوا على الأسرة كلها فى لحظة واحدة دون أن ينبض فيهم شعور بالتردد قبل الجريمة أو الندم بعدها ، وذلك شفاء لما فى نفوسهم من شكوك فى صحة نسب هؤلاء الأبناء إليهم حتى لقد تحولت هذه الشكوك إلى عواصف من الجنون الذى أفقد هؤلاء الآباء كل شعور إنسانى نحو الأبناء المشكوك فى نسبهم ، وهيهات أن يخلو شعور أوروبى من الشك فى نسبة أبنائه إليه مع هذه الإباحية المطلقة للجمع بين النساء والرجال فى أى مكان وأى زمان .
فإن أراد الإسلام أن يحارب هذه الجريمة برصد هذه العقوبة الرادعة ـ الرجم للمحصن ، والجلد لغير المحصن ـ كان ذلك عند أعداء الإسلام تهمة شنيعة يرمونه بها ويحاكمونه عليها ليخرجوه من حدود الإنسانية المتحضرة إلى عالم سكان الأدغال ورعاة الإبل والشياه فى الصحارى . ويقولون : كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حتى يأمر بجلده على مرائى ومسامع من الناس ؟ ثم كيف تصل الوحشية فى قسوتها إلى أن يُلقى بالإنسان فى حفرة ثم تتناوله الأيدى رجماً بالحجارة إلى أن يموت .
هكذا يقولون ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ) (1).
ولا ننكر أن فى شريعة الإسلام حكم الجلد والرجم يقول الله تعالى : ( الزانية والزانى فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ] (3).
والنظام الإسلامى كل متكامل لا تفهم جزئياته إلا فى نسق واحد .(4/124)
فإن الإسلام قد حرّم النظر إلى " الأجنبيات " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه إيماناً يجد حلاوته فى قلبه ] (4). وكذلك أمر النساء ألا يظهرن الزينة إلا للأزواج أو الأقارب من الصلب الذين لا يُخشى منهم فتنة . قال الله تعالى : ( يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) (5) ، وقال:
( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) (6). وأمر أيضاً ألا يختلى رجل بامرأة لا تحل له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما ] .
وحرم أيضاً أن يمس الرجل امرأة لا تحل له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ لئن تضرب بمخيط فى رأسك فتدمى به خير لك من أن تمس امرأة لا تحل لك ] . وقبل هذا كله فقد استطاع الإسلام أن يربى الضمير فى الرجل والمرأة على حد سواء على ضوء ما جاء فى قصة ماعزو الغامدية .
والإسلام كذلك حض الشباب على إخراج هذه الشهوة فى منفذها الشرعى بالزواج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] (7) أى قاطع للشهوة .
وكذلك رخص للرجل أن يتزوج بامرأة واحدة أو اثنين أو ثلاثة أو أربع مادام يملك النفقة ويستطيع العدل .
وأمر أولياء الأمور أن لا يغالوا فى مهور بناتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير ] (8) . وأمر الأغنياء أن يساعدوا الشباب فى نفقات الزواج . وقد قام الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بتزويج الشباب والفتيات من بيت مال المسلمين .
هذا كله هو بعض ملامح الإسلام فى تيسير أمر إخراج هذه الشهوة بطريق مشروع ، والحقيقة أن مثل هذه الشنيعة لا تحصل فى المجتمع المسلم ـ الذى تسوده الفضيلة ـ إلا بعد تدبير عظيم من كلا الطرفين يدل على إجرام كلا الطرفين ولكن مع كل هذا فإن شريعة الإسلام قد وضعت شروطًا من الصعب جدًا توافرها قبل إيقاع العقوبة .
فإن لم تتوفر مجتمعة لا يقام الحد على صاحب هذه الفعلة جلداً كان أو رجماً وهذه هى الشروط :
1 ـ لابد حتى تثبت الجريمة من شهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا من الرجل والمرأة ما يكون بين الرجل وزوجته من اتصال مباشر ، الأمر الذى لا يكاد يراه أحدٌ من البشر .
وكأن الشريعة لا ترصد هذه العقوبة على هذه الفعلة بوصفها ولكنها ترصدها على شيوع هذه الفعلة على الملأ من الناس بحيث لا يبغى بين الناس من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً .
2 ـ إن الشريعة الإسلامية تقرر درء الحدود بالشبهات بمعنى أن أى شك فى شهادة الشهود يفسر لصالح المتهم فيسقط بذلك الحد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ادرءوا الحدود بالشبهات ] (9).
3 ـ فرضت الشريعة عقوبة الجلد ثمانين جلدة على من قذف محصنة ثم لم يأت بأربعة يشهدون بأنهم رأوا منها ومن المقذوف بها ما يكون بين الزوج وزوجته قال الله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (10) .
4 ـ رغبت الشريعة الإسلامية فى التستر على عورات المسلمين وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش وإن كانت قد وقعت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لرجل جاء يشهد : هلا سترتهما بثوبك ] يقول الله تعالى : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (11) .
أبعد هذا كله يتخرص متخرص ويقول : إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر أدميته حين يأخذ أولئك الذين يأتون الفاحشة على أعين بما يأخذهم به من جلد بالسياط . وفضح بين الملأ من الناس .
أفلا يسأل هؤلاء المتخرصون أنفسهم ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يغالى بها بعض الآدميين من غير استحياء ثم لا يضرب على أيديهم أحد . إن إنساناً توفرت له كل هذه الميسرات وتجرأ على الترتيب لهذه الفعلة الشنيعة . ثم افتضح حاله حين يراه هذا العدد فى هذا الوضع . إن إنساناً فى مثل هذا الحال لهو إنسان مفسد ضال مضل ولو لم يتم بتره أو تربيته فإن هذا يشكل خطراً على المجتمع كله .
والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون لا بأس من أن يحبس فترة من الزمن ثم يخرج لكى يمارس عمله ، ولا يعلمون أن مثل هذا الحبس سوف يمكنه من أن يخالط من هو أجرم منه ليتعلم منه ويعلمه ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين فى الضلال ليضلا الناس وهذا هو المشاهد.
فضلاً عن الذى يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب .
وإن المتتبع لا يجد هذه العقوبة قد نفذت " حال تنفيذ العقوبات " إلا فى أعداد محدودة ولا ضرر فى هذا مادام قد وفر الأمن والاستقرار للمجتمع .
------------
(1) الكهف: 5.
(2) النور: 2.(4/125)
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الحاكم فى المستدرك.
(5) الأحزاب: 59.
(6) النور: 31.
(7) رواه البخارى.
(8) رواه ابن ماجه.
(9) رواه الترمذى.
(10) النور: 4.
(11) النور: 19.
========================
حد الردة
الشبهة: ... ...
الرد على الشبهة :
إن الإسلام يقرر حرية اختيار الدين ، فالإسلام لا يكره أحداً على أن يعتنق أى دين يقول الله تعالى : ( لا إكراه فى الدين ) (1) .
غاية ما هنالك أن الإسلام لا يقبل الشرك بالله ولا يقبل عبادة غير الله وهذا من صلب حقيقة الإسلام باعتبار كونه دين من عند الله جل وعلا ، ومع ذلك يقبل النصارى واليهود ولا يقاتلهم على ما هم عليه ولكن يدعوهم إلى الإسلام . كما أن الإسلام لا يبيح الخروج لمن دخل فى دين الله ولا يكلف أحداً أن يجهر بنصرة الإسلام ، ولكنه لا يقبل من أحدٍ أن يخذل الإسلام ، والذى يرتد عن الإسلام ويجهر بذلك فإنه يكون عدوًّا للإسلام والمسلمين ويعلن حرباً على الإسلام والمسلمين ولا عجب أن يفرض الإسلام قتل المرتد ، فإن كل نظام فى العالم حتى الذى لا ينتمى لأى دين تنص قوانينه أن الخارج عن النظام العام له عقوبة القتل لا غير فيما يسمونه بالخيانة العظمى
وهذا الذى يرتد عن الإسلام فى معالنة وجهر بارتداده ، إنما يعلن بهذا حرباً على الإسلام ويرفع راية الضلال ويدعو إليها المنفلتين من غير أهل الإسلام وهو بهذا محارب للمسلمين يؤخذ بما يؤخذ به المحاربون لدين الله .
والمجتمع المسلم يقوم أول ما يقوم على العقيدة والإيمان . فالعقيدة أساس هويته ومحور حياته وروح وجوده ، ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس أو يمس هذه الهوية . ومن هنا كانت الردة المعلنة كبرى الجرائم فى نظر الإسلام لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوى ، وخطرعلى الضرورة الأولى من الضرورات الخمس : " الدين والنفس والنسل والعقل والمال ".
والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة يُدخل فيه اليوم ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا : ( آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) (2).
والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلى ، بل هى أيضاً تغير للولاء وتبديل للهوية وتحويل للانتماء . فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام التى كان عضواً فى جسدها وينقم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها ويعبر عن ذلك الحديث النبوى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : [ التارك لدينه المفارق للجماعة ] (3) ، وكلمة المفارق للجماعة وصف كاشف لا منشئ ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة .
ومهما يكن جرم المرتد فإن المسلمين لا يتبعون عورات أحدٍ ولا يتسورون على أحدٍ بيته ولا يحاسبون إلا من جاهر بلسانه أو قلمه أو فعله مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال فأى شك فى ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة .
إن التهاون فى عقوبة المرتد المعالن لردته يعرض المجتمع كله للخطر ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه . فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره ، وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس ، وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها وبذلك تقع فى صراع وتمزق فكرى واجتماعى وسياسى ، وقد يتطور إلى صراع دموى بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس .
وجمهور الفقهاء قالوا بوجوب استتابة المرتد قبل تنفيذ العقوبة فيه بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة ـ رضى الله عنه ـ وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر ومنهم من قال يُستتاب أبداً ، واستثنوا من ذلك الزنديق ؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن فلا توبة له وكذلك سابّ الرسول صلى الله عليه وسلم لحرمة رسول الله وكرامته فلا تقبل منه توبة وألَّف ابن تيمية كتاباً فى ذلك أسماه " الصارم المسلول على شاتم الرسول " .
والمقصود بهذه الاستتابة إعطاؤه فرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة وتقوم عليه الحُجة ويكلف العلماء بالرد على ما فى نفسه من شبهة حتى تقوم عليه الحُجة إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص ، وإن كان له هوى أو يعمل لحساب آخرين ، يوليه الله ما تولى .
(1) البقرة: 156.
(2) آل عمران: 72.
(3) رواه مسلم.
============================
ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة ؟
الرد على الشبهة :(4/126)
1 ـ لا ينكر أحد أن الشعوب الإسلامية فى عصرنا الحاضر متفرقة ومتنازعة فيما بينها ، فهذا واقع ملموس لا يحتاج إلى برهان . ولكن هذا يُعد مرحلة فى تاريخ المسلمين شأنهم فى ذلك شأن بقية الشعوب والأمم الأخرى . ولا يعنى ذلك أنهم سيظلون كذلك إلى الأبد. وكما استطاعت الشعوب الأوروبية أن تتغلب على عوامل الفرقة والتنازع فيما بينها والتى أدت إلى حربين عالميتين شهدهما القرن العشرون ـ فإن الشعوب الإسلامية سوف تستطيع فى مستقبل الأيام أن تتغلب أيضًا على عوامل الفرقة فيما بينها ، والبحث عن صيغة ملائمة للتعاون المثمر من أجل مصلحة المجتمعات الإسلامية كلها .
وهناك محاولات مستمرة فى هذا الصدد وإن كانت بطيئة وذات تأثير محدود ومتواضع مثل منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم كل الدول الإسلامية ، إلا أنه يمكن تطوير العمل فى هذه المنظمة وغيرها من منظمات إسلامية أخرى للوصول بها إلى مرحلة متقدمة من التعاون الأوثق . وللأمة الإسلامية فى تعاليم الإسلام فى الوحدة والتعاون والتآلف والتكافل أعظم سند يضمن لها نجاح هذه المحاولات فى مستقبل الأيام .
2 ـ فالإسلام فى مصادره الأصلية يدعو إلى الوحدة والتضامن ويحذر من الفرقة والتنازع ( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) (1) ، ويدعو إلى الشعور بآلام الآخرين والمشاركة فى تخفيفها ، ويجعل الأمة كلها مثل الجسد الواحد ـ كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم ـ [ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ] (2) . ويعتبر الإسلام رابطة العقيدة بمنزلة رابطة الأخوة : ( إنما المؤمنون إخوة ) (3) . وحينما هاجر النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار ، فأصبحوا إخوة متحابين متضامنين فى البأساء والضراء . وآيات القرآن وأحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك أكثر من أن تحصى .
3 ـ هناك أسباب خارجية كثيرة أدت إلى الانقسام والفرقة بين المسلمين فى العصر الحديث . وترجع هذه الأسباب فى قدر كبير منها إلى الفترة التى هيمن فيها الاستعمار على بلاد العالم الإسلامى . وعندما رحل ترك مشكلات عديدة كان هو سببًا فيها مثل مشكلات الحدود ، وكانت القاعدة التى على أساسها خطط لسياساته هى مبدأ : " فَرِّق تَسُد " . ومن هنا عمل على إحياء العصبيات العرقية بين شعوب البلاد المستعمَرة . وقام بنهب خيرات هذه البلاد ، وأدى ذلك إلى إفقارها وتخلفها الحضارى الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم . ولا تزال معظم شعوب العالم الإسلامى تعانى من المشكلات التى خلفها الاستعمار .
4 ـ انشغل المسلمون بالمشكلات الكثيرة التى خلفها الاستعمار وغفلوا عن تعاليم الإسلام فى الوحدة والتضامن .
ولكن الشعوب الإسلامية لا تزال تحن إلى وحدة جهودها ، وتضامنها فيما بينها ، وتجميع قواها فى سبيل الخير لهذه الشعوب جميعها . ولا يزال المسلم فى أى بلد إسلامى يشعر بآلام المسلمين فىمناطق العالم المختلفة بوصفه جزءاً من الأمة الإسلامية . وهذا من شأنه أن يعمل على توفير أساس راسخ لمحاولات إعادة التضامن والوحدة بين أقطار العالم الإسلامى ، بمعنى توحيد الجهود والتكامل فيما بينها فى ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والأمن ، وتبادل الخبرات والمنافع ، وكل ما يعود على المسلمين بالخير ، مما يجعلهم أقدر على القيام بدور فعّال فى ترسيخ قواعد السلام والأمن فى العالم كله .
(1) آل عمران: 103.
(2) رواه الإمام مسلم وغيره (راجع: فيض القدير ج5 ص 514 وما بعدها).
(3) الحجرات: 10.
======================
هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين ؟
الرد على الشبهة :
1 ـ حقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد استطاع بعد فترة زمنية قصيرة من ظهوه أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرًا فى التاريخ . ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزير فى شتى مجالات العلوم والفنون ، وتضم مكتبات العالم آلافًا مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية تبرهن على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة عريقة . يضاف إلى ذلك الآثار الإسلامية المنتشرة فى كل العالم الإسلامى والتى تشهد على عظمة ما وصلت إليه الفنون الإسلامية .
وحضارة المسلمين فى الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك فى أوروبا نفسها . وقد قامت أوروبا بحركة ترجمة نشطة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين . وكان ذلك هو الأساس الذى بنت عليه أوروبا حضارتها الحديثة .(4/127)
2 ـ يشتمل القرآن الكريم على تقدير كبير للعلم والعلماء وحث على النظر فى الكون ودراسته وعمارة الأرض . والآيات الخمس الأولى التى نزلت من الوحى الإلهى تنبه إلى أهمية العلم والقراءة والتأمل (1) . وهذا أمر كانت له دلالة هامة انتبه إليها المسلمون منذ البداية . وهكذا فإن انفتاح الإسلام على التطور الحضارى بمفهومه الشامل للناحيتين المادية والمعنوية لا يحتاج إلى دليل .
3 ـ أما تخلف المسلمين اليوم فإن الإسلام لا يتحمل وزره ، لأن الإسلام ضد كل أشكال التخلف . وعندما تخلف المسلمون عن إدراك المعانى الحقيقية للإسلام تخلفوا فى ميدان الحياة . ويعبر مالك بن نبى ـ المفكر الجزائرى الراحل ـ عن ذلك تعبيرًا صادقًا حين يقول : " إن التخلف الذى يعانى منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام ، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين " . فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين .
4 ـ لا يزال الإسلام وسيظل منفتحًا على كل تطور حضارى يشتمل على خير الإنسان . وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب ، فهناك أسباب خارجية ترجع فى جانب كبير منها إلى مخلفات عهود الاستعمار التى أعاقت البلاد الإسلامية عن الحركة الإيجابية ، وهذا بدوره ـ بالإضافة إلى بعض الأسباب الداخلية ـ أدى أيضًا إلى نسيان المسلمين للعناصر الإيجابية الدافعة لحركة الحياة فى الإسلام.
5 ـ لا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدنى للعالم الإسلامى المعاصر . فالتخلف الذى يعانى منه المسلمون يُعد مرحلة فى تاريخهم ، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ . ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف ، كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية .
إن الأمانة العلمية تقتضى أن يكون الحكم على موقف الإسلام من الحضارة مبنيًّا على دراسة موضوعية منصفة لأصول الإسلام وليس على أساس إشاعات واتهامات وأحكام مسبقة لا صلة لها بالحقيقة .
(1) العلق: 1-5.
=======================
هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج ؟
الرد على الشبهة :
1 ـ الصوم من العبادات التى لم ينفرد بها الإسلام . فقد أخبر القرآن الكريم أن الصوم كان مفروضًا أيضًا على الأمم السابقة : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) (1) . ولا تزال هناك ديانات أخرى حتى يومنا هذا تَعرِف شعيرة الصوم . ولكن هناك فرقًا واضحًا بين الصوم فى الإسلام والصوم فى غيره من الديانات . ويتمثل هذا الفرق فى أن الصوم فى الإسلام يأتى فى شهر معين من العام طبقًا للتقويم الهجرى ، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس . وهذا يعنى أن المسلم يقضى نهار يومه كله ـ وهو وقت العمل المعتاد ـ وهو صائم على النحو المشار إليه . ولعل هذا هو السبب الذى من أجله يتوهم البعض أن الصوم الإسلامى بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع .
2 ـ والصوم فى حقيقة الأمر برىء من هذه التهمة . فالصوم يفترض فيه أنه يعمل على تصفية النفوس والتسامى بالأرواح . وهذا من شأنه أن يمد الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائمًا . وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها . وقد حارب المسلمون فى غزوة بدر أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم صائمون وانتصروا ، وحارب الجنود المصريون عام 1973م وهم صائمون حيث كان ذلك فى شهر رمضان وانتصروا . ولم يقلل الصوم من نشاطهم ، بل كان العكس هو الصحيح تمامًا .
3 ـ ما نراه فى بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج فى شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم . فمن عادة الكثيرين أن يظلوا متيقظين فى شهر الصوم معظم الليل . ولا يأخذون قسطًا كافيًا من النوم ، فنجدهم ـ نظرًا لذلك ـ متعبين أثناء النها ر . ومن هنا يقل إنتاجهم ، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفى تثاقل . ويعتذرون عن ذلك بأنهم صائمون . وقد يكون اعتذارهم هذا فى أول النهار . فلو كان للصوم أى تأثير على النشاط ـ كما يزعمون ـ فإن ذلك لا يكون فى أول النهار ، بل يكون فى فترة متأخرة منه .
4 ـ لقد ثبت أن للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية واجتماعية وتربوية . فالمفروض أنه فرصة سنوية للمراجعة والتأمل والتقييم والنقد الذاتى على المستويين الفردى والاجتماعى بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الاجتماعية ، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع ، وبإخلاص أكثر ، وبوعى أفضل .
(1) البقرة: 183.
==========================
لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير ؟
الرد على الشبهة :(4/128)
1 ـ لم يكن الإسلام أول الأديان التى حرمت أكل لحم الخنزير . فالديانة اليهودية تحرِّم أكل لحم الخنزير . ولا يوجد حتى الآن يهودى فى أوروبا وأمريكا يأكل لحم الخنزير إلا فيما ندر . ولم يعب أحد على اليهود ذلك ، بل يحترم الغرب العادات الدينية لليهود . وعندما جاء السيد المسيح ـ عليه السلام ـ صرح ـ كما جاء فى الإنجيل ـ بأنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله ، أى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية . ومن بينها بطبيعة الحال تحريم أكل لحم الخنزير . والأمر المنطقى بناء على ذلك أن يكون الخنزير محرمًا فى المسيحية أيضًا (1) .
2 ـ عندما جاء الإسلام حرّم أيضًا أكل لحم الخنزير . وهذا التحريم امتداد لتحريمه فى الديانات السماوية السابقة . وقد نص القرآن الكريم عليه صراحة فى أربعة مواضع (2) . وهناك من ناحية أخرى ـ بجانب هذا التحريم الدينى ـ أسباب ومبررات أخرى تؤكد هذا التحريم .
ومن ذلك ما أثبته العلماء المسلمون من أن أكل لحم الخنزير ضار بالصحة ولا سيما فى المناطق الحارة . وفضلاً عن ذلك فإن الآيات القرآنية التى ورد فيها تحريم لحم الخنزير قد جمعت هذا التحريم مع تحريم أكل الميتة والدم . وضرر أكل الميتة والدم محقق لما يتجمع فيهما من ميكروبات ومواد ضارة ، مما يدل على أن الضرر ينسحب أيضًا على أكل لحم الخنزير .
وإذا كانت الوسائل الحديثة قد تغلبت على ما فى لحم الخنزير ودمه وأمعائه من ديدان شديدة الخطورة ( الدودة الشريطية وبويضاتها المتكلسة ) فمن الذى يضمن لنا بأنه ليست هناك آفات أخرى فى لحم الخنزير لم يكشف عنها بعد ؟ فقد احتاج الإنسان قرونًا طويلة ليكشف لنا عن آفة واحدة . والله الذى خلق الإنسان أدرى به ويعلم ما يضره وما ينفعه . ويؤكد لنا القرآن هذه الحقيقة فى قوله : ( وفوق كل ذى علم عليم ) (3).
3 ـ يحسب الإسلام حساب الضرورات فيبيح فيها المحرمات . وفى ذلك قاعدة مشهورة تقول : " الضرورات تبيح المحظورات " . ومن هنا فإن المسلم إذا ألجأته الضرورة الملحة ـ التى يخشى منها على حياته ـ لتناول الأطعمة المحرمة ومنها الخنزير فلا حرج عليه . كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) (4) . ولكن هذه الإباحة لا يجوز أن تتعدى حدود تلك الضرورة وإلا كان المسلم آثماً .
(1) راجع: الحلال والحرام للدكتور القرضاوى ص42 ـ قطر 1978م.
(2) البقرة: 173 ، والمائدة: 3 ، والأنعام: 145 ، والنحل: 115
(3) يوسف: 76.
(4) البقرة: 173.
========================
براءة الإسلام من الحقد الديني
1- تمهيد:
لا تزالُ حملاتُ المتعصِّبين من غيرِ المسلمين متوالِيةً على الإسلامِ وأهله، ولقد وَجّهوا سهامَهم في الآونةِ الأخيرةِ إلى منهجِ الإسلام في التربية والتعليم، زاعمين بأنّ الإسلامَ بسياستِه التربويّة التعليميّة يصوغ جِيلاً يبغِض الآخرَ ويحقِد عليه ويضطهِده ويعتدِي عليه، مستغلِّين في ذلك بمكرٍ ودهاء تصرّفاتِ بعضِ المسلمين التي لا تُعَدّ شيئًا أمامَ الأصلِ العامّ والقاعدة الكلّيّة. وسبحانَ الحكيم العليم؛ كلّما ازدادت هذه الحملاتُ شراسةً ازداد بروز محاسِن الإسلام واتّضح جماله وكماله وبان عدله ورحمته.
وَإِذا أَرادَ اللّهُ نَشرَ فَضيلَةٍ طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ
لَولا اِشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَت ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ
ومع أنّه يكفِي العقلاءَ في ردِّ هذه الفريةِ ما تواتر من شهاداتِ المنصِفين من غير المسلمين وما تقرّر من شهادةِ التاريخ على حُسن تعامُل المسلمين مع غيرهم في السّلم والحرب، وفي حال انتصارهم وحال هزيمتهم، إلاّ أنه ينبغي تجليةُ براءةِ الإسلام من الحقدِ الديني من خلالِ نصوصه الشرعية وأقوال أئمته وعلمائه المعتبَرين.
2- تلبيس مكشوف:
لقد اعترى مصطلحَ التعصُّب والتسامُح الدينيّ خلطٌ كبير وتدليسٌ وتلبيس؛ عن قصدٍ لدى المتعصّبين الحاقدين، وعن غير قصدٍ لدى الجاهلين المقلّدين. والغرضُ من هذا الخلط والتلبيس والتدليس هو سَلخ المسلمين عن دينهم باسمِ التسامُح وقَبول الآخر.
ألا فليُعلَم أنه ليس مِنَ الحِقد الدينيّ أن لا يتنازلَ الشخصُ عن قناعاته الدينيّة، كما أنه ليس من التسامُح الديني أن يفرِض قناعاتِه على غيره بقوّةِ الحديد والنار. فهنا أمران اثنان:
الأمر الأوّل: قناعاتُ الإنسان التي يؤمِن بها.
والأمر الثاني: تعامُل الإنسان مع من يخالفه في قناعاته التي يعتقدها.
وقاعدةُ الإسلام في هذين الأمرين أن يتمسّكَ المسلمُ بدينه ويعتزَّ به ويعتقدَ أنّه الدين الحقّ وأنّ غيره من الأديان باطل، وأن يرحمَ الغيرَ ويحسِنَ إليهم ويعدِل معهم ويعملَ على نجاتهم لوجه الله تعالى. فلا اضطهادَ للغير باسم التمسّك بالحقّ، ولا تنازلَ عن الحقّ باسم قَبول الغير.(4/129)
قال الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]. فانظر كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمرِ المسلمين بالتمسّكِ بالحقّ وهو توحيدُ الله تعالى والإسلامُ له وبالدعوةِ إلى ذلك وبين حُسن معاملة أهل الكتاب. ومِن بلاغةِ هذه الآية وجمالها أنه لم يأمر تعالى بالجدال بالتي هي أحسن فلم يقل: وجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وإنما نهى عن كلّ جدالٍ إلا الجدال بالتي هي أحسن، وهذا أبلغ في الأمر بمراعاة الأدب في النقاش والحوار والمناظرة، مما يدلّ على براءة الإسلام من التعصّب والحقد الدينيّ، وأنه ليس عنده إلا مقارعةُ الحجّة بالحجّة.
3- إن الدينَ عند الله الإسلام:
دندَن بعضُ المتعصِّبين والحاقدين على الإسلام وأهلِه حولَ قول الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، زاعمين أنّ هذه الآيةَ الكريمة تربِّي المسلمين على التعصُّب الدينيّ وكُره الآخَر، وهذا كلّه تشويه مكشوف واتِّهام مفضوح وبُعدٌ سحيق عن الموضوعية العلمية والتجرّد في النقد الذي يتغنّى به أمثال هؤلاء الحاقدين.
فليس في الآيةِ تعرّضٌ لموقفِ المسلم من غيرِ المسلمين وطريقةِ التعامُل معهم، وإنما فيها تقريرُ عقيدة المسلم التي يعتقِدها ولا يرى الحقَّ إلا فيها، وهي أنّ الدينَ الحقَّ هو الإسلام، وأنّ هذا الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وليس عيبًا ولا منقصةً أن يتمسّكَ الإنسان بما يراه حقًّا ويعتزَّ به ويتمدّح بالانتماء إليه ويقيم البراهين على أن لا حقَّ ولا نجاةَ إلا به، فمثلُ هذا الصنيع لا ينكره أحد، فكلّ صاحب مبدأ يعتزّ بمبدئه ويفتخر به ويقيم الأدلّة عليه ويدافع عنه، وهل أرسِلَت الرسل وأنزلت الكتب إلا لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل؟! فليس من الحقِّ ولا مِن العَقل أن يطالَبَ الإنسان باسمِ التسامُح ومحاربة التعصّب والحِقد الدينيّ أن يتنازلَ عن قناعاتِه التي يَرَاها حقًّا بل ويرَى نجاتَه فيها، وأن يعتقدَ أنّ الحقَّ الذي معه باطل، وأنّ الباطل الذي مع غيره حقّ؛ ولذا جاءت قاعدة الإسلام الخالدة تقرِّر ذلك بنصّ واضحٍ جليّ: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .
ومن تأمّل الآيةَ الكريمة بتجرُّدٍ وموضوعيّة أدرك أنها الحقّ الذي ليس وراءه إلا الباطل، وذلك أنّ الرسلَ والأنبياءَ كلَّهم لإلهٍ واحد، وهذه المقدّمة صحيحةٌ عند جميع أهل الأديان السماوية، وإذا كان الأمر كذلك فمن المستحيل أن يكونَ أصلُ دينهم مختلِفًا متباينًا، ولزمَ أن يكون دينهم متّفقًا في الأصل وهو توحيد الله تعالى والإسلامُ له وإن اختلفت الشرائع، ومن هنا يُعلَم صِدقُ قول الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ .
قال ابن تيمية: "ولفظ الإسلام يتضمّن الاستسلام والانقياد، ويتضمّن الإخلاص، مأخوذ من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ [الزمر:29]، فلا بدّ في الإسلام من الاستسلام لله وحدَه، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك... ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته"[1].
وقال: "وأما الإخلاص فهو حقيقةُ الإسلام؛ إذِ الإسلام هو الاستسلام لله لا لغيره... فمن لم يستسلِم له فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكلٌّ من الكبر والشرك ضدُّ الإسلام، والإسلام ضدُّ الشرك والكبر، وذلك في القرآن كثير؛ ولهذا كان الإسلام شهادةَ أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادةَ الله وحدَه وتركَ عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحدٍ من الأوّلين والآخرين دينًا سواه"[2].(4/130)
قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وقال تعالى: مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وقال: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ الهكَ وَاله آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الها وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:130-133]، في آيات كثيرة من القرآن الكريم.
قال ابن تيمية: "وهذا الإسلام هو دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم، كما وصف الله به في كتابه نوحًا وإبراهيم وموسى ويوسفَ وسليمان وغيرهم من النبيين"[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوةٌ لعلاّت؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد))[4].
قال ابن القيم: "شبّه دين الأنبياء الذي اتّفقوا عليه من التوحيد وهو عبادة الله وحده لا شريك له والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه بالأب الواحد لاشتراك جميعهم فيه، وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلهم... وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله من أولهم نوحٍ إلى خاتمهم محمّد، فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات فقد تختلف، فهي بمنزلة الأمّهات الشتَّى التي كان لِقاح تلك الأمهات من أبٍ واحد، كما أن مادّةَ تلك الشرائع المختلفة من دينٍ واحد متّفَق عليه"[5].
وقال ابن تيمية: "فدينهم واحدٌ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبَد في كلِّ وقتٍ بما أمَر به في ذلك الوقت، وذلك هو دينُ الإسلام في ذلك الوقت"[6].
4- قضيّة الولاء والبراء والحبّ والبغض:
إن أوّلَ غريزة في الإنسان هي حبُّه لذاته، وجديرةٌ هذه بأن تكونَ الأولى لأنّ بها حفظَ دينه وبقاءَ حياته، وهو بهذه الغريزةِ يحبّ من أحسن إليه ويبغض من أساء إليه بالجِبِلّة والخِلقة.
والمسلمون كأناسي لا يخرجون عن هذا القانون، فهم يحبّون من أحسنَ إليهم بل ومن يتوهّمون فيه الإحسان، ولا يبغضون إلا من يسيء إليهم وتدوم إساءته[7].(4/131)
فليس من الإنصاف أن تُلزِمَ الإنسانَ بحبِّ من يبغِضه ويؤذيه ويضرّه ويعاديه، بل أقلُّ درجات العدل أن تبغِض من يبغضك وتعاديَ من يعاديك، وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:119، 120]، وفي قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:1، 2]، وقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:57-59]، وقول الله تعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:9].
والمسلمون أيضًا بمقتضى الشّرع الذي يدِينون به يحبّون الحقَّ وأهلَه ويكرَهون الباطلَ وأهلَه. وهذا الحبّ الشرعيّ والبغض الشرعيّ ليس للذوات والأشخاص، وإنما لما يحملونه من خير وشرّ، ألا ترى أنّ ألدَّ الأعداء للإسلام والمسلمين ينقلِب أخًا محبوبًا إذا ترك ما كان عليه من الباطل والتزمَ الدينَ الحقّ؟!
إنّ المتعصّبين والحاقدين يسعونَ لتشويه مبدأ البراء والبغض للباطل وأهله، وذلك بتفسيرهم هذا المبدأَ بكلّ تصرّفٍ غير شرعيٍّ يصدر من بعضِ المسلمين، موهمين أنّ البراءَ من أهل الباطل هو اضطهادُهم والاعتداء عليهم وتخويفهم وترويعهم، وأن هذا هو مفهوم البراء في الإسلام، وما هذا في الحقيقة إلا توظيفٌ ماكر للتطبيقاتِ الخاطئة للإسلام من بعض أفراده، ومكمَن الخلل في هذا التفسير هو عدم الرجوع إلى الأصل الذي هو النصوص الشرعية التي هي العمدة في تقرير نظام الإسلام، وكذا عدم الرجوع إلى التطبيقات الشرعية النيِّرة التي سجّلها التاريخ بمداد من ذهب وسطّرها المنصفون من غير المسلمين، وما أكثرها منذ قيام دولة الإسلام إلى عصرنا الحاضر.
أما النصوص الشرعية فيقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].(4/132)
قال القرافي شارحًا معنى البر والقسط المأمور بهما: "الرفق بضعيفهم، وسدّ خلّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذِّلّة، واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالَتِه لُطفًا منّا بهم لا خوفًا ولا تطيُّعًا، والدعاء لهم بالهداية وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرّض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يُعانوا على رفع الظلم عنهم وإيصالهم إلى جميع حقوقهم"[8]. وقال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]، وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، وقال تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ [المائدة:5]، فأباح الله تعالى للمسلم الزواجَ من الكتابية المحصنَة، ولا يخفى ما يحصل بين الزوجين من المودّة والرحمةِ والألفة، وهذا لا يناقِضُ البُغضَ الشرعيّ لما تعتقده هذه الكتابية من المعتقدات الباطلة المحرَّفَة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلّفه فوقَ طاقته أو أخَذ منه شيئا بغير طيبِ نفس فأنا حجيجه يوم القيامة))[9]، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم صِلِي أمَّك))[10]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما))[11].
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة أن امنَع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكلِ أموالهم إلا بحلِّها.
والنماذج من حسن معاملة النبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده لأهل الكتاب كثيرة وكثيرة جدا، وهذا ما جرّ العالم الفرنسي غوستاف لوبون إلى القول: "رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آنفا أن مسامحةَ محمّد لليهود والنصارى كانت عظيمةً إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسّسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب... قال روبرستن في كتابه (تاريخ شارلكن): إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروحِ التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرًا لدينهم تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارًا في التمسّك بتعاليمهم الدينية"[12].
ومن أقوال فقهاء الإسلام في ذلك ما جاء في مطالب أولي النهى من تقرير حماية أهل الذمة من العدوان الخارجي وهذا نصه: "يجب على الإمام حِفظ أهل الذمة ومنعُ من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفعُ من قصدهم بأذى"[13]، وقال ابن حزم: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صونًا لمن هو في ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمَه دون ذلك إهمالٌ لعقد الذمة"، وحكى في ذلك إجماع الأمة[14]. فأيّ دين غير الإسلام يأمر أتباعَه بأن يفتَدوا أهلَ ذمّتهم بأرواحهم؟!
وقال القرافي: "فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيّع ذمةَ الله وذمةَ رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام"[15].(4/133)
وأما التطبيقات التي خلّدها التاريخ والتي تشهد بروح التسامح لدى المسلمين مع أتباع الأديان الأخرى فكثيرة جدا، نكتفي بإيراد قول سيرت. و. أرنولد حيث قال: "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة واستمر في الأجيال المتعاقبة نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"[16].
ويقول أيضا: "ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكفُّ عن ظلمنا وأحسن ولايةً علينا"[17].
5- خاتمة:
الحديث في هذا الموضوع في الحقيقة ذو تشعّباتٍ وفروع متعدّدة، والأدلة والشواهد من النصوص الشرعية والتطبيقات لها عبر التاريخ الإسلامي على براءةِ الإسلام من الحقد الديني كثيرة وكثيرة جدًّا، وكذا اعترافاتُ المنصفين من غير المسلمين الذين أمعنوا النظرَ في تاريخ الإسلام والمسلمين وتجرّدوا للحقّ وأدلَوا بشهاداتهم الصادقة للتاريخ، لا يرجون حفاوةً من المسلمين ولا مالاً، ولا يخافون منهم اضطهادًا ولا إذلالاً.
وفي مقابل ذلك لو استعرضَ المنصفُ المتجرّد اضطهادَ غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم لأتباع الأديان الأخرى تحت أيّ مبرّر من المبرّرات لرأى العجبَ العجاب من الوقائع التي اسودّت بها صفحاتُ التاريخ والتي ما يزال المسلمون يصطلون بنارها، وما فلسطين والعراق ولبنان عنا ببعيد.
حقًّا لا يصدق على هؤلاء المتعصّبين الحاقدين إلا المثل العربي المشهور: رمتني بدائها وانسلّت.
ويا عجبًا من زمنٍ ينقلِب فيه الضعيفُ الأعزل المعتدَى عليه مجرِمًا يشكّل خطرًا على الإنسانية، بينما المعتدِي المتفنِّن في أساليبِ القتلِ والدّمار يعتبرُ حاميًا للحرية والإنسانية!! وعزاؤنا أنّ الله سبحانه يعلم المفسد من المصلح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
-----------------
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (ص454).
[2] التحفة العراقية (ص41).
[3] رسالة في التوبة (ص234).
[4] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3443)، ومسلم في الفضائل (2365).
[5] بدائع الفوائد (3/719-720).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (ص455).
[7] آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (5/43).
[8] الفروق (3/15).
[9] رواه أبو داود في الخراج (3052)، وهو في السلسلة الصحيحة (445).
[10] رواه البخاري في الهبة (2620)، ومسلم في الزكاة (1003).
[11] رواه البخاري في الجزية (3166).
[12] حاشية من ص128 من كتاب حضارة العرب. ترجمة عادل.
[13] مطالب أولي النهى (2/602-603).
[14] مراتب الإجماع.
[15] الفروق (3/14).
[16] الدعوة إلى الله (ص51) ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي، وانظر: شبهات حول الإسلام (ص195).
[17] المراجع السابقة (ص53).
=========================
الأنوثة الفكرية ومأسيها
[الكاتب: عبد العزيز بن صالح الجربوع]
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، واصلي واسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}.
إن أمر العقيدة في ديننا عظيم وهائل، فهي في ذاتها عظيمة شامخة شموخ الجبال الرواسي فضلاً عما يترتب عليها من مصالح جمة لا يعلمها إلا الله، ولا يقدر قدرها إلا هو.
ولذا لا ينبغي أن تؤخذ إلا بالقوة، وأن تكون لها جديتها في النفس البشرية تأخذ طابع الصراحة والحسم، بعيدة عن الرخاوة، والتمييع والترخص، بل لا تعرف الرخاوة في الطرح سبيلاً إليها، ولا الأنوثة طريقاً إليها، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}، وهذا ناتج من ضعفها الأنثوي لحكمة أرادها الله، فمذ تكون طفلة وهي كذلك، وإذا خاصمت فلا عبارة لها بل هي عاجزة عيية، أو من يكون هكذا سيرفع لواء الإسلام عالياً خفاقاً، لو كان لجعل الله النبوة في بعض النساء، كيف وقد حاول فرعون عيب الدعوة والحط من قدرها على وقت موسى عليه السلام بقوله {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِين ُ}، وهي فرية وتهمة استغل هذه العقدة في لسان موسى حال الغضب للحق كما قال المفسرون، فكيف الآن بالعي العقلي المتمثل في طرح أصحاب "الأنوثة الفكرية"؟(4/134)
في هذا الزمن نجد من يجعل عقيدتنا وديننا في هذه الزاوية الضيقة زاوية الأنوثة في الطرح، والإسلام في قفص الاتهام، ونحن ندافع دفاعاً أنثويا هزيلاً لا يزيد على ترسخ الشبهة المطروحة.
لست أدعو إلى التشديد والتعنت والتعقيد والقبض هذا ليس من طبيعة أسلوب الدعوة، ولكن أدعو إلى الهمة العالية ونبذ همة الكسلان، أدعو إلى الجد والحسم والصراحة والفصل والمفاصلة فيما تجب فيه.
إننا إذا اعتبرنا كلمة الله هي الحق - وهي كذلك ولا شك - لم يكن لنا أن نحسب حساباً لأثر المواجهة مع كائن من كان، وليس بفرض لازم كسب أولئك الناكبين عن جادة الطريق ومحاولة إقناع أنفسنا أن بيننا وبينهم أرضيات مشتركة يمكن أن نلتقي وإياهم في منتصف الطريق أو آخره.
لست أوجه الحديث إلى من لا يؤمن بديننا وإنما إلى المسلمين الذين لا يقيمون ما انزل إليهم من ربهم كما أمر، حكاماً ومحكومين، علماء ومتعلمين، دعاة ومدعويين، مفكرين ومُفكرٌ عنهم، فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة لا تفيد إسلاما ولا تعطي صاحبها إيماناً، وليس لصاحبها صفة التدين في أي شريعة كانت.
إن الدين عند الله الإسلام نطقاً واعتقاداً وعملاً، فلا يكون الدين راية ولا شعاراً ولا وراثةً ولا غير ذلك من شعارات كاذبة، بل هو حقيقة تتمثل في الإعتقاد والعمل والقول.
هذه حقيقة يغفل عنها كثير من دعاة الفكر الأنثوي المحسوبين على الصف الإسلامي، إنهم يغفلون أنهم وفكرهم ما قاموا بشيء وما بلغوا شيئاً يذكر، بل ولا معشار ما بلغ من كان قبلهم، إذ لا يكون تبليغ الدعوة وإقامة الحجة على المدعو إلا إذا بلغناه حقيقة الدعوة كاملة غير منقوصة، ولا بد من أن يصف الداعية إلى الله ما هم عليه من خلل وتقصير وصفاً كاملاً كما هو في حقيقته بعيداً عن المجاملة والمداهنة، ونائياً بنفسه عن الدخول في متاهة المصالح الموهمة التي لم يعتبرها الشرع والتي لا وجود لها إلا في ذهنه.
إن النأي عن الكتاب والسنة وتسريح العقول في مجال الدعوة الحاصل من أصحاب "الأنوثة الفكرية" وإحجامهم عن منهج السلف في التبليغ هو في الإسلام، لا يعبر إلا عن خداع ومخادعة من يدعى إلى دين الله، بل أذية للمدعو ما بعدها أذية، لأنهم لم يعرفوه حقيقة الدعوة المطلوبة منه، فيفاجأ بعد ردح من الزمن أنه يكفر وأن دمه وماله حلال للإسلام والمسلمين، ناهيك أن الداعية لم يبلغ ما أمر الله به {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، بلغ ما انزل إليك لا ما استحسنه عقلك يا من تدعو إلى الله بزعمك.
وهذا التبليغ المطلوب منا لا بد أن يكون على ضوء {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين َ}، وإن لم يكن كذلك فلا بلاغ إذاً وإنما خداع لأنفسنا يذكرني بطائر النعام.
الأنوثة الفكرية:
هي تلك الطبقة من العلماء والدعاة والمفكرين الذين لا يعرفون من الإسلام إلا جانباً واحداً! جانب اللين والخضوع، وهم أولئك الداعون إلى اللين والتنازل ليس في الكلمة والفعل فحسب بل في الفكر والفكرة والطرح والبيان، ليناً تمجه الإناث قبل الذكور.
هم أولئك الذين سرحوا عقولهم وخيالهم بعيداً عن نصوص الشرع، بل تحرروا منها ومن دلالتها إلا فيما يخدم نحلهم و مصالحهم...
هم المجتهدون في مورد النص الشرعي...
وهم الثائرون على فقه وفهم السلف الصالح فقه الجمود والمحافظة كما يزعمون...
هم المفتاتون على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم...
هم اليائسون القانطون...
هم الذين نصبوا أنفسهم أولياء على الإسلام وأهله...
هم المضمدون للجراح على صديدها...
هم الحائرون والمنبهرون من هذه الحضارة الغربية وما وصلت إليه...
هم المعجبون برجل الحضارة الكافرة وحسن تعامله...
هم القائلون؛ الغرب أخلاقه إسلام بلا مسلمين، والمسلمون مسلمون بلا إسلام...
هم الداعون إلى إسلام الدراويش...
هم الذين يرون محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهم باردوا القلوب...
وهم الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين...
هم من لو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل، وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة!(4/135)
لقد دعاني إلى الكتابة عن هذا الفكر المنحط، هو ما نراه جميعاً على المؤلفات المطبوعة، وما نسمعه من، وما نراه في صفحات الصحف، والقنوات، وساحات الإفتاء، وشاشات الإنترنت، فكل يكتب، ويفتي في هذه المنتديات، التي أشبه ما تكون بسوق عكاظ إلا صاحبة المناهج المضيئة، فهذه حلقة فكرية وأخرى حوار ساخن وثالثة الرأي الآخر، وليس ثمة شرط أو مؤهل في السماح بالكتابة! سوي أن تعرف الإمساك بالقلم، وإن لم تحسن فلتملي، وليكتب المعتوه الذي عليه الباطل، فإن كان ضعيفاً أولا يستطيع أن يمل فليملل ربيبه ونظيره في الهبوط!
من إفرازات الأنوثة الفكرية:
لقد أفرزت لنا هذه الأنوثة الفكرية المبنية أحكامها على الحدس والتخمين والمتمثلة بمن يسمون أنفسهم علماء، ودعاة، ومفكرين إسلاميين إفرازات استشرى خورها وضررها في جسد امتنا الإسلامية، فعلى سبيل المثال والاختصار:
1) التلطف مع الناس في حقيقة الدعوة، حيث خلط هؤلاء بين اللطف في الأسلوب الذي يبلغ الداعية فيه المدعوين، وبين اللطف في حقيقة، وجوهر وصلب الدعوة، فالأول يتبع فيه المصلحة والمفسدة، والمقتضيات القائمة، وطبيعة المجتمع، وعاداته وتقاليده، والثاني لا يجوز الاجتهاد فيه البتة بل قد يؤدي الاجتهاد فيه إلى الكفر، إذ يجب أن تبلغ الحقيقة كاملة غير منقوصة وهذا الخلط بسبب إغراقهم في اللين ليناً ما أنزل الله به من سلطان.
2) ضياع العزة التي كان أسلافنا يتمتعون بها، بل تاهت هويتنا وسط هذا الركام الهائل من الأفكار السافلة والمعتقدات الخبيثة، وأصبح العلج من الكفرة فضلاً عن المرتدين من أبناء جلدتنا يمشي بين أظهرنا متبخترأ، متكبراً، شامخاً بأنفه، ونحن الأذلة المنكسرين! كل ذلك بسبب من يا ترى؟!
3) انتشار قاعدة تجميع الناس تحت الحد الأدنى من الدين، بمعنى آخر اعتبار كل خلاف، حتى لو لم يكن له حظ من النظر، بل يجب الاعتداد به، حتى خلاف التضاد، فلو قتل المسلم بالكافر! قالوا نعم قال بذلك أبو حنيفة، ولو شرب الرجل الخمر!قالوا لا يحد الأمر طبعي فالمذهب الحنفي يجيز شرب النبيذ فيما زاد على ثلاثة أيام! ومن سب الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم!لا غضاضة مالم يقصد في قلبه!
وبهذا أفقدوا الدين ونصوصه الشرعية، صفة المصداقية والقطعية في الحكم حتى يتفق الرجال على ذلك، فالدين مرتبط بتوقيعهم لا العكس، فنعوذ بالله من الخذلان.
4) إعطاء من يسمون "ولاة أمر" في العالم الإسلامي صفة الفوقية على النص الشرعي، حتى قال أحدهم؛ إن لولي الأمر أن يخصص دلالة النص الشرعي إن كان عاماً للمصلحة! وذلك نظير تطبيقه لبعض أحكام الإسلام واطراح الباقي، جعلت له هذه الخاصية!
5) جعل الإسلام دوماً خلف قضبان الاتهام، والإسلام يُسأل ولا يسأل، ومن ثم الدفاع عنه دفاعاً أهوجاً ممجوجاً لا يخدم الدعوة، بل يوهنا أيما إيهان، ويزيد الأمر ضغثا على إبالة، ورحم الله محمد قطب حيث أخطأ في كتابه شبهات حول الإسلام ولو لم يكن من خطئه إلا العنونة للكتاب بهذا العنوان لكفى، فضلاً عن أنه الأس في الفكر الأنثوي.
وإليكم ثمة قضايا جعل الإسلام فيها متهماً يتلمس له العذر عن الطواغيت، فمثلاً:
أ) قضية الجهاد: عندما ضج الغرب منه وضجر وخاف وقال الغرب إن الإسلام يكره الناس على الإيمان! وهذا فيه مصادرة صارخة للحريات، في هذا الخضم قام أصحاب الأنوثة الفكرية بالدفاع عن الإسلام المتهم، قائلين أبداً هذا غير صحيح! الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن النفس، والجهاد عندنا منعطفا نلجأ إليه! وهو بمثابة الهبوط الاضطراري الذي يضطر إليه الطيار، كما قال، البوطي، و هويدي، وراشد الغنوشي، وغيرهم كثير، لقد اطرحوا وراءهم قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون}، وكأنها ليست آية في كتاب الله، عجزوا أن يأخذوها بقوة ويأمروا قومهم بأحسنها.(4/136)
ب) قضية الولاء والبراء: التي لاكتها ألسن الغرب قائلة ما هذا العداء لنا والكره، وما هذا البغض والنفرة؟! ولذا تجد كثير من هؤلاء المفكرين والمنظرين للصحوة الإسلامية كاد أن يلغي قضية الولاء والبراء من الواقع الدعوي بل قاب قوسين أو أدنى، فتارة النصارى إخوانه وتارة أخرى يقرر أن العداوة بيننا وبين اليهود والنصارى اقتصادية لا دينية، فهو ضد التوجه الداعي إلى إعلان العداوة لهم والتبري منهم ومما يعبدون من دون الله زاعماً أن هذا لا يخدم الدين والقضايا المشتركة، فالإسلام أباح أن تكون أم المسلم يهودية، وزوجته نصرانية، بل أم أولاده لا غضاضة أن تكون يهودية! أو نصرانية كذلك! وعلى قول مشركة أو وثنية! ومرة يترحم على القاديانية والإسماعيليةـ يذكر صلاحهم، وما ذنبهم إن هم فهموا الإسلام هذا الفهم، فليس من حقي تكفيرهم، وإن فعلت فهذا افتيات على الإسلام! هذا ما يزعمه ويدعيه القرضاوي وهويدي في محاضرة له في لندن، فضلاً عن الرافضة وأنهم مؤمنون محض الإيمان الخالص، 100 مليون يكفرون؟ لا... لا... لا يجوز، لذا تأثر بهم وبفكرهم رموز الصحوة وأعيانها في هذا البلد!
لأن الإسلام في نظر هؤلاء عندما يخاطب الكفار يركز على القضايا المشتركة بيننا وبينهم، فها هو هويدي في مقال له نشر في مجلة المجلة بعنوان "البحث عن المشترك مع الآخر فرض عين على كل مواطن"، وبين ثنايا المقال من الكلام الكفري ما الله به عليم!
وفي مقال آخر في نفس المجلة قال: (تحية إلى النقشبندية قادة النضال في الشيشان)، وقال: (فالحفاوة بها واجبة)! لذا وصل الأمر بأحدهم أن لا يرى غضاضة في بقاء المسلمة تحت اليهودي أو النصراني.
وينبري في الساحة رموز الصحوة ومنظريها للدفاع عن هذه الشرذمة الضالة بكل بسالة وشجاعة حياء أو تخفر كما هو رأي القرضاوي و هويدي وكثير من الكتاب المحسوبين على الإسلام، ولكن لو كان الخلاف في أمر دنيوي، أو غيره مع أحد اخوته، ممن يحاول تلمس منهج السلف والإقتداء بهم، لرأيت كيف يزمجر ويتحدث عن مسألة الولاء والبراء، والهجر، والمفاصلة، والعزة والأنفة، ولرأيت الإنكار على أخيه ومحاربته له!
فهذا القرضاوي ماذا فعل بروجيه جارودي عندما أخطأ عليه، وقبل ذلك كان هذا الخبيث روجيه جارودي يخبط في الإسلام خبط عشواء، ويسميه القرضاوي وغيره الداعية الإسلامي الكبير، والصواب أن روجيه كافر، إذ يقول عن نفسه؛ أنا لم اسلم ولكن جئت إلى الإسلام وإلى توحيد الأديان! وذلك في محاضرته بعنوان "إسلام القرن الحادي والعشرين"، التي نقلت تفاصيلها مجلة "المجلة" الخبيثة [عدد 839، تاريخ 16/31996م].
لذا قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين [2/177]: (إن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا، والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله؛ بذل وتبذل، وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة، بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل) أ.هـ
وهذا الصنف الذي ذكر ابن القيم هم الذين تعج بهم الساحة والأوساط الدعوية في هذه الأيام، وهم حريصون على كسب عداوة أصحاب التوجه السلفي فلا يتورعون في تدبيج المؤلفات في نقدهم والحط من قدرهم! بل لا يمانعون من رفع الدعاوى القضائية ليصدر أحكام صارمة في حق إخوانهم، وإخوانهم من أصحاب هذا التوجه "أصنام" لا تحمل طهر الصنم و "نكرات" تتسنم المنابر، وفي مقابل هذا الحط من قدر إخوانهم، يحاولون كسب أي طرف آخر! حتى لو كان كافراً أو مرتداً! من باب الدعوة كما يزعمون، ويطرحون قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين}، وإن يكن من دفاع عن أحد أو الوقوف معه فلأنه وافقهم في فكرة أو جملة من الأفكار، فليس الولاء له إلا بحسب ما يوافقه فيه، فإن كثر زاد الولاء وإن نقص بحثوا في مسألة البراء.
ج) الدعوة إلى توحيد الأديان والمقاربة بينها: فهذا عمر نصيف يحضر المؤتمرات تلو المؤتمرات المعنية بهذا الأمر، وكذا القرضاوي عندما رأس المجلس الأوربي للإفتاء دعاء لذلك! وما كنا نسمع بذلك حتى ظهر هذا التوجه الفكري الأنثوي.
د) قضية المساواة بين الرجل والمرأة: وأن الإسلام مايز بينمها فكيف يكون ذلك؟! وهو دين العدل والرحمة!(4/137)
فقام الوكلاء عن الإسلام من أصحاب التوجه الفكري الأنثوي يصرخون ويقولون؛ لا... لا... لا... الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة، الإسلام لم يفرق بينهما إلا في الميراث، وذلك لضرورة النفقات، وأما تغطية الوجه للمرأة دون الرجل فإن في الإسلام مذهباً يجيز كشف الوجه للمرأة مثل الرجل، وقد يكون هو الراجح، بل هو كذلك في كثير من البلدان، هل عرفتم الآن أن الإسلام يساوي بين الرجل والمرأة، وأنه من هذه التهمة براء، وأنه مسكين ومظلوم!
لم يستطع أصحاب هذا الفكر الموبوء أن يأخذوا الأمر بقوة ويأمروا قومهم أن يأخذوا بأحسنه، لم يستطيع أولئك أن يقولوا؛ نعم، الإسلام مايز بين الرجل والمرأة وهذا حكم الله تعالى، {وليس الذكر كالأنثى}، {وللرجال عليهن درجة}، فهذا أمر الله الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم وبطبائعهم، {لا ُيسأل عما يفعل وهم يُسألون}، فالمرأة تحمل والرجل لا يحمل، والمرأة تحيض والرجل لا يحيض، والمرأة ترضع والرجل ليس كذلك و... و... و... فهلا دعوتم يا دعاة المساواة بأن تساوى المرأة بالرجل في مثل هذه الأمور! أم أن هذا خارج عن قدرتكم وإمكاناتكم؟! فكذلك ما تدعون إليه سواءً بسواء!
هـ) قضية الحدود الشرعية سواء القتل أو الجلد أو التعزير: وما أثير حولها من الغرب، ماذا كان دفاع تلك النابتة؟! لم يكن سوى أن الإسلام يُهَاجَمُ، وأولئك يقرون بالهجوم، ولكن يبررون لماذا الإسلام قرر ذلك، ولم يأخذوا الأمر بقوة قائلين؛ هذا هو الدين من عند الله فمن ابتغى غيره فلن يقبل الله منه، وهذا الدين له استقلاليته فيما يشرع ويأمر به وينهى، والأتباع ليس لهم سوى السمع والطاعة المطلقة التي أوجبتموها للأوامر العسكرية الصادرة من البشر المأفونين فقلتم؛ الطاعة العمياء، وحرمتموها على الإسلام الذي هو من عند الله، ولكن {وما قدروا الله حق قدره}.
و) قضية حرب الإسلام للغرب: والتحذير منهم وأنهم شر الملل والنحل لا يجوز مساكنتهم ولا مواكلتهم و... و... و... فلما ضجر الغرب من ذلك انتقد الإسلام في هذه القضية، فهب أولئك النابتة - الأنوثة الفكرية – قائلين؛ نعم... هذا خطأ، ولا نظن من المصلحة ولا من الأمانة أن يستمر الخطاب الإسلامي في مواجهة هذا التحدي الغربي مقتصراً على الهجوم والتذمر والإدانة لما يجري اليوم في العالم وإنما نريد أن نواجه هذا الواقع العالمي بعقلانية ومسؤولية وأن...
وهذا الطرح من محمد التكروري يلقيه على مسامع القرضاوي وهويدي والغنوشي، وقال هويدي؛ إن الإسلام لا يرفض الغرب إطلاقا، بل حتى عقائده يعترف بها ويقرها، وإنما نرفض أخلاقه، وخصوصاً الكيل بمكيالين! لذا لم تأتي مسألة معارضة القرضاوي لهدم الأصنام في طالبان من فراغ، بل من منهج يسار عليه بخطى مدروسة وموزونة، ليس فيها من عيب عندهم، إلا عجلة بعض أصحابها في تطبيقها، لذا قال القرضاوي: (قال لي بعض الاخوة، الله دا الشيخ أصبح تقدمي!)، فقال الغنوشي الخبيث وكان بجانبه: (قل لهم أنا تقدمياً ولست رجعياً)! والرجعي يا اخوة في عرف هؤلاء هو من يأخذ بكتاب الله وسنة رسول الله ويرجع إلى السلف في فهم الكتاب والسنة.
هـ) ومن ذلك خروج طبقة في مجتمعنا الإسلامي يدعون إلى الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه: ولكن بالرواية الهابطة، وبالقصة المنحطة أخلاقيا، فضلاً عن خروجها عن آداب الدين وتعاليمه، زاعمين أن هذا خير عظيم، فالغرب تنتشر أفكاره ومبادئه بالقصة الكاذبة، والرواية المفتعلة الرخيصة، فلماذا لا نكون كذلك؟ فهرع القصاص والروائيون يكذبون، ويختلقون ويسودون الأوراق البيضاء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، حتى وصل الأمر بهم إلى وجوب تمثيل هذه الروايات المكذوبة، والقصص الهابطة فانتقلوا من مرحلة الرواية التي يجوز فيها الكذب إلى الفعل الذي لا يجوز فيه الكذب كما هو مقررٌ عندهم سابقاً، فبحثوا عن من يفتي لهم بالجواز، مع إدخال العنصر النسائي في التمثيل فوجدوا من يوجب ذلك! القرضاوي، وعبد القادر طاش.
فأفتى الأول بوجوب التمثيل ليس للعنصر الرجالي فحسب بل النسائي، شريطة أن لا تركز الكاميرا على مفاتن المرأة، فإن من أعظم أسباب تأخر الأمة، خلو الساحة من الممثلات المسلمات! وقام الثاني بتنظير مسألة السماع للغناء والإفادة من العلمانيين في هذا المجال مجال الإعلام، ومن قرأ المقابلة السمجة التي أجرتها مجلة المجلة مع عبد القادر طاش صاحب قناة "اقرأ"، علم العقلانية التي يسير عليها الرج،ل بل والله الجهل المقيت بالدين، إذ يقول في إجابة سؤال طرح عليه مفاده، لماذا قناة اقرأ تستضيف العلمانيين؟ فقال العلامة عبد القادر طاش!؛ أظن أن من النقاط التي تؤخذ على الإعلام الإسلامي عدم تحاوره مع الرأي الآخر، ثم قال؛ إن واحداً من أسباب الأزمة التي تعيشها امتنا في اكثر من موقع هو عدم استيعاب بعضنا مفاهيم الاختلاف، وعدم اتساع صدورنا للرأي المختلف.
أريتم كيف أصبح الكفر رأيا، وكيف نعاتب لماذا لا تتسع صدورنا لهذا الكفر!(4/138)
بل وصل الأمر به أن يقر أننا يجب أن نقف وإياهم أمام عدوان الأكبر، اتدرون معشر القراء من هو العدو الأكبر في نظره؟! اليهود والنصارى؟ لا... لا... الشيوعية ودعاتها؟ لا... لا... الأمية والتعصب والتواكل، هذا هو العدو الأكبر عند طاش!
ولما سئل عن الموسيقى في القناة؟ قال: (نعم لا تخلو بعض مقدمات البرامج من خلفية هادئة أو مؤثرات صوتية يتطلبها الإنتاج) - قلت يتطلبها اتباع الغرب - قال: (وإن كان موضوع الموسيقى قضية خلافية، فعذرنا أننا نسعى إلى تحقيق أهداف سامية وتقديم رسالة نبيلة مفيدة ونافعة وخيرها كثير! إذاً الغاية تبرر الوسيلة)!
لقد ذكرني قوله هذا بقول شيخه القرضاوي: (أنا ادعو إلى الإختلاط المحتشم).
ليست البلية في هؤلاء الرعاع وإنما البلية بمنظري الصحوة ورموزها في مجتمعنا الذين ما فتئوا يدافعون عن هؤلاء الشراذم ويغررون الأمة بهم ويخدعونها عندما يقولون عن هؤلاء الحثالة؛ مفكرين وعلماء ودعاة، بل قال أحدهم؛ تسألون من القرضاوي؟! من انتم؟! القرضاوي هو الإسلام! أواه... لو كان المخالف لهم من أصحاب التوجه السلفي حيث ينسفون قاعدتهم المشهورة التي قدموها على القرآن والسنة؛ "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه"، بل ينسفون جميع مبادئهم ليتخلصوا من الفقه المحافظ والجامد.
لقد دار بيني وبين أحد المسؤولين عن أحد المنتديات نقاش هادىء ختمته بالسؤال الأتي؛ لماذا صدوركم لا تستوعب المخالفين لكم من أصحاب التوجه السلفي؟! فقال: لأنهم هم البلاء، وهم الذين ينقبون فيستطيعون إظهار البلايا، وهم أصحاب حجة وبيان ودليل يصعب احتوائهم، قلت له: بل لا تتوفر فيهم التبعية المطلقة التي تنشدونها من الناس جميعاً!
وغير ذلك من القضايا، تتعدد بتعدد ظروفها واختلاف ملابساتها...
المهم؛ إلى متي يستمر هذا الدفاع الهزيل؟! متى ينتقل الإسلام من الدفاع إلى الهجوم؟! متي ننتقل من هذه المرحلة الهشة النخرة إلى الطرح المؤصل بقوة، والتنظير المدعم بالأدلة؟! إلى متى سياسة الانبطاح؟! متى نقول للكفرة وللملحدين والمرتدين، لكم دينكم ولي دين؟! لماذا دوماً الإسلام في قفص الاتهام؟! ولا يدافع عنه إلا ذلك المأفون؟! هش الفكر والفكرة! أنثوي الطرح والتعقيب، نخر الفؤاد والجنان!
قد يقول قائل: (الدين متين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)!
أقول: هذا فيما يخصك من عبادات بدنية أو مالية تريد القيام بها، واما ما يخص الدعوة والدفاع عن الدين فهي ضمن قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
ولكن ما المقصود بهذه الآية، قال القرطبي: (هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين... إلى آخر ما قال).
وعلى أنها محكمة غير منسوخة - وهو الصواب - فإن الحكمة في موضعها، فمن المقام ما يناسبه القسوة والزجر:
قسى ليزدجروا ومن يكن ...
حازما فليقس أحياناً وحينا يرحم
إن مقام الدعوة يختلف باختلاف الظروف والأجواء، فإن من الظروف لا يصلح فيها إلا اللين، ومنها ما لا يصلح فيها إلا الشدة والقسوة، وباطل كل البطلان التعميم من غير دليل! وإلا فما معنى قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف ورجم المحصن وجلد شارب الخمر وقتال البغاة وصلب قطاع الطريق و... و... و...؟ هذا في حق المسلمين، وفي حق الكافرين شرع قتالهم وجهادهم ومنابذتهم وعدم مجالستهم، أو بدئهم بالسلام، بل إذا رأيناهم في طريق نضطرهم إلى أضيقه ونحاول أن نذلهم قدر المستطاع، كما هي وصية عمر رضي الله عنه، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، بل أين نحن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) [البخاري]؟
إن سياسة الانبطاح للريح، والتي تقول؛ إذا واجهتك الريح فانحني لها لكي لا تسقط، هي سياسة هوجاء، لأني كما قلت؛ من ينحني للريح مرة ينحني مرات، ولئن تصطدم بك الريح فتخر صريعاً على قامتك خير من أن تسفي عليك الريح ما تسفي من الرمال وأنت منبطح لها حتى تموت مدفوناً غير محزون عليك.
نصيحتي؛ أن يتقي الله أصحاب "الأنوثة الفكرية" ويتحرورا من ربقة الانهزامية المقيتة، وذل اليأس المشين، فما علينا إلا أن ندعو إلى الله كما أمرنا، وعلى المولى الهداية، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.(4/139)
لقد عاتب الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في غمه الشديد الذي حصل إزاء رد قريش لدعوته، فقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، هذا ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يغير ملامح الدعوة ولا معالمها ولم يأتي بشيء من عنده، فما بالكم بمن جعل نفسه وصياً على الإسلام يختار منه ما يشاء ويرد منه ما يشاء، تمشياً مع أهل الوقت، وما تفرضه المصلحة المزعومة.
لا زلت أذكر نقاش الهالك رفعت المحجوب عندما كان رئيساً لمجلس الشعب المصري عندما أجاز الربا، فرد عليه المرشد العام للإخوان، قائلاً؛ هذا توسع في المصلحة ولا يجوز، فقال له الهالك؛ هو كتوسعكم في المفسدة، فسكت المسكين!
ونصيحتي للصحوة؛ أن تتقي الله ولتعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال وأن يتمسكوا بحبل الله المتين ويعتصموا به، إذ أمرنا الله بذلك ولم يأمرنا بالاعتصام بالرجال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الاقتضاء": (وصف الله اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به، والداعي إليه فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم).
وقال: (وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلا ما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا، رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه وسلم).
نصيحتي لهم؛ أن يوفروا جهدهم المستفرغ بالدفاع عن الرجال الذين أخطأوا على منهج الإسلام ويجعلوا جهدهم في خدمة النص الشرعي والذود عنه، حتى لا تضيع معالمه بيننا، فلئن ضاعت فعلى الأمة السلام... نصيحتي للصحوة؛ أن نُعَبِدَ الناس لـ "قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم"، لا لآراء الرجال المنقوصة، وهذه طبيعة البشر النقص...
نصيحتي؛ أن نقف عند النص الشرعي ونعمل بمعطياته، علّ الله أن يرفعنا من ذات الصدع إلى ذات الرجع.
ورحم الله عبد الله بن رواحة عندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في المسجد يقول للناس: (اجلسوا)، وكان عبد الله خارج المسجد لم يصل الباب بعد، فجلس لتوه قبل أن يدخل المسجد، في الرمضاء تحت وهج الشمس وأشعتها المحرقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رواحه: (ما حملك على هذا؟!)، فقال: (يا رسول الله سمعتك تقول اجلسوا فما طابت نفسي أن أتخطى أمرك!!).
الله المستعان أين نحن من هذا الجيل الإيماني الفريد؟!
اللهم انصر كتابك وسنة نبيك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبه؛ عبد العزيز بن صالح الجربوع
14/8/1422هـ
=================
... ... ================ ...
نحن والغرب
[الكاتب: محمد قطب]
حين تكون المقدمات كلها صحيحة، فينبغي أن تؤدي إلى نتيجة صحيحة..
ما دام الإسلام هو القوة التقدمية الهادية المرشدة إلى الطريق الصحيح.. وما دامت الحضارة الغربية تشتمل على كل هذا القدر من الانحراف والردة إلى عالم الحيوان.. فقد كان ينبغي أن نكون نحن - المسلمين - في مقعد القوة والتمكن والتقدم والحضارة والسلطان، والنظافة الكاملة في التعامل والأخلاق، والترابط في المجتمع، ويكون الغرب في مكان الضعف والذلة والهوان.. ولكن الأمر الواقع هو العكس. فالغرب ليس قوياً فقط، وليس " متحضراً " فحسب، بل إنه في معاملاته الفردية نظيف نظافة ملحوظة، مستقيم استقامة واضحة.. قلما يخدع الإنسان منهم غيره، أو يغشه، أو يحاوره أو يداوره. أو يكذب عليه في مجال التعامل اليومي، وفوق ذلك يخلص في عمله ويتقنه ويضع فيه كل جهده.. بينما نحن - المسلمين! - نغش ونخدع، ونحاور ونداور، ونكذب وننافق، ولا نخلص في عملنا ولا نتقنه ولا نضع جهدنا الحقيقي فيه.
دين بلا نظافة.. ونظافة بلا دين!
تلك هي الصورة التي تربك أفهام الأجيال الناشئة في العالم الإسلامي فتصرفها عن الإسلام!
وهي لا تنصرف عنه تلقائياً.. وإنما بذل جهد جهيد خلال القرن الماضي كله وما يزال يبذل في هذا القرن للوصول إلى هذه النتيجة..
جهد جهيد بذله المبشرون والمستشرقون.. ثم تلقفه منهم " تلاميذهم " المسلمون (!) في الشرق الإسلامي، فأخذوا يرددون الأسطوانة ذاتها، ولا يملون من ترديدها ليصلوا في أذهان الأجيال الناشئة إلى الربط بين هذه " الحقائق " الظاهرية.. لتصل إلى النتيجة المطلوبة..(4/140)
المبشرون بادئ ذي بدء كانوا يقولون إن الإسلام رجعي متأخر.. بدليل التأخر والرجعية المخيمة على أهله. والمسيحية تقدمية متحضرة.. بدليل الحضارة والتقدم الموجود في الغرب المسيحي.
والمستشرقون على آثارهم [وهم بقية منهم لبسوا مسوح البحث " العلمي " ليخفوا وراءها مسوح التبشير] قالوا إن سر التأخر والرجعية كامن في الإسلام ذاته. فهو - بذاته - الذي قاد أهله إلى الانحطاط والتأخر، لأنه جامد لا يتطور ولا يسمح بالتطور! [ولعلهم يقولون أيضا إنه يدعو إلى الجهل وعدم الأخذ بأسباب القوة!!].
ثم جاء تلاميذهم من " المسلمين ".. من " قادة " الفكر والصحافة والأدب والسياسة يقولون: هلم ننبذ تعاليم هذا الدين الرجعي الجامد المتأخر.. لكي نتحضر. لكي نصبح مثل أوربا لكي ننال العلم والقوة والتقدم والسلطان.
والتقت تلك الإيحاءات السامة كلها في نفوس الأجيال الناشئة في العالم الإسلامي، لتؤدي إلى نتيجة معينة: نحن متأخرون لأننا مسلمون وأوربا متحضرة لأنها ليست مسلمة!
ثم دار الزمن دورة واختفت من الأفق أقوال المبشرين المباشرة.. فقد احتجبوا عن العمل المباشر بعد أن اطمأنوا إلى قيام تلاميذهم " المسلمين " بالدعوة بدلا منهم، واطمأنوا إلى سياسة الدولة التعليمية التي أوحوا بوضعها عن طريق الاستعمار الذي كان بيده مقاليد الحكم والتوجيه.. سياسة لا تعلم الناشئة شيئاً عن حقيقة الإسلام، وإنما تعلمهم بدلا منه أوربا وحضارتها وتفوقها الساحق.. وتعلمهم كذلك شبهات حول الإسلام يتسرب إلى أفهامهم تأثيرها المسموم بوعي أو بغير وعي. واطمأنوا كذلك إلى دور المدارس الأجنبية وما تحدثه من آثار سامة في تحطيم عقائد المسلمين، وليّ أعناقهم إلى أوربا و " الحضارة " الأوربية.. واطمأنوا أخيراً إلى تكبير تلاميذهم وتضخيمهم حتى يصبحوا هم قادة الفكر والتوجيه ويصبح في أيديهم من السلطان ما يكفي لتثبيت ذلك التوجيه..
واختفت كذلك من الأفق حملة المستشرقين المباشرة على الإسلام، التي كانت على أشدها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ ظهر للمستشرقين بالتجربة العملية أنها أدت إلى عكس الغرض المطلوب، إذ أيقظت المسلمين من سباتهم، ووجهت مشاعرهم وعقولهم وأقلامهم إلى الدفاع عن الإسلام. فظهرت عشرات من الكتب أو مئات تدافع عن الإسلام. وكان في هذا خطر عظيم على الهدف المنشود من وراء حركة الاستشراق. خطر صرح به المستشرق المعاصر " ولفرد كانتول سميث " في كتابه " الإسلام في التاريخ المعاصر Islam in Modern History " حيث يقول في أكثر من مكان في كتابه: إن الحركة المتحررة التي قادها الكتاب المتحررون، والتي اتجهت إلى نقد الدين، كانت كفيلة بأن تؤتي ثماراً طيبة. لولا أن حركة " الدفاع " عن الإسلام قد حالت دون هذه الثمار!!
لذلك اتجه المستشرقون إلى وسيلة أخبث، تنوّم المشاعر للسموم بدلا من أن توقظها للخطر الماثل، وهي البدء بتمجيد الإسلام وتعظيمه، وإعطائه حقه المنصف، حتى إذا استرخت أعصاب القارئ المسلم على المديح، واطمأنت نفسه إلى " نزاهة القصد والضمير العلمي! " في هذا المستشرق أو ذاك، دس له السم في العسل، ووضع في خلال المديح والتمجيد ما يشاء من التشويه والتشكيك، وهو مطمئن إلى مفعوله الأكيد! ثم.. الإيحاء - بل التصريح - بأن الإسلام كان عظيماً ونافعاً وتقدمياً أيام زمان! أما اليوم فهو عقبة في سبيل التقدم، ولا مجال لهذا التقدم إلا بالأخذ بوسائل الغرب في كل شيء [انظر كل كتب المستشرقين المعاصرين! وبصفة خاصة كتاب " جب " " الاتجاهات الحديثة في الإسلامModern Trends in Islam " وكتاب " جرونيباوم " " الإسلام... " وكتاب سميث المشار إليه " Islam in Modern History "].
اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على يد أولئك " التلاميذ " المخلصين من " المسلمين! ".
إن أوربا اليوم متقدمة.. وهي ليست متدينة!
لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان!
ونحن متدينون (!).
وفي الوقت ذاته متأخرون!
فينبغي أن نسلك الطريق القويم.. ننبذ ديننا - كما فعلت أوربا - فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة!
وتلك هي خلاصة السموم كلها التي وضعها التبشير والاستشراق والاستعمار!!
* * *
ولكن.. بغض النظر عن هذه القصة الطويلة التي استغرقت قرنين من الزمان، فإن هناك واقعاً ملموساً ينبغي تبين أسبابه: واقع القوة والتمكن و " النظافة " الحسية والمعنوية في الغرب في المعاملات اليومية [بصرف النظر عن شئون الجنس!] ووقائع الضعف والتخلف و " القذارة " الحسية والمعنوية في الشرق " الإسلامي " [بالإضافة إلى انتشار الفساد الخلقي في شئون الجنس!!].(4/141)
هذا واقع ينبغي تبين أسبابه، لتتضح القضية في أذهاننا على حقيقتها، وتتضح الصلة بين المقدمات التي قدمناها كلها وبين الواقع.. وإلا فقدت دلالتها الحقيقية وأصبحت غير ذات موضوع!
* * *
هذا الواقع.. حقيقةٌ مضللة!
وظاهر هذه الحقيقة يقول: هناك دين بلا نظافة [في الشرق] ونظافة بلا دين [في الغرب].
وباطن الحقيقة ليس كذلك!
والمرجع هو التاريخ...
إن أوربا اليوم ليست متدينة.. بمعنى أن الدين لا يحكم الحياة. لا يحكم واقع المجتمع، ولا يحكم الاقتصاد والسياسة، ولا يحكم التعليم، ولا يحكم التوجيه الفكري للناس. وإن كان - فيما عدا هذا - قد يسيطر على مشاعر الناس لحظات في داخل الكنيسة، أو الاحتفال بقديس من القديسين أو.. في التأثر ببعض الأساطير!!
ولكنها دون شك لم تكن كذلك قبل قرون..
يومئذ كانت العقيدة في النفوس أرسخ، وتوجيهها للحياة أشد..
وربما لم تكن أوربا في يوم من الأيام مسيحية بكل معنى الكلمة. فقد ظلت في أعماق الضمير الأوربي - تحت القشرة المسيحية - رواسب عميقة من آثار الفكر اليوناني والحضارة الرومانية الوثنيين، يوجهان جوانب من الحياة الأوربية بوعي أو بغير وعي.. ولكن هذا لا ينفي أن العقيدة المسيحية كانت هي الغالبة في القرون الوسطى.
ثم ضاق الناس بكنيستهم لأسباب عدة:
كانت الكنيسة قوة طاغية غاشمة تفرض على الناس الإتاوات والعشور وترهقهم من أمرهم عسراً.
وكانت تفرض عليهم الخضوع المذل لرجال الدين.
وتفرض عليهم أفكاراً " علمية " مزيفة، باسم أنها كلمة السماء. فإذا أثبت العلم التجريبي والنظري كذبها راحت الكنيسة تحرق العلماء وتعذبهم كما فعلت بكوبرنيكوس وجاليليو وجوردانو برونو لأنهم لم يوافقوا على نظريتها في شكل الأرض ومركزها من الكون.
إلى جانب ذلك مهزلة صكوك الغفران التي تحول الدين إلى سخرية لاهية ضخمة، وتنزع عنه كثيراً من جديته وقداسته.. وكذلك الفسد الخلقي الذريع الذي كان يمارسه " رجال الدين! " متسترين وراء مسوح الرهبان، مما يعف عنه الفرد العادي غير المتمسك بأهداب الدين!
كل ذلك أحدث انفصاماً بين الدين وحياة الناس.. وعزل الدين من الواقع الحي إلى داخل الوجدان.
ثم حدث حادث ضخم في الحياة الأوربية ترتبت عليه آثار في غاية الخطورة. وهو الحروب الصليبية.
ففي تلك الحروب التي انهزم فيها الأوربيون - المسيحيون - في كل حرب تقريبا، وفي النهاية الحاسمة كذلك - تيقظ أولئك الغربيون إلى أمر حاسم: لا بد أن يكون في حياتهم أخطاء واختلالات أدت بهم إلى الهزيمة المنكرة، ولا بد أن يكون في حياة المسلمين من أسباب السلامة والقوة ما مكنهم من الانتصار.
ومن هذه اليقظة تولدت " النهضة " الأوربية.. في كل مجال.
نهضة علمية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وفكرية، وروحية.. الخ.
" لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية [148]. على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية. فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون، في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متميزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره: أي في العلوم الطبيعية، وروح البحث العلمي ". [بريفولت في كتاب " بناء الإنسانية Making of Humanity "].
وعلى الرغم من اهتمام الرجل بالعلوم، وروح البحث العلمي - وما لهذا من دلالة في النهضة الأوربية المعاصرة - فإنه لم يغفل الحقيقة الأوسع مدى وهي أنه " ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ".
وليس هنا مجال التفصيل في هذا الشأن.. فذلك تتولاه بحوث التاريخ.
ولكنا نقول في إيجاز شديد إن الحروب الصليبية هي التي وجهت أوربا إلى إنشاء نظام " الأمة " بعد أن كانت إقطاعيات يحكم كلا منها إقطاعي تتمثل في شخصه السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويستعبد الناس في الأرض.. وقد وجد الصليبيون في العالم الإسلامي " أمة " تحكمها حكومة مركزية موحدة ويسري فيها قانون واحد يطبق على الجميع بالسوية.. فنقلوا هذا النظام إلى بلادهم فصارت أمما ودولا بعد أن كانت إقطاعيات. وتحطم النظام الإقطاعي وتحرر عبيد الأرض ليصيروا أحراراً كالمسلمين.
والحروب الصليبية وما تلاها من الاحتكاك بالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية هي التي أدت إلى الثورة الدينية على الكنيسة، التي قام بها مارتن لوثر وكالفن في أوربا.(4/142)
وهي كذلك التي أدت إلى الحركات التحريرية الكبرى ومن بينها الماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان.
وكانت - إلى جانب ذلك - ذات أثر كبير في الأخلاق الأوربية. فقد أخذ الصليبيون - المنهزمون - عن المسلمين - الظافرين - كثيراً من أخلاقهم الشخصية من صدق وأمانة وإخلاص وتماسك وترابط وتحاب ومودة وتعفف عن الدنايا.. وقد كانوا - في أثناء إقامتهم مع المسلمين في الشام - يرون كيف كان التاجر المسلم إذا جاء وقت الصلاة يترك متجره - مفتوحاً - ويذهب إلى المسجد يؤدي فريضته ثم يعود فلا يسرقها سارق! ويرون كيف يحترم الصغير الكبير، وكيف يتفشى " السلام " بين الناس سواء بالتحية بالفم أو في واقع المجتمع.. كما كانوا يرون دقة أصحاب الصنايع وإتقانهم أعمالهم والإخلاص فيها، وكيف كانت " ذمة " التاجر المسلم رأس ماله الأول، يعد ويفي ويضبط الميعاد!
بهذه الأمور كلها تأثرت الحياة الأوربية إلى جانب الحركة العلمية الكبرى التي نشأت من انتقال المذهب التجريبي من مدارس الأندلس ومدارس الشرق إلى الغرب الأوربي...
وخلاصة هذا الأمر أن الأخلاق الأوربية ذات أصل ديني مسيحي وإسلامي على السواء!
... ولقد وقعت الفجوة بين الدين والحياة في أوربا.. للأسباب التي ذكرناها.
وكانت جفوة تدريجية بطيئة استغرقت بضعة قرون حتى وصلت ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وفي أثناء هذه الجفوة تنكر الناس للدين، وفصلوه عن كل القيم النافعة في الحياة!
فصلوه عن العلم.. فنشأت حركة إحياء العلوم على أساس لا ديني.. بل على أسس مناهضة للدين.
وفصلوه عن المجتمع.. فجاء النمو الاجتماعي الحديث على أساس لا ديني (secular) إن لم يكن على أسس معادية للدين.
وفصلوه عن الأخلاق!
قالوا: إن الأخلاق جميلة نعم.. ولكن ليس من الضروري أن نأخذها من تعاليم الدين فلنجعلها قائمة بذاتها، تستمد من " الواقع " أو من " العقل " أو من " الضمير الاجتماعي ". أو من أي معين إلا الدين! [ولا يدخل في هذا الشأن الأخلاق الجنسية.. فهذه قضوا عليها نهائياً بتوجيه الشياطين!].
وهكذا بقيت لأوربا أخلاق.. لكن بغير عنوان الدين!
وقد كانت الجفوة من الشدة والعنف بحيث لم تفصل فقط بين الدين والأخلاق.. بل قد نفّرت الناس تنفيراً من أن يربطوا أي ربط بين الدين والأخلاق.. بل إلى إنكار وجود رابط بينهما على الإطلاق.. بل إلى الإصرار على رفض الأخلاق إن كانت تلبس ثوب الدين، وعدم قبولها إلا أن كانت مفصولة عن الدين واقفة له بالمرصاد!
نعم، يجب أن تكون لنا أخلاق.. ولكن حذار حذار من ربطها بالدين. وإلا تركناها لكم بأجمعها وصرنا لا أخلاقيين! كما أصبحنا من قبل لا دينيين!
وزيادة في التحذير والتنفير تنشأ " مذاهب " كالوجودية تناقش " الأخلاق " من حيث المبدأ، وتقول: لا أخلاق! فما أراه " أنا " خيراً فهو خير.. وما أراه شراً فهو شر!
* * *
ولكن هذه مرحلة في " التطور "!
والذين يظنون أنها يمكن أن تقوم إلى الأبد هم الذين ينظرون إلى رقعة صغيرة من التاريخ! الذين ينظرون إلى عقرب الساعات في الساعة بضع دقائق، ثم يقولون إنه لا يتحرك من مكانه ولا يريم!
لقد بقيت الأخلاق الأوربية - النابعة من المعين الديني - بقيت فترة من الزمن وهي منفصلة عن معينها الأصلي، تسير بقوة الدفع الذاتية، بغير عنوان الدين.
ظلت أوربا فترة من الزمن " نظيفة " الأخلاق، تتعامل على استقامة.. لا يخدعك الغربي ولا يغشك في المعاملات اليومية الفردية. لا يقول لك كلاما ويقصد كلاماً آخر. لا يقدم لك البضاعة المزورة. لا يعطيك الوعد ويخلفه... إلا في السياسة!
وقال الناس - هنا في الشرق الإسلامي -: لا تحتجوا على الغرب بالسياسة.. فالسياسة خدعة! ولكن انظروا إلى التعامل الشخصي. إنها بالضبط الأخلاق التي تنسبونها للإسلام! ولكنها هناك واقع عملي. يربى عليه الطفل فيتشربه، ويربى عليه المجتمع فيصونه! إنها ليست نظريات كالتي تقدمونها باسم الإسلام! ليست مواعظ! إنها حقائق تربوية ضخمة. يبذل فيها جهد دائب لتربية الطفل عليها منذ مولده. يربيه عليها والداه في المنزل، والمدرسون في المدرسة، والواقع الخارجي في المجتمع.. فتتأصل.
الوالدان بذاتهما قدوة.. لا تكذب الأم أمام الطفل ولا الأب فلا يشاهد الطفل الكذب أمام عينيه. فيتعود الصدق من الواقع الموجود في الأسرة. ثم يذهب إلى المدرسة فلا تكذب عليه المدرسة ولا المدرس. ويخرج للمجتمع فيجد الصدق حقيقة.. فينشأ صادقا لا يكذب.
والأمانة كذلك. لا تغش الأم ولا الأب. ولا المدرسة ولا المدرس. ولا الناس في المجتمع. فتصبح الأمانة في نفس الطفل حقيقة.. حقيقة ذات رصيد من الواقع.
وكذلك كل آداب السلوك..
وبهذه الصورة تنشأ كل " الفضائل " التي نفتقدها في الشرق " الإسلامي ". إنها هناك حقيقة ولدينا نحن خواء ومواعظ دينية!
وهم هنالك يصنعونها لا باسم الدين.. وتفلح! ونحن هنا نعظ إليها باسم الدين.. فلا تنجح!
حقا.. هذا هو الوجه الظاهر من القضية..(4/143)
ولكن هذه كما قلت مرحلة من مراحل " التطور "!.. ولها بعد نتائجها.. الحتمية!
لقد انفصلت الأخلاق في الغرب عن معينها الأصلي. معين الدين. فكيف صارت؟
قامت السياسة بادئ ذي بدء على غير أساس أخلاقي!
في الداخل.. صارت " الطبقة " التي تحكم تشرع لصالحها هي على حساب بقية الطبقات. وظن " علماء " السياسة والاقتصاد هناك أن هذه حتمية " اقتصادية "! وليست حتمية اقتصادية في الواقع. ولكنها تصبح حتمية حين تنفصل السياسة عن مبادئ الدين.. فتصبح السياسة بلا أخلاق! وحين كان المسلمون مسلمين لم تكن هناك طبقة حاكمة تشرع لصالحها. وإنما كان الحكام ينفذون مبادئ الدين التي تقضي بالعدالة بين الجميع!
وفي الخارج.. كانت السياسة الغربية كلها خداعا واحتيالا وغشا ونصبا وسرقة وغصباً وامتصاصاً للدماء! وظن " علماء " السياسة والاقتصاد هناك أن هذه أيضاً حتمية اقتصادية! وإنما هي نتيجة حتمية لانفصال السياسة عن مبادئ الدين! وحين كان المسلمون مسلمين كانت " السياسة " الخارجية هي الصدق والأمانة في السلم وفي الحرب سواء. ومحافظة المسلمين على عهودهم ومواثيقهم مضرب المثل في التاريخ! يقول " ت. و. أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " [ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، ص 58 من الترجمة العربية]: " كذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها أبو عبيدة مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة: فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " ثم قال: ".. فلما علم أبو عبيدة قائد العرب بذلك (أي بتجهيز هرقل لمحاربته) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردوا عليهم ما جنى من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم. ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم ". وهذا هو الإسلام!
ثم انفصل السلوك الجنسي عن الأخلاق! وقال الناس هنا وهناك إن هذا " تطور "!
وقد بينا في كل الفصول السابقة أنه ليس " تطورا " وإنما هو انحلال. ولا نحتاج أن نعيد هنا ما قلناه من قبل من آثار الهبوط الجنسي والإباحية الحيوانية في المجتمع الغربي.. فيكفينا في هذا شهادة القرن العشرين، التي أدلى بها الغربيون أنفسهم، وشكوا فيها من انحطاط تلك " الأخلاق ". إنما يعنينا أن نبرز حركة " التطور " المستمرة، الناشئة من انفصال الأخلاق في الغرب عن معينها الأصلي.. معين الدين. وكيف يشمل الفساد جزءاً منها بعد جزء.. لسبب واحد.. هو أنها انفصلت عن ذلك المعين!
إن الذي يزيغ أبصار الناس هنا وهناك.. أن هذا الفساد الخلقي في شئون الجنس - الذي نشأ من ابتعاد المفاهيم الخلقية عن مفاهيم الدين - قد وقف عند هذا الحد، ولم يسر إلى بقية شئون الأخلاق! فماذا علينا إذن - ما دام هذا - ولنسمه الفساد - تطوراً " حتمياً! "، ماذا علينا أن نبيح هذا الفساد الذي لن نستطيع أن نقوِّمه أو نقف في وجهه، ما دامت بقية الكيان الخلقي ما زالت سليمة، والتعامل مستقيما ونظيفاً لم يمسسه السوء؟!
إن الشاب والفتاة في الغرب منحلان خلقيا في شأن الجنس [بمقاييسنا نحن!] ولكنهما ما زالا نظيفي التعامل. لا غش. ولا كذب ولا خداع. واستقامة في الخلق والضمير. وإخلاص في العمل وإتقان.. فماذا نخسر لو جاريناهم وماذا نكسب من دعوى الرجوع إلى الدين؟!
حتى في هذا.. نعود إلى شهادة القرن العشرين!
أين هي " الأخلاق " في الجيل الناشئ في الغرب اليوم؟!
عصابات الخطف والنهب والسرقة والإجرام.. وعصابات الحشيش والأفيون. هل هذه هي الأخلاق؟!
عصابات تيسير الطلاق، التي توقع الأزواج أو الزوجات في جريمة الزنا، ثم تضبطهم متلبسين، لتيسر على الطرف الآخر أن يطلب الطلاق ويقدم الأسباب. والتي يقوم بها أطباء ومحامون.. هل هذه هي الأخلاق؟!
بيع أسرار الدولة العسكرية لأعدائها مقابل تلبية الشذوذ الجنسي.. هل هذه هي الأخلاق؟!
إنها ليست " حالات فردية " مما يوجد في كل مجتمع ولا يلفت إليه الأنظار! إنها ظاهرة اجتماعية تجتمع لها المؤتمرات لتدرسها وتحققها. وتنبه إلى خطورتها!
ثم.. هي آخذة في الازدياد!
حتى الأخلاق " البسيطة " جداً.. التي كانت مضرب الأمثال في الغرب: " الأمانة " في الترام والأتوبيس وعدم " التزويغ " من دفع أجرة الركوب! حتى هذه! صار الجيل الناشئ في أوربا يهرب منها ويخالفها!
قالوا.. هذا أثر الحرب!
وربما كان كذلك! وحقاً إن هذه ليست - بعد - الصورة الغالبة للمجتمع الغربي! ولكنها في طريقها إلى الازدياد.. ومن هنا خطورتها. ومن هنا دلالتها.
كلا! ليست الحرب!
لقد خاض العالم الإسلامي حروبا جمة.. ولقد عاش نصف القرن الأول في حرب دائمة لا تفتر! ومع ذلك فقد كان نصف القرن هذا بالذات هو الفترة التي ترسخت فيها أخلاق الإسلام، وانتشرت في كل مكان وطئته جنود الإسلام!(4/144)
ليست الحرب! إنما هو الابتعاد عن الدين! هو فصل الأخلاق عن معينها الأصلي الذي لا معين سواه!
لقد خُدع الناس في الغرب خديعة ماكرة حين ظنوا أنهم يستطيعون أن يظلوا بعيداً عن الدين، ثم يظلوا ناجحين، ويظلوا على خلق قويم!
إنها مرحلة من مراحل " التطور ".. لا تثبت! كيف يثبت الناس على المنزلق؟!
لقد بدأ الفساد بالسياسة. ثم شئون الجنس. ثم بقية " الأخلاق ".
ومظاهر القوة والتماسك والصعود والتقدم التي تزيغ أبصار الناس في الشرق وفي الغرب، فيحسبون أنهم يستطيعون أن يبتعدوا عن قانون الله في أي شيء ثم يظلوا ناجحين.. هذه المظاهر خداعة ماكرة! ولنسأل كنيدي.. ولنسأل خروشوف!
إنهما يخشيان نتيجة الانحلال الحالي على مستقبل أمريكا وروسيا! وهما ليسا طفلين صغيرين.. وليسا هازلين.. إنما هما جادان أشد الجد.. يبصران ما لا يبصره هنا الكتاب المزيفون.. التقدميون التطوريون.
إن الغرب يملك قوة حقيقية جبارة وهائلة.. لأنه ما زال يملك رصيداً من " الأخلاق " التي كانت في أصلها مستمدة من الدين.. ولكنه - حين فصلها عن معين الدين - بدأ يهبط.. في كل مجال. ووصل الهبوط إلى الحد المنذر بالخطر.. الذي أطلق الصيحة على لسان كنيدي وخروشوف.
ولن ينهار الغرب غداً.. في أيام أو سنوات!
لا تقاس أعمار الأمم بالأيام والسنوات! وإنما تقاس بالأجيال!
ولكن يتضح الخط الصاعد والخط الهابط من خلال الأجيال!
وشهادة القرن العشرين تقدم لنا الجواب! إنها تقول في أوضح صورة: هذا الجيل في طريقه للانحدار!
كلا.. لا نظافة بلا دين!! إنما هي مرحلة من مراحل الانزلاق.. لم تصل بعد إلى القذارة الكاملة، لأن الأمم تنزلق في بطء شديد.. في أجيال.. وقد بدأ الغرب في الهبوط على المنزلق.. وشهد بذلك الناس هناك!
* * *
أما نحن.. فلسنا مسلمين!
كل دعوى بأننا مسلمون.. باطلة!
مسلمون بأسمائنا؟! مسلمون بسكنانا في الأرض التي " كان " يسكنها المسلمون؟!
أين نحن من الإسلام؟! ماذا فينا يحكمه الإسلام؟!
الإسلام لا يحكم واقع حياتنا كله.. ولا سلوكنا الفردي.. فكيف نكون مسلمين؟!
ولقد كتبت كتابا كاملا سميته " هل نحن مسلمون؟ " بينت فيه كيف بعدنا عن الإسلام وجافيناه. وما أحتاج أن أعيده هنا في هذا الكتاب!
ولكني فقط أقول هذه البديهية التي يستطيع أن يراجعها كل إنسان في نفسه: ماذا فينا يحكمه الإسلام؟!
إن تلك البقية الباقية من العقيدة الإسلامية في صورة " عبادات ". في صورة صوم وصلاة ومسابح، و " حج مبرور ".. كلا! ليست إسلاما!
" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " [149]. " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " [150].
الإسلام هو أن نكون مسلمين في كل لحظة وكل عمل. كل شئون المجتمع. كل شئون الحياة. كل التعامل الفردي. كل السلوك الشخصي.. وإلا فلسنا بمسلمين.
ونحن ضعاف متخلفون.. كذابون منافقون.. مخادعون غشاشون.. لأننا غير مسلمين.
ويوم كنا مسلمين.. لم يكن شيء من ذلك كله في واقعنا ولا في أخلاقنا!
ولم تكن " الأخلاق " يومئذ وعظا باسم الدين! إنما كانت تربية كاملة في ظل الدين. تربية ينشأ عليها الطفل منذ مولده، ويجد قدوتها في والديه، ورصيدها الواقعي في المجتمع.
ولكننا انحرفنا عن الإسلام في المدى الطويل..!
وما بي هنا أن أدافع عن الإسلام أو أدافع عن الغرب! إن حرباً واحدة أو حربين متلاحقتين أفسدتا من المجتمع الغربي ما أفسدتاه في كل مجال.. حتى الأخلاق الفردية التي كان يفاخر بها الغرب! والعالم الإسلامي قد لاقى صنوفا من الويلات: اليهود والتتار والصليبيين والمستعمرين والمبشرين والمستشرقين، وتلاميذ المبشرين والمستشرقين. والحكام الطغاة من الداخل، والأعداء من الخارج.. وظل متماسكا ألف سنة.. حتى أخذ في الانهيار بعد كل هذه الويلات!
والموجود عندنا اليوم على أي حال ليس دينا بلا نظافة.. وإنما هو لا دين! فقد انحرفنا عن كل مفاهيم الدين، وكل مقومات الدين!
ومع ذلك.. فهناك فرق رئيسي بين انحرافنا وانحراف الغرب!
[148] راجع الهامشة ص 178 من هذا الكتاب: " يقصد الحضارة الإسلامية.. الخ
[149] سورة البقرة [ 177 ]
[150] سورة النساء [ 65 ]
======================
كيف دخلنا التيه؟
[الكاتب: محمد قطب](4/145)
إن الحرب الصليبية التي بلغت ذروتها في البوسنة والهرسك في أيامنا الأخيرة، قد بدأت في الحقيقة منذ عدة قرون... نستطيع أن نقول بشيء من التحديد إنها بدأت بطرد المسلمين من الأندلس، وقد سقطت آخر دويلة إسلامية في الأندلس عام 1492م [11]، بعد أن عملت محاكم التفتيش بكل فظائعها لإبادة المسلمين، والقضاء الكامل على الإسلام في تلك البقاع. ثم أمر البابا بمتابعة المسلمين خارج الأندلس، وفرض النصرانية عليهم بالسيف إن لم يستجيبوا لدعوة التنصير، وكانت الرحلات التي قام بها فاسكو داجاما وماجلان وغيرهما رحلات استكشافية، لكشف نقاط الضعف التي يمكن عن طريقها اختراق العالم الأسلامي توطئة لغزوه والاستيلاء عليه، وقد اضطرت كلها أن تسير في اتجاه مغاير للحملات الصليبية الأولى بسبب وجود الدولة العثمانية بقوتها الرهيبة في الشرق، وتوغلها الكاسح في شرق أوربا، فكان على الحملة الجديدة أن تدور حول أفريقيا، وتحاول غزو الأطراف البعيدة أولا قبل أن تتجه إلى قلب العالم الإسلامي، وبالذات إلى بيت المقدس، الذي انهزمت عنده الحملات الصليبية الأولى، وفي هذه المرة لم يكن بيت المقدس هدفا للنصارى وحدهم، بل اشترك اليهود معهم، ولكن لحسابهم الخاص!
وشهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الهجريان - الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان - تركيزا شديدا في الحملة الصليبية، انتهى بالاستيلاء على معظم بلاد العالم الإسلامي، بعد معارك عنيفة بين المسلمين والصليبيين، انتهت كلها بهزيمة المسلمين أمام الغزو الكاسح، وخضوع العالم الإسلامي للغزو النصراني.
وبطبيعة الحال لم تحدث تلك الهزيمة اعتباطا، وإنما كان لها أسباب.
والأسباب الظاهرة هي التخلف الذي أحاط بالمسلمين في ميدان العلم، وميدان "التكنولوجيا"، وميدان الاقتصاد، وميدان التدريب الحربي والتسلح، وقد كانت هذه الأسباب كلها قمينة بإحداث الهزيمة العسكرية أمام الغرب الذي كان قد تقدم في كل تلك الميادين بمقدار ما تخلف المسلمون! ومعركة إمبابة الشهيرة بين المماليك ونابليون نموذج واضح لهذه الحقيقة، فقد استغرقت المعركة كلها عشرين دقيقة! ولم يكن ينقص المماليك الشجاعة الحربية ولا الرغبة في صد العدوان عن ملكهم، ولكن مدافعهم المتخلفة التي تحتاج إلى فترة زمنية بعد كل طلقة حتى تبرد ويمكن حشوها بالبارود من جديد، والتي يتناقص مداها كلما حميت، لم تكن لتصمد أمام المدافع التي تتتابع طلقاتها بسرعة وقوة وتمكن، ومن مدى أبعد مما تصل إليه مدافع المماليك.
ولكن الدراسة الواعية لتلك الفترة من التاريخ يجب ألا تقف عند الأسباب الظاهرة، فتفوتها عندئذ الحقيقة الكامنة وراء تلك الأسباب. إنما يجب أن تتعمق لترى الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانهيار.
وحين يقوم المؤرخ المسلم بدراسة هذه الفترة من التاريخ فسيكون له بالضرورة موقف مختلف عن المؤرخ الأوربي، من ناحيتين اثنتين على الأقل.
الناحية الأولى أنه سيتتبع الروح الصليبية الدافعة إلى غزو العالم الإسلامي، التي يخفيها المؤرخ الغربي عامدا رغم وضوحها. فقد ظل الغرب يوحي إلينا أن غزوه الأخير للعالم الإسلامي لم يكن ذا صلة على الإطلاق بالروح الصليبية التي دعت إلى الحملات الصليبية القديمة، إنما هو منبعث من أسباب اقتصادية بحتة! فمرة سببه البحث عن التوابل! ومرة سببه البحث عن الخامات الرخيصة! ومرة سببه البحث عن أسواق لتصريف فائض المنتجات التي يصنّعها الغرب!
مع ان فاسكو داجاما - الرائد الأول للغزو الصليبي الحديث - قال بعبارة صريحة حين وصل إلى جزر الهند الشرقية - بمعاونة الخرائط الإسلامية، ومعاونة البحار المسلم ابن ماجد - قال: "الآن طوقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت!"، كما أن ماجلان - وهو كذلك من الرواد الأوئل لهذا الغزو - ألح على البابا أن يأذن له بقيادة حملة صليبية بهدف محدد، هو ضم أراضي الفلبين تحت راية الصليب، ولما أذن له البابا على تردد - لعدم ثقته بقدرته على إنجاح حملته - ذهب بالفعل إلى الفلبين، ورفع الصليب على إحدى جزرها، فقتله المسلمون هناك وقضوا على حملته [12]!
وقد كانت للغرب مصلحة ظاهرة في إخفاء الوجه الصليبي للحملة الجديدة، اتقاء لإثارة الروح الدينية عند المسلمين، التي تبعث على "الجهاد المقدس" وهو أخطر ما يخشاه الغزاة - صليبين كانوا أو صهيونيين أو عباد بقر أو عباد أصنام - وقد ذاق الغزاة بأسه بالفعل في الهند والجزائر وغيرهما من البقاع.(4/146)
كتب كرومر - المعتمد البريطاني في مصر أول أيام الاحتلال - في مذكراته المسماة "مصر الحديثة" - Modern Egypt -: "إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية! على رأس هذه البلاد هي تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن بحيث تصبح هي أساس العلاقات بين الناس وإن كان من الواجب - منعا من إثارة الشكوك - ألا يعمل رسميا على تنصير المسلمين، وأن يرعى من منصبه الرسمي المظاهر الزائفة للدين الإسلامي، كالاحتفالات الدينية وما شابه ذلك"!
والهدف من هذا الكلام واضح... إبعاد المسلمين عن الإسلام دون إشعارهم أن الهدف هو إبعادهم عن الإسلام! وذلك منعا من إثارة الشكوك... أي منعا من إثارة الروح الدينية عند المسلمين، حين يتضح الوجه الصليبي على حقيقته!
ونفي الدافع الصليبي عن الغزو الصليبي الحديث كان يهدف إلى ذات الغاية التي قصد إليها كرومر، وهي عدم إثارة روح الجهاد المقدس ضد الغزاة، والسعي إلى ترويضهم بحيث يقبلون الأمر الواقع، وحتى إن اتجهوا إلى مقاومته، قاوموه بغير روح الجهاد المقدس التي يفزع منها الغزاة!
ولترويج هذه الفرية في نفوس المسلمين في البلاد المحتلة قال الغرب إنه ترك الدين منذ فترة! ولم يعد الدين هو الذي يحركه! إنما الذي يحركه هو "المصالح الاقتصادية" فحسب! ولاكت ألسن المسلمين هذه الفرية في فترة التيه، وروجها دعاة الغزو الفكري - بوعي أو بغير وعي - ليثبطوا أي تحرك جهادي إسلامي ضد الغزاة!
نعم! لقد نبذت أوربا دينها، فلم تعد تتحرك به داخل بلادها... ولكنها لم تنس قط الروح الصليبية الكامنة في دمائها، والتي تحركها دائما ضد الإسلام والمسلمين! وهذه الحقيقة - حقيقة نبذ أوربا لدينها، وبقاء الحقد الصليبي تجاه الإسلام مشتعلا رغم ذلك - قد أشار إليها المستشرق النمساوي "محمد أسد" في كتابه الشهير "الإسلام على مفترق الطرق" الذي ألفه بعد أن أعلن إسلامه، وحاول فيه تفسير هذه الظاهرة الغريبة التي قال إنه لم يحدث مثلها في التاريخ، فقال: إن هذا الحقد قد ولد في نفوس الأوروبيين في فترة طفولتهم الفكرية والحضارية، فلم تستطع فترة النضج التالية أن تمحوه من نفوسهم، لأن ما ينطبع في الطفولة يتبقى عالقا في النفس! [13].
ولسنا نحن في حاجة إلى شهادة محمد أسد ولا تفسيره، وعندنا شهادة الله سبحانه وتعالى وتقريره: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [14].
وعندنا مذبحة البوسنة والهرسك شهادة لا تحتمل التأويل.
فالمندوب البريطاني "أوين" الذي ليست له أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في منطقة البوسنة والهرسك يتكلم حين يتكلم كأنما بلسان الصرب، بل يطلب للصرب أحيانا أكثر مما يطلبون هم لأنفسهم، بل طالب في أكثر من مرة بمعاقبة المسلمين لأنهم لم يتقبلوا اغتيال الصرب الوحشي لهم في صمت ولا هتكهم لأعراضهم، بل كانوا يدافعون عن أنفسهم بين الحين والحين!
والأمر الثاني الذي يجب على المؤرخ المسلم إبرازه بينما المؤرخ الأوربي لا يذكره على الإطلاق، هو أن السبب الحقيقي وراء كل ألوان التخلف التي أحاطت بالمسلمين في الفترة الأخيرة كان هو التخلف العقدي... التخلف عن حقيقة لا إله إلا الله.
إن الضعف ليس من طبيعة هذا الدين، وهو دين القوة والجهاد والتمكن، الذي اكتسح في سنوات معدودة الإمبراطورية الفارسية بأكملها ونصف الإمبراطورية الرومانية العتيدة، والذي هزم التتار في عنفوانهم وهزم الصليبيين في حملاتهم القديمة، واستقر في معظم الأرض المعمورة في وقته استقرار التمكن والرسوخ والنماء. إنما الضعف عنصر طارئ في حياة المسلمين لم يتأت لهم وهم مستمسكون استمساكا حقيقيا بدينهم، وسواء كان سببه الترف الذي أصاب الحكام العثمانيين بعد أن استتب لهم الملك والغلبة على الأعداء، أو حلقات الذكر الصوفي التي تستوعب طاقة المسلم الروحية فتصرفها عن الجهاد، وتحولها إلى سبحات روحية أشبه بالخدر منها إلى الوعي الحيّ، أو انتشار الخرافة والتعلق بالخوارق الموهومة والكرامات المنسوبة إلى المشايخ، الأحياء منهم والأموات، أو إهمال العلوم الكونية وإهمال عمارة الأرض والانصراف عن أسباب التمكن، أو الاستبداد السياسي الذي يجعل الناس ينصرفون إلى خاصة أنفسهم ويتركون الانشغال بالقضايا العامة التي تقرر مصاير الأمة، ويتركز "الدين" في حسهم في الشعائر التعبدية فحسب، أو تَحَوُّلَ الدين كله في النهاية إلى تقاليد تُرْعَى لذاتها ولكنها خاوية من الروح...
سواء كان السبب هذا أو ذاك أو ذلك فكلها ليست من طبيعة هذا الدين، ولاهي مستوحاة من نصوصه المنزلة أو سوابقه التاريخية حين كان مطبقا تطبيقا صحيحا في واقع الحياة.
والمؤرخ الأوربي المدقق لن تفوته معرفة هذه الحقيقة: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [15].(4/147)
ولكنه لن يظهره وإن عرفه وتيقن منه: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [16].
فإنه لو أظهره فكأنما سيوقظ المسلمين إلى حقيقة انحرافهم عن مصدر قوتهم الحقيقي، وسيدعوهم إلى محاولة تغيير واقعهم، والعودة إلى حقيقة الإسلام التي لايمقت الغرب شيئا كمقته إياها، ولايخاف شيئا كخوفه منها.
بل لقد عمد المؤرخ الأوربي - وتبعه من تبعه من "المسلمين" الغارقين في التيه - إلى ما هو أسوأ من إخفاء تلك الحقيقة، فزعم أن "الدين" ذاته كان هو السبب في كل هذا البلاء! في الضعف والتخلف والخرافة والجهل والاستخذاء والقعود! وأنه لابد من نبذ الدين ليتحرر الناس من الجهل والخرافة، ويزيلوا الأغلال التي تمنعهم من الانطلاق! وحرص - وحرصوا معه - على منع أية إشارة تنبه الناس إلى حقيقة بعدهم عن حقيقة الدين، وأن الدين الحقيقي شيء آخر غير الذي يمارسونه باسم الدين!
حدثني ذات مرة صديق كنت أعمل معه في إدارة واحدة [17]، أنه التقى بأحد المستشرقين أثناء مرور الأخير بالقاهرة في أوائل الستينيات من هذا القرن الميلادي، فسأله عن جملة أشياء تتعلق بالإسلام والمسلمين وما يدور من أفكار بينهم، وفي أثناء الحديث سأله: هل تعرف فلانا؟ - وذكر له اسمي - فأجابه بالإيجاب، فسأله: هل هو من خريجي الأزهر؟ قال له: لا! إنه من خريجي قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة! فلم يخفِ عجبه - وإستياءه كذلك - من أن ينشغل واحد من خريجي هذا القسم - الذي أنشئ ابتداء لتخريج "علمانيين" يتبعون طريقة التفكير الغربية ومنهج الغرب في الحياة - أن ينشغل بأمور الإسلام، ويكتب في موضوعات دينية!
ثم راح المستشرق يكيل النقد لكتاباتي، وخاصة كتاب "شبهات حول الإسلام" [18] وكان أشد حنقه على أمر معين، هو أنني أنتقد مادية الغرب، وأهاجم حضارته المادية الخالية من الروح.
وقال لصديقي حانقا: ماذا صنعتم أنتم بروحانيتكم؟! لولا تقدمنا المادي ما استطعتم أنتم أن تعيشوا! فحدثه الصديق - رحمه الله - أنني أقول؛ بأن الإسلام ليس روحانية فحسب، وإنما هو يجمع بين عالم المادة وعالم الروح، ويدعو إلى بذل النشاط في كلا المجالين في آن واحد. فقال له: ولكن واقعكم خلاف ذلك! فقال الصديق - يتابع حديثه عني - "إنه يقول إن واقع المسلمين اليوم بعيد عن حقيقة الإسلام"! فانتفض الرجل من كرسيه حنقا وغضبا وقال: هو يقول ذلك؟! أين يقول هذا الكلام؟! قال: في كتاب له يسمى "هل نحن مسلمون". فقال المستشرق وهو ينصرف في عصبية ظاهرة: هذا أمر خطير!
أمر خطير أن يتنبه أحد - أو ينبه الناس - إلى أن حقيقة الإسلام غير ما يمارس باسم الإسلام، وأن الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون اليوم سببه البعد عن حقيقة الإسلام!
* * *
المؤرخ المسلم - في تناوله لتاريخ تلك الفترة - عليه من إسلامه واجب لابد أن يؤديه، هو أن يبين للناس السبب الحقيقي فيما حدث من هزيمة عسكرية أمام الغرب، وأن يفسر لهم كذلك سبب الهزيمة الروحية التي تلت الهزيمة في ميدان الحرب...
فأما الهزيمة الحربية فقد كانت نتيجة طبيعية لترك الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى القوة، ولكن ترك الأخذ بالأسباب كان هو ذاته نتيجةً للخلل العقدي الذي أصاب المسلمين فجعلهم ينحرفون بالدين عن حقيقته، ولا يعملون بمقتضاه.
فالفكر الإرجائي الذي أخرج العمل من مسمى الإيمان، وجعل الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار اللساني فحسب، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين قالوا إن الإيمان قول وعمل، والذين كان في حسهم أن العلم الذي لايصحبه عمل ليس علما حقيقيا، وأن العمل هو الثمرة الحقيقية للعلم.
وقد أدى هذا الانحراف العقدي إلى تصور للدين غير صحيح، وسلوك بالدين غير صحيح، فزاد تفلت الناس من التكاليف بغير حرج في صدورهم، لأنهم - في وَهْم أنفسهم - مؤمنون صادقو الإيمان مهما تفلتوا، ما داموا مصدقين بالقلب، ومقرين باللسان!
والفكر الصوفي الذي أدى إلى تضخم "الشيخ" في حس "المريد" حتى صار واسطة بينه وبين الله، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح، الذين تعلموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا وسطاء بين العبد والرب إلا العمل الصالح الذي يرضى الله عنه فيرضى عن صاحبه، وان من أعظم القربات إلى الله الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي إلى تقويم المجتمع إذا انحرف عن السبيل... وكان من نتيجة هذا الانحراف العقدي ألوان من شرك العبادة من جهة، وتعلق بالأوهام والخرافات من جهة، وتركٌ للعمل الإيجابي الذي يجري الله به التغيير في الأرض بحسب سنته الجارية، تطلعا إلى خارقة تتحقق على يد "وليّ" من أولياء الله تنحل بها المشاكل بلا تعب ولا نصب ولا انشغال بال!(4/148)
والإيمان المختل بعقيدة القضاء والقدر، الذي يسقط مسئولية الإنسان عن أعماله حين يخطئ أو يقصر بدعوى أن ما يصيبه هو قضاء وقدر لاحيلة له فيه، ويدعو إلى الاستسلام السلبي لكل ما يقع، وعدم السعي إلى تغييره بدعوى أن العمل على التغيير هو بمثابة التمرد على قدر الله وعدم الرضا بقضائه، ويدعو إلى عدم الأخذ بالأسباب بدعوى أن هذا نقص في الإيمان، ودليل على عدم التوكل على الله... كل ذلك كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين كانوا أصفى الناس إيمانا بالقضاء والقدر، ولكنهم كانوا يعلمون من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر لايسقط مسئولية الإنسان عن عمله حين يخطئ أو يقصر، ولا يمنع السعي إلى التغيير تطلعا إلى قدر جديد من عند الله، وان التوكل الصحيح لا يمنع الأخذ بالأسباب، وأن حتمية تحقق قدر الله ومشيئته لا تتنافى كذلك مع اتخاذ الأسباب.
ففي وقعة أحد قال الله للمسلمين إن ما أصابهم من الهزيمة هو من عند أنفسهم لمخالفتهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت ذاته قضاء وقدر: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ...) [19].
وحين وقعت الهزيمة لم يقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي إلى تغيير الموقف، فأخذ المسلمين - بجراحاتهم - للقاء العدو، فانصرف العدو بفضل الله وآثر الانسحاب دون قتال: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [20].
وتلقى الرسول صلى الله عليه وسلم توجيها من ربه له وللأمة المسلمة من ورائه أن يعدّ العدة ثم يتوكل على اللَه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [21].
والعزيمة تقتضي الإعداد وإلا فهي مجرد أمانيّ لاتغير شيئا من الواقع.
وقرر الله سبحانه وتعالى أن الذين كفروا لن يسبقوا الله ولن يعجزوه، وأن قدر الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض ماضٍ ونافذ، ومع ذلك أمر المسلمين بالإعداد واتخاذ الأسباب في نفس السياق: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [22].
وقد أدى هذا الخلل العقدي في عقيدة القضاء والقدر إلى تواكل سلبي بدلا من التوكل الحق، وإلى إهمال اتخاذ الأسباب - ومن بينها أسباب القوة التي أمر الله بإعدادها لإرهاب عدو الله - وإلى انتشار الفقر والمرض والعجز، والقعود في الوقت ذاته عن محاولة التغيير.
والتصور المختل لطبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، كان انحرافا عن حقيقة الدين، وعن منهج السلف الصالح الذين فهموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني جزء من العبادة المطلوبة من الإنسان، وأن العمل للآخرة لايتنافى مع السعي في الأرض: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [23]، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [24].
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم القوم الذين زعموا أنهم يعملون للآخرة بأن يصوموا الدهر ولا يفطروا أو يقوموا الليل ولا يناموا، أو يعتزلوا النساء فلا يتزوجوا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أعبدكم لله وأخشاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" [25].
وقد أدى هذا الانحراف في تصور مقتضيات لا إله إلا الله إلى إهمال العلم بالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم لأنها متعلقة بالأرض، وبالحياة الدنيا، فتخلف المسلمون في جميع الميادين.(4/149)
من هنا يظهر جليا أن التخلف العلمي و "التكنولوجي" والمادي... إلخ، الذي كان سببا في الهزيمة العسكرية أمام الغرب قد نشأ أساسا من التخلف العقدي الذي تزايد في حياة المسلمين جيلا بعد جيل، وتراكم حتى غشّى على العقيدة الصحيحة فلم تعد تتبين من بين الركام، ولم تعد تعطى شحنتها الحية في حياة المسلمين.
ولكن القضية لا تنتهي مع المؤرخ المسلم عند هذا الحد.
فهناك قضية أخرى لا تقل عنها أهمية، ولا تقل عنها خفاء كذلك في حس الذين يحصرون رؤيتهم في الأسباب الظاهرة ولا يتعمقون وراءها إلى السبب الحقيقي.
وقعت الهزيمة العسكرية فتلتها في نفوس المسلمين هزيمة روحية، هي الاولى بالنسبة لهم في التاريخ.
وقد قلنا في أكثر من كتاب [26]؛ إن الهزيمة العسكرية وحدها لم تكن لتحدث في نفوس المسلمين ذلك الأثر الهائل الذي أحدثته في المرة الأخيرة حين انهزمت جيوش المسلمين أمام الغرب
حقيقة إن المسلمين فوجئوا مفاجأة حادة - بعد الهزيمة - بالفارق الهائل بينهم وبين الغرب الذي هزمهم، في العلم وفي "التكنولوجيا" وفي التقدم المادي والحضاري... وأن هذا كان له أثره في الهزيمة النفسية التي أصابت المسلمين.
ولكن الهزيمة العسكرية وحدها، وإدراك المسلمين للفارق الهائل بينهم وبين أعدائهم في الأسباب المادية، لم يكونا ليحدثا هذا التحول الهائل الذي حدث في حياة المسلمين، لولا الخواء الروحي والعقدي الذي كان في حياتهم قبل وقوع الصدام.
وقعت الهزيمة العسكرية من قبل فلم تغير شيئا في تصورات المسسلمين وأفكارهم وسلوكهم وعقائدهم...
وقعت أول هزيمة يوم أحد فأنزل الله قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [27]، وكانوا مؤمنين بالفعل، فوعوا الدرس، وأفافوا من هزيمتهم، وعلموا أنهم الأعلون بإيمانهم مهما حدث لهم من هزيمة مؤقتة أمام عدوهم. فلم يهنوا بعد ذلك في مواجهتين عظيمتين خطيرتين وقعتا بينهم وبين التتار مرة، وبينهم وبين الصليبيين مرة، وقد كانت الهزيمة أمام التتار ساحقة...
اكتسح التتار بغداد، وأزالوا الخلافة العباسية، وأذلوا المسلمين إلى حد لا يتصور. فكان التتري يخرج من بيته وليس معه سلاحه، فيلقى المسلم في الطريق، فيقول له: ابق هنا حتى أحضر السيف لأقتلك، فيقف المسلم صاغرا مستسلما حتى يعود التتري بسيفه فيقتله... وليس بعد ذلك إذلال!
ولكن أرواحهم لم تذل!
لم ينظروا إلى التتار نظرة إكبار! لم يعتقدوا أن التتار خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون! إنما كانوا في حسهم برابرة همجا متوحشين، وقبل ذلك كله وثنيين لايعرفون الله، ولايدينون دين الحق.
وانهزم المسلمون أمام الصليبيين في مبدأ الأمر، وأقام الصليبيين دويلات لهم في بعض بقاع العالم الإسلامي استمرت ردحاً من الزمن يتسلطون فيها على المسلمين ويهينونهم ويذلونهم...
ولكن أرواحهم لم تذل!
لم ينظروا للصليبيين نظرة إكبار! لم يعتقدوا أن الصليبيين خير منهم بسبب أنهم هم الغالبون! إنما كانوا في حسهم هم المشركين عبّاد الصليب، وفوق ذلك كانوا يقولون عنهم إنهم دياييث لا أعراض لهم، بسبب التحلل الأخلاقي الفاشي في حياتهم، وضعف الحمية فيهم لأعراضهم... ومن أجل ذلك كانوا يحتقرونهم.
ثم جاء النصر من عند الله حين توجه المسلمون بالعقيدة الصحيحة إلى الله، واتخذوا الأسباب، فكانت صيحة "وا إسلاماه" على لسان قطز، وهجمته الصادقة على التتار في عين جالوت تغييرا في صفحة التاريخ، فلم ينتصر المسلمون فحسب، بل بدأ التتار يدخلون في الإسلام بعد هزيمتهم أمام المسلمين. كما كان توجه صلاح الدين إلى إصلاح عقيدة الناس، واتخاذ الأسباب، إيذانا بالنصر الحاسم الذي أعاد بيت المقدس، وصد الصليبيين عن الشرق الإسلامي عدة قرون، ثم تعدى الأمر آثاره المحلية، إذ بدأت أوربا نهضتها مستمدة من الحضارة الإسلامية بعد هزيمتها أمام المسلمين! [28].
فإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى قضية الفارق "الحضاري" بين المسلمين وأعدائهم، فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون...
ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه، ولا كان له في حسّهم وزن... أي وزن!
وانظر إلى ربعي بن عامر وهو يدخل بكل عزة الإيمان على رستم في أبهته وطنافسه وبذخه، فينظر إلى ذلك كله باحتقار بالغ، ويتعمد إعلان ازدرائه له وتحقيره، فيخزّق بسن رمحه سجاجيدهم، ويربط حماره القصير الأرجل في بعض ما يعتزون به من فراشهم، ثم يقول لرستم حين سأله: ما الذي أتى بكم إلى بلادنا؟: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة...".
أي عزة بالإيمان إزاء الاعتزاز الكاذب بكل "الحضارة المادية" وكل متاع الأرض!(4/150)
ولكن موقف المسلمين من الهجمة الصليبية الأخيرة لم يكن كذلك... لم يكن موقف الإعتزاز بالعقيدة الصحيحة، ولا الاعتزاز بالإيمان... إنما كان الذلة النفسة والإنكسار...
أو قل؛ هو الإنبهار...
لأول مرة في تاريخهم ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم... لا في مجالات العلم و "التكنولوجيا" وآلات الحرب، فذلك ظاهر... ولكن في الأفكار... والنظم... والعقائد... وأنماط السلوك...
لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية، ولا فارق الحضارة المادية...
إنما كان الخلل في الإيمان... في موطن العزة والاستعلاء؛ (... وأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [29] .
كان السبب هو الخواء العقدي الذي وقعت فيه الأمة عدة قرون...
لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار...
وحين بدأ الانبهار... دخلت الأمة في التيه...
[11] احتفلت أسبانيا في عام (1992م) بمرور خمسمائة سنة على طرد المسلمين من الأندلس وبمناسبة هذه الذكرى بالذات اختيرت مدريد مكانا " للمفاوضات " بين العرب واليهود في قضية فلسطين.. أي قضية طرد المسلمين من الأندلس الثانية! ووافق العرب!
[12] ومع ذلك ندرس نحن لأبنائنا أن هذه الرحلات كانت رحلات استكشافية "علمية"! ونقول لأبنائنا إن "المتبربرين" لم يقدروا الروح العلمية التي دفعت ماجلان للقيام برحلته فقتلوه!
[13] انظر كتاب "الإسلام على مفترق الطرق" ترجمة عمر فروخ ص 58-59.
[14] سورة البقرة: 120
[15] سورة البقرة: 146
[16] سورة البقرة: 146
[17] إدارة الثقافة العامة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة.
[18] أثار هذه الكتاب بالذات حنق أكثر من واحد من المستشرقين، لأنه يرد على الشبهات التي حاولوا جاهدين أن يصرفوا الناس بها عن التمسك بالإسلام، ولأنه يكشف للناس عن مساوئ الحضارة الغربية التي ينادي بها أولئك المستشرقون بديلا من الإسلام.
[19] سورة آل عمران: 165- 166
[20] سورة آل عمران: 172- 174
[21] سورة آل عمران: 159
[22] سورة الأنفال: 59-60
[23] سورة الملك: 15
[24] سورة القصص: 77
[25] أخرجه الشيخان.
[26] انظر على سبيل المثال كتاب "واقعنا المعاصر".
[27] سورة آل عمران: 139.
[28] هذه النقطة لم تأخذ حظها من الدراسة العلمية الواجبة لها، وهي تأثير هزيمة الصليبيين أمام المسلمين في نهضة أوربا، وقيام هذه النهضة على أسس مستمدة من الإسلام. والسبب أن الأوربيين نادرا ما يعترفون بذلك، وأن المسلمين في هزيمتهم الحالية لا يصدقون أن الإسلام كان له ذلك الأثر في حياة أوربا! وهي قضية جديرة بدراسة علمية موسعة.
[29] سورة آل عمران: 139
==================
شبهات النصارى والرد عليها
المحاضرة الأولى :
في الرد على الشبهات
المحاضر / صبري عسكر
--------------------------
الحمد لله الواحد الأحد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد ولم يكن له شريك في الملك { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ( الإسراء111 )
أحمدك اللهم وأنت أهل أن تحمد اللهم لا رب سواك فندعوه ولا إله غيرك فنرجوه فيسر لي أمري واشرح لي صدري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . اللهم من كان من السامعين موحدا فتقبل منه واغفر له ذنبه ومن كان من غير الموحدين فاهده إلى توحيدك واتباع هدي نبيك محمد – صلى الله عليه وسلم –
أحمدك اللهم حمد من عرف وحدانيتك فشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( آل عمران18 ) اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، اللهم إني نستودعك هذه الشهادة ليوم تشخص فيه الأبصار فترحمنا بها وتنقذنا بها من العذاب فتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة بسلام وتجعلنا ممن ترضى عنهم ويرضون عنك ويُمتعون بالنظر إلى وجهك الكريم .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له عنك طرفة عين {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ( الحشر22 )
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء107 )
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد .
أيها الأخوة
أيتها الأخوات
أحييكم بتحية الإسلام
السلام الله عليكم ورحمته وبركاته(4/151)
لقد دأب أعداء الإسلام على كراهية الإسلام وأهله واعتادوا الكذب على الله ورسوله ورغم يقينهم بمصداقية الإسلام ومعرفتهم برسول الإسلام إلا أنهم يكيدون له ويدبرون المكائد وينظمون الحملات المسمومة والمسعورة بغية تشويه الإسلام والتشكيك في مصداقية رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام .
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنهم يعلمون صدق نبي الإسلام محمد – صلى الله عليه وسلم – :
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( البقرة146 )
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) أي محمدا (كما يعرفون أبناءهم) بنعته أي بصفته في كتبهم
قال عبدالله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي لمحمد أشد
(وإن فريقا منهم ليكتمون الحق ) نعته (وهم يعلمون) وهم يعلمون أنهم كاذبون في رفضهم الحق بعدما تبين وهم يعلمون أن ما منعهم إلا الكبر .
وبعد رفضهم الحق بعدما تبين وبعدما انتشر الإسلام وعم أرجاء المعمورة ولم تعد هناك بقعة في الأرض إلا ووصلها الإسلام ذكرا أو اتباعا جندوا جنودهم وسخروا أقلامهم للنيل من هذا العملاق القوي لأن أتباعه لا يرتدون وبه مستمسكون وفي خدمته متفانون وتحت رايته يعملون متى رفعت رايته في أرض لا تنكس فعمدوا إلى إعلان الحرب بكل صورها على هذا العملاق الذي هو الإسلام ، وعلى من تمسك به ، ودعا إليه ، بحجة أنهم يريدون إنقاذ العالم منه . وما العالم الذي يريدون إنقاذه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ألعلهم يريدون إنقاذ الرأسمالية السافرة أو الشيوعية المنهزمة أم البوذية المدحورة أم الطغاة العتاة وأحلافهم والضالين وأنصارهم والمغضوب عليهم وأشياعهم .
إن الإسلام ليس خطرا على أمة بعينها أو جنس بذاته ، إنما هو خطر داهم على من يذل عباده ، وعلى من يتعصب لجنس دون آخر ، وعلى من يفرق بين الأبيض وبين الأسود من عباد الله ، وعلى من يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ، وعلى من يأكل أموال الناس بالباطل ، وعلى من يسخر الآلاف من الطبقات الكادحة لخدمته .
وما يخاف شعب شريف الغاية من عودته ، ولا جنس نقي النية من دولته ، وإنما نجزم أن كل عائق يوضع في طريق هذا الدين الكريم إنما هو لحساب القوى الغاشمة ، والسلطات العفنة مدنية كانت أو كهنوتية . ( التعصب والتسامح للشيخ محمد الغزالي 3 – 4 )
إن الإسلام الذي سوى بين السادة وبين العبيد وبين الفقراء وبين الأغنياء فقدم فيه سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيبا الرومي على أبي الحكم ابن هشام وعلى عتبة وشيبة ابنا ربيعة هو الإسلام الذي جعل من زيد بن حارثة وهو الذي كان من العبيد قائدا لجيش الإسلام في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى من ؟ على جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة وخالد بن الوليد وكبار الصحابة - رضوان الله عليهم –
إنه الإسلام الذي جعل من أسامة بن زيد بن حارثة – رضي الله عنه - قائدا لجيش فيه كبار الصحابة – رضوان الله عليهم – بل خرج أبوبكر الصديق – رضي الله عنه - يودع الجيش بنفسه ماشيا على قدميه ويتحرج أسامة من أن يكون راكبا وخليفة المسلمين ماشيا ويهم بالنزول ويأبى أبو بكر فيشير إليه أن كما أنت يا أسامة وماذا يضير أبو بكر أن يغبر قدميه بالتراب في سبيل الله
وكان مبدأ الإسلام منذ بدايته : من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه
إن الأحقاد الطائفية والحروب الدينية غريبة على أرض الإسلام ، فقد ألف هذا الدين منذ بدأ أن يعاشر غيره على المياسرة واللطف ، وأن يرعى حسن الجوار فيما يُشرِّع من قوانين ، ويضع من تقاليد ، وهو في ميدان الحياة العامة حريص على احترام شخصية المخالف له . ومن ثم لم يفرض عليه حكمه ، أو يقهره على الخضوع لشرائعه بل ترك أهل الأديان وما يدينون .
خذ مثلا الخمر والخنزير ، إنهما - بالنسبة للمسلم – لا يعدان مالا له قيمة بل الحكم بحرمتهما ورجسهما معروف . ومع ذلك فالمذاهب الفقهية ترى أنهما بالنسبة للنصارى مالا متقوَّم يصح تملكه وتمليكه ، ومن ثم تعترف بالتعامل فيهما .
ومن مظاهر التسامح في الدين الإسلامي الاعتراف بأنكحة غير المسلمين وأن لها حكم الصحة لأننا أمرنا بأن نتركهم وما يدينون به حتى بلغ من احترام الحرية الدينية عند غير المسلمين أن يقبلوا زواج المجوسي بابنته مادامت شريعته تبيح له ذلك .
وفي كتاب المغني لابن قدامة وغيره : مجوسي تزوج ابنته فأولدها بنتا ثم مات عنها فلهما الثلثان
والعجيب أنك ترى أولئك الحاقدين على الإسلام يتغافلون هذا التسامح ويلبسون الحق بالباطل ويشوهون صورة هذا الدين القويم الذي جعله الله كلمته الأخيرة إلى خلقه على يد معلم البشر وخاتم النبيين محمد بن عبدالله الذي أرسله الله رحمة للعالمين .
ولقد اختلف أعداء الإسلام فيما بينهم في كل شيء واتفقوا على شيء واحد ألا وهو مواجهة الإسلام وعداوة أهله .(4/152)
ولقد وقف هذا العملاق العظيم في مواجهة أعدائه صامدا بأصوله قوياً بدستوره شامخا بعقيدته وما ذاك إلا لأنه الدين الحق الذي لم يبدل ولم يغير ولا سبيل لبشر أن ينال من أصوله يعطلون أحكامه ولا يلغونها يسكتون عن شرائعه ولا يحذفونها ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) .
لقد واجه الإسلامُ أعداءه وما زال يواجههم وسيظل إلى أن تقوم الساعة لأن الصراع بين الحق وبين الباطل سمةٌ من سمات هذه الحياة لأن الإسلام دين الله الذي ارتضاه لعباده وكلمته الأخيرة إلى خلقه والله حي لا يموت ولأن قوى الشر يتزعمها إبليس اللعين الذي أخذ وعدا من رب العالمين يوم أن طرده من رحمته وأهبطه إلى الأرض مذموما مدحورا أن ينظره إلى يوم يبعثون.
َ( قالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ{13} قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ{15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ{16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ{17} قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ{18} ( الأعراف )
لقد وقف الإسلام في مواجهة أعدائه وهم :
1. الصهيونية العالمية التي تمثلها إسرائيل وكل المجامع الماسونية والنوادي اليهودية في العالم مثل ( الروتاري ) و ( الليونز ) و ( البني بريث ) و ( المائدة المستديرة ) وكل الجمعيات والأشخاص والجهات التي تعمل على تحقيق أهداف اليهود .
2. الصليبية العالمية والتي يمثلها الغرب النصراني بزعامة أمريكا وإنجلترا والفاتيكان وسائر الكنائس المنتشرة في العالم من كاثوليكية وأرثوذكسية وبرتستانتية .
3. الشيوعية الملحدة ( المنهزمة والفاشلة ) وتمثلها روسيا وسائر دول الشرق الشيوعي والوثني في الهند والصين واليابان وكل الأحزاب اليسارية والاشتراكية في بلاد العالم .
ولكن ما الأسباب التي دعت هذه القوى إلى معاداة الإسلام ؟
أما عن اليهود والنصارى فعداوتهم قديمة بدأت منذ ظهور الإسلام والأسباب معروفة لا تخفى عليكم ولعل من أهمها :
1. ظهور الإسلام على يد نبي من العرب .
2. أنهم كانوا يظنون أن النبوة حكرا على بني إسرائيل فنزعها الله من بينهم بعد أن فقدوا أهليتهم لهذا الشرف العظيم .
3. أن الإسلام كشف خداع وزيف عقائدهم الباطلة وكتبهم المحرفة وأن هذه الكتب التي بأيديهم لم يعد لها صلاحية القبول والتعبد بها .
4. أن الإسلام كشف حقيقة الآلهة المزيفة والمتمثلة في الأحبار والرهبان والقساوسة الذين نصبوا أنفسهم آلهة لأتباعهم فيغفرون لهم ويبيعونهم الجنة بصكوك الغفران ويهددونهم بالنار مقابل ابتذاذ أموالهم وعرقهم .
5. ثم كانت القاصمةُ لهم والفاجعةُ حين علموا أن الإسلام ليس دينا خاصا بالعرب وإنما هو دين الإنسانية كلها ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ:28)
وأنه بعد مجيء الإسلام لم يعد هناك دين صحيح يتبع وأنه الناسخ لجميع الأديان السماوية :
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)
ومعنى هذا أنه لا يهودية ولا نصرانية وإنما على أتباعها أن ينقادوا تحت راية :
لا إله إلا الله محمد رسول الله .
( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19)
ومن هنا بلغ بهم الحقد والكراهية مبلغا عظيما حتى تمنوا أن لو ارتد أتباع هذا الدين كفارا وهذا ما أخبر به القرآن الكريم : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:109)(4/153)
إلا أن اليهود كانوا أشد ضراوة وأكثر عداوة وأخطر على الإسلام من غيرهم وهذا أيضا ما أخبر به القرآن الكريم ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة:82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{83} وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ{84} فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ{85} ( المائدة )
ذلك أن اليهود لا تقتصر عداوتهم للإسلام على المواجهة المادية الظاهرة بل على العكس فهم أضعف وأجبن وأخس خلق الله وإنما تتمثل عداوتهم فيما هو أبعد من ذلك : في التآمر والكيد والدس في الخفاء والطعن من الخلف وهم العدو الماكر الذي لا تستطيع أن تستكشف حجمه ولا حقيقته كما أن اليهود هم مخترعوا كل المذاهب الهدامة في تاريخ الإسلام مثل الماركسية والثورة البلشفية الشيوعية وهم الذين ألبوا النصارى في الحروب الصليبية وهم الذين أنشأوا البهائية والقديانية وهم الذين يملكون المال والذهب ووسائل الإعلام والتوجيه وهم وراء كثير من الحركات الفكرية والسياسية التي تهدم الدين من أساسه ومن هنا نلمس السر القرآني العظيم حين جعل اليهود في مقدمة أعداء الإسلام قبل النصارى وحسبنا أنهم تسببوا في قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم عمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم أجمعين - وما ترتب على مقتلهم من دماء المسلمين التي سفكت بسبب الفتن والحروب .
ويأتي النصارى بعد اليهود في عدائهم للإسلام وقد أشار الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى أن الروم النصارى هم أشد الناس على الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة أي أكثرهم قوة وعددا وهكذا تكون شدة عداوة اليهود في الكراهية والمكر والعمق وشدة النصارى في القوة العددية والقتالية وهذا ما جاء في صحيح مسلم ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس عددا )
والعجب من أولئك النصارى كيف يعادون الإسلام والمسلمين ويصادقون اليهود ؟
كيف يتعاونون مع الصهيونية للقضاء على الإسلام ؟
لقد كان منطق العدل يحتم عليهم أن يتعاونوا مع الإسلام والمسلمين للأسباب التالية :
1. فقد ادعى اليهود أن مريم - أم نبيهم أو أم إلههم كما يزعمون ويعتقدون – زانية وبرأها القرآن بل ضرب بها مثلا للنساء العفيفات وأبطل كل دعاوى اليهود .
2. لقد أنكر اليهود نبوة عيسى بل وصفوه بالكفر والضلال واعترف القرآن بنبوته وورد ذكره في القرآن الكريم باسم عيسى خمس وعشرون مرة وباسم المسيح تسع مرات وابن مريم اثنتين وعشرين مرة كلها ليس فيها مرة واحدة تنتقص من قدره ولا من نبوته شيئا .
3. لقد قال اليهود أن قتل النصارى من الواجبات التي يتقرب بها اليهودي إلى الله وأكبر دليل على ذلك أن اليهود قرروا قتل عيسى عليه السلام والنصارى يعتقدون أن اليهود فعلا قتلوه ومع ذلك سمعنا أن البابا الهالك برأ اليهود من قتل المسيح ولا أدري هل اتهم المسلمين بقتله أم لا ؟ ربما أنها كانت فرصة ليتهم المسلمين بقتل الأنبياء ويلصق بهم إرهابا جديدا كما هو شأنهم ودأبهم وربما لو وجدوا مسوغا زمنيا يناسب هذه التهمة لفعلوا ذلك واعتبروها فرصة
فعلى الرغم من أن محور عقيدة النصارى أن اليهود صلبوا عيسى عليه السلام وقتلوه ولكن الفاتيكان في سنة 1965م أصدر وثيقة تبرأ اليهود من دم المسيح ويخاطب البابا ( يوحنا ) الثالث والعشرين اليهود بقوله : { أنا يوسف أخوكم أجل إن هناك فرقا بين الذي لا يؤمن إلا بالعهد القديم ( أي التوراة يعني اليهودي ) وبين الذي يؤمن أيضا بالعهد الجديد ( أي الإنجيل يعني النصراني ) ولكن هذا الفرق لا ينقص شيئا من الأخوة القائمة على أصلنا الواحد : ألسنا جميعا أبناء أب واحد في السماوات فيجب أن يكون بيننا حب مشرق حب نشيط فعال }
سبحان الله العظيم(4/154)
أنظروا إخواني وأخواتي الكرام لهذا البابا الذي يعتبره النصارى ممثلا لله في الأرض الذي يعترف بأن اليهود لا يؤمنون بكتابه ولا بنبيه الذي هو إلهه كما يزعم ويعتبره ابن زنا ومع ذلك يخطب ودهم وحبهم بينما نحن المسلمين نعترف بأصل كتابه ونبيه ولا يصح إسلامنا إلا بالاعتراف بدينه وبكتابه وبنبيه وببراءة مريم وطهارتها ومع ذلك يعادينا ويصالح اليهود على حسابنا إنه الحقد على الإسلام الذي أعماهم عن رؤية الحقيقة والذي جعلهم يتعاونون حتى مع الشيوعيين الذي لا يعترفون بأي دين سماوي إنهم على استعداد أن يتعاونوا مع الشيطان نفسه طالما أنه يشاركهم في عداوة الإسلام .
أقول لأولئك الضالين الذي أعماهم الحقد والكراهية :
لقد فقدتم عقولكم حين اتفقتم مع اليهود وعاديتم الإسلام .
أليس هو الإسلام الذي لعن اليهود وأعلن غضبه عليهم لقولهم على مريم زورا وبهتانا بأنها زانية ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) (النساء:156) ولكن عبَّاد الصليب لا يهتمون بما يخدم عقيدتهم وأنَّ جُلَّ اهتمامهم هو القضاءُ على الإسلام وأهله .
وما أصدق القرآن الكريم حين يقول ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
وقال أيضا (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
وأما عن سر عداء الشيوعية للإسلام فلأن الأساس الفكري للشيوعية هو إنكار الأديان واعتبارها مجرد خرافة وتخدير لبني البشر بينما أساس الإسلام هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى كقوة غيبية خالقة ورازقة وحاكمة ومشرعة .
إذا فكل حقيقة من حقائق الإسلام تهدم باطلا من أباطيل الشيوعية وهذا هو سر العداء .
ومع أن النصرانية دين أيضا إلا أن الشيوعية لا تهتم بها كدين ولا تعيرها أي اهتمام لأن أتباعها قد انحرفوا عن نصرانية عيسى _ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام _ واخترعوا لأنفسهم عقائد لا صلة لها بوحي السماء ومن هنا فالنصارى هاربون من دينهم قبل أي شيء آخر وكنائسهم أصبحت أماكن خربة مملوءة بالصور والتماثيل والصلبان وهي لا تأثير لها عليهم حتى أنهم يحاولون جذب الشباب إليها عن طريق الإغراءات الجنسية حتى تعد صالات الرقص والجنس بعد إقامة الصلوات في أمريكا [ راجع ص 86 وما بعدها من كتاب الإسلام والمشكلات الحضارية للشهيد سيد قطب ]
وبهذا نصل إلى نهاية هذه النقطة إلى أن هذه القوى المعادية للإسلام والتي اختلفت في كل شيء – في العقائد ، وفي الفكر ، وفي السلوك ، ولكنها اتفقت على شيء واحد هو :
• إبعاد المسلمين عن الإسلام من حيث الحقيقة وإبقائهم عليه من حيث الاسم .
• خنق كل الظروف والملابسات التي تؤدي إلى نهضة المسلمين سواء كانت في صورة دعوة أو حركة أو دولة .
إنه الثالوث الجهنمي الرهيب الذي تآمر على أمتنا واصطلح أهله على حسابنا وتم وفاقهم على أن يكونوا هم الجزارون ونحن الضحايا ومن خلال هذه القوى يواجه المسلم بكثير من الفلسفات والنظريات التي تحاول اقتلاع الإسلام من جذوره مثل :
1. نظرية التطور الدروانية التي تحاول هدم الأديان من أساسها ورغم إقرارهم ببطلانها من الناحية العلمية إلا أنهم يحرصون على تدريسها في جامعات الدول الإسلامية لأنها تهدم العقيدة الإسلامية .
2. نظرية فرويد التي تحول الإنسان إلى حيوان ليس له هم إلا إشباع شهوته وأن الحياة في نظره أساسها الجنس حتى أن الطفل يشبع رغبته الجنسية من أمه بالرضاعة ويرد كل تصرف بشري أو حيواني إلى الجنس وما ذاك إلا لأنه حيوان بشري هو ومن وافقه ودعا إلى نظريته الهدامة .
3. الفلسفة البرجماتية النفعية الأمريكية التي تقوم على أساس المصلحة والمنفعة دون اعتبار للقيم والأخلاق .
4. الفلسفة الماركسية الملحدة التي تقوم على أساس إنكار كل ما ليس بمحسوس وإثارة الفتن الطبقية .
5. الوضعية المنطقية وهي فلسفة مادية تنكر وجود الله .
6. الوجودية الملحدة التي تبالغ في حرية الإنسان إلى حد إنكار حرية الآخرين وكرامتهم .(4/155)
ولا أريد أن أناقش هذه النظريات فليس هو موضوعنا الآن ولكني أردت فقط أن أبين أن الإسلام يقف في مواجهة أعدائه وهم يستغلون أبناءه للنيل منه فيوهمونهم بصحة عقائدهم أو مذاهبهم الفكرية والفلسفية من أجل إصابة الإسلام في مقتل وهذا وإن تحقق لهم جزئيا فلن يبلغوا مرادهم لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه وإتمام نوره ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف:8)
أيها الأخوة
أيتها الأخوات
هذه مجرد مقدمة أردت أن أجعلها مدخلا لسلسلة محاضرات أرد فيها على أعداء الله مما يرددونه من شبهات في رؤوسهم حول الإسلام سواء في عقائده أو تشريعاته وكذلك ما يرددونه حول شخص نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
من ذلك ما يثيرونه من شبهات وأباطيل ويروجون لها بالتأليف والنشر والإعلام بكل صوره ظنا منهم أن ذلك قد يصرف الناس عن الإسلام أو على الأقل يثني عزيمة من يريد الدخول في الإسلام من النصارى أو اليهود أو غيرهم .
ويعمدون ضمن حملتهم المسعورة على الإسلام إلى تحريف النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أو صرف المستمع عن المعنى الأصلي إلى معنى يوافق هوى في نفوسهم يلبسون الحق بالباطل ويذكرون الشبهة لا على أنها شبهة ولكن يقدمونها على أنها قضية مسلمة ولا خلاف فيها وربما يستغلون جهل المستمع باللغة العربية أو بأسباب النزول ويعلنون التحدي لمن حضر معهم من المسلمين وربما إذا وجدوا من يمكنه الرد على شبهتهم لا يتركونه حتى يفرغ من رده ويدخلونه في شبهة أخرى ويظهرونه وكأنه عجز عن الرد في الأولى ، وربما دخل أحد النصارى باسم المسلمين ويحاورهم بأسلوب ضعيف وفي النهاية يظهر انهزامه ويقول هكذا رأيت المشايخ في المساجد يقولون ذلك فقلت بقولهم وهو في الأصل ليس بمسلم وقد حدثني أحد الأخوة ويعمل طبيبا – أخصائي عيون – انه سمع أحد المتكلمين في غرفهم يقول بأنه كان مسلما لفترة طويلة وتنصر لأنه لم يقتنع بالإسلام فقال له هذا الأخ الطبيب أصحيح أنك كنت مسلما ؟ فقال : بلى فقال له الأخ الطبيب : إذا أسمعني الآن التشهد الأول في الصلاة الرباعية . فبهت المشرك ولم يجب على السؤال .
و من ذلك ما ذكروه في غرفة من غرفهم من أن الآية رقم 27 من سورة العنكبوت تفيد رفض نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – قال احدهم واسمه أونلي ولم يقل رفض النبوة كما ذكرتها لكم الآن بل اتهم خاتم النبيين وإمام المرسلين بالكذب في ادعاء النبوة - { مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً } ( الكهف5 ) ودائما يذكرون رقم الآية واسم السورة دون قراءة الآية وذلك لسببين خبيثين :
الأول : لأنه يخشى من قراءة الآية فيخطئ في قراءتها فيصحح له أحد المسلمين فيظهر جانب الضعف عنده فيقول المسلم المستمع له إن كنت لا تعرف كيف تقرأ بشكل صحيح فكيف تفهم ، تعلم أولا كيف تقرأ ، كي تفهم ، ثم بعد ذلك اعترض .
فتراه يتلاشى قراءة الآية أو الآيات ويكتفي بذكر اسم السورة ورقم الآية .
الثاني : في قراءة الآية قد يسهل لخصمه المسلم الرد عليه إذا كان عنده علم باللغة أو كان دارسا لأسباب النزول والتفسير وإلى أن يذهب للمصحف ويأتي بالسورة ويصل للآية ويجهز رده يكون هذا الخبيث قد انتقل إلى فقرة أخرى ويظهر للحضور أنه حقق نصرا في ذلك .
كما لوحظ أيضا أنهم يستشهدون بآية واحدة على تقرير الشبهة وربما بجزء من آية فيكونون كمن يقرأ ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4) ويستدل بها على أن الويل والعذاب للمصلين دون سواهم .
أو يقرأ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ .............................. )
(النساء:43) ويستدل بها على ضرورة ترك الصلاة وعدم الاقتراب منها . وفي ذلك دليل على جهله وجهل من يستمع له ويوافقه
ويلاحظ أيضا في طبيعة هؤلاء المغرضين أنهم إذا تم الرد عليهم في شبهة ما ظنوها ثغرة في دين الإسلام وتبين لهم الحق وأن فهمهم الأول غير صحيح يعودون مرة أخرى لإثارتها رغم الرد عليهم واهمين بذلك أنهم يؤثرون على ضعفاء العقول وقليلي العلم بالإسلام وصدق الله العظيم { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }( الأنعام33 )
ويبقى سؤال :
إذا كانوا كذلك يجادلون في الحق بعدما تبين ويعلمون أن القرآن الكريم كتاب معجز وأن مابين دفتيه هو كلام الله وأن الإسلام هو دين الحق وأنهم على الباطل فلماذا هم كذلك مستمرون على باطلهم إنهم كما وصفهم القرآن الكريم :
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ( التوبة32 )(4/156)
وقال سبحانه وتعالى :
{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ( الصف8 )
المهم يذكر اسم السورة ورقم الآية دون أن يذكر نص الآية وقد بينا سبب ذلك .
رجعت إلى الآية الكريمة في سورة العنكبوت وهي برقم ( 27 ) ونصها { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }( العنكبوت27 )
وقال ذلك إما جهلا منه بلغة القرآن الكريم أو مغالطة منه مع علمه بمعنى الآية فهو يريد أن يصرف مستمعه إلى أن النبوة والكتاب في ذرية يعقوب وبما أن محمدا ليس من ذرية يعقوب فهو ليس بنبي وكتابه ليس كتابا من عند الله .
وأقول لهذا الجاهل الغبي أو الحاقد المخادع أن مرد الضمير في الآية يعود على إبراهيم وليس على يعقوب ومحمد – صلى الله عليه وسلم – من ذرية إسماعيل ابن إبراهيم كما أن الأنبياء الذين أرسلهم الله لبني إسرائيل من ذرية يعقوب ابن إسحاق عدا عيسى ابن مريم فهو ليس من صلب رجل من بني إسرائيل ولكنه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول ونسبته لبني إسرائيل نسبا مرفوضا إلا من ناحية أمه مريم ابنة عمران .
وإن المتتبع للنص القرآني يجد فيه الوضوح التام لقضية عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فلنقرأ هذه الآيات من سورة مريم ولنستشعر الخطاب الإلهي لعباده والذي يدل على رحمة الله بعباده وبيان الحق الذي ابتعد عنه عباد الصليب :
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً{27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً{28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً{30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً{31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً{32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً{33} ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ{34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ{35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{36} فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ{37}
ومن ذلك أيضا ما كان من أحد النصارى في البالتوك وفي غرفة إسلامية وعلى إثر حوار معين حول جواز سب البابا أو عدم جواز ذلك وكنت ممن يرى عدم سبه وخالفني في ذلك بعض إخواني المسلمين - وكل منا له رأيه - فطمع فيَّ أحد النصارى واسمه الغراب – طمع هذا الذي سمى نفسه بالغراب أن يُنَصرَني - لما رأى من هدوئي في الحوار مع إخواني بضرورة عدم السب والشتم لمن خالفنا من النصارى ، فرأيته يخاطبني على الخاص ويقول لي أن عيسى وهو المسيح وبنص القرآن الكريم إله ولكنكم ترفضون ذلك رغم إيمانكم بالقرآن .
فقلت له القرآن الكريم ينص على أن عيسى – عليه السلام إله ؟
قال نعم .
قلت فأين ذلك في القرآن الكريم ؟
فذكر الآية الكريمة من سورة آل عمران :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وبالطبع رجعت إلى تفسير الآية الكريمة لأكثر من تفسير فلم أجد في نص الآية ولا في تفسيرها ما يشير من قريب ولا من بعيد إلى ألوهية عيسى عليه السلام .
ومعنى الآية :(4/157)
(و) نجعله (رسولاً إلى بني إسرائيل) في الصبا أو بعد البلوغ فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت ، وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم: إني رسول الله إليكم (أني) أي بأني (قد جئتكم بآية) علامة على صدقي (من ربكم) هي (أني) وفي قراءة بالكسر استئنافا (أخلق) أصور (لكم من الطين كهيئة الطير) فالكاف اسم مفعول (فأنفخ فيه) الضمير للكاف (فيكون طيراً) وفي قراءة طائر (بإذن الله) بإرادته فخلق لهم الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا فكان يطير وهم ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى وليعلم أن الكمال لله (وأبرِّئ) أشفى (الأكمه) الذي ولد أعمى (والأبرص) وخُصا بالذكر لأنهما داءا إعياء وكان بعثه في زمن الطب فأبرأ في يوم خمسين ألفا بالدعاء بشرط الإيمان (وأحيي الموتى بإذن الله) كرره لنفي توهم الألوهية فيه فأحيا عازر صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر فعاشوا وولد لهم ، وسام بن نوح ومات في الحال (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون) تخبئون (في بيوتكم) مما لم أعاينه فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد (إن في ذلك) المذكور (لآية لكم إن كنتم مؤمنين)
وجاء في تفسير القرطبي حول الآية الكريمة بتصرف يسير :
قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط. وقيل: هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام.
( ورسولا ) ي ونجعله رسولا. أو يكلمهم رسولا. وقيل: هو معطوف على قوله (وجيها) وفي حديث أبي ذر الطويل (وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام)
"أني أخلق لكم " أي أصور وأقدر لكم. "من الطين كهيئة الطير "
قرأ الأعرج وأبو جعفر "كهيّة " بالتشديد. الباقون بالهمز.
"فأنفخ فيه " أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا .
قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى.
وقيل: لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد. ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق؛ ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يُسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة.
ويقال:
إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: أخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك؛ فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض؛ وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله.
قوله تعالى: "وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله "
الأكمه: الذي يولد أعمى؛ عن ابن عباس. وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى؛
والبرص : معروف وهو بياض يعتري الجلد، والأبرص القمر، وسامُّ أبرص معروف، ويجمع على الأبارص. وخُص هذان بالذكر لأنهما عياءان.
وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
"وأحيي الموتى بإذن الله "
قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح؛ فالله أعلم.
فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له،
وأما ابن العجوز فإنه مر به يُحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله.
وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها؛ فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحيي لنا سام بن نوح.
فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه، حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي؛ وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي؛ فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر.(4/158)
قوله تعالى: [ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين] أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد؛ فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا؛ فذلك قوله [وأنبئكم] الآية. وقرأ مجاهد والزهري والسختياني [وما تذخرون] بالذال المعجمة مخففا. وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه.
قال قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية.
ثم أردف هذا الغراب الذي يحاورني ويطمع في تنصيري قائلا :
بما أن عيسى خلق فهو إله لأن الخالق حتما ولابد أن يكون إلها ثم عقب بقول الله تعالى :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ( النحل17 )
وكلام هذا النصراني مردود عليه لأن عيسى لم يخلق خلقا سويا باقيا متناسلا من تلقاء نفسه بل كان خلقا مؤقتا ليبرهن لهم على صدق نبوته مع ذكر من أذن له بذلك وهو الله ولنقرأ الآية الكريمة ليتأكد لنا نسبة الفعل إلى الله وليس إلى عيسى عليه السلام :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وإذا كان عيسى قد صنع من الطين كهيئة الطير فصار طيرا بإذن الله فمن قبله موسى رمى عصاه فصارت حية تسعى أيضا بإذن الله ولم يقل أحد أنه إله والحية مخلوق له روح كالطائر الذي ذكر في شان عيسى بل أن الحية كانت اكبر من الطائر وابتلعت حبال وعصي السحرة التي أوهموا الناس أنها تتحرك .
ومن هذه الشبهات أيضا أن عيسى عليه السلام يحي الموتى وطالما أنه يحيي الموتى فهو إله ويستدلون بالآية الكريم :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
كما تعلمون أيها الأخوة أن الله يؤيد أنبياءه بمعجزات ولكي تكون معجزة لابد أن تكون أمرا خارقا للعادة وأن تكون من جنس ما نبغ فيه القوم المرسل إليهم هذا النبي ومن ذلك موسى عليه السلام أرسل على قوم انتشر فيهم السحر فكانت معجزته أن أيده الله بشيء عجز عنه السحرة بل لم يقفوا عند حد العجز ولكنه تيقنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من العصا التي انقلبت إلى حية والتهمت ما قدموه من سحر وكان متمثلا في حبال وعصي أعلنوا إيمانهم بالله رب العالمين وقالوا كما جاء ذكر القرآن الكريم ونكتفي بذكر مشهد واحد فقط من مشاهد القرآن الكريم في قضية موسى عليه السلام مع فرعون وهذا هو ماورد في سورة الشعراء :
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ{29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ{30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{33}
وثمة معجزة أخرى لموسى بن عمران عليه السلام فقد حدث أن رجلا قتل من بني إسرائيل ولم يعرفوا من قتله فأحياه الله على يد موسى وأخبر عن قاتله وفي ذلك أشار القرآن الكريم
( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73}
ومع أنها إحياءٌ للموتى مثل إحياء الموتى عند عيسى عليه السلام فقد وقفت عند كونها معجزة أيد الله بها نبوته فقط
و لم يقل أحد أن موسى إله أو ابن الله .
وفي زمن عيسى عليه السلام كان الناس قد اشتغلوا بالطب ولكنهم عجزوا عن أمور منها إبراء الأكمه وهو الذي ولد أعمى والأبرص وهو المرض الجلدي المعروف وكذلك أن يتكلم ميت بعد موته فأيده الله بما عجز عنه قومه وهم يعلمون أنه لم يدرس الطب ولا غيره ليعلموا أن هذا الإعجاز من عند الله فيكون أدعى لإيمانهم وفي ذلك يقول الله تعالى :(4/159)
{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }المائدة110
ومعنى الآية :
إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب, وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين, وبرأتها مما نُسِب إليها, ومن هذه النعم على عيسى - عليه السلام - أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام, يكلم الناس وهو رضيع, ويدعوهم إلى الله وهو كبير بما أوحاه الله إليه من التوحيد, ومنها أن الله تعالى علَّمه الكتابة والخط بدون معلم, ووهبه قوة الفهم والإدراك, وعَلَّمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام, والإنجيل الذي أنزل عليه هداية للناس, ومن هذه النعم أنه يصوِّر من الطين كهيئة الطير فينفخ في تلك الهيئة, فتكون طيرًا بإذن الله, ومنها أنه يشفي الذي وُلِد أعمى فيبصر, ويشفي الأبرص, فيعود جلده سليمًا بإذن الله, ومنها أنه يدعو الله أن يحييَ الموتى فيقومون من قبورهم أحياء, وذلك كله بإرادة الله تعالى وإذنه, وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام, ثم يذكِّره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين همُّوا بقتله, وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته, فقال الذين كفروا منهم: إنَّ ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر.
وحجة النصارى تكمن في كون معجزة عيسى لا يقدر عليها بشر فإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى مما يعجز عنه بشر وطالما أن عيسى فعله فهو إله .
والجواب :
أقول لهم إن كانت عندهم بقية عقل كل المعجزات التي أتى بها الأنبياء يعجز عنها البشر ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثلها .
فهل كل الأنبياء آلهة ؟
فمعجزة صالح عليه السلام الناقة
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }الأعراف73
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا لمَّا عبدوا الأوثان من دون الله تعالى. فقال صالح لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده; ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة, قد جئتكم بالبرهان على صدق ما أدعوكم إليه, إذ دعوتُ الله أمامكم, فأخرج لكم من الصخرة ناقة عظيمة كما سألتم, فاتركوها تأكل في أرض الله من المراعي, ولا تتعرضوا لها بأي أذى, فيصيبكم بسبب ذلك عذاب موجع.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ }هود64
ويا قوم هذه ناقة الله جعلها لكم حجة وعلامة تدلُّ على صدقي فيما أدعوكم إليه, فاتركوها تأكل في أرض الله فليس عليكم رزقها, ولا تمسُّوها بعَقْر, فإنكم إن فعلتم ذلك يأخذكم من الله عذاب قريب من عَقْرها.
{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }الأعراف77
فنحروا الناقة استخفافا منهم بوعيد صالح, واستكبروا عن امتثال أمر ربهم, وقالوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: يا صالح ائتنا بما تتوعَّدنا به من العذاب, إن كنت مِن رسل الله.
فهل يقدر بشر أن يأتي بناقة من الجبل أو من الصخر كناقة صالح ؟
بالطبع لا وألف لا ؟
ومع ذلك لم يدعي أحد أن صالحا إله أو ابن الله
ومعجزة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – القرآن الكريم وتحدى الله به أرباب الفصاحة والبلاغة وهم أهل اللغة والشعر والأدب ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل "مكة": إن محمدًا قد افترى هذا القرآن؟ قل لهم: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات, وادعوا من استطعتم من جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر, إن كنتم صادقين في دعواكم.(4/160)
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة23
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – , وتزعمون أنه ليس من عند الله, فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن, واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم, إن كنتم صادقين في دعواكم
وعجز القوم كما عجز غيرهم وما زال العجز فيهم وسيظل إلى أن تقوم الساعة ومع ذلك لم يقل أحد ان محمدا إله بل نهى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أمته أن يبالغوا في مدحه فقال ) لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )
ولولا أن القرآن أخبرنا عن معجزات الأنبياء السابقين ما صدقنا ولا كذبنا لأننا لم نرى شيئا وهي تكون لمن كان موجودا في زمن الرسول الذي أيده الله بهذه المعجزة أو بغيرها ، ولكن بقيت معجزة نبينا الخالدة ألا وهي القرآن الكريم بين أيدينا حتى الآن وستظل رغم أنف الحاقدين والمارقين إلى أن تقوم الساعة فهل كسبوا التحدي وأتوا بقرآن مثله أم عجزوا هم وأسلافهم وسيظل العجز لازم لهم إلى أن تقوم الساعة فهل من معتبر ؟ فهل من متبع للحق ؟ فهل من عاقل يقبل الحق ويتخلى عن باطله ؟ صدق الله العظيم ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)
أيها الأخوة والأخوات
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
================
الرد على من زعم ألوهية المسيح في القرآن الكريم
--------------------------
الحمد لله الواحد الأحد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً } الجن3
أحمدك اللهم وأنت أهل أن تحمد خلقتنا ولم نك شيئا ورزقتنا بفضلك وجعلتنا من أمة الإسلام وعلمتنا كيف نعبدك ولولاك ما اهتدينا ولا صلينا ولا زكينا فلك الحمد ولك الشكر .
اللهم إنا نشهد لك بما شهدت به لنفسك وشهد لك به ملائكتك وألوا العلم من خلقك{ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ( آل عمران18 ) اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، اللهم إني نستودعك هذه الشهادة ليوم تشخص فيه الأبصار فترحمنا بها وتنقذنا بها من عذابك وتدخلنا بها جنتك يوم نلقاك .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في خلقه ولا شريك له في ملكه ولا شريك له في عبادته هو الله ربنا وسع كل شيء رحمة وعلما ( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر:7)
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فدعا الناس لتوحيده فمن أطاعه نجا ومن عصاه هلك وكان حريصا عليهم حتى شهد له الله بذلك ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6) وقال تعالى ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة: 128)
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد .
أيها الأخوة
أيتها الأخوات
أحييكم بتحية الإسلام
السلام الله عليكم ورحمته وبركاته
لقد تحدثنا في اللقاء السابق حول الإسلام ومنهجه في التعامل مع غير المسلمين وما يتميز به هذا الدين العظيم من التسامح والتراحم واستيعاب المخالفين له في حق الحياة ضمن منهجه القويم وهو أن نترك أهل الأديان وما يدينون به .(4/161)
وتحدثنا أيضا عن تحالف قوى الشر المتمثلة في الصهيونية العالمية والصليبية الحاقدة والشيوعية السافرة ضد هذا العملاق العظيم وبينا سبب هذا العداء ، ثم تعرضنا لمنهج أعداء الإسلام في إثارة الشبهات حول الإسلام والمسألة كما وصفها الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – [ لا تعدو أن أحمق غرته الأمانيُّ فجاء يناوش القلاع الشم فأصابته قذيفة أودت به ودمرت عليه مكمنه ، وبقيت القمم كما هي ترد الطرف وعاد المغرورون إلى أوكارهم الهشة فإذا بها مسوَّاة بالرغام لقد كنا سكوتا عن طمأنينة مسالمين عن قوة نخدم ديننا وأمتنا في بعد عن الجدل وإيثار للمودة . حتى جاء من يحاول - بغباوته – استفزازنا ؛ وبم ؟ بالهجوم على الإسلام ونبيه وصحابته وتاريخه منذ ظهر إلى اليوم ...) { التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام ص 3 }
وأقول لإخواني الكرام الذين يستمعون لحديثي لا تصدقوا أن في الإسلام شبهات ولا في القرآن ثغرات ولا في السنة خلل وإنما الشبهات والثغرات والخلل في عقول من يثيرها ولا تظنوا أنني أرد بمثل هذه المحاضرات على الذين يثيرونها وإنما أجدها فرصة لأبين لكم أيها المسلمون مافي دينكم من كمال وعظمة ولو علم أعداء الإسلام أنهم السبب في مثل هذه الدراسات التي تظهر جوانب العظمة في هذا الدين ما أثاروا شيئا من ذلك فكل شبهة يثيرونها تظهر عند المنصفين جانبا من جوانب الكمال والعظمة لديننا القويم .
وبالتالي فأنا أقول لمن تسول له نفسه ويزين له شيطانه أن يدخل في غرفهم بحجة أنه يدافع عن دينه قد جانبك الصواب وخالفت ربك وارتكبت إثما مبينا لأمور أوجزها فيما يلي :
1. أن الله تعالى تكفل بحفظ دينه ولم يترك حفظه لبشر فقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
2. لقد نهانا الله أن نجلس في مكان يسب في الله ورسوله ويكفر فيه بكلامه ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140)
3. أنهم لا يثيرون شبهات حول الإسلام لغرض التعلم أو المعرفة ولو كانوا كذلك لذهبوا إلى أهل العلم وسألوهم ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) فمقصدهم خبيث وهو إبعاد المسلمين عن دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم فهل نبلغهم هدفهم ؟ .
4. قد يتلمس بعض المسلمين لأنفسهم أعذارا بحجة أنهم يذهبون إلى غرفهم للاستماع إلى مايثيرونه من شبهات لأجل دراستها والرد عليها وأقول لمن يقول بذلك عذرك غير مقبول لأنك نسيت أن المبدأ الإسلامي لا يوافق على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة والمبدأ الإسلامي الغاية والوسيلة لابد أن تتوافق مع شرع الله فلا يحل للمحتسب أن يدخل بيتا دون إذن أهله بحجة أن يراقبهم كي يمسك بهم وهم على معصية وبالتالي فلا يحل لك أن تخالف أمر الله وتدخل في غرفهم بحجة الاستماع لشبههم حول الإسلام .
5. في دخول المسلمين لغرفهم تشجيعا لهم على الاستمرارية وزيادة لأعداد الداخلين عندهم ويعتبرون ذلك دليلا على نجاح عملهم وزيادة لأجورهم من الجهات العليا التي تمولهم وتساندهم ، فيكون دخول مما يدعم استمرارهم ومحاربتهم لله ولرسوله .
6. إننا إذا قاطعناهم نهائيا ولم يجدوا مسلما يشككونه فإنهم سيأتون بواحد منهم ويدعي أنه مسلم ويمثلون حوارا مفتعلا حتى يجدوا مسلما فإن لم يجدوا يأسوا واستمر يأسهم فيتوقفون عن اعتدائهم السافر على الله ورسوله وصحابته الكرام .
والآن : وبعد أن سمعتم بيان الحكم الشرعي بحرمة الدخول عندهم .
هل ندخل عندهم ؟ بالطبع لا وألف لا .
فإذا رأينا من يدخل عندهم من المسلمين بعد كل ذلك فماذا يكون موقفنا منه ؟
أرى أن من يعرف الحكم ويتضح له ونبين له أن يمتنع فإذا دخل بعد ذلك فإنما هو واحد منهم وإن تظاهر أنه مسلم وسمى نفسه باسم المسلمين .
أيها الأخوة : أعزوا أمر الله يعزكم الله ولا ترضوا الذلة والمهانة لدينكم ولا تدخلوا عندهم وتكونوا تحت ولا يتهم وتجعلوا من عباد الصليب أمراءً عليكم فترفعون أيديكم لهم فيأذنون لكم بالكلام أو يؤخرونكم أو يوافقون على بقائكم في غرفهم أو يطردونكم .
واسمحوا لي الآن أن أتناول شبهة من الشبهات التي يثيرونها ضد الإسلام لا لأدفع ثغرة عن ديننا ولكن لأبين جهلهم وأظهر لكم أنهم بغباوتهم أرادوا أن يسيئوا للإسلام فارتدت الإساءة عليهم وبقي الإسلام شامخا مرفوع الرأس عزيزا قويا كما أراد له الله .(4/162)
كما سأوضح لكم من خلال هذه الدراسة أن كل شبهة يثيرونها ما هي إلا جانبا من جوانب العظمة في هذا الدين العظيم .
وأقول وبالله تعالى التوفيق :
من هذه الشبهات ما كان من أحد النصارى في البالتوك في إحدى الغرف الإسلامية وعلى إثر حوار معين حول جواز سب البابا الهالك أو عدم جواز سبه وكنت ممن يرى عدم سبه وخالفني في ذلك بعض إخواني المسلمين - وكل منا له رأيه - فطمع فيَّ أحد النصارى واسمه الغراب – طمع هذا الذي سمى نفسه بالغراب أن يُنَصرَني - لما رأى من هدوئي في الحوار مع إخواني بضرورة عدم السب والشتم لمن خالفنا من النصارى ، فرأيته يخاطبني على الخاص ويقول لي أن عيسى وهو المسيح وبنص القرآن الكريم إله ولكنكم ترفضون ذلك رغم إيمانكم بالقرآن .
فقلت له القرآن الكريم ينص على أن عيسى – عليه السلام إله ؟
قال نعم .
قلت فأين ذلك في القرآن الكريم ؟
فذكر الآية الكريمة من سورة آل عمران :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وبالطبع رجعت إلى تفسير الآية الكريمة لأكثر من تفسير فلم أجد في نص الآية ولا في تفسيرها ما يشير من قريب ولا من بعيد إلى ألوهية عيسى عليه السلام .
ومعنى الآية :
كما جاء في تفسير القرطبي بتصرف يسير :
قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)
قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط. وقيل: هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام.
( ورسولا ) ي ونجعله رسولا. أو يكلمهم رسولا. وقيل: هو معطوف على قوله (وجيها) وفي حديث أبي ذر الطويل (وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام)
"أني أخلق لكم " أي أصور وأقدر لكم. "من الطين كهيئة الطير "
قرأ الأعرج وأبو جعفر "كهيّة " بالتشديد. الباقون بالهمز.
"فأنفخ فيه " أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا .
قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى.
وقيل: لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد. ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق؛ ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يُسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة.
ويقال:
إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: أخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك؛ فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض؛ وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله.
قوله تعالى: "وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله "
الأكمه: الذي يولد أعمى؛ عن ابن عباس. وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى؛
والبرص : معروف وهو بياض يعتري الجلد، والأبرص القمر، وسامُّ أبرص معروف، ويجمع على الأبارص. وخُص هذان بالذكر لأنهما عياءان.
وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
"وأحيي الموتى بإذن الله "
قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح؛ فالله أعلم.
فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له،
وأما ابن العجوز فإنه مر به يُحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله.
وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها؛ فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحيي لنا سام بن نوح.
فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه، حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي؛ وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي؛ فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر.(4/163)
قوله تعالى: [ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين] أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد؛ فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا؛ فذلك قوله [وأنبئكم] الآية. وقرأ مجاهد والزهري والسختياني [وما تذخرون] بالذال المعجمة مخففا. وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه.
قال قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية.
وبإعادة النظر للآية الكريمة نلحظ الآتي :
أولا : بدأت الآية بقول الله تعالى : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ ) وهو تصريح بين واضح أنه رسول وليس إله وفيها أيضا تحديد للجهة المرسل إليها وفي ذلك دليل على خصوصية المهمة وكون ديانته ديانة خاصة ببني إسرائيل دون سواهم فإذا جاء بولس بعد ذلك وجعل من رسالة المسيح الخاصة رسالة عامة يكون قد غير وبدل في رسالة الله للمسيح عيسى عليه السلام .
وفي الآية ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي جئتكم بعلامة من ربكم ولو كان هو ربهم لكانت العلامة منه وليس من غيره .
ولعل قائلهم يقول أنه قال ( بآية من ربكم ) ولم يقل ربي فيستدل بذلك على كونه إله أو ابن إله فأقول :
أن الله العليم الخبير قد سبق علمه بما يدور في نفوس الخبثاء من عباده فرد عليهم بالآية رقم (51) من نفس السورة ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (آل عمران:51) فهل يكون الإله مفتقر إلى رب آخر يخلقه ويعبده من كان عنده بقية عقل لا يقول ذلك .
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ )
فقد يستدلون بأن الذي يخلق إنما هو إله واستلالهم بذلك يدل على جهلهم فقد يستدل بجزء من الآية بما يتنافى مع آخره إنه يقول بإذن الله أي أنني أفعل شيئا ليس بإذني ولا بقدرتي ولكنه بإذن الله الذي أرسلني وعليه فيكون مفهوم الآية أنني أحمل لكم ما يدل على أن الذي أرسلني هو الله الخالق ودليلي على ذلك أنني سأريكم شيئا يدل على أن الله الخالق هو الذي أرسلني .
وكما تعلمون أنه أرسل إلى بني إسرائيل وهم أهل كتاب ويعرفون أن الله هو الخالق وأن أمر الخلق محسوم لله ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى وبالتالي فهو يخبرهم بأن الخالق الذي أرسله إليهم والذي يعرفونه ويؤمنون به أرسله وجعل دليل نبوته وصحة رسالته شيئا من خصائص الله ولكن لم يفته أن ينسب ذلك لله فلم يعترف اليهود به رسولا من عند الله وأنكروه وقرروا صلبه وقتله وبالغ النصارى فرفعوه فوق قدره وجعلوه إلها يعبد من دون الله .
فكان أمر الناس فيه بين منكر له وكافر به وبين مبالغ فيه ورفعه إلى مقام الألوهية حتى جاء الإسلام فأنصفه المسلمون وأعطوه حقه اللائق به من النبوة والرسالة فشهدوا له بالحق الذي أرسله الله من أجله وجاء القرآن ليشهد له أنه قد بلغ ما أمر بتبليغه دون تقصير أو تفريط قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:117) ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)
فالقرآن الكريم يشهد لعيسى بن مريم بأنه بلغ ما أمره الله بتبليغه ويشهد له بأدبه الرفيع وأخلاقه الحسنة وحبه لعباد الله وتفويض أمرهم إليه سبحانه وتعالى ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118) لك الله يا نبي الله ما أحسن قولك وما أشد أدبك وما أجمل حديثك مع ربك ولما لا وأنت قد أرسلك ربك وأعدك وجهزك لتحمل رسالته إلى بني إسرائيل وهم قوم عرفوا بالجدل والمراوغة .
( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ )(4/164)
وآية أخرى ومعجزة كبرى وهي أنني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله فانتم يابني إسرائيل تعلمون أنني لم أتعلم الطب وقد عشت بينكم لم يعلمني منكم أحد وقد عجزتم عن إبراء الأكمه والأبرص وأما أنا فبإذن الله أبرئ الأكمه والأبرص بل وأحيى الموتى بإذن الله فهل تؤمنوا بي وتتبعوني وتصدقونني فيما أرسلت به ؟
( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:49) كل هذه الآيات البينات لأبرهن لكم على صدق رسالتي وأن الله أرسلني إليكم فهل تؤمنون بي وتتبعونني فيما جئت إليكم به من ربكم .
( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (آل عمران:50) إنني يا معشر بني إسرائيل ما جئت لكم بدين جديد ولا جئت بما تكرهونه بل جئت مصدقا لما بين أيديكم من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، أي جئت لأخفف عنكم فهل تقبلون مني رسالة ربكم ؟
يا بني إسرائيل ها هي الآيات البينات الواضحات وها هي رسالة ربكم فاقبلوها .
ولكن هل قبل بنو إسرائيل رسالة ربهم بالطبع لا بل رفضوها وقرروا قتل عيسى ابن مريم فنجاه الله من أيديهم ولم يمكن عباد العجل وإخوان القردة والخنازير ومن قالوا على ربهم يد الله مغلولة ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة:64) ومن قالوا على ربهم إن الله فقير ونحن أغنياء ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181)
لقد أعدوا له محاكمة وقرروا قتله فلم يمكنه الله من عبده ورسوله عيسى عليه السلام ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) (النساء:157) ()بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:158) يا لحقارة اليهود يرفضون رسالة ربهم ويقررون قتل رسوله فيجعل الله كيدهم في نحورهم ويلقي شبهه على أحدهم فيقتلونه جزاء وفاقا ويا لغباوة النصارى حينما يرفضون القرآن الذي يبرأ أم المسيح وينجي المسيح من كيد اليهود ويصدقون اليهود ويبنون عقيدتهم على أن اليهود قتلوا نبيهم وصلبوه وضربوه بالنعال على وجهه ورأسه وبصقوا في وجهه .
ثم أردف هذا الغراب الذي يحاورني ويطمع في تنصيري قائلا :
بما أن عيسى خلق فهو إله لأن الخالق حتما ولابد أن يكون إلها ثم عقب بقول الله تعالى :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ( النحل17 )
وكلام هذا النصراني مردود عليه لأن عيسى لم يخلق خلقا سويا باقيا متناسلا من تلقاء نفسه بل كان خلقا مؤقتا ليبرهن لهم على صدق نبوته مع ذكر من أذن له بذلك وهو الله ولنقرأ الآية الكريمة ليتأكد لنا نسبة الفعل إلى الله وليس إلى عيسى عليه السلام :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وإذا كان عيسى قد صنع من الطين كهيئة الطير فصار طيرا بإذن الله فمن قبله موسى رمى عصاه فصارت حية تسعى أيضا بإذن الله ولم يقل أحد أنه إله والحية مخلوق له روح كالطائر الذي ذكر في شان عيسى بل أن الحية كانت اكبر من الطائر وابتلعت حبال وعصي السحرة التي أوهموا الناس أنها تتحرك .(4/165)
وكما تعلمون أيها الأخوة أن الله يؤيد أنبياءه بمعجزات ولكي تكون معجزة لابد أن تكون أمرا خارقا للعادة وأن تكون من جنس ما نبغ فيه القوم المرسل إليهم هذا النبي ومن ذلك موسى عليه السلام أرسل على قوم انتشر فيهم السحر فكانت معجزته أن أيده الله بشيء عجز عنه السحرة بل لم يقفوا عند حد العجز ولكنه تيقنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من العصا التي انقلبت إلى حية والتهمت ما قدموه من سحر وكان متمثلا في حبال وعصي أعلنوا إيمانهم بالله رب العالمين وقالوا كما جاء ذكر القرآن الكريم ونكتفي بذكر مشهد واحد فقط من مشاهد القرآن الكريم في قضية موسى عليه السلام مع فرعون وهذا هو ماورد في سورة الشعراء :
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ{29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ{30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{33}
وثمة معجزة أخرى لموسى بن عمران عليه السلام فقد حدث أن رجلا قتل من بني إسرائيل ولم يعرفوا من قتله فأحياه الله على يد موسى وأخبر عن قاتله وفي ذلك أشار القرآن الكريم
( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73}
ومع أنها إحياءٌ للموتى مثل إحياء الموتى عند عيسى عليه السلام فقد وقفت عند كونها معجزة أيد الله بها نبوته فقط
و لم يقل أحد أن موسى إله أو ابن الله .
وفي زمن عيسى عليه السلام كان الناس قد اشتغلوا بالطب ولكنهم عجزوا عن أمور منها إبراء الأكمه وهو الذي ولد أعمى والأبرص وهو المرض الجلدي المعروف وكذلك أن يتكلم ميت بعد موته فأيده الله بما عجز عنه قومه وهم يعلمون أنه لم يدرس الطب ولا غيره ليعلموا أن هذا الإعجاز من عند الله فيكون أدعى لإيمانهم .
وحجة النصارى تكمن في كون معجزة عيسى لا يقدر عليها بشر فإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى مما يعجز عنه بشر وطالما أن عيسى فعله فهو إله .
والجواب :
أقول لهم إن كانت عندهم بقية عقل كل المعجزات التي أتى بها الأنبياء يعجز عنها البشر ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثلها .
فهل كل الأنبياء آلهة ؟
فمعجزة صالح عليه السلام الناقة
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }الأعراف73
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا لمَّا عبدوا الأوثان من دون الله تعالى. فقال صالح لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده; ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة, قد جئتكم بالبرهان على صدق ما أدعوكم إليه, إذ دعوتُ الله أمامكم, فأخرج لكم من الصخرة ناقة عظيمة كما سألتم, فاتركوها تأكل في أرض الله من المراعي, ولا تتعرضوا لها بأي أذى, فيصيبكم بسبب ذلك عذاب موجع.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ }هود64
ويا قوم هذه ناقة الله جعلها لكم حجة وعلامة تدلُّ على صدقي فيما أدعوكم إليه, فاتركوها تأكل في أرض الله فليس عليكم رزقها, ولا تمسُّوها بعَقْر, فإنكم إن فعلتم ذلك يأخذكم من الله عذاب قريب من عَقْرها.
{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }الأعراف77
فنحروا الناقة استخفافا منهم بوعيد صالح, واستكبروا عن امتثال أمر ربهم, وقالوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: يا صالح ائتنا بما تتوعَّدنا به من العذاب, إن كنت مِن رسل الله.
فهل يقدر بشر أن يأتي بناقة من الجبل أو من الصخر كناقة صالح ؟
بالطبع لا وألف لا ؟
ومع ذلك لم يدعي أحد أن صالحا إله أو ابن الله
ومعجزة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – القرآن الكريم وتحدى الله به أرباب الفصاحة والبلاغة وهم أهل اللغة والشعر والأدب ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13(4/166)
بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل "مكة": إن محمدًا قد افترى هذا القرآن؟ قل لهم: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات, وادعوا من استطعتم من جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر, إن كنتم صادقين في دعواكم.
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة23
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – , وتزعمون أنه ليس من عند الله, فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن, واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم, إن كنتم صادقين في دعواكم
وعجز القوم كما عجز غيرهم وما زال العجز فيهم وسيظل إلى أن تقوم الساعة ومع ذلك لم يقل أحد ان محمدا إله بل نهى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أمته أن يبالغوا في مدحه فقال ) لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )
ولولا أن القرآن أخبرنا عن معجزات الأنبياء السابقين ما صدقنا ولا كذبنا لأننا لم نرى شيئا وهي تكون لمن كان موجودا في زمن الرسول الذي أيده الله بهذه المعجزة أو بغيرها ، ولكن بقيت معجزة نبينا الخالدة ألا وهي القرآن الكريم بين أيدينا حتى الآن وستظل رغم أنف الحاقدين والمارقين إلى أن تقوم الساعة فهل كسبوا التحدي وأتوا بقرآن مثله أم عجزوا هم وأسلافهم وسيظل العجز لازم لهم إلى أن تقوم الساعة فهل من معتبر ؟ فهل من متبع للحق ؟ فهل من عاقل يقبل الحق ويتخلى عن باطله ؟ صدق الله العظيم ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)
أيها الأخوة والأخوات
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
===================
دحض شبهة تناقض القرآن الكريم
المحاضر / صبري عسكر
التاريخ : السبت 6 / 8 / 2005م
وقت المحاضرة : 10.30 م بتوقيت أم القرى
مكان المحاضرة : البالتوك ( غرفة الدعوة الإسلامية )
-------------------------
الحمد لله الواحد الأحد الفرض الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد ولم يكن له شريك في الملك { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{24} ( الحشر )
أحمدك اللهم وأنت أهل أن تحمد فلك الحمد على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة ولك الحمد في الأولى والآخرة .
أحمدك اللهم حمد من عرف وحدانيتك فشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وسبح بحمدك فقال { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{1} لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{2} هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{3}
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى له عنك طرفة عين {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }( القصص70 )
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }(الأنبياء107 )
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد .
أيها الأخوة
أيتها الأخوات
أحييكم بتحية الإسلام فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته(4/167)
لقد دأب أعداء الإسلام على كراهية الإسلام وأهله واعتادوا الكذب على الله ورسوله ورغم يقينهم بمصداقية الإسلام ومعرفتهم برسول الإسلام إلا أنهم دأبوا على الكذب ومحاولة اختلاق الأباطيل والافتراءات على القرآن تارة وعلى السنة تارة وعلى شخص نبينا تارة أخرى ولقد قيد الله لهم من علماء الأمة من يكشف باطلهم ويفتد مزاعمهم ويرد كيدهم في نحورهم حتى يظلوا صاغرين محتقرين لتطاولهم على ربهم وافترائهم على الحق المبين ومن ذلك :
1 - الشبهة الأولى في زعمهم أن القرآن الكريم متناقض :ـ
(1) تناقض في القرآن حول عدد أيام خلق السماوات والأرض.
ذكر بها أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام.
السورة (9:41 إلى 12) ذكر بها أن خلق الأرض تم في يومين وخلق الله الأنهار والغابات.. الخ في الأرض (بعد خلقها) في أربعة أيام، وأنه قد خلق السماوات في يومين (السورة 10 تتناقض مع السورة 41 ( 2+4+2=8 أيام ).
والجواب :
هذا السؤال يتعلق بقوله تعالى: من سورة فصلت
( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ{9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ{10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ{11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ{12}
نعم بجمع هذه الأيام دون فهم وعلم يكون المجموع ثمانية وقد ذكر الله في مواضع كثيرة من القرآن أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام:
وما ظنه الضال تناقضا فليس بتناقض فإن الأربعة أيام الأولى هي حصيلة جمع اثنين واثنين.. فقد خلق الله الأرض خلقا أوليا في يومين ثم جعل فيها الرواسي وهي الجبال ووضع فيها بركتها من الماء، والزرع، وما ذخره فيها من الأرزاق في يومين آخرين فكانت أربعة أيام.
فقول الله سبحانه وتعالى: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ{10} }،
هذه الأيام الأربعة هي حصيلة اليومين الأولين ويومين آخرين فيكون المجموع أربعة. وليست هذه الأربعة هي أربعة أيام مستقلة أخرى زيادة على اليومين الأولين.. ومن هنا جاء الخطأ عند السائل.. ثم إن الله خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ستة أيام بجمع أربعة واثنين :
ولا تناقض في القرآن بأي وجه من الوجوه.. ثم إن القرآن لو كان مفترى كما يدعي هؤلاء الضالون من النصارى ومن وافقهم من العلمانيين فإن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن ليجهل مثلا أن اثنين وأربعة واثنين تساوي ثمانية وأنه قال في مكان آخر من القرآن إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. مثل هذا الموضع :
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ( الأعراف54 )
وفي موضع آخر من كتاب الله :
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ( الفرقان59)
فهل يتصور عاقل أن من يقدم على تزييف رسالة بهذا الحجم، وكتاب بهذه الصورة يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ الذي لا يخطئه طفل في السنة الأولى الإبتدائية ؟!
لا شك أن من ظن أن الرسول افترى هذا القرآن العظيم ثم وقع في مثل هذا الخطأ المزعوم فهو من أحط الناس عقلا وفهما. والحال أن السائل لا يفهم لغة العرب وأن عربيا فصيحا يمكن أن يقول : زرت مصر فتجولت في القاهرة في يومين، وأنهيت جولتي في مدينة الإسكندرية في أربعة أيام ثم عدت إلى الرياض – السعودية .. لا شك أن هذا لم يمكث في مصر إلا أربعة أيام فقط وليس ستة أيام لأنه قوله: في يومين في أربعة أيام يعني يومين في القاهرة ويومين في الإسكندرية..
الشبهة الثانية في زعمهم أن القرآن الكريم متناقض :ـ
2. مقدار الأيام عند الله, فهل اليوم الواحد يساوي ألف سنة أو خمسين ألف سنة عند الله ؟
والجواب :
سهل وبسيط وهو أن الأيام عند الله مختلفة فيوم القيامة يوم مخصوص وهذا مقداره خمسين ألف سنة من أيام الدنيا كما قال تعالى:في سورة المعارج(4/168)
( َ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ{1} لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ{2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ{3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ{4} فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6} وَنَرَاهُ قَرِيباً{7})
وأما سائر الأيام عند الله فكل يوم طوله ألف سنة من أيام هذه الدنيا، كما قال تعالى:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }
( الحج47 ).
ومعلوم أن الأيام على الكواكب تختلف بحسب حجمها وحركتها، فماذا يمنع أن يكون يوم القيامة أطول من سائر الأيام.
الشبهة الثالثة في زعمهم أن القرآن الكريم متناقض :ـ
3. إخبار الله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام وابنه
. ففي سورة الأنبياء : الآية 76 ذكر بها أن نوح وأهل بيته قد نجوا من الفيضان، ولكن سورة هود :الآيات 32 إلى 48) ذكر بها أن أحد أولاد نوح قد غرق ؟
والجواب :
إن الاستثناء أسلوب معروف في لغة العرب فيذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم ثم يخرج منهم من أراد إخراجه. ويمكن أن يأتي الإستثناء منفصلا، ويمكن أن يأتي متصلا.. وفي سورة الأنبياء قال الله تعالى عن نوح:
( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ{76} وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ{77}
وقد بين سبحانه وتعالى المراد بأهله في آيات أخرى وهو من آمن منهم فقط حيث أخبر سبحانه وتعالى في سورة هود أنه قال لنوح :
{حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }هود40
(حتى) غاية للصنع (إذا جاء أمرنا) بإهلاكهم (وفار التنور) فرن الخبيز فار بالماء ، وكان ذلك علامة لنوح (قلنا احمل فيها) في السفينة (من كل زوجين) ذكر وأنثى أي من كل أنواعهما (اثنين) ذكراً وأنثى وهو مفعول وفي القصة أن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرها ، فجعل يضرب بيده في كل نوع فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملها في السفينة (وأهلَكَ) أي زوجته وأولاده (إلا من سبق عليه القول) أي منهم بالإهلاك وهو ولده كنعان وزوجته بخلاف سام وحام ويافث فحملهم وزوجاتهم الثلاثة (ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) قيل كانوا ستة رجال ونساءهم وقيل جميع من كان في السفينة ثمانون نصفهم رجال ونصفهم نساء.
فقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يحمل أهله معه إلا من سبق القول من الله بهلاكهم.. وقد كان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين لأنه لم يكن مؤمنا.. ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا..
وبالتالي فلا تناقض بين قوله تعالى في سورة الأنبياء إنه نجى نوحا وأهله، وبين ما جاء في سورة هود إنه أغرق ابن نوح لأن ابن نوح لم يكن من أهله، كما قال تعالى لنوح لما سأله عن ابنه {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }هود46
(قال) تعالى (يا نوح إنه ليس من أهلك) الناجين أو من أهل دينك (إنه) أي سؤالك إياي بنجاته (عملٌ غيرُ صالح) فإنه كافر ولا نجاة للكافرين ، وفي قراءة {عَمِلَ}بكسر ميم عمل فعل ونصب {غيرَ} فالضمير لابنه (فلا تسألنِ) بالتشديد والتخفيف (ما ليس لك به علم) من إنجاء ابنك (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) بسؤالك ما لم تعلم.
وبالتالي فلا تناقض بحمد الله في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الشبهة الرابعة في زعمهم أن القرآن الكريم متناقض :ـ
الآيات النازلة في شأن جبريل عليه السلام. ويقولون :
هناك وجهات نظر متضاربة في إدعاء محمد النبوة. ففي سورة النجم (53 :6-15) ذكر بها أن الله نفسه أوحى إلى محمد. و سورة النحل (16: 102، 26: 192-194)، ذكر بها أن "روح القدس" نزلت إلى محمد. والسورة (15 :8) ذكر بها أن الملائكة (وهم أكثر من واحد) نزلوا إلى محمد. السورة (2: 97) ذكر بها أن الملاك جبريل (واحد فقط) لم يذكر في القرآن ولا في الأناجيل ما يقول أن "روح القدس" هي جبريل.
والجواب :
قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم (53 :3-12) عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم:(4/169)
( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى{5} ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى{6} وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى{7} ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى{8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى{9} فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى{10} مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى{11} أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى{12}
الآيات. فهذا وصف لجبريل الروح القدس الأمين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحراء، وجاءه بالوحي من ربه، ولقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليه وله ستمائة جناح مرتين: واحدة في مكة في بدء الوحي وثانية عندما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما جاء ذلك في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين في الصحيحين (البخاري ومسلم) بالإسناد المتفق عليه. وجبريل المذكور في سورة النجم (53)، هو نفسه الذي ذكره الله في سورة النحل حيث يقول سبحانه وتعالى:
{ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } النحل102
(قل) لهم (نزله روح القدس) جبريل (من ربك بالحق) متعلق بنزل (ليثبت الذين آمنوا) بإيمانهم به (وهدى وبشرى للمسلمين)
فقد سماه الله روحا لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب وهو وحي الله إلى رسله ووصفه بروح (القدس) أي المقدس المنزه عن الكذب أو الغش فهو الذي قدسه الله ورفعه وأعلى من شأنه عليه السلام.
وأما ما ذكره الله في سورة الحجر الآية رقم 28 فإن الله لم يذكر فيها أن الملائكة نزلوا على النبي بالوحي كما فهم هذا الجاهل حيث يقول (والسورة رقم (15: 8) ذكر فيها أن الملائكة وهم أكثر من واحد نزلوا على محمد).
وإنما الآيات هكذا {وقالوا} -أي الكفار- {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} فرد الله مقالة الكفار هؤلاء الذين استعجلوا نزول الملائكة بالعذاب عليهم وهو ما هددهم الله به إن أصروا على التكذيب فقال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ }الحجر8
وردَّ الله عليهم: إننا لا ننزل الملائكة إلا بالعذاب الذي لا إمهال فيه لمن لم يؤمن, وما كانوا حين تنزل الملائكة بالعذاب بِمُمْهلين.
أي إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق وإنهم إذا نزلوا نزلوا بالعذاب عليهم فمعنى ذلك أنهم غير ممهلين، والحال أن الله أمهلهم ليقيم الحجة عليهم، ولم يشأ سبحانه وتعالى أن يعجل العقوبة الماحية المستأصلة لهم كما حدث للأمم السابقة بل شاء الله أن يعاقبهم بالعقوبات التي لا تستأصلهم فقد أنزل الملائكة في بدر وغيرها من معارك الرسول خزيا للكفار ونصرا للرسول والمؤمنين.
وأما آية سورة البقرة (2: 97) فهي نص صريح في أن جبريل عليه السلام هو الذي أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} وهذا رد على اليهود الذين كرهوا جبريل، وأنه ينزل بحربهم وهلاكهم فأخبرهم الله أن هذا الملاك هو ملاك الرب، وأنه هو الذي أنزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وقد وصف الله جبريل في القرآن بأنه روح القدس أي الروح المقدسة كما قال سبحانه وتعالى: { قل نزله روح القدس من ربك بالحق }وقد قدمنا معنى روح القدس.
الشبهة الخامسة في زعمهم أن القرآن الكريم متناقض :ـ
5. تناقض في إخبار الرب عن خلق الإنسان مرة من طين وأخرى من ماء وتارة من نطفة . والجواب :
أن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنه بدأ خلق الإنسان بخلق أبي البشر آدم الذي خلقه من التراب، الذي أصبح طينا يعجنه بالماء، ثم حمئا مسنونا، أي طينا مخمرا، ثم سواه الله بأن خلقه بيديه سبحانه ثم أصبح آدم وهو في صورته الطينية صلصالا كالفخار، وهو الطين إذا يبس وجف، ثم نفخ الله فيه الروح فأصبح بشرا حيا، ثم أمر الملائكة بالسجود له بعد أصبح كذلك ثم خلق الله من أحد أضلاعه زوجته حواء وهذا مصداقا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره, واجتنبوا نواهيه; فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام, وخلق منها زوجها وهي حواء, ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات, وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا, واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم.(4/170)
(وكما جاء ذلك في الحديث النبوي).. فهي أنثى مخلوقة من عظام زوجها..
والله يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، ثم لما عصى آدم بأكله من الشجرة التي نهاه الله أن يأكل منها أهبطه الله إلى الأرض.
ثم جعل الله تناسل آدم من اجتماع ماء الرجل وماء المرأة، والعرب تسمي المني الذي يقذفه الرجل في رحم الأنثى ماءا، وسماه الله في القرآن {ماءا مهينا }.. وكل ذلك موجود في القرآن الكريم.
وهذا المسكين ظن أن هذه آراء متعارضة، وظن أن كل ذلك آراء متعارضة ولم يفهم أن خلق آدم لم يكن كخلق حواء فآدم خلق من الطين، وحواء خلقت من ضلع آدم، وأن كل إنسان خلق من أنثى وذكر، من ماء مهين، وأن عيسى عليه السلام خلق من أنثى بلا ذكر كما قال سبحانه وتعالى عن عيسى .
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران59)
(إن مثل عيسى) شأنه الغريب (عند الله كمثل آدم) كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس (خلقه من تراب ثم قال له كن) بشراً (فيكون) أي فكان وكذلك عيسى قال له كن من غير أب فكان
وكان تنوع خلق البشر على هذه الصور ليبين الله لعباده قدرته الكاملة، فهو يخلق ما يشاء مما يشاء كيف يشاء، وقد خلق الإنسان الأول آدم من طين من غير أنثى أو ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من إجتماع الذكر والأنثى فسبحان من له القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة. وهذا كله يدل على الخلق المستقل للإنسان وأنه لا ينتمي إلى حيوانات هذه الأرض، فالتطور إن كان حقا فهو إنما يكون في حيوانات وأحياء هذه الأرض فقط. وأما الإنسان فإنه خلق خلقا مستقلا في السماء، وإن كان الله قد خلقه من طين هذه الأرض. وهذا هو الذي يؤيده العلم والنظر في الكون.
هذا ما اعترض به المعترض على القرآن الكريم. وفي المحاضرة المقبلة إن شاء الله نتعرض إلى بقية ما أثاره الضالون من عباد الله حول القرآن الكريم لقلة فهمهم وضعف عقولهم وعدم إدراكهم وفهمهم العقيم والسقيم .
أيها الأخوة والأخوات
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
====================
رد شبهات النصارى حول تناقض القرآن
التاريخ : الأحد 9 /7 /1426هـ الموافق 14/8/2005م
وقت المحاضرة : 10.30 م بتوقيت أم القرى
مكان المحاضرة : غرفة الدعوة الإسلامية
--------------------------
الحمد لله الواحد الأحد { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } (الأنعام1 ) أحمدك اللهم أن خلقتنا ولم نك شيئا ورزقتنا من غير حول منا ولا قوة أطعمتنا من جوع وكسوتنا من عرى وجمعت شملنا من شتات فلك الحمد ولك الشكر من عبد فقير ذليل غره طول الأمل وفرح بدنيا فانية وانشغل عن آخرة باقية لكنه لم ينس أن له ربا غفورا رحيما فكلما أذنب وأخطأ جاء ووقف على باب مولاه متذللا خاضعا خاشعا يقول :
يا رب أنا عبدك المذنب علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به وجاءك اليوم ووقف على بابك يستغفرك من ذنبه فهل تغفر له ؟
يا أكرم الأكرمين يا رب العالمين يا رحيما بالمؤمنين لا تردنا خائبين ولا من رحمتك أيسين فنحن لعفوك راجين ولكرمك طامعين فجد علينا بفضلك وأكرمنا بكرمك وجازنا بالإحسان إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }( البقرة286)
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (غافر 7 – 8 )
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من ذلت لك نفسه وخشع لك قلبه وخضع لك عنقه وفاضت لك عيناه .
أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك قولك صدق وحكمك حق وعقابك عدل .(4/171)
أعلم وأوقن انك أنت الله ولا إله غيرك ولا رب سواك وكل من ادعى من ذلك شيئا فهو باطل :
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }محمد19
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله أرسلته بالهدى ودين الحق فكان بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً{46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً{47} الأحزاب
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد .
أيها الأخوة ....أيتها الأخوات ...
أحييكم بتحية الإسلام ..... السلام الله عليكم ورحمته وبركاته
في اللقاء السابق تحدثنا عن مزاعم النصارى ومن وافقهم من العلمانيين حول ما يدعونه من تناقض بعض آيات القرآن وتعارض بعضها ببعض وتعرضنا لخمسة مواضع فهم منها ضعاف العقول ومعدومي الفهم أن بها تعارضا وقد رددنا بحمد الله تعالى وتوفيقه بما يدحض شبهاتهم ويبطل افتراءاتهم وقد تضمن اللقاء السابق الرد على الشبهات التالية :
1. تناقض في القرآن حول عدد أيام خلق السماوات والأرض.
2. مقدار الأيام عند الله, فهل اليوم الواحد يساوي ألف سنة أو خمسين ألف سنة عند الله ؟
3. إخبار الله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام وابنه مرة يخبر بنجاته وأهله ومرة يخبر بهلاك ابنه وهذا حسب زعمهم تعارضا .
4. الآيات النازلة في شأن جبريل عليه السلام وهل ينزل بالوحي وحده أم ينزل معه غيره ؟
5. تناقض في إخبار الرب عن خلق الإنسان مرة من طين وأخرى من ماء ومن نطفة .
• واليوم مع بعض ما توهموه تناقضا في القرن الكريم لأبين لكم أن هذا القرآن الكريم كلام الله المنزل على نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – المتعبد بتلاوته والمتحدى بأقصر سورة منه وهو معجزة الإسلام الكبرى التي لا تنفذ أبدا ولا تنتهي وهو ما تكفل الله بحفظه فقال ولم يزل قائلا عليما {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر9 ومع أولى فقرات هذا اللقاء الطيب المبارك :
1. يقولون في شبهتهم أن القرآن الكريم ذكر في سورة الأعراف على لسان موسى – عليه السلام – أنه أول المؤمنين في قول الله تعالى ( وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ – 143 - ) وكذلك ما ورد على لسان سحرة فرعون في سورة الشعراء ( إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ{51})
ويقولون في تقرير الشبهة :
كيف يدعي موسى - عليه السلام – أنه أول المؤمنين وقد سبقه من سبقه من الأنبياء والمرسلين وكذلك كيف يدعي سحرة فرعون أنهم أول المؤمنين وموسى – عليه السلام - الذي دعاهم إلى الإيمان وما زال أمامهم ويعلنون أنهم آمنوا قبله فهذا والكلام للمشككين تناقضا واضحا ويدل على حسب زعمهم أن هذا التناقض يخرج القرآن عن كونه منزلا من عند الله.
وللرد على شبهتهم أقول وبالله تعالى التوفيق والسداد :
أما ما ورد بشأن نبي الله ورسوله موسى – عليه السلام – فقد طلب موسى - عليه السلام – من ربه مطلبا ما كان له أن يطلبه من الله ولم يكن يعلم موسى عليه السلام بأن طلبه مستحيل فلما تبين له أعلن توبته لله وأنه أول المؤمنين بأن مطلبه مستحيلا فلنقرأ الآيات ونتدبرها .
{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }الأعراف143
ولو رجعنا لتفسير الآية لتبين لنا بوضوح وجلاء عدم التعارض فقد رجعت لتفسير السعدي فرأيت ما يلي:
" وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا " الذي وقتناه له لإنزال الكتاب " وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ " بما كلمه, من وحيه, وأمره, ونهيه, تشوق إلى رؤية اللّه, ونزعت نفسه لذلك, حبا لربه, واشتياقا لرؤيته.
" قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ " اللَّهِ " لَنْ تَرَانِي " أي: لن تقدر الآن على رؤيتي, فإن اللّه تبارك وتعالى, أنشأ الخلق في هذه الدار, على نشأة لا يقدرون بها, ولا يثبتون لرؤية اللّه.
وليس في هذا, دليل على أنهم لا يرونه في الجنة.
فإنه قد دلت النصوص القرآنية, والأحاديث النبوية, على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى, ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم, وأنه ينشئهم نشأة كاملة, يقدرون معها على رؤية اللّه تعالى.(4/172)
ولهذا رتب اللّه الرؤية في هذه الآية, على ثبوت الجبل, فقال - مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية-: " وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ " إذا تجلى اللّه له " فَسَوْفَ تَرَانِي " .
" فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ " الأصم الغليظ " جَعَلَهُ دَكًّا " أي: انهال مثل الرمل, انزعاجا من رؤية اللّه وعدم ثبوته لها.
" وَخَرَّ مُوسَى " حين رأى ما رأى " صَعِقًا " أي: مغشيا عليه.
" فَلَمَّا أَفَاقَ " تبين له حينئذ, أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية اللّه, فموسى أولى أن لا يثبت لذلك.
واستغفر ربه, لما صدر منه من السؤال, الذي لم يوافق, موضعا, ولذلك: " قَالَ سُبْحَانَكَ " أي: تنزيها لك, وتعظيما عما لا يليق بجلالك.
" تُبْتُ إِلَيْكَ " من جميع الذنوب, وسوء الأدب معك.
" وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ " أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه, بما كمل اللّه له, مما كان يجهله قبل ذلك, فلما منعه اللّه من رؤيته - بعد ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرا كثيرا فقال:
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف144
" يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ " أي: اخترتك واجتبيتك, وفضلتك, وخصصتك بفضائل عظيمة, ومناقب جليلة.
" بِرِسَالَاتِي " التي لا أجعلها, ولا أخص بها, إلا أفضل الخلق.
" وَبِكَلَامِي " إياك من غير واسطة, وهذه فضيلة, اختص بها موسى الكليم, وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين.
" فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ " من النعم, وخذ ما آتيتك, من الأمر والنهي, بانشراح صدر, وتلقه بالقبول والانقياد.
" وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ " لله, على ما خصك وفضلك.
والخلاصة :
في قول موسى - عليه السلام - ( وأنا أول المؤمنين) فإنه حين قال (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) يعني أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات والله أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قول السحرة ( أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ{51} )
فلو قرأنا الآيات بتدبر لفهمنا مرادهم من قولهم هذا فلنرجع للآيات :
( قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ{30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{33} قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ{34} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ{35} قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{36} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ{37} فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ{38} وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ{39} لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ{40} فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ{41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{42} قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ{43} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ{44} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ{45} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ{46} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ{47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ{48} قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ{49} قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ{50} إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ{51} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ{52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} الشعراء(4/173)
سحرة فرعون وقفوا مع السلطة وأمام الشعب في مواجهة مع موسى وأخيه – عليهما السلام - بل وتعلق بهم أمل فرعون مصر أن ينصروه على من جاء ليثبت لهم بطلان عقيدتهم ويسلبهم ملكا عظيما توارثوه كابرا عن كابر بل ويثبت للأقباط – أي ساكني مصر - أن ملكهم سخيف لا عقل له ولا رأي وأنه مغرور بملكه وأنه بحماقته سيضيع ملكه ويحل بقومه البوار والخراب وأنه سيسترد من مصر بني إسرائيل الذين هم بمثابة العبيد لفرعون وأتباعه من أجل ذلك التقى الفريقان :
فريق الباطل ويمثله فرعون ووزراؤه وجنوده يتقدمهم سحرة مهرة من كل واد وهم أهل العلم في هذا الزمان ومحل ثقة السلطان وموطن أمله المنشود .
وفريق الحق ويمثله موسى وهارون عليهما السلام وليس معهما أحد ولا يقف خلفهما أحد حتى بني إسرائيل ربما منعهم الخوف من إظهار تأييدهم لنبي الله موسى وأخيه هارون – عليهما السلام -
يقول صاحب الظلال – يرحمه الله - في سياق حديثه حول هذه الآيات بتصرف يسير :
وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله بعد التهيئة والاستعداد قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحَّار عليم أي أمهله وأخاه إلى أجل ; وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى يجمعون السحرة المهرة لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه .
وتهيأ أرض المباراة بين الحق والباطل أو بين الإيمان والطغيان فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين وتظهر من التعبير حركة الإهاجة والتحميس للجماهير هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة هل لكم في التجمع وعدم التخلف عن الموعد ليترقب فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور دون أن تفطن إلى أن حكامها الطغاة يلهون بها ويعبثون ويشغلونها بهذه المباريات والاحتفالات والتجمعات ليلهوها عما تعاني من ظلم وكبت وبؤس وهكذا تجمع المصريون ليشهدوا المباراة بين السحرة وموسى عليه السلام .................... ثم يجيء مشهد السحرة بحضرة فرعون قبل المباراة ; يطمئنون على الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين (في ظلال القرآن - سيد قطب )
وإني لأقف عند قوله تعالى حكاية عن فرعون (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ{40} ) لم يقل لعلنا نعرف حقيقة ما جاء به موسى ، ولم يقل لعلنا نتبع الحق ، ولم يقل لعلنا نتبع موسى إن كان الحق معه . . . وفرعون لا يريد الحق ولا يريد إلا الحكم والسلطة .
ونعود إلى صاحب الظلال فيقول :
ويتلقون من فرعون الوعد بالأجر الجزيل والقربى من عرشه الكريم فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية ; تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره ; ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية ولا شيء سوى الأجر والمصلحة وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان وها هم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه وهو بزعمه الملك والإله .
ولي هنا وقفة ليتنا نتعلم من هذا الموقف شيئا وهو أن البشر مهما أوتوا من سلطان وتمكين في الأرض لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا علاوة على أن يقدموا لغيرهم شيئا وأن كل وعود البشر موقوفة على موافقة رب العالمين على إنجازها أو توقفها .
وفي مشهد عظيم اجتمع الفريقان واحتشدت الجموع :
قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ{43} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ{44} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ{45} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ{46} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ{47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ{48} قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ{49} قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ{50} إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ{51}الشعراء(4/174)
ويبدأ المشهد هادئا عاديا إلا أنه يشير منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه ; وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة ووراءهم فرعون وملؤه وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدأون قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون وفي التعبير ذاته ما يشير بالاستهانة ألقوا ما أنتم ملقون بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدأوا الجولة باسم فرعون وعزته فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم كما فصله في سورة الأعراف وطه ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل ; لأن هذا هو هدف السورة الأصيل فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة ; فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه ; وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه وهم جمع كثير محشود من كل مكان وموسى وحده وليس معه إلا عصاه ثم إذا هي تلقف ما يأفكون ; واللقف أسرع حركة للأكل وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا فلا تبقي لها أثرا ولو كان ما جاء به موسي سحرا لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا وهم أعرف الناس بأنه الحق .
ولي هنا وقفة مهمة :
ولما ظهر الحق واندحر الباطل وانتصر موسى بالحق الذي جاء به على الباطل الذي كان في مواجهته ، ظهرت معجزة موسى عليه السلام وابتلعت الحبال والعصي التي جاء بها السحرة ، وانكشف الباطل وظهر الحق وصارت الغلبة للقلة المؤمنة والهزيمة للكثرة الكافرة واتجهت الأنظار للسحرة ماذا أنتم فاعلون ؟ وماذا أنتم قائلون ؟ أتتركون موسى وهارون ينتصران على فرعون مصر ؟ هل تحاولون مرة أخرى ؟ هل تفعلون شيئا لنصرة سيد البلاد وحاكمها ؟ يا أيها السحرة أجيبوا ؟
فكان جوابهم العملي أن خروا لله ساجدين ليعلنوها أمام الجميع بالعمل لا بالقول وبالفعل لا بالكلام .(4/175)
فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا لقد كانت هزة رجتهم رجا وخضتهم خضا ; ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم فأزالت عنها ركام الضلال وجعلتها صافية حية خاشعة للحق عامرة بالإيمان في لحظات قصار فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا بغير إرادة منهم تتحرك ألسنتهم فتنطلق بكلمة الإيمان في نصاعة وبيان آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسم - " ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " وهكذا انقلب السحرة المأجورون مؤمنين من خيار المؤمنين على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه فالجماهير حاشدة وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره ويريد أن يجعل الحكم لقومه ; وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته ثم يغلبون حتى ليقرون بالهزيمة ; ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله ويخلعون عنهم عبادة فرعون وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته وانتظروا أجره واستفتحوا بعزته وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش أسطورة الألوهية أو بنوته للآلهة كما كان شائعا في بعض العصور وهؤلاء هم السحرة والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين رب موسى وهارون والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة وذعر الملأ من حوله إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ; وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين عندئذ جن جنون فرعون فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين آمنتم له قبل أن آذن لكم لم يقل آمنتم به إنما عده استسلاما له قبل إذنه على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته عارف بهدفه مقدر لعاقبته ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير إنه لكبيركم الذي علمكم السحر وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة وهم من الكهنة كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه أو كان يختلف إليهم في المعابد فارتكن فرعون إلى هذه الصلة البعيدة وقلب الأمر فبدلا من أن يقول إنه لتلميذكم قال إنه لكبيركم ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة بلا تحرج من قلب أو ضمير وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور إنها كلمة القلب الذي وجد الله فلم يعد يحفل ما يفقد بعد هذا الوجدان، القلب الذي اتصل بالله فذاق طعم العزة فلم يعد يحفل الطغيان ، القلب الذي يرجو الآخرة فلا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير . قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين لا ضير لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف لا ضير في التصليب والعذاب لا ضير في الموت والاستشهاد لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون وليكن في هذه الأرض ما يكون فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين وأن كنا نحن السابقين يا لله يا لروعة الإيمان إذ يشرق في الضمائر وإذ يفيض على الأرواح وإذ يسكب الطمأنينة في النفوس وإذ يرتفع بسلالة الطين إلى أعلى عليين وإذ يملأ القلوب بالغنى والذخر والوفر فإذا كل ما في الأرض تافه حقير زهيد هنا يسدل السياق الستار على هذه الروعة الغامرة لا يزيد شيئا ليبقى للمشهد(4/176)
جلاله الباهر وإيقاعه العميق وهو يربي به النفوس في مكة وهي تواجه الأذى والكرب والضيق ويربي به كل صاحب عقيدة يواجه بها الطغيان والعسف والتعذيب فأما بعد ذلك فالله يتولى عباده المؤمنين وفرعون يتآمر ويجمع جنوده أجمعين .
والخلاصة :
أن سحرة فرعون كانوا في مقدمة الكفر والضلال وكانوا هم أمل فرعون ووزرائه وجنوده في هزيمة موسى فلما تبين لهم الحق كما وضحنا كان لزاما أن يعلنوا أنهم أول المؤمنين في هذا الموقف العصيب ويعلنوها صرخة مدوية رغم أنف الباطل وإن تزعمه فرعون ومن معه اسمع يا فرعون : نحن أول المؤمنين اليوم برب العالمين ، نحن أول المؤمنين اليوم بأن موسى مرسل من رب العالمين ، نحن أول المؤمنين اليوم بأن عصا موسى معجزة عظيمة أيده بها رب العالمين ، نحن أول المؤمنين بأن الحق ما جاء به موسى وهارون وأنك يا فرعون على الباطل فاقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا .
وبهذا لا يكون هناك تعارضا في الآية فهي بيان بأن أول من أعلن إيمانه في يوم الزينة يوم أن حشر الناس لمواجهة أعظم مباراة بين الحق والباطل .
وهناك كلمة أخيرة حول هذه الشبهة فلو قلت لكم الآن من كان منكم موافقا لي ومؤيدا لرأيي فليرفع يده الآن فرفعتم أيديكم وبعدها قلت لأحدكم معاتبا له : يا فلان ما منعك أن ترفع يدك ؟ هل أنت مخالفا لي في قولي ؟ أم متكبرا عليَّ ؟ فقال لي : سبحان الله يا أخ صبري أنا أول من رفع يده . فقلت له جزاك الله خيرا .
والسؤال الآن :
ماذا نفهم من عبارته أنا أول من رفع يدي ؟
والجواب : أنه أول من رفع يده عندما طلبت من الحضور ذلك في خلال محاضرتي .
فلو جاء من يقول : أن الأخ يقصد أنه أول من رفع يده منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها فهل يقبل منه ذلك ؟ وهل يسمع لقوله ؟ وهل يكون لقوله وجاهة وقبول ؟ أعتقد أنه يكون من أولئك الذين قال الله عنهم :
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179 .
وأعتقد أن هذا يكفي للرد على هذه الشبهة التي تدل على تفاهة وحقارة من ذكرها وروج لها وظنها ثغرة في كتاب الله الكريم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
ومن شبهات أولئك الضالين أيضا ما قالوه في قول الله تعالى لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم - أن يقول ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{163}الأنعام
يقولون كيف يكون محمدا – صلى الله عليه وسلم – أول المسلمين – وقد ذكر القرآن الكريم أن كل من سبقه من الأنبياء كان مسلما وهو المتأخر عنهم في الزمن وكل الأنبياء جاؤوا قبله فكيف يكون أولهم إسلاما ؟
والجواب :
" قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي " الصلاة معروفة والنسك أي:الذبح وتخصيص هاتين العبادتين لشرفهما وفضلهما, ودلالتهما على محبة الله تعالى, وإخلاص الدين له, والتقرب إليه بالقلب واللسان, والجوارح, وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس, من المال, لما هو أحب إليها, وهو الله تعالى.
ومن أخلص في صلاته ونسكه, استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله: " وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي " أي: ما آتيه في حياتي, وما يجزيه الله علي, وما يقدر علي في مماتي.
الجميع " لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
" لَا شَرِيكَ لَهُ " في العبادة, كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير.
ليس هذا الإخلاص لله, ابتداعا مني وبدعا أتيته من تلقاء نفسي.
بل " وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ " أمرا حتما, لا أخرج من التبعة, إلا بامتثاله " وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " من هذه الأمة.
فما كان النبي – صلى الله عليه وسلم ليدعو إلى دين لا يؤمن به فهو أول من آمن بهذا الدين الذي هو الإسلام من أمته أو من أهل قريش خاصة .
والجدير بالذكر أن نبين هنا معنى الإسلام كاعتقاد وهو : الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله . وبهذا المفهوم الاعتقادي لمعنى الإسلام كان كل رسل الله وكل المؤمنين من لدن آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وصدق الله العظيم حيث جمع الرسالات السماوية تحت مفهوم واضح بين فقال سبحانه جل في علاه : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ }النحل36(4/177)
أما الإسلام كشريعة خاصة بهذا الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة من قبل رب العالمين بكتاب مسمى بالقرآن الكريم وبها من تفاصيل العبادة والمعاملات والمواريث كما هو معلوم فهذا هو ما عناه رب العزة في الآية الكريمة ( وأنا أول المسلمين ) .
فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أول المسلمين لهذا الدين الذي هو الإسلام وبهذا لا يكون في القرآن تناقضا ولا تضاربا ويبقى التناقض والتضارب في رؤوس الضالين وليس في كتاب رب العالمين .
أيها الأخوة والأخوات
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
================
الرد على من زعم أن القرآن متناقض
البالتوك – غرفة الدعوة الإسلامية
السبت : 29رجب 1426هـ الموافق 3/9/2005م
-------------
الحمد لله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفورا أحد { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً{88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً{89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً{91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً{92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً{93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً{94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً{95} ( مريم ) .
أحمدك اللهم حمد من رضي بقضائك واشكر شكر من أقر بنعمك عليه فلك الحمد على ما قضيت ولك الشكر على ما أنعمت به وأوليت {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } لقمان12
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو المعبود وحده دون سواه { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( هود123)
وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله نبي الرحمة ونبي الهدى البشير النذير والسراج المنير صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد .
أيها الأخوة
أيتها الأخوات
أحييكم بتحية الإسلام
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
في اللقاء السابق تحدثنا عن مزاعم النصارى ومن وافقهم من العلمانيين حول ما يدعونه من تناقض بعض آيات القرآن وتعارض بعضه بعضا ، واليوم نواصل حديثنا في هذا اللقاء الطيب المبارك حول ما توهمه الضالون تعارضا في كتاب الله تعالى وسيكون حديثنا اليوم حول الرد على ثلاث شبهات ووقفة مع أصل العقيدة النصرانية وأساسها فأقول وبالله تعالى التوفيق .
الشبهة الأولى :
1. قوله تعالى ) لا أقسم بهذا البلد ) وادعوا أن هذه الآية تناقض قوله تعالى : )َوالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ{1} وَطُورِ سِينِينَ{2} وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ{3}
الجواب :
( لا أقسم بهذا البلد ) قوله ( لا أقسم ) لا زائدة والمعنى أقسم ( بهذا البلد )
ومثله قول الله تعالى ( لا أقسم بيوم القيامة )
و كقول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي يتصدع ومن ذلك قوله { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }الأعراف12
قال الواحدي : أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة .
أما قوله تعالى : ( وهذا البلد الأمين ) أجمع المفسرون أيضا في هذه الآية أن البلد هي مكة ولا خلاف في هذا .
وقد حكى أبو العباس بن سريح قال: سأل رجلُُ بعض العلماء عن قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد }(البلد/1) فأخبر سبحانه أنه لا يقسم بهذا البلد، ثم أقسم به في قوله { وهذا البلد الأمين } (التين/3) فقال ابن سريح: أي الأمرين أحب إليك؛ أجيبك ثم أقطعك ؟ أو أقطعك ثم أجيبك ؟ فقال: بل اقطعني ثم أجبني . قال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجالٍ وبين ظهراني قوم ، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً، وعليه مطعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لعلّقوا به وأسرعوا بالرد عليه. ولكنّ القوم علموا وجهلتَ، فلم ينكروا ما أنكرت.
ثم قال : إن العرب قد تدخل " لا " في أثناء كلامها وتلغى معناها.
فأين هذا التناقض المزعوم ؟؟؟؟؟؟؟(4/178)
------------------
الشبهة الثانية :
2. ماذا تقولون في قوله تبارك وتعالى حكاية عن موسى ( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ). وقال تعالى في موضع آخر ( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ) والثعبان الحية العظيمة الخلقة والجان الصغير من الحيات فكيف اختلف الوصفان والقصة واحدة وبأي شيء تزيلون التناقض عن هذا الكلام.
والجواب :
نقول في الرد عليهم ما يلي :
والله أعلم بمراده أن الحالتين مختلفتان :
فالحال التي أخبر أن العصا فيها بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة وقبل مصير موسى إلى فرعون والحال التي صار العصا عليها ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة والتلاوة تدل على ذلك وإذا اختلفت القصتان فالمسألة بسيطة وليس فيها تعارض .
وربما يكون تشبهها بالثعبان في إحدى الآيتين لعظم خلقها وكبر جسمها وهول منظرها وتشبهها في الآية الأخرى بالجان لسرعة حركتها ونشاطها وخفتها فاجتمع لها الوصفان مع أنها في جسم الثعبان وكبر خلقه ونشاط الجان وسرعة حركته وهذا أظهر في باب الإعجاز وأبلغ في خرق العادة ولا تناقض معه بين الآتين.
ولا يلزم تشبهها بالثعبان أن يكون لها جميع صفات الثعبان وإذا شبهها بالجان أن يكون لها جميع صفاته وقد قال الله تعالى ( وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا{15} قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً{16} ( سورة الإنسان ) ولم يرد تعالى أن الفضة قوارير على الحقيقة وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفافيتها ورقتها مع أنها من فضة وقد تشبه العرب الشيء بغيره في بعض وجوهه فيشبهون المرأة بالظبية وبالبقرة ونحن نعلم أن في الظباء والبقر من الصفات مالا يستحسن أن يكون في النساء مثل الرفس والنطح وأكل الحشائش والتبن وإنما وقع التشبيه في صفة دون صفة ومن وجه دون آخر .
ومثال ذلك أيضا من نشبهه منكم بالأسد فلا نأخذ من الأسد إلا القوة فقط ولا يلزم أن يتصف بكل صفات الأسد وخصائصه ولو أطلقنا للتشبيه كل الصفات لنكون بذلك قد أردنا الذم والإساءة وليس المدح فالإنسان وإن كان ضعيفا فقيرا بسيطا فهو أكرم وأعز وأفضل من كل أسود الأرض لأن الله كرمه وفضله على كثيرٍ ممن خلق تفضيلا .
والخلاصة :
أن اختلاف تشبيه عصا موسى - عليه السلام - مرة بثعبان كبير أو حية كبيرة ومرة كأنها جان فيكون المقصود إما لاختلاف الواقعة فكل منهما واقعة غير الأخرى وإما لاختلاف الصفة فتكون في الضخامة كحية أو كثعبان وفي سرعة الحركة وخفتها كالجان وبالتالي فليست هناك شبهة وإنما الشبهة في عقيدة من أثارها وظنها ثغرة في كتاب الله .
الشبهة الثالثة :
3. قال تعالى { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ( يونس64) تناقض قوله { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ( النحل101 ) وفي قوله تعالى { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنعام115) تناقض قوله { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة106) وكذلك قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ( الحجر9) تناقض قوله { يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (الرعد39 )
والجواب :
الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل ( وإذا بدلنا آية مكان آية.. ) لا وجود لها إلا في أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه في وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً في آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان في محل واحد.(4/179)
ومحال أن يكون إنسان ما لا حي ولا ميت في آن واحد وليس في القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلي إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون . والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال محال . لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه في شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصر الموجودات ،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هي كلمات الله عزّ وجلّ.
وقد عبر عنها القرآن في مواضع أخرى بالسنن وهى القوانين التي تخضع لها جميع الكائنات في هذا الكون كالإنسان والحيوان والنبات والجمادات. إن كل شيء في الوجود يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التي ليس في مقدور قوة في الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها في الكون.
ذلك هو المقصود به ب " كلمات الله " ، التي لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً.
ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }( العنكبوت57) . فهل في مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً في هذه الحياة الدنيا ؟
فكلمات الله إذن هي عبارة عن قضائه في الكائنات وقوانينه المطردة في الموجودات وسننه النافذة في المخلوقات.
ولا تناقض في العقل ولا في النقل ولا في الواقع المحسوس بين مدلول آية: ( لا تبديل لكلمات الله) وآية: ( وإذا بدلنا آية مكان آية..).
لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية ، أي وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أي وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى. قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتِرٍ { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }النحل101 .
فلكل من الآيتين معنى في محل غير معنى ومحل الأخرى .
فالآية في سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله) والآية في سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن في القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون.
أما الآيتان { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }(الكهف27) و{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(البقرة106)
هاتان الآيتان بريئتان من التناقض كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام .
فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه في الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس.
وحتى لو كان المراد من " كلماته " آياته المنزلة فى الكتاب العزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهي باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
أما آية البقرة: ( ما ننسخ من آية ) فقد يكون المراد من الآية فيها المعجزة ، التي يجريها الله على أيدي رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى في نفس الآية: ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) .
ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شيء قدير.
فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض.
أما الآيتان الأخيرتان الواردتان صدر الحديث عن الشبهة الثالثة ، وهما آية الحجر: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه في الوجود الزمني ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.(4/180)
أما الآية الثانية: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهي إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف في شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (الأنبياء23) . فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟
وقفة مع أصل عقيدة النصارى :
وأقول لهؤلاء الجهلاء الذين غلب عليهم الجهل وأعماهم حتى صاروا أجهل من الدواب أكلما قرأتم شيئا لا تفهمونه اعتبرتموه شبهة في كتاب الله الكريم ؟
بدلا من إثارة الشبهات حول كتاب الله الكريم صححوا عقولكم وتعلموا كيف تفكرون واتركوا هذا الحقد وهذه الكراهية التي تحملونها في صدوركم حول الإسلام وأهله ونفضوا عنكم غبار الشرك وحكموا عقولكم والتزموا الحيادية والنزاهة في البحث والنظر في الإسلام وفي معجزته الباقية إلى يوم القيامة .
أولى بهؤلاء أن يرجعوا إلى أصل عقيدتهم وحقيقة الإله المعبود عندهم وما اختلفوا فيه وتعددت آراؤهم حول حقيقته :
لقد اجتمع 2048 من أساقفة وبطارقة النصارى في مجتمع نيقية المشهور في عهد الإمبراطور تيودوسيوس ليضعوا حدا لما اختلف الناس فيه بشأن حقيقة المسيح :
فمنهم من يقول : المسيح ومريم إلهان من دون الله .
ومنهم من يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار توقدت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها .
ومنهم من يقول : لم تحبل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب ، لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من فرجها لساعتها .
ومنهم من يقول : بثلاثة آلهة : صالح وطالح وعدل بينهما .
ومنهم من يقول : ربنا وإلهنا يسوع المسيح .
ومنهم من يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهرة وأن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنساني ، صحبته النعمة الإلهية ، فخلق منها بالمحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله .
ومنهم من يقول : إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد يسمونه بثلاثة أسماء . ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس .
ومنهم من يقول : إن المسيح إله حق وإنسان حق بطبيعتين مختلفتين ومشيئتين كذلك .
ومنهم من يقول : أنه بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة .
واشتد الخلاف بينهم حتى لعن بعضهم بعضا وانسحب كثير منهم فلم يبق إلا 318 أسقفا وهؤلاء هم الذين بقوا في المجلس ووضعوا أساس العقيدة المسيحية الجديدة ، التي يلعن من خالفها ويطرد من الكنيسة .
فعلام اتفق هؤلاء الذين بقوا دون انسحاب من الاجتماع ؟
لقد اتفقوا على وضع أساس لعقيدتهم وهو :
نؤمن بإله واحد ، ضابط الكل ، خالق السموات والأرض ، كل ما يرى وما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ، ابن الله الوحيد ، المولود من الأب قبل كل الدهور ، نور من نور إله حق مولود غير مخلوق ، مساو للأب في الجوهر ، الذي من أجلنا نحن ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، ومن مريم العذراء ، وتأنس وصلب على عهد ( بيلاطس النبطي ) وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب ، وسيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات ، الذي لا فناء لملكه ، وبروح القدس ، الرب المحيي المميت المنبثق من الأب المتحد مع الأب والابن المسجود له ... الخ .
وإليكم هذه الحقيقة :
أصل العقيدة النصرانية التي استقروا عليها منقول عن عقيدة الهنود القدماء في الشمس التي كانوا يعبدونها .
قال ( مالفير ) في كتابه المطبوع عام 1895م وترجمه إلى العربية ( نخلة بك شفوات ) سنة 1913م ما يلي :
لقد ذكر في الكتب الهندية القديمة التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية شارحة عقيدة الهنود القدماء ما نصه :
نؤمن ( بسافسترى ) أي الشمس إله واحد ، ضابط الكل ، خالق السموات والأرض ، وبابنه الوحيد ( آتي ) أي النار نور من نور مولود غير مخلوق تجسد من( فايو ) أي الروح في بطن ( مايا ) العذراء .
ونؤمن ( بفايو ) الروح الحي المنبثق من الآب والابن الذي هو مع الآب والابن ، يسجد له ويمجد .
والثالوث القديم وهو ( بسافسترى ) الشمس أي الآب السماوي وآتي ( النار ) أي الابن وهو النار المنبثقة من الشمس وفايو ( نفخة الهواء ) أي الروح هو أساس المذاهب عند الشعوب الأربانية أي الهنود القدماء . [ راجع كتاب التعصب والتسامح للشيخ محمد الغزالي – يرحمه الله – ص 98 وما بعدها ]
إخواني الكرام :(4/181)
انظروا إلى وجه الشبه بين عقيدة النصارى وبين عقيدة الهنود القدماء ثم انظروا إلى الفارق الكبير بين عقيدة النصارى وبين عقيدة الإسلام السماوية . فهل يفطن لذلك أرباب العقول ويفيقوا إلى رشدهم قبل فوات الأوان .
أيها الأخوة أيتها الأخوات :
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
====================
رسالة لكل امرأة تدعي الحرية في غير الإسلام
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على سيدنا رسول الله و آله و صحبه
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أختي الفاضلة متأكد أنك مسلمة وأن الإحساس بعظمة الإسلام لا يجعل منك البتة تفكرين بهدا الجحود في حق الإسلام ... بالنسبة للمراة التي تغنت بها الشاعرة الصباح لم تكن تقصد الإسلام قط بقدر ما كانت تقصد المرأة العربية التي تركت العمل بالشريعة الإسلامية و يرافقها في ذلك الرجل الشرقي بكل ما في نفسيته من تسلط .. الإسلام براء من ذلك ومن كل مما ادعيته أنت في حقه فلا مجال للمقارنة بين المجتمع الإسلامي الآن و المجتمع الأوربي المتخم بالعقد ... حتى إن المرأة الأوربية التي تتخذينها قدوة لك تعيش ضياعا وسط حقوقها المصطنعة في عالم لا يؤمن إلا بالمادة أصبحت الآن تبحث عن أنوثتها وعن طبيعتها التي لم تجدها إلا في الإسلام و الحمد لله لهذا فإن العديد منهن استيقظن من سباتهن وعدن إلى رشدهن والحمد لله في حين المرأة العربية المتعطشة للإنتقام من الرجل الذي سلب حريتها باسم الإسلام لم تجد أمامها إلا الإسلام لتصب جام غضبها عليه و ما الاسلام إلا ضحية ترك المسلمين العمل بتشريعاته...أنت الآن تذكرين بقصة مؤلمة لتلك الزوجة التي عوملت معاملة قاسية جدا ..و بسبب تلك المعاملة القاسية التي لاقتها من رجال مسلمين قست قلوبهم عليها وأبنائها .. ومباشرة بعد فرارها من السجن غيرت ديانتها من الإسلام إلى المسيحية ليس لأنها اقتنعت بأن الإسلام ليس الدين الذي يحفظ حقوقها و لكن انتقاما لنفسها مما قام به رجال مسلمين ضدها .. في حين نرى ان الرسول صلى الله عليه و سلم و إبان الحرب كان يدعو جيشه و يأمرهم بأن لا يقطعوا الشجر ولا يقتلوا الشيوخ و الأطفال وأن لا يقتلوا النساء... هذا إبان الحرب الكل في ضغط .. و لكن مع ذلك كانت وصايا الرسول عليه الصلاة و السلام واضحة و صريحة .. إذا أنت أيضا لم تكن نظرتك للإسلام نظرة موضوعية و إنما كانت نظرة غربية %100 وحكمك كان حكما جائرا ولا شك و حكم نابع من ضعفك ... لمذا لا تثورين و تطالبين بتحقيق العدالة و العمل بالشريعة الإسلامية كما جاءت و ترك الأحكام الوضعية التي زادت من معاناتكن .. فقط حينها سأحس بأن هناك امراة مسلمة واعية بخطورة وضعها في ظل حكم لا يعمل بما انزل الله... أتمنى أن تكون كلمات موجزة وواضحة .. كما أتمنى أن تستفيدي من قراءتك لكتاب شبهات حول الإسلام للدكتور محمد قطب و خصوصا باب المرأة و الإسلام .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ... ...
==================
كيف يسترجع المسلمون عزتهم ؟
كان أجدادنا المسلمون إذا وقعت عليهم هزيمة من قبل الأعداء .. كانوا يفتشون في أنفسهم ويبحثون عن سبب هذه الهزيمة التي حلت عليهم ، فإذا وجدوا في أنفسهم مخالفة لسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شأن من شئونهم سارعوا بتغييرها والتحول عنها إلى متابعة السنة وتربية الأمة ..
ومع أنهم كانوا أقل من أعدائهم عدداً وعدة إلا أنهم بعد تنفيذ هذه الخطوة كان الله ينصرهم سبحانه وتعالى .. تحقيقا لما ذكره في كتابه : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ..
وهذه خطوات عملية من أجل استجلاب النصر للأمة المسلمة إن شاء الله :
1- حاول جاهدا الآن وفورا الإقلاع عن المعاصي التي ترتكبها وتداوم عليها ، واسأل الله عز وجل أن يعينك على الإقلاع عنها... ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) ... [ استمع : آثار المعاصي و الذنوب على الأمم و الشعوب ] .
2- حافظ على الصلاة جماعة في المسجد خمس مرات في اليوم .. وخاصة صلاة الفجر .. ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ... [ اقرأ : أنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة ] .
3- حاول أن تتصدق على الفقراء والمساكين ولو بشيء بسيط جدا من مالك .. فإن : « صدقة السر تطفئ غضب الرب » ..
4- احرصي على الاحتشام والحجاب الكامل من الآن .. ولا تقولي سوف أفعل ذلك غدا .. [ استمعي : حجاب المرأة المسلمة ](4/182)
5- احرص على تربية أولادك تربية إيمانية حقة ليكونوا مثل أولاد الصحابة ويكونوا جيلا أفضل من جيلنا .. بعض الدروس المهمة في التربية .
6- أكثر من صلاة النافلة كل يوم ..
7- اؤمر أصحابك وأهلك بالمعروف بطريقة حسنة جميلة وذكرهم أن الأمة في حاجة إليهم وذكرهم بأن تكون أنت ويكونوا هم مثل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا وعملا .. [ استمع : الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ]
8-افعل ما أمرك الله به من إعداد نفسك وولدك نفسيا وبدنيا وعلميا ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) .. [ استمع : وأعدوا لهم ]
9- احرص على الإخلاص في عملك .. سواء كان دراسة أو صناعة أو زراعة وتعلم فقه أي شيء تعمله ، فليتعلم الزارع فقه الزراعة وليتعلم التاجر فقه التجارة وليتعلم الطالب فقه طلب العلم ..
10- ذكر إمام مسجدك أن يجمع الناس في المسجد كل يوم بعد صلاة المغرب ويقرأ عليهم درسا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويمكنه أن يسترشد في ذلك بكتاب " المسجد وبيت المسلم " للشيخ أبي بكر الجزائري ....
11- ساعد في نشر الخير بأي وسيلة مباحة تستطيعها .. [ استمع : التعاون على الخير ]
12- أكثر من الدعاء أن يثبتك الله على هذا الطريق وتضرع إلى الله عز وجل .. [ استمع : سهام الليل ]
13- ثق في نصرة الله عز وجل لعباده المؤمنين الصادقين .. [ استمع : الثقة بالله ]
14 - لا تيأس ولا تقنط من طول الطريق ومشقته فإن الفساد قد عم الأمة منذ سنين طويلة ويحتاج تغييره لوقت .. [ استمع : الأندلس..من الفتح إلى السقوط ]
وفي النهاية .. إذا وجدت أن المسلمين يجتمعون للصلاة مع كل أذان في المسجد كما يجتمعون لصلاة الجمعة وأنه قد فشا فيهم العلم وساد الدين .. فاعلم أن النصر قاب قوسين أو أدنى إن شاء الله ..
=================
الفهرس :
أولا- شبهات حول الإسلام (3) ... 1
الرد الشافي على رسالة المنصرين ... 1
أين قال النبي أن اليهود والنصارى حرفوا كتبهم؟! ... 44
كان رسول الله يصاب بالصرع ؟ ... 48
القتال والسيف بين الإسلام والنصرانية ... 72
من يسبّح الله كيف يكون هو الله أو إلها مع الله؟! ... 76
الرد على زكريا بطرس في اثبات التجسد من القران ... 79
هل يوجد ثالوث في القرآن ؟ ... 84
فى الإتيان بمثله ... 88
خرافة الإسلام المعتدل ... 97
الرد على إفتراءات برنامج زكريا بطرس فى قناة الحياة الفضائية ( أسئلة عن الإيمان ) ... 108
قانون إيمان النصارى ... 216
هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير ؟ ... 247
تحليل إنكار الله ... 248
تحليل الحنث فى القَسَم ... 250
تحليل الإغراء بالمال ... 251
تحليل القتل ... 252
تحليل النهب ... 254
تحليل الحلف ... 255
تحليل الانتقام ... 256
تحليل الشهوات ... 256
الحدود فى الإسلام ... 258
حد السرقة ... 260
حد الزنا ... 263
حد الردة ... 268
ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة ؟ ... 270
هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين ؟ ... 272
هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج ؟ ... 273
لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير ؟ ... 275
براءة الإسلام من الحقد الديني ... 276
الأنوثة الفكرية ومأسيها ... 285
نحن والغرب ... 299
كيف دخلنا التيه؟ ... 314
شبهات النصارى والرد عليها ... 327
الرد على من زعم ألوهية المسيح في القرآن الكريم ... 349
دحض شبهة تناقض القرآن الكريم ... 363
الرد على من زعم أن القرآن متناقض ... 387
رسالة لكل امرأة تدعي الحرية في غير الإسلام ... 397
كيف يسترجع المسلمون عزتهم ؟ ... 398(4/183)
المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام
الباب الثاني- - الرد على شبهات حول القران الكريم (1)
ما هو القرآن ؟
السؤال : ما هو القرآن ؟
الجواب :
الحمد لله
القرآن الكريم هو كلام رب العالمين أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور : (( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور )) الحديد : 9
وقد بين الله في القرآن الكريم أخبار الأولين والآخرين وخلق السماوات والأرضين وفصل فيه الحلال و الحرام وأصول الآداب والأخلاق وأحكام العبادات والمعاملات وسيرة الأنبياء والصالحين وجزاء المؤمنين والكافرين ووصف الجنة دار المؤمنين ووصف النار دار الكافرين وجعله تبياناً لكل شيء : (( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )) النحل : 89 .
وفي القرآن الكريم بيان لأسماء الله وصفاته ومخلوقاته والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر : (( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير )) البقرة : 285 .
وفي القرآن الكريم بيان لأحوال يوم الدين وما بعد الموت من البعث والحشر والعرض والحساب ووصف الحوض والصراط والميزان والنعيم والعذاب وجمع الناس لذلك اليوم العظيم : (( الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثاً )) النساء : 87 .
وفي القرآن الكريم دعوة إلى النظر والتفكر في الآيات الكونية والآيات القرآنية : (( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض )) يونس : 101 . وقال سبحانه : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) محمد : 24 .
والقرآن الكريم كتاب الله إلى الناس كافة : (( إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل )) الزمر/41 .
والقرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل ومهيمن عليها كما قال سبحانه و تعالى : (( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه )) المائدة : 48 .
وبعد نزول القرآن أصبح هو كتاب البشرية إلى أن تقوم الساعة فمن لم يؤمن به فهو كافر يعاقب بالعذاب يوم القيامة كما قال سبحانه : (( والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون )) الأنعام/49 .
ولعظمة القرآن وما فيه من الآيات والمعجزات والأمثال والعبر إلى جانب الفصاحة وروعة البيان قال الله عنه : (( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )) الحشر : 21 .
وقد تحدى الله الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو آية من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا كما قال سبحانه : (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )) الإسراء : 88 .
ولما كان القرآن الكريم أعظم الكتب السماوية ، وأتمها و أكملها وآخرها ، أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإبلاغه للناس كافة بقوله : (( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس )) المائدة : 67 .
ولأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة إليه فقد أكرمنا الله به فأنزله علينا وتكفل بحفظه لنا فقال : (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) الحجر : 9 .
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجري . (www.islam-qa.com
===========
الرد على من يحاول أن يثبت عدم صحة القرآن الكريم
السؤال :
قرأت مؤخرا بحثاً كتبه باحثون ألمان عن صحة القرآن . بعض ما قالوه نوقش في مقال في مجلة أتلانتك الشهرية بعنوان "ما هو القرآن ؟ " كتبه توبي ليستر نُشر في عدد يناير 1999 من تلك المجلة. لب القضية كان عن وجود نسخة قديمة جدا من القرآن في مسجد في اليمن يرى تحريفاً في القرآن الموجود . في بعض المواضع الكتابة التي كانت توجد في هذه النسخة قد مُسحت وكُتب فوقها .
المقال يحاول أن يلقي
الشبهة للمسلمين في نظرتهم للقرآن بأنه موثوق به تماماً ، وحاول أن يثبت أن القرآن عبارة عن كلام يتعرض للتغيير مثل أي كلام آخر.
أنا غير مسلمة ولكنني أعلم بأن القرآن له مكانة في الإسلام كمكانة المسيح في النصرانية .
بالنظر لهذا ، كيف تجيب على محاولة الذي يريد أن يفند صحة القرآن ؟ وهل يوجد لديك رد آخر على هذا الهجوم على صدق القرآن ؟.
الجواب :
الحمد لله
1. إن ثبوت صحة ما في أيدينا من نسخ القرآن الكريم لم يثبت عندنا بدليل أو بدليلين ، بل ثبت بأدلة كثيرة متوافرة لا يقع عليها عاقل منصف إلا ويقطع أنه هو كما أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم .(5/1)
2. وقد تعاقبت الأجيال جيلاً بعد جيل تتلو كتاب الله وتتدارسه بينهم ، فيحفظونه ويكتبونه ، لا يغيب عنهم حرف ، ولا يستطيع أحد تغيير حركة حرف منه ، ولم تكن الكتابة إلا وسيلة من وسائل حفظه وإلا فإن الأصل أن القرآن في صدورهم .
3. ولم يُنقل القرآن لنا وحده حتى يمكن تطرق التحريف المدَّعى إليه ، بل نقل تفسير آياته ، ومعاني كلماته ، وأسباب نزوله ، وإعراب كلماته ، وشرح أحكامه ، فأنَّى لمثل هذه الرعاية لهذا الكتاب أن تتطرق إليه أيدي آثمة تحرِّف فيه حرفاً ، أو تزيد كلمة ، أو تسقط آية ؟
4. وإن تحدَّث القرآن عن أشياء غيبية مستقبلية ، أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ليبيِّن أنه من عند الله ، وأن البشر لو أرادوا كتابة كتاب فإنهم قد يبدعون في تصوير حادث ، أو نقل موقف ، لكن أن يتحدث أحدهم عن أمر غيبي فليس له في هذا المجال إلا الخرص والكذب ، وأما القرآن فإنه أخبر عن هزيمة الروم من قبل الفرس ، وليس هناك وسائل اتصال تنقل لهم هذا الحدث ، وأخبر في الآيات نفسها أنهم سيَغلبون فيما بعد في مدة معينة ، ولو أن ذلك لم يكن لكان للكفار أعظم مجال للطعن في القرآن .
5. ولو جئت إلى آية من كتاب الله تعالى فذهبت إلى أمريكا أو آسيا أو أدغال أفريقيا أو جئت إلى صحراء العرب أو إلى أي مكان يوجد فيه مسلمون لوجدت هذه الآية نفسها في صدورهم جميعاً أو في كتبهم لم يتغير منها حرف .
فما قيمة نسخة مجهولة في ( اليمن ) لم نرها يمكن أن يحرِّف فيها أحد العابثين في هذا العصر آية أو كلمة ؟
وهل يقوم مثل هذا الكلام في سوق البحث والنظر ؟ وخاصة أن القوم يدَّعون البحث والإنصاف والعدل في القول .
فماذا يكون رد هؤلاء لو جئنا إلى كتاب من كتبهم الموثوقة لمؤلِّفين معروفين ، ولهذا الكتاب نسخ كثيرة في العالم ، كلها على نسقٍ واحدٍ ، ثم ادَّعى مدَّعٍ وجود نسخة من هذا الكتاب في بلدٍ ما ، وفيها زيادات وتحريفات عما في نسخهم ، فهل يعتدون بها ؟
جوابهم هو جوابنا .
6. والنسخ المخطوطة عند المسلمين لا تثبت بهذا الشكل الساذج ، فعندنا خبراء يعرفون تاريخ الخط ، وعندنا قواعد يضبط فيها إثبات صحة هذه المخطوطة كوجود السماعات والقراءات عليها ، واسم وتوقيع من سمعها وقرأها .
ولا نظن أن هذا قد وجد في هذه النسخة المزعومة من اليمن أو من غيرها .
7. ويسرنا أن نختم ردنا بهذه القصة الحقيقية والتي حدثت في بغداد في العصر العباسي ، حيث أراد يهودي أن يعرف صدق الكتب المنسوبة لله من أهلها وهي التوراة عند اليهود ، والإنجيل عند النصارى ، والقرآن عند المسلمين .
فراح إلى التوراة فزاد فيها ونقص أشياء غير ظاهرة جداً ، ثم دفعه إلى ورَّاقٍ – كاتب – منهم وطلب نسخ هذه النسخة ، قال : فما هو إلا زمن يسير حتى صارت نسختى في معابد اليهود وبين كبار علمائهم .
ثم راح إلى الإنجيل فزاد فيه ونقص كما فعل في التوراة ، ودفعه إلى ورَّاقهم وطلب نسخه فنسخه ، قال : فما هو إلا زمن يسير حتى صار يقرأ في كنائسهم وتتناوله أيدي علمائهم .
ثم راح إلى القرآن فزاد فيه ونقص كما فعل في التوراة والإنجيل ، ودفعه إلى ورَّاق المسلمين لينسخه له .
فلما رجع إليه لاستلام نسخته ألقاه في وجهه وأعلمه أن هذا ليس قرآن المسلمين !
فعلم هذا الرجل من هذه التجربة أن القرآن هو كتاب الله بحق وأن ماعداه لا يعدو أن يكون من صنع البشر .
وإذا كان ورَّاق المسلمين قد علم تحريف هذه النسخة فهل يمكن أن تمشي هذه على علماء المسلمين ؟
وإذا أرادت السائلة تحويل هذه التجربة القديمة إلى واقع حالي فما عليها إلا أن تفعل فعل ذلك اليهودي الذي أسلم وتزيد وتنقص من هذه الكتب الثلاثة ولتر نتيجة تجربتها .
ولن نقول لها اعرضي نسختك من القرآن على ورَّاق ، بل سنقول اعرضيها على صبيان وأطفال المسلمين ليكشفوا لك خطأ نسختك !
وقد طبعت بعض الدول الإسلامية مصاحف فيها أخطاء كان مكتشفها من الأطفال الصغار قبل الكبار .
والله الهادي .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com
===============
الرد على دعوى تحريف القرآن
السؤال :
أرجو أن تجيب على هذا السؤال فهو مهم بالنسبة لي ، فقد كنت أقرأ في صفحة معادية للإسلام على الإنترنت حيث قال أحد النصارى بأن الشيخ السجستاني قال في كتابه " المصاحف " بأن الحجاج قد غيَّر في حروف المصحف وغيَّر على الأقل عشر كلمات ، يدَّعي بأن السجستاني قد ألَّف كتاب اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان " وقد ادَّعى هذا النصراني بأنَّه جمع الكلمات العشر التي تم تغييرها باللغة العربية .
حاولتُ الحصول على نسخةٍ من هذا الكتاب دون جدوى فأرجو التوضيح ، فأنا لا أتخيَّل أنَّ جميع العلماء والحفَّاظ يسمحون لشخصٍ بأن يغيِّر القرآن ولا يقولوا شيئاً ، حتى ولو أن السجستاني روى هذا .(5/2)
هذا الأمر لا يُعقل أبداً لأننا لسنا كاليهود والنصارى لا نحفظ كتابنا ونتركه لرجال الدين ، فالمسلمون يحفظ كثير منهم القرآن وكلهم يتلوه فلا يعقل أن لا يلاحظ أحد الفروق والاختلافات .
الجواب:
الحمد لله ،
ما جاء في السؤال نقلاً عن كتاب " المصاحف " لابن أبي داود : فإليك الرواية فيه والحكم عليها :
عن عبَّاد بن صهيب عن عوف بن أبي جميلة أن الحجاج بن يوسف غيّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفاً ، قال : كانت في البقرة : 259 { لم يتسن وانظر } بغير هاء ، فغيرها " لَم يَتَسَنه " .
وكانت في المائدة : 48 { شريعة ومنهاجاً } ، فغيّرها " شِرعَةً وَمِنهاجَاً ".
وكانت في يونس : 22 { هو الذي ينشركم } ، فغيَّرها " يُسَيّرُكُم " .
وكانت في يوسف : 45 { أنا آتيكم بتأويله } ، فغيَّرها " أنا أُنَبِئُكُم بِتَأوِيلِهِ " .
وكانت في الزخرف : 32 { نحن قسمنا بينهم معايشهم } ، فغيّرها " مَعِيشَتَهُم " .
وكانت في التكوير : 24 { وما هو على الغيب بظنين } ، فغيّرها { بِضَنينٍ }… الخ ..
كتاب " المصاحف " للسجستاني ( ص 49 ) .
وهذه الرواية ضعيفة جدّاً أو موضوعة ؛ إذ فيها " عبَّاد بن صهيب " وهو متروك الحديث .
قال علي بن المديني : ذهب حديثه ، وقال البخاري والنسائي وغيرهما : متروك ، وقال ابن حبان : كان قدريّاً داعيةً ، ومع ذلك يروي أشياء إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع ، وقال الذهبي : أحد المتروكين .
انظر " ميزان الاعتدال " للذهبي ( 4 / 28 ) .
ومتن الرواية منكر باطل ، إذ لا يعقل أن يغيِّر شيئاً من القرآن فيمشي هذا التغيير على نسخ العالم كله ، بل إن بعض من يرى أن القرآن ناقص غير كامل من غير المسلمين كالرافضة - الشيعة – أنكرها ونقد متنها :
قال الخوئي – وهو من الرافضة - : هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والأطفال ، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية ، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته ؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله . " البيان في تفسير القرآن " ( ص 219 )
وما نقله السائل عن الإمام السجستاني من أنه ألَّف كتاباً اسمه " ما غيَّره الحجاج في مصحف عثمان " : غير صحيح بل كذب ظاهر ، وكل ما هنالك أن الإمام السجستاني ترجم للرواية سالفة الذكر عن الحجاج بقوله : ( باب ما كتب الحجَّاج بن يوسف في المصحف )
وعلى هذا فإنه لا يمكن أن يعتمد على هذا الرواية بحال من الأحوال ، ويكفي في تكذيبها أنه لم يثبت حتى الآن أن أحداً نجح في محاولة لتغيير حرف واحد ، فلو كان ما روي صحيحاً لأمكن تكراره خاصة في عصور ضعف المسلمين وشدة الكيد من أعدائهم ، بل مثل هذه الشبهات التي تثار هي أحد الأدلة على بطلان هذه الدعاوى ، وأن الأعداء قد عجزوا عن مقارعة حجج القرآن وبيانه فلجؤوا للطعن فيه
=============
شبهة حول صفة مكر الله سبحانه وتعالى
يثير البعض من جهلة النصارى هذه الشبهة حول صفة المكر لله سبحانه وتعالى ويقولون كيف يمكن ان تكون هذه الصفة المذمومة لله سبحانه وتعالى ؟
وللرد عليهم وتبيان جهلهم ننقل لكم ما جاء في مفردات الراغب الأصفهانى أن المكر هو صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان :
مكر محمود ، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل ، وعلى ذلك قال سبحانه وتعالى:{ والله خير الماكرين } فلا يكون مكره الا خيرا
ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى به فعل قبيح ، قال تعالى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} فاطر: 43 ،
فالمكر يكون في موضع مدحاً ويكون في موضع ذماً : فإن كان في مقابلة من يمكر ، فهو مدح ، لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه . وإن كان في غير ذلك ، فهو ذم ويسمى خيانة .(5/3)
ولهذا لم يصف الله نفسه بصفة المكر على سبيل الاطلاق وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها أي على سبيل المقابلة والتقييد فيقال : يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر برسله والمؤمنين ، وما أشبه هذا كما قال الله تعالى :{ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } وقال تعالى { ومكرواً ومكر الله والله خير الماكرين } آل عمران : 45 وقوله تعالى :{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} الأنفال : 30 ، وقوله تعالى :{فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين} النمل : 51
وكذلك قوله سبحانه وتعالى : (( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ )) وقوله : (( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي برسلهم ، وبالحق الذي جاءت به الرسل ، فلم يغن عنهم مكرهم ولم يصنعوا شيئاً ، وقوله (( فلله المكر جميعاً )) أي : لا يقدر أحد أن يمكر مكراً إلا بإذنه ، وتحت قضائه وقدره ومشيئته سبحانه وتعالى . فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له ولا يلتفت إليه ، فَلِلَّهِ أَسْبَاب الْمَكْر جَمِيعًا , وَبِيَدِهِ وَإِلَيْهِ , لا يَضُرّ مَكْر مَنْ مَكَرَ مِنْهُمْ أَحَدًا إلا مَنْ أَرَادَ ضُرّه بِهِ , فلا يَضُرّ الْمَاكِرُونَ بِمَكْرِهِمْ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه أَنْ يَضُرّهُ ذَلِكَ .
ومن هنا نعرف أن المكر هو التدبير، فإن كان فى شر فهو مذموم ، وإن كان فى خير فهو محمود .
والآن لنرى بعض الصفات المثبته لله في كتاب النصارى المقدس :
الجبار :
ونجدها في مزمور [ 24: 8 ] : (( من هو هذا ملك المجد. الرب القدير الجبار الرب الجبار في القتال ))
القهار : ونجدها في سفر أيوب [ 30: 11] : (( لانه اطلق العنان وقهرني فنزعوا الزمام قدامي. ))
المذل :
ونجدها في سفر دانيال [ 4: 37 ] : (( فالآن انا نبوخذناصّر اسبح واعظم واحمد ملك السماء الذي كل اعماله حق وطرقه عدل ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على ان يذلّه )) ويقول بولس لأهل كورنثوس : (( وأخشى أن يجعلني إلهي ذليلاً بينكم عند مجيئي إليكم مرة أخرى )) 2 كو 12 : 21. انظر أيضا مزمور 88 : 7 .
المنتقم :
ونجدها في مزمور [ 18: 47 ] : (( الاله المنتقم لي والذي يخضع الشعوب تحتي )) وفي حزقيال (( واجعل نقمتي في ادوم بيد شعبي اسرائيل فيفعلون بادوم كغضبي وكسخطي فيعرفون نقمتي يقول السيد الرب )) حزقيال 25 : 14
الضار :
ونجدها في سفر الأمثال [ 8 : 36 ] : (( ومن يخطئ عني يضر نفسه. كل مبغضي يحبون الموت ))
خالق الشر :
ونجدها في سفر اشعيا [ 45 : 7 ] : (( مصور النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشر. انا الرب صانع كل هذه ))
مضل :
ونجدها في الرسالة الثانية إلى تسالونكي [ 2 : 11 ] : (( ولاجل هذا سيرسل اليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب )) وفي سفر حزقيال [ 14 : 9 ] : (( فاذا ضل النبي وتكلم كلاما فانا الرب قد اضللت ذلك النبي ))
الوارث :
ونجدها في عبرانيين [ 1 :1 ، 3 ]
فعلى النصارى أن يقرأوا و يفهموا كتابهم قبل أن يفتروا على الإسلام واهله . . والله المستعان ،،،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،
===============
الرد عل الشبهة الخاصة بالآية (إلا ألقى الشيطان في أمنيته)
تحت عنوان : ( وحي من الشيطان ) كتب أعداء الإسلام ما يلي :
جاء في سورة الحج : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .))
قال المفسرون : إن محمدا لما كان في مجلس قريش أنزل الله عليه سورة النجم فقرأها حتى بلغ أفرأيتم اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدّث به نفسه ويتمناه - وهو تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لتُرتَجى . فلما سمعت قريش فرحوا به ومضى محمد في قراءته فقرأ السورة كلها، وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده، كما سجد جميع المشركين. وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر. وقد عرفنا أن الله يحيي ويميت ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده .
ونحن نسأل : كيف يتنكر محمد لوحدانية الله ويمدح آلهة قريش ليتقرب إليهم ويفوز بالرياسة عليهم بالأقوال الشيطانية؟ وما الفرق بين النبي الكاذب والنبي الصادق إذا كان الشيطان ينطق على لسان كليهما ؟
الجواب :
هذا الكلام مبني على رواية باطلة مكذوبة ، قال عنها ابن كثير وغيره : " لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح " .
وقد سئل ابن خزيمة عن هذه القصة فقال : من وضع الزنادقة .
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ورواية البخاري عارية عن ذكر الغرانيق .(5/4)
وقال الإمام ابن حزم : (( والحديث الذي فيه : وأنهن الغرانيق العلا ، وان شفاعتهن لترجى . فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد )) [ الإسلام بين الإنصاف والجحود ] ص 69
واستناداً إلى القرآن والسنة واللغة والمعقول والتاريخ نفسه فإن هذه الرواية باطلة مكذوبة :
1- لأن أسانيدها واهية وضعيفة فلا تصح .
2- لأن النبى صلى الله عليه وسلم معصوم في تبليغه للرسالة محتجين بقوله سبحانه وتعالى :
(( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )) [ الحاقة : 44 ]
3- لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحترم الأصنام في الجاهلية إذ لم يعرف عنه أنه تقرب لصنم بل قال : (( بغض إلي الأوثان والشعر )) .
هذا وأليك أيها القارىء الكريم التفصيل من كتاب ( نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ) للعلامة الألباني رحمه الله :
أولاً : بين يدي الروايات :
إن هذه القصة قد ذكرها المفسرون عند قوله تعالى : (( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم 52 ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد 53 وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم )) [الحج : 54 ] .
وقد اختلفوا في تفسير قوله تعالى : ( تمنى ) و ( أمنيته ) ، وأحسن ما قيل في ذلك : إن ( تمنى ) من " الأمنية " وهي التلاوة ، كما قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل :
تمنى كتاب الله أول ليلة * * * وآخرها لاقى حِمام المقادر
وعليه جمهور المفسرين والمحققين ، وحكاه ابن كثير عن أكثر المفسرين ، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة فقال في " إغاثة اللهفان " ( 1 / 93 ) :
" والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته " وبيّنه القرطبي فقال في " تفسيره " ( 12 / 83 ) :
وقد قال سليمان بن حرب : إن ( في ) بمعنى : عند ، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله عز وجل : ( ولبثت فينا ) ( الشعراء : 18 ) ، أي عندنا ، وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق ، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي .
قلت : وكلام أبي بكر سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من المعنى في تفسير الآية ، هو اختيار الإمام ابن جرير ، حيث قال بعد ما رواه عن جماعة من السلف ( 17 / 121 ) : " وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله تعالى : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته ) [الحج : 52] على ذلك ، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم بذلك أن الذي ألقى فيه الشيطان ، هو ما أخبر تعالى ذكره أنه نَسَخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك ، فتأمل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدّث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدّث وتكلم ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان بقوله تعالى : فيُذْهِب الله ما يلقي الشيطان من ذلك ، على لسان نبيه ويبطله .
هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة ، وهي كما ترى ليس فيها إلا أن الشيطان يلقي عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتتن به الذين في قلوبهم مرض ، ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق ، وترصدوا له عند كل مرصد ، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه ، ولم يقله رسوله ، فذكروا ما ستراه في الروايات الآتية ، مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة ، وذلك دَيْدَنهم منذ القديم ، كما فعلوا في غير ما آية وردت في غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ، كداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم الصلاة والسلام ، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلاً عن نبي مُكَرَّم . كما هو مبين في محله من كتب التفاسير والقصص .
فَحذارِ أيها المسلم أن تغتر بشيء منها فتكون من الهالكين ، و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " كما قال نبيك صلى الله عليه وسلم : ( وإن الله لهادِ الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم ) [الحج : 54] .
ثانياً : روايات القصة وعللها :
بعد أن فرغنا من ذكر الفائدة التي وعدنا بها ، أعود إلى ذكر روايات القصة التي وقفنا عليها لكي نسردها رواية رواية ، ونذكر عقب كل منها ما فيها من علة فأقول :(5/5)
1 ـ عن سعيد بن جبير قال : " لما نزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول . . ) إلى قوله : ( عذاب يومٍ عقيمٍ ) ( الحج : 52 ـ 55 ) .
أخرجه ابن جرير ( 17 / 120 ) من طريقين عن شعبة عن أبي بشر عنه ، وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير ، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه ، وتبعه السيوطي في " الدر المنثور " ( 4 / 366 ) ، وعزاه لابن المنذر أيضاً وابن مردويه بعد ما ساقه نحوه بلفظ : " ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى " الحديث ، وفيه :
" ثم جاءه جبريل بعد ذلك ، قال : اعرض علَّي ما جئتك به ، فلما بلغ : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " قال جبريل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ! فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) . وهكذا أخرجه الواحدي في " أسباب النزول " من طريق أخرى عن سعيد بن حسن ، كما سيأتي .
وقد روي موصولاً عن سعيد ، ولا يصح :
رواه البزار في " مسنده " عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ـ فيما أحسبه ، الشك في الحديث ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة ( النجم ) حتى انتهى إلى قوله : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، وذكر بقيته ، ثم قال البزار :
" لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية ابن خالد وهو ثقة مشهور ، وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس " كذا في " تفسير ابن كثير " ( 3 / 129 ) .
وعزا الحافظ في " تخريج الكشاف " ( 4 / 144 ) هذه الرواية " للبزار ، والطبري ، وابن مردويه " وعزوه للطبري سهو ، فإنها ليست في تفسيره فيما علمت ـ إلا إنْ كان يعني غير التفسير من كتبه ، وما أظن يريد ذلك ، ويؤيدني أن السيوطي في " الدر " عزاها لجميع هؤلاء إلا الطبري ، إلا أن السيوطي أوهم أيضاً حيث قال عطفاً على ما ذكر : والضياء في " المختارة " بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ، فذكر الحديث مثل الرواية المرسلة التي نقلناها آنفاً عن الدر نفسه ، ومحل الإيهام هو قوله : " بسند رجاله ثقات " بالإضافة إلى أنه أخرجه الضياء في " المختارة " فإن ذلك يوهم أنه ليس بمعلول ، وهذا خلاف الواقع ، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله كما نقلناه عن " تفسير ابن كثير " وكذلك هو في " تخريج الكشاف " وغيره ، وهذا ما لم يرد ذِكرُه في سياق السيوطي ، ولا أدري أذلك اختصار منه ، أم من بعض مخرجي الحديث ؟ وأياً ما كان ، فما كان يليق بالسيوطي أن يغفل هذه العلة ، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح ، وفيه من التغرير ما لا يخفى ، فإن الشك لا يوثق به ، ولا حقيقة فيه ، كما قال القاضي عياض في " الشفاء " ( 2 / 118 ) وأقره الحافظ في " التخريج " لكنه قال عقب ذلك :
" ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلاً ، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل ، عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوه ، ولم يشك في وصله ، وهذا أصح طرق الحديث . قال البزار . . . " .
قلت : وقد نقلنا كلام البزار آنفاً ، ثم ذكر الحافظ المراسيل الآتية ، ثم قال :
" فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " .
قلت : وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش ، ولا أدري أذلك منه ، أم من النساخ ؟ وهو أغلب الظن ، وذلك لأن قوله : " وهذا أصح طرق هذا الحديث " إن حملناه على أقرب مذكور ، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر ، منعنا من ذلك أمور :
الأول : قول الحافظ عقب ذلك : " فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " ، فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه ، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلاً , وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له ، ويؤيده الأمر الآتي وهو :
الثاني : وهو أن الحافظ لما رَدّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك ، قال الحافظ :
" أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلاً ( قلت : يعني في رواته ) ، فإن الجميع ثقات ، وأما الشك فيه ، فقد يجيء تأثيره ولو فرداً غريباً ـ كذا ـ لكن غايته أن يصير مرسلاً ، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة ، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل ، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات " .
فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق ، وسيأتي بيان ما فيه في ردنا عليه قريباً إن شاء الله تعالى .(5/6)
فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحاً عند الحافظ ، لرد به على القاضي عياض ، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق ، وهذا بين لا يخفى .
الثالث : أن الحافظ في كتابه " فتح الباري " لم يُشِرْ أدنى إشارة هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث ، لذكره بصريح العبارة ، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق .
الرابع : أن من جاء بعده ـ كالسيوطي وغيره ـ لم يذكروا هذه الرواية .
فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة ( هذا ) على أقرب مذكور ، وتضطرنا إلى حمله على البعيد ، وهو الطريق الذي قبل هذا ، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل . وهو الذي اعتمده الحافظ في " الفتح " وجعله أصلاً ، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له ، وقد اقتدينا نحن به ، فبدأنا أولاً بذكر رواية ابن جبير هذه ، وإن كنا خالفناه في كون هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً .
قلت : هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل ، ويقوي ذلك ، أعني كون إسناده مُعَلاًّ أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في " أسباب النزول " ( ص 233 ) من طريق سهل العسكري قال : أخبرني يحيى ( قلت : هو القطان ) عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى " ففرح بذلك المشركون ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اعرض علّي كلام الله ، فلما عرض عليه ، قال : أما هذا فلم آتك به ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) .
فرجع الحديث إلى أنه ـ عن عثمان بن الأسود عن سعيد ـ مرسل ، وهو الصحيح ، لموافقته رواية عثمان هذه رواية أبي بشر عن سعيد .
ثم وقفت على إسناد ابن مردويه ومتنه ، بواسطة الضياء المقدسي في " المختارة " ( 60 / 235 / 1 ) بسنده عنه قال : حدثني إبراهيم بن محمد : حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، ثنا جعفر بن محمد الطيالسي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة ، ثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا عثمان بن الأسود ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى " ، ففرج المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل ، فقال : اقرأ علّي ما جئتك به ، قال : فقرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا عن الشيطان ، أو قال : هذا من الشيطان ، لم آتك بها ! فأنزل الله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) إلى آخر الآية " .
قلت : وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال " التهذيب " إلا من دون ابن عرعرة ، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، وقد أورده الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال ( 3 / 68 ـ 69 ) :
" محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء ، حدث عن محمود ابن خداش ، ومحمد بن عمرو ، وابن أبي مذعور . روى عنه أحمد بن كامل القاضي ، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي " ثم ساق له حديثاً واحداً وقع فيه مكناً بـ ( أبي حرب ) ، فلا أدري أهي كنية أخرى له ، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع ، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال : " توفي سنة ثلاثمائة " ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، فهو مجهول الحال ، وهو علة هذا الإسناد الموصول ، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء ، الحافظ الثقة ، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان ، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة ( 381 ) إحدى وثمانين وثلاثمائة ، ووقع في " التذكرة " ( 3 / 172 ) " ومائتين " وهو خطأ .
فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الإطلاع على إسناد ابن مردويه " أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل " ، وازددنا تأكداً من أن الصواب عن عثمان بن الأسود إنما هو عن سعيد بن جبير مرسلاً كما رواه الواحدي ، خلافاً لرواية ابن مردويه عنه .
وبالجملة ، فالحديث مرسل ، ولا يصح عن سعيد بن جبير موصولاً بوجه من الوجوه .(5/7)
2 ـ عن ابن شهاب : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : ( والنجم إذا هوى ) ( النجم : 1 ) ، فلما بلغ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : " إن شفاعتهن ترتجى " سها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك ، فقال لهم : إنما ذلك من الشيطان ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) حتى بلغ ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) ( الحج : 52 ) .
رواه ابن جرير ( 17 / 121 ) وإسناده إلى أبي بكر بن عبد الرحمن صحيح ، كما قال السيوطي تبعاً للحافظ ، لكن علته أنه مرسل [3] وعزاه السيوطي لعبد بن حميد أيضاً ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : فذكره مطولاً ، ولم يذكر في إسناده أبا بكر بن عبد الرحمن ، فهو مرسل ، بل معضل ، ولفظه كما في " ابن كثير " و " الدر " :
" لما أنزلت سورة ( النجم ) ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنته ضلالتهم ، فكان يتمنى كفَّ أذاهم , ( وفي " ابن كثير " هدايتهم " ) ، فلما أنزل الله سورة " والنجم " قال : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت ، فقال : " وإنهن لَهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لَهِيَ التي تُرتَجى " فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، ودلقت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ( النجم ) سجد وسجد كلُّ من حضر من مسلم ومشرك ، ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ، فأنزل الله ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) ، فلما بيّن الله قضاءه ، وبرّأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم للمسلمين ، واشتدوا عليه " [4] .
وأخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " عن موسى بن عقبة ساقه من " مغازيه " بنحوه لم يذكر ابن شهاب كما في " الدر " ( 4 / 367 ) وغيره .
3 ـ عن أبي العالية قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جلساؤك عبيد بني فلان ، ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشرف العرب ، فإذا رأوا جلساءك أشرف قومك كان أرغب لهم فيك ، قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : فأجرى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، مثلهن لا ينسى " قال : فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حبن قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون ، فلما علم الذي أجري على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) إلى قوله ( والله عليم حكيم ) ( 52 ) ( الحج ) .
أخرجه الطبري ( 17 / 120 ) من طريقين عن داود بن أبي هند عنه ، وإسناده صحيح إلى أبي العالية ، لكن علته الإرسال ، وكذلك رواه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .
4 ـ عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس قالا :(5/8)
" جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( والنجم إذا هوى ( 1 ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( 2 ) ) ( النجم ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى " فتكلم بها ثم مضى ، فقرأ السورة كلها ، فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ، وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذا جعلتَ لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره ) [5] إلى قوله : ( ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( 75 ) ) ( الإسراء ) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى . . . ) ( الحج : 52 ) ، قال : فسمع كل من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هو أحب إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان " .
أخرجه ابن جرير ( 17 / 119 ) عن طريق أبي معشر عنهما ، وأبو معشر ضعيف ، كما قال الحافظ في " التقريب " واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي .
ثم أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمد بن كعب القرظي وحده به أتمّ منه ، وفيه : " فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل ، الحديث " .
ويزيد هذا ثقة ، لكن الراوي عنه ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعنه .
5 ـ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين ، فألقى الشيطان في أمنيته فقال : " إن الآلهة التي تدعى ، إن شفاعتهن لترتجى ، وإنها لَلْغرانيق العلى " فنسخ الله ذلك ، وأحكم الله آياته : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) [6] حتى بلغ ( من سلطان ) ( النجم ) ، قال قتادة : لما ألقى الشيطان ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتهم بخير ، ففرحوا بذلك ، فذكر قوله : ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) ( الحج : 53 ) .
أخرجه ابن جرير ( 17 / 122 ) من طريقين عن معمر عنه ، وهو صحيح إلى قتادة ، ولكنه مرسل أو معضل . وقد رواه ابن أبي حاتم كما في " الدر " بلفظ أتم منه وهو : " قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام ، نعس ، فألقى الشيطان على لسانة كلمة فتكلم بها ، وتعلق بها المشركون عليه ، فقال : ( أفرءئتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه ولغى : " وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى " فحفظها المشركون ، واخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها ، فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) ، فدحر الله الشيطان ولقن نبيه حجته " .(5/9)
6 ـ عن عروة ـ يعني ابن الزبير ـ في تسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى ( قلت وفيه : ) " فقال المشركون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر ، فلما أنزل الله ( عز وجل ) السورة التي يذكر فيها : ( والنجم ) وقرأ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال : " وإنهن لَمِنَ الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتهم لتُرتجى " وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلماتان في قلب كل مشرك وذلت بها ألسنتهم ، واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيه ( النجم ) سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة ـ كان رجلاً كبيراً ـ ، فرفع مِلْءَ كفه تراباً فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين ـ وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنتة النبي صلى الله عليه وسلم [ وحدثهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها في ( السجدة ) ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة . . فكَبُرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسى أتاه جبريل ] عليه السلام ، فشكا إليه ، فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام [ * وقال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ، لا أمرني بهما ربك ! ! فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه ، وقال :
أطعتُ الشيطان ، وتكلمتُ بكلامه وشركني في أمر الله ، فنسخ الله ] عز وجل [ ما ألقى الشيطان ، وأنزل عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) إلى قوله : ( لفي شقاق بعيد ( 53 ) ) ( الحج ) . فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم " .
رواه الطبراني هكذاً مرسلاً ، كما في " المجمع " ( 6 / 32 ـ 34 و 7 / 70 ـ 72 ) [7] وقال :
" وفيه ابن لهيعة ، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة " .
7- عن صالح قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إن ذكر آلهتنا بخير ذكرنا إلهه بخير، فألقى في أمنيته: (أفرئيتم اللات و العزى * ومناة الثالثة الأخرى) [النجم]، "إنهن لفي الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قال: فأنزل الله (و ما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ ...) الآية [الحج:52].
أخرجه عبد حُميد كما في "الدر" (4/366 من طريق السدي عنه، و أخرجه ابن أبي حاتم السدي لم يتجاوزه بلفظ:
"قال: خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى المسجد ليصلي فبينما هو يقرأ، إذ قال: (أفرئيتم اللات و العزى * و مناة الثالثة الأخرى) [النجم]، فألقى الشيطان على لسانه فقال: "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى" حتى إذا بلغ آخر السورة سجد و سجد أصحابه، و سجد المشركون لذكر آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاء جبريل عرض عليه فقرأ ذينك الحرفين، فقال جبريل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه، فأنزل الله يطيب نفسه: ( و ما أرسلنا من قبلكَ...) الآية [الحج:52]
قلت : وقد رُوي موصولاً عن ابن عباس أخرجه ابن مرديه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. و هذا إسناد ضعيف جداً، بل موضوع، فقد قال سفيان: " قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب"، و الكلبي هذا اسمه محمد بن السائب، و قد كان مفسراً نسّابة أخبارياً. وقال ابن حبان: كان الكلبي سبائياً من أؤلئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت و أنه راجع إلى الدنيا، و يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، و إن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها". قال: و مذهبه في الدين، و وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، و يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، و أبو صالح لم ير ابن عباس و لا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به؟![8]
و روي من وجوه أخرى عن ابن عباس سيأتي ذكرها، لا يصح شيء منها.(5/10)
8- عن الضحاك قال: في قوله ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبي ٍ) الآيه [الحج:52] فإن نبي الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكه أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات و العُزّى، و يُكثر من ترديدها، فسمع أهل مكه النبي صلى الله عليه و سلم يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، و دنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم: "تلك الغرانيق العلى، و منها الشفاعة ترتجى" فقرأها النبي صلى الله عليه و سلم كذلك، فأنزل الله عليه: ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ ) إلى قوله: (و الله عليمٌ حكيمٌ*52*) [الحج].
أخرجه ابن جرير (17/121) قال: حدثت عن الحسين يقول: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول:
قلت : وهذا إسناد ضعيف منقطع مرسل، الضحاك هذا الظاهر أنه ابن مزاحم الهلالي الخرساني، هو كثير الإرسال، كما قال الحافظ، حتى قيل: إنه لم يثبت له سماع من أحد من الصحابه، و الراوي عنه عبيد لم أعرفه ، و ابو معاذ الظاهر أنه سليمان بن أرقم البصري، و هو ضعيف، كما في "التقريب"، و الراوي عنه الحسين هو ابن الفرج أبو علي و قيل: أبو صالح، و يعرف بابن الخياط و البغدادي، و هو ضعيف متروك، و له ترجمه في "تاريخ بغداد" و "الميزان" و "اللسان" ثم شيخ ابن جرير فيه مجهول لم يُسَمَّ.
9- عن محمد بن فضالة الظفري، و المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا: "رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قومه كفّاً عنه، فجلس خالياً، فتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفّرهم عني، و قارب رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه، و دنا منهم، و دنوا منه، فجلس يوماً مجلساً في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم (و النجم إذا هوى ) [النجم]، حتى إذا بلغ : ( أفرأيتم الاّت و العزى (19) ومناة الثالثة الأخرى ) [النجم]، ألقى الشيطان كلمتين على لسانه : "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى"، فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بهما ثم مضى، فقرأ السورة كلها، و سجد و سجد القوم جميعاً، و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، و يقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ تراباً فسجد عليه رفعه الى جبهته، و كان شيخاً كبيراً، فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد، و بعضهم يقول: أبو أحيحة، و بعضهم يقول: كلاهما جميعاً فعل ذلك. فرفضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا قد عرفنا أن الله يحيي و يميت، و يخلق و يرزق، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، و أما إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، فكبُر ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم من قولهم، حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعَرَض عليه السورة فقال جبريل: جئتك [10]بهاتين الكلمتين؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: قُلتُ على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: (و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذاً لا تخذوك خليلاً (73) و لولا أن ثبتناك لقد كِدت تركنُ إليهم شيئاً قليلاً (74) إذاً لأذقناك ضعفَ الحياة و ضعفَ المماتِ ثمّ لا تجدُ لك علينا نصيراً ) [الإسراء].
أخرجه ابن سعيد في "الطبقات" (ج1 ق1 ص 137) [11]: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه، قال: و حدثني كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا:
قلت : وهذا إسناد ضعيف جداً، لأن محمد بن عمر، هو الواقدي، قال الحافظ في "التقريب": "متروك مع سعة علمه". و شيخه في الإسناد الأول يونس بن محمد، و والده محمد بن فضالة، لم أجد لهما ترجمة، ثم رأيت ابن أبي حاتم أوردهما (4/1/55 و 4/2/246) و لم يذكر فيهما جرحاً و لا تعديلاً. و في إسناده الثاني كثير بن زيد وهو الأسلمي المدني مُختَلف فيه، قال الحافظ: "صدوق يخطيء".
ثم هو مرسل فإن المطلب بن عبدالله بن حنطب كثير التدليس و الإرسال، كما في "التقريب". و لذلك قال القرطبي بعد أن ساق الرواية الثانية، و حُكي عن النحاس تضعيفها كما سبق نقله عنه هناك قال: قلت: فذكره مختصراً ثم قال:
" قال النحّاس : هذا حديث مُنكَر منقطع، و لا سيما من حديث الواقدي".
10- عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ سورة (النجم) و هو بمكة، فأتى على هذه الآية (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم] فألقى الشيطان على لسانه "أنهن الغرانيق العلى" فأنزل الله: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52]، و كذا أورده السيوطي في "الدرر المنثور" (4/267) وقال:
"أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، و من طريق أبي بكر الهذلي و أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، و من طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس".
قلت : فهذه طرق ثلاث عن ابن عباس و كلها ضعيفه.(5/11)
أما الطريق الأولى : ففيها الكلبي و هو كذّاب كما تقدم بيانه قريباً.
و أما الطريق الثانية : ففيها من لم يسمّ.
و أما الطريق الثالثة : ففيها أبو بكر الهذلي. قال الحافظ في "التقريب": "أخباري متروك الحديث" لكن قد قرن فيها أيوب، و الظاهر أنه السختياني، فلا بد أن يكون في الطريق إليه من لا يُحتَج به لأن الحافظ قال في "الفتح" (8/355) بعد أن ساقه من الطرق الثلاث : " وكلها ضعيف أو منقطع".
و قد ذكر ما يفيد أن ابن مردويه أخرجها من طريق عباد بن صهيب، و هو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته من "الميزان".
و له طريق رابع، أخرجه ابن جرير (17/120)، حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي. ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، "أن نبي الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يُصلّي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يقول: (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم]، ألقى الشيطان: "إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى"، فجعل يتلوها، فنزل جبريل صلى الله عليه و سلم فنسخها، ثم قال له: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52].
رواه ابن مردويه أيضاً كما في "الدرر" (4/366).
قلت : و هذا إسناد ضعيف جداً، مُسَلسَل بالضعفاء : محمد ابن سعد، هو ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العوفي ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/322-323) و قال: "كان ليّناً في الحديث".
و والده سعد بن محمد ترجمه الخطيب أيضاً (9/126- 127) و روى عن أحمد أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، و لا كان موضعاً لذلك".
و عمه هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، و هو متفق على ضَعفه ترجمه الخطيب (8/29- 32)و غيره.
و أبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضاً اتفاقاً، و قد أورده ابن حبان في "الضعفاء" و قال: "مُنكَر الحديث، فلا أدري البَلِيّة منه أو من ابنه، أو منها معاً؟" ترجمته في "تهذيب التهذيب".
و كذا والده عطية، و هو مشهور بالضَّعف
ثالثاً : بطلان القصة متناً :
تلك هي روايات القصة، و هي كلها كما رأيت مُعَلَّة بالإرسال و الضّعف و الجَهالة، فليس فيها ما يصلُح للإحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم إن مما يؤكد ضَعفها بل بطلانها، ما فيها من الاختلاف و النّّكارة مما لا يليق بمقام النبوة و الرسالة، و إليك البيان:
أولاً: في الروايات كلها، أو جُلها، أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه و سلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين، "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى".
ثانياً: و في بعضها كالرواية الرابعة: "و المؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم و لا يتهمونه على خطأ و هم" ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه و سلم، و لم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان، بل اعتقدوا أنه من وحي الرحمن!! بينما تقول الرواية السادسة: "و لم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان" فهذه خلاف تلك.
ثالثاً: و في بعضها كالرواية (1و 4 و 7 و 9): أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: "معاذ الله! لم آتك بهذا، هذا من الشيطان!!".
رابعاً: و في الرواية الثانية أنه صلى الله عليه و سلم سها حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا ينتبه من سهوه؟!
خامساً: في الرواية العاشرة الطريق الرابع: أن ذلك ألقيَ عليه و هو يصلي!!
سادساً: و في الرواية (4 و 5 و 9 ) أنه صلى الله عليه و سلم تمنّّى أن لا ينزل عليه شيء من الوحي يَعيبُ آلهة المشركين، لئلا ينفروا عنه!! و انظر المقام الرابع من كلام ابن العربي الآتي (ص50)
سابعاً: و في الرواية (4 و 6 و 9) أنه صلى الله عليه و سلم قال عندما أنكر جبريل ذلك عليه "أفتريتُ على الله، و قلتُ على الله ما لم يقل، و شركني الشيطان في أمر الله!!".
فهذه طامّات يجب تنزيه الرسول منها لا سيّما هذا الأخير منها فإنه لو كان صحيحاً لصدق فيه، عليه السلام، - وحاشاه- قوله تعالى: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا من الوتين (46)) [الحاقة]
فثبت مما تقدم بطلان هذه القصة سنداً و متناً. و الحمد لله على توفيقه و هدايته.
رابعاً : سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه و سلم :
رب سائل يقول : إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة و السلام جملة "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه و سلم و ليس ذلك من عادتهم؟
و الجواب ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفاً:(5/12)
"و ليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، و إلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم و خوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: "و أنه أهلك عاداً الأولى (50) و ثمود فما أبقى (51) و قوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم و أطغى (52) و المؤتفكة أهوى (53) فغشّاها ما غشّا (54)" إلى آخر الآيات [النجم]. فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، و لعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلى الله عليه و سلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير و جمع كثير، و قد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم و لو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، و لا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه و سلم، فقد نزلت سورة (حم السجده) بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول "الإتقان" فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ و ثمود (13)" [فصّلت]! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ناشده الرحم و اعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ و قال: "كيف و قد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب" و قد أخرج ذلك البيهقي في "الدلائل" و ابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
و يمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، و لايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: "أفرأيتم اللات و العزّى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)" [النجم]، بناء على أن المفعول محذوف و قدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: (ألكم الذكر و له الأنثى (21)" [النجم]. وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثاً، و الحب لشيء يعمي و يُصمّ، و ليس هذا بأبعد من حملهم "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين".
"و سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك و أتوب إليك".
محمد ناصر الدين الألباني
===============
فرية الغرانيق والرد عليها
الشيخ عماد الشربيني
تشبث بعض المستشرقين وأبواقهم المقلدون لهم بما ذكره بعض كتاب السيرة النبوية، وجماعة من المفسرين، وطوائف من المحدثين فى كتبهم، بأقصوصة "الغرانيق" وألصقوها بهجرة الحبشة، وجعلوها سبباً لعودة المهاجرين الأولين إلى مكة
وهى أقصوصة مختلقة، باطلة فى أصلها وفصلها، وأكذوبة خبيثة فى جذورها وأغصانها، واتخذ أعداء الإسلام منها سلاحاً للطعن فى عصمة رسول الله صلي الله عليه وسلم، من تسلط الشيطان عليه، وعصمته فى بلاغه لوحى الله تعالى
ورغم أن علماء المسلمين قديماً وحديثاً بينوا بأوضح ما يكون البيان زيفها وبطلانها؛ إلا أنك تجد من ينتصر لهذه الفرية، ويطبل لها ويزمر من المستشرقين والمبشرين([1]) وكذا أبواقهم المقلدون لهم الذين زادوا على أعداء الإسلام الطعن فى رواة السنة الشريفة والكذب عليهم بأنهم يصححون هذه الأكذوبة
يقول نيازى عز الدين([2]) : "بعد نزول الآية : }أفرأيتم اللات والعزى{([3]) ألقى الشيطان نتيجة لتمنى الرسول صلي الله عليه وسلم، ألا ينزل الله تعالى ما يغضب قومه من قريش، لأنه كان يطمع بإسلام بعض وجهائهم، فألقى الشيطان فى أمنية الرسول وفى ذهنه بعض الكلمات، فاعتقد أنها من الوحى، فطلب من كتبه الوحى تسجيله وكتابته فى نص القرآن الكريم([4]) وكانت كما يلى : "أفرأيتم اللات والعزى، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" فسر القرشيون من المشركين بذلك، وسجدوا مع الرسول فى الصلاة، ولكن بعد فترة نزل جبريل، وعاتب الرسول، وصحح الآية، ناسخاً ما ألقى الشيطان"([5])(5/13)
وكرر فى موضع آخر الطعن فى عصمة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فى البلاغ، وفى عصمته من الشرك، ومن تسلط الشيطان عليه، بتفسير آيات النهى عن الشرك، والنهى عن اتخاذ إله آخر مع الله عز وجل، بأنها خطاب من الله عز وجل لرسوله مرة ثانية عن قصة الغرانيق، وكأن حال لسانه يقول : قصة الغرانيق صحيحة، وبصحتها أشرك رسول الله، واتخذ إلهاً آخر، وتأمل كلامه بعد أن سبقه بذكر الآيات التالية قوله تعالى : }ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين{([6]) وقوله سبحانه : }ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون{([7]) يقول : "فمن معانى الآيات … يتبين أن الله تعالى يكلم الرسول مرة أخرى عن قصة الغرانيق، وأن شفاعتهن لترجى، ويوضح له كيف ألقاها الشيطان إلى لسانه، فأدخلها الرسول خطأ فى القرآن، إلى أن أتى جبريل، ونبهه على الموضوع، فنسخ تلك الآيات وأتى بدلاً عنها بخير منها : }أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى. ألكم الذكر وله الآنثى{([8]) وبين الله تعالى أسباب ذلك فى الآية : }وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم{([9])
ويحاول بعض الشيعة الطعن فى السنة النبوية وأهلها، وعلى رأسهم الإمام البخارى وصحيحه بإيهام القارئ أن فرية الغرانيق موجودة فى صحيح البخارى. إذ يقول جعفر مرتضى العاملى بعد أن ذكر فرية الغرانيق قال : "وأضاف البخارى سجود الإنس والجن إلى مجموع المسلمين والمشركين…"([1 ]) ويكذب أحمد حجازى السقا([11]) قائلاً : "فما تقول فى قصة الغرانيق المروية فى كتب الصحاح"([12]) ولم يبين لنا ما هى كتب الصحاح التى روت تلك الفرية؟!
ويجاب عن هذه الفرية، وما اشتملت عليه من افتراءات أخرى بما يلى :
أولاً : إن هذه الأقصوصة المختلقة تنافى ما هو مقطوع به من عصمة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فى عقيدته من الشرك والشك والضلال والغفلة، وعصمته من تسلط الشيطان عليه، وكذا عصمته من الخطأ والسهو فى أمر التبليغ، وهو ما قام عليه إجماع الأمة، والأدلة القطعية من الكتاب والسنة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله([13])
ثانياً : قيام الأدلة القطعية من القرآن الكريم على بطلانها، وأقرب دليل يشير إلى فساد هذه القصة ما يلى :
1- ما ذكره رب العزة فى أول سورة النجم، مؤكداً بالقسم على عصمة نبيه صلي الله عليه وسلم، فى تبليغ وحيه، وأنه لا يخرج كلامه عن الحق، قال تعالى : }والنجم إلى هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى{([14]) فكيف ينتظم هذا مع ذكر فى نفس السورة من نطقيه صلي الله عليه وسلم عن الهوى؟ بل وترديده ما يلقيه إليه الشيطان، على أنه آيات قرآنية إلهية؟! هذا مع قوله تعالى : }ولو تقول عليه بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين{([15]). فها هو يتقول عليه، ولا يفعل به شيئاً؟ هل يعقل هذا؟!
وإذا كانت هذه الآيات من سورة الحاقة، قد نزلت بعد سورة النجم، فإن ذلك لا يضر؛ مادامت الآية تعطى قاعدة كلية، ولا تشير إلى قضية خارجية خاصة، والقاعدة الكلية هنا : عصمته صلي الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه عز وجل
2- ما جاء فى نفس السورة بعد الموضع الذى زعموا أنه ذكرت فيه الفرية من ذم أصنام المشركين "مناة، واللات، والعزى" والإنكار على عابديها، وجعلها أسماء لا مسمى لها، وأن التمسك بعبادتها أوهام وظنون. قال تعالى : }إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى{([16])
فلو أن القصة صحيحة لما كان هناك تناسب بينها، وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم مفككاً، والكلام متناقضاً. وكيف يطمئن إلى هذا التناقض السامعون، وهم أهل اللسان والفصاحة، وأصحاب عقول لا يخفى عليها مثل هذا، ولاسيما أعداؤه الذين يلتمسون له العثرات والزلات
فلو أن ما روى كان واقعاً لشغب عليه المعادون له، ولارتد الضعفاء من المؤمنين، ولثارت ثائرة مكة، ولاتخذ منه اليهود بعد الهجرة متكئاً يستندون إليه فى الطعن على النبى صلي الله عليه وسلم، والتشكيك فى عصمته، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن
3- إن بعض الروايات الواردة فى القصة ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى : }وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً{([17])(5/14)
وهاتان الآيتان، حتى لو لم تكونا سبب النزول، فهما تردان القصة؛ لأن الله ذكر أنهم كادوا يفتنونه، ولولا أن ثبته لكاد أن يركن إليهم، ومفاداه أن الفتنة لم تقع، وأن الله عصمه وثبته حتى لم يكن يركن إليهم، فقد انتفى قرب الركون فضلاً عن الركون. فالأسلوب القرآنى جاء على أبلغ ما يكون فى تنزيه ساحته صلي الله عليه وسلم عن ذلك، وهم يرون فى أخبارهم الواهية، أنه زاد على الركون، بل افترى بمدح آلهتهم، وهذا ينافى ما تدل عليه الآية، وهو توهين للخبر لو صح، فكيف ولا صحة له؟([18])
4- وقال تعالى : }قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم. قل الله أعبد مخلصاً له دينى. فاعبدوا ما شئتم من دونه{([19]). وتأمل الأسلوب الإنكارى التوبيخى فى قوله }فاعبدوا ما شئتم{ وهى أشد من مجرد مدح الأصنام
فكل هذه الآيات وغيرها مما سبق ذكره فى مواضع عصمته صلي الله عليه وسلم([2 ]) مما يكذب هذه القصة، ويظهر زيفها ووضعها على رسول الله صلي الله عليه وسلم
ثالثاً : مخالفة القصة لحقائق تاريخ السيرة العطرة، إذ أن سورة النجم تحمل الحديث عن المعراج، وكان المعراج بعد السنة العاشرة من البعثة باتفاق، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، إبان الهجرة الأولى للحبشة، فى رمضان منها؛ وهذا مما يؤكد بطلان تلك المرويات، ويحقق كذبها ووضعها على رسول الله صلي الله عليه وسلم. يضاف إلى ذلك أن الرسول صلي الله عليه وسلم قبل إسلام عمر رضى الله عنه، ما كان يصلى عند الكعبة جهاراً نهاراً آمناً أذى المشركين له، حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلى إذا خلا المسجد منهم، وعمر رضى الله عنه قد أسلم فى السنة السادسة، وهذه فى الخامسة، وبذلك يبطل هذا القول، وهو صلاته بحضورهم على هذه الهيئة. ومن المعلوم أن معاداتهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم، كانت أعظم من يقروا بهذا القدر من القراءة، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر؛ فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً دون أن يتحققوا ذلك منه صلي الله عليه وسلم([21])
رابعاً : ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين، ومن المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول إلى إنكار القصة، والجزم بوضعها واختلاقها([22]) وإليك نماذج من أقوالهم :
1- قال القاضى عياض : "إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم… ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس([23]) وضعفه الأئمة أيضاً. ثم نقل القاضى عن الحافظ البزار قوله : "هذا الحديث – أى فرية الغرانيق – لا نعلمه يروى عن النبى صلي الله عليه وسلم، بإسناد متصل يجوز ذكره إلا بهذا الإسناد وهو: "يوسف بن حماد، عن أمية بن خالد، عن شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن جبير : فيما أحسبه". وضعفه الإمام البزار بما يلى :
1- تفرد أمية بن خالد بنقل هذا الحديث مسنداً عن شعبة عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وغير أمية بن خالد يرويه مرسلاً عن سعيد بن جبير عن النبى صلي الله عليه وسلم، ومن غير ذكر ابن عباس
2- وقوع الشك فى حديث شعبة، فسعيد بن جبير، وإن كان معتمداً لكن تردد أن النبى صلي الله عليه وسلم، كان بمكة فى هذه القضية، أو بغيره
3- رواية الكلبى لهذا الحديث عن أبى صالح عن ابن عباس، مضعفة أيضاً بأن الكلبى غير ثقة، وأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس، ففيها انقطاع، والمنقطع من أقسام الضعيف([24]) فلا يحتج به([25])
قال القاضى عياض : "فقد بين لك أبو بكر البزار رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوزه ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه الذى لا يوثق به ولا حقيقة معه"([26])(5/15)
قلت : وفى ذلك رد على قول الإمام السيوطى فى رواية ابن عباس الموصولة، بأن إسنادها جيد([27]) زد على ذلك ما نقله القاضى عن القاضى بكر بن العلاء المالكى فى بيانه لضعف القصة من حديث ضعف سندها واضطراب متنها بقوله : "لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته : فقائل يقول إنه فى الصلاة، وآخر يقول : قالها فى نادى قومه، حيث أنزلت عليه السورة؛ وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول : بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبى صلي الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل، قال : ما هكذا أقرأتك؛ وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبى صلي الله عليه وسلم قرأها؛ فلما بلغ النبى صلي الله عليه وسلم ذلك قال : والله ما هكذا نزلت؛ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة"([28])
2- وقال الإمام الرازى : "أهل التحقيق قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة، ونقل عن الحافظ ابن خزيمة، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً، كما حكى عن الإمام البيهقى قوله : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم"([29])
3- وقال الإمام ابن حزم : "وأما الحديث الذى فيه "وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد"([3 ])
4- وقال فضيلة الشيخ محمد الصادق عرجون بعد أن فند الروايات التى ذكرها الإمام السيوطى فى تفسيره، وأجاد فى الرد عليها بما يغنى عن ذكره قال : "ليس فى روايات فرية الغرانيق، رواية قط متصلة الإسناد على وجه الصحة، ولم يذكر فى جميع الروايات صحابى قط على وجه موثق، وما ذكر فيه باسم ابن عباس، فكلها ضعيفة واهية خلا رواية سعيد بن جبير على الشك فى إسنادها إلى الحبر ابن عباس، والشك يوهيها"([31])
خامساً : القصة لم يخرجها أصحاب الكتب الصحاح :
فرية الغرانيق لم يخرجها أحد من أصحاب الصحاح، ولا أحد من أصحاب الكتب المعتمدة كالسنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، كما زعم كذباً بعض أعداء السنة المطهرة والسيرة العطرة([32]) والذى رواه البخارى فى صحيحه عن ابن عباس : "أن النبى صلي الله عليه وسلم قرأن النجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون، والجن، والإنس" وفى رواية للبخارى أيضاً عن ابن مسعود قال : "أول سورة أنزلت فيها سجدة "والنجم" قال : فسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف"([33])
فأنت ترى هنا أن البخارى اقتصر على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه البتة فرية الغرانيق! فأين هذا مما يزعمه بعض الرافضة من إيهام القارئ أن فرية الغرانيق ذكرها الإمام البخارى فى صحيحه؟!([34])
سادساً : سؤال بعضهم :
"كيف سجد المشركون عند نهاية السورة لقوله تعالى : }فاسجدوا لله واعبدوا{([35]) مع أنهم يرفضون السجود لله؟ قال تعالى : }وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً{([36])
فالجواب :
إن سجود أهل الشرك كان لما سمعوه من أسرار البلاغة الفائقة، والفصاحة البالغة، وعيون الكلم، الجوامع لأنواع من الوعيد والإنكار، والتهديد والإنذار، وقد كان العربى يسمع القرآن فيخر له ساجداً([37])
يقول الأستاذ سيد قطب : "سجود المشركين كان لاعتبارين :
الاعتبار الأول : كامن فى ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن. ولهذه الإيقاعات المزلزلة فى سياق هذه السورة… خصوصاً إذا كان القارئ هو سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، الذى تلقى هذا القرآن مباشرة من مصدره، وعاشه وعاش به، وأحبه حتى لكان يثقل خطاه إذا سمع، من يرتله داخل داره، ويقف إلى جانب الباب يسمع له حتى ينتهى
وفى هذه السورة بالذات كان يعيش لحظات عاشها فى الملأ الأعلى، وعاشها مع الروح الأمين، وهو يراه على صورته الأولى
والاعتبار الثانى : أن أولئك المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة، وهم يستمعون إلى سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. إنما كان العناد المصطنع هو الذى يحول بينهم وبين الإذعان
ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من رسول الله صلي الله عليه وسلم فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التى لا يملكون أنفسهم إذاءها، وأن يأخذوا بسلطان هذا القرآن؛ فيسجدوا مع الساجدين بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين"([38])(5/16)
قلت : فسجودهم كان معجزة لرسول الله صلي الله عليه وسلم، بقهر المشركين، وإجبارهم على السجود، كما قال عز وجل : }إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين{([39]) وكما ألقى سحرة فرعون ساجدين لما رأوا معجزة سيدنا موسى عليه السلام، تلقف ما يأفكون، ألقى كفار قريش سجداً لمعجزة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهى معجزة سيخر لها أهل الكفر إلى يوم الدين أه
([1]) ينظر : الإسلام لألفريد هيوم ص35، 36، وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص34
([2]) كاتب سورى معاصر، هاجر إلى أمريكا، من مؤلفاته : إنذار من السماء، ودين السلطان – الذى زعم فيه أن السنة المطهرة، وضعها أئمة المسلمين، من الفقهاء والمحدثين، لتثبيت ملك السلطان، ويصرح بأنه – أى السلطان – معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، ويصرح بأن فقهاء المسلمين ومحدثيهم قديماً، هم جنود السلطان وصار على دربهم علماء المسلمين إلى يومنا هذ
([3]) الآية 19 النجم
([4]) قوله : اعتقاد الرسول بأنها من الوحى، فطلب… الخ، هذه زيادة كاذبة منه على رسول الله فوق كذب القصة
([5]) إنذار من السماء ص437
([6]) الآية 87 القصص
([7]) الآية 88 القصص، ويراجع : ما سبق فى توجيه هذه الآية وما قبلها ص129 – 138
([8]) الآيات 19 – 21 النجم
([9]) الآية 52 الحج. وينظر : إنذار من السماء ص523
([1 ]) الصحيح من سيرة النبى الأعظم 3/138، وينظر : أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين ص116، ودفاع عن السنة المحمدية أو الخطوط الطويلة لمحمد بن على الهاشمى ص12، 41
([11]) كاتب مصرى معاصر، حصل على العالمية فى الدعوة من جامعة الأزهر، ورفض الأزهر تعيينه بالجامعة، من مؤلفاته التى شكك فيها فى مكانة السنة النبوية، كتابيه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى، وحقيقة السنة النبوية، وغيرهم
([12]) دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص3
([13]) يراجع : دلائل عصمته صلي الله عليه وسلم فى عقله ص48، والجواب عن شبهاتهم من القرآن على عدم عصمته صلي الله عليه وسلم ص113، ودلائل عصمته صلي الله عليه وسلم فى نقل الوحى وتبليغ الرسالة من خلال القرآن والسنة والسيرة ص264
([14]) الآيات 1-4 النجم
([15]) الآيات 44 – 47 الحاقة
([16]) الآية 23 النجم
([17]) الآيتان 73، 74 الإسراء، وينظر : جامع البيان لابن جرير 17/131
([18]) الشفا 2/127، 128 بتصرف، وينظر : السيرة النبوية فى ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة 1/371، 372، وحياة محمد للدكتور محمد هيكل ص144
([19]) الآيات 11 – 15 الزمر
([2 ]) يراجع : ص113 – 181
([21]) الفصول الزكية فى سيرة خير البرية للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف ص284، 285
([22]) القصة أخرجها ابن جرير الطبرى فى تفسيره جامع البيان 17/186، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/25 رقم 13998، وابن المنذر، ثلاثتهم من طرق عن سعيد بن جبير مرسلاً، ووصلها البزار فى مسنده، وكذا الطبرانى، وابن مردويه، والضياء فى المختار ة من طريق آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال ابن جبير فيما أحسب، شك فى أن القصة بمكة، وأخرجه النحاس بسند فيه الواقدى عن ابن عباس، وابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وابن جرير فى تفسيره 17/186 من طريق العوفى عنه، وعن محمد بن كعب القرظى، ومحمد بن قيس، وأبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبى العاليه، وكلها مرسلة، وابن أبى حاتم فى تفسيره 8/25 2 رقم 14 3، عن السدى، وموسى بن عقبة فى المغازى عن الزهرى، ومن طريق موسى بن عقبة أخرجه البيهقى فى دلائل النبوة 2/285، ورواها الطبرانى مرسلة عن عروة بن الزبير، وفى سنده ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا منه، كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/72 . وينظر : 6/32 – 34، والمعنى فى الروايات السابقة كلها للقصة واحد، كما قال الحافظ فى فتح البارى كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/293، وينظر : مناهل الصفا فى تخريج أحاديث الشفا للسيوطى ص221
([23]) الشفا 2/125، 126، وقال بقوله الإمام القسطلانى صاحب المواهب اللدنية، وشارحه الزرقانى 2/15 فى فاتحة كلامهما، ثم ذهبا إلى ما ذهب إليه ابن حجر، وسيأتى بيان كلام ابن حجر والتعقيب عليه أه
([24]) وإذا كان من العلماء من يحتج بالضعيف إذا كثرت طرقه، وبناء عليه يعتمد حديث الغرانيق كابن حجر، فإنا سنعرف رأيه، ثم نناقشه فيه بعد قليل
([25]) نسيم الرياض فى شرح الشفا للخفاجى 4/87، وينظر : الشفا 2/126
([26]) الشفا 2/126
([27]) مناهل الصفا ص221
([28]) الشفا 1/125
([29]) التفسير الكبير 12/51 وقال أبو حيان فى تفسيره البحر المحيط 6/382 معقباً على كلام البيهقى : ولذلك نزهت كتابى عن ذكره فيه أهـ المراد نقله. وقال الشوكانى فى فتح القدير 3/461 "ولم يصح شئ من هذا،ولا ثبت بوجه من الوجوه". وينظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/438
([3 ]) الفصل فى الملل والنحل 2/3 8، 3 9، 311
([31]) محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم 2/69(5/17)
([32]) يراجع : قول أحمد حجازى السقا ص31
([33]) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب فاسجدوا لله واعبدوا 8/48 رقمى 4862، 4863
([34]) يراجع : قول : جعفر مرتضى العاملى ص31
([35]) الآية 62 النجم
([36]) الآية 6 الفرقان. وينظر : الصحيح من سيرة النبى لجعفر مرتضى العاملى 3/145
([37]) السيرة النبوية فى ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة 1/367
([38]) فى ظلال القرآن 6/342 – 3422
===============
الرد على شبهة شخصية هامان في القرآن الكريم
يقول بعض النصارى ان القرآن يحكي في سورة القصص وغيرها من السور أن هامان كان وزيراً لفرعون مع أن هامان كان في بابل وجاء بعد فرعون بنحو ألف سنة !!
(( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ )) (6) سورة القصص
الجواب :
أولاً : أن هذه الآيات قرئت وتليت على اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ,وكان فيهم العلماء والأحبار فلم ينكر أحد منهم هذا الأمر. ومنهم العالم اليهودي عبد الله بن سلام الذي أسلم ودخل في دين الله . .
ثانياً : من أعلم المؤلف بأن هامان كان وزيراً لفرعون ؟ وهذا السؤال على معنى أن هامان اسم شخص. ولا أحد أعلمه بأن هامان اسم شخص إلا الرواة الذين لا يوثق بمروياتهم. وإذا أصرّ على أن هامان اسم شخص. فليسلّم بأن فرعون اسم شخص. ومعلوم أنه لقب " الملك " كان لرئيس المصريين فى زمن يوسف ـ عليه السلام ـ وأن لقب " فرعون " كان لرئيس المصريين فى زمن موسى ـ عليه السلام ـ مما يدل على تغير نظام الحكم.
وإذا صح أن " هامان " لقب لكل نائب عن الملك ، لا اسم شخص. فإنه يصح أن يُطلق على النائب عن فرعون أو عن أى ملك من الملوك. وعلى ذلك يكون معنى: (إن فرعون وهامان وجنودهما ) (1) هو إن رئيس مصر الملقب بفرعون ، ونائبه الملقب بهامان (وجنودهما كانوا خاطئين) ومثل ذلك: مثل لقب الملك الذى يُطلق على رؤساء البلاد ؛ فإنه يطلق على رؤساء فارس واليونان ومصر واليمن وسائر البلاد ، ولا يتوجه على إطلاقه خطأ من أخطاء التاريخ.
وفى الإنجيل أن اليهود كانوا يطلقون لقب " المضلّ " على من يخالفهم فى الرأى. وإذا أطلقه العبرانيون على رجل منهم يقولون له: يا سامرى ، بدل قولهم يا مضل. وذلك لأنهم يعتبرون السامريين كفاراً. وإذا أطلقه السامريون على رجل منهم يقولون له: يا عبرانى ، بدل قولهم يا مضل. وذلك لأنهم يعتبرون العبرانيين كفاراً. وإذا سمع العبرانى عنهم كلمة " سامرى " لا يفهم منها أنها اسم شخص ، وإنما يفهم منها أنها لقب للذم. وعن هذا المعنى جاء فى إنجيل يوحنا أن علماء اليهود قالوا لعيسى ـ عليه السلام ـ: " إنك سامرى ، وبك شيطان " ورد عليهم بقوله: " أنا ليس بى شيطان ، لكنى أكرم أبى وأنتم تهينوننى. أنا لست أطلب مجدى. يُوجد من يطلب ويدين " [يو 8: 48ـ50].
ثالثاً : ماذا تقول النقوش الهيروغليفية عن هامان ؟
المعلومات التي في القرآن الكريم حول مصر القديمة وحكامها تكشف العديد من الحقائق التاريخية التي لم تكن معلنة وغير معروفة حتى أوقات أخيرة . . .
هامان مذكور في القرآن في ستة أماكن مختلفة كأحد المقربين إلى فرعون بينما تذكر لنا التوراة أن هامان لم يُذكر في حياة موسى عليه السلام على الإطلاق وأن هامان كان وزيراً وخليلا لأحشوريش ملك الفرس الذي يدعوه اليونان زركيس, وكثيراً من الذين يريدون أن يطعنوا في القرآن و يدعون أن محمد صلى الله عليه وسلم كتب القرآن بالنسخ من التوراة مع أن هناك اختلاف في بعض القصص منها شخصية هامان في القرآن والتوراة , سخافة هذه الادعاءات عرضت فقط بعد فك طلاسم الأبجدية الهيروغليفية المصرية قبل 200 سنة تقريباً وأسم هامان قد أكتشف في المخطوطات القديمة وقبل هذه الاكتشافات لم يكن شئ معروف عن التاريخ الفرعوني, ولغز الهيروغليفية تم حله سنة 1799 باكتشاف حجر رشيد الذي يعود الى 196 قبل الميلاد وتعود أهمية هذا الحجر بأنه كتب بثلاث لغات : اللغة الهيروغليفية والديموقيطية واليونانية وبمساعدة اليونانية تم فك لغز الهيروغليفية من قبل شاملبيون وبعدها تم معرفة الكثير حول تاريخ الفراعنة وخلال ترجمة نقش من النقوش المصرية القديمة تم الكشف عن أسم ( هامان ) وهذا الاسم أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا وفي مجموعة من النقوش كشفت لنا أن هامان كان رئيس عمال محجر البناء
وها هي النقوش تكشف لنا حقيقة هامان بعكس ماذكرته التوراة والإنجيل ورداً على الزعم الخاطئ لمعارضي القرآن , وهامان الشخص الذي عاش في مصر وفي وقت موسى والذي كان أقرب المقربين لفرعون كما ذكر القرآن لنا(5/18)
قال الله تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (38) سورة القصص صدق الله العظيم
والنقطة المهمة المذكورة في القرآن هي أن هامان هو الشخص الذي أمره فرعون بأن يبني له صرحا ليتطلع لآله موسى وهنا يظهر إعجاز القرآن في حقيقة هامان والتي لم تعرف حقيقته إلا بعد فك رموز اللغة الهيروغليفية بعكس التحريف الذي في التوراة والأنجيل الذي يذكر لنا بأنه كان وزيراً وخليلا لأحشوريش ملك الفرس
المصدر : كتاب معجزات القرآن للمؤلف هارون يحيي
وجاء في كتاب : اليهود بين القرآن و التوراة و معطيات العلم الحديث للأستاذ عبد الرحمن غنيم تحت عنوان هامان وفرعون ما يلي :
قال تعالى : (( و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى و إني لأظنه من الكاذبين )) [سورة القصص : 38].
يخاطب فرعون وجهاء قومه الذين تمتلئ العيون من مهابتهم ، أنه يرى أنه لا إلاً غير فرعون ، فينادي هامان طالباً منه أن يبني له من الطين المحروق و هو القرميد بناءً شاهقاً ، (( لعلي أن أرى إله موسى و إني لأراه من الكاذبين )).
تدل هذه الآية على عدة إعجازات غيبية :
1. تأليه فرعون لنفسه : في قوله ( ما علمت لكم من إله غيري ) و الأبحاث الأثرية التي قامت حول الحضارة المصرية القديمة تأكد أن الفراعنة منذ الأسرة الرابعة كانوا يصرحون ببنوتهم للإله رع الذي يمثل إله الشمس التي كان يعبدها قدماء المصريين ،بل إن اسم رع دخل في ألقاب الفراعنة ، مثل "رع نب " أي الرب الذهبي و لعل أوضح دليل على تأليه الفراعنة لأنفسهم كما يقول بريستد عالم الآثار و التي حفظتها نصوص الأهرام هي أنشودة للشمس تربد فيها هوية الملك بإله الشمس ، إن هذه الأنشودة تخاطب مصر ، في تعداد طويل و رائع للمنافع التي تستمتع بها ، تحت حماية و سيادة إله الشمس ، فعلى ذلك يمنح فرعون مصر نفس المنافع ، ولهذا يجب أن يتسلم نفس الهبات من مصر ، و لذا الأنشودة بأكملها تعاد بوضع اسم فرعون أينما يجيء اسم رع أو حورس في الأنشودة الأصلية [1].
2. الإعجاز الثاني هو استعمال الفراعنة الأجر في بناء الصروح : فقد طلب فرعون من هامان أن يبني له من الطين المحروق ( الأجر ) صرحاً ، و هذا يعتبر من الإعجاز التاريخي للقرآن الكريم فقد ظل الاعتقاد السائد عند المؤرخين أن الآجر لم يظهر في مصر القديمة قبل العصر الروماني و ذلك حسب رأي المؤرخين مثل الدكتور عبد المنعم أبو بكر في كتابه الصناعات ، تاريخ الحضارة المصرية ص485و الذي يرى في ذلك إشكال في رأيه و ما جاءت به الآيات السابقة التي تبين طلب فرعون من هامان أن يبني لي صرحاً من الآجر أو الطين المحروق و ظل هذا هو رأي المؤرخين إلى أن عثر عالم الآثار بتري على كمية من الآجر المحروق بنيت به قبور ، و أقيمت به بعض من أسس المنشآت ، ترجع إلى عصور الفراعين رعمسيس الثاني و مرنبتاح و سيتي الثاني من الأسرة التاسعة عشر (1308 1184 ق. م ) و كان عثوره عليها في : "نبيشة " و " دفنه " غير بعيد من بي رعمسيس ( قنطير ) عاصمة هؤلاء الفراعين في شرق الدلتا . [2]
3. أما الإعجاز الثالث هو الإشارة إلى أحد أعوان فرعون باسمه " هامان " فقد وجد العلماء الآثار هذا الاسم مكتوباً على نصب أحد فراعنة مصر القديمة و هذا النصب موجود في متحف هوف بفينا كما يأكد هذا النص أن هامان كان مقرباً من فرعون و قد ورد أيضاً أسم هامان في "قاموس أسماء الأشخاص في المملكة الجديدة :
Dictionary of Personal names of the New Kingdom
وهو القاموس المستند على مجموعة المعلومات المستقاة من الكتابات المصرية القديمة و وردت الإشارة إلى هامان على أن رئيس البناءين في معامل نحت الحجارة و هذا يتوافق مع القرآن الذي يشير إلى هامان على أنه المسؤل عن تشييد الصروح في مملكة الفرعون [3].
_______________________
تطور الفكر و الدين في مصر القديمة بريستد ص185
كتاب الحضارة المصرية تأليف محمد بيومي مهران ج3 ص429
كتاب قصة موسى مع فرعون تأليف هارون يحيى عن موقع هارون يحيى على شبكة الإنترنت
===============
الرد على ما زعم حول سورة الحفد و الخلع
يزعم النصارى ان هناك سورتين حذفتا من القرآن الكريم و هما سورة الحفد والخلع ونصهما :
(( اللهم إنا نستعينك و نستهديك و نستغفرك و نتوب إليك و نؤمن بك و نتوكل عليك و نثني عليك الخير كله .نشكرك و لا نكفرك . ونخلع و نترك من يفجرك .اللهم أياك نعبد و لك نصلي و نسجد .و إليك نسعى و نحفد و نرجورحمتك و نخاف عذابك الجد بالكفار ملحق ))
الجواب(5/19)
قال صاحب الأنتصار ما نصه (( هذا كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه . لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء و أنه لو كان قرآناً لنقل إلينا نقل القرآن و حصل العلم بصحته ))
وقد روي أنّ أبي ابن كعب أثبت هذا الدعاء في مصحفه، وهو قد أثبتَ في مصحفه ما ليس بقرآنٍ من دعاء أو تأويلٍ ( البرهان في علوم القرآن للزركشي2/ 136).
و وجود هذا الدعاء في مصحف أبي بن كعب راجع الى ان بعض الصحابة الذي كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في صحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس من القرآن ..مما يكون تأويلاً لبعض ما غمض عليهم من معاني القر آن أو يكون دعاء يجري مجرى القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت .
و هم يعلمون انه ذالك كله ليس بقرآن ولكن ندرة أدوات الكتابة و كونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم .هون عليهم ذالك لأنهم امنوا على انفسهم اللبس و أشتباه القرآن بغيره ، أضف إلى ذالك ان النبي نهى عن كتابة غير القرآن و ذالك كله مخافة اللبس و الخلط و الإشتباه في القرآن الكريم .
وقد أورد بعض جهال النصارى في سبيل نشر هذه
الشبهة الساقطة بعض الروايات والتي منها :
1- عن الأعمش أنه قال: في قراءة أُبَيِّ بن كعبٍ: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك بالكفار ملحِق
2- عن ابن سيرين قال: كتب أُبَيُّ بن كعبٍ في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، واللهم إنا نستعينك، واللهم إياك نعبد، وتركهن ابن مسعودٍ، وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين
وعن أُبَيِّ بن كعبٍ أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، وأنه كان يكتبهما في مصحفه
3- عن عبد الرحمن بن أبزى أنه قال: في مصحف ابن عباس قراءةُ أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك الخير ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. وفيه: اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد. نخشى عذابك ونرجو رحمتك . إن عذابك بالكفار ملحِق
4 _ كما ورد أن بعض الصحابة كان يقنت بِهاتين السورتين:
عن عمر بن الخطاب أنه قنت بعد الركوع، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجد بالكافرين ملحِق
و للرد علي هؤلاء الجهلة نقول :
_ نريد من اي متفقه نصراني ان يذكر لنا رواية واحدة من هذه الروايات و يثبت لنا صحتها
و لضرب مثال واحد فقط لا اكثر :
ان الرواية الاولي من كتاب ( غريب الحديث و الاثر ) لابن الاثير، فكعاده النصارى لا تجدهم الا جهلة (( لا يعرفون اي حديث يؤخذ به .... او جهال لا يعرفون في علم الحديث اصلاً ))
_ كان الصحابة يثبتون في مصاحفهم ما ليس بقرآن من التأويل والمعاني والأدعية، اعتمادًا على أنه لا يُشكل عليهم أنَّها ليست بقرآن و هذا ما فعله ابي بن كعب و سنفصله ان شاء الله في الرد علي شبهة المصاحف عند ابن مسعود .
_ بعض هذا الدعاء كان قرآنًا منَزلاً، ثم نُسخ، وأُبيح الدعاء به، وخُلط به ما ليس بقرآنٍ، فكان إثبات أُبَيٍّ هذا الدعاء .
_ نقل عن ابي بن كعب قراءته التي رواها نافع وابن كثير وأبو عمرو، وغيرهم، وليس فيها سورتا الحفد والخلع - كما هو معلوم .
_ كما أن مصحفه كان موافقًا لمصحف الجماعة قال أبو الحسن الأشعري : قد رأيت أنا مصحف أنسٍ بالبصرة، عند قومٍ من ولدِه، فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خط انس وأملاء أبي بن كعب .
و بذلك تكون حجتهم واهية و امهم هاوية . . .
=================
الرد على أكذوبة النصارى بأن الرسول قد اقتبس من شعر امرىء القيس الجاهلي
لقد أثار بعض الفجرة من النصارى قضية أبيات منحولة إلى إمرؤ القيس الشاعر الجاهلي , بأن نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قد اقتبسها ووضعها بالقران , في محاولات مستميتة منهم للطعن في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,ومحاولاتهم بدأت مع بداية بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ولم تنل من الإسلام شيئا ولن تنل من الإسلام شيئا فإن الله قد تكفل لنا بحفظ كتابه حتى قيام الساعة , فلا خوف على كتاب الله أن يصيبه التحريف أو التبديل سواء نصاً أو معنى , كما أصاب كتب النصارى أو اليهود . وكان من نتيجة ادعاء هؤلاء الجهلة ذلك وغيره , أن إنبري عدد من المسلمين للرد على مزاعم هؤلاء , وتفنيد شبهاتهم , وبهذا يحدث التأييد والنصرة لهذا الدين على يد هؤلاء السفهاء من حيث لا يعلمون .
وأنا أصف هؤلاء الجهلة بما وصف به إمرؤ القيس حمارا حيث قال :
يوارد مجهولات كل خميلة *** يمج لفاظ البقل في كل مشرب(5/20)
فهم يردون الخمائل وهي الحدائق وأعني بها الكتب والتراث ولكنهم كالحمار لا يحسنون شم الورود بل فقط إفسادها بأكلها ثم يردون الماء الذي هو سبيل الحياة ولا يحسنون سوى مج بقايا الطعام الذي هو البقل من أفواههم الى الماء فهم دائما يكدرون صفاء الماء ويتلفون جمال الحدائق , فتراثنا جميل كخميلة ولكن هؤلاء يختارون منه ما يوافق كفرهم ليشوهوا به صفاء عقيدتنا .
بحثت عن أصل لتلك الأبيات المدعاة فلم أجد لها ذكرا , ولكن للأمانة العلمية فقط أسوق مصدراً واحداً وردت فيه على سبيل ما ينسب ويدعى لإمرؤ القيس , ففي كتاب فيض القدير شرح الجامع الصغير للإمام المناوي وردت تلك الأبيات في سياق تعريفه لأمرؤ القيس وأنها تنسب إليه ولم يتعرض الإمام المناوي لها (لمن لا يعلم فالامام المناوي متوفى عام 1029هـ), ولم ترد تلك الأبيات في ديوان إمرؤ القيس بطبعاته المختلفة . فمن هو امرؤ القيس المقصود , والذي يعنيه جهلة النصارى أنه صاحب تلك الأبيات , فلدينا الكثير من الشعراء ممن يحملون اسم امرؤ القيس بعضهم جاهلي , وبعضهم إسلامي فأيهم يعنون ؟؟؟ بالطبع هم أجهل من أن يعلموا ذلك .
1- الجاهلي :
أ- إمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي , شاعر جاهلي وهو أشهر الشعراء على الإطلاق , يماني الأصل مولده بنجد , كان أبوه ملك أسد وغطفان , وأمه أخت المهلهل الشاعر , قال الشعر وهو غلام وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب , فبلغ ذلك أباه فنهاه عن سيرته فلم ينته , فأبعده الى حضرموت , موطن أباه وعشيرته وهو في نحو العشرين من عمره عاش من سنة 130 قبل الهجرة الى سنة 80 قبل الهجرة وهو المقصود في بحثنا هذا حيث نسبوا إليه الأبيات المدعاة .
ب- إمرؤ القيس السكوني وهو شاعر جاهلي اسمه امرؤ القيس بن جبلة السكوني وهو ممن لم يصلنا الكثير من شعره
ج- إمرؤ القيس الكلبي هو إمرؤ القيس بن حمام بن مالك بن عبيدة بن عبد الله وهو شاعر جاهلي عاصر المهلهل بن ربيعة .
د- امرؤ القيس الزهيري وهو امرؤ القيس بن بحر الزهيري شاعر جاهلي وأيضا هو ممن وصلنا القليل من شعره
2- الإسلامي :
أ- وهو امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القيس بن السمط بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرتح بن معاوية بن الحارث بن كندة الكندي. وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وثبت وعلى إسلامه ولم يكن فيمن ارتد من كندة وكان شاعراً نزل الكوفة وهو الذي خاصم الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي: " بينتك وإلا فيمينه قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مالاً لقي الله وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس: يا رسول الله ما لمن تركها وهو يعلم أنها حق قال: " الجنة " قال: فأشهدك أني قد تركتها له " ومن شعر امرئ القيس هذا :
قف بالديار وقوف حابس********* وتأن إنك غير آيس
لعبت بهن العاصفات***********الرائحات من الروامس
ماذا عليك من الوقوف*********بهالك الطللين دارس
يا رب باكية علي*********ومنشد لي في المجالس
أو قائل: يا فارساً *********ماذا رزئت من الفوارس
لا تعجبوا أن تسمعوا *********هلك امرؤ القيس بن عابس
ونحن نظن أن هذا هو قائل تلك الأبيات المنسوبة الى إمرؤ القيس الجاهلي فلننظر إلى هذا الشعر والشعر المدعى لامرؤ القيس الجاهلي ونر مدى التشابه والتطابق بينهما وانظر الى ما سنسوقه لاحقاً من أبيات امرؤ القيس الجاهلي وما بينهما من بعد الشقة في اللفظ والنظم , وكلاهما امرؤ القيس .
النص المدعى
دنت الساعة وانشق القمر*********عن غزال صاد قلبي ونفر
أحورٌ قد حِرتُ في أوصافه*********ناعس الطرف بعينيه حوَر
مرّ يوم العيد بي في زينة*********فرماني فتعاطى فعقر
بسهامٍ من لحاظٍ فاتك*********فرَّ عنّي كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة*********كانت الساعة أدهى وأمر
كُتب الحُسن على وجنته*********بسحيق المسك سطراً مختصر
عادةُ الأقمارِ تسري في الدجى*********فرأيتُ الليل يسري بالقمر
بالضحى والليل من طرته*********فرقه ذا النور كم شيء زهر
قلت إذ شقّ العذار خده*********دنت الساعة وانشق القمر
وبكتاب إعجاز القران للإمام الباقلاني فصل كبير للمقارنة بين الشعر والقران وخصص منه الباقلاني جزءا كبيراً لشعر إمرؤ القيس وتعرض فيه بكل أمانة لمسألة الفرق بين الشعر والقرآن , فهل لم يصل هذا الشعر إلى الإمام الحافظ أبي بكر الباقلاني ليرد عليه ويشمله ببحثه .
والعجيب أنه بعد بحث طويل لم أجد أي ذكر لهذا الشعر ولا للرد عليه , فهل لم يكتشف هذا الشعر إلا هؤلاء العلوج في هذا القرن ليفاجئونا بأن القران قد اقتبس أبياتا من شعر إمرؤ القيس , فيسقط في يدنا ونسلم لهؤلاء الجهابذة بأن كتابنا قد أصابه شئ مما أصاب كتابهم ونصبح كما يقال بمصر ( بالهوا سوا)(5/21)
ومن عجب القول أن تكن تلك الأبيات لإمرؤ القيس ويظهر رسول الله في قريش التي هي أفصح العرب وأحفظهم لشعر الشعراء حتى أنهم يضعون أشهر سبع قصائد مطولات على جدران الكعبة وتسمى المعلقات , ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسفه دينهم , ويكسر أصنامهم , ويمحي باطلهم , ولا يخرج منهم رجل حافظ للشعر , واحد فقط , ويقل له أنت يا محمد نقلت تلك الأبيات من إمرؤ القيس , ثم يأت سفيه بعد ألف وخمسمائة سنة ليقل لنا خذوا تلك أبيات إمرؤ القيس التي نقلها نبيكم بقرآنكم .
وأكاد أجزم أن هؤلاء السفهاء الذين يرددون هذا الكلام , لم يقرأوا في حياتهم شيئاً من أشعار إمرؤ القيس أو غيره ولكن مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً , يلقي إليهم رهبانهم وقساوستهم الكلام فيرددونه كالببغاوات بلا فهم ولا وعلم ولا وعي .
وهل هذا الشعر السلس السهل الغير موزون في بعض أبياته شعراً جاهليا ؟ وإذا قارنا بين شعر إمرؤ القيس وتلك الأبيات هل نجد أي وجه شبه بينهما ؟ وإليك شيئا مما قاله امرؤ القيس لتر الفارق في النظم واللفظ وقوة العبارة :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*********بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها*********لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الآرام في عرصاتها*********وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا********* لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفا بها صحبي علي مطيهم*********يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وهل يقارن ذاك الشعر الركيك بقول امرؤ القيس
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى*********بنا بطن خبت ذي خفاف عقنقل
وقوله :
رفعن حوايا واقتعدن قعائدا *********وحففن من حوك العراق المنمق
ثم قوله في النص المدعى (مر يوم العيد في زينته) أليس يوم العيد إحتفالاً إسلامياً ؟ فكيف يكن هذا كلام إمرؤ القيس الجاهلي ويذكر فيه يوم العيد وهو من مات قبل مولد نبينا صلى الله عليه وسلم بثلاثين عام أو أكثر والنبي بعث وعمره أربعين سنة أي أن تلك الأبيات بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد عن سبعين عاماً .
وعلى افتراض انه شعر جاهلي فهو منحول , نسب إلى إمرؤ القيس لأن حفاظ شعر إمرؤ القيس لم يذكروه , فما هو الشعر المنحول ؟ النحل في اللغة كما ذكر في لسان العرب وانْتَحَل فلانٌ شِعْر فلانٍ أَو قالَ فلانٍ إِذا ادّعاه أَنه قائلُه. وتَنَحَّلَه: ادَّعاه وهو لغيره. وقال ابن هَرْمة:
ولم أَتَنَحَّلِ الأَشعارَ فيها*********ولم تُعْجِزْنيَ المِدَحُ الجِيادُ
ويقال: نُحِل الشاعرُ قصيدة إِذا نُسِبَت إِليه وهي من قِيلِ غيره؛ وقال الأَعشى في الانتحال:
فكيْفَ أَنا وانتِحالي القَوا*********فِيَ، بَعدَ المَشِيب، كفَى ذاك عارا !
وقَيَّدَني الشِّعْرُ في بيتِه*********كما قَيَّد الأُسُراتُ الحِمارا !
وفي مختار الصحاح و نَحَلَهُ القول من باب قطع أي أضاف إليه قولا قاله غيره وادَّعاه عليه و انْتَحَل فُلان شِعْر غيره أو قول غيره إذا ادَّعاه لنفسه و تَنَحّل مثله وفُلان يَنْتَحِلُ مذهب كذا وقبيلة كذا إذا انتسب إليه
وفي مفردات الفاظ القران للأصفهاني : والانتحال: ادعاء الشيء وتناوله، ومنه يقال: فلان ينتحل الشعر.
وقضية نحل الشعر لمشاهير الشعراء قضية مشهورة معروفة في الأدب العربي يعرفها كل باحث , فليثبت لنا هؤلاء الجهلة أن تلك الأبيات لإمرؤ القيس الجاهلي أولاً , ثم نناقشهم فيها بعد ذلك وختاماً نقل أن بحثنا هذا ليس دفاعاً عن إمرؤ القيس بل هو ذباً عن دين الله
وختاماً نقل لهؤلاء الجهلة أن إمرؤ القيس سيكن معكم حيث ستذهبون , وستلاقونه في جهنم , إن لم تسلموا لله وحده قبل موتكم , وحينما تقابلونه سيمكنكم معرفة أن تلك الأبيات ليست من شعره .
000000000000000
كلمة منحول تعني أن هناك من قاله ونسبه لغير صاحبه، وقد زعم طه حسين أن الشعر الجاهلي المنقول إلينا كله منحول، أي كتب في العصر العباسي ونسب لشعراء الجاهلية. وقد نفى في كتابه ( في الشعر الجاهلي ) كل ما ينسب الى امرء القيس من شعر الا قصيدتين هما :
الأولى : فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
والثانية : ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي
وقوله لا يخلو في بعض الصور من صحة ، إذ ثمة كثير من الأبيات المنسوبة للجاهليين منحولة ، ومنها هذا البيت بدليل عدم وجوده في ديوان امرىء القيس الذي جمعه المحققون. لأنه منحول.
00000000000
ثم نقول لهم جدلاً إذا صح استدلالكم بتماثل بعض الآيات القرآنية مع شعر امرئ القيس فإن هذا التماثل في بعض الألفاظ لا يعني النقل على كل حال ، ووقوع التماثل أمرطبيعي إذ جاء القرآن بما تعهده العرب في كلامها من أمثلة و استعارات و سوى ذلك من ضروب البلاغة. ثم أن الشعر المنسوب لامرئ القيس هو المنقول عن القرآن كما قد سبق بيانه .
0000000000000000
ويقول الدكتور عبدالله الفقية من مركز الفتوى في الشبكة الاسلامية بما معناه :(5/22)
ويكفي في الرد على مثل هذه السفسطات والتفاهات ، سقوطها وانحطاطها عند من لديه أدنى نظر :
فالآيات من سورة القمر لا تتفق أصلاً مع موازين الشعر العربي حتى يقال إنهما من الشعر مما يدلك على جهل واضعي هذه
الشبهة إن صح تسميتها شبهة.
ومنها أن السورة مكية وقد تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على مشركي قريش وهم في ذلك الوقت من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص الناس على العثور على ما يشكك في صدق ما يقوله من أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده ليس من كلام البشر. وهم نقلة الشعر ورواته ومع ذلك لم يدعوا هذا الادعاء ولا قريباً منه، بل أقروا وأقر غيرهم من فصحاء العرب وبلغائهم أن القرآن الكريم ليس من وضع البشر ولا من تأليفهم، بل أقروا بالعجز عن الإتيان بسورة من مثله مع تحدي القرآن لهم دائماً. إلى غير ذلك من الردود الواضحة.
والله ولي التوفيق.
===============
غروب الشمس في عين حمئة
يزعم أعداء الإسلام الجهلة من يهود ونصارى أن القرآن الكريم يحتوى على خطأ علمي في قول الله سبحانه وتعالى حاكياً عن ذو القرنين (( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا )) ويقولون هذا مخالف للعلم الثابت ذلك لأن الشمس لا تغرب في عين ...
الرد على
الشبهة :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
جاءت قصة ذي القرنين في سورة الكهف من القرآن الكريم ، ولم يحدثنا القرآن الكريم عن ذي القرنين من هو ؟ ولا عن تفاصيل قصته ، ذلك لأن القصد من القصص القرآني، سواء في سورة الكهف أم في غيرها، ليس إعطاء تاريخ وحوادث تاريخية، وإنما القصد هو العبرة، كما قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ).
هنا ذو القرنين، قصته فيها عبرة : ملك صالح، مكَّنه الله في الأرض، وآتاه من كل شيء سببًا، ومع هذا لم يطغه الملك. بلغ المغرب، وبلغ المشرق، فتح الفتوح، ودان له الناس، ودانت له البلاد والعباد، ومع هذا لم ينحرف عن العدل، بل ظل مقيمًا لحدود الله، كما قال لهؤلاء القوم: ( أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابًا نكرًا . وأما من آمن وعمل صالحًا فله جزاء الحسنى ). (الكهف: 87).
مع التنبيه على أن ذي القرنين المذكور في القرآن ليس هو الاسكندر المقدوني اليوناني الذي بنى الإسكندرية ، لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول كان عبداً مؤمناً صالحا وملكاً عادلاً ... ، وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور .
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1/493) :
(عن قتادة قال : اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام .فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس ... بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل ، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
أما من هم هؤلاء القوم الذي وصل لهم ذو القرنين ، فالقرآن لم يعرفنا عنهم شيئًا، ولو كان في معرفتهم فائدة دينية أو دنيوية، لعرفنا ولهدانا إلى ذلك .
كذلك، أين غربت الشمس ؟ لم يعرفنا القرآن، وكل ما نعلمه أن ذا القرنين اتجه إلى جهة الغرب، حتى وصل إلى أقصى مكان في الغرب، وهناك وجد الشمس في رأي العين كأنما تغرب في عين حَمِئة . والحمأ هو الطين المتغير . فكأنما وجد الشمس تسقط في تلك العين الحمئة .. ولو وقف أحدنا عند الغروب على شاطئ البحر، لوجد الشمس كأنما تسقط في البحر أو تغرب فيه، مع أن الحقيقة غير ذلك . فهي تغرب عن قوم لتشرق عند آخرين.
فالمقصود إذن في الآية ( وجدها تغرب في عين حمئة ) أي فيما يرى الرائي، وينظر الناظر.(5/23)
ولعل ذا القرنين وصل إلى مكان يتصل فيه النهر بالبحر عند الفيضان كالنيل مثلاً حيث يكون ماؤه معكرًا يحمل الطين، فإذا غربت الشمس تبدو للناظر كأنها تغرب في عين حمئة .. أو لعلها بركة فيها طين .. لم يحددها القرآن بالضبط، وإنما المقصود أنه ذهب إلى أقصى المغرب . كما ذهب إلى أقصى المشرق . وذهب إلى قوم يأجوج ومأجوج، ومع كل هذا ظل على عدله، وعلى إيمانه بربه، واعترافه بفضل الله عليه، في كل ما يفعله، أقام السد العظيم من زبر الحديد، وغيره، ثم قال: (هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا ..). (الكهف: 98).
هذا هو المقصود، وتلك هي العبرة ... ملك صالح، مكن له في الأرض ومع هذا لم يطغ ولم يتجبر ولم ينحرف.
أما التفصيلات، فلم يعن القرآن بها، كما أن السنة لم تبين لنا شيئًا من تلك التفصيلات كالزمان، والمكان، والأقوام .. وليس في ذلك فائدة مطلوبة، ولو كان فيها الفائدة لذكرها القرآن الكريم.
وإنه لجدير بنا أن نقف عند الذي جاء به القرآن، والذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ الدكتور : يوسف القرضاوي بتصرف ]
وهذا رد آخر من الأزهر :
فى حكاية القرآن الكريم لنبأ " ذو القرنين " حديث عن أنه إبان رحلته: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة ووجد عندها قومًا.. ) (1).
والعين الحمئة ، هى عين الماء ذات الحمأ ، أى ذات الطين الأسود المنتن.
ولما كان العلم الثابت قد قطعت حقائقه بأن الأرض كروية ، وأنها تدور حول نفسها وحول الشمس ، فإن غروب الشمس ليس اختفاء فى عين أو غير عين ، حمئة أو غير حمئة.. والسؤال: هل هناك تعارض بين حقائق هذا العلم الثابت وبين النص القرآنى ؟.
ليس هناك أدنى تعارض ـ ولا حتى شبهة تعارض ـ بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين ، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس ـ غروبها ـ فى هذه البحيرة ـ العين الحمئة ـ.. وذلك مثل من يجلس منا على شاطئ البحر عند غروب الشمس ، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص ـ رويدًا رويدًا ـ فى قلب ماء البحر.
فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة ، أو فى البحر المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس ، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.
وقد نقل القفال ، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [429ـ507هـ /1037ـ1114م] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية ، متسقًا مع الحقيقة العلمية ، فقال: " ليس المراد أنه [ أى ذو القرنين ] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض ، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة. وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [ أى البقاع المعمورة والمأهولة ] من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها فى رأى العين تغرب فى عين حمئة ، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض ، ولهذا قال: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سِترا ) (2). ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم.. " (3).
فالوصف هو لرؤية العين ، وثقافة الرائى.. وليس للحقيقة العلمية الخاصة بالشمس فى علاقتها بالأرض ودورانها ، وحقيقة المعنى العلمى للشروق والغروب.
فلا تناقض بين النص القرآنى وبين الثابت من حقائق العلوم..
والآن لنرى ماذا يقول إنجيل النصارى :
جاء في سفر رؤيا يوحنا [ 12 : 1 ] ما يلي :
(( وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى راسها اكليل من اثني عشر كوكبا !!!!
ونحن نسأل النصارى كيف تكون المرأة متسربله بالشمس , والشمس أكبر من الأرض مليوناً وثلاثين ألف مرة ؟؟؟
وإليك عزيزي المتصفح رداً آخر :
1- إذا كنت متجهاً غرباً وأمامك جبل فإنك سوف تجد الشمس تغرب خلف الجبل .. .. طبعا لا يفهم أحد من ذلك أن الشمس تختبئ حقيقة خلف الجبل .......وإن كان الذي أمامك بحيرة فستجد الشمس تغرب في البحيرة ..وذو القرنين وصل الى العين الحمئة وقت غروب الشمس فوجدها تغرب في تلك العين ...... وعندما نقول وجدها تغرب خلف الجبل أو وجدها تغرب في العين فذلك الأمر بنسبة له ...والأية ليست مطلقة المعنى بل مقيدة بشخص ذو القرنين ....
ومع أن هذا الجواب كافى لكل عاقل ولكن دعونا ننظر إلى سياق القصة
2- سياق قصة ذو القرنين ....
.....حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(5/24)
وجدها تطلع على قوم!! فهل يفهم أحد من ذلك أنها تطلع على ظهورهم أو أنها ملامسة للقوم لأنه الله يقول .. وجدها تطلع على القوم ... الواضح أنها بنسبة للذو القرنين كانت تطلع على أولئك القوم ... مرة أخرى الآية مقيدة بذو القرنين وما ينطبق على هذه الآية ينطبق على التى قبلها ....
3- ما هو المقصود بمغرب الشمس ؟ هل هو مكان أم زمان ؟
من الواضح أن مغرب الشمس هنا يقصد بها الوقت واللحظة التى تغرب فيها الشمس وليس من الضروري أن يكون المقصود هو أقصى ما وصل إليه ذو القرنين جهة الغرب ..... والدليل على ذلك يقول النبي في حديث صحيح بما معناه ( ما بقي من هذه الدنيا كما بين العصر إلى مغربان الشمس ) فمغرب الشمس و جمعها مغربان الشمس ليست المكان بل هو الوقت الذي تغرب فيه الشمس (ويأكد ذلك معجم لسان العرب) ... ... فذو القرنين وصل الى العين وقت الغروب .فوجد الشمس تغرب في تلك العين .. ثم و صل في ما بعد إلى قوم آخرين وقت الشروق ...
4- غروب الشمس هل هو دخولها في الأرض أم إتجهها غرباً ؟
في لغة العرب غربت الشمس وغربت القافلة وغرب السفينة تأتى بمعنى واحد وهو إتجهة غربا ً فعندما نقول غرب طير في البحيرة وغربت الطائرة في المحيط وغربت السفينة في البحر وغربت الشمس في البحيرة يعنى إتجهت غربا ( بالنسبة للشخص الذي ينظر إليها ) .ولا يعنى أنها دخلت في البحيرة .... .. فعندما نقول غربت السفينة في المحيط لا يعنى ذلك أنها غرقت في داخل المحيط ... وعندما نقول غربت الطائرة في المحيط لا يعنى ذلك أنها سقطت في المحيط وعندما نقول غربت الشمس في البحيرة لا يعنى ذلك أنها دخلت داخل البحيرة فكلمة الغروب لا تدل على ذلك ... بعكس كلمة sunset الإنجليزية والتى تعنى حرفياً الشمس جلست ... ربما ظن قدماء الإنجليز أن الشمس تجلس في بحر الظلمات ...
5- بالعقل !! ( إن كان للنصارى عقل )
ذو القرنين يتحدث مع سكان تلك البحيرة فلو كان القرآن يقصد أن الشمس تدخل في العين حقيقة فهل سيذكر قوم حول الشمس الساخنة ويعشون حياة طبيعية ...
6- أليس عندما وصل ذو القرنين إلى مشرق الشمس يفترض به (على سياق فهمكم السقيم) أن يجد الشمس تشرق في حفرة أو بحيرة ساخة بدلا من أن يجدها تشرق على قوم . فلماذا قال أنها شرقت على قوم ولم يقل شرقت من عين حمئة ..
7- القرآن يذكر أن كل شيء في فلك يسبح
الشمس والقمر واليل والنهار (وكل في فلك يسبحون ) وهذا يدل على أن كل شيء بما في ذلك النجوم والشمس والقمر والليل والنهار في فلك يسبحون وإذا كانت الشمس تدور في فلك خاص بها فهذا يعنى أنها لا تدخل في الأرض .... بل هي تدور في فلكها الخاص بها . كما تدور بقية الأشياء ....
8- رب المشارق والمغارب
القرآن يذكر في عدة آيات كريمة (مغارب الشمس ومشارقها ) ( ورب المشرقين ورب المغربين (ورب المشارق والمغارب) وهذا هو الإعجاز فقد ألغى فكرة الغروب والشروق الموحد لجميع سكان المعمورة فقد تشرق في بلد ولا كن لا يعنى أنها شرقت في جميع البلدان ... ففي الماضي كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وأن الشروق هو شروق واحد لجميع البشر والغروب هو غروب واحد لجميع البشر بينما يثبت القرآن ان هناك مشارق كثيرة ومغارب كثيرة ......
والحمد لله .....
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم
صلاح الدين
-----------------------------------
( 1 ) سروة الكهف 86
( 2 ) الكهف 90
( 3 ) القرطبي [ الجامع لأحكام القرآن ]
_______________________
يقول الأستاذ أحمد الشايب وكيل كلية دار العلوم في موضوع له حول القصص في القرآن :
رأيت من الخير أن أشير في إيجاز شديد إلى بعض الأنواع الأدبية التي اشتمل عليها القرآن، ومكان القصص منها حتى لا يختلط الأمر فيها عند القراءة أو الدرس.
من هذه الأنواع الأدبية ـ أو الفنون الأدبية كما قد تسمى ـ التقرير، والتصوير، والأمثال ـ أو التمثيل ـ والجدل، ومنها القصص، وهي وإن كانت مختلفة الأساليب بحكم طبيعتها وأهدافها، فإنها تنتهي جميعاً إلى غاية واحدة هي تحقيق رسالة الإسلام التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام مؤيدة بهذا البيان المعجز في هذا الكتاب المبين.
فالتقرير هو أسلوب التشريع الذي يورد الأحكام المتصلة بالعبادات، ونظم المعاملات، والأحوال المدنية والاجتماعية مما تعبدنا به الله سبحانه وتعالى، وحفلت به كتب الفقه الإسلامي (( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين )) وقوله : (( يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه )) ، وهذا الباب أشبعه الباحثون تأصيلا وتشقيقا مما لا مجال له هنا.(5/25)
وأما القصص فهو هذا النوع أو الفن الأدبي الذي يسوق حياة الأنبياء والأمم السابقة وما يتصل بها للعظة وتثبيت فؤاد الرسول، والقرآن الكريم ـ كما يلي ـ يسوق أنباءه صادقة كما هي في الواقع التاريخي، وإن لم يلتزم هذه المعالم الشكلية لعلم التاريخ والقصة الحديثة، وسنرى أن طبيعة القصص هنا ومراميه تنفي عنه ما يرميه به المبشرون وأضرابهم من أنه يخرج على التاريخ، ويزيد ويبتكر ويخترع في الأخبار، أو يدلس ويفتري الكذب ويسوقه على أنه التاريخ... وكل هذا سترد عليك هنا شواهده ومناقشته.
2 ـ وأما التصوير فهو الأسلوب البياني أو البلاغي القائم على التشبيه والمجاز والاستعارة والمبالغة ونحوها، وهذا النوع لا يشترط فيه أن تكون دلالته حرفية أو يكون له مرجع واقعي حسي في جميع عناصره، لأن الغرض منه المبالغة، وقوة التأثير، والاعتماد على ما ألف العرب مما يبعث فيهم الانفعال، وإدراك المراد في قوة وجمال كقوله تعالى في شأن المرابين: (( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس )) ، فإذا كان المخاطبون لم يروا الشيطان فإن صورته الخيالية في أذهانهم هي أنه يصيب الناس بالخبل وفساد النفس والجسم، فقام التشبيه في الآية الكريمة على هذا الأصل التصوري كما يتوهمه العرب، وهذا التصوير يفيد في تقوية الفكرة وإيضاحها من وجه، ولكنه من وجه آخر لا يعد كذبا، ولا يتخذ مقياسا يقاس به وجوب توافر عناصر التشبيه كلها بشكل حسي بحيث تراه العين، ويتعامل معه الناس، ذلك الوجود المادي الذي تلتمسه في التقرير.
ومن ذلك قوله تعالى في شجرة الزقوم:(( طلعها كأنه رؤوس الشياطين )) ، حيث صور ثمر هذه الشجرة برؤوس الشياطين تقبيحا لها، اعتماداً على تخيل المخاطبين.
ومن قريب ذلك قوله تعالى في قصة ذي القرنين : ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة )) ، إذ صور مغيب الشمس بالعين الحمئة نزولاً على ما يتراءى لعين الناظر عند غروب الشمس، وبذلك يندفع ما يتشدق به تلاميذ الجغرافيا حين ينكرون هذه الصورة، ويقيسونها بمقياس الفكرة أو الحقيقة العلمية، ونحو ذلك مما لا يتصل بأصل الخبر وجوهر معناه، فلا يصح أن يقال فيه إنه يخالف الواقع، لا يقال، ذلك، لأن الأسلوب يجاوز منطقة الفكرة إلى مجال الخيال، وجمال التصوير، وحسن التعبير، ومن هنا نفرق بين أسلوبي التقرير والتصوير.
وقريب من ذلك أيضا ما يرد في العبارات الأدبية من ذكر آلهة الخير والشر عند قدماء اليونان، أو أصنام العرب، أو الأطلال والدمن عند الأدباء المحدثين، فليس شئ من ذلك داخلا في عقائد الكتاب والشعراء المتأخرين أو المعاصرين، وإنما هي صور ـ أكلشيهات ـ ترمز إلى معان باقية، أو هي تعبير عن معان جديدة بصور قديمة.
ولعلك لاحظت أننا نذكر شيئاً عن هذه الأنواع الأدبية الأخرى غير القصص، لأنها تتصل بنفس ما اتهم به القصص من كذب وتبديل عند الذين لم يتبينوا الفرق بين الأساليب القرآنية.
===============
كيف يمكن القول بأن عيسى لم يمت في الوقت الذي يؤكد فيه القرآن وفاته في سورة آل عمران ؟
كيف يمكن القول بأن عيسى لم يمت في الوقت الذي يؤكد فيه القرآن وفاته في سورة آل عمران ؟
الجواب :
لم يرد في القرآن الكريم نص يدل على موت عيسى عليه السلام الموتة النهائية ، وإنَّما الذي ورد لفظ الوفاة والتوفي ، وهذه ألفاظ لا ينحصر معناها في الموت ، بل تحتمل معاني أخرى منها : استيفاء المدة ، وعيسى عليه السلام قد استوفى مدة مكثه الأول في الأرض ، ومنه قوله تعالى: (( إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِليَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِّينَ كَفَرُوا )) أي : آخذك وافيًا بروحك وبدنك وقد نقل هذا المعنى ابن جرير في تفسيره عن جماعة السلف ، واختاره ورجحه على ما سواه ، وعليه يكون معنى الآية : إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حي ورافعك إلي ، ومن هذا المعنى قول العرب : توفيت مالي من فلان أي قبضته كله وافياً . وجاء في محاسن التأويل : 4 / 851 : ( إني متوفيك ) ، أي مستوف مدة إقامتك بين قومك ، والتوفي كما يطلق على الاماتة كذلك يطلق على استيفاء الشىء - كما في كتب اللغة - ولو ادعى أن التوفي حقيقة في الأول ، والاصل في الاطلاق الحقيقة ، فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة ، وهذا الوجه ظاهر جداً وقد دلت القرآئن من الاحاديث الصحيحة على ذلك .
وقد جزم القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام لم يقتل كما زعم النصارى ، بل رفعه الله تعالى إليه ، قال تعالى : ((... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيهِ ...)).(5/26)
وأمَّا الآية التي في سورة مريم فهي قوله تعالى : (( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا )) لا تدل على وفاته، بل الآية ذكرت ثلاثة أيام يوم ولادته ويوم وفاته ، ويوم يبعث يوم القيامة. فمر منها يوم وبقي يومان ، هما يوم وفاته بعد نزوله إلى الأرض ، ويوم يبعث بعد الوفاة، والقول الصحيح أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء حيّاً وسينزل حياً إلى الأرض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
==============
هل القرآن مدح المسيح والنصارى والانجيل وأثنى عليهم ؟
سؤال : هل القرآن مدح المسيح والنصارى والإنجيل وأثنى عليهم ؟
جواب : إن مدح سيدنا عيسى _ عليه السلام _ واجب معلوم من الدين بالضرورة . وأما مدح النصارى والإنجيل ، فإنه بلا شك منصرف إلى الإنجيل الخالي من التناقضات والاختلافات . والنصارى الذين انعقدت آراؤهم على ذلك الإنجيل الصحيح . بخلاف من انحرف من النصارى ، وساروا خلف المجامع والمثلثين . ففرق كبير بين نصرانية المسيح والتوحيد وبين نصرانية المجامع وبولس والتثليث.
=============
ما معنى قول الله سبحانه وتعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) مع ان النبي لم يكن رحمة للكافرين ؟
سؤال : ما معنى قول الله سبحانه وتعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) مع ان النبي لم يكن رحمة للكافرين ؟
الجواب :
أولاً : لقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم. لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى. وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلاً قال : لو فجر الله عيناً للخلق غزيرة الماء، سهلة التناول. فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها. فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل. فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين. ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها. ويوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان رحمةً عامةً من حيث إنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ، ومن لم يتبعه فهو الذي قصر في حق نفسه وضيع نفسه من الرحمة .
قال العلامة ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية :
وَقَوْله " وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ " يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ اللَّه جَعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ أَيْ أَرْسَلَهُ رَحْمَة لَهُمْ كُلّهمْ فَمَنْ قَبِلَ الرَّحْمَة وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَة سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَنْ رَدَّهَا وَجَحَدَهَا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار .
ثانياً : ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان رحمةً للكافرين أيضاً من حيث إن عذاب الاستئصال أخر عنهم بسببه . وقد روي عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ } قَالَ : مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر كَتَبَ لَهُ الرَّحْمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة , وَمَنْ لَمْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَرَسُوله عُوفِيَ مِمَّا أَصَابَ الْأُمَم مِنْ الْخَسْف وَالْقَذْف .
=================
ما صحة حديث عائشة رضي الله عنها التي روت فيه أن الداجن قد أكلت من نسخة القرآن التي كانت معها ؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد ،،،
كثيراً ما يستشهد أعداء الإسلام للتشكيك في نقل القرآن بحديث عائشة والذي جاء فيه : (( لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها ))
والحق أن هذا الحديث لا يصح فإما ذكر الرضاع فيه غلط ، وقد أخرجه ابن ماجه ( رقم : 1944 ) وأبو يعلى ( رقم 4587 ، 4588 ) من طريق محمد بن اسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة .
وعن عبدالرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة ، به .
قلت : ابن اسحاق صدوق ، ومن كانت هذه صفته فإن حديثه يكون في درجة الحسن بعد النظر الذي يخلص منه إلى نقائه من الخلل ، كذلك هو رجل مشهور بالتدليس مكثر منه ، يدلس عن المجروحين ، وشرط قبول رواية من هذا حاله أن يذكر سماعه ممن فوقه فإذا قال ( عن ) لم يقبل منه .(5/27)
وابن اسحاق له في هذا الخبر إسنادان كما ترى ، وجمعه الأسانيد بعضها إلى بعض وحمل المتن على جميعها مما عيب عليه ، فربما كان اللفظ عنده بأحد الإسنادين فحمل الآخر عليه ، لأنه حسبه بمعناه ، وقد لا يكون كذلك .
قيل لأحمد بن حنبل : ابن اسحاق إذا تفرد بحديث تقبله ؟ قال : (( لا ، والله إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ، ولا يفصل كلام ذا من ذا )) ( تهذيب الكمال ( 24 : 422 ) .
نعم ربما كان يرويه تارةً فيذكر أحد إسناديه ، كذلك أخرجه أحمد ( 6 : 269 ) وابن الجوزي في نواسخ القرآن ( ص : 118 _ 119 ) من طريق إبراهيم بن سعيد ، عنه قال : حدثني عبدالله بن ابي بكر ، فذكره بإسناده دون إسناد ابن القاسم .
وحين رأى بعض الناس تصريح ابن اسحاق بالتحديث في هذه الرواية صححوها ، قالوا اندفعت شبهة تدليسه ، ونقول : فماذا عن شبهة تخليطه ؟
ولنجر الكلام في ظاهر الإسناد الآن في روايته عن ابن قاسم ، هذا على جواز أن يكون ابن اسحاق حفظه بإسناد ابن أبي بكر .
والتحقيق أنه لم يحفظه . . . .
وببعض ما ذكرت تبطل رواية ابن اسحاق ، وإذا كان جماعة من العلماء الكبار كأحمد بن حنبل والنسائي نصوا على أن ابن إسحاق ليس بحجة في الأحكام ، فهو أحرى أن لا يكون حجة تستعمل للتشكيك في نقل القرآن .
قال السرخسي: "حديث عائشة لا يكاد يصحّ ؛ لاَنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث .
على ان هناك بعض العلماء الأفاضل قد بينوا معنى الحديث والمراد منه فقالوا :
إن التشريع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مر بمراحل عدة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن ذلك وقوع النسخ لبعض الأحكام والآيات، والنسخ عرفه العلماء بأنه: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر.
ولم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ، ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود فأنكروا جواز النسخ عقلاً، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى عليه السلام، وأثاروا
الشبهة، فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى لأنه يدل على ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم، وهذا محال في حق الله تعالى.
والقرآن الكريم رد على هؤلاء وأمثالهم في شأن النسخ رداً صريحاً، لا يقبل نوعاً من أنواع التأويل السائغ لغة وعقلاً، وذلك في قوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)[البقرة:106] فبين سبحانه أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) ثم عقب فقال: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير*ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) والنسخ ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ومثاله آية الرجم وهي(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..) فهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
الثاني: نسخ الحكم والتلاوة معاً: ومثاله قول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات يحرمن) فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، وحكمها باق عند الشافعية.
وقولها رضي الله عنها: (ولقد كان………..) أي ذلك القرآن بعد أن نسخ تلاوة (في صحيفة تحت سريري) والداجن: الشاة يعلفها الناس من منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: (فصح نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة رضي الله عنها فأكلها الداجن، ولا حاجة إليها.. إلى أن قال: وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم وبالله التوفيق.)
وقال ابن قتيبة:
(فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى ما كتب به القرآن، لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه هذا.
وإن كان العجب من وضعه تحت السرير فإن القوم لم يكونوا ملوكاً فتكون لهم الخزائن والأقفال والصناديق، وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة، وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة، إلا بما يمكنه ويبلغه وجده، ومع النبوة التقلل والبذاذة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح خفه، ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"
وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الأنعام، فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة، وهذا الفأر شر حشرات الأرض، يقرض المصاحف ويبول عليها، ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل.(5/28)
وقد أجاب أهل العلم عن هذا الحديث بأجوبة أبسط من هذا يرجع فيها إلى أقوالهم لمن أراد المزيد، وصدق الله تعالى إذ يقول: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذي يستنبطونه منهم)[النساء:83] فلله الحمد والمنة، فنحن على يقين أنه لا يختلف مسلمان في أن الله تعالى افترض التبليغ على رسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ كما أمر، قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)[المائدة:67]
وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[الحجر:9] فصح أن الآيات التي ذهبت لو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغها لبلغها، ولو بلغها لحفظت، ولو حفظت ما ضرها موته، كما لم يضر موته عليه السلام كل ما بلغ من القرآن، وإن كان عليه السلام لم يبلغ أو بلغه ولكن لم يأمر أن يكتب في القرآن فهو منسوخ بتبيين من الله تعالى، لا يحل أن يضاف إلى القرآن. ( كتبه الدكتور. عبد الله الفقيه )
==============
الرد على شبهة سورتى الولاية والنورين المكذوبتين
بسم الله والصلاة السلام على رسول الله . . .
أما بعد ،،،
يدعي أعداء الإسلام من النصارى وغيرهم بوجود نقص في سور القرآن الكريم ويستدلون على ذلك بسورتين مكذوبتين أسموها سورتا الولاية والنورين ليس لهما وجود في القرآن الكريم وإليك نصهما :
يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم . نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم . إن الذي يوفون ورسوله في آيات لهم جنات نعيم . والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم و ما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم . ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه. يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عادا وثمودا بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين . ليكون لكم آيته وإن أكثركم فاسقون . إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم . يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون . قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون . مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم . إن الله لذو مغفرة وأجرعظيم وإن عليا من المتقين . وإنا لنوفيه حقه يوم الدين . وما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين . فإنه وذريته لصابرون وإن عدوهم إمام المجرمين . قل للذين كفروا بعدما آمنوا أطلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله رسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون . يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفاه مؤمنا ومن يتولاه من بعدك يظهرون . فأعرض عنهم إنهم معرضون . إنا لهم محضرون . في يوم لا يغني عنهم شيئا ولا هم يرحمون . إن لهم في جهنم مقاما عنه لا يعدلون . فسبح باسم ربك وكن من الساجدين . ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل . فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون . فاصبر فسوف يبصرون .ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين . وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون . ومن يتولى عن أمري فإني مرجعة فليتمتعوا بكفرهم قليلا فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لكم في أعناق الذين آمنوا عهدا فخذ وكن من الشاكرين . إن عليا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه . قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون . سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون . إنا بشرناك بذريته الصالحين . وإنهم لأمرنا لا يخلفون فعليهم مني صلوات ورحمة أحياء وأمواتا ويوم يبعثون . وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين . وعلي الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الفرقان آمنون والحمد لله رب العالمين.
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذيّن بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم. نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير. إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم. والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبون. إن لهم في جهنم مقاماً عظيماً إذا نودي لهم يوم القيامة: أين الظالمون المكذبون للمرسلين. ما خلفتهم المرسلين إلا عني وما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك، وعليّ من الشاهدين". تعالى الله عما يقولون ويفترون.
الجواب :(5/29)
اعلموا رحمكم الله ان هذه النصوص هي من النصوص التي لا يملك صاحبها غير مجرد الدعوى أنها من القرآن الكريم ، ولايقدر أن يذكر ذلك بإسناد واحد ولو كان ضعيفاً ، نكرر : لا يقدر أن يذكر ذلك باسناد واحد ولو كان ضعيفاً ، وإنما افتراها مفتر ٍفنسبها إلى أنها مما أسقطه الصحابة من القرآن ، فتبعه أصحاب الضلالة من بعده من أشياعه على كذبه وإفكه لأنهم حسبوا فيه نصر ما ينتمون إليه . وإلا فهل يستطيعوا أن يأتوا باسناد واحد لهذه النصوص المسماه بسورة الولاية ؟؟ كلا ثم كلا . . . ومعلوم أن السند هو سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث واحداً عن الآخر حتى يبلغوا به إلى قائله. قال ابن المبارك : الإسناد عندي من الدين،. لولا الإسناد لذهب الدين ولقال من شاء ما شاء.
وصدق الله العظيم إذ يقول : (( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) النحل : 105 ]
ونرجو ملاحظة التخبط الحاصل في هذه النصوص المكذوبة وركاكتها وسخافة ما خلقوه وحبكوه أعداء الأسلام وقد قال أحد المحققين تعليقاً على هذه النصوص المكذوبة : " أنها ليست تضاهي شيئاً من القرآن الحكيم المنزل إعجازاً على قلب سيد المرسلين ، إذ من المقطوع به أن كل أحد يمكنه تلفيق هكذا ألفاظ و كلمات لا رابط بينها و لا انسجام فضلاً عن المعنى الصحيح ، و قد قال تعالى بشأن القرآن العزيز : (( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ))
(( وانه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) [فصلت:41-42].
هذا ومما يثبت أيضاً كذب هذه النصوص وتلفيقها وانها ليست من القرآن الكريم في شىء هو وجود النص التالي فيها :
إن الله لذو مغفرة وأجرعظيم وإن عليا من المتقين . وإنا لنوفيه حقه يوم الدين . وما نحن عن ظلمه بغافلين.
فمن الواضح ان النص يتحدث عن الظلم المزعوم اللي حدث لسيدنا علي بن أبي طالب.. –رضي الله عنه - أي بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي . وبما أن القرآن نزل واُتِم إنزاله على سيدنا محمد قبل وقوع هذا الظلم المزعوم فهذا يعني بطلان كونها من القرآن الذي اكتمل نزوله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
=================
الرد على شبهة سورة الولاية أو النورين الكاذبة
السلام عليكم و رحمة الله و بركاتهبسم الله والصلاة السلام على نور عيني رسول الله و على آله و صحبه و من والاه
أما بعد:
يدعي أعداء الاسلام من النصارى وغيرهم بوجود نقص في سور القرآن الكريم ويستدلون على ذلك بسورتين مكذوبتين اسموها سورتا الولاية والنورين ليس لهما وجود في القرآن الكريم وإليك نصهما :(5/30)
يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم . نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم . إن الذي يوفون ورسوله في آيات لهم جنات نعيم . والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم و ما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم . ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه. يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عادا وثمودا بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين . ليكون لكم آيته وإن أكثركم فاسقون . إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم . يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون . قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون . مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم . إن الله لذو مغفرة وأجرعظيم وإن عليا من المتقين . وإنا لنوفيه حقه يوم الدين . وما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين . فإنه وذريته لصابرون وإن عدوهم إمام المجرمين . قل للذين كفروا بعدما آمنوا أطلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله رسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون . يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفاه مؤمنا ومن يتولاه من بعدك يظهرون . فأعرض عنهم إنهم معرضون . إنا لهم محضرون . في يوم لا يغني عنهم شيئا ولا هم يرحمون . إن لهم في جهنم مقاما عنه لا يعدلون . فسبح باسم ربك وكن من الساجدين . ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل . فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون . فاصبر فسوف يبصرون .ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين . وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون . ومن يتولى عن أمري فإني مرجعة فليتمتعوا بكفرهم قليلا فلا تسأل عن الناكثين. يا أيها الرسول قد جعلنا لكم في أعناق الذين آمنوا عهدا فخذ وكن من الشاكرين . إن عليا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه . قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون . سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون . إنا بشرناك بذريته الصالحين . وإنهم لأمرنا لا يخلفون فعليهم مني صلوات ورحمة أحياء وأمواتا ويوم يبعثون . وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين . وعلي الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الفرقان آمنون والحمد لله رب العالمين.
">يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذيّن بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم. نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير. إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم. والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبون. إن لهم في جهنم مقاماً عظيماً إذا نودي لهم يوم القيامة: أين الظالمون المكذبون للمرسلين. ما خلفتهم المرسلين إلا عني وما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك، وعليّ من الشاهدين". تعالى الله عما يقولون ويفترون.
================
هل كان الإنجيل موجودا على زمن موسى
سؤال : جاء في سورة الأعراف 155 _ 159 خطاب الله لموسى ومن معه بأن محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوراة والانجيل مع ان الانجيل نزل بعد موسى بألفي سنة ، فلماذا ذكر الله الإنجيل في هذا الموقف مع انه لم ينزل بعد ؟!
الجواب :
دعونا نستعرض آيات سورة الأعراف 155-159 لكي يتضح المعنى :
(( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ . 155 وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ .156(5/31)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ .فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . 157
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . 158وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ .159 . ))
فالمعنى واضح :
ان خطابه تبارك وتعالى لموسى عليه السلام وذكره للأنجيل قبل نزوله انما هو من باب الإخبار بما سيكون وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا واضح لقوله تعالى : فسأكتبها للذين لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ . . إلى آخر الآيات . ( انظر تفسير العلامة الشوكاني المسمى فتح القدير . )
لقد لفت الله سبحانه وتعالى بني اسرائيل الي الذين سيؤمنون برسوله الأمي وأنه سيشمل برحمته العريضة أناساً بعدهم ، وأشاد بصفاتهم استنهاضاً لهمم بني اسرائيل إلى التحلي بها . وبشرهم ببعثة هذا الرسول الأمي صلوات ربي وسلامه عليه .
هذا ويجوز ان يكون قوله تبارك وتعالى : (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ )) هو كلام مستأنف جديد بعد أن انهى الكلام عن سيدنا موسى عليه السلام . وقوله : (( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ )) خبراً له فيزول الاشكال من أصله . ( إعراب القرآن للباقولي الجزء الاول ص 481)
ويقول الدكتور محمد عزه دروزه حول هذه الآيات :
ان في القرآن الكريم استطرادات كثيرة مثل الاستطراد الذي تضمنته الآيتان ، وهو متناسب جداً مع السياق وفي مثابة بدل بياني آخر للذين سيكتب الله لهم رحمته مما جاء في الآية التي قبله : (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ )) حيث جاء بعدها (( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . . الخ ))
وجاء في قصص الانبياء حول هذه الآيات الكريمات من موقع عالم النور ما يلي :
قال الله تعالى : وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ . 155 وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ .
هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه. ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم بعد موتهم، واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:
قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ .156الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ .فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .(5/32)
سنلاحظ طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الآية، إن الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة الرسول في الآيات إلى زمنين سابقين، هما نزول التوراة ونزول الإنجيل، ليقرر أنه (تعالى) بشّر بمحمد في هذين الكتابين الكريمين. نعتقد أن إيراد هذه البشرى جاء يوم صحب موسى من قومه سبعين رجلا هم شيوخ بني إسرائيل وأفضل من فيهم، لميقات ربه. في هذا اليوم الخطير بمعجزاته الكبرى، تم إيراد البشرى بآخر أنبياء الله عز وجل.
===============
فتبارك الله أحسن الخالقين
سؤال : يقول عز وجل في سورة المؤمنون (فتبارك الله أحسن الخالقين) فهل يعني هذا أن هناك إلهاً آخر؟
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذكر المفسرون أوجهاً في قوله تعالى ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14] أهمها :
الأول : أن الخلق هنا بمعنى الصنع ، فالمعنى: تبارك الله أتقن الصانعين.
وهذا جار على لغة العرب، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري .
الثاني : أن الخلق بمعنى التقدير ، فإنه سبحانه هو أحسن المقدرين جل وعلا .
الثالث : أن المعنى : أن الله تعالى هو أحسن الخالقين في اعتقادكم وظنكم .
الرابع : وهو أحسنها : أننا نثبت للمخلوق خلقاً، لكنه ليس كخلق الله تعالى. فخلق الله جل وعلا إيجاد من العدم.
وخلق المخلوق لا يكون إلا بالتغيير والتحويل والتصرف في شيء خلقه الله تعالى .
ومن ذلك ما جاء في الصحيحين أنه يقال للمصورين يوم القيامة: "أحيوا ما خلقتم". ومعلوم أن المصور لم يوجد شيئاً من العدم إنما حول الطين، أو الحجر إلى صورة إنسان أو طير ، وحول بالتلوين الرقعة البيضاء إلى ملونة، والطين والحجر والمواد والورق كلهم من خلق الله تعالى .
وأيضا : فالعبد لا يمكنه فعل شيء إلا عند وجود الإرادة الجازمة والقدرة التامة، والإرادة والقدرة كلتاهما مخلوقتان لله عز وجل، وخالق السبب التام خالق للمسبَّب. ولهذا كان من اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله تعالى خالق للعباد وأفعالهم، كما قال ربنا ( والله خلقكم وما تعملون ) [الصافات: 96] .
والحاصل أن الخلق الذي هو الإيجاد من العدم صفة يختص بها الله تعالى، كما قال ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون )[ النحل: 17] وقال تعالى ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو ) [فاطر: 3 ] .
===============
... من هو الإسكندر ذى القرنين ...
سؤال : من هو الإسكندر ذى القرنين.. هل هو الاسكندر المقدوني ؟ وهل كان عبدًا صالحًا ؟ أم من عبدة الأوثان ؟
الجواب من عدة وجوه :
الأول :
أنه ليس في القرآن الكريم ذكر لعمر ذي القرنين ( الإسكندر ) ولا للعصر الذي عاش فيه .
الثاني :
أن ذي القرنين المذكور في القرآن ليس هو الاسكندر المقدوني اليوناني الذي بنى الإسكندرية ، فهذا هو المتوفى عن 33 سنة ، كما في كتب النصارى ، وقد عاش قبل مولد المسيح عليه السلام ب 323 سنة.
أما ذو القرنين المذكور في القرآن فكان في زمن إبراهيم عليه السلام ، ويقال إنه أسلم على يدي إبراهيم عليه السلام ، وحج البيت ماشيا. وقد اختلف الناس فيه هل كان نبيا أم كان عبدا صالحا وملكاً عادلاً ، مع اتفاقهم على أنه مسلم موحد طائع لله تعالى .
والصواب : هو التوقف في شأنه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أدري أتبع نبيا كان أم لا ، وما أدري ذا القرنين نبيا كان أم لا "
رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5524
الثالث :
أن الفرق بين هذا العبد الصالح ، وبين الاسكندر المقدوني الكافر أمر معروف لدى علماء المسلمين ، قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1/493) :
( عن قتادة قال : اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام .
فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس ... بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل ، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا ... ، وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور ) انتهى كلام ابن كثير رحمه الله .
الرابع :(5/33)
أن النصارى ليس في كتابهم المقدس معلومات وافية عن الاسكندر الثاني ، فضلا عن الأول ، وغاية ما عندهم رؤيا لدانيال ، زعموا أن فيها إشارة لحكم هذا الاسكندر الكافر وانقسام مملكته من بعده .
الخامس :
أنه لو فرض وجود اختلاف بين القرآن وكتابهم حول شخصية أو حدث ، فأي غرابة في هذا ؟ّ!
وما أكثر هذه الاختلافات ، لاسيما حول قصص أنبياء الله كإبراهيم ونوح ولوط وموسى وداود وعيسى عليهم السلام . فالنصارى لا يملكون سندا متصلا لهذه الكتب التي يؤمنون بها ، ولا معرفة بحال الذين قاموا بترجمتها ، مع اشتمالها على عشرات المواضع المتناقضة والمختلفة التي ينتفي معها دعوى العصمة وأنها كتبت بالإلهام من الروح القدس ، وحسبك باختلافهم في نسب عيسى عليه السلام !
فكيف يجعل ما في هذه الكتب المحرفة حكما على القرآن العظيم ، المحفوظ بحفظ الله تعالى ؟!
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
================
... كيف نرد على موقع يضع نصوصاً سماها سورة؟ ...
لقد وجدت موقعاً معادياً للإسلام وضع فيه أصحابه نصوصاً سموها بسورة التجسد وأخرى بسورة الإيمان وغيرهما وادعوا بأنها سور من مثل القرآن زاعمين بذلك أن هذه النصوص رد على التحدي القرآني ، فكيف نرد على هؤلاء ؟
الجواب :
الحمد لله ،
نقول لهؤلاء :
أولاً : اعلموا أن باب التحدي مفتوح وبناء عليه من الممكن لكل واحد أن يلفق هكذا ألفاظ و كلمات لا رابط بينها و لا انسجام فضلاً عن المعنى الصحيح ، و قد قال تعالى بشأن القرآن العزيز : (( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ))
ثانياً : انكم لم تصنعوا شيئاً مثل القرآن وما صنعتم شيئاً سوى أنكم عمدتم إلى آيات القرآن الكريم فسرقتم أكثر ألفاظها وبدلتم بعضاً وقد سبقكم في ذلك مسيلمة الكذاب فقد كان يعمد إلى آيات من القرآن الكريم فيسرق أكثر ألفاظها ويبدل بعضاً ، كقوله : (( إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر )) أو يجيىء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية ومعان سوقية ، كقوله : (( والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً )) وهكذا لم يستطع وهو عربي قح أن يحتفظ بأسلوب لنفسه ، بل نزل إلى حد الاسفاف وأتى بالعبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفككهم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها ، ولا يخفى أن هذا كله ليس من المعارضة في شيىء ، بل هو المحاكاة والإفساد ، وما مثله ومثلكم إلا كمثل من يستبدل بالإنسان تمثالاً لا روح فيه ، وهو على ذلك تمثال ليس فيه شيىء من جمال الفن . ( 1 )
ثالثاً : لقد سجل التاريخ في عصر نزول القرآن الكريم عجز أهل اللغة أنفسهم عن معارضة القرآن . وما أدراك ما عصر نزول القرآن ؟
هو أزهى عصور البيان العربي ، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي ، انه عصر المعلقات وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها ؟ إلا ان التاريخ سجل هذا العجز عليهم ، فهل منكم من يعتبر أم على قلوب أقفالها ؟
إن محاكاتهم القرآن وتقليده بصورة باردة ساقطة في الخصائص التي تميز بها نظماً على سائر الكتب ، مثل تصدير الكلام بالحروف المقطعة وهي سمة لا يشبه القرآن فيها أي كتاب آخر ، فمن زعم منهم أنه يعارض به القرآن الكريم فقد فضح نفسه بنفسه ، إذ أنه سرق علانية ما سبق به القرآن الكريم وتفرد على سائر كلام البشر . وقل مثل ذلك في نقل عبارات قرآنية بنصها مثل : (( فأولئك هم المفلحون )) (( لفي ضلال بعيد )) وغيرها ، فالعجب ممن يزعم معارضة الكتاب الكريم آخذاً بنصوصه بحروفها ، وخصائصه بحذافيرها سرقة معلنة دون أن تطرف له عين أو يهتز له جفن .
ان الإتيان بمثل القرآن أمر محال لأنّ الله جلّ وعلا تحدّى أحدا أن يفعل ذلك وتحدّى فصحاء العرب وشعراءهم المتقنين للعربية وكانوا حين نزول القرآن في قمّة فصاحتهم وبيانهم فقال عزّ وجلّ : (( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )) سورة الطّور ، فلما عجزوا تحدّاهم أن يأتوا بعشر سور مثل سوره فقال سبحانه : (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) سورة هود
فلمّا عجزوا تحدّاهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط على مستوى فصاحة القرآن وبلاغته وحكمته فقال عزّ وجلّ : (( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) سورة يونس(5/34)
ودعاهم إلى الاستعانة بمن شاءوا للمحاولة وقبول التحدّي فقال : (( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )) سورة البقرة
فلمّا عجزوا أخبرهم بأنّهم لا يستطيعون ذلك مطلقاً في أيّ وقت وفي أيّ زمان ومهما استعانوا بأحد فقال سبحانه : (( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )) سورة الإسراء
فلا يوجد أحد غير الله يأتي بمثله لأنّ القرآن - كما قال عزّ وجلّ - (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )) سورة هود
ولو ألقينا نظرة على الموقع المُشار إليه في السّؤال لوجدنا الكفر ينطق في تلك السّور المزيّفة كالنّص على أنّ المسيح ابن الله وأنّه هو الله والدّعوة إلى مذهب الرافضة الخبيث إلى غير ذلك من الترّهات ثم تجد التّناقض العجيب ، ففي الوقت الذي يقول فيه الكذّاب في السّورة التي افتراها وسمّاها سورة التجسّد في الآية السادسة - حسب زعمه - : سبحانه رب العالمين أن يتخذ من خلقه ولدا . تجد في الآية التاسعة من سورة الإيمان - المزعومة - قوله : أنت هو ابن الله حقّا بك آمنّا .. ، لقد صدق ربنا حين قال : (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا )) سورة النساء .
ثمّ يجد النّاظر أيضا في تلك السور المفتريات عبارة سخيفة أخرى يدّعي فيها الكذّاب أن الله سمح لنبيّه أن يغيّر ويبدّل في القرآن كما يشاء ، فتقول العبارة السخيفة فيما عدّه الآية السادسة من سورة الوصايا : فانسخ ما لك أن تنسخ مما أمرناهم به فقد سمحنا لك أن تجري على قراراتنا تغييرا !!
إنّ كلّ مسلم يعلم قدر الإفك الذي انطوت عليه هذه العبارة المنبعثة من عقل المُغرض الذي ألّفها ، فهل رأيت بالله عليك أيّها القارئ اللبيب كلاما سخيفا مثل هذا ، هل يُمكن أن ينزّل الله قرآنا يأمر فيه بالتطبيق والتنفيذ والالتزام بما في كتابه كما في قوله : (( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) سورة الأنعام ، ويأمر رسوله بالتمسك بالقرآن قائلا - سبحانه - : (( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) سورة الزخرف ، ويتهدّد رسوله إن لم يبلّغ ما أوحاه إليه بالنصّ دون تغيير أو إخفاء كما في قوله سبحانه : (( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا(73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا(74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا )) سورة الإسراء ، وكما في قوله سبحانه : (( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ(44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ )) سورة الحاقّة وغير ذلك من الآيات ، ثمّ تأتي بعد ذلك كلّه سورة مزعومة بأنّ للرسول الحقّ أن ينسخ ما شاء من القرآن ويغيّر ويبدّل وأنّه مخوّل بذلك وعنده صلاحيّة الإلغاء وشطب ما يشاء من الأحكام ؟؟
إنّ الذي ينسخ من القرآن ما يشاء هو الذي أنزل القرآن سبحانه وحده لا غير ، كما قال عزّ وجلّ : (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )) سورة الرّعد ، وقال : (( مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) سورة البقرة ، والواجب على رسولنا وعلينا التدّبر والتنفيذ لا التحريف والإلغاء والتبديل ، قال سبحانه : (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ )) سورة ص
لقد رأينا في السّور الزائفة المفتراة في ذلك الموقع على شبكة الانترنت مثالا واقعيا لما تضمنّه قوله تعالى : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) سورة آل عمران .
نسأل الله أن ينصر دينه ويُعلي كتابه ويعزّ أولياءه كما نسأله سبحانه أن يذلّ أعداءه وأن يجعل الصّغار عليهم ويردّهم خائبين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد . ( 2 )
( 1 ) النبأ العظيم للكدتور : محمد عبدالله رحمه الله(5/35)
( 2 ) الإسلام سؤال وجواب الشيخ محمد صالح المنجد www.islam-qa.com
===============
... الرد على رسالة نصراني يسأل عن معجزة إخبار القرآن بنزول الحديد من الفضاء الخارجي ...
يقول النصراني في رسالته :
قال أشهر علماء العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم .. الدكتور استروخ وهو من أشهر علماء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء .. قال : لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثا معملية .. ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد .. قدرات الحديد لها تكوين مميز .. إن الالكترونات والنيترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية .. ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض .. ولابد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها قال تعالى : (( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) سورة الحديد : 25 المصدر " الأدلة المادية على وجود الله " لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي.
يتصور المسلمون بأن قرآنهم يحوي معجزات علمية حديثة. وهم في محاولتهم تلك يلوون عنق اللغة العربية ويجعلون القرآن ينطق بما لم يخطر على بال كاتبه.
في مثالنا هذا حول المعجزة المزعومة في القرآن بأن الحديد أتى الينا من الفضاء الخارجي نجد المحاولة الخائبة من المسلمين مفضوحة تماما بلا ستر أو أستتار، لأن القرآن نفسه ينقضها نقضاً واضحاً.
تقول سورة الحديد : 25 : (( وأنزلنا الحديد )) . ويحاول مسلمي هذا العصر أن يقولوا لنا بأن مقصد القرآن بأن الحديد أنزل من السماء ولم يتكون على الأرض والدليل قول القرآن : (( أنزلنا )) .
حسناً، أنا مستعد للتسليم بأن الحديد نزل من السماء، بل حتى من الفضاء الخارجي. وهو ما يطابق بصورة مذهلة البحوث العلمية المعاصرة التي تجعلني أقف بذهول أمام المعجزة الصريحة في القرآن.
وكباحث عن الحق أسلم للقرآن بتفوقه العلمي. بل أصل الى الحد الذي أصرح فيه بأني مستعد للأيمان الكامل والشامل به، لأنه خارق للطبيعة، منزل من أصل كل المعارف، الله الخالق.
ولكني يجب أن أتوقف عند أية مشابهة وأفحصها هي الأخرى. قبل أن أنطق بالشهادتين وأقر للإسلام والقرآن بالمصداقية.
تقول سورة الزمر الآية 6 : (( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج. ))
يبدو أن الله لم ينزل لنا فقط الحديد من الفضاء الخارجي بل أنزل شئ أخر أسمه الأنعام! يقول أبن كثير في تفسير الآية: وقوله تعالى " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج " أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين."
فهل بإمكانكم أن توضحوا لي هذا الأمر ؟
الجواب :
الحمد لله ،
فى الحقيقه ان كلمه نزول لها معانى كثيرة تأتي على حسب استخدامها وسياق العبارة التي جاءت فيها فيقال مثلاً :
نزلت ضيفا على الاستاذ خالد
نزل المطر فى الصيف
نزل خالد فى نفسى مكانه محترمه
نزلت عليه ضربا بالعصى ...... الى اخره
وفى سوره الحديد نجد بأن الله سبحانه وتعالى أخبر بإنزال الحديد من الفضاء ، وهذا ما يؤكده ويبينه لك الشرح الكيميائي البسيط للعدد الذرى والوزن الذرى لذره الحديد فإنه يثبت لك انه مستحيل ان يتكون فى الارض , و تكوين ذره الحديد أمر يحتاج الى كثافه معينه وهذا غير متوافر ولا يتم الا فى الفضاء الخارجى فقط , ولن يعترض على هذا الا جاهل بعلوم الكيمياء وبجدول مندليف الذرى .
أما عن نزول الأنعام كما جاء فى سوره الزمر آيه : 6 فالذى نقل الايه لم ينقلها كامله . لان كلمه (( انزل لكم من الانعام )) سبقها وتبعها كلمه مهمه جداً وهى ( خلق ) ولنرجع الى الايه لنعرف التزوير المتعمد :
(( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ))
ومن هنا يتضح ان كلمه ( أنزل ) تعنى ( أنشأ وجعل ) وقد قال القرطبي : أَخْبَرَ المولى تبارك وتعالى عَنْ الانعام بِالنُّزُولِ ; لِأَنَّهَا تَكَوَّنَتْ بِالنَّبَاتِ وَالنَّبَات بِالْمَاءِ الْمُنْزَل . وَهَذَا يُسَمَّى التَّدْرِيج .
أضف إلي ذلك أنه لا يمنع ابداً ان يكون بنزول آدم من الجنه الى الارض قد انزل الله معه من الحيوانات التى تساعده على اعمار الارض ومنها يأكل وله فيها منافع كثيره . والمسيحيه لا ترفض ان يكون فى الجنه حيوانات وقد نطقت بذلك كتبكم ان الذى اغوى المرأه هى ( الحيه ) .
والخلاصة :(5/36)
* ان كلمه نزول لا تتطلب ابداً النزول من السماء فقط , بل لها ايضاً معانى لغويه كالنزول الحقيقى أو معانى معنويه مثل أمر الخلق والانشاء , وان فهمها يتوقف على سياق الكلام .
* ان نزول الازواج الثمانيه من الجنه مع آدم ايضاً أمر لا يرفضه العقل . وقد َقِيلَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْأَنْعَام فِي الْجَنَّة ثُمَّ أَنْزَلَهَا إِلَى الْأَرْض .
* نؤمن نحن المسلمون ان الله يدبر الامر ( مثل الخلق ايضاً ) بين السماء والارض ,
ولقد ادعيت أن المسلمين يلوون عنق اللغة العربية بدليل أن كلمة " أنزلنا" تعني " خلقنا ".كما جاء في سورة الزمر الآية 6
و أورد للايضاح تفسير ابن كثير:
قوله تعالي" وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ"أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين."
و المعلوم أنه في اللغة أن الكلمة تفهم من السياق الذي وردت فيه.
فقد فات السائل أن نفس الكلمة وردت بمعني أنزل من السماء وفي نفس السورة في الاية 29 فيقول تعالى : (( الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا الوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاما ان في ذلك لذكرى لاولي الالباب ))
و الأمثلة كثيرة علي أن أن الكلمة معناها الأساسي في اللغة الأنزال من السماء و نورد منها قوله تعالي في سورة الفرقان الأية 7:
(( وقالوا مال هذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الاسواق لولا انزل اليه ملك فيكون معه نذيرا ))
و قوله تعالي في سورة المائدة الأية 114 : (( قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا واخرنا واية منك وارزقنا وانت خير الرازقين ))
و قوله تعالي في سورة الأنعام الاية: 8 : (( وقالوا لولا انزل عليه ملك ولو انزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون ))
و قوله تعالي في سورة الحج الاية : 5 (( يا ايها الناس ان كنتم في ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء الى اجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى ارذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج )) .
فلا يمنع ورود الكلمة بمعني " خلق " على أن ترد في موضع آخر بمعني" أنزل " وهو الهبوط من اعلى إلي اسفل .
الامثلة كثيرة جداً و أود أن اضيف أنه اذا أثبت العلم حقيقة علمية اليوم ثم كان القرآن قد أفصح عنها منذ قرون, وفهمت الآية في زمن التنزيل أو بعده بكيفية تتناسب مع معارف الإنسان في ذلك الزمان, ثم أصبح في إمكاننا مع ثبوت حقيقة علمية بيقين أن نفهم الآية فهمًا جديدًا وصحيحًا في ضوء التقدم العلمي فلا يجب أن نقصر عقولنا علي هذه التفاسير و لا يصح أيضا أن نلوم المفسرين بل يجب أن نعمل عقولنا كما أمرنا الله سبحانه و تعالي في كتابه العظيم : (( قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الْخَلْقَ )) (العنكبوت: 20) و قوله تعالي في سورة الروم : (( وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وألْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّلْعَالِمِينَ )). أتمني من السائل أن يكون حقاً ممن يبحثون عن الحق و ليس ممن قال الله تعالي عنهم : (( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )).
وأخيراً :
صار من المعروف علمياً (حديثا) أن عنصر الحديد ذو بأس شديد كما أورد القران الكريم.أي أن طاقة النظام الشمسي مع شدتها لا تكفي لتكوين ذرة واحدة من عنصر الحديد حيث يحتاج تكوين ذرة واحدة الي أربع أضعاف طاق النظام الشمسي.و يستنتج من ذلك أن عنصر الحديد هو عنصر خارجي أي تم تكوينه في مجموعات شمسية تبعد كثيرا عن الشمس و لم يتم تكوينه علي الارض بل هبط اليها مع النيزك و الشهب
==============
... ما المقصود بكلمة ( كان) في وصف الله تعالى - وكان الله عليماً حكيما ً- وأمثالها؟ ...
سؤال : لماذا ذكر في كثير من سور القرآن الكريم لفظ : وكان الله عليما حكيما، وكان الله على كل شيء قديرا، وغيرها في صيغة الماضي فما المعنى المقصود ؟ وجزاكم الله خيرا
جواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فإن المقصود من الآيات.. ( وكان الله عليماً حكيماً ) ( وكان الله على كل شيء قديراً ) وما جاء بمعناهما. اتصاف المولى جل جلاله بكل صفة من تلك الصفات المخبر عنها من العلم، والحكمة، وكمال القدرة على وجه الاستمرار والدوام، فمعنى قوله تعالى : ( وكان الله عليماً حكيماً ) أي : لم يزل على ذلك.(5/37)
وهذا لا إشكال فيه، فإنَّ ( كان ) تأتي كثيراً في القرآن الكريم، وفي كلام العرب بمعنى اتصال الزمان من غير انقطاع.
ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم زيادة على الآيتين المسئول عنهما وما جاء في معناهما قوله تعالى: ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) [المدثر:16].
وقوله تعالى: ( إن هذا كان لكم جزاء ) [الإنسان: 22].
وقوله: ( كان مزاجها زنجبيلاً ) [الإنسان: 17].
ومن شواهدها في كلام العرب قول المتلمس :
وكنا إذا الجبار صعر خده *** أقمنا له من ميله فتقوما
وقول قيس بن الخطيم :
وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبة *** أسُب بها إلا كشفت غطاءها
وقول أبي جندب الهذلي :
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة *** أشمر حتى ينصف الساق مئزري
فهؤلاء الشعراء إنما يخبرون عن حالتهم الدائمة المستمرة، وليس غرضهم الإخبار عما مضى. [ مركز الفتوى بالشبكة الاسلامية ]
وهذا جواب آخر للشيخ عطية صقر :
إذا وصف الله نفسه في القرآن الكريم لم يأت هذا الوصف دائمًا مقرونا بلفظ " كان " فكثيرًا ما يأتي الوصف بدون ذلك . قال تعالى ( إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ ) ( سورة البقرة : 109 ) ( إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين ) ( سورة البقرة : 222 ) ( واسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( سورة المزمل : 20 ) .
وفي بعض الآيات يأتي الوصف مع لفظ " كان " كقوله تعالى ( وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (سورة الأحزاب : 59 ) وقوله ( وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَئٍ عَلِيمًا ) ( سورة الفتح : 26 ) وقوله تعالى ( وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( سورة النساء : 134 ) .
وليس المراد بذلك أن الله ـ سبحانه ـ كان مُتصفًا بالمغفرة والرحمة والعلم والسمع والبصر في زمن مضى، ثم زالت عنه هذه الصفات في الزمن الحاضر ولا يتصف بها في المستقبل؛ ذلك لأن تقسيم الزمن إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل هو بالنسبة لنا نحن، حين نتحدَّث ونحدد ما يقع من أحداث قبل زمن الحديث عنها أو في أثناء الحديث أو بعده أما الله ـ سبحانه ـ فهو مُنَزه عن الزمان . وما كان مخلوقًا لا يتحكَّم فيمَن خَلَقَه .
وكأن الله ـ سبحانه ـ حين يقرِن صفاته بلفظ " كان " يبيِّن لنا أنه موصوف بذلك قبل أن يخبرنا، بل قبل أن يخلقنا، فهى صفات أصيلة فيه وجبت له لذاته لا لعلة أوجدتها فيه . فقد كان الله بصفاته ولا شئ معه . وقد نبَّه المفسرون على ذلك، فجاء مثلاً في تفسير الجلالين لقوله تعالى في أول سورة النساء ( إنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) قوله : أي لم يزل مُتصفًا بذلك . وقال الجمل في الحاشية : نبَّه به على أن " كان قد اسْتُعْمِلَت هنا في الدوام، لقيام الدليل القاطع على ذلك
================
... هل يسمح الله بأخذ السبايا وملك اليمين ؟ ...
نصراني يسأل هل يسمح الله بأخذ السبايا وملك اليمين ؟
الجواب :
نعم ، واقرأ إن شئت قول الرب في سفر التثنية [ 20 : 10 ] :
(( إِذَا ذَهَبْتُمْ لِمُحَارَبَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَأَظْفَرَكُمُ الرَّبُّ إِلَهُكُمْ بِهِمْ، وَسَبَيْتُمْ مِنْهُمْ سَبْياً، 11وَشَاهَدَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ الأَسْرَى امْرَأَةً جَمِيلَةَ الصُّورَةِ فَأُولِعَ بِهَا وَتَزَوَّجَهَا، 12فَحِينَ يُدْخِلُهَا إِلَى بَيْتِهِ يَدَعُهَا تَحْلِقُ رَأْسَهَا وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَهَا، 13ثُمَّ يَنْزِعُ ثِيَابَ سَبْيِهَا عَنْهَا، وَيَتْرُكُهَا فِي بَيْتِهِ شَهْراً مِنَ الزَّمَانِ تَنْدُبُ أَبَاهَا وَأُمَّهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُعَاشِرُهَا وَتَكُونُ لَهُ زَوْجَهً. 14فَإِنْ لَمْ تَرُقْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلْيُطْلِقْهَا لِتَذْهَبَ حَيْثُ تَشَاءُ. لاَ يَبِيعُهَا بِفِضَّةٍ أَوْ يَسْتَعْبِدُهَا، لأَنَّهُ قَدْ أَذَلَّهَا. ((
وهذا نص آخر يأمر فيه الرب المحاربين بالتمتع بالنساء اللآتي أخذن ضمن الغنائم في الحرب :
(( وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالْبَهَائِمُ، وَكُلُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ أَسْلاَبٍ، فَاغْنَمُوهَا لأَنْفُسِكُمْ، وَتَمَتَّعُوا بِغَنَائِمِ أَعْدَائِكُمُ الَّتِي وَهَبَهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ )) [ تثنية 20 : 14 ]
وهذا نبي الله داود عليه السلام يقول عنه الكتاب : (( واخذ داود ايضا سراري ونساء من اورشليم بعد مجيئه من حبرون فولد ايضا لداود بنون وبنات. )) [ صموئيل الثاني 5: 13 ]
وفي بعض الاحيان نجد ان الله يجعل السبي كعقوبة للكفر والشرك كما جاء في [ ارميا 22 : 22 ] : (( سَتَعْصِفُ الرِّيحُ بِكُلِّ رُعَاتِكِ، وَيَذْهَبُ مُحِبُّوكِ إِلَى السَّبْيِ. عِنْدَئِذٍ يَعْتَرِيكِ الْخِزْيُ وَالْعَارُلأجل كل شرك )) انظر عاموس [ 7 : 17 ] و [ 5 : 5 ] .
والله الموفق
===============
تفسير قول تعالى : عبس وتولى(5/38)
سؤال : جاء في سورة عبس : (( عَبَسَ وَتَوَلّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى . ))
روي أن ابن أم مكتوم أتى محمداً وهو يتكلم مع عظماء قريش، فقال له: أَقرِئني وعلّمني مما علّمك الله. فلم يلتفت محمد إليه وأعرض عنه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما اتَّبعه الصبيان والعبيد والسَّفلة. فعبس وجهه وأشاح عنه، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم.
ونحن نسأل : كيف يراعي محمد أصحاب الجاه ويرفض الفقير والمسكين ويقطب وجهه للأعمى؟ أين هو من المسيح الذي لما جاءه الأعمى أحاطه بعطفه ورعايته وأعاد إليه البصر؟
الجواب :
الحمد لله ،
جاء حول تفسير هذه الآيات الكريمات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهم من كبار وصناديد قريش فأتاه ابن أم مكتوم الأعمى ، وقال له يا رسول الله : (( أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى )) ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغل النبي بالقوم ، فكره رسول الله قطعه لكلامه ، وأعرض عنه عابساً ، فنزلت الآيات .
وليس في القصة ما يفيد احتقاره صلى الله عليه وسلم للأعمى ، فإنه لم يعرض عن ابن أم مكتوم قصداً لإساءته ، ولا استصغاراً لشأنه ، وإنما فعل ذلك حرصاً منه على أن يتفرغ لما هو فيه من دعوة أولئك الأشراف ، وتهالكاً على إيمانهم ، لأنه كان يرجو أن يسلم بإسلامهم خلق كثير ، ويطمع في ذيوع أمره إذا انضم هؤلاء إليه ، وكفوا عن مناضلته والكيد له .
وكان النبي _ إذن _ يبتغي بعمله التقرب إلى ربه ، كان جاداً في نشر الدعوة مستغرقاً فيما رآه أنفع لها وأجدى عليها ، وأقرب شىء إلى الطبيعة البشرية في هذه الحالة أن يعبس الإنسان إذا صرفه صارف عما هو بصدده ، كما فعل ابن مكتوم .
ولكن ذلك كان على خلاف مراده تعالى فعاتبه عليه ، ونبهه إليه ، وبين له أن الصواب في ألا يعرض عن راغب في المعرفه مهما قل شأنه ، وألا يتصدى لمعرض عن الهداية وإن كان عظيماً ، لأن مهمته التبليغ ، وما عليه من شىء في كفر الناس أو إيمانهم .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما يروى إذا رأى ابن مكتوم يبسط له رداءه ويقول : (( مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ))
ثم ألم يسأل المعترض نفسه أنه لو كان القرآن من عند محمد أكان يسمح لنفسه أن يضع هذه الآيات التي تعاتبه والتي سيقرأها الاجيال المتلاحقة من بعده؟!
وقد أقر بهذا بعض المستشرقين ، مثل المستشرق (ليتنر) حيث قال : (( مرة أوحى الله إلى النبي وحيا شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلا غنيا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذبا -كما يقول أغبياء النصارى بحقه -لما كان لذلك الوحي من وجود ))
وبعد أن وضحنا أن زعم المعترض بأن الرسول الكريم يحتقر الاعمى ليس في محله ، لنرى الآن كيف نسب كتابه المقدس للمسيح من انه احتقر المرأة الكنعانية ووصفها بالكلبة !! وهذا طبقاً لما ورد في متى [ 15 : 26 ] :
فعندما جاءت إمرأة كنعانية تسترحم المسيح بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلاً : (( لا يجوز أن يأخذ خبز البنين ويرمى للكلاب !! )) فانظر كيف صدر هذا التعبير القاسى جداً لهذه المرأة من إله المحبة المزعوم !
--------------------
وفي ظلال القرآن - (ج 7 / ص 452)
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً . أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة . إنه معجزة ، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض ، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية . ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى ، ومعجزته الكبرى كذلك . ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيباً على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة ، هي الإسلام في صميمه . وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض .
هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب . إنما هي أبعد من هذا جداً ، وأعظم من هذا جداً . إنها : كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي : أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة ، آتية لهم من السماء ، غير مقيدة بملابسات أرضهم ، ولا بموضوعات حياتهم ، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات .(5/39)
وهو أمر عظيم جداً ، كما أنه أمر عسير جداً . عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء . مطلقة من اعتبارات الأرض . متحررة من ضغط هذه الاعتبارات
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري ، وثقله على المشاعر ، وضغطه على النفوس ، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس ، المنبثقة من أحوال معاشهم ، وارتباطات حياتهم ، وموروثات بيئتهم ، ورواسب تاريخهم ، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شداً ، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس .
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد ، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه!
وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه : إن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه!
نعم يكفي هذا . فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها ، تجعل الأمر الذي يحتاج منها كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه أمراً أكبر من العظمة ، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر ، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض ، بمناسبة هذا الحادث المفرد .
. أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء ، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله . . وهذا هو الأمر العظيم . .
إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل ، ليقوّموا به القيم كلها ، هو { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة ، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقاً . .
ولكن الناس يعيشون في الأرض ، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم . وهم يتعاملون بقيم أخرى . . فيها النسب ، وفيها القوة ، وفيها المال ، وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية . . اقتصادية وغير اقتصادية . . تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض . فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض . .
ثم يجيء الإسلام ليقول : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فيضرب صفحاً عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس ، العنيفة الضغط على مشاعرهم ، الشديدة الجاذبية إلى الأرض . ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء ، المعترف بها وحدها في ميزان السماء!
ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسب واقعية محددة . وليقرر معها المبدأ الأساسي : وهو أن الميزان ميزان السماء ، والقيمة قيمة السماء . وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس ، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات ، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده!
ويجيء الرجل الأعمى الفقير . . ابن أم مكتوم . . إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش . عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبي جهل عمرو بن هشام ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، ومعهم العباس بن عبد المطلب . . والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه ، ويكيدون له كيداً شديداً حتى ليجمدوه في مكة تجميداً ظاهراً . بينما يقف الآخرون خارج مكة ، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها ، وأشدهم عصبية له ، في بيئة جاهلية قبلية ، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار .
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر . لا لنفسه ولا لمصلحته ، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام . فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها ، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار .
يجيء هذا الرجل ، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله . . ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر . فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه . وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض . يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير . الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة ، وإخلاصه لأمر دعوته ، وحبه لمصلحة الإسلام ، وحرصه على انتشاره!(5/40)
وهنا تتدخل السماء . تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله ، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات . بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر . بل كما يراها سيد البشر صلى الله عليه وسلم .
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم ، صاحب الخلق العظيم ، في أسلوب عنيف شديد . وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب : { كلا! } وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين!
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد ، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية . فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد ، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة . وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة . وفي عبارات متقطعة . وفي تعبيرات كأنها انفعالات ، ونبرات وسمات ولمحات حية!
{ عبس وتولى . أن جاءه الأعمى } . . بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه ، عطفاً عليه ، ورحمة به ، وإكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه!
ثم يستدير التعبير بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب . فيبدأ هادئاً شيئاً ما : { وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ } . . ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير . أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير الذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى . ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله ، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه . وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله . .
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : { أما من استغنى ، فأنت له تصدى؟! وما عليك ألا يزكى؟! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى؟! } .
. أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة . . أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتجهد لهدايته ، وتتعرض له وهو عنك معرض! { وما عليك ألا يزكى؟ } . . وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه . وأنت لا تُنصر به . وأنت لا تقوم بأمره . . { وأما من جاءك يسعى } طائعاً مختاراً ، { وهو يخشى } ويتوقى { فأنت عنه تلهى! } . . ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهياً . . وهو وصف شديد . .
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : { كلا! } . . لا يكن ذلك أبداً . . وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام .
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند . وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائناً ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : { إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعه مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة } . . فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة . . فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يُتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها . .
هذا هو الميزان . ميزان الله . الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات ، ويقدر به الناس والأوضاع . . وهذه هي الكلمة . كلمة الله . الكلمة التي ينتهي إليها كل قول ، وكل حكم ، وكل فصل .
وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة ، والدعوة مطاردة ، والمسلمون قلة . والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي . إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً . ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان ، وإنما هي هذه القيم ، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر . فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم . .(5/41)
ثم إن الأمر كما تقدم أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد ، ومن موضوعه المباشر . إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض ، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية . . { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال ، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى ، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال . . وسائر القيم الأخرى ، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى . والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنففت لحساب الإيمان والتقوى .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة ، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة ، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه ، ولذلك العتاب . انفعلت بقوة وحرارة ، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها ، وفي حياة الجماعة المسلمة . بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى .
وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث . وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقاً . أمر لا يقوى عليه إلا رسول ، من أي جانب نظرنا إليه في حينه .
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد ، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم غير الرسول أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل . ولكنها النبوة . أمر آخر . وآفاق أخرى!
لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة ، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم ، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات ، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! } وهذا نسبه فيهم ، لمجرد أنه هو شخصياً لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة!
ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء . فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض . . ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!!
وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع ، يطرد به أزماناً طويلة في حياة الأمة المسلمة .
لقد كان ميلاداً جديداً للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته . وأعظم منه خطراً في قيمته . . أن ينطلق الإنسان حقيقة شعوراً وواقعاً من كل القيم المتعارف عليها في الأرض ، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية ، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل ، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر . ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع ، مسلماً بها من الجميع . وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم - كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه ، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم ، وشريعة المجتمع المسلم ، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين .
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد . لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب « التقدمية! » أن جانباً واحداً منها هو الأوضاع الاقتصادية هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق ، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة!
إنها المعجزة . معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان . .
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم . . ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية ، ولا في المسلمين أنفسهم . . غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع بإرادة الله ، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها ، حتى تتأصل جذورها وتمتد فروعها ، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قروناً طويلة . . على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى . .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه : « أهلاً بمن عاتبني فيه ربي » وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة . .(5/42)
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها ، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية ، لمولاه زيد بن حارثة . ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية . وفي البيئة العربية بصفة خاصة .
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة ، جعل عمه حمزة ومولاه زيداً أخوين . وجعل خالد ابن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين!
وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته ، وجعله الأمير الأول ، يليه جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري ، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار ، فيهم خالد بن الوليد .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعهم . . وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم .
وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم ، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه ، وصاحباه ، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه - صلى الله عليه وسلم -ومن أسبق قريش إلى الإسلام .
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث . وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما- : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعثاً أمر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فطعن بعض الناس في إمارته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
« إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل . وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان لمن أحب الناس إليّ . وإن هذا لمن أحب الناس إلي » .
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي ، وتحدثوا عن الفارسية والعربية ، بحكم إيحاءات القومية الضيقة ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال : « سلمان منا أهل البيت » فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل أفاق النسب الذي يستعزون به ، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها . . وجعلة من أهل البيت رأساً!
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح رضي الله عنما ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة « يا بن السوداء » . . غضب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً؛ وألقاها في وجهه أبي ذر عنيفة مخيفة : « يا أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل » ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة . . إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء . وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض!
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال ، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال . تكفيراً عن قولته الكبيرة!
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء . . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك . فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة » فقال : ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه : « ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب » . وقال عنه : « ملئ عمار رضي الله عنه إيماناً إلى مشاشه » . وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار . وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه » .
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله . . عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قدمت أنا وأخي من اليمن ، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومهم له « .
وجليبيب وهو رجل من الموالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار . فلما تأبى أبواها قالت هي : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . فرضيا وزوجاها .(5/43)
وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه . . عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له ، فأفاء الله عليه . فقال لأصحابه : « هل تفقدون من أحد؟ » قالوا : نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً . ثم قال : « هل تفقدون من أحد؟ » قالوا : نعم . فلاناً وفلاناً وفلاناً . ثم قال : « هل تفقدون من أحد؟ » فقالوا : لا . قال : « لكني أفقد جليبيباً » فطلبوه ، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه ، ثم قال : « قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه . هذا مني وأنا منه . ثم وضعه على ساعديه ، ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال : فحفر له ، ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً » .
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد . ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء ، طليقاً من قيود الأرض ، بينما هو يعيش على الأرض . . وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام . المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله ، وبعمل رسول . والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله ، وأن الذي جاء به للناس رسول!
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأول أبو بكر ، وصاحبه الثاني عمر . . أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر ، وأشد اثنين انطباعاً بهدي رسول الله ، وأعمق اثنين حباً لرسول الله ، وحرصاً على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه .
حفظ أبو بكر رضي الله عنه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ما أراده في أمر أسامة . فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة ، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة . أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل .
فيستحي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي . فيقول : « يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن » . . فيقسم الخليفة : « والله لا تنزل . ووالله لا أركب . وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟ » . .
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر . وقد حمل عبء الخلافة الثقيل . ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة . وأسامة هو الأمير . فلا بد من استئذانه فيه . فإذا الخليفة يقول : « إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل » . . يالله! إن رأيت أن تعينني فافعل . . إنها آفاق عوال . لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله ، على يدي رسول من عند الله!
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة .
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام ، وأبو سفيان بن حرب ، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال . لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر . فتورم أنف أبي سفيان ، ويقول بانفعال الجاهلية : « لم أر كاليوم قط . يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه! » . . فيقول له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام : « أيها القوم . إني والله أرى الذي في وجوهكم . إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم . دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم . فأسرعوا وأبطأتم . فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟ » .
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر . حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له : « يا بني . كان زيد رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك! وكان أسامة رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي » . . يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان مقوماً بميزان السماء!
ويرسل عمر عماراً ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق فيلببه بردائه . . ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده . . وخالد لا يرى في هذا كله بأساً . فإنما هو عمار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال!
وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر رضي الله عنهما هو سيدنا وأعتق سيدنا . يعني بلالاً . الذي كان مملوكاً لأمية بن خلف .
وكان يعذبه عذاباً شديداً . حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه . . وعنه يقول عمر بن الخطاب . . عن بلال . . سيدنا!
وعمر هو الذي قال : « ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته » يقول هذا ، وهو لم يستخلف عثمان ولا علياً ، ولا طلحة ولا الزبير . . إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحداً بذاته!(5/44)
وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرسل عماراً والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة رضي الله عنها فيقول : « إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها » . . فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين ، وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً .
وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن . فيقول لهم : « أنا بلال بن رباح ، وهذا أخي أبو رويحة ، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين . فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه ، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا » . . فلا يدلس عليهم ، ولا يخفى من أمر أخيه شيئاً ، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول . . فيطمئن القوم إلى هذا الصدق . . ويزوجون أخاه ، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه!
واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي ، وظلت مستقرة بعد ذلك آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة . « وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه . وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع . وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين . وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز . وفي البصرة كان الحسن البصري . وفي مكة كان مجاهد بن جبر ، وعطاء بن رباح ، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء . وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة » . .
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها . . في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم . ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريباً جداً بعد أن طغت الجاهلية طغياناً شاملاً في أنحاء الأرض جميعاً . وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية . وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية . أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى ، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها .
وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى . .
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة ، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة . .
==============
... يحكي القرآن عن إسراء محمد إلى المسجد الأقصى مع أن المسجد الأقصى قد بني بعد محمد عليه الصلاة و السلام بنحو مئة سنة ...
نصراني يسأل : يحكي القرآن عن إسراء محمد إلى المسجد الأقصى مع أن المسجد الأقصى قد بني بعد محمد بنحو مئة سنة فأرجو التوضيح .
الجواب :
ما معنى كلمة مسجد ؟
إن كلمة مسجد اسم مكان لمكان السجود ، والسجود جاء في كل الرسالات ، وهناك فرق بين الشيء حينما يستعمل وصفاً اشتقاقياً ، وبين أن يستعمل علماً ، وهل كلمة مسجد بقيت علماً عندنا على المكان الخاص به ، إنما المسجد هو كل مكان يسجد فيه لله سبحانه وتعالى ، وهم اتخذوه أيضاً مسجداً لله ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : (( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الراكعين )) [ آل عمران : 42 ] فكأن السجود موجود في كل الرسالات كلها ، وأيضاً يقص علينا سبحانه وتعالى قصة أهل الكهف فيقول : (( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا )) الآية 21 . فكأن كلمة المسجد لم تأت ابتداء مع الاسلام ، إنما شاع استعمالها في هذه الأماكن مع الإسلام ، وإلا فكل مكان يسجد لله فيه يكون مسجداً ، ونجد أنه كان في اليهودية سجود مصداقا لقوله تبارك وتعالى لبني اسرائيل (( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ))
فعندما حدثت حادثة الإسراء لم يكن بهذا المكان بناء معروف بالمسجد الأقصى، وإنما كان المكان الموجود بين أسوار الحرم الشريف بالقدس مكانا مخصصاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولم يكن مسجدا بالمعنى المفهوم حاليا، وإنما سمي بالمسجد لأنه مكان العبادة .
وقد ظل مكان الهيكل فضاءً خالياً من أي بناء بقية عهد الرومان النصارى، وقد حدث الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم وكان المكان ما زال خالياً من أي بناء، إلا أنه محاط بسور فيه أبواب داخله ساحات واسعة هي المقصودة بالمسجد الأقصى في قوله ـ تعالى ـ: { سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ لٌنٍرٌيّهٍ مٌنً آيّاتٌنّا إنَّهٍ هٍوّ السَّمٌيعٍ البّصٌيرٍ } [الإسراء: 1] .(5/45)
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال : (( قلت: يا رسول الله: أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال : "المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما؟ قال : "أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد" )).
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن الكريم تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل، لأن حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد. فالتسمية باعتبار ما كان، وهي اشارة خفية إلى انه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد
=============
1- جمع القرآن
اتخذ المعترضون من وقائع جمع القرآن وليجة يتسللون من خلالها للنيل من القرآن ، وإيقاع التشكيك فى كونه وحيًا من عند الله عز وجل .
والواقع أن الذى ألجأهم إلى التسلل من هذه " الوليجة " وهى وقائع جمع القرآن أمران رئيسيان :
الأول : محاولتهم نزع الثقة عن القرآن وخلخلة الإيمان به حتى لا يظل هو النص الإلهى الوحيد المصون من كل تغيير أو تبديل ، أو زيادة أو نقص .
الثانى : تبرير ما لدى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من نقد وجه إلى الكتاب المقدس بكلا عهديه : القديم (التوراة) والجديد (الأناجيل) ليقطعوا الطريق على ناقدى الكتاب المقدس من المسلمين ، ومن غير المسلمين .
ومواطن
الشبهة عندهم فى وقائع جمع القرآن والمراحل التى مرَّ بها ، هى :
أن القرآن لم يُدوَّن ولم يكتب فى مصحف أو مصاحف كما هو الشأن الآن ، إلا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أما فى حياته ، فلم يكن مجموعاً فى مصحف . وأن جمعه مرًّ بعدة مراحل :
الأولى : فى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - وهو جمع ابتدائى غير موثق تمام التوثيق كما يزعمون ؟ .
الثانية : فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وقد كان الجمع فى هذه المرحلة قابلاً لإدخال كثير من الإضافات التى افتقر إليها تدوين القرآن فيما بعد . لأن القرآن لم يكن فيهما مضبوطًا مشكولاً .
الثالثة : الإضافات التى أُلْحِقَتْ بالنص القرآنى وأبرزها :
* نَقْط حروفه لتمييز بعضها من بعض ، مثل تمييز الخاء من الجيم والحاء ، وتمييز الجيم من الخاء والحاء ، وتمييز التاء بوضع نقطتين فوقها عن كل من الياء والباء والنون والثاء .
1- ضبط كلماته بالضم والفتح والكسر والجزم ، مثل : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين " وهذا أمر طارئ على جمع القرآن فى مرحلتيه السابقتين .
2- علامات الوقف:مثل :ج صلى لا قلى م 00 00
3- وضع الدوائر المرقوم فيها أرقام الآيات فى كل سورة .
إن كل هذه الإضافات لم تكن موجودة فى العصر النبوى ، بل ولا فى عهد الخلفاء الراشدين
يذكرون هذا كله ليصوروا أن
الشبهة التى لوحظت فى جمع المصحف الحاوى للقرآن الكريم ، تزرع الشكوك والريوب (جمع ريب) فى وحدة القرآن واستقراره وسلامته من التحريف . فعلام إذن يصر المسلمون على اتهام التوراة التى بيد اليهود الآن أنها لا تمثل حقيقة التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام ؟ أو لماذا يطلقون هذا الوصف على مجموعة " الأناجيل " : التى بيد النصارى الآن ؟
الرد على هذه
الشبهة :
إنًّ تأخير تدوين القرآن عن حياة النبى صلى الله عليه وسلم وجمعه فى مصحف فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لامساس له مطلقًا بوحدة القرآن وصلة كل كلمة بالوحى الإلهى ؛ لأن القرآن قبل جمعه فى مصاحف كان محفوظًا كما أنزله الله على خاتم المرسلين .
والعرب قبل الإسلام ، وفى صدر الإسلام المبكر كانوا ذوى ملكات فى الحفظ لم يماثلهم فيها شعب أو أمة ، من قبلهم أو معاصرة لهم ، ومن يعرف الكتابة والقراءة فيهم قليلون فكانوا يحفظون عن ظهر قلب ما يريدون حفظه من منثور الكلام ومنظومه .
وروعة نظم القرآن ، ونقاء ألفاظه ، وحلاوة جرسه ، وشرف معانيه ، هذه الخصائص والسمات فاجأت العرب بما لم يكونوا يعرفون ، فوقع من أنفسهم موقع السحر فى شدة تأثيره على العقول والمشاعر ، فاشتد اهتمامهم به ، وبخاصة الذين كانوا من السابقين إلى الإيمان به ، وكانوا يترقبون كل جديد ينزل به الوحى الأمين ، يجمعون بين حفظه والعمل به
وكان النبى صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه شئ من الوحى يأمر كُتًّاب الوحى بكتابته فورًا ، سماعًا من فمه الطاهر ثم ينشر ما نزل من الوحى بين الناس .
وقد ساعد على سهولة حفظه أمران :
الأول : نزوله (مُنَجَّمًا) أى مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة ؛ لأنه لم ينزل دفعة واحدة كما كان الشأن فى الوحى إلى الرسل السابقين .
والسبب فى نزول القرآن مُفَرَّقًا هو ارتباطه بتربية الأمة ، والترقى بها فى مجال التربية طورًا بعد طور ومعالجة ما كان يجد من مشكلات الحياة ، ومواكبة حركة بناء الدعوة من أول شعاع فيها إلى نهاية المطاف .(5/46)
الثانى : خصائص النظم القرآنى فى صفاء مفرداته ، وإحكام تراكيبه ، والإيقاع الصوتى لأدائه متلوًّا باللسان ، مسموعًا بالآذان ، وما يصاحب ذلك من إمتاع وإقناع ، كل ذلك أضفى على آيات القرآن خاصية الجذب إليه ، والميل الشديد إلى الإقبال عليه ، بحيث يجذب قارئه وسامعه واقعًا فى أسره غير ملولٍ من طول الصحبة معه .
وتؤدى فواصل الآيات فى القرآن دورًا مُهِمًّا فى الإحساس بهذه الخصائص . ولنذكر لهذا " مثلاً " من سور القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم (والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحًا * فأثرن به نقعًا * فوسطن به جمعًا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بُعثر ما فى القبور * وحُصل ما فى الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير)(1) .
عدد آيات هذه السورة [ العاديات ] إحدى عشرة آية ، وقد وزعت من حيث الفواصل ، وهى الكلمات الواقعة فى نهايات الآيات ، على أربعة محاور ، هى : الثلاث الآيات الأولى ، وكل فاصلة فيها تنتهى بحرف الحاء : ضبحا قدحا صبحا .
والآيتان الرابعة والخامسة ، كل فاصلة فيهما انتهت بحرف العين : نقعا جَمْعا .
والآيات السادسة والسابعة والثامنة ، انتهت فواصلها بحرف الدال : لكنود لشهيد لشديد .
أما الآيات التاسعة ، والعاشرة ، والحادية عشرة ، فقد انتهت فواصلها بحرف الراء : القبور الصدور لخبير .
مع ملاحظة أن حروف الفواصل فى هذه السورة ماعدا الآيات الثلاث الأولى مسبوقة بحرف " مد " هو " الواو " فى : " لكنود " و " الياء " فى : " لشهيد لشديد " .
ثم " الواو " فى : " القبور الصدور ثم " الياء " فى : " لخبير " وحروف المد تساعد على " تطرية " الصوت وحلاوته فى السمع . لذلك صاحبت حروف المد كلمات " الفواصل " فى القرآن كله تقريبًا ، وأضفت عليها طابعًا غنائيًا من طراز فريد (2) جذب الإسماع ، وحرك المشاعر للإقبال على القرآن بشدة أسره إياهم عن طريق السماع ، ليكون ذلك وسيلة للإقبال على فقه معانيه ، ثم الإيمان به .
ومن سمات سهولة الحفظ فى هذه السورة أمران :
أنها سورة قصيرة ، حيث لم تتجاوز آياتها إحدى عشرة آية .
قصر آياتها ، فمنها ما تألف من كلمتين ، وهى الآيات الثلاث الأولى . ومنها ما تألف من ثلاث كلمات ، وهى الآيتان الرابعة والخامسة . ومنها ما تألف من أربع كلمات ، وهى الآيات : السادسة والسابعة والثامنة . وآيتان فحسب كلماتها خمس ، وهما العاشرة والحادية عشرة . وآية واحدة كلماتها سبع ، هى الآية التاسعة .
ونظام " عقد المعانى " فى السورة رائع كروعة نظمها . فالآيات الثلاث الأولى قَسَمٌ جليل بِخَيْلِ المجاهدين فى سبيل الله .
والآيتان الرابعة والخامسة استطراد مكمل لمعانى المقسم به ، شدة إغارتها التى تثير غبار الأرض ، وسرعة عَدْوِِهٍَا ومفاجأتها العدوّ فى الإغارة عليه .
ثم يأتى المقسم عليه فى الآية السادسة : " إن الإنسان لربه لكنود " : عاص لله ، كفور بإنعامه عليه .
وفى الآية السابعة إلماح إلى علم الإنسان بأنه عاق لربه ، شهيد على كفرانه نعمته .
وفى الآية الثامنة تقبيح لمعصية الإنسان لربه ، وإيثار حطام الدنيا على شكر المنعم .
أما الآيات الثلاث الأخيرة من (9) إلى (11) فهى إنذار للإنسان الكفور بنعم ربه إليه .
وهذه السمات ، ليست وقفًا كلها على سورة " والعاديات " بل هى مع غيرها ، سمات عامة للقرآن كله ، وبهذا صار القرآن سهل الحفظ لمن حاوله وصدق فى طلبه وسلك الطريق الحق الموصل إليه (3) .
إن الحفظ كان العلاقة الأولى بين المسلمين وبين كتاب ربهم وكان الحفظ له وسيلة واحدة ضرورية يعتمد عليها ، هى السماع . وهكذا وصل إلينا القرآن ، من بداية نزوله إلى نهايته .
وأول سماع فى حفظ القرآن كان من جبريل عليه السلام الذى وصفه الله بالأمين .
وأول سامع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمع القرآن كله مرات من جبريل .
وثانى مُسَمِّع كان هو عليه الصلاة والسلام بعد سماعه القرآن من جبريل .
أما ثانى سامع للقرآن فهم كُتَّابُ الوحى ، سمعوه من النبى عليه الصلاة والسلام فور سماعه القرآن من جبريل ؛ لأنه كان إذا نزل الوحى ، وفرغ من تلقى ما أنزله الله إليه دعا كُتَّابَ الوحى فأملى على مسامعهم ما نزل فيقومون بكتابته على الفور .
ثم يشيع عن طريق السماع لا الكتابة ما نزل من القرآن بين المؤمنين ، إما من فم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من أفواه كتاب الوحى .
وقد يسَّر الله تعالى لحفظ القرآن واستمرار حفظه كما أنزله لله ، أوثق الطرق وأعلاها قدرًا فكان صلى الله عليه وسلم يقرؤه على جبريل فى كل عام مرة فى شهر رمضان المعظم . ثم فى العام الذى لقى فيه ربه تَمَّ عرض القرآن تلاوة على جبريل مرتين . زيادة فى التثبت والتوثيق(5/47)
وفى هذه الفترة (فترة حياة النبى) لم يكن للقراء مرجع سوى المحفوظ فى صدر النبى عليه الصلاة والسلام ، وهو الأصل الذى يُرجع إليه عند التنازع ، أما ما كان مكتوبًا فى الرقاع والورق فلم يكن مما يرجع إليه الناس ، مع صحته وصوابه .
وكذلك فى عهدى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كان الاعتماد على الحفظ فى الصدور هو المعول عليه دون الكتابة ؛ لأنها كانت مفرقة ، ولم تكن مجموعة .
وكانت حظوظ الصحابة ، من حفظ القرآن متفاوتة ، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير ، ومنهم من يحفظ القدر الكثير ، ومنهم من يحفظ القرآن كله . وهم جمع كثيرون مات منهم فى موقعة اليمامة فى خلافة أبى بكر سبعون حافظًا للقرآن ، وكانوا يسمون حفظة القرآن ب " القُرَّاء " .
ولا يقدح فى ذلك أن بعض الروايات تذهب إلى أن الذين حفظوا القرآن كله من الصحابة كانوا أربعة أو سبعة ، وقد وردت بعض هذه الروايات فى صحيحى البخارى ومسلم لأن ما ورد فيهما له توجيه خاص ، هو أنهم حفظوا القرآن كله وعرضوا حفظهم على رسول الله تلاوة عليه فأقرهم على حفظهم ، وليس معناه أنهم هم الوحيدون الذين حفظوا القرآن من الصحابة (4) .
أول جمع للقرآن الكريم
لم يجمع القرآن فى مصحف فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا فى صدر خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وكان حفظه كما أنزل الله فى الصدور هو المتبع .
وفى هذه الأثناء كان القرآن مكتوبًا فى رقاع متفرقًا . هذه الرقاع وغيرها التى كتب فيها القرآن إملاء من فم النبى صلى الله عليه وسلم ، ظلت كما هى لم يطرأ عليها أى تغيير من أى نوع .
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا فى مصحف واحد فى منتصف خلافة أبى بكر باقتراح من عمر رضى الله عنهما .
وبعد وفاة أبى بكر تسلم المصحف عمر بن الخطاب ، وبعد وفاته ظل المصحف فى حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها (5) .
وفى هذه الفترة كان حفظ القرآن فى الصدور هو المتبع كذلك .
وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة بعد انتقال النبى عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى ، التابعون من الطبقة الأولى ، وكانت علاقتهم بكتاب الله هى الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة ، وحفظًا للقرآن كله ، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعى الكبير الحسن البصرى رضى الله عنه وآخرون .
كان هذا أول جمع للقرآن ، والذى تم فيه هو جمع الوثائق التى كتبها كتبة الوحى فى حضرة رسول الله ، بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها ، ولا معنى لهذا الجمع إلا ما ذكرناه ، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازى صرف . والقصد منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ .
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع فى هذه المرحلة لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية ، التى تم تدوينها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين .
مرحلة الجمع الثانية (6)
كانت هذه المرحلة فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان حافظًا للقرآن كله كما ورد فى الروايات الصحيحة . والسبب الرئيسى فى اللجوء إلى هذا الجمع فى هذه المرحلة هو اختلاف الناس وتعصبهم لبعض القراءات ، إلى حد الافتخار بقراءة على قراءة أخرى ، وشيوع بعض القراءات غير الصحيحة .
وهذا ما حمل حذيفة بن اليمان على أن يفزع إلى أمير المؤمنين عثمان ابن عفان ، ويهيب به أن يدرك الأمة قبل أن تتفرق حول القرآن كما تفرق اليهود والنصارى حول أسفارهم المقدسة . فنهض رضى الله عنه للقيام بجمع القرآن فى " مصحف " يجمع الناس حول أداء واحد متضمنًا الصلاحية للقراءات الأخرى الصحيحة ، وندب لهذه المهمة الجليلة رجلاً من الأنصار (زيد بن ثابت) وثلاثة من قريش : عبد الله بن الزبير ، سعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام . وزيد بن ثابت هذا كان هو رئيس الفريق الذى ندبه عثمان رضى الله عنه لهذه المهمة الجليلة؛ لأنه أى زيد بن ثابت قد تحققت فيه مؤهلات أربعة للقيام بهذه المسئولية وهى :
كان من كتبة الوحى فى الفترة المدنية .
كان حافظًا متقنًا للقرآن سماعًا مباشرًا من فم رسول الله .
كان هو الوحيد الذى حضر العرضة الأخيرة للقرآن من النبى عليه الصلاة والسلام على جبريل عليه السلام .
كان هو الذى جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه .
منهج الجمع فى هذه المرحلة
وقد تم الجمع فى هذه المرحلة على منهج دقيق وحكيم للغاية قوامه أمران :
الأول : المصحف الذى تم تنسيقه فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، وقد تقدم أن مكوّنات هذا المصحف هى الوثائق الخطية التى سجلها كتبة الوحى فى حضرة النبى عليه صلى الله عليه وسلم سماعًا مباشرًا منه .
فكان لا يُقبل شئ فى مرحلة الجمع الثانى ليس له وجود فى تلك الوثائق التى أقرها النبى عليه الصلاة والسلام .(5/48)
الثانى : أن تكون الآية أو الآيات محفوظة حفظًا مطابقًا لما فى مصحف أبى بكر عند رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأقل . فلا يكفى حفظ الرجل الواحد ، ولا يكفى وجودها فى مصحف أبى بكر ، بل لابد من الأمرين معًا :
1- وجودها فى مصحف أبى بكر .
2- ثم سماعها من حافظين ، أى شاهدين ، وقد استثنى من هذا الشرط أبو خزيمة الأنصارى ، حيث قام حفظه مقام حفظ رجلين فى آية واحدة لم توجد محفوظة إلا عند أبى خزيمة ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين عدلين .
قام هذا الفريق ، وفق هذا المنهج المحكم ، بنسخ القرآن ،لأول مرة ، فى مصحف واحد ، وقد أجمع عليه جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعارض عثمان منهم أحدًا ، حتى عبد الله بن مسعود ، وكان له مصحف خاص كتبه لنفسه ، لم يعترض على المصحف "الجماعى" الذى دعا إلى كتابته عثمان رضى الله عنه ، ثم تلقت الأمة هذا العمل الجليل بالرضا والقبول ، فى جميع الأقطار والعصور .
ونسخ من مصحف عثمان ، الذى سمى " المصحف الإمام " بضعة مصاحف ، أرسل كل مصحف منها إلى قطر من أقطار الإسلام ، مثل الكوفة والح
جاز ، وبقى المصحف الأم فى حوزة عثمان رضى الله عنه ، ثم عمد عثمان إلى كل ماعدا " المصحف الإمام " من مصاحف الأفراد المخالفة أدنى مخالفة للمصحف الإمام ، ومنها مصحف الصحابى الجليل ابن مسعود وأمر بحرقها أو استبعادها ؛ لأنها كانت تحتوى على قراءات غير صحيحة ، وبعضها كان يُدخل بعض عبارات تفسيرية فى صلب الآيات أو فى أواخرها .
الفرق بين الجمعين
من نافلة القول ، أن نعيد ما سبق ذكره ، من أن أصل الجمعين اللذين حدثا فى خلافتى أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما كان واحدًا ، هو الوثائق الخطية التى حررت فى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم إملاءً من فمه الطاهر على كتبة الوحى ، ثم تلاوتهاعليه وإقرارها كما تليت عليه هذه الوثائق لم تدخل عليها أية تعديلات ، وهى التى نراها الآن فى المصحف الشريف المتداول بين المسلمين .
وكان الهدف من الجمع الأول فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه هو جمع تلك الوثائق المتفرقة فى مكان واحد منسقة السور والآيات ، دون نقلها فى مصحف حقيقى جامع لها . فهذا الجمع بلغة العصر مشروع جمع لا جمع حقيقى فى الواقع .
ولهذا عبَّر عنه أحد العلماء بأنه أشبه ما يكون بأوراق وجدت متفرقة فى بيت النبى فربطت بخيط واحد ، مانع لها من التفرق مرة أخرى .
أما الجمع فى خلافة عثمان رضى الله عنه فكان نسخًا ونقلاً لما فى الوثائق الخطية ، التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام وأقرها بعد تلاوتها عليه ، وجمعها فى مصحف واحد فى مكان واحد . وإذا شبهنا الوثائق الأولى بقصاصات ورقية مسطر عليها كلام ، كان الجمع فى خلافة عثمان هو نسخ ذلك الكلام المفرق فى القصاصات فى دفتر واحد .
أما الهدف من الجمع فى خلافة عثمان فكان من أجل الأمور الآتية :
1- توحيد المصحف الجماعى واستبعاد مصاحف الأفراد لأنها لم تسلم من الخلل . وقد تم ذلك على خير وجه .
2- القضاء على القراءات غير الصحيحة ، وجمع الناس على القراءات الصحيحة ، التى قرأ بها النبى عليه الصلاة والسلام فى العرضة الأخيرة على جبريل فى العام الذى توفى فيه .
3- حماية الأمة من التفرق حول كتاب ربها . والقضاء على التعصب لقراءة بعض القراء على قراءة قراء آخرين .
وفى جميع الأزمنة فإن القرآن يؤخذ سماعًا من حُفَّاظ مجودين متقنين ، ولا يؤخذ عن طريق القراءة من المصحف ؛ لإن الحفظ من المصحف عرضة لكثير من الأخطاء ، فالسماع هو الأصل فى تلقى القرآن وحفظه . لأن اللسان يحكى ما تسمعه الأذن ، لذلك نزل القرآن ملفوظًا ليسمع ولم ينزل مطبوعًا ليُقرأ .
فالفرق بين الجمعين حاصل من وجهين :
الوجه الأول : جمع أبى بكر رضى الله عنه كان تنسيقًا للوثائق الخطية التى حررت فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام على صورتها الأولى حسب ترتيب النزول سورًا وآيات .
وجمع عثمان رضى الله عنه كان نقلاً جديدًا لما هو مسطور فى الوثائق الخطية فى كتاب جديد ، أطلق عليه " المصحف الإمام " .
أما الوجه الثانى فهو من حيث الهدف من الجمع وهو فى جمع أبى بكر كان حفظ الوثائق النبوية المفرقة فى نسق واحد مضمومًا بعضها إلى بعض ، منسقة فيه السور والآيات كما هى فى الوثائق ، لتكون مرجعًا حافظًا لآيات الذكر الحكيم .
وهو فى جمع عثمان ، جمع الأمة على القراءات الصحيحة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم فى العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام .
أما المتون (النصوص) التى نزل بها الوحى الأمين فظلت على صورتها الأولى ، التى حررت بها فى حياة النبى عليه الصلاة والسلام .(5/49)
فالجمعان البكرى والعثمانى لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أى تعديل أو تغيير أو تبديل ، وفى كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه فى المصاحف ، وبقى السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصورحتى الآن وإلى يوم الدين.
فذلكة سريعة :
العرض الذى قدمناه لتدوين القرآن يظهر من خلاله الحقائق الآتية :
1- إن تدوين متون القرآن (نصوصه) تم منذ فجر أول سورة نزلت بل أول آية من القرآن ، وكان كلما نزل نجم من القرآن أملاه عليه الصلاة والسلام على كاتب الوحى فدونه سماعًا منه لتوه ، ولم يلق عليه الصلاة والسلام ربه إلا والقرآن كله مدون فى الرقاع وما أشبهها من وسائل التسجيل . وهذا هو الجمع الأول للقرآن وإن لم يذكر فى كتب المصنفين إلا نادرًا .
2- إن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذى قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد ، حتى عصرنا الحالى .
- إن الفترة النبوية التى سبقت جمع القرآن فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه ، لم تكن فترة إهمال للقرآن ، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح ، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن (7) . اعتمدوا فيها على ركيزتين بالغتى الأهمية :
الأولى : السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته .
الثانية : الحفظ المتقن فى الصدور .
والسماع والحفظ هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز . وسيظلان هكذا إلى يوم الدين .
- إن القرآن منذ أول آية نزلت منه ، حتى اكتمل وحيه لم تمر عليه لحظة وهو غائب عن المسلمين ، أو المسلمون غائبون عنه ، بل كان ملازمًا لهم ملازمة الروح للجسد .
إن تاريخ القرآن واضح كل الوضوح ، ومعروف كل المعرفة ، لم تمر عليه فترات غموض ، أو فترات اضطراب ، كما هو الشأن فى عهدى الكتاب المقدس (8) التوراة والإنجيل . وما خضعا له من أوضاع لا يمكن قياسها على تاريخ القرآن ، فليس لخصوم القرآن أى سبب معقول أو مقبول فى اتخاذهم مراحل جمع القرآن منافذ للطعن فيه ، أو مبررًا يبررون به ما اعترى كتابهم المقدس من آفات تاريخية ، وغموض شديد الإعتام صاحب وما يزال يصاحب ، واقعيات التوراة والأناجيل نشأة ، وتدوينًا ، واختلافًا واسع المدى ، فى الجوهر والأعراض التى قامت به .
وقد بقى علينا من عناصر شبهاتهم حول جمع القرآن ومراحله ما سبقت الإشارة إليه من قبل ، وهى : النقط والضبط وعلامات الوقف .
المراد بالنَقْط هو وضع النُّقط فوق الحروف أو تحتها مثل نقطة النون ونقطة الباء .
أما الضبط فهو وضع الحركات الأربع : الضمة والفتحة والكسرة والسكون فوق الحروف أو تحتها حسب النطق الصوتى للكلمة . حسبما تقتضيه قواعد النحو والصرف .
أما علامات الوقف فهى كالنقط والضبط توضع فوق نهاية الكلمة التى يجوز الوقف عليها أو وصلها بما بعدها . وهذه الأنواع الثلاثة يُلحظ فيها ملحظان عامَّان :
الأول : أنها لا تمس جسم الكلمة من قريب أو من بعيد ولا تغير من هيكل الرسم العثمانى للكلمات ، بل هى زيادة إضافية خارجة عن " متون " (أصول) الكلمات .
الثانى : أنها كلها أدوات أو علامات اجتلبت لخدمة النص القرآنى ، ولتلاوته صوتيًا تلاوة متقنة أو بعبارة أخرى :
هى وسائل إيضاح اصطلاحية متفق عليها تعين قارئ القرآن على أدائه أداء صوتيًا محكمًا ، وليست هى من عناصر التنزيل ، ولو جرد المصحف منها ما نقص كلام الله شيئًا . وقد كان كتاب الله قبل إدخال هذه العلامات هو هو كتاب الله ، إذن فليست هى تغييرًا أو تبديلاً أو تحريفًا أدخل على كتاب الله فأضاع معالمه ، كما يزعم خصوم القرآن الموتورون .
فالنقط أضيفت إلى رسم المصحف للتمييز بين الحروف المتماثلة كالجيم والحاء والخاء ، والباء والتاء والثاء والنون والسين والشين ، والطاء والظاء والفاء والقاف والعين والغين ، والصاد والضاد .
وقبل إضافة النقط إلى الحروف كان السماع قائماً مقامها ، لأن حفاظ القرآن المتقنين المجوِّدين ليسوا فى حاجة إلى هذه العلامات ، لأنهم يحفظون كتاب ربهم غضًا طريًا كما أنزله الله على خاتم رسله ، أمَّا غير الحفاظ ممن لا يستغنون عن النظر فى المصحف فهذه العلامات النقطية والضبطية والوقفية ترشدهم إلى التلاوة المثلى ، وتقدم لهم خدمات جليلة فى النظر فى المصحف ؛ لأنها كما قلنا من قبل وسائل إيضاح لقراء المصحف الشريف .
فمثلاً نقط الحروف وقاية من الوقوع فى أخطاء لا حصر لها ، ولنأخذ لذلك مثالاً واحدًا هو قوله تعالى : (كمثل جنة بربوة)(9) .
لو تركت " جنة " بغير نقط ولا ضبط لوقع القارئ غير الحافظ فى أخطاء كثيرة ؛ لأنها تصلح أن تنطق على عدة احتمالات ، مثل : حَبَّة حية حِنَّة خبَّة جُنة حِتة خيَّة جيَّة حبة جبَّة .
ولكن لما نقطت حروفها ، وضُبطت كلماتها اتضح المراد منها وتحدد تحديدًا دقيقًا ، طاردًا كل الاحتمالات غير المرادة .(5/50)
وأول من نقط حروف المصحف جماعة من التابعين كان أشهرهم أبوالأسود الدؤلى ، ونصر بن عاصم الليثى ، ويحيى بن يَعْمُر ، والخليل ابن أحمد ، وكلهم من كبار التابعين (10) .
والخلاصة : أن نقط حروف الكلمات القرآنية ، وضبط كلمات آياته ليس من التنزيل ، وأنه حدث فى عصر كبار التابعين ، وإلحاق ذلك بالمصحف ليس تحريفًا ولا تعديلاً لكلام القرآن
وهو من البدع الحسنة وقد أجازه العلماء لأن فيه تيسيرًا على قُرَّاء كتاب الله العزيز ، وإعانة لهم على تلاوته تلاوة متقنة محكمة ، وهو من المصالح المرسلة ، التى سكت الشرع عنها فلم يأمر بها ولم ينه عنها .
وتحقيق المصلحة يقوم مقام الأمر بها ، ووقوع المضرة يقوم مقام النهى عنها .
وهذه سمة من سمات مرونة الشريعة الإسلامية العادلة الرحيمة. أما علامات الوقف فلها أدوار إيجابية فى إرشاد قراء القرآن وتوجيههم إلى كيفية التعامل مع الجمل والتراكيب القرآنية حين تُتلى فى صلاة أو فى غير صلاة .
والواقع أن كل هذه المضافات إلى رسم كلمات المصحف فوق أنها والله سبحانه وتعالى أعلم وسائل إيضاح كما تقدم ، اجتلبت من أجل خدمة النص القرآنى ، تؤدى فى الوقت نفسه خدمة جليلة لمعانى المفردات والتراكيب القرآنية . وقد أشرنا من قبل إلى مهمات النقط فوق أو تحت الحروف ، وعلامات الضبط الأربع : الفتحة والضمة والكسرة والسكون ، فوق أو تحت رسم الكلمات .
ونسوق الآن تمثيلاً سريعًا للمهام الجليلة التى تؤديها علامات الوقف ، التى توضع فوق نهايات الكلمات التى يُوْقَفُ عليها أو لا يُوقف :
قوله تعالى:(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هوصلى ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شىء قدير)(11) .
نرى العلامة (صلى) فوق حرف الواو فى كلمة " هو " وهى ترمز إلى أن الوقف على هذه الكلمة " هو " جائز ووصلها بما بعدها وهو " وإن يمسسك " جائز كذلك إلا أن الوصل ، وهو هنا تلاوة الآية كلها دفعة واحدة بلا توقف ، أولى من الوقف .
والسبب فى جواز الوقف والوصل هنا أن كلاً من الكلامين معناه تام يحسن السكوت عليه ، وكذلك يحسن وصله بما بعده لأنهما كلامان بينهما تناسب وثيق ، ومن حيث البناء التركيبى ، هما شرط " إنْ " ، وفِعْلا الشرط فيهما فعل مضارع ، وهما فعل واحد تكرر فى شرطى الكلامين " يمسسك " والفاعل هو " الله " فيهما . الأول اسم ظاهر ، والثانى ضمير عائد عليه ، أما كون الوصل أولى من الوقف ، فلأن التناسب بين الكلامين أقوى من التباين لفظًا ومعنى ، مع ملاحظة أن جواز الوقف يتيح لقارئ القرآن نفحة من راحة الصمت ، ثم يبدأ رحلة التلاوة بعدها وقوله تعالى :(قل ربى أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل قلى فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرًا)(12) .
علامة الوقف (قلى) موضوعة فوق اللام الثانية من كلمة "قليل" وترمز إلى جواز الوصل والوقف على كلمة " قليل " وأن الوقف عليها أولى من وصلها بما بعدها ، وفى الوقف راحة لنفس القارئ كما تقدم .
وجواز الوقف لتمام المعنى فى الجزء الأول من الآية .
وجواز الوصل ، فلأن الجزء الثانى من الكلام مفرع ومرتب على الجزء الأول (13) .
أما كون الوقف على كلمة " قليل " أولى فى هذه الآية فلأن ما قبلها جملتان خبريتان ، وهما واقعتان مقول القول لقوله تعالى : (قل ربى ..).
أما جملة " فلا تمار فيهم " فهى جملة إنشائية (14) فيها نهى عن الجدال فى شأن أهل الكهف كم كان عددهم والكلام الإنشائى مباين للكلام الخبرى . إذن فالكلامان غير متجانسين . هذه واحدة .
أما الثانية فإن " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا " ، غير داخل فى مقول القول الذى أشرنا إليه قبلاً .
وهذان الملحظان أحدثا تباعدًا ما بين الكلامين لذلك كان الوقف أولى ، إلماحًا إلى ذلك التباين بين الكلامين . والوقف هو القطع بين كلامين بالسكوت لحظة بين نهاية الكلام الأول، وبداية الكلام الثانى ، وله شأن عظيم فى تلاوة القرآن الكريم ، من حيث الألفاظ (الأداء الصوتى) ومن حيث تذوق المعانى وخدمتها ، وقوله تعالى : (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منهج ذلك من آيات الله)(15) .
علامة الوقف (ج) موضوعة فوق " الهاء " نهاية كلمة " منه " وترمز إلى جواز الوقف على " منه " وعلى جواز وصله بما بعده " ذلك من آيات الله " وهذا الجواز مستوى الطرفين ، لا يترجح فيه الوقف على الوصل، ولا الوصل على الوقف. وهذا راجع إلى المعنى المدلول عليه بجزئى الكلام ، جزء ما بعد " منه " وجزء ما قبله .
وذلك لأن ما قبل " منه " كلام خبرى لا إنشائى وكذلك ما بعدها " ذلك من آيات الله .. " فهما إذن متجانسان .
والوقف مناسب جدًا لطول الكلام قبل كلمة " منه " وفى الوقف راحة للنفس ، والراحة تساعد على إتقان التلاوة .(5/51)
والوصل مناسب جدًا من حيث المعنى ؛ لأن قوله تعالى : " ذلك من آيات الله " تركيب واقع موقع " الخبر " عما ذكره الله عز وجل من أوضاع أهل الكهف فى طلوع الشمس وغروبها عنهم .
وقوله تعالى : (الذين تتوفاهم الملائكة طيبينلا يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ..)(16) .
علامة الوقف (لا) موضوعة على " النون " نهاية كلمة "طيبين" ترمز إلى أن الوقف على " طيبين " ممنوع .
والسبب فى هذا المنع أن جملة " يقولون " وهى التالية لكلمة "طيبين" حال من " الملائكة " وهم فاعل " تتوفاهم " .
أما " طيبين " فهى حال من الضمير المنصوب على المفعولية للفعل " تتوفاهم " وهو ضمير الجماعة الغائبين " هم " ولو جاز الوقف على " طيبين " لحدث فاصل زمنى بين جملة الحال " يقولون " وبين صاحب الحال " الملائكة " ولم تدع إلى هذا الفعل ضرورة بيانية .
لذلك كان الوقف على " طيبين " ممنوعًا لئلا يؤدى إلى قطع "الحال" وهو وصف ، عن صاحبه " الملائكة " وهو الموصوف . وهذا لا يجوز بلاغة ؛ فمنع الوقف هنا كان سببه الوفاء بحق المعنى ، ومجىء الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع يفيد وقوع الحدث بالحال والاستقبال مراعاة لمقتضى الحال ؛ لأن الملائكة تقول هذا الكلام لمن تتوفاهم من الصالحين فى كل وقت لأن الموت لم ولن يتوقف .
وقوله تعالى : (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولدم له ما فى السماوات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا )(17) .
علامة الوقف (م) موضوعة على حرف الدال من كلمة " ولد " للدلالة على لزوم الوقف على هذه الكلمة " ولد " وامتناع وصلها بما بعدها وهو : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " .
وإنما كان الوقف ، هنا لازمًا لأن هذا الوقف سيترتب عليه صحة المعنى وليمتنع إيهام غير صحته أما وصله بما بعده فيترتب عليه إيهام فساد المعنى .
بيان ذلك أن الوصل لو حدث لأوهم أن قوله تعالى : " له ما فى السماوات وما فى الأرض " وصف ل " الولد " المنفى ، أى ليس لله ولد ، له ما فى السماوات والأرض ، وهذا لا يمنع أن يكون لله سبحانه ولد ولكن ليس له ما فى السماوات والأرض ؟! وهذا باطل قطعًا .
أما عندما يقف القارئ على كلمة " ولد " ثم يستأنف التلاوة من " له ما فى السماوات وما فى الأرض " فيمتنع أن يكون هذا الوصف للولد المنفى ، ويتعين أن يكون لله عز وجل ، وهذا ناتج عن قطع التلاوة عند " ولد " أى بالفاصل الزمنى بين تلاوة ما قبل علامة الوقف " لا " وما بعدها حتى آخر الآية .
فأنت ترى أن الوقف هنا يؤدى خدمة جليلة للمعنى المراد من الآية الكريمة . ومثله قوله تعالى :(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهمم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون )(18) .
علامة الوقف (م) موضوعة فوق الميم من كلمة " همم " للدلالة على لزوم الوقف عليها ، وامتناع وصلها بما بعدها ، وهو " الذين خسروا أنفسهم " .
وسر ذلك اللزوم ؛ أن الوصل يوهم معنى فاسدًا غير مراد ، لأنه سيترتب عليه أن يكون قوله تعالى : " الذين خسروا أنفسهم " وصفًا ل " أبناءهم " وهذا غير مراد ، بل المراد ما هو أعم من "أبناءهم" وهم الذين خسروا أنفسهم فى كل زمان ومكان . فهو حكم عام فى الذين خسروا أنفسهم ، وليس خاصًا بأبناء الذين آتاهم الله الكتاب .
هذه هى علامات الوقف ، وتلك هى نماذج من المعانى الحكيمة التى تؤديها ، أو جاءت رامزة إليها ، وبقيت حقيقة مهمة ، لابد من الإشارة إليها .
إن خصوم القرآن يعتبرون علامات الوقف تعديلاً أُدْخِل على القرآن ، بعد عصر النزول وعصر الخلفاء الراشدين .
وهذا وهم كبير وقعوا فيه ، لأن هذه العلامات وغيرها ليست هى التى أوجدت المعانى التى أشرنا إلى نماذج منها ، فهذه المعانى التى يدل عليها الوقف سواء كان جائز الطرفين ، أو الوقف أولى من الوصل أو الوصل أولى من الوقف ، أو الوقف اللازم أو الوقف الممنوع . هذه المعانى من حقائق التنزيل وكانت ملحوظة منذ كان القرآن ينزل ، وكان حفاظ القرآن وتالوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبقونها فى تلاوتهم للقرآن ، قبل أن يُدوَّن
القرآن فى " المصحف " هذا هو الحق الذى ينبغى أن يكون معروفًا للجميع ، أما وضع هذه العلامات فى عصر التابعين فجاءت عونًا لغير العارفين بآداب تلاوة القرآن ، دون أن تكون بشكلها جزءا من التنزيل (19) .
تنسيق المصحف :
نعنى ب : تنسيق المصحف " الفواصل بين سوره ب : " بسم الله الرحمن الرحيم " وترقيم آيات كل سورة داخل دوائر فاصلة بين الآيات ، ووضع خطوط رأسية تحت مواضع السجود فى آيات القرآن ، ثم الألقاب التى أطلقت على مقادير محددة من الآيات مثل :
الربع الحزب الجزء . لأن هذه الأعمال إجراءات بشرية خالصة أُلْحِق بعضها بسطور المصحف ، وهو ترقيم الآيات وَوُضِع بعضها تحتها ، كعلامات السجود فى أثناء التلاوة .
أما ماعدا هذين فهى إجراءات اعتبارية عقلية ، تدل عليها عبارات موضوعة خارج إطار أو سُور الآيات .(5/52)
وليس فى هذا مطعن لطاعن ؛ لأنّاَ نقول كما قلنا فى نظائره من قبل إنها وسائل إيضاح وتوجيه لقرَّاء القرآن الكريم توضع خارج كلمات الوحى لا فى متونها ، وتؤدى خدمة جليلة للنص المقدس مقروءاً أو متْلُوًّا .
ولا يدعى مسلم أنها لها قداسة النص الإلهى ، أو أنها نازلة من السماء بطريق الوحى الأمين .
والمستشرقون الذين يشاركون المبشرين (20) فى تَصيُّد التهم للقرآن ، ينهجون هذا النهج " التنسيقى " فى أعمالهم العلمية والفكرية، وبخاصة فى تحقيق النصوص فيضعون الهوامش والملاحق والفهارس الفنية لكل
ما يقومون بتحقيقه من نصوص التراث . ولهم مهارة فائقة فى هذا المجال ، ولم نر واحدًا منهم ينسب هذه الأعمال الإضافية إلى مؤلف النص نفسه ، كما لم نر أحدًا منهم عدَّ هذه الإضافات تعديلاً أو تحريفًا أو تغييرًا للنص الذى قام هو بتحقيقه وخدمته .
بل إنه يعد هذه الأعمال الإضافية وسائل إيضاح للنص المحقق . وتيسيرات مهمة للقراء .
وهذا هو الشأن فى عمل السلف رضى الله عنهم فى تنسيق المصحف الشريف ، وهو تنسيق لا مساس له ب " قدسية الآيات " لأنها وضعت فى المصحف على الصورة التى رُسِمَتْ بها بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تاريخ القرآن (21)
هذا هو تاريخ القرآن ، منذ نزلت أول سورة منه ، إلى آخر آية نزلت منه ، كان كتابًا محفوظا فى الصدور ، متلوًّا بالألسنة ، مسطورًا على الرقاع ، ثم مجموعًا فى مصاحف ، لم يخضع لعوامل محو وقرض، ولا آفات ضياع ، وضعته الأمة فى " أعينها " منذ نَزَلَ فلم يضل عنها أو يغب ، ولم تضل هى عنه أو تغب ، تعرف مصادره وموارده ، على مدى عمره الطويل ، تعرفه كما تعرف أبناءها ، بلا زيغ ولا اشتباه .
هذا هو تاريخ القرآن ، وضعناه وضعًا موجزًا ، لكنه مُلِمٌّ بمعالم الرحلة ، كاشفًا عن أسرارها . وضعناه لنقول لخصوم القرآن والإسلام :
هل فى تاريخ القرآن ما يدعو إلى الارتياب فيه ، أو نزع الثقة عنه ؟
وهل أصاب آياته المحكمة خلل أو اضطراب ؟
وهل رأيتموه غاب لحظة عن الأمة، أو الأمة غابت عنه لحظة؟
وهل رأيتم فيه جهلاً بمصدره ونشأته وتطور مراحل جمعه وتدوينه ؟ أو رأيتم فى آياته تغييرًا أو تبديلاً ؟
تلك هى بضاعتنا عرضناها فى سوق العرض والطلب غير خائفين أن يظهر فيها غش أو رداءة ، أو تصاب ببوار أو كساد من منافس يناصبها العداء .
هذا هو ما عندنا . فما هو الذى عندكم من تاريخ الكتاب المقدس بعهديه (22) .
القديم (التوراة) التى بين أيدى اليهود الآن ، والجديد (الأناجيل) التى بين أيدى النصارى الآن .
ما الذى تعرض له الكتاب المقدس فى تاريخه الأول المقابل لفترة تاريخ القرآن ، التى فرغنا من عرضها ؟
تعالوا معنا نفحص تلك الفترة من تاريخ الكتاب المقدس فى رحلته المبكرة :
مولد التوراة وتطورها :
يضطرب أهل الكتاب عامة ، واليهود خاصة حول تاريخ التوراة (مولدها وتطورها) اضطرابًا واسع المدى ويختلفون حولها اختلافًا يذهبون فيه من النقيض إلى النقيض ، ولهذا عرضوا لتاريخ القرآن بالطعن والتجريح ليكون هو والتوراة سواسية فى فقد الثقة بهما ، أو على الأقل ليُحرجوا المسلمين بأنهم لا يملكون قرآنًا مصونًا من كل ما يمس قدسيته وسلامته من التحريف والتبديل . وقد عرضنا من قبل تاريخ القرآن ، وها نحن نعرض تاريخ التوراة حسبما هو فى كتابات أهل الكتاب أنفسهم ، مقارنًا بما سبق من حقائق تاريخ القرآن الأمين .
الكتاب المقدس بعهديه : القديم والجديد تتعلق به آفتان قاتلتان منذ وجد ، وإلى هذه اللحظة التى نعيش فيها :
آفة تتعلق بتاريخه متى ولد ، وعلى يد من ولد ، وكيف ولد ، ثم ما هو محتوى الكتاب المقدس ؟ وهل هو كلام الله ، أم كلام آخرين ؟ (23) .
والمهم فى الموضوع أن هذا الغموض فى تاريخ الكتاب المقدس لم يثره المسلمون ، بل أعلنه أهل الكتاب أنفسهم يهودًا أو نصارى ممن اتسموا بالشجاعة ، وحرية الرأى ، والاعتراف الخالص بصعوبة المشكلات التى أحاطت بالكتاب المقدس ، مع الإشارة إلى استعصائها على الحلول ، مع بقاء اليهودية والنصرانية كما هما .ومعنى العهد عند أهل الكتاب هو " الميثاق " والعهد القديم عندهم هو ميثاق أخذه الله على اليهود فى عصر موسى عليه السلام ، والعهد الجديد ميثاق أخذه فى عصر عيسى عليه السلام(24) .
والمشكلتان اللتان أحاطتا بالكتاب المقدس يمكن إيجازهما فى الآتى :
- مشكلة أو أزمة تحقيق النصوص المقدسة ، التى تمثل حقيقة العهدين .
- مشكلة أو أزمة المحتوى ، أى المعانى والأغراض التى تضمنتها كتب (أى أسفار) العهدين ، وفصولهما المسماة عندهم ب"الإصحاحات " .
والذى يدخل معنا فى عناصر هذه الدراسة هو المشكلة أو الأزمة الأولى ؛ لأنها هى المتعلقة بتاريخ الكتاب المقدس دون الثانية .
متى ؟ وعلى يد مَنْ ولدت التوراة :
هذا السؤال هو المفتاح المفضى بنا إلى إيجاز ما قيل فى الإجابة .(5/53)
وهو تساؤل صعب ، ونتائجه خطيرة جدًا ، وقد تردد منذ زمن قديم . وما يزال يتردد ، وبصورة ملحة ، دون أن يظفر بجواب يحسن السكوت عليه .
وممن أثار هذا التساؤل فى العصر الحديث وول ديورانت الأمريكى الجنسية ، المسيحى العقيدة ، وكان مما قال :
" كيف كُتبت هذه الأسفار (يعنى التوراة) ومتى كُتبت ؟ ذلك سؤال برئ لا ضير فيه ، ولكنه سؤال كُتب فيه خمسون ألف مجلد ، ويجب أن نفرغ منه هنا فى فقرة واحدة ، نتركه بعدها من غير جواب ؟! (25) .
فقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن خروج موسى من مصر كان فى حوالى 1210 قبل ميلاد السيد المسيح ، وأن تلميذه يوشع بن نون الذى خلفه فى بنى إسرائيل (اليهود) مات عام 1130 قبل الميلاد . ومن هذا التاريخ ظلت التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه السلام مجهولة حتى عام 444 قبل الميلاد ، أى قرابة سبعة قرون (700سنة) فى هذا العام . (444) فقط عرف اليهود أن لهم كتابًا اسمه التوراة ؟
ولكن كيف عرفوه بعد هذه الأزمان الطويلة ؟ وول ديورانت يضع فى الإجابة على هذا السؤال طريقتين إحداهما تنافى الأخرى .
الطريقة الأولى :
أن اليهود هالهم ما حل بشعبهم من كفر ، وعبادة آلهة غير الله ، وانصرافهم عن عبادة إله بنى إسرائيل " يهوه " وأن " الكاهن خلقيا " أبلغ ملك بنى إسرائيل " يوشيا " أنه وجد فى ملفات الهيكل ملفًا ضخمًا قضى فيه موسى عليه السلام فى جميع المشكلات ، فدعا الملك " يوشيا" كبار الكهنة وتلا عليهم سفر " الشريعة " المعثور عليه فى الملفات ، وأمر الشعب بطاعة ما ورد فى هذا السفر ؟
ويعلق وول ديورانت على السفر فيقول: "لا يدرى أحد ما هو هذا السفر؟ وماذا كان مسطورًا فيه ؟ وهل هو أول مولد للتوراة فىحياة اليهود " ؟ .
الطريقة الثانية :
أن بنى إسرائيل بعد عودتهم من السبى البابلى شعروا أنهم فى حاجة ماسة إلى إدارة دينية تهىء لهم الوحدة القومية والنظام العام ، فشرع الكهنة فى وضع قواعد حكم دينى يعتمد على المأثور من أقوال الكهنة القدماء وعلى أوامر الله ؟
فدعا عزرا ، وهو من كبار الكهان ، علماء اليهود للاجتماع وأخذ يقرأ عليهم هو وسبعة من الكهان سفر شريعة موسى ولما فرغوا من قراءته أقسم الكهان والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ، ويتخذوها دستورًا لهم إلى أبد الآبدين (26) .
هذا ما ذكره ديورانت نقلاً عن مصادر اليهود ، وكل منهما لا يصلح مصدرًا حقيقيًا للتوراة التى أنزلها الله على موسى ؛ لأن الرواية الأولى لا تفيد أكثر من نسبة الملف الذى عثر عليه " خلقيا " إلى أقوال موسى وأحكامه فى القضاء بين الخصوم .
ولأن الرواية الثانية تنسب صراحة أن النظام الذى وضعه الكهان ، بعد قراءتهم السفر كان خليطًا من أقوال كهانهم القدماء ، ومن أوامر الله ؟!
===============
الشبهات حول جمع القرآن وترتيبه
النوع الرابع : جمع القرآن وترتيبه
أ- معنى الجمع
ب- مراحل الجمع
-المرحلة الأولى: الجمع الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
1-حفظه في الصدور
حفظ الصحابة للقرآن الكريم (قوة ذاكرتهم الفذة-نزول القرآن منجماً-لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة.-وجوب العمل بالقرآن-حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن-تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن(
2-حفظه في السطور
-المرحلة الثانية: الجمع الثاني في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه
- المرحلة الثالثة: الجمع الثالث في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
السبب الداعي للجمع
جـ- رسم المصحف العثماني والآراء فيه (الرأي الأول-الرأي الثاني-الرأي الثالث-أقوال الفقهاء في الرسم العثماني)
د- تحسين الرسم العثماني (كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل-أول من شكل المصحف-تدرج تحسين المصحف)
هـ- ترتيب آيات القرآن وسوره (تعريف الآية-تعريف السورة-حكمة تقسيم القرآن إلى سور وآيات-مصدر ترتيب القرآن الكريم -ترتيب سور القرآن)
أ- يطلق الجمع على معنيين:
1- المعنى الأول : جمعه بمعنى الحفظ في الصدور ، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى:
{تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [ القيامة: 16-17].
2-المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته في السطور، أي الصحائف التي تضم السورة والآيات جميعها.
ب- مراحل الجمع
المرحلة الأولى: الجمع الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
1- حفظه في الصدور: حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لا سيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العدد من السور الطوال.
ولزيادة التثبيت كان جبريل يعارضه بالقرآن كذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن …(5/54)
وقال أبو هريرة: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه …
حفظ الصحابة للقرآن الكريم:
توفرت للصحابة العوامل التي تجعلهم قادرين على حفظ القرآن وتسهل عليهم هذه المهمة ومن تلك العوامل:
1- قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة من الشعر بالسمعة الواحدة.
2-نزول القرآن منجماً.
3- لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة.
4-وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم.
5- حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارىء من الثواب والأجر العظيم.
6- تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن: فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل أفق أو قبيله أرسل إليهم من القراء من يعلمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية.
1-حفظه في السطور:
وهو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، لا يذهب بذهاب الإنسان، فلا بد أن يتحقق ما تكفل الله بحفظه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9].
لقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جداً، فكان كلما نزل عليه شيء منه دعا الكُتّاب - منهم: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان- فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل:
الرقاع، اللخاف، والأكتاف، والعسب . وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم جهد هؤلاء الكتاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلا في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين.
فتحقق بذلك توفر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم عن أنس رضي الله عنه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن في الرَّقاع… ومقصود هذا الحديث فيما يظهر أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم .
المرحلة الثانية: الجمع الثاني في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.
عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر : كيف تفعل شيئاَ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتّبع القرآن فأجمعه - فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن- قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال: والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر.
فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب و اللِّخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، ولم أجدها مع غيره:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ...} [التوبة: 128- 129]. حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدق توثق ومحافظة، وأودعت لدى الخليفة لتكون إماماً تواجه الأمة به ما يحدث في المستقبل، ولم يبق الأمر موكلاً إلى النسخ التي بين أيدي كَتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفاظ وحدهم.
وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة عظيمة من مناقبه وفضائله. وحسبنا في ذلك ما ثبت عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.
منهج زيد بن ثابت في جمع القرآن:
تتبع زيد في جمع القرآن من العُسُب و اللَّخاف وصدور الرجال، فكان منهجه أن يسمع من الرجال ثم يعرض ما سمعه على ما كان مجموعاً في العُسُب والأكتاف، فكان رضي الله عنه لا يكتفي بالسماع فقط دون الرجوع إلى الكتابة، وكذلك من منهجه في جمع القرآن أنه لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد عليه شاهدان، وهذا زيادة في التحفظ، مع أن زيداً كان من حفظة القرآن .
وبهذا التثبت والتحفظ تم جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.
المرحلة الثالثة: الجمع الثالث في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.(5/55)
عن أنس بن مالكرضي الله عنه: أن حُذيفة بن اليمان قدم عَلى عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.
السبب الداعي للجمع:
السبب الدافع لهذا العمل الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخُشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش.
جـ- رسم المصحف العثماني والآراء فيه.
المراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها ووزعتها في الأمصار.
ويطلق عليه: رسم المصحف، ومرسوم الخط.
الآراء فيه:
الرأي الأول: أن الرسم العثماني ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا يجوز مخالفته.
الرأي الثاني: أن رسم المصحف اصطلاحي لا توفيقي، وعليه فيجوز مخالفته.
الرأي الثالث: أنه توقيفي لا يجوز مخالفته، وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كُتاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابتهم وقضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
أقوال الفقهاء في الرسم العثماني: جمهور العلماء ذهبوا إلى منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الإملاء، للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة.
- وقد صرح الإمام أحمد فيه بالتحريم فقال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك.
- وسئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.
- وجاء في الفقه الشافعي: إن رسم المصحف سنة متبعة.
- وجاء في الفقه الحنفي: أنه ينبغي ألا يكتب بغير الرسم العثماني.
-وقال الإمام أبو عمرو الداني : ولا مخالف له من علماء الأمة.
وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنة متبعة إلى عصرنا هذا، كما قال البيهقي في "شعب الإيمان": واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها.
وكان ذلك للمبالغة في المحافظة والاحتياط على نص القرآن، حتى في مسألة شكلية، هي كيفية رسمه.
لكن استثنوا من ذلك نقط المصاحف وتشكيلها، لتتميز الحروف والحركات، فأجازوا ذلك بعد اختلاف في الصدر الأول عليه، وذلك لما اضطروا إلى ذلك لتلافي الأخطاء التي شاعت بسبب اختلاط العرب بالعجم.
د- تحسين الرسم العثماني
1-كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل اعتماداً على السليقة العربية التي لا تحتاج إلى مثل هذه النقط والتشكيلات، وظلت هكذا حتى دخلت العجمة بكثرة الاختلاط، وتطرق اللحن إلى اللسان العربي، عندئذ أحسَّ أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصاحف بالتنقيط والشكل والحركات مما يساعد على القراءة الصحيحة.
2- من شكل المصحف:
أ- اختلف العلماء في ذلك، منهم من قال: أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع ضوابط اللغة العربية بأمر من سيدنا علي بن أبي طالب. يروي أنه سمع قارئاً يجر اللام من رسوله في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، فغير المعنى، ففزع لهذا اللحن وقال: عز الله وجل أن يبرأ من رسوله، فعندئذ قام بوضع ضوابط التشكيل حفاظاً عليه من اللحن.
ب- ومن العلماء من قال: أول من شكل المصحف : الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي بأمر من الحجاج.
3- تدرج تحسين رسم المصحف: كان الشكل في الصدر الأول نقطاً، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة نقطة على آخره، والكسرة نقطة تحت أول الحرف، ثم تدرج، فأصبحت الفتحة شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة واواً صغيرة فوقه، ثم بعد ذلك مر المصحف في طور التجديد والتحسين على مر العصور حتى استقر على هذا الشكل الذي هو عليه الآن من الخطوط الجميلة الواضحة، وابتكار العلامات المميزة، والاصطلاحات المفيدة، فجزى الله من سبقونا في خدمة قرآن ربنا خير جزاء.(5/56)
هـ- ترتيب آيات القرآن وسوره
1- تعريف الآية:
لغة: أصلها بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ} [البقرة: 248].
اصطلاحاً: فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديراً، ذو مبدأ و مقطع، مندرج من سورة.
2- تعريف السورة:
لغة: من سور المدينة، أو من السورة بمعنى المرتبة والمنزلة الرفيعة.
اصطلاحاً: قرآن يشمل على آيٍ ذوات فاتحة وخاتمة . وأقلها ثلاث آيات.
3- حكمة تقسيم القرآن إلى سور وآيات
منها: أن القارىء إذا ختم سورة أو جزأً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله.
ومنها: أن الحافظ إذا حَذَق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة، فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا.
4-مصدر ترتيب القرآن الكريم.
أجمع العلماء سلفاً فخلفاً على أن ترتيب الآيات في السورة توقيفي، أي اتبع فيه الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، لا يشتبه في ذلك أحد.
والأحاديث في إثبات التوقيف في ترتيب الآيات في السور كثيرة جداً تفوق حد التواتر، إلا أننا سنذكر أمثلة منها:
أخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا أبن أخي لا أغيرّ شيئاً منه من مكانه.
وأخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شَخَص ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: " أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...} [النحل: 90] إلى آخرها.
5- ترتيب سور القرآن:
جماهير العلماء على أن ترتيب سورة القرآن توقيفي، وليس باجتهاد من الصحابة.
والأدلة على أن ترتيب السور كلها توقيفي كثيرة جداً نذكر منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، إنهن من العتآق الأول، وهن من تلادي.
فذكر ابن مسعود السور نَسَقاً كما استقر ترتيبها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد.
ويشهد لذلك من حيث الدراية والعقل واقع الترتيب وطريقته، وذلك من وجهين لا يشك الناظر فيهما، أن الترتيب بين السور توقيفي:
الأول: مما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت ولاءَ، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، وأخرت طس عن القصص.
الثاني: ما راعاه العلماء الأئمة في بحوثهم من التزام بيان أوجه التناسب بين كل سورة وما قبلها، وبيان وجه ترتيبها.
================
رد شبهات أسباب النزول للقرآن وشرحها
النوع الثالث: أسباب النزول.
أ- تعريف السبب
ب-أسباب النزول
قسم نزل بدون سبب وهو أكثر القرآن
قسم نزل مرتبط بسبب من الأسباب
جـ- الحكمة والفوائد من أسباب النزول
الحكمة (معرفة وجه ما ينطوي عليه تشريع الحكم)
الفوائد (الاستعانة على فهم الآية وتفسيرها- أن لفظ الآية يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه-جـ- دفع توهم الحصر- معرفة اسم النازل فيه الآية)
د-كيفية معرفة أسباب النزول
هـ- صيغة السبب
و- اختلاف روايات أسباب النزول
أ- ضعف الرواة
ب- تعدد الأسباب والمُنَزَّل واحد
ج- أن يتعدد نزول النص لتعدد الأسباب
ز- تعدد النزول مع وحدة السبب
حـ- تقدم نزول الآية على الحكم (المثال الأول - المثال الثاني -المثال الثالث - تعدد ما نزل في شخص واحد -موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه -نزلت آيات في سعد بن أبي وقاص)
ي_ أمثلة عن أسباب النزول قوله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس" -قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم "- قوله تعالى: يا أيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء "-قوله تعالى: " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا"-قوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها"-قوله تعالى: " ولا تكرهوا فتياتكم على البِغاء"-قوله تعالى: " ووصينا الإنسان بوالديه حسناً "-قوله تعالى:" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم "
شرح كل النقاط الواردة بالترتيب:
أ- تعريف السبب:
لغة: الحبل. ثم استعمل لكل شيء يتوصل به إلى غيره.
شرعاً: ما يكون طريقاً للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه. مثاله: زوال الشمس علامة لوجوب الصلاة، وطلوع الهلال علامة على وجوب صوم رمضان في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
ب-أسباب النزول:
1 - قسم نزل بدون سبب ، وهو أكثر القرآن.
2- قسم نزل مرتبط بسبب من الأسباب. ومن هذه الأسباب:(5/57)