2. لقد نهانا الله أن نجلس في مكان يسب في الله ورسوله ويكفر فيه بكلامه ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140)
3. أنهم لا يثيرون شبهات حول الإسلام لغرض التعلم أو المعرفة ولو كانوا كذلك لذهبوا إلى أهل العلم وسألوهم ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83) فمقصدهم خبيث وهو إبعاد المسلمين عن دينهم وتشكيكهم في عقيدتهم فهل نبلغهم هدفهم ؟ .
4. قد يتلمس بعض المسلمين لأنفسهم أعذارا بحجة أنهم يذهبون إلى غرفهم للاستماع إلى مايثيرونه من شبهات لأجل دراستها والرد عليها وأقول لمن يقول بذلك عذرك غير مقبول لأنك نسيت أن المبدأ الإسلامي لا يوافق على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة والمبدأ الإسلامي الغاية والوسيلة لابد أن تتوافق مع شرع الله فلا يحل للمحتسب أن يدخل بيتا دون إذن أهله بحجة أن يراقبهم كي يمسك بهم وهم على معصية وبالتالي فلا يحل لك أن تخالف أمر الله وتدخل في غرفهم بحجة الاستماع لشبههم حول الإسلام .
5. في دخول المسلمين لغرفهم تشجيعا لهم على الاستمرارية وزيادة لأعداد الداخلين عندهم ويعتبرون ذلك دليلا على نجاح عملهم وزيادة لأجورهم من الجهات العليا التي تمولهم وتساندهم ، فيكون دخول مما يدعم استمرارهم ومحاربتهم لله ولرسوله .
6. إننا إذا قاطعناهم نهائيا ولم يجدوا مسلما يشككونه فإنهم سيأتون بواحد منهم ويدعي أنه مسلم ويمثلون حوارا مفتعلا حتى يجدوا مسلما فإن لم يجدوا يأسوا واستمر يأسهم فيتوقفون عن اعتدائهم السافر على الله ورسوله وصحابته الكرام .
والآن : وبعد أن سمعتم بيان الحكم الشرعي بحرمة الدخول عندهم .
هل ندخل عندهم ؟ بالطبع لا وألف لا .
فإذا رأينا من يدخل عندهم من المسلمين بعد كل ذلك فماذا يكون موقفنا منه ؟
أرى أن من يعرف الحكم ويتضح له ونبين له أن يمتنع فإذا دخل بعد ذلك فإنما هو واحد منهم وإن تظاهر أنه مسلم وسمى نفسه باسم المسلمين .
أيها الأخوة : أعزوا أمر الله يعزكم الله ولا ترضوا الذلة والمهانة لدينكم ولا تدخلوا عندهم وتكونوا تحت ولا يتهم وتجعلوا من عباد الصليب أمراءً عليكم فترفعون أيديكم لهم فيأذنون لكم بالكلام أو يؤخرونكم أو يوافقون على بقائكم في غرفهم أو يطردونكم .
واسمحوا لي الآن أن أتناول شبهة من الشبهات التي يثيرونها ضد الإسلام لا لأدفع ثغرة عن ديننا ولكن لأبين جهلهم وأظهر لكم أنهم بغباوتهم أرادوا أن يسيئوا للإسلام فارتدت الإساءة عليهم وبقي الإسلام شامخا مرفوع الرأس عزيزا قويا كما أراد له الله .
كما سأوضح لكم من خلال هذه الدراسة أن كل شبهة يثيرونها ما هي إلا جانبا من جوانب العظمة في هذا الدين العظيم .
وأقول وبالله تعالى التوفيق :
من هذه الشبهات ما كان من أحد النصارى في البالتوك في إحدى الغرف الإسلامية وعلى إثر حوار معين حول جواز سب البابا الهالك أو عدم جواز سبه وكنت ممن يرى عدم سبه وخالفني في ذلك بعض إخواني المسلمين - وكل منا له رأيه - فطمع فيَّ أحد النصارى واسمه الغراب – طمع هذا الذي سمى نفسه بالغراب أن يُنَصرَني - لما رأى من هدوئي في الحوار مع إخواني بضرورة عدم السب والشتم لمن خالفنا من النصارى ، فرأيته يخاطبني على الخاص ويقول لي أن عيسى وهو المسيح وبنص القرآن الكريم إله ولكنكم ترفضون ذلك رغم إيمانكم بالقرآن .
فقلت له القرآن الكريم ينص على أن عيسى – عليه السلام إله ؟
قال نعم .
قلت فأين ذلك في القرآن الكريم ؟
فذكر الآية الكريمة من سورة آل عمران :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وبالطبع رجعت إلى تفسير الآية الكريمة لأكثر من تفسير فلم أجد في نص الآية ولا في تفسيرها ما يشير من قريب ولا من بعيد إلى ألوهية عيسى عليه السلام .
ومعنى الآية :
كما جاء في تفسير القرطبي بتصرف يسير :
قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)(3/44)
قال ابن جريج: الكتاب الكتابة والخط. وقيل: هو كتاب غير التوراة والإنجيل علمه الله عيسى عليه السلام.
( ورسولا ) ي ونجعله رسولا. أو يكلمهم رسولا. وقيل: هو معطوف على قوله (وجيها) وفي حديث أبي ذر الطويل (وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليه السلام)
"أني أخلق لكم " أي أصور وأقدر لكم. "من الطين كهيئة الطير "
قرأ الأعرج وأبو جعفر "كهيّة " بالتشديد. الباقون بالهمز.
"فأنفخ فيه " أي في الواحد منه أو منها أو في الطين فيكون طائرا .
قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الله تعالى.
وقيل: لم يخلق غير الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا، وهي تحيض وتطهر وتلد. ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق؛ ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يُسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة.
ويقال:
إن سؤالهم كان له على وجه التعنت فقالوا: أخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك؛ فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض؛ وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله.
قوله تعالى: "وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله "
الأكمه: الذي يولد أعمى؛ عن ابن عباس. وكذا قال أبو عبيدة قال: هو الذي يولد أعمى؛
والبرص : معروف وهو بياض يعتري الجلد، والأبرص القمر، وسامُّ أبرص معروف، ويجمع على الأبارص. وخُص هذان بالذكر لأنهما عياءان.
وكان الغالب على زمن عيسى عليه السلام الطب فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك.
"وأحيي الموتى بإذن الله "
قيل: أحيا أربعة أنفس: العاذر: وكان صديقا له، وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح؛ فالله أعلم.
فأما العاذر فإنه كان قد توفى قبل ذلك بأيام فدعا الله فقام بإذن الله وودكه يقطر فعاش وولد له،
وأما ابن العجوز فإنه مر به يُحمل على سريره فدعا الله فقام ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله.
وأما بنت العاشر فكان أتى عليها ليلة فدعا الله فعاشت بعد ذلك وولد لها؛ فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا فأصابتهم سكتة فأحيي لنا سام بن نوح.
فقال لهم: دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه، حتى انتهى إلى قبره فدعا الله فخرج من قبره وقد شاب رأسه. فقال له عيسى: كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله، إنك دعوتني فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي. فسأله عن النزع فقال: يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي؛ وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي؛ فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا: هذا سحر.
قوله تعالى: [ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين] أي بالذي تأكلونه وما تدخرون. وذلك أنهم لما أحيا لهم الموتى طلبوا منه آية أخرى وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد؛ فأخبرهم فقال: يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا؛ فذلك قوله [وأنبئكم] الآية. وقرأ مجاهد والزهري والسختياني [وما تذخرون] بالذال المعجمة مخففا. وقال سعيد بن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتاب بما يدخرون حتى منعهم آباؤهم من الجلوس معه.
قال قتادة: أخبرهم بما أكلوه من المائدة وما ادخروه منها خفية.
وبإعادة النظر للآية الكريمة نلحظ الآتي :
أولا : بدأت الآية بقول الله تعالى : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ ) وهو تصريح بين واضح أنه رسول وليس إله وفيها أيضا تحديد للجهة المرسل إليها وفي ذلك دليل على خصوصية المهمة وكون ديانته ديانة خاصة ببني إسرائيل دون سواهم فإذا جاء بولس بعد ذلك وجعل من رسالة المسيح الخاصة رسالة عامة يكون قد غير وبدل في رسالة الله للمسيح عيسى عليه السلام .
وفي الآية ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي جئتكم بعلامة من ربكم ولو كان هو ربهم لكانت العلامة منه وليس من غيره .
ولعل قائلهم يقول أنه قال ( بآية من ربكم ) ولم يقل ربي فيستدل بذلك على كونه إله أو ابن إله فأقول :
أن الله العليم الخبير قد سبق علمه بما يدور في نفوس الخبثاء من عباده فرد عليهم بالآية رقم (51) من نفس السورة ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) (آل عمران:51) فهل يكون الإله مفتقر إلى رب آخر يخلقه ويعبده من كان عنده بقية عقل لا يقول ذلك .(3/45)
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ )
فقد يستدلون بأن الذي يخلق إنما هو إله واستلالهم بذلك يدل على جهلهم فقد يستدل بجزء من الآية بما يتنافى مع آخره إنه يقول بإذن الله أي أنني أفعل شيئا ليس بإذني ولا بقدرتي ولكنه بإذن الله الذي أرسلني وعليه فيكون مفهوم الآية أنني أحمل لكم ما يدل على أن الذي أرسلني هو الله الخالق ودليلي على ذلك أنني سأريكم شيئا يدل على أن الله الخالق هو الذي أرسلني .
وكما تعلمون أنه أرسل إلى بني إسرائيل وهم أهل كتاب ويعرفون أن الله هو الخالق وأن أمر الخلق محسوم لله ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى وبالتالي فهو يخبرهم بأن الخالق الذي أرسله إليهم والذي يعرفونه ويؤمنون به أرسله وجعل دليل نبوته وصحة رسالته شيئا من خصائص الله ولكن لم يفته أن ينسب ذلك لله فلم يعترف اليهود به رسولا من عند الله وأنكروه وقرروا صلبه وقتله وبالغ النصارى فرفعوه فوق قدره وجعلوه إلها يعبد من دون الله .
فكان أمر الناس فيه بين منكر له وكافر به وبين مبالغ فيه ورفعه إلى مقام الألوهية حتى جاء الإسلام فأنصفه المسلمون وأعطوه حقه اللائق به من النبوة والرسالة فشهدوا له بالحق الذي أرسله الله من أجله وجاء القرآن ليشهد له أنه قد بلغ ما أمر بتبليغه دون تقصير أو تفريط قال تعالى ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:117) ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118)
فالقرآن الكريم يشهد لعيسى بن مريم بأنه بلغ ما أمره الله بتبليغه ويشهد له بأدبه الرفيع وأخلاقه الحسنة وحبه لعباد الله وتفويض أمرهم إليه سبحانه وتعالى ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة:118) لك الله يا نبي الله ما أحسن قولك وما أشد أدبك وما أجمل حديثك مع ربك ولما لا وأنت قد أرسلك ربك وأعدك وجهزك لتحمل رسالته إلى بني إسرائيل وهم قوم عرفوا بالجدل والمراوغة .
( وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ )
وآية أخرى ومعجزة كبرى وهي أنني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله فانتم يابني إسرائيل تعلمون أنني لم أتعلم الطب وقد عشت بينكم لم يعلمني منكم أحد وقد عجزتم عن إبراء الأكمه والأبرص وأما أنا فبإذن الله أبرئ الأكمه والأبرص بل وأحيى الموتى بإذن الله فهل تؤمنوا بي وتتبعوني وتصدقونني فيما أرسلت به ؟
( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:49) كل هذه الآيات البينات لأبرهن لكم على صدق رسالتي وأن الله أرسلني إليكم فهل تؤمنون بي وتتبعونني فيما جئت إليكم به من ربكم .
( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (آل عمران:50) إنني يا معشر بني إسرائيل ما جئت لكم بدين جديد ولا جئت بما تكرهونه بل جئت مصدقا لما بين أيديكم من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، أي جئت لأخفف عنكم فهل تقبلون مني رسالة ربكم ؟
يا بني إسرائيل ها هي الآيات البينات الواضحات وها هي رسالة ربكم فاقبلوها .
ولكن هل قبل بنو إسرائيل رسالة ربهم بالطبع لا بل رفضوها وقرروا قتل عيسى ابن مريم فنجاه الله من أيديهم ولم يمكن عباد العجل وإخوان القردة والخنازير ومن قالوا على ربهم يد الله مغلولة ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة:64) ومن قالوا على ربهم إن الله فقير ونحن أغنياء ( لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181)(3/46)
لقد أعدوا له محاكمة وقرروا قتله فلم يمكنه الله من عبده ورسوله عيسى عليه السلام ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) (النساء:157) ()بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:158) يا لحقارة اليهود يرفضون رسالة ربهم ويقررون قتل رسوله فيجعل الله كيدهم في نحورهم ويلقي شبهه على أحدهم فيقتلونه جزاء وفاقا ويا لغباوة النصارى حينما يرفضون القرآن الذي يبرأ أم المسيح وينجي المسيح من كيد اليهود ويصدقون اليهود ويبنون عقيدتهم على أن اليهود قتلوا نبيهم وصلبوه وضربوه بالنعال على وجهه ورأسه وبصقوا في وجهه .
ثم أردف هذا الغراب الذي يحاورني ويطمع في تنصيري قائلا :
بما أن عيسى خلق فهو إله لأن الخالق حتما ولابد أن يكون إلها ثم عقب بقول الله تعالى :
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ( النحل17 )
وكلام هذا النصراني مردود عليه لأن عيسى لم يخلق خلقا سويا باقيا متناسلا من تلقاء نفسه بل كان خلقا مؤقتا ليبرهن لهم على صدق نبوته مع ذكر من أذن له بذلك وهو الله ولنقرأ الآية الكريمة ليتأكد لنا نسبة الفعل إلى الله وليس إلى عيسى عليه السلام :
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }آل عمران49
وإذا كان عيسى قد صنع من الطين كهيئة الطير فصار طيرا بإذن الله فمن قبله موسى رمى عصاه فصارت حية تسعى أيضا بإذن الله ولم يقل أحد أنه إله والحية مخلوق له روح كالطائر الذي ذكر في شان عيسى بل أن الحية كانت اكبر من الطائر وابتلعت حبال وعصي السحرة التي أوهموا الناس أنها تتحرك .
وكما تعلمون أيها الأخوة أن الله يؤيد أنبياءه بمعجزات ولكي تكون معجزة لابد أن تكون أمرا خارقا للعادة وأن تكون من جنس ما نبغ فيه القوم المرسل إليهم هذا النبي ومن ذلك موسى عليه السلام أرسل على قوم انتشر فيهم السحر فكانت معجزته أن أيده الله بشيء عجز عنه السحرة بل لم يقفوا عند حد العجز ولكنه تيقنوا أن ما جاء به موسى عليه السلام من العصا التي انقلبت إلى حية والتهمت ما قدموه من سحر وكان متمثلا في حبال وعصي أعلنوا إيمانهم بالله رب العالمين وقالوا كما جاء ذكر القرآن الكريم ونكتفي بذكر مشهد واحد فقط من مشاهد القرآن الكريم في قضية موسى عليه السلام مع فرعون وهذا هو ماورد في سورة الشعراء :
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ{29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ{30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ{33}
وثمة معجزة أخرى لموسى بن عمران عليه السلام فقد حدث أن رجلا قتل من بني إسرائيل ولم يعرفوا من قتله فأحياه الله على يد موسى وأخبر عن قاتله وفي ذلك أشار القرآن الكريم
( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ{72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{73}
ومع أنها إحياءٌ للموتى مثل إحياء الموتى عند عيسى عليه السلام فقد وقفت عند كونها معجزة أيد الله بها نبوته فقط
و لم يقل أحد أن موسى إله أو ابن الله .
وفي زمن عيسى عليه السلام كان الناس قد اشتغلوا بالطب ولكنهم عجزوا عن أمور منها إبراء الأكمه وهو الذي ولد أعمى والأبرص وهو المرض الجلدي المعروف وكذلك أن يتكلم ميت بعد موته فأيده الله بما عجز عنه قومه وهم يعلمون أنه لم يدرس الطب ولا غيره ليعلموا أن هذا الإعجاز من عند الله فيكون أدعى لإيمانهم .
وحجة النصارى تكمن في كون معجزة عيسى لا يقدر عليها بشر فإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى مما يعجز عنه بشر وطالما أن عيسى فعله فهو إله .
والجواب :
أقول لهم إن كانت عندهم بقية عقل كل المعجزات التي أتى بها الأنبياء يعجز عنها البشر ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثلها .
فهل كل الأنبياء آلهة ؟
فمعجزة صالح عليه السلام الناقة(3/47)
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }الأعراف73
ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا لمَّا عبدوا الأوثان من دون الله تعالى. فقال صالح لهم: يا قوم اعبدوا الله وحده; ليس لكم من إله يستحق العبادة غيره جل وعلا، فأخلصوا له العبادة, قد جئتكم بالبرهان على صدق ما أدعوكم إليه, إذ دعوتُ الله أمامكم, فأخرج لكم من الصخرة ناقة عظيمة كما سألتم, فاتركوها تأكل في أرض الله من المراعي, ولا تتعرضوا لها بأي أذى, فيصيبكم بسبب ذلك عذاب موجع.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ }هود64
ويا قوم هذه ناقة الله جعلها لكم حجة وعلامة تدلُّ على صدقي فيما أدعوكم إليه, فاتركوها تأكل في أرض الله فليس عليكم رزقها, ولا تمسُّوها بعَقْر, فإنكم إن فعلتم ذلك يأخذكم من الله عذاب قريب من عَقْرها.
{فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }الأعراف77
فنحروا الناقة استخفافا منهم بوعيد صالح, واستكبروا عن امتثال أمر ربهم, وقالوا على سبيل الاستهزاء واستبعاد العذاب: يا صالح ائتنا بما تتوعَّدنا به من العذاب, إن كنت مِن رسل الله.
فهل يقدر بشر أن يأتي بناقة من الجبل أو من الصخر كناقة صالح ؟
بالطبع لا وألف لا ؟
ومع ذلك لم يدعي أحد أن صالحا إله أو ابن الله
ومعجزة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – القرآن الكريم وتحدى الله به أرباب الفصاحة والبلاغة وهم أهل اللغة والشعر والأدب ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13
بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل "مكة": إن محمدًا قد افترى هذا القرآن؟ قل لهم: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله مفتريات, وادعوا من استطعتم من جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر, إن كنتم صادقين في دعواكم.
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة23
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – , وتزعمون أنه ليس من عند الله, فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن, واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم, إن كنتم صادقين في دعواكم
وعجز القوم كما عجز غيرهم وما زال العجز فيهم وسيظل إلى أن تقوم الساعة ومع ذلك لم يقل أحد ان محمدا إله بل نهى النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أمته أن يبالغوا في مدحه فقال ) لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )
ولولا أن القرآن أخبرنا عن معجزات الأنبياء السابقين ما صدقنا ولا كذبنا لأننا لم نرى شيئا وهي تكون لمن كان موجودا في زمن الرسول الذي أيده الله بهذه المعجزة أو بغيرها ، ولكن بقيت معجزة نبينا الخالدة ألا وهي القرآن الكريم بين أيدينا حتى الآن وستظل رغم أنف الحاقدين والمارقين إلى أن تقوم الساعة فهل كسبوا التحدي وأتوا بقرآن مثله أم عجزوا هم وأسلافهم وسيظل العجز لازم لهم إلى أن تقوم الساعة فهل من معتبر ؟ فهل من متبع للحق ؟ فهل من عاقل يقبل الحق ويتخلى عن باطله ؟ صدق الله العظيم ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56)
أيها الأخوة والأخوات
إلى هنا نأتي إلى نهاية هذا اللقاء داعيا المولى عز وجل أن يحفظكم ويرعاكم وأن يهدي الضالين من عباده إلى الحق الذي هو الإسلام وأن يزيدكم إيمانا مع إيمانكم ويقينا مع يقينكم وأن يوفقكم للسير على الصراط المستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ }الشورى53
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / صبري عسكر
إمام وخطيب بالأوقاف المصرية
=====================
===================
ما الدليل على أن الدين الإسلامي هو الدين الصحيح وليست المسيحية أو اليهودية؟(3/48)
لقد أرسل الله رسله جميعاً بالإسلام، فأمروا قومهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يكفروا بما عداه من المعبودات الباطلة، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ {النحل:36}، فدين الأنبياء واحد، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ {آل عمران:19}، ولكن الاختلاف بينهم في الشريعة والأحكام، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا {المائدة:48}، وقال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد. رواه البخاري،
وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء بتصديق النبي محمد وأتباعه لو جاءهم، ولما بعثه سبحانه جعل شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع وأوجب على العالمين اتباعه، هذا ولم يستقم أتباع موسى وعيسى عليهما السلام على أمر ربهم، فعمد الأحبار والرهبان إلى التوراة والإنجيل فحرفوهما بما يتوافق مع أهوائهم، قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ {المائدة:13}، وإلا فإن التوراة والإنجيل آمران بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فمن كفر بمحمد فقد كفر بالتوراة والإنجيل، .
ولقد حفظ الله القرآن عن التغيير والتبديل، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر:9}، فلحفظ الله له لم يتبدل منه حرف على مرور القرون، مع شدة الحملة من الكفار على المسلمين، وغزو الصليبيين والتتار، ومحاولات الاستعمار الحديث والمستشرقين، إلا أن جميع كيدهم ذهب أدراج الرياح، وهذا من المعجزات. ولقد تحدى نبينا محمد البشر جميعاً بتلك المعجزة الباقية، وهي القرآن فعجزوا أن يأتوا بمثل سورة من سوره.
ومن الأدلة على أن الإسلام هو الدين الحق..... –العقيدة الصافية، فالله وحده هو المتصرف في الكون، لا شريك له في الخلق والرزق، ولا يدبر معه الأمر أحد، ولا يستحق أحد من دونه أن يعبد، كما أنه موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، بينما في النصرانية الرب عندهم يتزوج وينجب ( سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً )، فالإسلام يبطل عقيدة التثليث عند النصارى ويبطل ألوهية عيسى وأمه، قال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ {المائدة:75}، فالإله لا يأكل ولا يشرب ولا يلد ولا يولد، بل هو الغني عما سواه، فكيف يكون عيسى وأمه إلهين؟.
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق: شرائعه الواقعية، فهو يبيح الزواج بالنساء، ويرغب فيه، ولا يأمر بالرهبنة والتبتل، لكنه يحرم الزنا، والإسلام يبيح المعاملات بين الناس ولكنه يحرم الربا، ويبيح جمع المال من حله ولكنه يوجب الزكاة للفقراء، ويبيح الطعام ويستثني الميتة ولحم الخنزير ونحوهما، وغير ذلك من الشرائع الواقعية التي تناسب حاجات البشر ولا تضيق عليهم؟
ومن الأدلة كذلك على أن الإسلام هو دين الحق: موازنته بين متطلبات الروح وحاجات البدن، ومن الأدلة على أن دين الإسلام هو دين الحق عدم مصادمة عقائده وتشريعاته للفطرة والعقل، فما من خير يدل عليه العقل إلا والإسلام يحث عليه ويأمر به، وما من شر تأنفه الطباع وينفيه العقل إلا والإسلام ينهانا عنه،
ومن الأدلة على أن الإسلام هو دين الحق –إعجاز القرآن– فهو مع احتوائه على أكثر من ستة آلاف آية، ومع طرقه لموضوعات متعددة، فإنك لا تجد في عباراته اختلافاً بين بعضها البعض، كما لا تجد معنى من معانيه يعارض معنى، ولا حكماً ينقض حكماً، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {النساء:82}، ومن وجوه إعجاز القرآن: انطباق آياته على ما يكشفه العلم من نظريات علمية، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {فصلت:53}، ومن أوضح ما أثبته القرآن من أن الجنين يخلق في أطوار، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة،.... إلخ ولم يقرر ذلك العلم التجريبي الحديث إلا في عصرنا الحديث، مع أن القرآن قرره قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن.(3/49)
ومن أوجه إعجاز القرآن كذلك، إخباره بوقائع لا يعلمها إلا علام الغيوب، ومنها ما أخبر بوقوعه في المستقبل، كقوله تعالى: ألم* غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ {الروم}، وقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ {الفتح:27}، وكذلك قص القرآن قصص أمم بائدة ليست لها آثار ولا معالم، وهذا دليل على أن هذا القرآن منزل من عند الله الذي لا تخفى عليه خافية في الحاضر والماضي والمستقبل، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا {هود:49}، ومن وجوه إعجاز القرآن كذلك فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره، فليس فيه ما ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، وحسبنا برهاناً على ذلك شهادة الخبراء من أعدائه، واعتراف أهل البيان والبلاغة من خصومه، فلقد بهتوا أمام قوة تأثيره في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب، قال الوليد بن المغيرة وهو من ألد أعداء الرسول: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. والحق ما شهدت به الأعداء.
====================
الدّين هل استنفد أغراضه ؟
ظن كثير من الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في نشوة الانتصارات العلمية ، أن الدين قد استنفد أغراضه ، وأخلى مكانه للعلم !
وعلى هذا الظن معظم " علماء " الاجتماع و " علماء " النفس في العالم الغربي . فهذا فرويد مثلاً يقسم حياة البشرية إلى ثلاث مراحل سيكلوجية : الأولى مرحلة الخرافة ، والثانية مرحلة التدين ، والثالثة والأخيرة هي مرحلة العلم !
وقد شرحنا في المقدمة الأسباب والملابسات التي أدت بعلماء أوربا إلى اعتناق هذه النظرة المعادية للدين ، المنفرة منه ، وقلنا أن الصراع الذي قام بين الكنيسة والعلماء قد جعلهم يشعرون – بحق - أن ما تقول الكنيسة رجعية وانحطاط وتأخر وخرافة . وأنه يجب أن يخلي مكانه للعلم ، حتى يتاح للبشرية أن تتقدم في طريق المدنية .
ثم كانت عدوى التقليد في الشرق الإسلامي المغلوب على أمره ، هي التي خيلت للمساكين من أهله ، أن طريقهم الوحيد إلى التقدم هو طريق أوربا الظافرة – لأنها اليوم ظافرة ! – وأن عليهم أن ينبذوا دينهم ، كما نبذت أوربا دينها ، وإلا فسيظلون سادرين في الرجعية والانحطاط والتأخر والخرافة !
ولكن علماء أوربا وكتابها مع ذلك ليسوا كلهم من أعداء الدين ! وفيهم قوم معقولون تحررت نفوسهم من مادية أوربا الملحدة ، وعرفوا ان العقيدة حاجة نفسية وحاجة عقلية في ذات الوقت . ومن أبرز أمثلتهم جيمس جينز العالم الفلكي الذي بدأ حياته ملحداً شاكاً ، ثم انتهى عن طريق البحث العلمي إلى أن مشكلات العلم الكبرى لا يحلها إلا وجود إله ! وجينز برج عالم الاجتماع الشهير الذي يشيد بالدين الإسلامي خاصة لجمعه بين المادي والروحي في فكرة واحدة ونظام واحد . ثم ها هو ذا الكاتب المشهور سومرست موم يقول كلمته الصادقة البارعة : " إن أوربا قد نبذت اليوم إلهها ، وآمنت بإله جديد هو العلم ، ولكن العلم كائن متقلب ، فهو يثبت اليوم ما نفاه بالأمس ، وهو ينفي غداً ما يثبته اليوم ، لذلك تجد عبّاده في قلق دائم ، لا يستقرون " !
إنها حقيقة . هذا القلق الدائم الذي يعيش فيه الغرب المضطرب ، القلق الذي يفسد أعصاب الناس هناك ، ويصيبهم بمختلف الأمراض النفسية والعصبية ، هو نتيجة الصراع الدائم في الأرض ، دون الاستناد إلى قوة ثابتة في الأرض أو السماء . كل شيء من حولهم يتغير. النظم الاقتصادية تتغير . والنظم السياسية تتغير . وعلاقات الدول والأفراد تتغير. وحقائق العلم تتغير. فإذا لم تكن هناك قوة ثابتة يستند إليها الأفراد في صراعهم الجبار مع الحياة والناس والأشياء ، فهناك نتيجة حتمية واحدة : هي القلق والاضطراب.
ولو لم يكن للعقيدة مهمة تؤديها في حياة البشر إلا هذا الأمن الذي يجده الإنسان في رحاب الله ، وهو يتوجه إليه بأعماله ، ويقاوم قوى الشر والطغيان ابتغاء مرضاته ، ويكدح لتعمير الأرض تنفيذاً لإرادته وانتظاراً لمثوبته ، لكفى ذلك مبرراً للتمسك بالعقيدة ، والتزود منها بخير زاد .
وما الإنسان بغير عقيدة ؟ ما هو بغير الإيمان بعالم آخر خالد الحياة ؟
إنه لا بد أن يستولي عليه شعور الفناء . الشعور بقصر العمر وضآلته بالقياس إلى أحلام الفرد وآماله . وعندئذ يندفع وراء شهواته ، ليحقق في حياته القصيرة أكبر قدر من المتاع . ويتكالب على الأرض ، ومنافع الأرض ، وصراع الأرض الوحشي ، ليحقق في هذه الفرصة الوحيدة المتاحة له كل ما يقدر عليه من نفع قريب …(3/50)
ويهبط الناس . يهبطون في أحاسيسهم وأفكارهم ، ويهبطون في تصوراتهم لأهداف الحياة ووسائل تحقيقها . يهبطون إلى عالم الصراع البغيض الذي لا ينبض بآصرة إنسانية رفيعة ، ولا تخطر فيه خاطرة من ود أو رحمة أو تعاون صادق . ويهبطون إلى نزوات الجسد وضرورات الغريزة ، فلا يرتفعون لحظة إلى عاطفة نبيلة ولا معنى إنساني كريم .
ولا شك أنهم – في الطريق ، في صراعهم الجبار – يحققون شيئاً من النفع ، وشيئاً من المتاع . ولكنهم يفسدون ذلك كله بالتكالب الذي يتكالبونه على النفع والمتاع . فأما الأفراد فإن الشهوات تتملكهم إلى الحد الذي يصبحون فيه عبيداً لها ، خاضعين لنزواتها ، محكومين بتصرفاتها ، لا يملكون أنفسهم منها ، ولا يخلصون من سلطانها . وأما الأمم فمصيرها إلى الحروب المدمرة التي تفسد المتاع بالحياة ، وتحول العلم – تلك الأداة الجبارة الخطيرة – من نفع الإنسانية إلى التحطيم المطلق ، والدمار الرهيب .
فلو لم يكن للعقيدة مهمة تؤديها في حياة البشرية إلا الفسحة التي تمنحها للأحياء ، والأمل في حياة خالدة يحققون فيها كل آمالهم ، ويستمتعون فيها بكل ما يخطر في نفوسهم من متاع … ولو لم يكن لذلك من نتيجة إلا تخفيف حدة الصراع في الأرض ، وإتاحة الفرصة لمشاعر الحب والمودة والرحمة والإخاء ، لكفى ذلك مبرراً للتمسك بالعقيدة والتزود منها بخير زاد .
وأصحاب المبادئ العليا والأفكار الإنسانية والعقائد الرفيعة ، من ذا الذي يهبهم الصبر على الكفاح ، والصمود لقوى الشر والطغيان في سبيل هذه المبادئ والأفكار؟ وما النفع الذي ينتظرونه ؟ لقد يقضي بعضهم – بل أغلبهم - حياته دون أن يحصل على النفع المنشود . ولن تفلح العقيدة المبنية على النفع الشخصي إلا ريثما يتحقق هدفها الصغير، ثم تكتسحها الأعاصير، لانها تقوم بغير جذور .
ليس النفع القريب إذن هو الدافع إلى الصبر والصمود .
حقيقة أن بعض " المصلحين " يستمدون القوة والصبر من الأحقاد ! أحقادهم الشخصية ، أو أحقاد طائفة من الناس ، أو أحقاد الجيل كله الذي يعيشون فيه . ولقد يصلون إلى بعض أهدافهم في " الإصلاح " . ولقد تكون أحقادهم من الحدة والعنف بحيث يحتملون كل عذاب في سبيل الهدف الذي ينشدون . ولكن العقائد المبنية على الحقد – لا على الحب - لا يمكن أن تسير بالبشرية إلى الخير الحق . قد تحل مشكلة موقوتة . وقد ترفع ظلماً واقعاً . ولكنها لن تكون قط علاجاً صالحاً لكل ما تعانيه البشرية من الآلام ، ولا بد أن تنحرف – بما فيها من أحقاد وسخائم - فتستبدل شراً بشر ، وظلماً بظلم ، وهبوطاً بهبوط .
العقيدة التي لا تقوم على النفع القريب ، والتي لا تستمد غذاءها من السخائم والأحقاد ، والتي تستهدف الحب النبيل والإخاء الحق ، والتي تحارب الشر لأنها تحب للناس الخير .. هذه العقيدة وحدها هي التي تنفع الناس ، وتدفع بهم إلى الأمام في ركب المدنية .
فكيف السبيل إليها بغير الإيمان " بالحب " الأكبر المنبثق من حب الله ، و " الخير " الأكبر الموصول بالله ، و " الحق " الأكبر الذي تقاس به حقائق الحياة ؟ وكيف السبيل إليها بغير الإيمان بالعالم الآخر الذي ينفي عن الروح خاطر الفناء في الأرض ، ويمنحها الإحساس بالدوام والخلود ، وينفي عنها الإحساس بضياع الجهد بلا ثمرة ، وضياع المشاعر النبيلة بلا جزاء ؟
هذا عن العقيدة .. كل عقيدة في الله واليوم الآخر .
ولكن الإسلام له حساب آخر .
والذين يخطر في بالهم أن الإسلام قد استنفد أغراضه ، لا يعرفون لماذا جاء الإسلام .
إنهم – كما حفظوا في دروس التاريخ التي وضعها الاستعمار لتدرس في المدارس المصرية ( ) – يعرفون أن الإسلام قد نزل لمنع عبادة الأصنام وتوجيه الناس إلى عبادة الله الواحد . وكان العرب يعيشون قبائل متفرقة متناحرة فألف بينهم ، وجعلهم أمة واحدة . وكانوا يشربون الخمر ، ويلعبون الميسر ويرتكبون المفاسد الخلقية ، فنهاهم عن ذلك ، وحرمه عليهم . كما حرم عليهم بعض العادات السيئة ، كالأخذ بالثأر ووأد البنات و … الخ . ودعا الإسلام المؤمنين به لنشر الدعوة فقاموا بنشرها ، وقامت الحروب والغزوات التي انتهت بانتشار الإسلام إلى حدوده المعروفة اليوم .
فقط . تلك كانت مهمة الإسلام ! وإذن فهي مهمة تاريخية قد انتهت اليوم واستنفدت أغراضها .. ليس في العالم الإسلامي اليوم من يعبد الأصنام . والقبائل قد ذابت – قليلاً أو كثيراً – في أمم وشعوب . والخمر والميسر والمسائل الخلقية متروك أمرها " لتطور " المجتمع . وقد وجدت رغم تحريم الأديان لها ، فلا فائدة من المحاولة .. ونشر الدعوة قد انتهى ، ولم يعد له مكان في التاريخ الحديث .. وإذن فقد استنفد الإسلام أغراضه ، وعلينا اليوم أن نتجه إلى " المبادئ الحديثة " ففيها وحدها الغناء .
ذلك وحي الدراسات التي ندرسها لأبنائنا في المدارس ، وهو كذلك وحي ما يسمونه " الأمر الواقع " كما يتبدى في الأذهان الضعيفة والنفوس المستعبدة لسلطان الغرب .(3/51)
ولكن هؤلاء وأولئك لا يدركون فيم نزل الإسلام .
إن الإسلام في كلمة واحدة هو " التحرر " . التحرر من كل سلطان على الأرض ، يقيد انطلاق البشرية أو يقعد بها عن التقدم الدائم في سبيل الخير ( ) .
التحرر من سلطان الطغاة الذين يستعبدون البشر لأنفسهم ، ويستذلونهم بالقهر والتخويف. فيفرضون عليهم ما يخالف الحق ، ويسلبون كرامتهم أو أعراضهم أو أموالهم أو أنفسهم . التحرر من طغيانهم برد السلطان كله إلى الله وحده ، وتقرير تلك الحقيقة العظمى التي ينبغي أن تكون بديهية في أذهان الناس وضمائرهم ، وهي أن الله وحده مالك الملك، وهو وحده القاهر فوق عباده ، وكلهم عباده ، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . عند ذلك يتحرر الناس من خوف بشر مثلهم لا يملك من أمر نفسه شيئاً ، وهو وإياهم خاضع لإرادة الواحد القهار .
والتحرر من سلطان الشهوة – حتى شهوة الحياة - وهي السلاح الذي يستخدمه الطغاة عن قصد أو عن غير قصد في استذلال البشر . فلولا حرص الناس على هذه الشهوات ما قبلوا الذل ، ولا قعدوا عن مقاومة الظلم الذي يقع عليهم . ولذلك عني الإسلام عناية شديدة بتحرير الناس منها ، ليقفوا من الشر موقف القوي المجاهد ، لا موقف الخانع المستخذي : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين " ( ) .
وبذلك يجمع الشهوات كلها في كفة ، ويضع في الكفة الأخرى حب الله – الذي يتمثل فيه الحب والخير والحق – والجهاد في سبيل الله ، وفي سبيل هذه المعاني النبيلة كلها . ثم يجعل حب الله راجحاً لهذه الشهوات ، ويجعل ذلك شرط الإيمان !
وليس التحرر من سلطان الشهوات مقصوداً لمقاومة الطغاة والجبارين فحسب ، ولكنه إلى جانب ذلك هدف شخصي لكل فرد ، لينقذ نفسه من استعباد الغرائز والوقوع تحت سلطانها الجائر المذل .
إن الذي يغرق في شهواته يظن بادئ الأمر أنه يستمتع بلذائذ الحياة أكثر مما يستمتع غيره . ولكن هذا الظن الخاطئ يسلمه بعد قليل إلى عبودية لا خلاص منها ، وشقاء لا راحة فيه . فالشهوة لا تشبع أبداً بزيادة الانكباب عليها ، ولكنها تزداد تفتحاً واستعاراً ، وتصبح الشغل الشاغل لمن تملكه فلا يستطيع التخلص من ضغطها عليه ، فضلاً عن التفاهة التي يهبط إليها حين يصير همه كله أن يستجيب لصياح الشهوات . والحياة لا يمكن أن تتقدم ، والبشرية لا يمكن أن ترتفع ، إلا حين تتخلص من ضغط الضرورة ، لتعمل في الميدان الطليق . سواء كان عملها علما ييسر الحياة ، أو فنا يجملها ، أو عقيدة ترتفع بها إلى آفاق المشاعر العليا .
ومن هنا كان حرص الإسلام الشديد على تحرير البشر من شهواتهم ، لا بفرض الرهبنة عليهم ، ولا بتحريم الاستمتاع بطيبات الحياة ، وإنما بتهذيب استجابتهم إليها ، وإتاحة القسط المعقول من المتاع ، الذي يرضي الضرورة ويطلق الطاقة الحيوية تعمل لإعلاء كلمة الله في الأرض . وكان الإسلام في ذلك يهدف إلى فائدة شخصية للفرد بتحقيق قسط من المتعة وراحة البال ، وفائدة أخرى للمجتمع كله ، يتوجيه طاقته إلى الخير والتقدم والارتقاء ، حسب نظريته الكبرى في التوفيق بين الفرد والمجتمع في نظام( ) .
وتحرير العقل من الخرافة .. فقد كانت البشرية غارقة في خرافات عدة ، بعضها صنعه البشر ونسبوه إلى آلهتهم التي صنعوها بأيديهم ، وبعضها صنعه رجال الدين ونسبوه إلى الله ! وكلها نشأ من الجهالة التي كان يعيش فيها العقل البشري في طفولته ، فجاء الإسلام ليخلص البشرية من الخرافة ممثلة في الآلهة المزعومة ، وفي أساطير اليهود وخرافات الكنيسة ، ويردهم إلى الله الحق ، في صورة بسيطة يفهمها العقل ويدركها الحس ويؤمن بها الضمير؛ ويدعوهم إلى إعمال عقلهم لتفهم حقائق الحياة ، ولكن في صورة فريدة لا تقيم خصومة بين العقل والدين ، ولا بين الدين والعلم . لا تضطر الإنسان إلى الإيمان بالخرافة ليؤمن بالله ، ولا تضطره إلى الكفر بالله ليؤمن بحقائق العلم . وإنما تقر في ضميره في استقامة ووضوح أن الله قد سخر للناس ما في الكون جميعاً . وأن كل حقيقة علمية يهتدون إليها ، أو نفع مادي يحصلون عليه فإنما هو توفيق من الله ، يستحق أن يشكروا الله من أجله ويحسنوا عبادته ، وبذلك يجعل المعرفة جزءاً من الإيمان ، لا عنصراً مخالفاً للإيمان .
وتلك كلها أهداف لم تستنفد أغراضها ، ولا يمكن أن تستنفد أغراضها ما دام البشر على الأرض !
فهل تخلصت البشرية من الخرافة ؟ هل تخلصت من سلطان الطغاة والجبارين ؟ هل تخلصت من ضغط الجسد وصراخ الشهوات ؟(3/52)
نصف سكان العالم ما يزالون وثنيين يعبدون الأصنام ، في الهند والصين والقبائل المتفرقة في أنحاء الأرض . وما يقرب من نصفهم يعبدون خرافة أخرى لا تقل انحرافاً بالناس عن الحق ، ولا إفساداً لضمائرهم ومشاعرهم وعلاقات بعضهم ببعض ، بل ربما كانت أكثر انحرافاً وأشد خطراً : تلك الخرافة هي العلم !!
العلم أداة جبارة من أدوات المعرفة ، وقد خطا بالبشرية كلها خطوات واسعة في سبيل التقدم والرقي ، ولكن إيمان الغرب به على أنه الإله الأوحد ، وإغلاق كل منافذ المعرفة سواه ، قد ضلل البشرية عن مقصدها ، وضيق آفاقها وحصر مجالها في الميدان الذي يستطيع العلم التجريبي أن يعمل فيه ، وهو ميدان الحواس . ومهما يكن من سعة هذا الميدان فهو ضيق بالنسبة لطاقات البشرية ؛ ومهما يكن من رفعته فهو أدنى مما يستطيع الإنسان أن يرتفع إليه ، حين يرتفع بفكره وروحه جميعاً ، فيتصل بحقيقة الألوهية ويقبس من نور المعرفة الحقة ببصره وبصيرته في آن . وذلك فضلاً عن الخرافة التي تخيل للمؤمنين بها أن العلم يستطيع أن يصل بهم إلى كل أسرار الكون والحياة ، والتي تخيل لهم أن ما يثبته العلم هو وحده الحق ، وأن ما لا يستطيع إثباته هو الخرافة ! والعلم ما يزال في طفولته ، وما يزال يضطرب في كثير من الحقائق بين النفي والإثبات ، وما يزال عاجزاً عن النفاذ إلى حقائق الأشياء ، يكتفي بوصف مظاهرها دون كنهها . ولكن عبّاده يتعجلون أمرهم وأمره ، فينفون وجود الروح ، وينفون قدرة هذا المخلوق البشري المحدود الحواس على تخطي حواجز المادة ، والاتصال بالغيب المجهول في ومضة من ومضات التليباثي ( ) ، أو في رؤيا صادقة ، لا لأن هذا ليس حقيقة ، ولكن لأن العلم التجريبي لم يستطع بعد إثباته ! ولما كان الله – سبحانه - لا يخضع للبحث التجريبي فقد استغنوا عنه ، وأعلن بعضهم أنه غير موجود ! !
فما أحوج العالم اليوم إلى الإسلام ، كما كان محتاجاً إليه قبل ألف وثلاثمائة عام ! ما أحوجه إليه ينقذه من الخرافة ، ويرفع عقله وروحه من التردي فيها ، سواء كانت الخرافة هي عبادة الأوثان ، أو عبادة العلم على الصورة الزرية التي يمارسها أهل الغرب " المتقدمون " . بل ما أحوجه إليه يعيد السلم بين الدين والعلم ، ليعيد الاستقرار إلى الكائن البشري الذي تمزقه عقائد الغرب الفاسدة ، فتفصل بين عقله ووجدانه ، وتخالف بين حاجته إلى العلم وحاجته إلى الله !
ما أحوجه إليه يزيل بقية الروح الإغريقية الخبيثة ، التي ورثتها أوربا الحديثة من تاريخها القديم في عصر الإحياء ، والتي كانت تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة خصام وصراع ، وتجعل كل سر من أسرار المعرفة أو كل خير يتوصل إليه بشر، شيئا منتزعا من الآلهة قسراً عنهم ، لو استطاعوا لمنعوه، وبذلك يعتبر كل كشف علمي انتصاراً على هؤلاء الآلهة وتشفيا فيهم !
تلك الروح الخبيثة ما تزال في العقل الباطن الأوربي والغربي عامة ، تتبدى حيناً في بعض تعبيراتهم مثل " قهر الإنسان للطبيعة " أو " العلم ينتزع الأسرار " .. الخ . وتتبدى في طريقة إحساسهم بالله ، وشعورهم بأن عجز الإنسان هو – وحده - الذي يضطره للخضوع لله ، فكل كشف علمي يتوصل له الإنسان يرفعه درجة ، ويخفض الإله درجة ، وهكذا حتى يعرف الإنسان كل أسرار العلم ، ويخلق الحياة ( وهو الحلم الذي يخايل " للعلماء " اليوم ) وعندئذ يتخلص نهائيا من الخضوع لله ، ويصبح هو الإله !
ما أحوج العالم للإسلام اليوم ، ينقذه من هذه الضلالة ، ويرد لروحه الأمن والسلام . ويشعره بعطف الله عليه ورحمته ، وأن كل معرفة يصل إليها أو خير يصيبه إنما هو منحة من الله يمنحها له ، وهو راض عنه – مادام يستخدمها في خير المجموع - وأن الله في الإسلام لا يغضب على الناس حين " يعرفون " ولا يخشى منافستهم له سبحانه ! وإنما يغضب عليهم فقط حين يستغلون معرفتهم في الضرر والإيذاء .
وما أحوج الناس إلى الإسلام اليوم ينقذهم من الطغاة والجبارين كما كان ينقذهم منهم قبل ألف وثلثمائة عام !
والجبارون اليوم كثيرون ، بعضهم ملوك ، وبعضهم أباطرة ، وبعضهم رأسماليون يمتصون دماء الكادحين ويقهرونهم بذل الفقر والحاجة ، وبعضهم دكتاتوريون يحكمون بالحديد والنار والتجسس ، ويقولون : إنهم ينقذون إرادة الشعوب أو إرادة البروليتاريا !
والإسلام ينقذ الناس من الجبابرة في عالم الواقع لا في عالم الأحلام . ولقد يطيب لبعض الناس أن يسأل : فما بال الإسلام لم ينقذ أهله من حكامه الجبابرة الذين ما يزالون يكتمون أنفاسه ويمتصون دماءه وينتهكون حرماته ، باسم الإسلام ؟
والجواب أن الإسلام لا يحكم في هذه البلاد ، وأن أهلها ليسوا مسلمين إلا بالاسم ، ينطبق عليهم قوله تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " ( ) وقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما " ( ) .(3/53)
والإسلام الذي ندعو إليه ليس بطبيعة الحال ذلك الإسلام الذي يزاوله الحكام في الشرق الإسلامي ، ويخالفون به كل شرائع الله ، ويحكمون بدساتير أوربا مرة ، وبنظرية الحق الإلهي مرة ، ولا يعدلون بين الناس في هذا ولا ذاك .
الإسلام الذي ندعوا إليه هو الإسلام الذي يهز العروش ، ويطيح من فوقها بجبابرتها ، وينزلهم على حكمه أو ينفيهم من الأرض : " فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " ( ) .
وحين يحكم هذا الإسلام – وهو لا بد حاكم بإذن الله وتأييده – فلن يكون جبار في أرض الإسلام ، لأن الإسلام لا يقبل الجبابرة ، ولا يسمح لأحد أن يحكم بأمره في الأرض . وإنما بأمر الله ورسوله . والله يأمر بالعدل والإحسان .
وحين يحكم هذا الإسلام ، أي حين يتربى جيل من الشباب يؤمن به ويجاهد في سبيله ، لن يكون للحاكم إلا تنفيذ شريعة الله ، وإلا فلا طاعة له على الناس بصريح قول الخليفة الأول : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . ولن يكون للحاكم حق في المال أو في التشريع زائد على حقوق أي فرد من أفراد الشعب ، ولن يتولى ذلك الحاكم سلطانه إلا بانتخاب الناس له انتخاباً حراً طليقاً من كل قيد ، إلا قيد الرشد والعدل والإحسان .
وحين يحكم هذا الإسلام فلن يخلص المسلمين من الجبروت الداخلي فحسب ، بل يخلصهم كذلك من الطغيان الأجنبي في صورة استعمار أو تهديد بالاستعمار . ذلك أن الإسلام دين عزة ومنعة ، يأبى الخضوع لهذا الاستعمار ويستنكره ، ويجعل حساب الله عسيراً على الرضا به أو الخنوع لسلطانه . ويدعو لمقاتلته بكل ما في الطاقة من وسائل الجهاد .
فما أحوجنا إلى الإسلام اليوم ، نقف تحت رايته ، فنطهر أرضنا من دنس الاستعمار ، ونستخلص من قبضته الخبيثة أرواحنا وأموالنا وأعراضنا وعقائدنا وأفكارنا ، لنصير جديرين باسم الله الذي نعبده ، وبدينه الذي ارتضاه لنا يوم قال سبحانه : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ( ) .
ولكن دور الإسلام لا يقف عند هذا الحد ، فتحرير هذا الجزء من العالم من قبضة الطغاة في الداخل والخارج لا يقتصر أثره على أهله فحسب ، بل هو نعمة كبرى للعالم كله ، المثخن بجراح الحرب ، والذي تتهدده الحرب القادمة بالفناء المدمر الرهيب .
فهذا العالم اليوم قد انقسم كتلتين كبيرتين ، الكتلة الرأسمالية من جانب ، والكتلة الشيوعية من جانب ، وهما تتنازعان النفوذ والموارد والنقط الاستراتيجية ، ولكنهما في الواقع تتنازعاننا نحن ... نحن هذا العالم الممتد من المحيط للمحيط ، الغني بالموارد المادية والبشرية والنقط الاستراتيجية ، وهما تتصارعان علينا ، كأننا كمٌّ مهمل لا يحسب له حساب ، وإنما ينقاد للظافر انقياد العبيد ، وينتقل من ملكية سيد لسيد ، كما ينتقل المتاع والأشياء .
ولو استرد العالم الإسلامي كيانه – وهو في طريقه إلى ذلك بإذن الله - لبطل الصراع الجبار الذي يهدد الأرض بالخراب ، ولبرزت في العالم كتلة ثالثة تمسك ميزان القوة الدولية من منتصفه ، وتملك بموقفها أن ترجح قوة هذه الكتلة أو تلك . عندئذ لا تتصارع علينا روسيا وأمريكا في وقاحة كما تصنعان اليوم ، وإنما تتسابق كلتاهما إلى استرضاء الإسلام والمسلمين.
وإذن فالعالم اليوم في حاجة إلى انتصار الإسلام ، ولو لم يؤمن به إلا أهله القائمون اليوم ؛ لأن انتصاره يريح العالم من الخوف الدائم من الحرب ، والفزع المقلق للأعصاب .
* * *
وما أحوجه إليه ينقذه من سلطان الشهوات .
هذه هي أوربا قد غرقت في شهواتها الدنسة لا تفيق منها . فماذا كانت نتيجة ذلك في العالم كله ؟ لقد تقدم العلم ، نعم ، ولكن البشرية لم تتقدم ، ولم يحدث قط أن تقدمت البشرية وهي مستعبدة لشهواتها ، غارقة في المتاع الحسي الغليظ .
ولقد يبهر التقدم العلمي بعض الناس في الشرق والغرب ، فيحسبون أن الطائرة الصاروخية والقنبلة الذرية وجهاز الراديو والغسالة الكهربائية هي التقدم ! ولكن ذلك ليس مقياسه الحق ، وإنما المقياس الذي لا يخطئ هو مقدار استعلاء الإنسان على ضروراته : فهو مرتفع كلما استطاع ، وهو هابط كلما أخفق ، مهما ارتقت علومه ومعارفه .
وليس هذا مقياساً تحكمياً تضعه الأديان ، أو علم الأخلاق ، بغير مبرر ولا رصيد من الواقع . فلنستعرض التاريخ : كم أمة استطاعت أن تعيش قوية متماسكة ، تعمل لخير البشرية وتقدمها ، بينما أهلها مشغولون بالمتاع الزائد عن الحد ؟ ما الذي حطم مجد اليونان القديمة ؟ وروما القديمة ؟ وفارس القديمة ؟ما الذي حطم العالم الإسلامي في نهاية العصر العباسي ؟ وكيف صنعت فرنسا الداعرة في الحرب الأخيرة ؟ ألم تسلم عند أول ضربة ، لأنها أمة مشغولة بمباذلها وشهواتها عن الاستعداد النفسي والمادي للدفاع عن بلادها ؟ أمة تخاف على عمائر باريس ومراقصها من تدمير القنابل ، أكثر مما تخاف على كيانها وكرامتها " التاريخية " ؟ !(3/54)
وربما كانت أمريكا هي المثل الذي يخايل للمستغفلين في الشرق ، فهي أمة غارقة في المتاع الدنس ، ومع ذلك فهي قوية مسيطرة ذات سلطان ، وإنتاجها المادي هو أضخم إنتاج في الأرض . كل ذلك صحيح . ولكن الذين تخايل لهم أمريكا ينسون أنها أمة فتية مذخورة القوة ما تزال في عنفوانها النفسي والجسدي . والشباب دائماً أقدر على احتمال المرض،بحيث يبدو من الظاهر كأنه لا يترك أثراً فيه . ولكن عين الخبير تستطيع - مع ذلك - أن تبصر أعراض المرض من وراء مظاهر القوة الخادعة . ويكفي أن نذكر هذين الخبرين الصارخين اللذين وردا في الصحف ليعرف المخدوعون أن سنة الله في خلقه لا تتغير . وأن العلم بكل مخترعاته لا يغير طبائع النفوس ، ولا طبائع الأشياء ، لأنه هو ذاته جزء من سنة الله " ولن تجد لسنة الله تبديلاً " .
الخبر الأول هو طرد 33 موظفاً من وزارة الخارجية الأمريكية لأنهم مصابون بالشذوذ الجنسي ، ولأنهم بهذه الصفة لا يؤتمنون على أسرار الدولة !
والخبر الثاني هو فرار مائة وعشرين ألفاً من التجنيد الإجباري في أمريكا ، وهو عدد ضخم بالنسبة لمجموع الجيش الأمريكي ، وبالنسبة لأمة فتية تريد أن تكافح للسيادة على العالم!
والبقية تأتي- ولا بد أن تأتي- إذا استمر القوم على المتاع الدنس الذي هم غارقون فيه.
هذه واحدة . والثانية أن إنتاج أمريكا الضخم هو إنتاج في عالم المادة وحدها . ولكنها على ثرائها وفتوتها وعظم الطاقة المذخورة في أرضها وناسها لم تنتج شيئاً يذكر في عالم المبادئ والقيم العليا ، لأنها غارقة في انطلاقة جسدية فارهة ، ولا ترتفع كثيراً عن محيط الحيوان ، وتهبط كثيراً إلى ما يشبه اندفاعات الآلات ! ويكفي أن تكون هي الأمة التي تعامل الزنوج تلك المعاملة الوحشية البشعة ، لكي نعرف مستواها النفسي ، وآفاقها البشرية .
كلا ! لا يرتفع العالم بالهبوط في حمأة الشهوات .
وما أحوج العالم إلى الإسلام اليوم ، كما كان في حاجة إليه قبل ألف وثلاثمائة عام ، لينقذه من العبودية للشهوة ، ويطلق طاقته الحيوية إلى آفاقها العليا ، لتنشر الخير ، وتصبح جديرة بما كرمها الله !
ولا يقولن أحد إنها محاولة فاشلة ميئوس من نتائجها ! فمن قبل جربت الإنسانية أنها تستطيع أن ترتفع , وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى . والناس هم الناس . وقد كان العالم قبل الإسلام مباشرة قد هبط إلى درجة من العبودية للشهوات تشبه إلى حد كبير ما هبط إليه اليوم ، بغير فارق سوى تغير أدوات المتاع. وكانت روما القديمة لا تقل دعارة عن باريس ولندن ومدن أمريكا، وكانت فارس القديمة غارقة في فوضى خلقية كالتي يصفون بها العالم الشيوعي ، ثم جاء الإسلام فبدل هذا كله إلى حياة رفيعة فاضلة ذاخرة بالنشاط والحركة ، عاملة على الخير ، معمرة للأرض ، دافعة بالإنسانية كلها في الشرق والغرب إلى التقدم الفكري والروحي ، ولم يستعص الشر الذي كان الناس يومئذ غارقين فيه ، على الإصلاح الذي عمل عليه الإسلام .
وظل العالم الإسلامي مصدر النور والخير والتقدم في العالم كله فترة طويلة لم يشعر خلالها أنه محتاج إلى التبذل الخلقي والفوضى والإباحية ، لكي يحصل على القوة المادية والتقدم العلمي والفكري ! وإنما كان أهله مثلاً رفيعة في كل ميدان . حتى هبط عن أخلاقه القياسية ، واستعبدته الشهوات ، فجرت عليه سنة الله .
والدفعة الإسلامية الجديدة التي تتجمع اليوم لتتحرك ، دفعة هائلة تستمد من ذخيرة الماضي ، وتأخذ بأسباب القوة الحاضرة ، وتتطلع إلى المستقبل ، فتتوفر لها كل عوامل النماء والقوة . فهي كفيلة بأن تعيد المعجزة التي قام بها الإسلام أول مرة ، فترفع الناس من حضيض الشهوة إلى مستوى الإنسانية الكريمة التي تعمل في الأرض وهي تتطلع للسماء .
* * *
ولكن الإسلام إلى جانب هذا كله ، أو بسبب من هذا كله ، لم يكتف بأن يكون عقيدة روحية ، أو محاولة للتهذيب الخلقي ، أو دعوة للتجرد الفكري والتأمل في ملكوت الله ، وإنما كان ديناً عملياً ينظر في شؤون الأرض ، فلا تفوته كبيرة ولا صغيرة في علاقات الناس بعضهم ببعض ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية إلا اهتم بها ووضع لها تشريعاتها وتطبيقاتها ، ولكن في صورة فريدة تربط بين الفرد والمجتمع ، بين العقل والوجدان ، بين العمل والعبادة ، بين الأرض والسماء ، وبين الدنيا والآخرة كلها في نظام .
ولا يتسع هذا الفصل للحديث المفصل عن النظام الإسلامي في السياسة والاقتصاد والاجتماع . والفصول التالية كلها عرض لبعض مظاهر هذا النظام من نواحيه المختلفة ، في أثناء مناقشة الشبهات التي تثيرها أوروبا وعبّادها ضد هذا الدين . ولكنا نكتفي هنا بالإشارة إلى الحقائق التالية :
أولاً : أن الإسلام لم يكن دعوة نظرية . وإنما كان نظاماً عملياً يعرف حاجات الناس الحقيقية ويعمل على تحقيقها .(3/55)
ثانياً: أنه في سبيل تحقيق هذه الحاجات يسعى إلى التوازن المطلق بقدر ما تطيقه طبائع البشر، فيوازن أولاً في نفس الفرد بين حاجات الجسد وحاجات العقل وحاجات الروح ، ولا يترك جانباً منها يطغى على جانب آخر . فلا يكبت الطاقة الحيوية في سبيل الارتفاع بالروح ، ولا يبالغ في الاستجابة لشهوات الجسد إلى الحد الذي يهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ، ويجمع بين ذلك كله في نظام موحد لا يمزق النفس الواحدة بين الشد والجذب ، ولا يوجهها وجهات شتى متناقضة . ثم يوازن ثانياً بين مطالب الفرد ومطالب المجتمع ، فلا يطغى فرد على فرد ، ولا يطغى الفرد على المجتمع ، ولا المجتمع على الفرد ، ولا طبقة على طبقة ، ولا أمة على أمة . وإنما يقف الإسلام بين هؤلاء جميعاً يحجز بينهم أن يتصادموا ، ويدعوهم جميعاً إلى التعاون في سبيل الخير الإنساني . ثم هو أخيراً يوازن في نظام المجتمع بين مختلف القوى : يوازن بين القوى المادية والقوة الروحية ، وبين العوامل الاقتصادية والعوامل " الإنسانية " . فلا يعترف – كما تصنع الشيوعية – بأن العوامل الاقتصادية أو القوى المادية هي وحدها المسيطرة على الإنسان . ولا يؤمن – كما تصنع الدعوات الروحية الخالصة أو المذاهب المثالية – بأن العوامل الروحية أو المثل العليا تستطيع وحدها أن تنظم حياة البشر . وإنما يؤمن بأن هذه جميعاً عناصر مختلفة يتكون من مجموعها " الإنسان " . وأن النظام الأفضل هو النظام الأشمل ، الذي يستجيب لمطالب الجسد ومطالب العقل ومطالب الروح في توازن واتساق .
ثالثاً : أن للإسلام فكرة اجتماعية ونظاماً اقتصادياً قائما بذاته ، قد تلتقي به عَرَضاً بعض مظاهر الرأسمالية أو الشيوعية ، ولكنه على وجه التأكيد شيء آخر غير الرأسمالية والشيوعية ، يجمع كل مزاياهما دون أن يقع في أخطائهما وانحرافاتهما . نظام لا يبالغ في الفردية إلى الحد البغيض الذي يقوم في الغرب ، والذي يعتبر الفرد هو الأساس ، وهو الكائن المقدس الذي تصان حرياته ، ولا يجوز للمجتمع أن يقف في سبيله .. فتنشأ هناك الرأسمالية القائمة على أساس حرية الفرد في استغلال الآخرين . ولا يبالغ في الاتجاه الجماعي الذي يقوم في شرق أوروبا ، ويعتبر المجتمع هو الأساس ، والفرد ذرة تائهة لا كيان له بمفرده ، ولا وجود له إلا في داخل القطيع ، فالمجتمع وحده هو صاحب الحرية وصاحب السلطان ، وليس للفرد أن يحتج عليه أو يطالبه بحقوقه .. وهناك تنشأ الشيوعية القائمة على سلطان الدولة المطلق في تكييف حياة الأفراد . وإنما هو نظام وسط بين هذا وذاك ، يعترف بالفرد ويعترف بالمجتمع ، ويوازن بينهما . فيمنح الفرد قدراً من الحرية يحقق به كيانه ولا يطغى به على كيان الآخرين ، ويمنح المجتمع – أو الدولة ممثلة المجتمع – سلطة واسعة في إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية كلما خرجت عن توازنها المنشود . وكل ذلك على أساس الحب المتبادل بين الأفراد والطوائف ، لا على أساس الحقد والصراع الطبقي الذي تقيم عليه الشيوعية فلسفتها النظرية وتطبيقاتها العملية .
وهذا النظام الفريد لم يجئ به الإسلام تحت ضغط الضرورات الاقتصادية ، ولا نتيجة لاحتكاك المصالح المتصارعة ، وإنما أتى به تطوعاً وإنشاءً ، في وقت لم يكن العالم كله يقيم وزناً للعمل الاقتصادي أو يعرف شيئاً حقيقياً عن العدالة الاجتماعية كما نفهمها اليوم . ولا يزال هذا النظام إلى هذه اللحظة نظاماً تقدمياً بالنسبة للرأسمالية والشيوعية وهما آخر ما عرف العالم الحديث في عالم الاجتماع والاقتصاد .. وإن " المطالب الأساسية " التي نادى بها كارل ماركس واعتبر الدولة مسئولة عن تحقيقها ، فأحدث بذلك ثورة عظمى في التاريخ: وهي الغذاء والمسكن والإشباع الجنسي ، لهي بعض مما قاله الإسلام من قبل ألف وثلاثمائة عام ! يقول نبي الإسلام الكريم : " من كان لنا عاملاً ولم يكن له زوجة فليتخذ زوجة ، وليس له مسكن فليتخذ مسكنا ً، وليس له خادم فليتخذ خادما ً، وليس له دابة فليتخذ دابة " فيلمّ بكل " المطالب الأساسية " التي نادى بها ماركس ويزيد عليها ، في غير ما أحقاد طبقية ، ولا ثورات دموية ، ولا إنكار لكل مقومات الحياة الإنسانية التي تتجاوز هذه الضروريات .
* * *
تلك بعض الجوانب البارزة في النظام الإسلامي .
وإن ديناً تلك قواعده وأركانه ، ديناً يحيط بهذا المدى الواسع من حياة البشر في حركاتهم ، وسكناتهم ، في أفكارهم ومشاعرهم ، في عملهم وعبادتهم . في اقتصادياتهم واجتماعياتهم ، في نزعاتهم الفطرية وأشواقهم الروحية ، ويضع لذلك كله نظاماً متوازناً فريداً في التاريخ .. هذا الدين لا يمكن أن يستنفد أغراضه، لأن أغراضه هي الحياة كلها ، ما دامت الحياة .
وإن العالم بأحواله التي يعيش عليها اليوم ، ليس هو الذي يستغني عن وحي الإسلام وتنظيم الإسلام .(3/56)
العالم الذي يصل فيه التعصب العنصري إلى صورته الوحشية في أمريكا وجنوب أفريقيا في القرن العشرين ، ما زال يحتاج إلى وحي الإسلام الذي سوى قبل ثلاثة عشر قرناً في واقع الحياة لا في عالم المثل والأحلام بين الأسود والأبيض والأحمر ، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى . ومنح العبيد السود : لا المساواة في الإنسانية فحسب ، بل أرفع ما يطمح إليه مسلم وهو ولاية أمر المسلمين ! يقول الرسول الكريم : اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، ما أقام فيكم كتاب الله تعالى " ( ) .
والعالم الغارق في الاستعمار والاستعباد ، الذي يصل إلى درجة الوحشية ، ما يزال يحتاج إلى وحي الإسلام الذي حرم الاستعمار بقصد الاستغلال ، وعامل البلاد التي فتحها – بقصد نشر الدعوة – معاملة ما تزال في نظافتها وارتفاعها قمة لا تصل إليها أبصار الأقزام في أوروبا " المتحضرة " . فيقرر عمر بن الخطاب ضرب ابن عمرو بن العاص ، ويكاد يضرب عَمراً نفسه ، وهو القائد المظفر والحاكم المبجل ، لأن ابنه ضرب شاباً مصرياً قبطياً بغير وجه حق !
والعالم الغارق في مفاسد الرأسمالية ، ما يزال يحتاج إلى نظام الإسلام الذي حرم الربا والاحتكار ، وهما الركنان اللذان تقوم عليهما الرأسمالية ، قبل القرن العشرين بثلاثة عشر من القرون !
والعالم الذي غشيته الشيوعية المادية الملحدة ما يزال يحتاج إلى نظام الإسلام الذي يحقق أقصى حد للعدالة الاجتماعية ، دون أن يحتاج إلى تجفيف المنابع الروحية في الإنسان ، ولا حصر عالمه في الميدان الضيق الذي تدركه الحواس ، ودون أن يحتاج إلى فرض عقيدته على الناس بالدكتاتورية ، إنما يقول لهم : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " .
والعالم المفزع من الحرب ما يزال يحتاج إلى قيام الإسلام ، لأن ذلك وحده هو سبيله الواقعي إلى السلام ، لفترة طويلة من الزمان .
كلا ! لم يستنفذ الإسلام أغراضه . وإن دوره في مستقبل البشرية لا يقل بحال عن دوره الهائل الذي أنار به وجه الأرض ، حينما كانت أوروبا ما تزال في عصر الظلمات .( محمد قطب )
====================
الإسلام .. والرق
ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب ! .. لو كان الإسلام صالحاً لكل عصر – كما يقول دعاته – لما أباح الرق .. وإن إباحته للرق .. وإن إباحته للرق لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة ، وأنه أدى مهمته وأصبح في ذمة التاريخ !
وإن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك ! كيف أباح الإسلام الرق ؟ هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله ، ولا شك في صدقه ، وفي أنه جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها .. كيف أباح الرق ؟ الدين الذي قام على المساواة الكاملة . الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد ، وعاملهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك .. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له ؟ أَوَ يريد الله للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد ؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض ؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق الذي أكرمه إذ قال : " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق ؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك ، فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام ؟
وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق ، ولكنه كإبراهيم : " قال: أولم تؤمن ؟ قال بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ! " .
أما الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده ، فإنه لا يتلبث حتى يتبين حقيقة الأمر ، وإنما يميل به الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه !
وأما الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة ، يتلقونها من سادتهم هناك ، فينتفشون بها عجبا ً، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال ، وهي المادية الجدلية ، التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا معدى عنها ولا محيص . وهي الشيوعية الأولى ، والرق ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والشيوعية الثانية ( وهي نهاية العالم ! ) وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار ، إنما كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية ، أو للطور الاقتصادي القائم حينئذ ، وأنها صالحة له ، متلائمة مع ظروفه ، ولكنها لا تصلح للمرحلة التالية التي تقوم على أساس اقتصادي جديد . وأنه – من ثم – لا يوجد نظام واحد يمكن أن يصلح لكل الأجيال . وإذا كان الإسلام قد جاء والعالم نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع ، فقد جاءت تشريعاته وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور ، فاعترفت بالرق ، وأباحت الإقطاع ( ) ! ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي ، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد إمكانياته الاقتصادية ! لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل !(3/57)
ونريد هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية ، بعيداً عن الغبار الذي يثيره هؤلاء وأولئك ، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين ، و " العلماء " المزيفين !
نحن ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين ، وننظر إله في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة ، والمعاملة الوحشية البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة ، فنستفظع الرق ، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره دين أو نظام . ثم تغلب علينا انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق ، وكل توجيهاته وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها ، ونتمنى في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح .
وهنا وقفة عند حقائق التاريخ . ففظائع الرق الروماني في العالم القديم لم يعرفها قط تاريخ الإسلام ، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية ، كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للرقيق ، حتى لو لم يكن عمل على تحريره – وهذا غير صحيح !
كان الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا . شيئا لا حقوق له البتة ، وإن كان عليه كل ثقيل من الواجبات . ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا الرقيق . كان يأتي من طريق الغزو . ولم يكن هذا الغزو لفكرة ولا لمبدأ .
وإنما كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان .
فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف ، يستمتع بالحمامات الباردة والساخنة ، والثياب الفاخرة ، وأطايب الطعام من كل لون ، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات ، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها . ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة الرومان ، قبل أن يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح للإمبراطورية ، وموردا للأموال .
في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني ، وكان الرق الذي نشأ من ذلك الاستعمار . أما الرقيق فقد كانوا – كما ذكرنا – أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر . كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار . ولم يكونوا يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا ، لا لأن من حقهم – حتى كالبهائم والأشجار – أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء . وكانوا – في أثناء العمل – يساقون بالسوط ، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات . ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران ، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة – بأصفادهم – فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات .
ولكن الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك ، وأدل على الطبيعة الوحشية التي ينطوي عليها ذلك الروماني القديم ، والتي ورثها عنه الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال .
تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح ، وكانت من أحب المهرجانات إليهم ، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطور أحياناً ، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية ، توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل . بل كان المرح يصل إلى أقصاه ، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق ، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً ، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة !
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني . ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى ، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها ، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه .
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها ، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها ، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها .
ثم جاء الإسلام …
جاء ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق :
" بعضكم من بعض " ( ) . جاء ليقول : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن أخصى عبده أخصيناه " ( ) . جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير : " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " ( ) ، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد . وإنما الفضل للتقوى : " ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى " ( ) .(3/58)
جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق : " وبالوالدين إحساناً ، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " ( ) . وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد ، أو التسخير أو التحقير ، وإنما هي علاقة القربى والأخوة . فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها : " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم . بعضكم من بعض ، فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف " ( ) ، وهم إخوة للسادة : " إخوانكم خولكم .. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم " ( ) . وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " لايقل أحدكم : هذا عبدي وهذه أمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي " ( ) . ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري : " احمله خلفك ، فإنه أخوك ، وروحه مثل روحك " .
ولم يكن ذلك كل شئ . ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة .
لم يعد الرقيق " شيئاً " . وإنما صار بشراً له روح كروح السادة . وقد كانت الأمم الأخرى كلها تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة ، خلق ليستعبد ويستذل ، ومن هنا لم تكن ضمائرهم تتأثم من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال الشاقة ( ) . ومن هنالك رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة ، لا في عالم المثل والأحلام ، بل في عالم الواقع . ويشهد التاريخ ـ الذي لم ينكره أحد ، حتى المتعصبون من كتاب أوربا ـ بأن معاملة الرقيق في صدر الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر . حداً جعل الرقيق المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين ـ مع أنهم يملكون ذلك بعد أن تحرروا اقتصادياً وتعودوا على تحمل تبعات أنفسهم ـ لأنهم يعتبرونهم أهلاً لهم ، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم ! وأصبح الرقيق كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون ، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل . فأما القول فقد نهى صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء . وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية ، وقال لهم في معرض هذا التوجيه : " إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " ( ) فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً ، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة ! وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء ، ويردهم إلى الآصرة البشرية التي تربطهم جميعاً ، والمودة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض . وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل : " ومن قتل عبده قتلناه .. " وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة ، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر ـ التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشرية الأصيلة ـ وهي ضمانات كاملة ووافية ، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله ، لا قبل الإسلام ولا بعده ، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب ( وللتأديب حدود مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه ) مبرراً شرعياً لتحرير الرقيق .
* * *
ثم ننتقل إلى المرحلة التالية ، مرحلة التحرير الواقعي .
لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع تحريراً روحياً للرقيق ، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه بشر كريم لا يفترق عن السادة من حيث الأصل ، وإنما هي ظروف عارضة حدت من الحرية الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع ، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق الآدميين .
ولكن الإسلام لم يكتف بهذا ، لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر ، وهي التحرير الكامل لكل البشر . ولذلك عمل فعلاً على تحرير الأرقاء ، بوسيلتين كبيرتين : هما العتق والمكاتبة .
فأما العتق فهو التطوع من جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء ، وقد شجع الإسلام على ذلك تشجيعاً كبيراً ، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من عنده من الأرقاء ، وتلاه في هذا أصحابه ، وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء العبيد من سادة قريش الكفار ، ليعتقهم ويمنحهم الحرية ؛ وكان بيت المال يشتري العبيد من أصحابهم ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال . قال يحيى بن سعيد : " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية ، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم".(3/59)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة ، أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين . ونص القرآن الكريم على أن كفارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب . كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان ، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع ، وكل ابن آدم خطاء كما يقول الرسول . ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة الإسلام إلى الرق ، فقد جعل كفارة القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة : " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " ( ) . والقتيل الذي قتل خطأ هو روح إنسانية قد فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق ، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من جانبين : التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم ، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة ! فكأن تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ . والرق على ذلك هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام ، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط بها الرقيق ، ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء بتحريرهم من الرق ( ) !
ويذكر التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق ، وأن هذا العدد الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى ، لا قبل الإسلام ، ولا بعده بقرون عدة حتى مطلع العصر الحديث . كما أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة ، تنبع من ضمائر الناس ابتغاء مرضاة الله ، ولاشيء غير مرضاة الله .
أما المكاتبة ، فهي منح الحرية للرقيق متى طلبها بنفسه ، مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد والرقيق . والعتق هنا إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه . وإلا تدخلت الدولة ( القاضي أو الحاكم ) لتنفيذ العتق بالقوة ، ومنح الحرية لطالبها .
وبتقرير المكاتبة ، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام ، لمن أحس في داخل نفسه برغبة التحرر ، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا تسنح على مر الأيام .
ومنذ اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة ـ والسيد لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها الرقيق ، ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة الإسلامية ـ يصبح عمله عند سيده بأجر ، أو يتاح له ـ إذا رغب ـ أن يعمل في الخارج بأجر ، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه.
ومثل ذلك قد حدث في أوربا في القرن الرابع عشر ـ أي بعد تقرير الإسلام له بسبعة قرون ـ مع فارق كبير لم يوجد في غير الإسلام ، وهو كفالة الدولة للأرقاء المكاتبين ـ وذلك إلى جانب مجهود الإسلام الضخم في عتق الأرقاء تطوعاً بلا مقابل ، تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته .
تقول الآية التي تبين مصارف الزكاة : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... وفي الرقاب … " ( ) فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال ـ وهو الخزانة العامة في العرف الحديث ـ لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير ، إذا عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه .
وبهذا وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه واسعة في سبيل تحرير الرقيق ، وسبق بها التطور التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل ، وزاد على هذا التطور عناصر – كرعاية الدولة – لم يفىء إليها العالم إلا في مطلع تاريخه الحديث . وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً ، سواء في حسن معاملة الرقيق ، أو في عتقه تطوعاً ، بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي اضطرت الغرب اضطراراً لتحرير الرقيق كما سيجيء .
وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون ودعاواهم " العلمية " الزائفة ، التي تزعم أن الإسلام حلقة من حلقات التطور الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية – فها هي ذي قد سبقت موعدها بسبعة قرون – والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره ، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور وتستجيب له ، ولكنها لا تسبقه ، ولا تستطيع أن تسبقه ، كما قرر العقل الذي لا يخطىء ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته ، عقل كارل مارس تقدست ذكراه ! فها هو ذا الإسلام لم يعمل بوحي النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم كله ، لا في شأن الرقيق ، ولا في توزيع الثروة ، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم ، أو المالك بالأجير ( ) ، وإنما كان ينشئ نظمه الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء على نحو غير مسبوق ، ولا يزال في كثير من أبوابه متفرداً في التاريخ .
وهنا يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر : إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها نحو تحرير الرقيق ، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه ، فلماذا لم يخط الخطوة الحاسمة الباقية ، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث المبدأ ؟(3/60)
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية وسياسية أحاطت بموضوع الرق ، وجعلت الإسلام يضع المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق ، ويدعها تعمل عملها على المدى الطويل .
يجب أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح وإنما تؤخذ . وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول ، فالعبيد الذين حررهم لنكولن ـ من الخارج ـ بالتشريع ، لم يطيقوا الحرية ، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا ، لأنهم ـ من الداخل ـ لم يكونوا قد تحرروا بعد .
والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية . فالحياة عادة . والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية ( ) . والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر ، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء ، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات ، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد ، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده ، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ . ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه ، ولو كان أبسط الأشياء ، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها ، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها ، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة ، ومشكلات لا حل لها ، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار !
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية ـ والشرقية ـ في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم للغرب. يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطلها ـ في كثير من الأحيان ـ إلا الجبن عن مواجهة نتائجها ! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً أو أمريكياً ( ) .. الخ . ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ ! والشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر ، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير ، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير ، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل ، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة عندهم متضخم ، فهم أشبه شيء بالعبيد ، وإن كانوا رسمياً من الأحرار !
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده . وهو ناشىء في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال ، ولكنه يستقل عنها ، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض ، ثم يمد جذوراً خاصة به ويستقل عن الأصل . وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يغير من الداخل ، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر ، وتنمي الأجهزة الضامرة في نفس العبد ، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه الممسوخ .
وذلك ما صنعه الإسلام
فقد بدأ أولا بالمعاملة الحسنة للرقيق . ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة ، ويرد إليها اعتبارها ، فتشعر بكيانها الإنساني ، وكرامتها الذاتية ، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه ، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون .
وقد وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ضربنا أمثلة منها من قبل في آيات القرآن وأحاديث الرسول ، ونسرد هنا أمثلة أخرى في التطبيق الواقعي .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب . فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي ، وبين مولاه زيد وعمه حمزة ، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك في الميراث !
ولم يكتف بهذا الحد …
فقد زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد . والزواج مسألة حساسة جداً وخاصة من جانب المرأة ، فهي تقبل أن تتزوج من يفضلها مقاماً ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثروة ، وتحس أن هذا يحط من شأنها ويغض من كبريائها . ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشرية الظالمة إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش .
ولم يكتف كذلك بهذا الحد .(3/61)
فقد أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب ، فلما قتل ولى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش ، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول وخليفتاه من بعده ، فلم يعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية ، بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على " الأحرار " . ووصل في ذلك إلى أن يقول : " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى ( ) " . فأعطى الموالي بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة ، وهو ولاية أمر المسلمين . وقد قال عمر وهو يستخلف : " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم . ويضرب عمر مثلاً آخر من الأمثلة الرائعة على احترام الموالي ؛ إذ يعارضه بلال بن رباح في مسألة الفيء فيشتد في معارضته ، فلا يجد سبيلاً في رده إلا أن يقول : " اللهم اكفني بلالاً وأصحابه " ! ذلك وهو الخليفة الذي كان يملك ـ لو أراد ـ أن يأمر فيطاع!
هذه النماذج التي وضعها الإسلام كان المقصود بها تحرير الرقيق من الداخل ـ كما قلنا في مبدأ هذا الفصل ـ لكي يحس بكيانه فيطلب الحرية ، وهذا هو الضمان الحقيقي للتحرير .
وصحيح أنه شجع على العتق وحث عليه بكل الوسائل ، ولكن هذا نفسه كان جزءاً من التربية النفسية للرقيق ، لكي يشعروا أن في إمكانهم أن يحصلوا على الحرية ويتمتعوا بكل ما يتمتع به السادة من حقوق ، فتزداد رغبتهم في الحرية ويتقبلوا احتمال التبعات في سبيلها ، وهنا يسارع في منحها لهم ، لأنهم حينئذ مستحقون لها ، قادرون على صيانتها .
وفرق كبير بين النظام الذي يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل ، ثم يعطيها لهم في اللحظة التي يطلبونها بأنفسهم ، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد وتتحرج ، حتى تقوم الثورات الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف ، ثم لا تعطي الحرية لطلابها إلا مجبرة كارهة .
وقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق ، أنه قد حرص على التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج ، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل النفوس ؛ مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية ، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها . وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء الحقوق لأصحابها ، مع تربيتهم على التمسك بها واحتمال تبعاتها ـ على أساس الحب والمودة بين جميع طوائف المجتمع ـ قبل أن يتصارعوا من أجل هذه الحقوق ، كما حدث في أوربا ، ذلك الصراع البغيض الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد . فيفسد كل ما يمكن أن تصيبه البشرية من الخير في أثناء الطريق .
والآن نتحدث عن العامل الأكبر الذي جعل الإسلام يضع الأساس لتحرير الرقيق ثم يدعه يعمل عمله من خلال الأجيال .
لقد جفف الإسلام منابع الرق القديمة كلها ، فيما عدا منبعاً واحداً لم يكن يمكن أن يجففه ، وهو رق الحرب . ولنأخذ في شيء من التفصيل .
كان العرف السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم ( ) . وكان هذا العرف قديماً جداً ، موغلاً في ظلمات التاريخ ، يكاد يرجع إلى الإنسان الأول ، ولكنه ظل ملازماً للإنسانية في شتى أطوارها .
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال . ووقعت بينه وبين أعداءه الحروب ، فكان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام ، فتسلب حرياتهم ، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق ، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب ، يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم ، بلا ضابط ولا نظام ، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكاراً كن أم غير أبكار . أما الأطفال – إن وقعوا أسرى – فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض .
عندئذ لم يكن جديراً بالمسلمين أن يطلقوا سراح من يقع في أيديهم من أسرى الأعداء . فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه ، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء . والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه ، أو هي القانون الوحيد . ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ فروقاً عميقة بين الإسلام وغيره من النظم في شأن الحرب وأسرى الحرب .
كانت الحروب – وما تزال – في غير العالم الإسلامي لا يقصد بها إلا الغزو والفتك والاستعباد . كانت تقوم على رغبة أمة في قهر غيرها من الأمم ، وتوسيع رقعتها على حسابها ، أو لاستغلال مواردها وحرمان أهلها منها ؛ أو لشهوة شخصية تقوم في نفس ملك أو قائد حربي ، ليرضي غروره الشخصي وينتفش كبراً وخيلاء ، أو لشهوة الانتقام .. أو ما إلى ذلك من الأهداف الأرضية الهابطة . وكان الأسرى الذين يسترقون ، لا يسترقون لخلاف في عقيدة ، ولا لأنهم في مستواهم الخلقي أو النفسي أو الفكري أقل من آسريهم ، ولكن فقط لأنهم غلبوا في الحرب .(3/62)
وكذلك لم تكن لهذه الحرب تقاليد تمنع من هتك الأعراض أو تخريب المدن المسالمة , أو قتل النساء والأطفال والشيوخ ، وذلك منطقي مع قيامها لغير عقيدة ولا مبدأ ولا هدف رفيع.
فلما جاء الإسلام أبطل ذلك كله ، وحرم الحروب كلها . إلا أن تكون جهاداً في سبيل الله .. جهاداً لدفع اعتداء عن المسلمين ، أو لتحطيم القوى الباغية التي تفتن الناس عن دينهم بالقهر والعنف . أو لإزالة القوى الضالة التي تقف في سبيل الدعوة وإبلاغها للناس ليروا الحق ويسمعوه .
( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) ( ) . ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ( ) .
فهي دعوة سلمية لا تكره أحداً : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( ) وبقاء اليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي على دينهم حتى اللحظة برهان قاطع لا يقبل الجدل ولا المماحكة ، يثبت أن الإسلام لم يكره غيره على اعتناقه بقوة السيف ( ) .
فاذا قبل الناس الإسلام ، واهتدوا إلى دين الحق ، فلا حرب ولا خصومة ولا خضوع من أمة لأمة ، ولا تمييز بين مسلم ومسلم على وجه الأرض ، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى .
فمن أبى الإسلام وأراد أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي – مع إيمان الإسلام بأنه خير من هذه العقيدة وأقوم سبيلاً – فله ذلك دون إكراه ولا ضغط ، على أن يدفع الجزية مقابل حماية الإسلام له ، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز المسلمون عن حمايته ( ) فإن أبوا الإسلام والجزية فهم إذن معاندون متبجحون ، لا يريدون للدعوة السلمية أن تأخذ طريقها ، وإنما يريدون أن يقفوا بالقوة المادية في طريق النور الجديد يحجبونه عن عيون قوم ربما اهتدوا لو خلي بينهم وبين النور .
عند ذلك فقط يقوم القتال ، ولكنه لا يقوم بغير إنذار أو إعلان ، لإعطاء فرصة أخيرة لحقن الدماء ونشر السلم في ربوع الأرض : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) ( ) .
تلك هي الحرب الإسلامية ، لا تقوم على شهوة الفتح ولا رغبة الاستغلال ، ولا دخل فيها لغرور قائد حربي أو ملك مستبد ، فهي حرب في سبيل الله وفي سبيل هداية البشرية ، حين تخفق الوسائل السلمية كلها في هداية الناس .
ولها مع ذلك تقاليد ؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته: " اغزوا باسم الله في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ً " ( ) .
فلا قتل لغير المحارب الذي يقف بالسلاح يقاتل المسلمين ، ولا تخريب ولا تدمير ولا هتك للأعراض ، ولا إطلاق لشهوة الشر والإفساد : ( إن الله لا يحب المفسدين ) .
وقد راعى المسلمون تقاليدهم النبيلة هذه في كل حروبهم ، حتى في الحروب الصليبية الغادرة ، حين انتصروا على عدوهم الذي كان في جولة سابقة قد انتهك الحرمات واعتدى على المسجد الأقصى فهاجم المحتمين فيه بحمى الله – رب الجميع – وأسال دماءهم فيه أنهاراً ، فلم ينتقموا لأنفسهم حين جاءهم النصر ، وهم يملكون الإذن من الدين ذاته بالمعاملة بالمثل : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) ( ) . ولكنهم ضربوا المثل الأعلى الذي يعجز عنه غير المسلمين في كل الأرض حتى العصر الحديث .
ذلك فارق أساسي في أهداف الحرب وتقاليدها بين المسلمين وغير المسلمين . وقد كان الإسلام يملك لو أراد – والحق يسنده في ذلك – أن يعتبر من يقع في يديه من الأسرى – ممن يعاندون الهدى ويصرون على وثنيتهم الهابطة وشركهم المخرف – قوماً ناقصي الآدمية ، ويسترقهم بهذا المعنى وحده . فما يصر بشر على هذه الخرافة – بعد إذ يرى النور – إلا أن يكون في نفسه هبوط أو في عقله انحراف ، فهو ناقص في كيانه البشري ، غير جدير بكرامة الآدميين ، وحرية الأحرار من بني الإنسان .
ومع ذلك فإن الإسلام لم يسترق الأسرى لمجرد اعتبار أنهم ناقصون في آدميتهم ، وإنما لأنهم – وهذه حالهم – قد جاءوا يعتدون على حمى الإسلام ، أو وقفوا بالقوة المسلحة يحولون بين الهدى الرباني وبين قلوب الناس .
وحتى مع ذلك فلم يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى . فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء ، وأطلق بعضهم لقاء فدية ، وأخذ من نصارى نجران جزية ورد إليهم أسراهم ، ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشرية في مستقبلها .
ومما هو جدير بالإشارة هنا أن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب : ( فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) ( ) لم تذكر الاسترقاق للأسرى ، وإنما ذكرت الفداء وإطلاق السراح دون مقابل ، حتى لا يكون الاسترقاق تشريعاً دائماً للبشرية ولا ضربة لازب ، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيش الإسلامي المحارب إذا اقتضته الظروف والملابسات .(3/63)
يضاف إلى ذلك أن الأسرى الذين كانوا يقعون في يد الإسلام كانوا يعاملون تلك المعاملة الكريمة التي وصفناها من قبل ، ولا يلقون الهوان والتعذيب ، وكان يفتح أمامهم باب التحرر حين تسعى نفوسهم إليه وتحتمل تبعاته ، وإن كان معظمهم في الواقع لم يكن حراً قبل أسره ، إنما كان من الرقيق الذي استرقه الفرس والرومان ودفعوه إلى قتال المسلمين .
فكأن الأمر في الحقيقة لم يكن استرقاقاً من أجل الاسترقاق . ولا كان الرق أصلاً دائماً يهدف الإسلام إلى المحافظة عليه ، فاتجاه الإسلام إلى تحرير الرقيق هو الاتجاه البارز الذي تشير كل الدلائل إليه .
وإنما هو وضع موقوت يؤدي في النهاية إلى التحرير .
تقوم الحرب بين المسلمين وأعداء الإسلام فيقع بعض الأسرى من الكفار في يد المسلمين، فيصبحون – في بعض الحالات ، لا في كل الحالات ولا بصورة حتمية – رقيق حرب ، فيعيشون فترة من الزمن في جو المجتمع الإسلامي ، يبصرون عن كثب صورة العدل الرباني مطبقاً في واقع الأرض ، وتشملهم روح الإسلام الرحيمة بحسن معاملتها واعتباراتها الإنسانية ، فتتشرب أرواحهم بشاشة الإسلام ، وتتفتح بصائرهم للنور .. وعندئذ يحررهم الإسلام بالعتق في بعض الأحيان ، أو بالمكاتبة إن تاقت نفوسهم إلى الحرية وسعوا إليها .
وبذلك تصبح الفترة التي يقضونها في الرق في الحقيقة فترة علاج نفسي وروحي ، قوامه إحسان المعاملة لهم ، وإشعارهم بآدميتهم المهدرة ، وتوجيه أرواحهم إلى النور الرباني بغير إكراه .. ثم في النهاية يكون التحرير ..
وذلك كله في حالة الاسترقاق . وليست هي السبيل الوحيد الذي يسلكه الإسلام ، كما يتضح من آية التشريع ، ومن السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف الغزوات .
أما النساء فقد كرمهن - حتى في رقهن - عما كن يلقين في غير بلاد الإسلام . فلم تعد أعراضهن نهباً مباحاً لكل طالب على طريقة البغاء ( وكان هذا هو مصير أسيرات الحروب في أغلب الأحيان ) وإنما جعلهن ملكاً لصاحبهن وحده ، لا يدخل عليهن أحد غيره ، وجعل من حقهن نيل الحرية بالمكاتبة ، كما كانت تحرر من ولدت لسيدها ولداً ويحرر معها ولدها ، وكن يلقين من حسن المعاملة ما أوصى به الإسلام .
* * *
تلك قصة الرق في الإسلام : صفحة مشرفة في تاريخ البشرية . فالإسلام لم يجعل الرق أصلاً من أصوله ، بدليل أنه سعى إلى تحريره بشتى الوسائل ، وجفف منابعه كلها لكي لا يتجدد ، فيما عدا المنبع الواحد الذي ذكرناه وهو رق الحرب المعلنة للجهاد في سبيل الله . وقد رأينا أن الرق فيها ليس ضربة لازب ، وأنه – إن حدث – فلفترة موقوتة تؤدي في النهاية إلى التحرير ..
أما ما حدث في بعض العهود الإسلامية من الرق في غير أسرى الحروب الدينية ، ومن نخاسة واختطاف وشراء لمسلمين لا يجوز استرقاقهم أصلاً ، فإن نسبته إلى الإسلام ليست أصدق ولا أعدل من نسبة حكام المسلمين اليوم إلى الإسلام بما يرتكبونه من موبقات وآثام !
وينبغي أن نجعل بالنا إلى عدة أمور في هذا الموضوع .
الأول : هو تعدد منابع الرق عند الدول الأخرى بغير ضرورة ملجئة سوى شهوة الاستعباد ، من استرقاق أمة لأمة ، وجنس لجنس ، واسترقاق للفقر . واسترقاق بالوراثة من الميلاد في طبقة معينة ، واسترقاق بسبب العمل في الأرض إلخ ، وإلغاء هذه المنابع كلها في الإسلام ، فيما عدا المنبع الوحيد الذي شرحنا ظروفه من قبل .
والثاني : أن أوربا مع تعدد موارد الرق فيها بغير ضرورة ، لم تلغ الرق حين ألغته متطوعة ، وكتابهم يعترفون بأن الرق ألغي حين ضعف إنتاج الرقيق – لسوء أحوالهم المعيشية وفقدان الرغبة أو القدرة على العمل – بحيث أصبحت تكاليف العبد من إعاشة وحراسة أكثر من إنتاجه ! ! فهي إذن حسبة اقتصادية لا غير ، يحسب فيها المكسب والخسارة ، ولا ظل فيها لأي معنى من المعاني الإنسانية التي تشعر بكرامة الجنس البشري ، فتمنح الرقيق حريته من أجلها ! هذا بالإضافة إلى الثورات المتتابعة التي قام بها الرقيق فاستحال معها دوام استرقاقه .
ومع ذلك فإن أوربا حينئذ لم تمنحه الحرية . ولكنها حولته من رقيق للسيد إلى رقيق للأرض ، يباع معها ويشترى ، ويخدم فيها ، ولا يجوز له أن يغادرها ، وإلا اعتبر آبقاً وأعيد إليها بقوة القانون مكبلاً بالسلاسل مكوياً بالنار . وهذا اللون من الرق هو الذي بقي حتى حرمته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ، أي بعد أن قرر الإسلام مبدأ التحرير بما يزيد على ألف ومائة عام .
والأمر الثالث : أنه لا يجوز أن تخدعنا الأسماء . فقد ألغت الثورة الفرنسية الرق في أوربا ، وألغى لنكولن الرق في أمريكا ، ثم اتفق العالم على إبطال الرق .. كل ذلك من الظاهر . وإلا فأين هو الرق الذي ألغي ؟ وما اسم ما يحدث اليوم في كل أنحاء العالم ؟ وما اسم الذي كانت تصنعه فرنسا في المغرب الإسلامي ؟ وما اسم الذي تصنعه أمريكا في الزنوج ، وانجلترا في الملونين في جنوب افريقيا ؟(3/64)
أليس الرق في حقيقته هو تبعية قوم لقوم آخرين ، وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة للآخرين ؟ أم هو شيء غير ذلك ؟ وماذا يعني أن يكون هذا تحت عنوان الرق ، أو تحت عنوان الحرية والإخاء والمساواة ؟ ماذا تجدي العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها هي أخبث ما عرفته البشرية من الحقائق في تاريخها الطويل ؟
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس فقال : هذا رق ، وسببه الوحيد هو كذا ، والطريق إلى التحرر منه مفتوح .
أما الحضارة الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها ، فلا تجد في نفسها هذه الصراحة ، فهي تصرف براعتها في تزييف الحقائق وطلاء اللافتات البراقة . فقتل مئات الألوف في تونس والجزائر والمغرب لغير شيء سوى أنهم يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية : حريتهم في أن يعيشوا في بلادهم بلا دخيل ، وأن يتكلموا لغتهم ، ويعتقدوا عقيدتهم ، ولا يخدموا إلا أنفسهم . وحريتهم في التعامل المباشر مع العالم في السياسة والاقتصاد ... قتل هؤلاء الأبرياء وحبسهم في السجون القذرة بلا طعام ولا ماء ، وانتهاك أعراضهم والسطو على نسائهم ، وقتلهن بلا مبرر وشق بطونهن للتراهن على نوع الجنين .. هذا اسمه في القرن العشرين حضارة ومدنية ونشر لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة . أما المعاملة المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق قبل ثلاثة عشر قرناً ، تطوعاً منه وإكراماً للجنس البشري في جميع حالاته ، مع إعلانه العملي بأن الرق وضع مؤقت وليس حالة دائمة ، فهذا اسمه تأخر وانحطاط وهمجية .
وحين يضع الأمريكان على فنادقهم ونواديهم لافتات تقول : " للبيض فقط " أو تقول في وقاحة كريهة : " ممنوع دخول السود والكلاب " ، وحين يفتك جماعة من البيض " المتحضرين " بواحد من الملونين ، فيطرحونه أرضاً ويضربونه بأحذيتهم حتى يسلم الروح ، ورجل الشرطة واقف لا يتحرك ولا يتدخل ، ولا يهم لنجدة أخيه في الوطن وفي الدين واللغة
. فضلاً عن الأخوة في البشرية ، كل ذلك لأنه – وهو ملون – تجرأ فمشى إلى جانب فتاة أمريكية بيضاء لا عرض لها – وبإذنها لا كرها عنها – يكون هذا هو أقصى ما وصل إليه القرن العشرون من التحضر والارتفاع .
أما حين يتهدد العبد المجوسي عمر بالقتل ، ويفهم عنه عمر ذلك ، ثم لا يحبسه ولا ينفيه من الأرض ، ولا نقول يقتله ، وهو مخلوق ناقص الآدمية حقا لأنه يعبد النار ويصر على عبادتها تعصباً منه للباطل بعد أن رأى الحق بعينيه ، فما أشد همجية عمر ، وما أشد ازدراءه لكرامة الجنس البشري لأنه قال: " تهددني العبد " ! ثم تركه حراً حتى ارتكب جريمته فقتل خليفة المسلمين ، لأنه لم يكن يملك عليه سلطاناً قبل أن يقترف الجريمة .
وقصة الملونين في أفريقيا ، وحرمانهم من حقوقهم البشرية وقتلهم أو " اصطيادهم " حسب تعبير الجرائد الإنجليزية الوقحة ، لأنهم تجرأوا فأحسوا بكرامتهم وطالبوا بحريتهم ، هذا هو العدل البريطاني في قمته ، والحضارة الإنسانية في أوجها ، والمبادئ السامية التي تجيز لأوربا الوصاية على العالم . أما الإسلام فهو همجي جداً لأنه لم يتعلم " اصطياد " البشر ، والتلهي بقتلهم لأنهم سود البشرة . بل وصل توغله في التأخر والانحطاط أن يقول : " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة .. "
* * *
أما المرأة فلها حساب آخر .
كان الإسلام قد أباح للسيد أن يكون عنده عدد من الجواري من سبى الحرب ( ) يستمتع بهن وحده ، ويتزوج منهن أحياناً إذا شاء . وأوربا تستنكر هذا اليوم وتتعفف عن هذه الحيوانية البشعة التي تعتبر الجواري متاعاً مباحاً ، وأجساداً لا حرمة لها ولا كرامة ، كل مهمتها في الحياة إشباع لذة بهيمية بغيضة ، لرجل لا يرتفع عن مستوى الحيوان .
وجريمة الإسلام الحقيقية في هذا الأمر أنه لا يبيح البغاء ! فقد كانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن ، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية العرض ، فيشغلونهن في هذه المهمة البغيضة ، ويكسبون من هذه التجارة القذرة : تجارة الأعراض . ولكن الإسلام – المتأخر – لم يقبل البغاء ، وحرص على حفظ المجتمع نظيفاً من الجريمة ، فقصر هؤلاء الجواري على سيدهن ، عليه إطعامهن وكسوتهن وحفظهن من الجريمة ، وإرضاء حاجتهن الجنسية – عرضاً – وهو يقضي حاجته .
أما ضمير أوربا فلا يطيق هذه الحيوانية ... ولذلك أباحت البغاء ومنحته رعاية القانون وحمايته ! وراحت تنشره عامدة في كل بلد وطئته أقدامها مستعمرة . فما الذي تغير من الرق حين تغير عنوانه ؟ وأين كرامة البغي وهي لا تملك رد طالب – وما يطلبها أحد إلا لأقذر معنى يمكن أن تهبط إليه البشرية : دفعة الجسد الخالصة التي لا تلطفها عاطفة ، ولا ترتفع بها روح ؟ وأين من هذه القذارة الحسية والمعنوية ما كان بين السادة والجواري في الإسلام ؟(3/65)
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس ، فقال : هذا رق . وهؤلاء جوار . وحدود معملتهن هي كذا وكذا . ولكن الحضارة المزيفة لا تجد في نفسها هذه الصراحة ، فهي لا تسمي البغاء رقا ، وإنما تقول عنه إنه " ضرورة اجتماعية " !
ولماذا هو ضرورة ؟
لأن الرجل الأوربي المتحضر لا يريد أن يعول أحداً : لا زوجة ولا أولاداً . يريد أن يستمتع دون أن يحتمل تبعة . يريد جسد امرأة يفرغ فيه شحنة الجنس . ولا يعنيه من تكون هذه المرأة ، ولا تعنيه مشاعرها نحوه ولا مشاعره نحوها . فهو جسد ينزو كالبهيمة ، وهي جسد يتلقى هذه النزوة بلا اختيار ، ويتلقاها لا من واحد بعينه ، ولكن من أي عابر سبيل .
هذه هي " الضرورة " الاجتماعية التي تبيح استرقاق النساء في الغرب في العصر الحديث . وما هي بضرورة لو ارتفع الرجل الأوربي إلى مستوى " الإنسانية " ولم يجعل لأنانيته كل هذا السلطان عليه .
والدول التي ألغت البغاء في الغرب المتحضر لم تلغه لأن كرامتها أوجعتها ، أو لأن مستواها الخلقي والنفسي والروحي قد ارتفع عن الجريمة . كلا ! ولكن لأن الهاويات قد أغنين عن المحترفات . ولم تعد الدولة في حاجة إلى التدخل !
وبعد ذلك يجد الغرب من التبجح ما يعيب به نظام الجواري في الإسلام ، ذلك النظام الذي كان قبل ألف وثلثمائة عام – وعلى أنه نظام غير مطلوب له الدوام – أكرم بكثير وأنظف بكثير من النظام الذي يقوم اليوم في القرن العشرين ، وتعتبره المدنية نظاماً طبيعيا ً، لا يستنكره أحد ، ولا يسعى في تغييره أحد ، ولا يمانع أحد في أن يظل باقياً إلى نهاية الحياة!
ولا يقل قائل إن هؤلاء " الهاويات " يتطوعن دون إكراه من أحد وهن مالكات لحريتهن الكاملة . فالعبرة بالنظام الذي يدفع الناس بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية إلى قبول الرق أو الوقوع فيه . ولا شك أن " الحضارة " الأوربية هي التي تدفع إلى البغاء وتقره ، سواء كان البغاء الرسمي أو بغاء المتطوعات الهاويات !
تلك قصة الرق في أوربا حتى القرن العشرين : رق الرجال والنساء والأمم والأجناس. رق متعدد المنابع متجدد الموارد ، في غير ضرورة ملجئة ، اللهم إلا خسة الغرب وهبوطه عن المستوى اللائق لبني الإنسان .
ودع عنك استرقاق الدولة الشيوعية لأفراد شعبها حتى لا يملك أحدهم حرية اختيار العمل الذي يريده ، ولا المكان الذي يعمل فيه ، واسترقاق أصحاب رؤوس الأموال للعمال في الغرب الرأسمالي حتى لا يملك أحدهم سوى اختيار السيد الذي يستعبده .
دع عنك هذا وذاك ، فقد تجد المجادلين عنه والمنافحين . ويكفي ما سردناه من ألوان الرق الصارخة الصريحة ، التي تتم باسم المدنية وباسم التقدم الاجتماعي ! ثم انظر هل تقدمت البشرية في أربعة عشر قرناً ، بعيداً عن وحي الإسلام ، أم إنها ظلت تنحدر وتتأخر ، حتى لتحتاج اليوم إلى قبس من هدي الإسلام ، يخرجها مما هي فيه من الظلام ؟ !
الإسلام … والإقطاع
سمعت أخيراً ( ) أن طالباً قدم للجامعة بحثاً يثبت فيه أن الإسلام نظام إقطاعي ، وأنه نال على هذا البحث درجة الماجستير ! وعجبت للطالب والأساتذة في آن واحد . وقد يكون الطالب جاهلاً ، أو قد يكون سيِّء النية . أما الأساتذة العظام الأجلاء فما بالهم ؟ وكيف ينحدرون إلى هذا المستوى في فهم النظم الاجتماعية والاقتصادية ، وفهم وقائع التاريخ ؟
ولكن العجب زال حين تذكرت من هم أولئك الأساتذة الأجلاء . أليس هؤلاء من الجيل الذي صنعه الاحتلال على عينه ، ليفسدوا مَنْ بعدهم من الأجيال ؟ أليسوا هم الذين عنى بهم دنلوب عناية خاصة ، فحرص على إرسالهم إلى أوربا ليزدادوا " علماً " أو ليزدادوا في الحقيقة بعداً عن مقوماتهم الحقيقية ، ونفوراً من دينهم وتقاليدهم ، واحتقاراً لذواتهم وتاريخهم وعقائدهم ؟
بلى ، إنهم أولئك . فلا عجب ولا استغراب !
ما هو الإقطاع أيها السادة الأجلاء ، وما هي مقوماته ؟
ننقل هنا وصفاً له ، كتبه الدكتور راشد البراوي في كتابه " النظام الاشتراكي " منقولاً بطبيعة الحال عن المصادر الأوربية :(3/66)
" ونظام الإقطاع عبارة عن أسلوب من الإنتاج ، الصفة المميزة له هي التبعية الدائمة serfdom ويعرفونه بأنه نظام في ظله يلتزم المنتج المباشر نحو سيده أو مولاه بأداء مطالب اقتصادية معينة ، سواء أكانت تلك المطالب تؤدي على هيئة خدمات يقوم بها ، أم على شكل مدفوعات " أو استحقاقات " يؤديها نقداً أو عيناً . ولتوضيح ذلك نقول : إن المجتمع الإقطاعي كان ينقسم إلى طبقتين : الأولى وتشمل ملاك الأبعاديات الإقطاعية . والثانية وتتكون من المزارعين على اختلاف مراتبهم ، فمنهم الفلاحون والعمال الزراعيون والعبيد ، وإن كان عدد الآخرين ظل يتناقص باطراد وسرعة . فهؤلاء الفلاحون ، أي المنتجون المباشرون ، لهم الحق في حيازة مساحة من الأرض يعتمدون عليها بوسائلهم في كسب معاشهم وإنتاج ما يلزمهم من أسباب العيش ، كما يمارسون في بيوتهم الصناعات البسيطة التي تتصل بالزراعة . ولكنهم مقابل ذلك يلزمون بأمور عدة مثل الخدمة الأسبوعية في أرض الشريف مع آلاتهم وماشيتهم ، والخدمة الإضافية في المواسم الزراعية ، وتقديم الهدايا في الأعياد والمناسبات الخاصة ، وعليهم كذلك أن يطحنوا غلالهم في المطاحن التي يقيمها الشريف وأن يعصروا كرومهم في معصرته …
" وكان الشريف يمارس أمور الحكم والقضاء ، أي أنه يشرف على تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى أهل منطقته .
" … غير أن هذا المنتج المباشر في ظل النظام الإقطاعي لم يكن حراً بالمعنى الذي نعرفه فيما بعد ، فهو لا يملك الأرض ملكية كاملة ، ولا يستطيع التصرف فيها بالبيع والتوريث أو الهبة ، وكان يؤدي أعمال السخرة في أرض الشريف الخاصة رغماً عنه وضد مصلحته ، وعليه أن يؤدي ضريبة- غير محدودة المقدار- اعترافاً بعلاقة التبعية ، وهو ينتقل مع الأرض إذا ما انتقلت هذه من يد إلى أخرى . وليست له الحرية المطلقة في مغادرة مكان العمل أو محاولة الالتحاق بخدمة سيد آخر . فهو إذن يمثل حلقة متوسط بين العبد في العصور القديمة ، والمزارع الحر في العصر الحديث .
" ... فالمالك هو الذي يحدد مساحة الأرض التي يهبها للفلاح ، وهو الذي يحدد مقدار الخدمات التي يطلب من الأجير أداءها وهو في قراراته هذه لا يتقيد بتصرفات الملاك الآخرين ، ولا يستجيب لمطالب الفلاحين .
ثم يقول : " وهنا بدأت في القرن الثالث عشر حركة هجرة غير مشروعة من جانب العمال الزراعيين ، وهي الحركة المعروفة باسم " فرار الفلاحين " . وحاول الملاك استرداد الفلاحين الهاربين ، فعقدوا فيما بينهم اتفاقات تقضي بأن يقبض كل مالك على العمال الذين يصلون إلى إقطاعيته ، غير أن عملية الفرار هذه كانت ظاهرة عامة ، وشعر كل مالك بحاجته إلى العمال لمزاولة الزراعة ، فبدأ التحرر من هذه الاتفاقات ، وهكذا أخفقت محاولة التعاون بين الملاك ، وهنا رأى الأخيرون أنه لا بد من علاج آخر ، فاتجه التفكير إلى إحلال الأجور النقدية محل السخرة الإجبارية .
" وتمكن كثيرون من الفلاحين من تكوين فائض . واستغلوا حاجة الأمراء والملاك الإقطاعيين ، فاشتروا حريتهم الشخصية . وإذا كانت هذه الظواهر لم تصبح تقاليد شائعة حتى القرن الرابع عشر ، فالمهم أن الأسس التي كان يقوم عليها المجتمع الإقطاعي قد أخذت تتقوض ، وهي عملية اطرد تقدمها في القرون التالية ( ) " .
تلك مقومات الإقطاع ، نقلناها بتفصيلاتها لتتضح صورتها في أذهاننا ولا تختلط علينا بغيرها من المظاهر والأشكال . فمتى وأين يا ترى حدث في الإسلام مثل هذا الإقطاع ؟
لعل المظهر الذي يشتبه على بعض الباحثين ، أو الذي يستغله المغرضون ليقلوا منه الشبهات حول الإسلام ، هو انقسام المجتمع الإسلامي لفترة من الوقت إلى ملاك للأبعاديات ، وفلاحين يعملون في هذه الأبعاديات . ولكن هذا مجرد مظهر ، وهو خال من الدلالة الزائفة التي يلصقها به هؤلاء وهؤلاء . ولنعد إلى المقومات الأساسية للإقطاع لنوازن بينها وبين ما حدث في المجتمع الإسلامي . إنها :
أولاً : التبعية الدائمة Serfdom
ثانياً : الالتزامات التي يلتزم بها الفلاح نحو السيد ، وتشمل :
(أ ) ... الخدمة المجانية الإجبارية في أرض الشريف يوماً كل أسبوع .
(ب ) ... الخدمة المجانية الإجبارية في المواسم .
(ج) تقديم الهدايا في الهدايا والمناسبات ( ويلاحظ هنا أن الفلاح الفقير هو الذي يقدم الهدايا للسيد الغني ! )
(د) طحن الغلال في مطحنة الشريف ( ونغض النظر عن عصر الكروم فالخمر محرمة في الإسلام ) .
ثالثاً : تحديد الشريف - حسب هواه - لمقدار الأرض الممنوحة لرقيق الأرض والخدمات والضرائب المطلوبة منه .
رابعاً : ممارسة الشريف لأمور الحكم والقضاء حسبما يقضي به مزاجه الخاص لعدم وجود قانون عام .
خامساً : اضطرار الفلاحين إلى شراء حريتهم بالمال حين آذن هذا النظام بالانهيار ..
وبعد فهذا هو التاريخ الإسلامي مفتوحاً للجميع ، فليبحثوا فيه عن مثل هذه المقومات !(3/67)
أما التبعية الدائمة فمسألة لم يعرفها الإسلام قط في خارج دائرة الرق ، وقد شرحنا في الفصل السابق أصوله وأسبابه ووسائل التحرر منه . وليس في الإسلام رق للأرض . وإنما كان الأرقاء الذين جاءوا عن طريق الحرب وهم قلة على أي حال بالنسبة لمجموع السكان ، يعملون في أرض السادة إذا كانوا لم يعتقلوا تطوعاً ولم يطلبوا الحرية مكاتبة . ولكن هذا ليس المقصود بالتبعية الدائمة في الإقطاع الأوروبي . وإنما المقصود - إلى جانب وجود الأرقاء - تبعية الفلاحين والعمال الزراعيين جميعاً . وهم ليسوا أرقاء للسادة ، ولكنهم أرقاء للأرض ، لا يملكون تركها ولا التحرر من الالتزامات الملقاة على عاتقهم لأصحابها .
وهذا اللون من الرق أو التبعية هو الذي لم يوجد أبداً في الإسلام .
ذلك أن الإسلام - من حيث المبدأ - لا يعترف بعبودية ولا تبعية إلا لله خالق الحياة . أما التبعية لمخلوقات الله فليست أصلاً من أصوله . وإذا كانت قد وجدت في الرق - لظروف خاصة وعارضة - فهي حالة موقوتة يعمل الإسلام على إزالتها بكل الوسائل ، ويشجع الأرقاء أنفسهم على التخلص منها ، ويمنحهم معاونة الدولة ورعايتها .
ثم إن الإسلام - من الوجهة الاقتصادية - لا يقيم بنيانه الاقتصادي على تبعية إنسان لإنسان ، فيما عدا حالة الرق التي أشرنا إليها ، والتي لم يكن لها مخلص اقتصادي في ذلك الحين ، حتى تتحرر نفوس الأرقاء من الداخل ويحتملوا تبعة أنفسهم فيعملوا أحرارا ً، وعند ذلك يمنحهم الإسلام حريتهم . وإنما يقيم الإسلام بنيانه على أساس حرية العمل ، مع التعاون التام وتبادل الخدمات بين الجميع . والدولة دائماً موجودة تعول من تقصر به موارده عن الحياة الكريمة ، أو يعجز عن العمل لأي سبب من الأسباب .
وما دامت كفالة الدولة موجودة ومتاحة للجميع ، فليس هناك ما يدفع أحداً إلى استرقاق نفسه لأصحاب الأرض ، وهو يملك الحرية والكرامة ومطالب الحياة الأساسية عن غير هذا الطريق .
فمن الوجهة الروحية والوجهة الاقتصادية معاً منع الإسلام الإقطاع بصورته المعروفة ، وأدرك الناس قبل أن يصبحوا رقيقاً للأرض فحررهم من وبال الإقطاع .
وأما الالتزامات التي يلتزم بها الفلاح لصاحب الأرض فلم يعرفها كذلك تاريخ الإسلام . لم يحدث قط - والإسلام إسلام - أن كان الفلاح ملزماً بشيء تجاه صاحب الأرض ، وذلك لانتفاء التبعية ، وقيام علاقة حرة بين هذا وذاك .
كانت العلاقة الوحيدة التي عرفها الإسلام بين الفلاح وصاحب الأرض هي الإيجار أو المزارعة . وبمقتضاها يستأجر الفلاح جانباً من الأرض قل أو كثر بحسب ما تستطيع موارده ، ويكون حراً حرية كاملة في زراعته على نفقته وجني محصوله كله لنفسه ، أو يشارك صاحب الأرض ، فيدفع الأخير كل النفقات ويقدم الأول جهده ، ثم يقتسمان الناتج آخر العام .
وفي كلتا الحالتين لا توجد التزامات إجبارية نحو " السيد " ولا سخرة ، ولا أية خدمة بلا ثمن . وإنما هو التزام متبادل بين طرفين متكافئين في الحرية وفي الحقوق والواجبات . فالفلاح حر أولاَ في اختيار الأرض التي يستأجرها ، أو المالك الذي يزارعه . وحر ثانياً في التفاوض مع صاحب الأرض على قيمة الإيجار ، فإذا لم يجدها صفقة كاسبة فله ألا يعمل في الأرض ، وليس للمالك أن يلزمه بشيء . فإذا ارتضى نظام المزارعة فالتزاماته فيه مكافئة لالتزامات المالك ومتوقفة عليها وربحه كذلك مناصفة مع صاحب الأرض .
ثم إننا نجد – على العكس مما حدث في الإقطاع – أن المالك الغني هو الذي يبر فلاحيه بالهدايا والعطايا المختلفة في الأعياد والمناسبات ، وخاصة في شهر رمضان ، وهو شهر ذو منزلة خاصة عند المسلمين ، يكثر فيه التزاور عند المسلمين بين الأحباب والأصدقاء ، وتكثر المآدب التي تجمع الشمل وتبر المحتاجين . وهذا هو الأمر المنطقي الذي يتلاءم مع طبائع الأشياء فالغني هو الذي ينفق وهو الذي يتحمل العطايا والهدايا وليس الفقير هو المكلف بإهداء الغني ، كما اقتضت " إنسانية " أوروبا !
أما الطواحين فقد جرى العرف في البلاد الإسلامية أن يقوم بها الفقراء ، يكتسبون عن طريقها ، ولم تكن في أيدي الملاك يفرضون استخدامها على الفلاحين !(3/68)
ومن هنا نجد أن الالتزامات التي تأخذ صورة السخرة لم توجد في النظام الإسلامي . وإنما قامت مكانها علاقة حرة مبنية على الاحترام المتبادل والمساواة الكاملة في الكرامة الإنسانية . أما " الالتزامات " التي كان يقوم بها الشريف في أوروبا من حماية فلاحيه ورعايتهم ، ويقتضي ثمنها هذه السخرة الظالمة والاستعباد المذل ، فقد كان الأغنياء في الإسلام يقومون بها تطوعاً بدون مقابل ، لأنهم يأخذون مقابلها التقرب إلى الله ووفاء حقه في العبادة ، وهذا فارق حاسم بين النظام الذي يقوم على عقيدة والنظام الذي يقوم خواء منها . ففي الأول تصبح الخدمات الاجتماعية عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ، وفي الثاني تصبح عملية تجارية يحاول كل طرف فيها أن يأخذ أكبر كسب ويدفع أقل ما يستطيع ، وتصبح الغلبة في النهاية للقوي لا لصاحب الحق .
ثم ننتقل إلى السمة الثالثة من سمات الإقطاع ، وهي تحديد السيد للقدر " الممنوح " من الأرض ، وتحديده كذلك للخدمات المطلوبة من الفلاح . وهما أمران يتمشيان مع السيادة والتبعية هناك ، ولم يكن لهما وجود في النظام الإسلامي الذي يقوم على أساس آخر ، غير سيادة المالك وتبعية الفلاح . فالقدر الذي يستأجره الفلاح تحدده مقدرته المالية ورغبته الحرة ؛ وهنا تكون الخدمة من الفلاح وإليه ، ولا شأن للمالك بها غير استيفاء قيمة الإيجار . أما في المزارعة فمقدار الأرض التي يزرعها الفلاح يتوقف على مقدرته البدنية ، وعدد الأيدي العاملة التي يملكها ( أولاده في الغالب ) ، والخدمة المطلوبة هي ما تحتاج إليه هذه الأرض التي تعتبر مشتركة بين الفلاح والمالك حتى تؤتي ثمارها ، أما بقية أرض المالك التي لم تدخل في المزارعة فلا شأن للفلاح بها ، وليس مكلفاً بأي خدمة فيها .
ولكن أهم ما يفرق بين الإقطاع والنظام الإسلامي في الواقع ، هو ممارسة الشريف لأمور الحكم والقضاء في نظام الإقطاع ، أي إشرافه على تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بالنسبة لأهل منطقته ، وانتفاء ذلك من أساسه في الإسلام .
لم يكن لدويلات أوربا قانون عام بالمعنى المفهوم ، وحتى القانون الروماني الذي أصبح فيما بعد أساس التشريعات القانونية في أوربا كلها ، قد أباح للإقطاعيين أن يكونوا هم الحكام المطلقين في إقطاعياتهم ، يشرعون لها ، ويحكمون بين أهلها ، وينفذون الأحكام بمعرفتهم ، فاجتمعت لهم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن واحد ، وكان كل منهم دولة داخل دولة ، لا شأن للحكومة به في داخل إقطاعيته طالما أنه يؤدي " التزاماته " المالية والحربية عند الاقتضاء .
ولم يكن كذلك الحال في الإسلام . فقد كانت هناك دولة مركزية ذات قانون عام ، تشرف على تنفيذه في كل الأرض التابعة لها ، وتعين قضاة لكل منهم سلطته المستقلة المستمدة من تعيين الحاكم له ، ليقوم بتنفيذ الشريعة في حدود اختصاصه ، وليس لأحد عليه من سلطان إلا حين يخطئ أو يسيء . وحتى حين فسدت صورة الحكم فصار ملكاً وراثياً لا بيعةً حرة ، فقد بقيت المقومات الأخرى لنظام الحكم الإسلامي قائمة راسخة ، فظلت الدولة تهيمن على كل كبيرة وصغيرة داخل أجزائها ، وظل القانون العام مرعياً في كل مكان يتحاكم الناس إليه في مشارق الأرض ومغاربها بطريقة واحدة – في حدود اختلاف الفقهاء بطبيعة الحال ، وهو أمر يحدث في كل قانون على ظهر الأرض – لذلك لم يكن هوى الشريف ولا مشيئته الخاصة هي القانون الذي ينفذ على الفلاحين ، بل إرادة الله ، وشرعه الذي وضعه لجميع الناس يطبق عليهم بالسوية وبصورة واحدة ، لا بين الفلاح وصاحب الأرض فقط وكلاهما من الأحرار ، بل بين العبد والسيد ، حتى في الحالة الاستثنائية التي يكون فيها بشر ملكاً لبشر آخر .
ولا شك انه حدثت حالات قضى فيها قضاة بما يخالف ضميرهم ، وما يخالف الشرع ، إرضاء لصاحب الأرض أو صاحب السلطان . ولكن هذه الأمثلة لا يجوز أن تؤخذ على أنها القاعدة السارية . لأن الواقع التاريخي – الذي اعترف به الأوربيون أنفسهم – يخالف ذلك . كما أنه لا يجوز أن تؤخذ وحدها وتهمل تلك الأمثلة الرائعة في تاريخ البشرية كلها ، حين كان القاضي يحكم للرجل الفقير الذي لا حول له ولا قوة ، لا ضد صاحب الأرض ، ولا ضد الوالي ولا ضد واحد من الوزراء . بل ضد الخليفة نفسه صاحب الأمر كله والسلطان .. ثم لا يعزل القاضي ، ولا ينتقم السلطان !(3/69)
كذلك لم تحدث حركة فرار بين الفلاحين كما حدث في أوربا ، لأن الفلاحين كانوا أحرارا في الانتقال لا من مزرعة إلى مزرعة فحسب ، بل من قطر إلى قطر في داخل العالم الإسلامي الواسع الممتد من المحيط إلى المحيط ، لا يحبسهم عن حرية التنقل شيء إلا أن يكون رغبتهم الخاصة في البقاء في بقعة معينة من الأرض ، كما هي طبيعة الفلاحين المصريين مثلاً . ولكن غيرهم من الفلاحين في العالم الإسلامي كانوا أقل شعوراً برابطة الأرض وأكثر قدرة على التنقل ، فلم يقف في سبيلهم مانع من الموانع التي وقفت في سبيل الفلاحين الأوربيين من تبعية والتزامات .
وأما شراء الفلاحين لحريتهم بالمال فإنه لم يحدث بطبيعة الحال في العالم الإسلامي ، لسبب بسيط هو أنهم كانوا أحراراً بالفعل ، فلا حاجة بهم إلى شراء الحرية .
يضاف إلى ذلك كله ، أن العالم الإسلامي كان يشتمل على عدد كبير من الملكيات الصغيرة التي يستقل بها أصحابها ويكفون بها حاجتهم ، إلى جانب العمل في التجارة البرية والبحرية ، وفي أنواع الحرف الصناعية التي كانت معروفة في ذلك الحين ، مما ينفي نفياً باتاً صورة الإقطاع المظلمة الحالكة التي خيمت على أوربا في العصور الوسطى ، وظلت تنشر معها الظلام الفكري والجهالة الروحية ، حتى أنقذها منها الاتصال بالعالم الإسلامي في الحروب الصليبية مرة ، وفي الأندلس مرة أخرى ، فأفاقت من غشيتها في عصر النهضة ، وبدأت تخرج من الظلمات إلى النور .
* * *
وهكذا نجد أن الإقطاع لم يقم قط في العالم الإسلامي ، طالما كان الإسلام هو الذي يحكم المجتمع ، لأنه بروحانياته واقتصادياته ، وعقائده وتشريعاته ، لا يسمح بقيام الإقطاع ، ولا يسكت عن الوسائل التي تؤدي إليه . وحتى مظاهر الإقطاع التي كانت تحف بالأسر المالكة من بني أمية وبني العباس ، فقد كانت محدودة النطاق ولم تكن تبلغ أن تكون سمة عامة للمجتمع ، فضلاً على كونها مخالفة في جوهرها لحقيقة الإقطاع .
وإنما وجد الإقطاع حقاً في البلاد الإسلامية في العصر الحديث في أواخر الحكم العثماني ، حين جفت ينابيع العقيدة في النفوس ، وتوالى على الحكم أقوام لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه . من الباشوات العثمانيين ، من أمثال محمد علي ( الكبير ! ) وأبناءه في مصر ، والبيوت المالكة في شتى البلاد الإسلامية ، وزاد الأمر سوءاً حين طغت الروح الأوربية المادية الجاحدة على ربوع العالم الإسلامي بتأثير الاحتلال ، فأفسدت روح البر والتكافل في المجتمع ، وحولتها إلى استغلال بشع من الأغنياء ، وذل وعبودية للفقراء ، في التفاتيش الملكية وتفاتيش الأمراء وغيرهم من كبار الإقطاعيين ، وما يزال هذا الإقطاع يعيش بكل مقوماته – الأوربية – في كل مكان لم تشمله روح الإصلاح ، وهو ليس من الإسلام ، وليس الإسلام مسئولاً عنه ، لأنه لا يكون مسئولاً إلا حين يحكم . والذي يحكم اليوم هو الدساتير الأوروبية التي جاء بها قوم من تلاميذ الاستعمار يتشبثون بها كما يتشبث العبيد بذل الاسترقاق !
* * *
ومن هذا البحث نستطيع أن نستخلص جملة حقائق تنفعنا ونحن نستعرض صراع المبادئ والمذاهب الذي يشتد أواره اليوم في العالم الحديث .
من هذه الحقائق :
أولاً : انه ليست الملكية في ذاتها هي التي تنشئ الإقطاع بطريقة حتمية لا إرادة للإنسان فيها . و إنما هي طريقة التملك وطبيعة العلاقة بين الملاك وغير الملاك . ولذلك وجدت الملكية في العالم الإسلامي ولم يوجد الإقطاع ، لان النظام الإسلامي بنظرياته وتطبيقاته ينشئ بين الناس علاقات لا تسمح بقيام الإقطاع .
ثانياً : أن أوربا حين وقعت في الإقطاع تقع فيه لأنه طور اقتصادي طبيعي لا بد أن تمر فيه البشرية أرادت أم لم ترد ، وإنما هي انحدرت إليه بسبب عدم وجود نظام ولا عقيدة تنظم مشاعر الناس وتنظم علاقاتهم . ولو وجد النظام والعقيدة – كما حدث في الإسلام – لما استعصت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية على التنظيم ، ن ولما كان التطور الاقتصادي قوة جبرية على الأفكار والمشاعر تمنع توجيهها إلى حيث يراد لها من التحرر والارتفاع .
ثالثاً : أن الأطوار الاقتصادية التي ترسمها نظرية المادية الجدلية على أنها تاريخ عام للبشرية ، وهي : الشيوعية الأولى ، والرق ، والإقطاع ، والرأسمالية ، والشيوعية الثانية ، لا تمثل في الواقع إلا تاريخ أوربا فقط ، ولا تتقيد بها إلا أوربا ، أما بقية العالم فليس حتماً أن يسير في هذه الأطوار- وقد رأينا أن العالم الإسلامي لم يمر بالإقطاع في دورة التاريخي – وليس حتماً كذلك أن يصل إلى الشيوعية في نهاية المطاف ! ( محمد قطب)
======================
الاسلام ... والرأسمالية(3/70)
لم تنشأ الرأسمالية في العالم الإسلامي لأنها نشأت بعد اختراع الآلة . وهذا تم – كما نعلم - في العالم الغربي . ولم يكن ذلك حتماً ، لأنه كان يمكن أن يحدث في الأندلس على يد العرب المسلمين ، لو استمرت الدولة الإسلامية قائمة هناك ، ولم يقتلها التعصب الديني ، ومحاكم التفتيش التي تمثل أبشع ما حدث في تاريخ العالم من اضطهاد بسبب العقيدة ، والتي كانت موجهة في حقيقتها إلى المسلمين .
نعم . كانت الحركة العلمية في الأندلس سائرة في طريقها الطبيعي إلى اختراع الآلة ، ولكن الظروف السياسية التي طردت المسلمين من هناك أخرت التقدم العلمي عن موعده بضعة قرون حتى أفاقت أوربا من غشيتها ، وتسلمت علوم المسلمين ، وعلوم الإغريق التي كانت هي الأخرى في رعاية الجامعات الإسلامية ، وانطلقت – من ثم – تشق طريقها في متدان الاختراع .
وإنما انتقلت الرأسمالية إلى العالم الإسلامي وهو مغلوب على آمره ، واقع في قبضة الأوربيين ، غارق في الفقر والجهل والمرض والتأخر ، فسرت فيه بحكم " التطور " ، وظن بعض الناس – لذلك – أن الإسلام يقبل الرأسمالية بخيرها وشرها ، وانه ليس في نظمه وتشريعاته ما يعارضها أو يقف دونها ، لأنه يبيح الملكية الفردية ، وهذه قد صارت بحكم التطور الاقتصادي العالمي إلى ملكية رأسمالية . وما دام الإسلام يبيح الأصل فهو يبيح النتائج بطبيعة الحال !
وكان يكفي للرد على هؤلاء أن نذكر بديهية صغيرة يعرفها كل من درس الاقتصاد . وهي أن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم وتأخذ صورتها الواسعة التي هي عليها اليوم بغير الربا والاحتكار ، والإسلام قد حرمهما كليهما قبل نشوء الرأسمالية بأكثر من ألف عام !
ولكنا لا نريد أن نتعجل الرد على أولئك المبطلين ، ونريد أن نفترض أن اختراع الآلة قد نشأ في العالم الإسلامي – كما كان يمكن أن يحدث – فكيف كان الإسلام سيواجه التطور الاقتصادي الذي سينشأ لا محالة نتيجة اختراع الآلة ، وكيف كان سينظم علاقات العمل والإنتاج في ظل نظمه وتشريعاته ؟
يجمع كتاب الاقتصاد حتى المعادون منهم للرأسمالية – وعلى رأسهم كارل ماركس على أن الرأسمالية في نشأتها كانت خطوة تقدمية جبارة ، وأنها أدت خدمات هائلة للبشرية في شتى مناحي الحياة ، فقد زادت الإنتاج ، وأصلحت وسائل المواصلات ، واستغلت موارد الطبية على نطاق واسع لم يكن متاحا من قبل ، ورفعت مستوى الحياة بالنسبة لطبقة العمال عما كانوا عليه في عهد الاعتماد الكلي أو الرئيسي على الزراعة .
ولكن هذه الصفحة المشرقة لم تدم طويلاً ، لان الرأسمالية – بتطورها الطبيعي كما يقولون – قد أدت إلى تكدس الثروات في أيدي أصحاب رؤوس الأموال ، وتضاؤلها النسبي المتزايد في أيدي العمال . فصار صاحب رأس المال يشغل العامل – وهو وحده المنتج الحقيقي في نظر الشيوعية – لإنتاج أكبر قدر من المنتجات ، ويعطيه أجراً ضئيلاً لا يفي بالحياة الكريمة لجمهور العمال – الكادحين – مستخلصاً لنفسه " فائض القيمة " في صورة أرباح فاحشة يعيش بها حياة ترف فاجرة لا تقف عند حد .
هذا فضلاً على حقيقة أخرى : وهي أن ضآلة أجر العامل تمنعه من استهلاك كل إنتاج المصانع في البلاد الرأسمالية ، لأنه لو أخذ من الأجر ما يكفي لاستهلاك الناتج كله أو معظمه لانتفى ربح رأس المال أو لتضاءل إلى أقصى حد . وهذا ما لا تسمح به الرأسمالية لأنها تنتج للربح أولاً قبل كل شيء . ومن هنا تتكدس البضائع سنة بعد سنة ، وتبحث الدول الرأسمالية عن أسواق جديدة لتصريف بضائعها . فينشأ الاستعمار ، وما يتلوه من تطاحن على الأسواق وعلى موارد المواد الخامة ينتهي بالحروب المدمرة ..
ومع ذلك كله فلا بد أن تحدث في ظل النظام الرأسمالي أزمات دورية نتيجة الانكماش الذي ينشأ من ضآلة الأجور وضآلة الاستهلاك العالمي بالنسبة للإنتاج المتزايد ..
وبغض النظر عن التفكير العجيب الذي يجعل دعاة المادية والمؤمنين بجبرية الاقتصاد يقولون : إن هذا كله لا ينشأ عن سوء نية أصحاب رؤوس الأموال ولا رغبتهم الذاتية في الاستغلال ، وإنما هذا من طبيعة رأس المال ! ! بغض النظر عن هذا التفكير الساذج العجيب الذي يجعل الإنسان كله بأفكاره ومشاعره مخلوقاً سلبياً لا حول له ولا قوة أمام قوة الاقتصاد .. فإننا نعود إلى الفرض الذي افترضناه . وهو نشأة الرأسمالية في العالم الإسلامي .
فأما الخطوات الأولى التي يجمع كتاب الاقتصاد بما فيهم كارل ماركس على أنها كانت خيراً عميماً للبشرية ، أو على الأقل كان الخير فيها غالباً على الشر فان الإسلام لم يكن ليقف في سبيلها ، لأنه لا يكره الخير للبشرية ، بل مهمته الدائمة هي نشر الخير في ربوع الأرض.
ومع ذلك فهو لم يكن ليتركها وشأنها بدون تشريع ينظم علاقاتها ، ويمنع ما قد يصاحبها من سوء استغلال ، سواء كان ناشئاً من نية خبيثة عند صاحب رأس المال ، أو كان من طبيعة رأس المال ذاته دون دخل لصاحبه فيه ! (3/71)
والمبدأ التشريعي الذي وضعه الفقه الإسلامي في هذا الباب – وسبق به كل الدول الرأسمالية على الإطلاق – هو اعتبار العامل شريكاً في الربح مع صاحب رأس المال . وذهب بعض فقهاء المذهب المالكي إلى حد تحديد الشركة بالنصف ، على أن يدفع صاحب المال جميع التكاليف ، ويستقل العامل بعمل يده ، فجعل جهد صاحب المال في إنتاج المال مساوياً لجهد العامل في صناعة الإنتاج ، وساوى بين نصيبهما في الربح على هذا الأساس .
وأول ما يبدو هنا في هذا المبدأ هو حرص الإسلام العجيب على العدالة ، وسبقه في التفكير فيها والعمل عليها ، تطوعاً منه وإنشاء ، لا خضوعاً للضرورات الاقتصادية – التي لم تكن قد وجدت بعد بصورة فعالة يحس بضغطها الفقهاء – ولا نتيجة للصراع الطبقي الذي يزعم بعض دعاة المذاهب الاقتصادية أنه العامل الوحيد الفعال في تطور العلاقات الاقتصادية!
وقد كانت الصناعة في مبدأ عهدها صناعة يدوية بسيطة ، يشتغل فيها القليل من العمال في مصانع بسيطة ، فكان هذا التشريع الذي أشرنا إليه كفيلاً بإقامة العلاقات بين العمل ورأس المال على أساس من العدالة لم تحلم بها أوربا في تاريخها الطويل .
ولكن الفقه الإسلامي وقف عند هذا الحد - هو حد رفيع في ذاته - لأن العالم الإسلامي بعد ذلك تناوشته المصائب من كل صوب ، من التتار مرة ، ومن الحكام الجبابرة مرة ، ومن نكبة الأندلس ، ومن المنازعات الداخلية التي صرفت طاقة المسلمين عن التقدم ، وحولتها إلى بلادة ذهنية وروحية وحسية ظل يعاني آثارها إلى وقت قريب .
وفي أثناء وقوف الفقه الإسلامي كان العالم يتطور بسرعة بعد اختراع الآلة الميكانيكية ، وكانت تستجد كل يوم أحداث جديدة ، وعلاقات جديدة بين طوائف البشر ، لم يشترك فيها العالم الإسلامي ، ولم يضع لها من الفقه ما يناسب تطورها .
ولكن الفقه شيء والشريعة شيء آخر ، الشريعة هي المصدر الثابت الذي يحتوي المبادئ العامة ( ويحتوي أحياناً تفصيلات دقيقة كذلك ) .
أما الفقه فهو التطبيق المتطور الذي يستمد من الشريعة ما يناسب كل عصر ، وهو عنصر متجدد لا يقف عند عصر ولا جيل .
على أننا إزاء تطور الرأسمالية لم نكن في حاجة إلى تعب كبير في استنباط التطبيق الفقهي من الشريعة ، لأنها أمدتنا بمبادئ صريحة واضحة لا تحتمل التأويل .
يقول مؤرخو الاقتصاد إن الرأسمالية في أثناء تطورها من صورتها البسيطة الخيرة التي كانت عليها في مبدأ الأمر ، إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم ، أخذت تعتمد رويداً رويداً على الديون الأهلية ، ومن هذه نشأ نظام المصارف التي تنظم العمليات الرأسمالية الكبرى ، وتقرضها ما تحتاج إليه من الأموال لتشغيلها في مقابل ما تأخذه من " الفوائد " والأرباح .
ولا نحتاج هنا أن ندخل في تفصيلات اقتصادية معقدة ، فهذه حقيقة مسلم بها ، وليرجع لكتب الاقتصاد من يرغب في الاطلاع على التفصيلات . وإنما يهمنا أن نشير إلى أن هذه القروض ، وجملة من أعمال المصارف ، قائمة على الربا وهو محرم تحريماً صريحاً في الإسلام .
كذلك يقول الاقتصاديون - وهو أمر مشاهد في الوقت الحاضر - إن المنافسة الرأسمالية العنيفة تؤدي في النهاية إلى تحطيم الشركات الصغيرة ، أو اندماجها بعضها في بعض لتأسيس شركة كبيرة ، وهذا وذلك يؤديان حتماً إلى الاحتكار في نهاية المطاف . والاحتكار حرام في الإسلام بنص أحاديث الرسول القاطعة بشأنه . ( )
وعلى ذلك فلم يكن من الممكن أن تتطور الرأسمالية - لو نشأت في أحضان الإسلام - إلى صورتها الفاحشة التي وصلت إليها اليوم ، والتي تؤدي إلى سوء الاستغلال ، والاستعمار والحروب . وإذن فكيف كان يكتب لها أن تسير ؟ هل تقف عند حد الصناعات البسيطة التي وصل إليها الفقه الإسلامي أم تتخذ طريقاً أخر يكون فيه الخير ولا يقع الشر المرهوب ؟
أما وقف الصناعة فهو عملية لا يشير بها الإسلام ، ولا بد للاختراع أن يأخذ طريقه ، ويؤثر حتماً في وسائل الإنتاج الكبير (Mass Production ) في النهاية .
وأما تطور علاقات الإنتاج بصورة أخرى غير ما حدث في أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ، فهذا هو الذي كان يمكن أن يكون ، بتنمية التشريعات الاقتصادية وفق نظريات الإسلام الخاصة ، كما سبق الإسلام بمسألة نصف الربح في موضوع الأجور .
وبهذا كان الإسلام يتفادى أمرين في وقت واحد : يتفادى اللجوء إلى الربا والاحتكار اللذين تحرمهما شريعته ، ويتفادى الظلم الشنيع الذي يقع على العمال حين يتركون فريسة لأصحاب رؤوس الأموال يستغلونهم أبشع استغلال ويمتصون دماءهم ، ثم يتركونهم في حمأة الفقر المدقع والحياة المذلة لكبرياء الإنسان . وهو أمر لا يستطيع أن يقره الإسلام .(3/72)
ولا يقولنّ أحد إنه لم يكن من الممكن أن يطفر الإسلام إلى ذلك دفعة واحدة قبل أن يمر بالتجارب القاسية والصراع الطبقي والضغط الاقتصادي الذي يلجئه إلى تعديل تشريعاته ، فها قد ثبت لدينا بديل قاطع أن الإسلام قد سبق تطور البشرية في مسألة الرق والرأسمالية البسيطة متطوعاً غير خاضع لضغط ، وإنما مدفوعاً بفكرته الذاتية عن الحق والعدل الأزليين اللذين يسخر بهما فردريك إنجلز وغيره من الشيوعيين . كما ثبت أيضاً أن روسيا ذاتها قد انتقلت طفرة من الإقطاع إلى الشيوعية ولم تمر بالمرحلة الرأسمالية ، فكانت - وهي الدولة التي اعتنقت آراء كارل ماركس - أكبر مكذب عملي لنظرية ماركس في تحديد المراحل التطورية التي " ينبغي " أن تمر فيها البشرية .
أما الاستعمار والحروب واستغلال الشعوب وكل ما صاحب الرأسمالية من شرور عالمية . فهو خارج من حساب الإسلام أصلاً بطبيعة الحال .
فليس من مبادئه أن يستعمر أو يشن حرباً للاستغلال ، لأن الحرب الوحيدة التي يقرها هي الحرب لدفع العدوان أو لنشر الدعوة حين تقف القوة المسلحة في سبيل الدعوة السلمية . ولا مجال في الإسلام لما يقوله الشيوعيون وإضرابهم من أن الاستعمار كان مرحلة حتمية في حياة البشرية لا يمكن أن تقف في سبيله المبادئ ولا قضايا الأخلاق ، لأنه مسألة اقتصادية ناشئة من تكدس البضائع في البلاد المنتجة والحاجة إلى أسواق خارجية لتصريفها .. لا مجال لهذا الهراء كله لأنهم هم أنفسهم يقولون – أو على الأقل يزعمون - أن روسيا ستتصرف في هذه المشكلة بطريقة أخرى ، هي زيادة نصيب العمال من الإنتاج أو تخفيض ساعات العمل ، بحيث لا يتبقى فائض يحتاج في تصريفه إلى استعمار . والذي تزعم الشيوعية أنها اهتدت إليه ليس وقفاً عليها وحدها . على أن التاريخ يشهد أن الاستعمار نزعة قديمة في البشرية ، ولم ينتج من الرأسمالية ، وإنما الرأسمالية زادته حدة في العصر الحديث بما تملك من وسائل جديدة للتخريب ، ولكنه كان في عهد الرومان لا يقل بشاعة عما هو اليوم من حيث المبدأ ، ومن حيث استغلال الغالب للمغلوب . ويشهد التاريخ كذلك أن أنظف نظام في هذا الباب هو النظام الإسلامي ، لأن حروبه - فما عدا قلة نادرة لا تحسب عليه - كانت بريئة من الاستغلال والاستذلال ، فكان هو أولى النظم - لو نشأت فيه الصناعات الكبرى -أن يلجأ لحل مشكلة الفائض من الإنتاج بغير الاستعمار والحروب . على أن مشكلة الفائض من الإنتاج ذاتها إنما هي إفراز للنظام الرأسمالي بصورته هذه . فلو تغيرت أسسه ما وجدت المشكلة ( ).
هذا كله من ناحية . ومن ناحية أخرى فإن ولي الأمر في الإسلام لا يقف عاجزاً أمام مشكلة تضخم الأموال في يد فئة قليلة من الناس ، وبقاء المجموع في حالة من الشظف والحرمان . فهذا مخالف لمبادئه الصريحة التي تحتم توزيع المال بين الجميع : " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ( ) وولي الأمر مكلف بتنفيذ الشريعة بكل طريقة يرى أنها توصله إلى ذلك ما دام لا يقع فيها لا ظلم ولا ضرر . وفي يده سلطة واسعة لهذا الشأن لا حدود لها إلا طاعة الله . على أن مجموعة الأنظمة الإسلامية في ذاتها تمنع ابتداء من هذا التضخم . ونشير هنا إلى نظام الإرث وتفتيته للثروة على رأس كل جيل . وإلى نظام الزكاة واقتطاعه واحداً من أربعين من رأس المال وربحه في كل عام . ونظام التكافل الذي يبيح في بعض الحالات التوظيف في رؤوس الأموال بالقدر الذي يحتاج إليه بيت المال للضرورات . ثم تحريم كنز المال . وتحريم الربا الذي هو العامل الأول والأساسي لتضخم رؤوس الأموال . ثم طبيعة العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم وقيامها على التكافل العام .(3/73)
ثم أن الضمانات التي كفلها الرسول الكريم لموظفي الدولة مشتملة على المطالب الأساسية للإنسان : " من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً ، أو ليست له زوجة فليتخذ زوجة ، أو ليس له خادم فليتخذ له خادماً ، أو ليست له دابة فليتخذ دابة " ( ) هذه الضمانات لا يمكن عقلاً أن تكون وقفاً على موظفي الدولة . وإنما هي المطالب الأساسية التي يحتاج إليها كل شخص وينالها بوسيلة من الوسائل مقابل العمل الذي يؤديه ، سواء كان للدولة مباشرة ، أو في حرفة يحترفها ويعود النفع منها على المجتمع . وإذا كانت الدولة قد تعهدت لموظفيها بكفالة هذه المطالب ، فهي مكلفة كذلك أن تضمنها لكل فرد يعمل في أي عمل في الدولة . يؤيدنا في ذلك أن بيت المال يكفل العاجزين عن العمل لسبب من الأسباب - كالمرض أو الشيخوخة أو الطفولة .. الخ - ويكمل الحاجات الأساسية لمن تقصر بهم مواردهم الخاصة عن بلوغها . كل ذلك يدل دلالة واضحة على مسئولية الدولة في أن تكفل لعمال المصانع هذه المطالب الأساسية التي ذكرها الرسول في حديثه ، بوسيلة من الوسائل . فليست الوسيلة هي المهمة - وهذه يحددها كل عصر بما يراه - وإنما المهم هو المبدأ الذي يكفل توزيع المغانم والمغارم على طوائف الأمة . وحين يكفل الإسلام هذه المطالب للعمال يكون قد حماهم من الاستغلال السيئ وكفل لهم الحياة الحرة الكريمة .
على أي حال لم يكن يمكن أن يسمح الإسلام بقيام الرأسمالية في صورتها البشعة التي نراها اليوم في الغرب " المتحضر " وكانت تشريعاته ، الموجود منها مباشرة في صلب الشريعة ، والمستحدث منها لمواجهة الظروف المتطورة في حدود المبادئ العامة للشريعة ، كانت هذه التشريعات وتلك ستقف في سبيل شرور الرأسمالية ، لا تسمح لها بما ترتكبه اليوم من استغلال لعرق الكادحين ودمائهم ، ومن استعمار وحروب واسترقاق للشعوب .
ولكن الإسلام - كعادته - لم يكن ليكتفي بالتشريعات الاقتصادية وغير الاقتصادية . فهو يلجأ كذلك إلى الدعوة الخلقية والروحية ، التي يسخر بها الشيوعيون لأنهم يرونها - في أوربا - معلقة في الفضاء ، غير قائمة على أساس عملي . ولكنها في الإسلام ليست كذلك . فهذا النظام العجيب لا يوجه دعوة للروح وأخرى للتنظيم الاقتصادي منفصلة هذه عن تلك ، ولكنه يمزج بطريقته الفريدة بين تهذيب الروح وتنظيم المجتمع ، فيوفق بين هذا وذاك ، ولا يترك الفرد تائها حائراً يحاول التوفيق بين الواقع والمثال فلا يهتدي ولا يستطيع . إنه يقيم التشريع على أساس خلقي ، ويجعل الدعوة الخلقية متمشية مع التشريع ، فيلتقي الجانبان في نظام واحد ، ويصبح كل منهما مكملاً للآخر موصلاً إليه ، بلا تعارض ولا انفصال .
والدعوة الخلقية هنا تحرم الترف وتحاربه . وهل ينشأ من تضخم الأرباح في يد فئة قليلة من الناس إلا الترف البغيض والمتاع الحسي الغليظ ؟ وتحرم ظلم الأجير وعدم توفيته أجره ، وهل ينشأ تضخم الأرباح إلا من ظلم الأجراء ؟ وتدعوا إلى إنفاق المال في سبيل الله - ولو خرج الإنسان عن كل ماله . وهل ينشأ الفقر الذي يعيش فيه أغلب الشعب إلا لأن الأغنياء ينفقون أموالهم على أنفسهم ، ولا ينفقونها في سبيل الله ( ) ؟
والدعوة الروحية تربط الإنسان بالله ، وتزهده في كل مغانم الأرض وملذاتها في سبيل مرضاة الله ، وانتظاراً لثوابه في الآخرة .. وهل يتكالب الإنسان على تكديس المال ويسلك إلى ذلك سبيل الظلم والاستغلال وبينه وبين الله رابطة ، أو في قلبه إيمان باليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب ؟
وهكذا تكون مهمة الدعوة الخلقية والروحية أن تمهد للتشريعات الاقتصادية التي تقف في سبيل الرأسمالية ، حتى إذا جاءت هذه التشريعات لم تكن طاعتها ناشئة من خوف القانون ، وإنما تنبعث هذه الطاعة كذلك عن رغبة في داخل الضمير .
* * *
أما الرأسمالية التي تقوم اليوم في العالم الإسلامي بأبشع مظاهرها ، فليست من الإسلام ، والإسلام ليس مسؤولاً عنها . لأن الناس لا يحكمون الإسلام في حياتهم في قليل ولا كثير ! (محمد قطب)
====================
الإسلام … والملكية الفردية
هل الملكية الفردية نزعة فطرية ؟
يصر الشيوعيون وأضرابهم على أنها ليست كذلك . ويقولون إنه في المجتمع الأول حيث كانت تسود الشيوعية الأولى ، لم يكن هناك ملك خاص لأحد ، وإنما كان كل شيء ملكاً للجميع ، وكانت تسود الجميع روح المحبة والتعاون والإخاء . ولكن هذه الفترة الملائكية لم تدم طويلاً مع الأسف ، فمنذ اكتشفت الزراعة دب الخلاف على الأرض المنزرعة وعلى وسائل الإنتاج . وبدأت الحروب .. وصار البشر إلى ما هو عليه اليوم من حب للملكية الفردية وتطاحن عليها . ولا خلاص لهم من هذا الشر المستطير إلا أن يرجعوا إلى حالتهم الأولى ، حيث لا يكون هناك ملك خاص لأحد ، وإنما يملك الجميع ، وتعود روح المحبة والوئام فتسيطر على البشر !
* * *(3/74)
ونترك الشيوعيين هنيهة ، فنجد علماء النفس والاجتماع مختلفين فيما بينهم اختلافاً شديداً في تحديد ما هو فطري وما هو مكتسب في سلوك الإنسان ومشاعره وأفكاره . وهم مختلفون بطبيعة الحال في أمر الملكية الفردية : هل هي نزعة فطرية يولد بها الإنسان بصرف النظر عن الظروف المحيطة به ، أم أنها من أثر البيئة ، أي أن الذي يدفع الطفل إلى التشبت بلعبة وأشيائه هو عدم كفايتها ، ومحاولة غيره أخذها منه ، فحين يوجد عشرة أطفال ولعبة واحدة لا بد أن يتنازعوا عليها ، ولكن حين يكون للأطفال العشرة عشرة لعب يكتفي كل واحد بلعبته ويبطل النزاع ..
* * *
ولنا على هؤلاء وهؤلاء بعض الملاحظات :
أولاً : أن أحداً من أولئك العلماء لم يستطع أن يجزم بأن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية ، وكل ما قاله اليساريون منهم هو أنه لا يوجد دليل قاطع على أنها نزعة فطرية . وفرق بين هذا وبين النفي البات ، ولو قد وجدوا دليلاً يقيناً ينفيها ما ترددوا في نفيها ، لأنهم بعواطفهم ينفرون منها .
ثانياً : أن المثل الذي يضربونه - مثل الأطفال واللعب - ليست له الدلالة التي يريدون أن يستخرجوها منه . فحين يوجد عشرة أطفال وعشر لعب ثم يبطل النزاع بينهم ، لا يدل ذلك على عدم وجود نزعة فطرية للملكية ، وإنما يدل فقط على أن هذه النزعة – في الحالات السوية - يمكن أن ترضي بالمساواة المطلقة بين الجميع . وهذا لا ينفي أصلها ، وإنما يحدد مداها . على أن المشاهد في مثل هذه الحالة أن الكثيرين من الأطفال يحاولون الحصول على أكثر مما في أيديهم بسلب زملائهم الآخرين لعبهم ، ما لم يكن هنالك مانع خارج عن إرادتهم!
ثالثا ً: أن الفترة الملائكية التي يفترض الشيوعيون وجودها في المجتمع الأول ( ونحن لا نملك دليلاً يقينياً عليها ) لم تكن فيها وسائل إنتاج ، فكيف كان يمكن أن يقوم النزاع على شيء غير موجود ؟ كانت الأشجار تمدهم بالغذاء مباشرة وبلا جهد ، وكان الصيد الذي يصطادونه يحتاج بطبيعته إلى الاشتراك فيه خوفاً من افتراس الوحوش لمن يخرج بمفرده ( ومع ذلك فنحن لا نستطيع أن نجزم بأن أفراداً من الشجعان لم يكونوا يخرجون للصيد بمفردهم إثباتاً لشجاعتهم وتميزهم ، وهذه مسألة مهمة جداً سنعود إليها بعد لحظة ) ولم يكن في الإمكان تخزين الصيد لأنه ينتن ، فلا بد من الإجهاز عليه في ساعته . فعدم التنازع هنا لا يدل بذاته على عدم وجود النزعة للملكية الفردية ، وقد يكون ناتجاً من عدم وجود ما يتنازع عليه ، بدليل أنه منذ اكتشفت الزراعة بدأ الصراع ، أي تحركت النزعة الكامنة التي لم تكن تجد من قبل دافعاً للتحرك .
رابعاً : أن أحداً لم ينف لنا قيام الصراع بين الرجال في ذلك الحين على " امتلاك " امرأة . فعلى الرغم من وجود " الشيوعية الجنسية " في تلك الفترة كما يزعم الشيوعيون فإن أحداً لم يزعم أنها كانت سائدة مائة في المائة في هذا المجتمع الأول ، ولم يمنع وجودها من قيام المعارك على امرأة بعينها لأنها أجمل من غيرها في نظر المتعاركين . وهنا إحدى العقد التي نبحث عنها ، والتي نعتقد أن لها أهميتها العظمى في الموضوع . فحيث تكون كل الأشياء متشابهة ومتساوية قد يبطل الصراع . أما حين تختلف القيم والأشياء علواً وسفلاً في نظر الناس ، فهنا ينشأ الصراع والعراك حتى في المجتمع الملائكي الذي يتصوره الشيوعيون ، ويبنون على وجوده كل أحلامهم عن المستقبل البعيد .
خامساً : وأخيراً أن أحداً لم ينف وجود الرغبة في التميز في ذلك المجتمع الأول . التميز بالشجاعة أو بالقوة أو بالصبر أو بأي صفة من الصفات . وهذه هي بعض القبائل التي تعيش اليوم في حالتها البدائية ، والتي يقيس عليها الشيوعيون المجتمع الشيوعي الأول ، تأبى تزويج بناتها إلا لمن يحتمل مائة جلدة بالسوط دون أن يضعف أو يتأوه . فلماذا ؟ ولأي سبب يقبل الشاب على هذا الامتحان ويرغبون في إثبات التميز ؟ وإذا كان كل شيء يسير على مبدأ المساواة المطلقة ، فما الذي يدفع إنساناً أن يقول : أنا لست مساوياً للآخرين ، بل أفضل منهم ؟ هنا عقدة أخرى من العقد التي نبحث عنها ونعتقد بأهميتها . فعلى فرض أن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية في ذاتها ، فقد ارتبطت بنزعة فطرية أخرى هي حب التميز ، ارتباطاً لم تنج منه منذ أول عصور البشرية .
* * *
ونترك هذه المباحث النظرية لنتحدث عن الملكية الفردية في الإسلام .
يقول الشيوعيون إن الملكية الفردية قد صاحبها الظلم على مدار التاريخ ، وإنه لا بد من إلغائها إذا أريد للبشرية أن تستقر وتهدأ من الصراع . وبصرف النظر عن إغفال الشيوعيون لأثر النزعات الفردية في تقدم البشرية ، وإغفالهم لحقيقة أخرى هي أن البشرية لم تتقدم في فترة الشيوعية الأولى ، وإنما بدأت تتقدم بعد النزاع على الملكية ، أي أن الصراع ليس شراً خالصاً ، وأن وجوده - ولكن في حدود معقولة - ( ) ضرورة نفسية واجتماعية واقتصادية .(3/75)
بصرف النظر عن هذا وذاك .. فإن الإسلام لا يسلم بأن الملكية الفردية في ذاتها هي منشأ الظلم الذي حل بالبشرية .
وإنما نشأ الظلم الذي صاحب الملكية في أوربا أو في غير العالم الإسلامي عامة من أن " الطبقة " المالكة هناك هي التي تشرع وتحكم . فكان من الطبيعي أن تحكم لصالح نفسها ، وأن تضع التشريعات التي تحمي مصالحها وتجور على مصالح الآخرين . أما في الإسلام فلا يوجد طبقة حاكمة ، والقانون ليس من صنع طبقة معينة من طبقات الشعب ، وإنما هو من صنع الله خالق الجميع . والناس سواسية في عرف الإسلام لا يتفاضلون فيما بينهم إلا بالتقوى ، ولكنهم لا يتفاضلون أمام التشريع الذي يطبق بصورة واحدة على الجميع . ( ) والحاكم في الإسلام رجل ينتخب انتخاباً حراً من الأمة المسلمة ، فليست له مزية " طبقية " ترشحه للحكم. ثم هو بعد ولايته للأمر لا يملك إلا تنفيذ الشريعة التي لم يضعها هو وإنما وضعها الله . وسلطته على المحكومين مستمدة من قيامه بتنفيذ الشريعة لا أكثر . يقول أبو بكر الخليفة الأول : " أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . فليس لشخصه مزية قانونية يمنح بها نفسه أو غيره امتيازاً في التشريع . ومن ثم فهو لا يملك أن يميز طبقة من الشعب على طبقة ، ولا أن يخضع للنفوذ السياسي للملاك ، فبضع لهم تشريعات تحمي مصالحهم بالجور على مصالح غير الملاك . ونحن هنا نتحدث عن الفترة التي طبق فيه الإسلام على حقيقته ، ولا ننظر إلى الفساد الذي دخل عليه بعد تحوه إلى ملك عضوض . لأن ذلك ليس إسلاماً ، ولا يمكن أن يكون الإسلام مسئولاً عنه . وقصر الفترة التي طبق فيها الإسلام بكل عدالته ومثاليته لا تعني أنه نظام خيالي غير قابل للتطبيق في الواقع ، فالذي حدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى . والناس مطالبون باستعادة تلك الفترة . وهي اليوم أقرب إلى التحقيق مما كانت على أيدي أجدادهم فيما مضى من التاريخ ( ) .
في النظام الإسلامي إذن لا يشرع الملاك لأنفسهم ، وإنما يخضعون كغيرهم لشريعة عامة تسوي بين الجميع في الحقوق الإنسانية والكرامة البشرية . فأما حين يحدث اختلاف في تفسير نص من النصوص - كما يحدث في كل قانون على وجه الأرض - فالفقهاء هم أصحاب الرأي فيه ( ) . ويشهد التاريخ أن فقهاء الإسلام الكبار لم يشرعوا لطبقة الملاك على حساب الكادحين ، وإنما كانوا دائماً أقرب إلى توفية حقوق هؤلاء الكادحين ، وتحقيق مطالبهم الأساسية . والمثال الذي ذكرناه في الفصل السابق - والذي يجعل العامل شريكاً بالنصف مع صاحب العمل - صريح فيما نقصد إليه .
والإسلام لا يسوء ظنه بالطبيعة البشرية إلى الحد الذي يسلم فيه بأن الملكية دائماً تعني الظلم والاستبداد . وقد بلغ في تربيته للنفس الإنسانية حداً رفيعاً جعل بعض الناس يملكون ومع ذلك " لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " ( ) فيشركون معهم غيرهم في كل ما يملكونه دون ثمن ولا مقابل ، ولا انتظار لشيء إلا رجاء عفو الله ومثوبته .
وهذه الأمثلة النبيلة - على ندرتها - لا يجوز إسقاطها من الحساب لأنها قبس النور الذي يشير إلى المستقبل ، والذي يبشر بما يمكن أن تصل إليه الإنسانية في يوم من الأيام . وإن كان الإسلام - مع ذلك - لا يغرق في الأحلام ، ولا يرع مصالح الأمة رهناً بالنوايا الطيبة التي قد توجد أو لا توجد ، وإنما هو مع عنايته البالغة بتهذيب النفوس وتطهيرها يؤمن بالواقع العملي ، ويضع التشريعات الكفيلة بتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً فيضمن الأمر من جانبيه ، مصدقاً لقول عثمان : " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
وقد وجدت الملكية فعلاً في التاريخ ولم يصحبها الظلم .
وقد ضربنا في الفصلين السابقين مثالين من تاريخ الإسلام ، أحدهما عن الملكية الزراعية ، ورأينا أنها لم تؤد في العالم الإسلامي إلى الإقطاع الذي أدت إليه في أوربا ، لوجود التشريعات الاقتصادية والاجتماعية التي منعت الإقطاع ، وكفلت لغير المالكين حياة كريمة تجعلهم بمنأى عن الخضوع لاستغلال المالكين .
والآخر عن الملكية الرأسمالية . وقد رأينا فيه أن الإسلام - على فرض نشوء الرأسمالية في ربوعه - كان سيبيح منها القدر الذي يغلب فيه الخير ، وكان سيقف دون الطغيان والاستغلال بكل ما لديه من وسائل التشريع والتهذيب ، فلا تؤدي الملكية إلى نتائجها السيئة التي يعانيها الغرب الرأسمالي اليوم . ثم أنه كذلك لم يبح الملكية على إطلاقها ، فقد نص على أن الموارد العامة ملك مشترك للجميع . فحرم الملكية الفردية حيثما كانت العدالة تقتضي تحريمها ، وأباحها حيث أمن الظلم واستذلال بشر لبشر .(3/76)
ونضرب هنا مثلاً ثالثاً من غير العالم الإسلامي ، هو دول الشمال في أوربا . فقد شهد الإنجليز والأمريكان والفرنسيون - وهم أكثر شعوب الأرض تبجحاً بالتميز العنصري والقومي - أنها أرقى دول العالم وأكثرها توازناً ومودة . وهي مع ذلك لم تلغ الملكية الفردية . وكل ما صنعته هو ضمان توزيع الثروة توزيعاً عادلاً يقرب الفجوة بين طبقات الشعب ، ويعادل بقدر الإمكان بين ميزان الجهد والجزاء . فهي في هذا الشأن أكثر دول العالم تحقيقاً لجانب من فكرة الإسلام .
ثم إنه لا يمكن الفصل بين نظام اقتصادي وبين الفلسفة الفكرية والاجتماعية التي تقوم وراءه . فإذا استعرضنا النظم الثلاثة التي يدعو لها الدعاة اليوم ، وهي الرأسمالية والشيوعية والإسلام ، وجدنا نظمها الاقتصادية وفكرة الملكية فيها مرتبطة ارتباطا وثيقاً بفكرتها الاجتماعية . فالرأسمالية - كما قلنا من قبل - تقوم على أساس أن الفرد كائن مقدس لا يجوز للمجتمع أن يحجر على حريته ، ومن ثم تباح هناك الملكية الفردية بلا حدود . ( ) والشيوعية تقوم على أساس أن المجتمع هو الأصل ، والفرد لا كيان له بمفرده ، فهي تضع الملكية في يد الدولة ممثلة المجتمع ، وتحرم منها الأفراد .
أما الإسلام فله فكرة أخرى ، ومن ثم فله اقتصاد آخر .
فأما فكرة الإسلام عن الفرد والجماعة فهي ترى أن الفرد كائن ذو صفتين في وقت واحد : صفته كفرد مستقل ، وصفته كعضو في جماعة . وأنه يستجيب أحياناً لهذه الصفة أو تلك بصورة بارزة ، ولكنه في النهاية مشتمل عليهما معاً ومستجيب لهما معاً .
وأما فكرته الاجتماعية المستمدة من تلك الفكرة ، فهي لا تفصل بين الفرد والجماعة ، ولا تضعهما في موضع التقابل كمعسكرين متصارعين يحاول أحدهما أن يغتال الأخر . وما دام كل فرد في ذات الوقت فرداً مستقلاً وعضواً في جماعة ، فإن التشريع الذي يتمشى مع الفطرة يوازن بين النزعة الفردية والنزعة الجماعية ، ويوازن بين مصالح كل فرد وغيره من الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع ، دون أن يفني إحدى النزعتين لحساب الأخرى ، ودون أن يسحق الفرد لحساب المجتمع أو يفكك المجتمع لحساب فرد أو أفراد ..
ومن ثم فاقتصادياته تمثل هذه النظرة المتوازنة ، التي تقع بين الرأسمالية والشيوعية ، وتحقق أفضل ما في النظامين دون أن تقع في انحرافاتهما . فهي تبيح الملكية الفردية من حيث المبدأ . ولكنها تضع لها الحدود التي تمنع بها الضرر . وتبيح للمجتمع - أو ولي الأمر ممثل المجتمع - أن ينظم هذه الملكية أو يعدلها كما ظهر له أن ذلك يحقق مصلحة للمجموع .
لذلك لا يضيق الإسلام بالملكية الفردية ما دام يملك أن يزيل بشتى الوسائل ما قد ينتج عنها من أضرار . وإن إبقاء الملكية من حيث المبدأ مع تقرير حق الجماعة في تنظيمها وتقييدها ، خير في معاملة النفوس من إلغائها بتاتاً ، على أساس غير صحيح : وهو أن الملكية ليست نزعة فطرية ولا ضرورة بشرية . وإن اضطرار روسيا أخيراً إلى إباحة ألوان من الملكية في حدود معينة لبرهان قوي على أن من الخير الاستجابة إلى الفطرة البشرية : خير للفرد وللمجموع على السواء .
* * *
على أننا نعود فنسأل : لماذا نلغي الملكية الفردية ؟ ولأي هدف نطالب الإسلام بإلغائها؟
تقول الشيوعية إن إلغاءها هو السبيل الوحيد للتسوية بين البشر ، وإبطال النزعة إلى السيطرة والسلطان . وقد ألغت روسيا ملكية وسائل الإنتاج .. فهل وصلت إلى الهدف الذي تنشده من وراء ذلك ؟
ألم تضطر روسيا على يد ستالين إلى إباحة العمل بعد الوحدة الإجبارية الأولى لمن يجد في نفسه وفرة من النشاط والجهد مقابل أجور إضافية ، فنشأ بذلك تفاوت في الأجور بين العمال أنفسهم ؟
ثم هل تتساوى أجور الناس جميعاً في الإتحاد السوفييتي ؟ هل يأخد المهندس أجراً كالعامل ؟ وهل يأخذ الطبيب أجراً كالممرض ؟ إن دعاة الشيوعية أنفسهم ليعلنون أن أعلى أجر في روسيا هو أجر المهندس ، وأن الفنانين هم أكثر الناس دخلاً هناك . فيعترفون بتفاوت الأجور بين طوائف الشعب الروسي ، فضلاً عن تفاوت الطبقة الواحدة كما حدث بين العمال .
وأخيراً هل بطلت النزعة إلى السيطرة والرغبة في التمييز عن الآخرين ؟ فكيف إذن يختار رؤساء النقابات ورؤساء المصانع ورؤساء الإدارات والقوميسيرات ؟ وكيف يميز بين العضو النشيط وغير النشيط في الحزب الشيوعي الذي يحكم روسيا ؟
أوَ ليس إذن في بنية الإنسانية هذا النزوع إلى السيطرة والتميز بصرف النظر عن إبقاء الملكية الفردية أو إلغائها ؟
فإذا كان إلغاء الملكية لم يخلص البشرية مما تعتبره الشيوعية شراً مستطيراً لا يجوز السكوت عليه ، فما الذي يدفعنا يا ترى إلى مصادمة الفطرة والتضييق عليها في سبيل هدف يأبى أن يتحقق من أي سبيل ؟
أم يقولون إن الفوارق في روسيا بين طائفة وطائفة ، أو بين فرد وفرد ، فوارق قريبة لا تصل إلى حد الترف من جانب والحرمان من جانب ؟(3/77)
فنقول لهم : نعم ! والإسلام كذلك - ومن قبل الشيوعية بألف وثلاثمائة عام - يجعل من مبادئه تقريب الفوارق بين الناس ، وتحريم الترف والقضاء على الحرمان ! ولكنه لا يكل هذا إلى التشريعات القانونية وحدها ، إنما يكله كذلك إلى عقيدة الناس في الله وحبهم للخير ، بجانب القوانين والتشريعات . ( محمد قطب )
===================
الإسلام … ونظام الطبقات
" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .. " ( )
" ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .. " ( )
أليس هذا وارداً في القرآن أيها المسلمون ؟ فكيف تزعمون بعد هذا
أن الإسلام لايعترف بنظام الطبقات ؟
* * *
نحتاج أولاً أن نعرف ما هو نظام الطبقات ، لنعرف إن كان الإسلام يبيحه أم لا يبيحه.
فإذا استعرضنا تاريخ أوربا في العصور الوسطى مثلاً وجدنا طبقات النبلاء أو الأشراف ، ورجال الدين ، والشعب ، طبقات متميزة محدَّدة المعالم يختلف بعضها عن بعض ، بحيث لا يخطئ الإنسان معرفتها بمجرد النظر .
فرجال الدين لهم ثيابهم الخاصة التي تميزهم . وكان لهم في تلك العصور سطوة كبرى ، فكان البابا سلطة مناوئة للملوك والأباطرة ، يريد أن يزعم أنه هو الذي يمنحهم السلطان على الشعوب ، ويريدون هم أن ينسلخوا من سلطته ويستقلوا بأنفسهم . وكانت لهم كذلك أموال طائلة من الأوقاف التي وقفها عليهم المتدينون ، ومن الإتاوات التي يفرضونها هم على الناس . بل كانت للكنيسة جيوش كاملة في بعض الأحيان .
أما الأشراف فكانوا طبقة تتوارث الشرف بعضها عن بعض . بحيث يولد الطفل فإذا هو شريف منذ مولده ، ويظل شريفاً حتى يموت ، بصرف النظر عن الأعمال التي يقوم بها في حياته ، وقر بها أو بعدها من هذا الشرف المزعوم !
ما امتيازاتهم فكانت في عهد الإقطاع سلطاناً مطلقاً على " الشعب " الموجود في الإقطاعية . كانوا هم السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية ، وكانت أهواؤهم ونزواتهم هي القانون الذي ينفذ على الشعب . وكانت تتكون منهم المجالس النيابية التي تشرع للبلاد ، فكانت تشريعاتهم بطبيعة الحال تهدف إلى حمايتهم والاحتفاظ لهم بامتيازاتهم وإضفاء صفة القداسة عليها .
أما الشعب فهو ذلك الهمل الذي لاحقوق له ولا امتيازات ، وإنما عليه الواجبات كل الواجبات . وكان يتوارث الذل والفقر والعبودية جيلاً بعد جيل .
ثم حدثت تطورات اقتصادية هامة في أوربا أنشأت طبقة جديدة تنازع الأشراف امتيازاتهم ومكانتهم ، هي الطبقة البرجوازية . وبقيادة هذه الطبقة وعلى أكتاف الشعب ، قامت الثورة الفرنسية التي ألغت ـ في الظاهر ـ نظام الطبقات ، وأعلنت ـ نظرياً ـ مبادئ الحرية والإخاء والمساواة .
وفي العصر الحديث قامت هذه الطبقة الرأسمالية مقام طبقة الأشراف القديمة ولكن من وراء ستار ، ومع بعض التعديلات التي اقتضاها التطور الاقتصادي . ولكن الجوهر لم يتغير ، فهي طبقة تملك المال والسلطان والقوة التي تسير بها دفة الحكم . وعلى الرغم من مظاهر الحرية التي تتمثل في الانتخابات " الديمقراطية " فإن الرأسمالية تعرف طريقها إلى البرلمانات ودواوين الحكومات ، وتنفذ بوسائلها الملتوية ما تريد تنفيذه تحت مختلف العنوانات .
بل ما يزال في إنجلترا ـ أم الديمقراطية كما كان يقال لنا ـ مجلس يسمى بصفة رسمية " مجلس اللوردات " . وما زال فيها قانون إقطاعي يقضي بأن يحرم جميع الأبناء والبنات من الميراث فيما عدا الابن الأكبر ، منعاً لتفتيت الثروة ، أي محافظة على ثروات " الأسر " لكي تبقى قائمة لا تزول ، ويظل لها كيانها الموروث كما كانت طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى .
هذا هو نظام الطبقات ، يتلخص في حقيقة أساسية هي أن الطبقة التي تملك المال تملك السلطان . تملك وسائل التشريع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، فتشرع لحماية نفسها ، ولإبقاء الشعب خاضعاً لسلطانها ، محروماً من كثير من حقوقه إرضاء لشهوات الطبقة الحاكمة .
فإذا أدركنا ذلك فهمنا على الفور أنه لا يوجد نظام طبقات في الإسلام . فليست هناك أولاً مزايا تؤخذ بالميراث كما كان الحال في طبقة الأشراف في أوربا . ونخرج من حسابنا بطبيعة الحال وراثة العرش بغير بيعة حرة وقيام " طبقة " من الأمراء والنبلاء فذلك كله ليس بإسلام . ووجوده في الإسلام لا يزيد على وجود مسلمين يشربون الخمر أو يلعبون الميسر أو يتعاملون بالربا . ومع ذلك لا يمكن أن يزعم أحد أن الإسلام أباح الخمر والميسر والربا في يوم من الأيام .(3/78)
وليس هناك ثانياً قوانين تحتفظ بالثروة في يد قوم معينين يتوارثونها ولا تخرج من أيديهم . فقد كره الإسلام ذلك وقال صراحة: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " . ووضع من جهة أخرى قوانين لتفتيت الثروة بصفة دائمة ، وإعادة توزيعها في المجتمع بنسب جديدة على الدوام ، تلك هي قوانين الميراث التي توزع الثروة على عدد كبير من الأشخاص فلا يمر جيل حتى تكون قد تفرقت بين الناس . والحالات النادرة التي يرث فيها الثروة كلها ولد واحد لا إخوة له ولا أقرباء حالات شاذة لا يجوز الحكم بها ولا اعتبارها قاعدة ينتقد النظام كله من أجلها . ومع ذلك فإن الإسلام لم يتركها تمر اعتباطاً ، فقد جعل في التركة نصيباً للمحرومين من غير أولي القربى يشبه ضريبة التركات في العصر الحديث : " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً " ( ) .
وبهذه الطريقة يعالج تكتل الثروات ، ويجعل أصحاب الثروات أفراداً لا طبقة . أفراداً لا يلبثون أن يجتمعوا حتى يتفرقوا ، بحكم توزع الثروة على نسب جديدة . والتاريخ الواقعي يشهد أن الثروات كانت دائمة الانتقال في المجتمع الإسلامي ، وأن الغني اليوم قد يفتقر غداً ، والفقير اليوم قد تهبط عليه الثروة من أي سبيل ، فلا تقوم الحواجز المصطنعة بين أي شخص وبين الغنى أو الفقر حسب تصرفه الخاص وملابسات حياته الخاصة .
وأهم ما يعنينا إثباته هنا هو ما ألمعنا إليه في الفصل السابق من أن التشريع الإسلامي ليس ملكاً لطبقة معينة . ولا يملك أحد أن يشرع على مزاجه في الدولة الإسلامية ، لأن الشريعة السماوية المنزلة هي التي تحكم الجميع بلا محاباة لأحد ولا ظلم لأحد . ومن هنا ينتفي بتاتاً وجود طبقات في الإسلام ، لأن وجود الطبقات مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بمزية التشريع . فإذا بطلت هذه المزية ، ولم يكن في وسع أحد أن يصنع لنفسه قانوناً يحمي به مصالحه على حساب شخص آخر ، فماذا بقي من نظام الطبقات ؟
* * *
وإذاً فما معنى الآيتين اللتين أثبتناهما في مقدمة هذا الفصل ؟
إنهما لا تزيدان على إثبات الأمر الواقع في كل الأرض ، في ظل الإسلام وفي غير الإسلام : أن الناس متفاوتون في المراتب والأرزاق . وإلا فلنأخذ روسيا مثلاً . هل جميع الناس يتناولون أجراً واحداً ، أم إن بعضهم مفضل على بعض في الرزق ؟ وهل جميعهم هناك رؤساء أم جميعهم مرؤوسون ؟ أو هل جميعهم ضباط أو جميعهم جنود ؟ أم إن بعضهم قد رفع درجات فوق بعض ؟ إن هذا أمر لا معدي عنه ، وهو حقيقة واقعة في كل مكان ، والآيتان لا تشرحان سبباً معيناً للتفضيل ، ولا تقيدان الناس كذلك بسبب معين . فهما لا تقولان إن التفضيل بسبب الرأسمالية أو بسبب الشيوعية أو بسبب الإسلام . ولا تقولان إن آثاره تكون دائماً عادلة بمقياس الأرض أو تكون ظالمة .. لا شيء من ذلك كله. إنهما فقط تقولان إن هذا هو الأمر الواقع في كل مكان . وكل ما على الأرض بطبيعة الحال داخل في إرادة الله . وإلا هل يعتقد الشيوعيون أن نفوذ الله – سبحانه - محدود بالعالم الإسلامي ، كما كان بنو إسرائيل يعتقدون في سذاجة غبية أن نفوذ الله محدود بمصر وفلسطين ، وأن ما يقع في بقية الأرض خارج عن نفوذ الله وإرادة الله ؟ !
* * *
شيء واحد من نظام الطبقات كان في الإسلام بتصريح القرآن ، هو وجود طبقة الأرقاء. ولكنا تحدثنا عنهم بما فيه الكفاية ، وقلنا إن الرق كله كان نظاماً اقتضته ظروف وملابسات معينة ، ولكن الإسلام ليس حريصاً على إبقائه ، فهو ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي ، ولكنه يوجد بصورة عارضة ، ثم يسعى الإسلام دائماً إلى تحريره .
ومع ذلك فكيف كان يعامل الإسلام الرقيق ؟
لسنا في حاجة إلى تكرار ما قلناه في فصل الرق ، ولكنا نذكر الحادثة الشهيرة التي وضع بها عمر أساس " الطبقات " في الإسلام !
تلك قصة الشريف الذي ذهب للحج، يجر أذيال الكبر ، ويتيه على عباد الله في عنجهية جاهلية لم يطهره منها دخوله ـ بالاسم ـ في الإسلام : " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " . وفي أثناء الطواف وقعت قدم " عبد " على طرف ثوبه الطويل الذي تتمثل فيه العنجهية والكبرياء ، فما كان من الشريف إلا أن لطم العبد على وجهه جزاء وقاحته ! فذهب العبد إلى عمر يشكو له فعل الشريف . فهل قال له عمر : لا عليك ! فهذا شريف وأنت عبد ، هو من طبقة وأنت من طبقة ! هو يملك من الحقوق ما لا تملك ! هل استصدر عمر تشريعاً يحمي به طبقة الأشراف من أن يدوس على ثيابها العبيد ، أو تشريعاً يلزم العبيد بقبول لطمات السادة ؟
كلا . إن ما حدث معروف في التاريخ ، فقد أصر عمر على القصاص . على أن يلطم العبد هذا الشريف المتكبر ليرده إلى شريعة الله التي لا تفرق بين بشر وبشر في التشريع ، حتى حين يتفاوتان في الرزق أو في الوضع الاجتماعي لسبب من الأسباب .(3/79)
وعلم الشريف فكبرت عليه نفسه . وأخذته العزة بالإثم ، وظل يحاول أن ينجو من حكم الشريعة الصارم الذي يسوي بينه وبين كل نفس آدمية في الوجود . فلما يئس فر من وجه عمر . وارتد في النهاية عن الإسلام ! !
هذا هو الإسلام . لا طبقات ولا مزايا تشريعية للطبقات .
أما الثروة واختلاف الناس فيها فموضوع آخر لا يجوز أن يختلط في أذهاننا بمسألة الطبقات ، ما دامت لا ترتب لمالكيها حقوقاً تشريعية أو قضائية ليست لبقية طوائف الشعب . وما دامت الشريعة ـ في واقع الأمر لا في المثل والخيالات ـ تطبق بطريقة واحدة على جميع الناس .
وقد رأينا أن الملكية الزراعية لم ترتب للملاك في الإسلام حقوقاً يستعبدون بها الآخرين أو يستغلونهم ، وكذلك الحال في الملكية الرأسمالية لو وجدت في مجتمع إسلامي صحيح ، ذلك أن الحاكم لا يستمد نفوذه من تأييد طبقة الملاك ، وإنما من انتخاب الأمة له وقيامه بتنفيذ شريعة الله .
يضاف إلى ذلك كله ما ذكرناه من قبل من أنه لا يوجد مجتمع في الأرض كلها قد تساوت الثروة فيه بين جميع السكان ، حتى المجتمع الشيوعي الذي يقول ـ صادقاً أو كاذباً ـ إنه ألغى نظام الطبقات ، وأبقى طبقة واحدة هي التي تملك وتحكم ، وتفني غيرها من الطبقات! ( محمد قطب )
===================
الإسلام … والصدقات
أَوَهذه هي العدالة الاجتماعية التي تمنوننا بها يا دعاة الإسلام ؟ أن يعيش الشعب عالة على الصدقات التي يدفعها المحسنون من الأغنياء ؟ وتسمون هذه عدالة ؟ وترضون لكرامة الناس هذا الهوان ؟
كذلك يقول لك الشيوعيون والذين استعبد الاستعمار أرواحهم وأفكارهم فلم يعودوا يفقهون ما يقولون . وأبرز خطئهم وأخطره هو ظنهم أن الزكاة صدقة يتفضل بها الأغنياء على الفقراء . ولا يمكن أن يتصور المسألة على هذا الوضع إنسان له عقل سليم يرى الأمور في واقعها ، لا كما يريد له السادة الذين يحركونه كما تحرك لعبة " الأراجوز " ! فأبسط قدر من المنطق كفيل بأن يقنعهم أن الإحسان تطوع لا يفرضه حاكم ولا تشريع. والزكاة فريضة يقررها الشرع وتقاتل عليها الدولة الممتنعين عن أدائها ، وتقتلهم إذا أصروا على امتناعهم ، لأنهم حينئذ يعتبرون مرتدين . فهل يمكن أن يحدث شيء من ذلك في الإحسان المتروك لدافع الضمير ؟ !
إن الزكاة ـ من جانبها المالي ـ هي أول ضريبة نظامية في تاريخ الاقتصاد في العالم. فقد كانت الضرائب قبل ذلك تفرض حسب هوى الحكام وبقدر حاجتهم إلى الأموال لتنفيذ مآربهم الشخصية ، وكان حملها يقع دائماً على الفقراء أكثر مما يقع على الأغنياء ، أو عليهم وحدهم دون الأغنياء .
وجاء الإسلام فنظم جباية الأموال ، فجعل لها نسبة معينة لا تتجاوزها ـ في الأحوال العادية ـ وجعل حملها على الأغنياء والمتوسطين وأعفى منها الفقراء .
هذه هي الحقيقة الأولى التي ينبغي أن تقر في أذهاننا بشأن الزكاة . وهي بديهية لا تحتاج في الواقع إلى جدل ولا برهان .
والحقيقة الثانية أن الذي يوزع حصيلة الزكاة على الفقراء هو الدولة ذاتها لا الأغنياء بأشخاصهم . الدولة هي التي تجمعها وهي التي توزعها . وليس بيت المال إلا وزارة المالية التي تجمع الميزانية العامة ثم تعيد توزيعها على مختلف مرافق الدولة . فإذا كانت الدولة تقوم بكفالة المحتاجين ـ بسبب عجزهم الكامل عن الكسب ، أوعدم كفاية مواردهم للحياة الكريمة ـ فليس هذا تفضلاً وإحساناً ، وليس فيه ما يغض من كرامة المحتاجين . وهل يحس الموظفون الذين تمنحهم الدولة معاشاً أو العمال الذين تصرف لهم تأميناً أنهم متسولون يعيشون على حساب الأغنياء ؟ والأطفال والشيوخ العاجزون عن الكسب .. هل يخدش كرامتهم أن تنفق الدولة عليهم من مالها ما دامت تقوم بذلك أداءً لواجبها ؟ إن مبدأ كفالة الدولة هوأحدث المبادئ التي اهتدت إليها البشرية بعد تجارب كثيرة ، وبعد تخبط طويل في الظلم الاجتماعي . فمن مفاخر الإسلام أنه قرره في وقت كانت أوربا تعيش في الظلمات . أم إن النظام يصبح جميلاً وبراقاً حين يأتينا من الغرب أو الشرق ، ولكنه تأخر وانحطاط حين ينادي به الإسلام ؟
والحقيقة الثالثة أنه إذا كانت حياة الناس في صدر الإسلام قد اقتضت أو تقبلت أن يأخذ الفقراء الزكاة نقداً أوعيناً في أيديهم ، فليس في الإسلام ما ينص على أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتوزيع الزكاة . وليس هناك ما يمنع من إعطائها لمستحقيها في صورة مدارس مجانية يعلمون فيها أبناءهم ، ومستشفيات مجانية يتداوون فيها ، وجمعيات تعاونية تسهل لهم وسائل العيش ، ومصانع أو مؤسسات يرتزقون منها رزقاً دائماً . إلى آخر ما يوحيه العصر الحديث من وسائل الخدمة الاجتماعية . فلا تعطى الزكاة نقداً إلا للعاجزين بسبب المرض أو الشيخوخة أو الطفولة .
ويأخذها غيرهم في صورة عمل وخدمات تحقق قوله تعالى : " وفي سبيل الله " .(3/80)
والحقيقة الرابعة أنه ليس أصلاً من أصول المجتمع الإسلامي أن يكون فيه فقراء يعيشون من أموال الزكاة . وقد وصل المجتمع الإسلامي إلى صورته المثالية في عهد عمر بن عبد العزيز حيث كانت الزكاة تجبى فلا يجد عمالها فقراء يوزعونها عليهم أو أحداً يقبلها منهم ، وفي ذلك يقول يحيى
ابن سعيد : " بعثتي عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها ، وطلبت فقراء نعطيها لهم ، فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا ، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس " .
وإنما الفقر أو الحاجة أمر يعرض لكل مجتمع ، فلا بد من تشريع لمواجهته ؛ وقد كان الإسلام يضم إليه باستمرار مجتمعات جديدة غير متوازنة الثروة ، فكان لا بد من هذا التشريع حتى يصل بهذه المجتمعات رويداً رويداً إلى حالتها المثالية التي وصلت إليها في عهد عمر بن عبد العزيز .
* * *
ذلك شأن الزكاة . أما " الصدقات " الحقيقية ، أي الأموال التي يخرجها الأغنياء تبرعاً وإحساناً ، فقد أقرها الإسلام فعلاً ودعا إليها وجعل لها صوراً شتى . فمن إنفاق على الوالدين والأقربين ، إلى إنفاق على المحتاجين عامة ، إلى تصدق بالعمل الطيب والكلمة الطيبة .
ولا يقول أحد إن الإنسان حين يكرم أهله يكون مسيئاً لمشاعرهم ، محقراً لهم ، وإنما هو الود والتعاطف وجمع الشمل وتأليف القلوب . وحين تعطي أخاك هدية أو تولم لأقاربك وليمة تحييهم فيها وتقوم على خدمتهم ، فلن تستثير بذلك حقدهم وكراهيتهم ، أو شعورهم بالذلة والإنكسار .
أما إعطاء المساكين هبة عينية ، فشأنه شأن الزكاة في صدر الإسلام ، كانت الحياة تتقبله في ذلك الحين كوسيلة كريمة لإغاثة المحتاج وإعانة المكروب . ولكنه ليس سبيلاً واحدة مكتوبة فلا تبديل لها ولا فرار منها ، وإنما السبل إليه شتى . ويمكن أن يأخذ شكل هبات للجمعيات أو المؤسسات التي تقوم بخدمة اجتماعية ، ويمكن أن يساعد الدولة المسلمة في كل ما تحتاج إليه من أموال لتنفيذ مشروعاتها .
ثم إن شأنه شأن الزكاة في ناحية أخرى . فما دام في المجتمع فقراء فلا بد من إعانتهم بكل السبل للاستمتاع بالحياة . ولكن ليس المفروض في المجتمع الإسلامي أن يكون فيه فقراء. فحين يصل إلى حالته المثالية فيستغني ـ كما حدث من قبل ـ عن الزكاة ، فهو يستغني كذلك عن الإحسان ، وتبقى لهذا وتلك مصارف محدودة لا يستغني عنها أي مجتمع في الأرض ، وهي كفالة العاجزين عن العمل لأي سبب من الأسباب.
* * *
وإنما الحقيقة الكبرى التي يجب أن نذكرها هي أن الإسلام لم يجعل حياة أهله قط قائمة على الإحسان . وقد ذكرنا مبدأ كفالة الدولة للعاجزين ، وارتفاعه عن أن يكون تفضلاً وإحساناً . ونذكر كذلك أن الدولة في الإسلام مكلفة بإيجاد عمل لكل قادر . ذهب رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسأله ما يعيش به فأعطاه فأساً وحبلاً وأمره أن يذهب فيحتطب ، فيبيع ما احتطبه ويعيش منه ، وأمره أن يعود إليه فيخبره بما صنع . وقد يحسب الذين لا يرون الأمور إلا بصورتها في القرن العشرين أن هذا مثال فردي لا دلالة له ، فضلاً عن أن كل مشتملاته أته هي فأس وحبل ورجل واحد ، بينما الحياة اليوم مصانع هائلة ، وملايين من العمال المتعطلين ، ودولة منظمة ذات فروع مختلفة الاختصاص ! وهذا تفكير ساذج . فلم يكن مطلوباً من الرسول أن يتحدث عن المصانع أو يشرع لها قبل نشأتها بأكثر من ألف عام ، ولو فعل ذلك لما فهم عنه أحد . إنما حسبه أن يضع الأسس العامة للتشريع ، ويترك لكل جيل أن يستنبط التطبيقات المناسبة له في حدود هذه الأسس . وفي المثال الذي ذكرناه أسس صريحة : هي تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم أن ولي الأمر من واجبه إيجاد عمل لمن يحتاج إليه ، وقد أكََّد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسئولية بقيامه بإيجاد العمل لذلك الرجل ـ حسب طبيعة البيئة يومئذ ـ وبطلبه منه العودة إليه وإخباره بحاله . وهذه المسئولية هي التي اهتدت إليها أحدث النظريات في السياسة والاجتماع . فأما حين تعجز الدولة عن إيجاد العمل لسبب خارج عن إرادتها ، فهناك بيت المال تكفل منه المحتاجين حتى تذهب الحاجة عنهم ، وهم كرماء على أنفسهم وعلى الدولة وعلى الناس .
( محمد قطب )
======================
الإسلام …والمرأة
في الشرق اليوم " هيجة " تسمى حقوق المرأة ! والمطالبة بالمساواة الكاملة مع الرجل .
وفي وسط هذه " الهيجة " التي تشبه الحمى ، يهذي بعض المحمومين والمحمومات باسم الإسلام . بعضهم – للتوريط - يقول إن الإسلام قد سوى بين الجنسين في كل شيء ، وبعضهم - جهلاً منه أو غفلة - يقول إن الإسلام عدو للمرأة ينتقص كرامتها ويهين كبرياءها ، ويحطم شعورها بذاتيتها ، ويدعها في مرتبة أقرب للحيوانية ، متاعاً حسياً للرجل وأداة للنسل ليس غير .. وهي في هذا في موضع التابع من الرجل يسيطر عليها في كل شيء ، ويفضلها في كل شيء .(3/81)
وهؤلاء وأولئك لا يعرفون حقيقة الإسلام ، أو يعرفونها ثم يلبسون الحق بالباطل ابتغاء الفتنة ونشراً للفساد في المجتمع ، ليسهل الصيد لمن يريد الصيد في الأقذار .
وقبل أن نبين حقيقة وضع المرأة في الإسلام ، يجدر بنا أن نلم إلمامة سريعة بتاريخ قضية المرأة في أوربا ، فهي منبع الفتنة التي فتنت الشرق عن طريق التقليد .
* * *
كانت المرأة في أوربا وفي العالم كله هملاً لا يحسب له حساب . كان " العلماء " والفلاسفة يتجادلون في أمرها. هل لها روح أم ليس لها ورح ؟ وإذا كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم حيوانية ! وعلى فرض أنها ذات روح إنسانية فهل وضعها الاجتماعي و" الإنساني " بالنسبة للرجل هو وضع الرقيق ، أم هو شيء أرفع قليلاً من الرقيق !
وحتى في الفترات القليلة التي استمعت فيها المرأة بمركز " اجتماعي " مرموق سواء في اليونان أو في الإمبراطورية الرومانية ، فلم يكن ذلك مزية للمرأة كجنس وإنما كان لنساء معدودات، بصفتهن الشخصية ، أو لنساء العاصمة بوصفهن زينة للمجالس ، وأدوات من أدوات الترف التي يحرص الأغنياء والمترفون على إبرازها زهواً وعجباً ، ولكنها لم تكن قط موضع الاحترام الحقيقي كمخلوق إنساني جدير بذاته أن يكون له كرامة بصرف النظر عن الشهوات التي تحببه لنفس الرجل .
وظل الوضع كذلك في عهود الرق والإقطاع في أوربا ، والمرأة في جهالتها ، تدلل حيناً تدليل الترف والشهوة ، وتهمل حيناً كالحيوانات التي تأكل وتشرب وتحمل وتلد وتعمل ليل نهار .
حتى جاءت الثورة الصناعية فكانت الكارثة التي لم تصب المرأة بشر منها في تاريخها الطويل .
لقد كانت الطبيعة الأوربية في جميع عهودها كزة جاحدة ، لا تسخو ولا ترتفع إلى مستوى التطوع النبيل الذي يكلف جهداً ولا يفيد مالا أو نفعاً قريباً أو غير قريب . ولكن الأوضاع الاقتصادية في عهدي الرق والإقطاع ، والتكتل الذي كانا يستلزمانه في البيئة الزراعية ، جعلا تكليف الرجل إعالة المرأة هو الأمر الطبيعي الذي تقتضيه الظروف ، فضلاً عن أن المرأة كانت " تعمل " في المنزل في الصناعات البسيطة التي تتيحها البيئة الزراعية ، فكانت تدفع ثمن إعالتها بهذا العمل !
ولكن الثورة الصناعية قلبت الأوضاع كلها في الريف والمدينة على السواء . فقد حطمت كيان الأسرة وحلت روابطها بتشغيل النساء والأطفال في المصانع . فضلاً عن استدراج العمال من بيئتهم الريفية القائمة على التكافل والتعاون ، إلى المدينة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحداً ، ولا يعول أحد أحداً ، وإنما يستقل كل إنسان بعمله ومتعته ؛ وحيث يسهل الحصول على المتعة الجنسية من طريقها المحرم ، فتهبط الرغبة في الزواج وكفالة الأسرة ، أو تتأخر سنوات طويلة على الأقل ( ) .
وليس همنا هنا استعراض تاريخ أوربا . ولكنا نستعرض العوامل التي أثرت في حياة المرأة فحسب .
قلنا إن الثورة الصناعية شغّلت النساء والأطفال . فحطمت روابط الأسرة وحلت كيانها. ولكن المرأة هي التي دفعت أفدح الثمن من جهدها وكرامتها ، وحاجاتها النفسية والمادية . فقد نكل الرجل عن إعالتها من ناحية ، وفرض عليها أن تعمل لتعول نفسها حتى لو كانت زوجة وأماً! واستغلتها المصانع أسوأ استغلال من ناحية أخرى ، فشغلتها ساعات طويلة من العمل ، وأعطتها أجراً أقل من الرجل الذي يقوم معها بنفس العمل في نفس المصنع .
ولا نسأل لماذا حدث ذلك ، فهكذا هي أوربا ، جاحدة كزة كنود ، لا تعترف بالكرامة للإنسان من حيث هو إنسان ، ولا تتطوع بالخير حيث تستطيع أن تعمل الشر وهي آمنة .
تلك طبيعتها على مدار التاريخ ، في الماضي والحاضر والمستقبل إلا أن يشاء الله لها الهداية والارتفاع .
وإذ كان النساء والأطفال ضعافاً ، فما الذي يمنع من استغلالهما والقسوة عليهما إلى أقصى حد ؟ إن الذي يمنع شيء واحد فقط ، هو الضمير . ومتى كان لأوربا ضمير ! ؟
ومع ذلك فقد وجدت قلوب إنسانية حية لا تطيق الظلم . فهبت تدافع عن المستضعفين من الأطفال . نعم الأطفال . فقط ! فراح المصلحون الاجتماعيون ينددون بتشغيلهم في سن مبكرة ، وتحميلهم من الأعمال مالا تطيقه بنيتهم الغضة التي لم تستكمل نصيبها من النمو ، وضآلة أجورهم بالنسبة للجهد العنيف الذي يبذلونه . ونجحت الحملات ، فرفعت رويداً رويداً سن التشغيل ، ورفعت الأجور وخفضت ساعات العمل .
أما المرأة فلم يكن لها نصير . فنصرة المرأة تحتاج إلى قدر من ارتفاع المشاعر لا تطيقه أوربا ! لذلك ظلت في محنتها تنهك نفسها في العمل – مضطرة لإعالة نفسها - وتتناول أجراً أقل من أجر الرجل ، مع اتحاد الإنتاج والجهد المبذول .(3/82)
وجاءت الحرب العظمى الأولى . وقتل عشرة ملايين من الشباب الأوربيين والأمريكان . وواجهت المرأة قسوة المحنة بكل بشاعتها . فقد وجدت ملايين من النساء بلا عائل . إما لأن عائلهن قد قتل في الحرب ، أو شوه ، أو فسدت أعصابه من الخوف والذعر والغازات السامة الخانقة ، وإما لأنه خارج من حبس السنوات الأربع يريد أن يستمتع ويرفه عن أعصابه ، ولا يريد أن يتزوج ويعول أسرة تكلفه جهداً من المال والأعصاب .
ومن جهة أخرى لم تكن هناك أيد عاملة من الرجال تكفي لإعادة تشغيل المصانع لتعمير ما خربته الحرب . فكان حتماً على المرأة أن تعمل وإلاّ تعرضت للجوع هي ومن تعول من العجائز والأطفال . وكان حتماً عليها كذلك أن تتنازل عن أخلاقها . فقد كانت أخلاقها قيداً حقيقياً يمنع عنها الطعام ! إن صاحب المصنع وموظفيه لا يريدون مجرد الأيدي العاملة ، فهم يجدون فرصة سانحة ، والطير يسقط من نفسه – جائعاً - ليلتقط الحب . فما الذي يمنع من الصيد ؟ ألعله الضمير ! ؟ وما دامت قد وجدت - بدافع الضرورة - امرأة تبذل نفسها لتعمل ، فلن يتاح العمل إلا للتي تبذل نفسها للراغبين .
ولم تكن المسألة مسألة الجوع إلى الطعام فحسب .
فالجنس حاجة بشرية طبيعية لا بد لها من إشباع . ولم يكن في وسع الفتيات أن يشبعن حاجتهن الطبيعية ولو تزوج كل من بقي حياً من الرجال ، بسبب النقص الهائل الذي حدث في عدد الرجال نتيجة الحرب . ولم تكن عقائد أوربا وديانتها تسمح بالحل الذي وضعه الإسلام لمثل هذه الحالة الطارئة ، وهو تعدد الزوجات. لذلك لم يكن بدٌّ للمرأة أن تسقط راضية أو كارهة لتحصل على حاجة الطعام وحاجة الجنس ، وترضي شهوتها إلى الملابس الفاخرة ، وأدوات الزينة ، وسائر ما تشتهيه المرأة من أشياء .
وسارت المرأة في طريقها المحتوم ، تبذل نفسها للراغبين ، وتعمل في المصنع والمتجر ، وتشبع رغائبها عن هذا الطريق أو ذاك ، ولكن قضيتها زادت حدة . فقد استغلت المصانع حاجة المرأة إلى العمل ، واستمرت في معاملتها الظالمة التي لا يبررها عقل ولا ضمير ، فظلت تمنحها أجراً أقل من أجر الرجل الذي يؤدي نفس العمل في نفس المكان .
ولم يكن بد من ثورة . ثورة جامحة تحطم ظلم أجيال طويلة وقرون .
وماذا بقي للمرأة ؟ لقد بذلت نفسها وكبرياءها وأنوثتها ، وحرمت من حاجتها الطبيعية إلى أسرةٍ وأولادٍ تحسّ بكيانها فيهم ، وتضم حيواتهم إلى حياتها ، فتشعر بالسعادة والامتلاء . أفلا تنال مقابل ذلك - على الأقل - المساواة في الأجر مع الرجل : حقها الطبيعي الذي تقرره أبسط البديهيات ؟
ولم يتنازل الرجل الأوربي عن سلطانه بسهولة . أو قل لم يتنازل عن أنانيته التي فطر عليها . وكان لا بد من احتدام المعركة ، واستخدام جميع الأسلحة الصالحة للعراك .
استخدمت المرأة الإضراب والتظاهر . واستخدمت الخطابة في المجتمعات . واستخدمت الصحافة . ثم بدا لها أنها لا بد أن تشارك في التشريع لتمنع الظلم من منبعه ، فطالبت أولاً بحق الانتخاب ، ثم بالحق الذي يلي ذلك بحكم طبائع الأشياء ، وهو حق التمثيل في البرلمان . وتعلمت على نفس الطريقة التي يتعلم بها الرجل ، لأنها صارت تؤدي نفس العمل ، وطالبت كنتيجة منطقية لذلك أن تدخل وظائف الدولة كالرجل ، ما داما قد أعدا بطريقة واحدة ، ونالا دراسة واحدة .
تلك قصة " كفاح المرأة لنيل حقوقها " في أوربا . قصة مسلسلة ، كل خطوة فيها لا بد أن تؤدي إلى الخطوة التالية ، رضي الرجل أو كره ، بل رضيت المرأة أو كرهت ، فهي ذاتها لم تعد تملك أمرها في هذا المجتمع الهابط المنحل الذي أفلت منه الزمام ( ) .
ومع ذلك كله فقد تعجب حين تعلم أن انجلترا - أم الديمقراطية - ما تزال إلى هذه اللحظة تمنح المرأة أجراً أقل من أجر الرجل في وظائف الدولة ، رغم أن في مجلس العموم نائبات محترمات ! !
* * *
ونعود إلى وضع المرأة في الإسلام ، لنعرف إن كانت ظروفنا التاريخية والجغرافية والاقتصادية والعقيدية والتشريعية ، تجعل للمرأة " قضية " تكافح من أجلها ، كما كان للمرأة الغربية قضية ، أم إنها شهوة التقليد الخالصة ، والعبودية الخفية للغرب - التي تجعلنا لا نبصر الأشياء بعيوننا ، ولا نراها في حقيقتها - هي التي تملأ الجو بهذا الضجيج الزائف في مؤتمرات النساء ؟ !(3/83)
من البديهيات الإسلامية التي لا تحتاج إلى ذكر ولا إعادة ، أن المرأة في عرف الإسلام كائن إنساني ، له روح إنسانية من نفس " النوع " الذي منه روح الرجل : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ( ) " فهي إذن الوحدة الكاملة في الأصل والمنشأ والمصير ، والمساواة الكاملة في الكيان البشري ، تترتب عليها كل الحقوق المتصلة مباشرة بهذا الكيان ، فحرمة الدم أو العرض والمال ، والكرامة التي لا يجوز أن تلمز مواجهة أو تغتاب ، ولا يجوز أن يتجسس عليها أو تقتحم الدور .. كلها حقوق مشتركة لا تمييز فيها بين جنس وجنس . والأوامر والتشريعات فيها عامة للجميع : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ( ) " .. " ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً ( ) " .. " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ( ) " .. " كل المسلم على المسلم حرام ؛ دمه وعرضه وماله ( ) ".
والجزاء في الآخرة واحد للجنسين : " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ( ) " .
وتحقيق الكيان البشري في الأرض متاح للجنسين : الأهلية للملك والتصرف فيه بجميع أنواع التصرف من رهن وإجارة ووقف وبيع وشراء واستغلال .. إلخ " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ( ) " " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ( ) " .
ولا بد هنا من وقفة عند أمرين بشأن حق الملكية والتصرف والانتفاع . فقد كانت شرائع أوربا " المتحضرة " تحرم المرأة من كل هذه الحقوق إلى عهد قريب ، وتجعل سبيلها الوحيد إليها عن طريق الرجل زوجاً كان أو أباً أو ولي أمر . أي أن المرأة الأوربية ظلت أكثر من اثني عشر قرناً بعد الإسلام لا تملك من الحقوق ما أعطاها الإسلام . ثم هي حين ملكتها لم تأخذها سهلة ولا احتفظت بأخلاقها وعرضها وكرامتها ، وإنما احتاجت لأن تبذل كل ذلك ، وتتحمل العرق والدماء والدموع ، لتحصل على شيء مما منحه الإسلام – كعادته - تطوعاً وإنشاء ، لا خضوعاً لضرورة اقتصادية ، ولا إذعاناً للصراع الدائر بين البشر ، ولكن تقريراً منه للحق والعدل الأزليين . وتطبيقاً لهما في واقع الأمر لا في عالم المثل والأحلام .
والأمر الثاني أن الشيوعية خاصة ، والغرب عامة ، يعتبرون الكيان البشري هو الكيان الاقتصادي . ويقولون صراحة إن المرأة لم يكن لها كيان ، لأنها لم تكن تملك ، أو لم يكن لها حق التصرف فيما تملك ، وإنها صارت مخلوقاً آدمياً فقط حين استقلت اقتصادياً ، أي حين صار لها ملك خاص مستقل عن الرجل ، تستطيع أن تعيش منه وتتصرف فيه .
وبغض النظر عن إنكارنا لتحديد الكيان البشري بهذه الحدود الضيقة ، والهبوط به حتى يصبح عرضاً اقتصادياً لا غير ، فإننا نوافقهم – من حيث المبدأ- على أن الاستقلال الاقتصادي له أثره في تكوين المشاعر وتنمية الشعور بالذات .
وهنا يحق للإسلام أن يفخر بما أعطى المرأة من كيان اقتصادي مستقل ، فصارت تملك وتتصرف وتنتفع ، بشخصها مباشرة بلا وكالة ، وتعامل المجتمع بلا وسيط .
ولم يكتف الإسلام بتحقيق كيان المرأة في مسألة الملكية ، بل حققه في أخطر المسائل المتعلقة بحياتها وهي مسألة الزواج . فلا يجوز أن تتزوج بغير إذنها ، ولا يتم العقد حتى تعطي الإذن : " لا تزوج الثيب حتى تستأمر ولا تزوج البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها ( ) " ويصبح العقد باطلاً إذا أعلنت أنها لم توافق عليه .
وقد كانت المرأة - في غير الإسلام - تحتاج إلى سلوك طرق ملتوية لتهرب من زواج لا تريده ، لأنها لا تملك شرعاً ولا عرفاً أن ترفض . ولكن الإسلام أعطاها هذا الحق الصريح ، تستخدمه متى أرادت ( ) ، بل أعطاها أن تخطب لنفسها ، وهو آخر ما وصلت إليه أوربا في القرن العشرين ، وحسبته انتصاراً هائلاً على التقاليد البالية العتيقة !
ويبلغ من تقدير الإسلام لمقومات الكيان البشري - في عصور كان يغشيها الجهل والظلام - أن اعتبر العلم والتعلم ضرورة بشرية ، ضرورة لازمة لكل فرد لا لطائفة محدودة من الناس ، فقرر للملايين حق التعلم، بل جعله فريضة وركناً من الإيمان بالله على طريقة الإسلام . وهنا كذلك يحق له أن يفخر بأنه أول نظام في التاريخ نظر إلى المرأة على أنها كائن بشري ، لا يستكمل مقومات بشريته حتى يتعلم، شأنها شأن الرجل سواء بسواء ، فجعل العلم فريضة عليها كما هو فريضة على الرجل ، ودعاها أن ترتفع بعقلها ، كما ترتفع بجسدها وروحها عن مستوى الحيوان ، بينما ظلت أوروبا تنكر هذا الحق إلى عهد قريب . ولم تستجب إليه إلا خضوعاً للضرورات .
* * *(3/84)
إلى هذا الحد وصل تكريم الإسلام للمرأة . ولا يستطيع أحد مهما أوتي القدرة على التبجح ، أن يقول إن فكرة الإسلام في كل هذه الأمور قائمة على أن المرأة مخلوق ثانوي ، أو تابع في وجوده لمخلوق آخر ، أو إن دورها في الحياة دور ضئيل لا يؤبه له . فلو كان الأمر كذلك ما عني بتعليمها . والتعليم بالذات مسألة لها دلالة خاصة ، وتكفي وحدها - دون حاجة إلى المسائل الأخرى - لتقرير الوضع الحقيقي للمرأة في الإسلام ، وهو وضع كريم عند الله وعند الناس .
ولكن الإسلام بعد هذا - بعد تقرير المساواة الكاملة في الإنسانية ، والمساواة في جميع الحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك بين الجميع - يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق وبعض الواجبات . وهنا الضجة الكبرى التي تثيرها نساء المؤتمرات ، ويثيرها معهن كتاب و " مصلحون " وشباب ، يعلم الله كم يريدون بدعوتهم وجه الإصلاح ، وكم يريدون بها أن يجدوا المرأة سهلة التناول في المجتمع وفي الطريق !
وقبل الدخول في تفصيل هذه المواضع التي يفرق فيها الإسلام بين الرجل والمرأة ، ينبغي أولاً أن نرد المسألة إلى جوهرها الحقيقي ، إلى أصولها الوظيفية ، الجسمية والنفسية ، ثم نستعرض بعد ذلك رأي الإسلام .
هل هما جنس واحد أو جنسان ؟ وهل هي وظيفة واحدة أم وظيفتان ؟ تلك عقدة الموضوع . فإن أرادت نساء المؤتمرات وكتابهن ومصلحوهن وشبابهن أن يقولوا : ليس بين المرأة والرجل خلاف في التكوين الجسدي والكيان الوجداني ووظائف الحياة البيولوجية ، فما عسى أن يرد به عليهم ! ؟ وإن أقروا بوجود هذا الخلاف فهناك إذن أساس صالح لمناقشة الموضوع .
وقد ناقشت مسألة المساواة بين الجنسين في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " في فصل طويل عن " المشكلة الجنسية " لا أرى بأساً في أن أنقل منه هنا بضع فقرات :
" .. وتبعاً لهذا الاختلاف الحاسم في المهمة والأهداف اختلفت طبيعة الرجل والمرأة ، ليواجه كل منهما مطالبه الأساسية وقد زودته الحياة بكل التيسيرات الممكنة ، ومنحته التكييف الملائم لوظيفته .
" لذلك لا أرى كيف تستساغ هذه الثرثرة الفارغة عن المساواة الآلية بين الجنسين ! إن المساواة في الإنسانية أمر طبيعي ومطلب معقول . فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية ، وشقا النفس الواحدة . أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها ؛ ولو أرادتها كل نساء الأرض وعقدت من أجلها المؤتمرات وأصدرت القرارات ؟
" هل في وسع هذه المؤتمرات وقراراتها الخطيرة أن تبدل طبائع الأشياء ، فتجعل الرجل يشارك المرأة في الحمل والولادة والإرضاع ؟
" وهل يمكن أن تكون هناك وظيفة بيولوجية من غير تكييف نفسي وجسدي خاص ؟ هل اختصاص أحد الجنسين بالحمل والرضاعة لا يستتبعه أن تكون مشاعر هذا الجنس وعواطفه وأفكاره مهيأة بطريقة خاصة لاستقبال هذا الحادث الضخم ، والتمشي مع مطالبه الدائمة ؟
" إن الأمومة ، بكل ما تحويه من مشاعر نبيلة ، وأعمال رفيعة ، وصبر على الجهد المتواصل ، ودقة متناهية في الملاحظة وفي الأداء .. هي التكييف النفسي والعصبي والفكري الذي يقابل التكييف الجسدي للحمل والإرضاع . كلاهما متمم للآخر متناسق معه ، بحيث يكون عجيباً أن يوجد أحدهما في غيبة من الآخر .
" وهذه الرقة اللطيفة في العاطفة ، والانفعال السريع في الوجدان ، والثورة القوية في المشاعر ، التي تجعل الجانب العاطفي ، لا الفكري ، هو النبع المستعد أبداً بالفيض ، المستجاش أبداً بأول لمسة ، كل ذلك من مستلزمات الأمومة ، لأن مطالب الطفولة لا تحتاج إلى التفكير ، الذي قد يسرع أو يبطئ ، وقد يستجيب أولا يستجيب ، وإنما تحتاج إلى عاطفة مشبوبة لا تفكر ، بل تلبي الداعي بلا تراخ ولا إبطاء .
" فهذا كله هو الوضع الصحيح للمرأة حين تلبي وظيفتها الأصيلة وهدفها المرسوم .
" والرجل من جانب آخر مكلف بوظيفة أخرى ، ومهيأ لها على طريقة أخرى .
" مكلف بصراع الحياة في الخارج . سواء كان الصراع هو مجابهة الوحوش في الغابة ، أو قوى الطبيعة في السماء والأرض ، أو نظام الحكومة وقوانين الاقتصاد … كل ذلك لاستخلاص القوت ، ولحماية ذاته وزوجه وأولاده من العدوان .(3/85)
" هذه الوظيفة لا تحتاج أن تكون العاطفة هي المنبع المستجاش ، بل ذلك يضرها ولا ينفعها . فالعاطفة تنقلب في لحظات من النقيض إلى النقيض . ولا تصبر على اتجاه واحد إلا فترة ، تتجه بعدها إلى هدف جديد . وهذا يصلح لمطالب الأمومة المتغيرة المتقلبة ، ولكنه لا يصلح لعمل خطة مرسومة تحتاج في تنفيذها إلى الثبات على وضع واحد لفترة طويلة من الوقت . وإنما يصلح لذلك الفكر . فهو بطبيعته أقدر على التدبير وحساب المقدمات والنتائج قبل التنفيذ . وهو أبطأ عملاً من العاطفة الجياشة المتفجرة . وليس المطلوب منه هو السرعة ، بقدر ما هو تقدير الاحتمالات والعواقب ، وتهيئة أحسن الأساليب للوصول إلى الهدف المنشود . وسواء كان المقصود هو صيد فريسة ، أو اختراع آلة ، أو وضع خطة اقتصادية ، أو سياسة حكم ، أو إشعال حرب ، أو تدبير سلم ، فكلها أمور تحتاج إلى إعمال الفكر ، ويفسدها تقلب العاطفة .
" ولذلك فالرجل في وضعه الصحيح حين يؤدي هدفه الصحيح .
" وهذا يفسر كثيراً من أوجه الخلاف بين الرجل والمرأة . فهو يفسر مثلاً لماذا يستقر الرجل في عمله ، ويمنحه الجانب الأكبر من نفسه وتفكيره بينما هو في الميدان العاطفي متنقل كالأطفال . في حين أن المرأة تستقر في علاقاتها العاطفية تجاه الرجل ، وحينما تتجه إليه فكأنما كيانها كله يتحرك ويدبر الخطط ويرتب الملابسات ، وهي في هذا الشأن أبعد ما تكون نظراً وأشد ما تكون دقة . ترسم أهدافها لمسافات بعيدة ، وتعمل دائبة على تحقيق أغراضها . بينما هي لا تستقر في العمل إلا أن يكون فيه ما يلبي جزءاً من طبيعتها الأنثوية كالتمريض أو التدريس أو الحضانة . أما حين تعمل في المتجر فهي تلبي كذلك جزءاً من عاطفتها بحثاً عن الرجل هناك . ولكن هذه الأعمال كلها بديل لا يغني عن الأصل ، وهو الحصول على رجل وبيت وأسرة وأولاد . وما إن تعرض الفرصة للوظيفة الأولى حتى تترك المرأة عملها لتهب نفسها لبيتها . إلا أن يحول دون ذلك عائق قهري كحاجتها إلى المال .
" ولكن هذا ليس معناه الفصل الحاسم القاطع بين الجنسين ، ولا معناه أن كلا منهما لا يصلح أية صلاحية لعمل الآخر .
" .. الجنسان إذن خليط ، وعلى نسب متفاوتة ، فإذا وجدت امرأة تصلح للحكم أو القضاء أو حمل الأثقال أو الحرب والقتال .. وإذا وجد رجل يصلح للطهي وإدارة البيوت أو الإشراف الدقيق على الأطفال أو الحنان الأنثوي ، أو كان سريع التقلب بعواطفه ينتقل في لحظة من النقيض للنقيض ، فكل ذلك أمر طبيعي ، ونتيجة صحيحة لاختلاط الجنسين في كيان كل جنس . ولكنه خلو من الدلالة المزيفة التي يريد أن يلصقها به شذاذ الآفاق في الغرب المنحل والشرق المتفكك سواء .
فالمسألة في وضعها الصحيح ينبغي أن توضع على هذه الصورة : هل كل هذه الأعمال التي تصلح لها المرأة زائدة على وظيفتها الطبيعية ، تغنيها عن هذه الوظيفة الأصيلة ؟ تغنيها عن طلب البيت والأولاد والأسرة ؟ وتغنيها عن طلب الرجل قبل هذا وبعد ذلك ليكون في البيت رجل ! بصرف النظر عن شهوة الجنس وجوعة الجسد ؟ " ….
والآن وقد استعرضنا حقيقة الخلاف بين طبيعة الرجل والمرأة ، نعود إلى مواضع التفرقة بينهما في الإسلام .
إن مزية الإسلام الكبرى أنه نظام واقعي ، يراعي الفطرة البشرية دائماً ولا يصادمها أو يحيد بها عن طبيعتها . وهو يدعو الناس لتهذيب طبائعهم والارتفاع بها ، ويصل في ذلك إلى نماذج تقرب من الخيالات والأحلام ، ولكنه في تهذيبه لا يدعو لتغيير الطبائع ، ولا يضع في حسابه أن هذا التغيير ممكن ، أو مفيد لحياة البشرية حتى إذا أمكن ! وإنما يؤمن بأن أفضل ما تستطيع البشرية أن تصل إليه من الخير ، هو ما يجيئ متمشياً مع الفطرة بعد تهذيبها ، والارتفاع بها من مستوى الضرورة إلى مستوى التطوع النبيل .
وهو يسير في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية المدركة لفطرة البشر ، فيسوي بينهما حيث تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيح ، ويفرق بينهما كذلك حيث تكون التفرقة هي منطق الفطرة الصحيح . فلننظر أهم مواضع التفرقة : تقسيم الإرث ومسألة القوامة .(3/86)
يقول الإسلام في الإرث : " للذكر مثل حظ الأنثيين " . ذلك حق . لكنه يجعل الرجل هو المكلف بالإنفاق . ولا يتطلب من المرأة أن تنفق شيئاً من مالها على غير نفسها وزينتها ( إلا حيث تكون العائل الوحيد لأسرتها وهي حالات نادرة في ظل النظام الإسلامي ، لأن أي عاصب من الرجال مكلف بالإنفاق ولو بعدت درجته ) فأين الظلم الذي يزعمه دعاة المساواة المطلقة ؟ إن المسألة مسألة حساب ، لا عواطف ولا ادعاء . تأخذ المرأة – كمجموعة - ثلث الثروة الموروثة لتنفقها على نفسها ، ويأخذ الرجل ثلثي الثروة لينفقها أولاً على زوجة - أي على امرأة - وثانياً على أسرة وأولاد - فأيهما يصيب أكثر من الآخر بمنطق الحساب والأرقام ؟ وإذا كانت هناك حالات شاذة لرجال ينفقون كل ثرواتهم على أنفسهم ولا يتزوجون ولا يبنون أسرة ، فتلك أمثلة نادرة ، وإنما الأمر الطبيعي أن ينفق الرجل ثروته على بناء أسرة فيها امرأة بطبيعة الحال هي الزوجة . وهو ينفق عليها لا تطوعاً منه بل تكليفاً . ومهما كانت ثروتها الخاصة فلا يحق له أن يأخذ منها شيئاً البتة إلا بالتراضي الكامل بينهما . وعليه أن ينفق عليها كأنها لا تملك شيئاً ، ولها أن تشكوه إذا امتنع عن الإنفاق ، أو قتر فيه بالنسبة لما يملك ، ويحكم لها الشرع بالنفقة أو بالانفصال . فهل بقيت بعد ذلك شبهة في القدر الحقيقي الذي تناله المرأة من مجموع الثروة ؟ وهل هو امتياز حقيقي في حساب الاقتصاد أن يكون للرجل مثل حظ الأنثيين وهو مكلف مالا تكلفه الأنثى ؟
على أن هذه النسبة إنما تكون في المال الموروث بلا تعب ، فهو يقسم بمقتضى العدل الرباني الذي يعطي " لكل حسب حاجته " . ومقياس الحاجة هو التكاليف المنوطة بمن يحملها. أما المال المكتسب فلا تفرقة فيه بين الرجل والمرأة ، لا في الأجر على العمل ، ولا في ربح التجارة ولا ريع الأرض إلخ . لأنه يتبع مقياساً آخر هو المساواة بين الجهد والجزاء . وإذن فلا ظلم ولا شبهة في ظلم ، وليس وضع المسألة أن قيمة المرأة هي نصف قيمة الرجل في حساب الإسلام ، كما يفهم العوام من المسلمين ، وكما يقول المشنعون من أعداء الإسلام . وقد رأينا بحساب الأرقام أن ذلك غير صحيح .
وليس اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد دليلاً كذلك على أن المرأة تساوي نصف رجل . إنما هذا إجراء روعي فيه توفير كل الضمانات في الشهادة ، سواء كانت الشهادة لصالح المتهم أو ضده ، ولما كانت المرأة بطبيعتها العاطفية المتدفقة السريعة الانفعال ، مظنة أن تتأثر بملابسات القضية " فتضل " عن الحقيقة ، روعي أن تكون معها امرأة أخرى " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " وقد يكون المشهود له أو عليه امرأة جميلة تثير غيرة الشاهدة ، أو يكون فتى يثير كوامن الغريزة أو عطف الأمومة .. إلى آخر هذه العواطف التي تدفع إلى الضلال بوعي أو بغير وعي . ولكن من النادر جداً حين تحضر امرأتان في مجال واحد ، أن تتفقا على تزييف واحد ، دون أن تكشف إحداهما خبايا الأخرى فتظهر الحقيقة ! على أن شهادة الواحدة تعتبر فيما تعد المرأة خبيرة فيه أو مختصة به من شؤون النساء .
أما مسألة القوامة : فالضرورة تقضي أن يكون هناك قيم توكل إليه الإدارة العامة لهذه الشركة القائمة بين الرجل والمرأة ، وما ينتج عنها من نسل ، وما تستتبعه من تبعات . وقد اهتدى الناس في كل تنظيماتهم إلى أنه لا بد من رئيس مسئول ، وإلا ضربت الفوضى أطنابها ، وعادت الخسارة على الجميع . وهناك ثلاثة أوضاع يمكن أن تفترض بشأن القوامة في الأسرة : فإما أن يكون الرجل هو القيم ، أو تكون المرأة هي القيم . أو يكونا معاً قيمين .
ونستبعد الفرض الثالث منذ البدء ، لأن التجربة أثبتت أن وجود رئيسين للعمل الواحد أدعى إلى الإفساد من ترك الأمر فوضى بلا رئيس . والقرآن يقول عن السماء والأرض : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " .. " إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " . فإذا كان هكذا الأمر بين الآلهة المتوهمين فكيف هو بين البشر العاديين ؟
وعلم النفس يقرر أن الأطفال الذين يتربون في ظل أبوين يتنازعان على السيادة ، تكون عواطفهم مختلة ، وتكثر في نفوسهم العقد والاضطرابات .
بقي الفرضان الأولان . وقبل أن نخوض في بحثهما نسأل هذا السؤال : أيهما أجدر أن تكون وظيفته القوامة ، بما فيها من تبعات : الفكر أم العاطفة ؟ فإذا كان الجواب البديهي هو الفكر ، لأنه هو الذي يدبر الأمور في غيبة عن الانفعال الحاد الذي كثيراً ما يلتوي بالتفكير فيحيد به عن الطريق المباشر المستقيم ، فقد انحلت المسألة دون حاجة إلى جدال كثير .(3/87)
فالرجل بطبيعته المفكرة لا المنفعلة ، وبما يحتوي كيانه من قدرة على الصراع واحتمال أعصابه لنتائجه وتبعاته ، أصلح من المرأة في أمر القوامة على البيت . بل إن المرأة ذاتها لا تحترم الرجل الذي تسيره فيخضع لرغباتها بل تحتقره بفطرتها ولا تقيم له أي اعتبار . فإذا كان هذا من أثر التربية القديمة التي تترك طابعها في اللاشعور ، وتكيف مشاعر المرأة دون وعي منها ، فهذه هي المرأة الأمريكية بعد أن ساوت الرجل مساواة كاملة ، وصار لها كيان ذاتي مستقل ، عادت فاستعبدت نفسها للرجل . فأصبحت هي التي تغازله وتتلطف له ليرضى! وتتحسس عضلاته المفتولة وصدره العريض ، ثم تلقي بنفسها بين أحضانه حين تطمئن إلى قوته بالقياس إلى ضعفها !
على أن المرأة إذا تطلعت " للسيادة " في أول عهدها بالزواج وهي فارغة البال من الأولاد وتكاليف تربيتهم التي ترهق البدن والأعصاب ، فسرعان ما تنصرف عنها حين تأتي المشاغل ، وهي آتية بطبيعة الحال ، فحينذاك لا تجد في رصيدها العصبي والفكري ما تحتمل به مزيداً من التبعات .
وليس مؤدى ذلك أن يستبد الرجل بالمرأة ، أو بإدارة البيت . فالرئاسة التي تقابل التبعة لا تنفي المشاورة ولا المعاونة . بل العكس هو الصحيح . فالرئاسة الناجحة هي التي تقوم على التفاهم الكامل والتعاطف المستمر . وكل توجيهات الإسلام تهدف إلى إيجاد هذه الروح داخل الأسرة ، وإلى تغليب الحب والتفاهم على النزاع والشقاق . فالقرآن يقول : " وعاشروهن بالمعروف ( ) " والرسول يقول : " خيركم خيركم لأهله ( ) " فيجعل ميزان الخير في الرجل هو طريقة معاملته لزوجته ، وهو ميزان صادق الدلالة ، فما يسيء رجل معاملة شريكته في الحياة إلا أن تكون نفسه من الداخل منطوية على انحرافات شتى ، تفسد معين الخير أو تعطله عن الانطلاق ( ) .
ولكن العلاقات " الرسمية " في داخل الأسرة موضع شبهات كثيرة تحتاج إلى بيان .
بعض هذه الشبهات خاص بالتزامات المرأة نحو الرجل ، وبعضها خاص بموضوع الطلاق وموضوع تعدد الزوجات .
وأنا أعتقد أن الزواج مسألة شخصية إلى حد كبير ، وأنه ككل تعامل بين شخصين ، يعتمد قبل كل شيء على المميزات الشخصية والخصائص النفسية والعقلية والجسمية لكل من الطرفين ، بحيث يصعب جداً أن يحكمه " قانون " عام . فإذا وجدت حالة يسودها الوفاق والوئام فليس من الضروري أن يكون ذلك لأن الزوجين يراعيان " الأصول " الزوجية كل نحو الآخر . وكثيراً ما نسمع عن أزواج لا يشتد بينهم الانسجام والمحبة إلا بعد شجار عنيف قد يتجاوز اليد واللسان ! وإذا وجدت حالة من الشقاق والخلاف فليس من الضروري أن يكون السبب غلطة الزوج أو نشوز الزوجة . وكثيراً ما نسمع عن زوجين كل منهما في ذاته مثال كريم للإنسان ، ولكن " مزاجهما " لا يتفق ، وقد يبكيان حسرة على عدم إمكان التفاهم بينهما ، ولكنهما مع ذلك لا يتفاهمان .
ورغم ذلك فلا بد من قانون عام يحكم أمر الزواج ؛ فلا يستطيع نظام أن يعلن إحاطته الكاملة بحياة البشر دون أن يشرع لهذه المسألة الحساسة ، تشريعاً يضع - على الأقل - الحدود العامة التي لا ينبغي تجاوزها ، ثم يترك التفاعل الشخصي ليحكم ما بين هذه الحدود .
وطبيعي أننا لا نلجأ إلى القانون ونحن متحابون متفاهمون .
فالزواج الموفق لا يلجأ إلى نصوص القانون ولا يحتكم إليها . ولا يقول كل من الزوجين لنفسه إن القانون يقتضيني كذا فلأصنعه وإلا صرت مخالفاً لأوامره . وإنما ينشأ التوفيق - في الغالب كما قلنا - من التقاء المزاج ، من التقاء شطري النفس الواحدة وتعشق أحدهما بالآخر . ينشا من الحب الذي يجمع القلبين على صورة من الصور ، قد لا تكون " عادلة " بالنسبة لأحد الطرفين ، ولكنها مع ذلك مستقرة وافية بالغرض المطلوب .
ولكنا حين نختلف نبحث عن القانون ، ونحتكم إلى نصوصه لعلها تحسم الخلاف .
والمطلوب من القانون أن يكون عادلاً لا يحابي أحد الخصمين على حساب الآخر ، وأن يحاول بقدر الإمكان أن يشمل محيطاً واسعاً من الحالات ، وإن كنت أكرر أنه لا يمكن لأي قانون أن يشمل كل حالة ، أو أن يكون تطبيقه الحرفي صالحاً أو عادلاً في كل حالة .
فلننظر في القانون الإسلامي من جهة التزامات الزوجة ، لأنها هي موضع الشكوى ومثار الشبهات . ويهمني بشأنها ثلاثة أمور :
هل هي التزامات قاسية في ذاتها ؟
وهل هي التزامات من جانب واحد بلا مقابل ؟
وهل هي التزامات " مؤبدة " لا تملك المرأة الفكاك منها حين تريد ؟
تلتزم المرأة بثلاثة أمور رئيسية : أن تطيع زوجها في الفراش كلما دعاها إليه ، وألا توطئ فراشه من يكره ، وأن تحفظ غيبته .(3/88)
أما المسألة الأولى ، فهي في حاجة إلى قدر من الصراحة لتجليتها . والحكمة فيها واضحة . فطبيعة الرجل الجثمانية تجعله في حاجة إلى إفراغ الشحنة الجنسية كلما تجمعت وألحت ، لكي يفرغ لوظيفته الأخرى من العمل والإنتاج ، ومواجهة مشكلات الحياة بأعصاب لا يرهقها القلق والاضطراب . وقد يكون - في فترة الشباب على الأقل - أكثر طلباً للجنس ، في عدد المرات فقط ، وإن كانت المرأة أعمق منه استجابة للجنس ، وأشد اشتغالاً به بمجموع نفسها وجسدها وروحها في معناه الشامل لا في صورته الجسدية فحسب ( ) . والزواج منظور فيه بطبيعة الحال إلى تلبية الحاجات الجنسية بجانب المعاني الأخرى الروحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية .. فإذا كان الزوج لا يجد زوجته ملبية حين يلح عليه خاطر الجنس ويشغل أعصابه ، فأي شيء يصنع ؟ يلجأ إلى الجريمة في خارج البيت ؟ لا المجتمع ينبغي أن يسمح ، ولا الزوجة ذاتها ترضى أن يتجه زوجها بنفسه أو جسده إلى امرأة أخرى ، هي غريمة لها مهما تكن الأوضاع .
ولن يخرج موقف الزوجة إذا دعاها زوجها دون رغبة منها عن حالة من ثلاث : أن تكون كارهة لزوجها لا تطيق الاتصال به ، أو تكون محبة له ولكنها تكره الاتصال الجنسي عامة وتنفر منه ، وتلك حالة نفسية منحرفة ولكنها موجودة في واقع الحياة . أو تكون محبة له غير نافرة من الاتصال به ، ولكنها لا تريد - الآن .
أما الحالة الأولى فهي دائمة لا تتعلق بوقت معين ، ولا بعمل معين ، وهي حالة لا يرجى فيها الإبقاء على الرابطة الزوجية ، فيحسن أن تأخذ طريقها الطبيعي إلى الانفصال . والمرأة تملك هذا من أكثر من طريق كما سيجيء بعد قليل .
والحالة الثانية أيضاً دائمة ، لا تنشأ من إلحاح الزوج في الطلب . وينبغي علاجها بالاتفاق التام الصريح من مبدأ الأمر ، فإما أن يقبل الزوج الامتناع عن تلبية حاجته مهما كلفه ذلك من مشقة ، وإما أن تقبل الزوجة تحمل المشقة لأنها تحب زوجها ولا تريد الانفصال عنه. أو ينفصلان – بالمعروف - إذا لم يمكن التوفيق . أما الشرع فهو يلزم المرأة بالطاعة إذا أصر الزوج ، لا تحكماً وإعتسافاً ولكن لأن الأمر الطبيعي في الزواج أن يشمل العلاقة الجنسية . ولأن امتناع الزوجة كما قلنا يلجئ الزوج إلى الجريمة الخلقية ( أو إلى الزواج بامرأة أخرى وهو ما تكرهه الزوجة ) . ولكنه لم يلزمها أن تقبل هذا الوضع إذا رأت أنها لا تطيقه ، وأن حبها لزوجها قد تلاشى بسبب هذا الأمر وانقلب إلى فتور ، فهنا تنفصل بسبب الكراهية .
أما الحالة الثالثة فهي مؤقتة وعلاجها ميسور . إن هذا النفور الوقتي من الاتصال الجنسي قد ينشأ من تعب أو ملل أو انشغال بال . ولكن قدراً من التهيئة النفسية والجسمية كفيل بإزالته . ولذلك اهتم الرسول بتوجيه نظر الرجال إلى المداعبة اللطيفة والأخذ والعطاء قبل العمل ذاته ، أولاً ليرفع هذه العلاقة عن بهيمية الجسد الخالصة ويجعلها ألفة نفس وامتزاج روح ، ثم ليزيل مثل هذا العارض الذي قد يسبب النفور .
أما حين تكون الزوجة هي الراغبة والزوج منصرف لسبب من الأسباب ، وهذا نادر الوقوع في فترة شباب الزوج على الأقل ، فالمرأة لا تعدم الوسيلة .. ولكنا نقرر أن القانون الذي دعا المرأة لطاعة زوجها ، قد اهتم برغبتها وأحلها مكانها الحق ، وألزم الزوج بأداء " واجبه الزوجي " إذا طلبت الزوجة . فإذا عجز الزوج وقع الانفصال . وهكذا نرى أن الالتزام واقع من الناحيتين ، وليس فيه تعسف بالزوجة ولا إهدار لكيانها الشخصي .
والالتزام الثاني هو ألا توطئ الزوجة فراش زوجها من يكره ، أي لا تدخل بيته أحداً يكرهه ( وليس المقصود الفاحشة فهذه محرمة حتى لو رضي بها الزوج ) وحكمة هذا الالتزام أنه كثيراً ما تنشأ المنازعات في البيت نتيجة دخول أحد بين الزوجين بالسعاية أو الإثارة وسوء التوجيه . فإذا لحظ الزوج ذلك وطلب من زوجته أن تمنع شخصاً معيناً من دخول بيته ، فماذا يحدث حين تعارض الزوجة ؟ يستمر منبع الفتنة ويستحيل الوفاق . فالإلزام هنا لصالح الشركة القائمة بين الزوجين وما ينتج عنها من أطفال يحتاجون إلى الرعاية وإلى جو من المودة لا يفسده الشجار والشقاق ، حتى لا ينشأ الأطفال منحرفي النفوس والأفكار .(3/89)
ولعل القائل أن يقول : ولماذا لم يلزم القانون الزوج أيضاً بألا يدخل بيته من تكرهه زوجته ؟ وطبيعي أنه في حالة الحب والمودة ، وفي حالة التهذيب والارتفاع من الجانبين ، يمكن التفاهم على جميع الأمور فلا تصل إلى درجة الاحتكاك . ولكنا نفترض أن الشقاق واقع والتفاهم مستحيل ، ولذلك نلجأ إلى حكم القانون . وهنا يجب أن نذكر أن انفعالات المرأة ليست في غالب الأحوال منطقية ، وأن الغيرة الشخصية البحتة - لا المصلحة - قد تكون هي التي تنفر الزوجة من أم الزوج أو أخته أو إحدى قريباته . فإلزام الزوج في هذه الحالة بإطاعة زوجته في إبعاد من تكره ، لن يكون إلزاماً للمصلحة ، ولكن لثورة عاطفية قد لا تلبث أن تتحول ، أو تكون قائمة على غير أساس .
ولست أعني من ذلك أن الزوج دائماً على حق فيما يصنع ، فقد ينقلب طفلاً في كثير من الحالات ، ويولع بالمكايدة . ولا أعني كذلك أن الزوجة دائماً مخطئة ، فقد تكون محقة في النفور من شخص بعينه ، وقد يكون هذا الشخص ممن يعملون فعلاً على هدم روابط الزوجية لأي سبب ، ولكن القانون موكل بالنسبة الغالبة ، ومتمش مع الفطرة التي تفترض أن الرجل أكثر انقياداً لعقله ، والمرأة أكثر انقياداً لانفعالاتها العاطفية ، ثم إن الباب مفتوح أمام المرأة في كل حالة تجد أنها لا تستطيع الاستمرار على احتمالها ، فتنهيها بالانفصال .
أما محافظة الزوجة على عرض زوجها وماله في غيبته فهو التزام طبيعي ومنطقي لا أحسب أحداً يجادل فيه . وهو التزام مشترك يشمل الرجل والمرأة على السواء .
* * *
وننتقل الآن إلى حالة النشوز من جانب الزوجة أو من جانب الزوج :
يتفرع عن قوامة الرجل على المرأة حق الزوج في تأديب زوجته الناشزة ، وهو الحق الذي تبينه هذه الآية : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ( ) " .
ويلاحظ أن الآية تدرجت في بيان وسائل التأديب حتى وصلت إلى الضرب - غير المبرح - في نهاية المطاف . ولسنا هنا بصدد الحالات التي يساء فيها استخدام هذا الحق ، فكل حق في الدنيا يمكن أن يساء استخدامه ، ولا يمكن الحيلولة دون ذلك إلا بالتهذيب الخلقي والارتفاع الروحي ، وهي مسألة لا يهملها الإسلام ، ولا يني عن توجيه العناية إليها ( ) ولكننا بصدد مشروعية هذا الحق وضرورته في صيانة كيان الأسرة ومنعها من التفكك والانحلال .
كل قانون أو نظام في الدنيا تلزمه السلطة التي تؤدب الخارجين عليه ، وإلا أصبح حبراً على ورق . وانتفت الفائدة المقصودة من وجوده .
والزوجية نظام قائم لصالح المجتمع وصالح الزوج والزوجة على السواء ، والمفروض فيه أن يحقق أقصى ما يمكن من المصالح للجميع . وحين يكون الوئام والوفاق سائدين فيه تتحقق جميع المصالح بغير تدخل القانون . ولكن حين يحدث الشقاق ينجم الضرر الذي لا يقف عند شخصي الزوجين ، بل يتعداهما إلى الأطفال ، وهؤلاء نواة المجتمع المقبلة التي يجب إحاطتها بحير وسائل التنمية والتهذيب .
فحين تتسبب الزوجة في هذا الضرر فمن الذي يتولى ردها إلى الصواب ؟ المحكمة ؟ إن تدخل المحكمة في خصوصيات العلاقة بين الزوجين إدعى إلى توسيع هوة الخلاف - الذي قد يكون هنياً وموقوتاً - وأدعى إلى إفساد هذه العلاقة لأنه يمس كرامة هذا الطرف أو ذاك علانية ، فتأخذه العزة بالأثم ويتشبث بموقفه . فالمحكمة لا يجوز أن تتدخل إلا في كبريات المسائل التي تفشل فيها كل محاولة للتوفيق .
ثم إنه ليس من العقل أن نلجأ إلى المحكمة في حوادث الحياة اليومية التافهة التي تتجدد كل دقيقة ، وتنتهي من نفسها كل دقيقة ، فذلك خبال لا يقدم عليه العقلاء ، فضلاً عن أنه يحتاج إلى إقامة محكمة في كل بيت تعمل ليل نهار !
لا بد إذن من سلطة محلية تقوم بهذا التأديب ، هي سلطة الرجل المسؤول في النهاية عن أمر هذا البيت وتبعاته . وهي تبدأ بالوعظ الجميل الذي يرد الشارد عن غيه ولا يجرح كبرياءه ، فإن أفلحت هذه الطريقة كان خير ، وإلا فهناك درجة أخرى أعنف من السابقة ، هي الهجر في المضاجع ، وهي لفتة نفسية عميقة من الإسلام لطبيعة المرأة التي تعتز بجمالها وفتنتها ، وتدل بهما ، حتى يؤدي ذلك أحياناً إلى النشوز . والهجر في المضاجع معناه عدم الخضوع لهذه الفتنة ، مما يطامن من كبرياء الزوجة الجامحة ويردها إلى الصواب . فإذا لم تفلح جميع الوسائل ، فنحن أمام حالة من الجموح العنيف لا يصلح لها إلا إجراء عنيف هو الضرب ، بغير قصد الإيذاء ، وإنما بقصد التأديب . لذلك نص التشريع على أنه ضرب غير مبرح .
وهنا شبهة الإهانة لكبرياء المرأة ، والفظاظة في معاملتها ، ولكن ينبغي أن نذكر من جهة أن السلاح الاحتياطي لا يستعمل إلا حين تخفق كل الوسائل " السلمية " الأخرى . ومن جهة ثانية أن هناك حالات انحراف نفسي لا تجدي معه إلا هذه الوسيلة .(3/90)
أما في الحالات العادية التي لا تصل إلى حد المرض ، فالضرب لا ضرورة له . وهو سلاح احتياطي لا غير ، لا يجوز المبادرة إليه ولا الابتداء به ، والآية بترتيب درجاتها تشير إلى ذلك ، والرسول الكريم ينهي الرجال عن استعمال هذا الحق - إلا في الضرورة القصوى التي لا يفلح فيها شيء - ويقول لهم موبخاً : " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العير ثم يجامعها في آخر اليوم ( ) " .
أما حين ينشز الزوج فالقانون مختلف : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ( ) " .
وقد يطيب لبعض الناس لأول وهلة أن يطالب بالمساواة الكاملة ! ولكن المسألة هنا هي مسألة الواقع العملي والفطرة البشرية ، لا مسألة عدالة نظرية مثالية لا تقوم على أساس . أي امرأة سوية في الأرض كلها تضرب زوجها ثم يبقى له في نفسها احترام ، وتقبل أن تعيش معه بعد ذلك ؟ وفي أي بلد في الغرب " المتحضر " أو الشرق المتأخر طالبت النساء بضرب أزواجهن ؟
ولكن المهم أن الشرع لم يلزمها بقبول نشوز الزوج واحتماله ، فأباح لها الانفصال حين لا تطيق .
* * *
في جميع الحالات السابقة رأينا :
أولاً : أن التزامات المرأة نحو الرجل ليست تحكمية ، وإنما نظر فيها للمصلحة العامة التي تشمل الزوجة أيضاً بطريق مباشر أو غير مباشر .
ثانياً : أن معظم هذه الالتزامات له مقابل من نفس النوع عند الزوج . أما الحالات القليلة التي اختص فيها الرجل بلون من السلطة ليس للمرأة ، فقد روعي فيها فطرة الرجل والمرأة كليهما ، ولم يقصد بها إذلال المرأة ولا إهانتها .
ثالثاً : أنه في مقابل هذه السلطة منحت المرأة الحق في رفضها إذا كانت نفسها لا تقبلها ، أو أحست بأن في قبولها ظلماً لها .
أما الانفصال الذي أشرنا إليه مراراً من قبل ، والذي هو طريق المرأة العملي لرفض ما لا تطيق من الالتزامات ، فله ثلاث سبل مختلفة :
أن تجعل المرأة عصمتها في يدها ، وقد صرح بذلك الشرع وإن كان لا يتمسك به إلا القليلات من النساء ، ولكنه حق لها إذا شاءت أن تستخدمه .
أو تطلب الطلاق لأنها كارهة لزوجها غير مطيقة معاشرته . وقد سمعت أن المحاكم لا تأخذ بهذا المبدأ . ولكنه مبدأ صريح أقره الرسول وعمل به ، فهو جزء من التشريع ، وشرطه الوحيد أن تتنازل المرأة عما تملكته بطريق الزواج ، وهو شرط عادل . لأن الزوج حين يطلق زوجته يفقد كل ما ملكه إياها بالزواج ، أي أن الطرف الذي يتسبب في الطلاق - سواء كان الرجل أو المرأة - يحتمل خسارة مادية مقابل فصمه لعرى الزوجية .
والطريق الثالث أن تطلب الطلاق - مع الاحتفاظ بمتاعها وأخذ النفقة - على أساس سوء المعاملة أو الإضرار . إذا استطاعت أن تثبت ذلك . والمحاكم تشدد في ذلك لعلمها أن كثيراً من القضايا التي تعرض أمامها ترجع إلى المكايدة . ولكنها تحكم بالطلاق عند ثبوت الأمر .
تلك أسلحة المرأة مقابل سلطة الرجل عليها ، وهما في النهاية متكافئان .
* * *
وذلك يجرنا إلى الحديث عن الطلاق…
ونحن نسمع كثيراً من القصص عن المآسي التي تنجم عن الطلاق ، من تشريد للزوجة والأطفال ، ومنازعات في المحاكم لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد .
تكون المرأة في بيتها هادئة مستقرة ، بل مكدودة ناصبة ، ترضع طفلاً وتنظر في طلبات طفل آخر ، وتعمل مع هذا وذاك على تهيئة راحة الزوج ، فإذا هي تفاجأ دون إنذار سابق بوثيقة الطلاق على يد المأذون . لماذا ؟ لأن نزوة طارئة خطرت في نفس الزوج : رأى امرأة أخرى ظنها أجمل ، أو مل " الروتين " الزوجي فرغب في التغيير ، أو لأنه طلب من زوجته أن " تسقيه " فرفضت أو تكاسلت لأنها متعبة .. !
أما من طريق لتحطيم هذا السلاح الخطر الذي يلهو به الرجل في لحطة غادرة بكيان امرأة صابرة وعش هادئ ومستقبل سعيد كان ينتظر أفراخه الصغار ؟
ولا شك في وجود هذه المآسي الكثيرة التي يتحدث بها الناس . ولكن ما السبيل ؟
هل نلغي الطلاق ؟ وكيف نصنع في المآسي الأخرى التي تنجم من تحريم الطلاق ؟ تلك المآسي التي تعرفها جيداً الدول الكاثوليكية التي لم تأخذ بمبدأ الإباحة ؟ وهل يصير البيت بيتاً وأحد الطرفين أو كلاهما يكره الآخر ولا يطيق عشرته ، ومع ذلك فالقيد مؤبد والخلاص مستحيل ؟ أَوَ ليس هذا يؤدي إلى الجريمة ؟ يتخذ الزوج عشيقة يلبي معها دوافع الجنس ، والزوجة المنبوذة تتخذ نفس الطريق ؟ وهل ينفع الأطفال أن ينشأوا في مثل هذا الجو الكابي الملبد بالغيوم ؟ ليس المهم هو مجرد حياتهم في كنف الوالدين . ولكن المهم هو الجو الذي يعيشون فيه . وإلا فما أكثر المنحرفين والمنحرفات الذين جاء انحرافهم من حياتهم مع أبوين متخاصمين لا ينتهي لهما خصام .
يقولون : نقيد حق الرجل في الطلاق .(3/91)
يعني ماذا ؟ يعني أنه لا يقع الطلاق بمجرد إلقاء الرجل لكلمة الطلاق ، وإنما يقع في المحكمة . والمحكمة ترسل في طلب حكم من أهله وحكم من أهلها ، ويبحثون الموضوع ، ويراجعون الزوج ، ويعظونه ويحاولون الصلح ، فلعل ذلك كله أن يرد الرجل عن غيه ويبقي على الأسرة وروابط الزوجية ، فإذا لم تجد المحاولة فعند ذلك فقط ينفذ الطلاق على يد القاضي لا على يد الزوج .
ولست أجد على أي حال مانعاً من هذا الإجراء الذي ينفذ في جزء منه وصية الشرع في مراجعة الأهل ومحاولة التوفيق ، وإن كنت لا أومن بجدواه في كثير ، فالاحتياطات التي يريدها هؤلاء المصلحون موجودة بالفعل دون حاجة إلى محكمة . ولنفرض أنه طلقها ووقع الطلاق بنص الشرع فهل يمنع ذلك أن يقوم أهله وأهلها بالتوفيق فترد إليه في الحال بدون إجراء جديد ؟ فإذا كانت المرة الثانية ووقع الطلاق أيضاً فهل يتعذر التوفيق إذا كانت هناك رغبة فيه أو فائدة في إتمامه ؟ مع تأديب الزوج بعمل إجراءات جديدة ومهر جديد ؟
إن الرغبة في التوفيق - حين توجد - لا تتوقف على تدخل المحكمة ، وحين تكون عقيمة فماذا يملك القاضي أكثر مما يملك الأهل والأصدقاء ؟
وهناك أمم " متحضرة ! " لا تعيش على التشريع الإسلامي ، ولا يتم الطلاق فيها إلا في المحكمة ، وبعد تقديم المواعظ والإرشادات ومحاولة التوفيق ، فكم بلغت نسبة الطلاق هناك ؟ لقد وصلت في أمريكا إلى 4.% وهي أعلى نسبة في العالم كله ، بما فيه مصر التي يتهم أهلها بأنهم من هواة الزواج والطلاق !
أما المتطرفون والمتطرفات ، الذين يريدون ألا يحكم القاضي للرجل بالطلاق إلا إذا ثبت ثبوتاً قاطعاً أن الزوجة هي المخطئة ، وأن الحياة معها - في نظر القاضي- مستحيلة .. فأية كرامة يريدونها للمرأة من هذا السبيل ؟ أية كرامة لها في أن تبقى في بيت رجل يكرهها ولا يريدها في بيته ؟ ويذكرها صباح ومساء بأنه لا يرغب فيها ولا محل لها في قلبه ، وينبذها ويتصل بغيرها وهي تعلم ؟
أتبقى هناك للمكايدة ؟ وهل هذا هدف يطلب من التشريع أن يقره ؟ أو هل سبيل المكايدة الوحيد أن تبقى معه وهو راغم ، وهي مسلوبة الكرامة والسلطان ؟
أم تبقى لتربية الأولاد ؟ أكرم للأولاد وأقوم لتربيتهم أن يكونوا منفصلين مع أمهم ، من أن يكونوا ليل نهار في هذا الجو المظلم الكريه .
كلا ! ليس هؤلاء المتطرفون على شيء من التوفيق .
وإن المشكلة لا تحل بتغيير التشريع ، الذي وضع للضرورة ، ووجدت البشرية - في غير الإسلام - أنه لا معدى لها عنه ولا فكاك .
إنما تحل بالتربية ، برفع المستوى الثقافي والنفسي والروحي لمجموع الشعب . بتهذيب المشاعر حتى يكون الخير هو الغالب ، وتكون المودة هي الأصل في الحياة . بتعويد الرجل أن ينظر إلى علاقته الزوجية على أنها رباط مقدس لا ينبغي الإخلال بأمنه لأتفه النزوات .
والتربية طريق طويل وبطيء يحتاج إلى مجتمع يعيش بالإسلام ويحكم شريعة الله في أمره كله ، ويحتاج إلى جهد دائم في البيت والمدرسة والسينما والإذاعة والصحافة والكتب والمسجد والطريق .. ولكنها مع ذلك هي الطريق الوحيد المضمون .
أما التشريع فحسبه عدالة أن يعطي الحق للطرفين ، فيعطي المرأة كذلك حق الانفصال حين ترى حياتها مع الرجل لا تؤدي إلى الوفاق المنشود .
والطلاق - بعد - هو أبغض الحلال إلى الله .
* * *
أما تعدد الزوجات فتشريع للطوارئ ، وليس هو الأصل في الإسلام . " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ( ) " .
المطلوب إذن هو القسط والعدل ، وهو غير مضمون التحقيق . وعلى ذلك يكون الأصل في الإسلام هو وحدانية الزوج . ولكن هناك حالات تكون فيها الوحدانية ظلماً لا عدالة فيه . وعند ذلك يلجأ إلى تشريع الضرورة ، مع علمه أنّ العدالة المطلقة فيه غير مضمونة ، ليتقي ضرراً أكبر بضرر أخف .
وأهم الحالات التي يحتاج المجتمع فيها إلى هذا التشريع هي حالات الحروب التي تفني عدداً كبيراً من الشباب ، فيختل الميزان ويزيد عدد النساء على عدد الرجال . وعند ذلك يكون تعدد الزوجات ضرورة لاتقاء الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية التي تنشأ لا محالة عن وجود نساء بلا رجل . وقد تعمل المرأة لتعول نفسها وأهلها ، نعم ، ولكن حاجتها الطبيعية إلى الجنس كيف تقضيها ؟ وما لم تكن هذه المرأة قديسة أو ملاكاً فهل أمامها سبيل إلا الارتماء في أحضان الرجال لحظات خاطفة في ليل أو نهار ؟ ثم حاجتها إلى الأولاد .. كيف تشبعها ؟ والنسل شهوة بشرية لا ينجو منها أحد ، ولكنها لدى المرأة أعمق بكثير منها عند الرجل .
إنها كيانها الأصيل الذي لا تشعر دونه بطعم الحياة .(3/92)
فهل من سبيل إلى قضاء تلك الحاجات كلها بالنسبة للمرأة ذاتها - بصرف النظر عن حاجة المجتمع إلى أخلاق نظيفة تحفظه من التحلل الذي أصاب دولاً كثيرة فأزالها من قائمة الدول التي لها دور في التاريخ - هل من سبيل إلى ذلك بغير اشتراك أكثر من امرأة في رجل واحد ، علانية وبتصريح من القانون ، على أن تكون كل منهن أصيلة ذات حقوق متساوية في كل شيء ( إلا عواطف القلب المضمرة فهذه ليس لأحد عليها سلطان ) ؟
ذلك بعض هدف الإسلام من هذا التشريع . وما يقول أحد إن اشتراك امرأة في رجل مع امرأة أخرى فضلاً عن اثنتين أو ثلاث ، يريح نفسها ويمنحها السعادة التي تهفو إليها . ولكنها ضرورة . ولولا أنها تجد في هذا الاشتراك ضرراً أخف من بقائها عاطلة بلا رجل ما قبلت الإقدام على ما فيه من منغصات .
وشبيه بحالة الحرب كل حالة يختل فيها التوازن لسبب من الأسباب . فالرجال أكثر تعرضاً لحوادث العمل وحوادث الطريق ، وللموت في الأوبئة لأنهم أقل مناعة بالطبيعة من النساء . أما حين يتساوى العدد فلا يمكن – حسابياً - أن يقوم تعدد الزوجات . ولم يحدث في أي وقت أن أراد شاب أن يتزوج فلم يجد ، لأن غيره من الرجال قد استولى على نصيبه في النساء !
وهناك حالات فردية معروفة لدى الفقهاء يكون تعدد الزوجات فيها ضرورة ، منها الطاقة الجنسية الحادّة التي لا تكتفي بواحدة ولا يمكن لصاحبها الصبر عليها . فهذه إما أن تأخذ طريقها المشروع إلى زوجة ثانية ، وإما أن تتخذ الخليلات في السر ، وهو وضع لا يسمح المجتمع النظيف بوجوده .
ومنها حالات عقم الزوجة . والنسل كما قلنا رغبة بشرية عميقة ، وهي رغبة رفيعة لا حطة فيها ولا عيب في اشتهائها . وصحيح أنه لا ذنب للزوجة العقيم في عقمها ، ولكن من يقول إنه من العدالة حرمان الزوج - كرهاً عنه - من حقه المشروع في إنجاب الأطفال ؟ فإذا رضيت الزوجة الأولى الاشتراك مع غيرها كان بها ، وإلا فأمامها طريق الانفصال إذا كانت لا تطيق .
أو حالات المرض الدائم الذي يمنع الاتصال . ولا يقولن أحد إن الرغبة الجنسية دنيئة في ذاتها ( ) ولا يجوز أن تكون سبباً في هدم سعادة امرأة . ليست المسألة مسألة دناءة أو ارتفاع . إنها ضرورة لا حيلة لأحد فيها . فإذا ارتفع الرجل عليها تطوعاً ، ومراعاة لخاطر الزوجة ، فذلك نبل مشكور ، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، والاعتراف بالأمر الواقع خير من التظاهر بالنبل مع الخيانة في الظلام ، كما يحدث في الدول التي لا تبيح تعدد الزوجات .
أو حالات النفور التي لا يملك الإنسان دفعها ولا السيطرة عليها .
ويلاحظ في جميع هذه الحالات أن الزوج يبقى على زوجته الأولى كراهة منه أن يطلقها ، ووفاء لعشرته الطويلة معها أن تنتهي بالطلاق ، وهو شعور كريم وإن كان لا يؤدي إلى سعادة الزوجة . أما إذا كان يمسك بها ضرراً ومكايدة ، فذلك حرام عليه عند الله ، وسبب موجب للطلاق حين تطلبه الزوجة .
* * *
ونستمر في استعراض الشبهات ، فنتحدث عن حق العمل .
وهو حق لا شبهة فيه ، وكانت النساء في صدر الإسلام يعملن حيث تقتضي الظروف منهن العمل . ولكن المسألة ليست مسألة تقرير الحق في ذاته ، فالواقع أن الإسلام لا يستريح لخروج المرأة تعمل في غير الأعمال الضرورية التي تقتضيها حاجة المجتمع من ناحية أو حاجة امرأة بعينها من ناحية أخرى . فتعليم البنات ، والتمريض ، وتطبيب النساء ، وما إلى ذلك أمور ينبغي أن تقوم بها المرأة . فهي إذن وظائف يحتم المجتمع أن يشتغل بها النساء ، ويملك أن يجندهن لها ، كما يجند الرجال للحرب سواء بسواء . وحاجة المرأة إلى العمل لعدم وجود عائل لها ، أو عدم كفاية ما يعولها به عائلها ، حاجة تقرر حق المرأة في العمل لأن ذلك أصون لها من الابتذال في سبيل العيش .
ولكن هذه وتلك ضرورة . والإسلام يبيحها على هذا الوضع . أما أن يكون الأصل في المجتمع أن تخرج المرأة لتعمل - كما ترى دول الغرب والدول الشيوعية سواء - فهي حماقة لا يقرها الإسلام ، لأنها تخرج بالمرأة عن وظيفتها الأولى ، وتنشئ من المفاسد النفسية والاجتماعية والخلقية أكبر مما تنتج من الخير .
ولا يستطيع أحد في الدنيا كلها أن يزعم أن المرأة بتكوينها الجسدي والفكري والوجداني ليست مهيأة لوظيفة معينة هي الأمومة . فإذا لم تقم بها فذلك إهدار لطاقة حيوية مرصودة لغرض معين ، وتحويل لها عن سبيلها الأصيل . وحين تقتضي الضرورة ذلك فلا اعتراض . أما اللجوء إليه بغير ضرورة ملحة ، ومجرد استجابة لنزوة حمقاء أصيب بها جيل من البشرية ، يريد أن يستمتع بغير حد ، وليأت من بعده الطوفان ، فأمر لا يطلب من الإسلام قبوله ، ولو استجاب له لتخلى عن مزيته العظمى ، وهي النظر إلى الإنسانية كلها على أنها كيان متصل لا ينقطع عند جيل من الأجيال .
ويقال إن المرأة تستطيع أن تكون أماً وتكون عاملة ، والبركة في المحاضن تحل مشكلة الأطفال .
كلام فارغ لا يثبت عند التمحيص .(3/93)
تستطيع المحاضن أن تمد الطفل بكل رعاية جسدية ، وبكل توجيه عقلي ونفسي علمي ، ولكنها لا تستطيع أن تمده بالعنصر الواحد الذي لا تقوم الحياة بدونه ولا تستقيم بغيره الأوضاع . ذلك هو الحب . رعاية الأم . والأم بالذات دون غيرها من النساء .
وليس في طوق المدينة المجنونة أو الشيوعية الحمقاء أن تغير طبائع البشر . فالطفل يحتاج إلى أم كاملة لا يشركه فيها أحد - في السنتين الأوليين على الأقل - ولو كان أخاه الشقيق . أمٌّ يشغلها تشغيلاً كاملاً في إجابة مطالبه ، ومناغاته ، وإحاطته بالرعاية والأمن في حضنها وبين ذراعيها ، وبغير ذلك تملأ نفسه العقد والاضطرابات . فأين له الأم في المحضن ، وعشرة أطفال أو عشرون يشتركون في " أم " صناعية واحدة ، يتصارعون فيما بينهم على تملكها ، فينشأون وقد غلبت على عواطفهم شهوة الصراع ، وتتحجر قلوبهم فلا تنبت فيها المودة والإخاء .. ؟
المحاضن للأطفال - كالعمل للمرأة - ضرورة تقضي بها الحاجة . أما أن تكون هي الأصل بغير ضرورة ملجئة فهو جنون لا يلجأ إليه العقلاء .
وأي جدوى للبشرية من أن تزيد إنتاجها المادي وهي تعرض الإنتاج البشري للتلف والبوار ؟
وقد يكون للغرب المجنون عذره من ظروفه التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية . أما نحن في منطقة الشرق الإسلامي فما عذرنا ؟ هل استنفدنا كل الأيدي العاملة من الرجال فوجدنا العمل ما زال في حاجة إلى مزيد ؟ هل نكل الرجل المسلم ، أباً كان أو أخاً أو زوجاً أو قريباً ، عن إعالة المرأة وتركها تعمل لكي تعيش ؟
يقولون إن العمل يعطي المرأة كياناً اقتصادياً مستقلاً فتحصل على كرامتها . فهل الإسلام حرم المرأة من الكيان الاقتصادي المستقل ؟ إن المشكلة في الشرق الإسلامي ليست مشكلة النظام ، وإنما هي مشكلة الفقر الشامل الذي لا يجعل للمرأة – ولا للرجل - موارد كريمة للعيش . وعلاج ذلك زيادة طاقة الإنتاج حتى يغني الشعب كله برجاله ونسائه ، فلا يكون فيه فقراء ، وليس علاجه أن تزاحم المرأة الرجل على وسائل الحياة !
ويقولون إن اشتراك إيرادين في إقامة أسرة أكفل لها من إيراد واحد .
وقد يكون هذا حقاً في أحوال فردية . ولكن إذا كانت كل امرأة تعمل في غير الوظائف النسوية تعطل رجلاً عن العمل ، فتعطل إقامة أسرة جديدة ، وتزيد من فترة التعطل الجنسي الذي يؤدي إلى الجريمة ، فأي عقل اقتصادي أو اجتماعي أو خلقي يؤيد هذا الاضطرابات ؟
لقد كان الإسلام يلحظ الفطرة البشرية وحاجات المجتمع معاً ، حين خصص المرأة لوظيفتها الأولى التي خلقت من أجلها ، ووهبت العبقرية فيها ، وجعل كفالتها واجباً على الرجل لا يملك النكول عنه ، ليفرغ بالها من القلق على العيش ، وتتجه بكل جهدها وطاقتها لرعاية الإنتاج البشري الثمين . كما أحاطها - في هذه الوظيفة - بالرعاية الكاملة والاحترام الشامل ، حتى إن أحد الناس ليسأل الرسول صلى الله عليه وسلم : من أولى الناس بحسن صحابتي ؟ فيقول : " أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أُمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أبوك " ( )
وبعد فأين هي " القضية " التي تشتغل بها المرأة المسلمة ؟ وأي هدف بقي لها في الحياة لم يحققه الإسلام ، لتسعى إلى استخلاصه عن طريق حق الانتخاب وحق التمثيل في البرلمان؟
تريد المساواة الإنسانية مع الرجل ؟ نعم . ويعطيها الإسلام هذه المساواة نظرياً وعملياً أمام القانون .
تريد الاستقلال الاقتصادي وحرية التعامل المباشر مع المجتمع ؟ نعم ، وكان الإسلام أول من قرر لها هذه الحقوق .
تريد حق العليم ؟ نعم ، وقد منحها الإسلام هذا الحق ، بل جعله فريضة عليها .
تريد ألا تتزوج بغير إذنها بل أن تخطب لنفسها ؟
وأن تعامل معاملة كريمة ما دامت تقوم بدورها الزوجي كما ينبغي ؟
وأن يكون لها حق الانفصال حين لا تجد المعاملة بالمعروف ؟
نعم .. ويعطيها الإسلام كل ذلك حقاً مفروضاً على الرجال .
تريد حق العمل ؟ نعم ، ولها ذلك في الإسلام .
أم تريد حرية التهتك والابتذال ؟ تلك هي الحرية الوحيدة التي حرمها إياها الإسلام ، ولكنه كذلك حرم الرجل منها على قدم المساواة . وحتى تقرير هذه الحرية لا يحتاج إلى دخول البرلمان ، وإنما يحتاج فقط إلى حل روابط المجتمع وتقاليده ، وحينئذ يتبذل من يريد ويطلق له العنان !
إن دخول البرلمان ليس هدفاً في ذاته كما يفهم المغفلون ، وكما تفهم الشاردات الفارغات من نساء المؤتمرات . ولكنه وسيلة لهدف آخر . فإذا تحققت الأهداف فما الحاجة إلى هذه الوسيلة إلا التقليد الأعمى للغرب المفتون ، وظروفنا غير ظروفه ، وقيم الحياة في نظرنا غيرها هناك ؟
* * *
ولكن قوماً سيقولون : ما لنا وما للظروف المختلفة والقيم المتباينة ؟ إن وضع المرأة في الشرق وضع سيّىء لا يمكن السكوت عليه . وقد تحررت المرأة في الغرب ونالت مكانتها ، فعلى المرأة الشرقية أن تسلك سبيلها وتقلدها للحصول على حقوقها المسلوبة .(3/94)
وهذا كلام فيه حق : فالمرأة في البلاد الإسلامية عامة جاهلة متأخرة مهينة لا كرامة لها ، تعيش كما يعيش الحيوان ، مغلفة بالقذارة الحسية والمعنوية ، تشقى أكثر مما تسعد ، وتعطي أكثر مما تأخذ ، لا ترتفع كثيراً عن عالم الغريزة ولا يتاح لها الارتفاع .
هذه حقيقة . ولكن من المسئول عن هذه الحقيقة ؟ أهو الإسلام وتعاليم الإسلام ؟
إن الوضع السيىء الذي تعانيه المرأة الشرقية يرجع إلى ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية ينبغي أن نلم بها ، لنعلم من أين تأتينا هذه المفاسد ، ونكون على هدى ونحن نحاول الإصلاح .
هذا الفقر البشع الذي يعانيه الشرق منذ أجيال عدة . هذا الظلم الإجتماعي الذي يجعل قوماً يغرقون في الترف الفاجر والمتاع الغليظ ، وغيرهم لا يجد لقمة الخبز والثوب الذي يكسو به العورات . هذا الكبت السياسي الذي يجعل من الحكام طبقة غير طبقة المحكومين - طبقة لها كل الحقوق وليس عليها واجبات ، والمحكومون يدفعون جميع التكاليف بلا مقابل . وهذا الظلام التعس والإرهاق العصبي الذي يعيش فيه سواد الشعب نتيجة هذه الظروف .. هذا كله هو المسئول عما تعيش فيه المرأة من الذل والاضطهاد .
إن ما تحتاج إليه المرأة هو " عواطف " الاحترام والمودة بينها وبين الرجل . وأين تنبت هذه العواطف في الفقر المدقع والكبت المرهق للجميع ؟
ليست المرأة وحدها هي الضحية ولكنه الرجل كذلك ، وإن بدا أنه في وضع خير منها.
الرجل يعامل امرأته بالعسف والاضطهاد لأنه يريد أن يحقق كيانه المسلوب في الخارج : كيانه الذي يهينه الخفير والعمدة وصاحب الأرض . أو يهينه عسكري البوليس و " الأفندي " وصاحب المصنع . أو يهينه الرئيس في المصلحة . كيانه الذي يهدده الذل والحاجة ، والأوضاع الظالمة التي لا يملك مواجهتها ولا التغلب عليها ، " فيسقط " غضبه المكظوم على زوجته وأولاده ومن يلوذ به من الأهلين .
وهذا الفقر الكافر الذي يشمل المجتمع ، والذي يشغل جهد الرجل ويستنفد طاقته النفسية والعصبية ، فلا يعود في نفسه تلك السعة التي تنشأ فيها عواطف المحبة والمعاملة الكريمة للآخرين ، ولا في أعصابه تلك الطاقة التي تحتمل أخطاء الناس التافهة وتصبر عليها أو تصفح عنها .
هذا الفقر ذاته هو الذي يستعبد المرأة للرجل ، ويجعلها تحتمل ظلمه وعسفه لأنه خير من الحياة بلا عائل . هو الذي يغل يدها عن استخدام حقوقها الشرعية المخولة لها ، والتي كان يمكن أن توقف الرجل عند حده لو لجأت إليها . فهي في خوف دائم من أن يطلقها زوجها ، وعندئذ ماذا تصنع ؟ الأولاد قد يكفلهم أبوهم . أما هي ؟ من يكفلها ؟ أهلها الفقراء المرهقون ؟ إنهم لضيقهم بتكاليف الحياة لا يرحبون بانفصالها عن زوجها لئلا تزيد في أعبائهم ، فينصحونها باحتمال الذل المهين .
هذه واحدة …
وفي المجتمع المتأخر - والشرق اليوم متأخر ولا شك ، لأنه فقد أهدافه وفقد نفسه وأغرق في الظلمات – في المجتمع المتأخر تهبط القيم الإنسانية كلها ، وتصبح الفضيلة الوحيدة هي القوة في جميع صورها وأشكالها . ويصبح الضعف مبرراً للمهانة والتحقير .
وإذ كان الرجل أقوى من المرأة فهو يحتقرها ، لأنه هو هابط لا يستطيع الارتفاع إلى المستوى الإنساني الذي يُحترم فيه الإنسان لأنه إنسان . إلا أن يكون لها ملك ! فحينئذ تحترم لأنها تملك وسيلة من وسائل القوة والسلطان !
وفي المجتمع المتأخر كذلك يهبط الناس إلى غرائزهم أو قريباً منها . وتستولي على الناس شهوة الجنس خاصة فيرون الحياة من خلالها وفي حدود دائرتها . عندئذ تصبح المرأة في حس الرجل متاعاً ليس غير ( ) ، ولا يجد فضلة نفسية أو عقلية أو روحية يضفي بها عليها معاني الإنسانية الكريمة التي تولد الاحترام . وإذ كان الاتصال الجنسي في عالم البهائم يمثل لوناً من سيطرة الذكر على الأنثى ، فهنا يجتمع مزيج من شعورين هابطين : شعور السيطرة وقت العمل ، والإهمال بعد الانتهاء .
وفي البيئة المتأخرة تهمل التربية ، لأنها تبدو - في وسط الجهل والمسغبة – ترفاً لا تتطلع إليه العيون . والتربية هي الوسيلة الوحيدة التي تجعل من الإنسان إنساناً ، وترفعه عن مستوى الحيوان . وحين لا توجد التربية ، أو توجد في صورة فاسدة ، فالناس على غرائزهم من عبادة القوة وقياس الحياة بمقياس الشهوات .
وفي هذه البيئة تعمل الأم - بغير وعي منها - على إفساد مشاعر الرجل نحو المرأة وصبغها بالدكتاتورية والتحكم المستبد . ذلك أن الأم التي تدلل طفلها ، ولا توقفه عند حد معقول ، تعوده أن تكون كلمته هي الأمر المطاع سواء كان على خطأ أو صواب ، وتعوده كذلك ألا يضبط شهواته ونزعاته ، فإذا أوامره التي يريد أن يفرضها على الآخرين هي وحي هذه الشهوات والنزعات ، فإن وقف المجتمع الخارجي بما فيه من اضطراب وكبت وحرمان دون تحقيق الكيان السوي ، بله المنحرف ، عاد الرجل يصب سوءاته كلها على من دونه من رجال ونساء وأطفال .
* * *(3/95)
تلك أبرز عوامل الفساد في المجتمع الشرقي . وهي التي تنشيء مشكلة المرأة ، وتضعها في وضعها المشين . فأي تلك العوامل قد نشأ من الإسلام وأيها يتمشى مع روح الإسلام ؟
آلفقر ؟ !
أليس الإسلام هو الذي رفع المجتمع إلى الدرجة التي لا يوجد فيها فقير يطلب الزكاة أو يقبلها في عهد عمر بن عبد العزيز ؟ هذا هو الإسلام الذي طبق في واقع الأرض ، والذي نطلب تطبيقه اليوم . إنه النظام الذي يوزع المال توزيعاً عادلاً بين طوائف الأمة " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ويقرب بين مستويات الناس لأنه يكره الترف ويحرمه ، ويكره الفقر ويعمل على إزالته .
والفقر هو العامل الأول في مشكلة المرأة الشرقية ، فإذا زال فقد انحلت العقدة الكبرى ووجدت المرأة كرامتها . وليس من الضروري أن تعمل المرأة لتكسب - وإن كان ذلك حقاً مباحاً لها - ولكن ارتفاع مستوى الثروة لمجموع الشعب يجعل نصيب المرأة من الميراث - وهو نصيب لا تعول منه أحداً إلا نفسها - كفيلاً باحترام الرجل لها ، ومشجعاً لها على التمسك بحقوقها التي تتخلى عنها خوفاً من مواجهة الفقر .
آلظلم السياسي الذي يكبت الرجل فينفس عن حقده الحبيس في المنزل ؟ !
وهل كان الإسلام إلا ثورة على الظلم ودعوة إلى مقاومة الظالمين ؟ أليس هو الذي وصل في تربيته للبشر حكاماً ومحكومين أن يقول عمر : " اسمعوا وأطيعوا " فيقول له رجل من المسلمين : لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! فلا يغضب عمر ، بل يقر السائل على سؤاله ويشرح له حقيقة الأمر حتى يقتنع ويقول : " الآن مر ، نسمع ونطع " ! هذا هو الإسلام الذي عرفته الأرض مرة ، والذي نطلبه اليوم مرة أخرى . وحين يطبق لن يجد الناس الكبت الذي يقع عليهم من أعلى فيضطرهم إلى التنفيس المقلوب . وستكون معاملة الحاكم للمحكوم نبراساً يحتذيه كل شخص في معاملة كل شخص ، ويحتذيه الرجل في معاملته لزوجته وأطفاله بالعدل والحسنى ، والمودة والإخاء .
آلقيم الإنسانية الهابطة ؟ !
وهل جاء الإسلام إلا ليرفع الناس عن الهبوط ، ويضع لهم القيم الحقيقة التي يصبحون بها آدميين ؟ " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " لا أغناكم ولا أقواكم ولا أكثركم سلطاناً . وحين ترتفع القيم البشرية إلى هذا المستوى لا يكون هناك مجال لازدراء المرأة لضعفها ، بل يكون مقياس الإنسانية هو حسن معاملة الرجل للمرأة وهو المقياس الذي وضعه الرسول صراحة حين قال : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ( ) يقصد زوجته بتعبير العرب . وكان بهذه الكلمات ، صلى الله عليه وسلم ، عميق الإدراك لحقائق النفوس ، فما يعامل أحد إنساناً تحت كفالته بالسوء إلا وفي نفسه عقد واضطربات تهبط به في مقياس الآدميين .
آلهبوط إلى عالم الغرائز ؟ !
ومتى أباح الإسلام للناس أن يعيشوا على غرائزهم بغير تهذيب ؟ إنه يعترف بها اعترافاً صريحاً . نعم . ولكنه لا يسايرها في هبوطها ولا يقبل أن تستبد بالناس حتى تصبح هي الكوة التي ينظرون منها إلى الحياة .
وليس إلزامه للمرأة والرجل أن يقوم كل منهما بقضاء حاجة الآخر هبوطاً بالإنسان إلى مستوى الغريزة . وإنما يقصد الإسلام من ذلك إلى إطلاق الناس من ضروراتهم ، فلا تشغل هذه الضرورات بالهم وأعصابهم ، فتمنعهم من توجيه طاقتهم إلى ميادين الإنتاج العليا ، سواء في عمل أو فن أو عبادة ، أو تلجئهم إلى الجريمة حين يتعذر إشباعها بالطريق المشروع . ولكنه لم يدع الناس قط إلى أن تستغرقهم شهواتهم ويشغلهم الاستمتاع بها عن الحياة الإنسانية الرفيعة ، فشغل الرجل بالجهاد في سبيل الله ، جهاداً دائماً لا ينقطع ، وشغل المرأة بالجهاد في تربية أطفالها ورعاية منزلها ، حتى تصبح لكليهما أهداف لا تقف عند حدود الضرورات والشهوات .
أم سوء التربية ؟ !
لعل أحداً لا يجرؤ أن يقول ذلك عن الإسلام ، والقرآن كله والأحاديث كلها دعوة لتهذيب النفوس وتربيتها على ضبط النفس والتزام العدل واحترام الآخرين وحبّهم كما يحب الإنسان نفسه .
أما التقاليد التي يزعم كتاب اليوم أنها هي التي تؤخر المرأة وتغلفها بغلاف الحيوانية والجمود وضيق الأفق والجهالة فما هي في حقيقتها ؟
التقاليد التي لا تمنع العلم ، ولا تمنع العمل ، ولا تمنع التعامل النظيف مع المجتمع ما عيبها وما الضرر منها ؟ ( )
إنها تمنع التبذل الخلقي والرقاعة والتفاهة والخروج إلى الشارع لنشر الفتنة والانحلال . فهل بهذه الوسائل وحدها تتقدم المرأة وتنال كرامتها ؟
من ذا الذي يقول إن الطريق الوحيد لصقل شخصية المرأة وتزويدها بالخبرة والتجربة هو أن تخرج إلى مهاوي الفتنة ، فتبذل نفسها لأحد الشبان ثم تكتشف بعد أن تبذل نفسها ، أنه شاب وضيع لا يريدها إلا للمتاع الجسدي ، ولا يحترم كيانها كامرأة ، فتنصرف عنه إلى شاب جديد . كما تصنع فتيات الغرب المتحضرات المصقولات ؟ !(3/96)
من يقول ذلك إلا الذين يودون أن تشيع الفاحشة في المجتمع ليحصلوا على رغباتهم الهابطة من أيسر طريق ، دون أن تحول دونهم " التقاليد " ؟ !
والتعليم ما وظيفته ؟ أو ليس يعطي الخبرة النظرية على الأقل بشئون الحياة ؟
والزواج ؟ أليس هو تجربة عملية نظيفة تنضج النفوس وتزود العقول بالتجارب ؟
وفي مصر كاتب غير مسلم كان يكتب كل أسبوع في صحيفة أسبوعية ليتناول الإسلام بالغمز والتجريح بالتلميح أو التصريح ، ولا يفتأ يقول للنساء : انبذن تقاليدكن " البالية " واخرجن واختلطن بالرجال في جرأة ، واقتحمن المصانع والمتاجر للعمل ، لا دفعاً للضرورة ، ولكن فقط تحدياً للتقاليد التي تحتجزكن للأمومة ورعاية الإنتاج البشري !
وكان هذا الكاتب يقول إن المرأة تسير في الشارع خافضة البصر لأنها لا تثق بكيانها ، ويغمرها الخوف من الرجل ومن المجتمع ! ولكنها حين " تصقلها التجربة " ترفع رأسها متحدية ، وتنظر إلى الرجال بعينين ثابتتين( )
ويقول التاريخ إن عائشة ، التي اشتركت في السياسة العامة في صدر الإسلام وقادت الجيوش ، وخاضت المعارك ، كانت تكلم الناس من وراء حجاب !
ولم يكن غض البصر خلقاً يختص بالنساء فقط ، فإن التاريخ يروي كذلك أن محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، كان أشد حياء من العذراء . ألعله لم يكن يثق بكيانه ، ولا يعرف حقيقة رسالته للبشرية ؟ !
ألا متى يرتفع الكتاب التافهون عن مثل هذه التفاهات ؟ !
* * *
إن المرأة في وضع سيىء دون شك ، ولكن طريقها لتصحيح وضعها ليس طريق المرأة الغربية التي لها ظروفها الخاصة وانحرافاتها الخاصة .
إن طريقنا لإصلاح الخطأ في حياة المرأة والرجل على السواء هو العودة إلى نظام الإسلام . طريقنا أن ندعو جميعاً رجالاً ونساء وشباناً وفتيات إلى حكم الإسلام وشريعة الإسلام ، وأن نؤمن بهذه القضية ، ونمنحها جهدنا وتفكيرنا وعواطفنا . وحينئذ .. حين نؤمن ونعمل لتنفيذ ما نؤمن به ، يحكم الإسلام ، ويرد كل شيء إلى مكان الصحيح بلا ظلم ولا طغيان .
( محمد قطب )
====================
الإسلام … وَالعقوبات
هل يمكن أن تطبق اليوم تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء ؟ هل يجوز أن تقطع يد في ربع دينار ؟ اليوم في القرن العشرين الذي يعتبر المجرم فيه ضحية من ضحايا المجتمع ، ينبغي علاجه ولا يجوز أن تمتد إليه يد بالعقاب ؟
إن القرن العشرين يجيز لك مثلاً أن تقتل أربعين ألفاً في الشمال الإفريقي في مجزرة واحدة لأنهم أبرياء ، ولكن كيف يجيز لك أن تعاقب فرداً واحداً لأنه مجرم أثيم ؟
ويل للناس من الألفاظ .. كم تخدعهم عن الحقيقة ؟ !
فلنترك حضارة القرن العشرين تتخبط في آثامها ، ولنبسط فكرة الجريمة والعقاب في الإسلام .
الجريمة في الغالب اعتداء موجه من الفرد إلى الجماعة ( ) . ولذلك كانت فكرة الجريمة والعقاب وثيقة الصلة بنظرة الأمم لطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع .
فالأمم الفردية - كدول الغرب الرأسمالية - تبالغ في تقديس الفرد وتجعله محور الحياة الاجتماعية كلها ، كما تبالغ في التحريج على حق المجتمع في فرض القيود على حرية الفرد . وتمتد هذه النظرة إلى الجريمة والعقاب ، فتعطف هذه الدول على المجرم عطفاً بالغاً ، وتدلله باعتباره ضحية أوضاع فاسدة أو عقد نفسية أو اضطرابات عصبية لم يكن يملك التغلب عليها ، ومن ثم تحاول تخفيف العقوبة عنه بقدر الإمكان ، وتظل تخففها في الجرائم الخلقية خاصة حتى تكاد تخرج بها من دائرة العقاب .
وهنا يتدخل علم النفس التحليلي ليبرر الجريمة .
وقد كان فرويد بطل هذا الانقلاب التاريخي في النظر إلى المجرم على انه ضحية العقد الجنسية التي تنتج من كبت المجتمع والأخلاق والدين والتقاليد للطاقة الجنسية التي يجب أن تجد منصرفها الطليق ! ثم تبعته مدارس التحليل النفسي سواء اعترفت مثله بأن الطاقة الجنسية هي مركز الحياة أم لم تعترف . والمجرم في نظرها جميعاً مخلوق سلبي لا يملك أمره من تأثير البيئة العامة والظروف الخاصة التي نشأ فيها وهو طفل صغير . فهم يؤمنون بما نسميه " الجبرية النفسية " أي أن الإنسان لا إرادة له ولا تصرف في الطاقة النفسية التي تتصرف بطرقة جبرية .
والأمم الجماعية على العكس من ذلك تؤمن بأن المجتمع هو الكائن المقدس الذي لا ينبغي لفرد أن يخرج عليه ، ومن هنا تشتد في عقوبة الفرد الخارج على الدولة إلى حد القتل والتعذيب .
والشيوعية خاصة تؤمن بأن الجرائم كلها تنشا من أسباب اقتصادية ، لا من أسباب نفسية أصيلة كما يؤمن فرويد وغيره من العلماء التحليليين . ففي المجتمع الذي تختل اقتصادياته لا يمكن أن تنِشأ الفضائل ، ولا يجوز أيضاً معاقبة المجرم ، أما في روسيا حيث يسير الاقتصاد بالعدالة المطلقة فلست أدري لم تنشأ الجرائم ، ولماذا تقام هناك المحاكم والسجون !(3/97)
لا ريب على أي حال في أن كلتا النظرتين تشتمل على شيء من الحق وشيء من المبالغة . فالظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد اللاشعورية تدفع أحياناً إلى الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء الظروف . إن عيب المحللين النفسين أنهم - بطبيعة عملهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان – إلى " الدينامو " - ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة - إلى الفرامل - مع انها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سن معينة - حتى ولو لم يدربه أحد - لهي ذاتها - أو شبيهة بها - الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة أو وراء النزوة الطارئة .
ومن جانب آخر فإن الظروف الاقتصادية ذات أثر في تكوين مشاعر الأفراد وأعمالهم. والجوع يدفع إلى الجريمة كما يدفع إلى السقوط الخلقي ، بما يفكك من كيان النفس وما ينمي فيها من الأحقاد . ولكن القول بأن العامل الاقتصادي هو الوحيد الذي يؤثر في سلوك البشر قول مبالغ فيه تكذبه وقائع الحياة ، ويكذبه قيام الجرائم في الاتحاد السوفييتي ذاته الذي يقول دعاته إنه قضى على الفقر والجوع .
بقي أن نسأل : ما مدى مسئولية المجرم إذن عن جريمته ، لكي نوقع – أو لا نوقع - عليه العقوبات ؟
ومن هذا الجانب يأخذ الإسلام مسألة الجريمة والعقاب .
إنه لا يقرر العقوبات جزافاً ، ولا ينفذها كذلك بلا حساب . وله في ذلك نظرة ينفرد بها بين كل نظم الأرض ، نظرة تلتقي حيناً برأي الدول الفردية ، وحيناً برأي الدولة الجماعية ، ولكنها تمسك بميزان العدالة من منتصفه ، وتحيط بالظروف والملابسات كلها في وقت واحد ، وتنظر إلى الجريمة في آن واحد بعين الفرد الذي ارتكبها ، وعين المجتمع الذي وقعت عليه ، ثم تقرر الجزاء العادل الذي لا يميل مع النظريات المنحرفة ولا شهوات الأمم والأفراد .
يقرر الإسلام عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذاً سطحياً بلا تمعن ولا تفكير ، ولكنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أولاً أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار .
فهو يقرر قطع يد السارق ، ولكنه لا يقطعها أبداً وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من الجوع .
وهو يقرر رجم الزاني والزانية ، ولكنه لا يرجمهما إلا أن يكونا محصنين ، وإلا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة . أي حين يتبجحان بالدعارة حتى ليراهما كل هؤلاء الشهود ، وهما متزوجان .
وهكذا وهكذا في جميع العقوبات التي قررها الإسلام .
ونحن نأخذ هذا من مبدأ صريح قرره عمر بن الخطاب ، وهو من أبرز الفقهاء في الإسلام ، وهو فوق ذلك رجل شديد التزمت في تنفيذ الشريعة ، فلا يمكن اتهامه بالبحبحة في التطبيق .
وعمر لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة ، عام الجوع ، حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع .
والحادثة التالية أبلغ في الدلالة وأصرح في تقرير المبدأ الذي نشير إليه :
" روى أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر ، فأقروا ، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم . فلما ولى رده ثم قال : أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له ، لقطعت أيديهم . ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة فقال : وأيم الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك ! ثم قال يا مزني ، بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربعمائة قال عمر لابن حاطب : اذهب فأعطه ثمانمائة "
فهنا مبدأ صريح لا يحتمل التأويل ، هو أن قيام ظروف تدفع إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود ، عملاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " ادرأوا الحدود بالشبهات " ( ) .
فإذا استعرضنا سياسة الإسلام في جميع العقوبات التي قررها ، وجدنا أنه يلجأ أولاً إلى وقاية المجتمع من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة ، وبعد ذلك لا قبله يقرر عقوبته الرادعة وهو مطمئن إلى عدالة هذه العقوبة ، بالنسبة لشخص لا يدفعه إلى جريمته مبرر معقول . فإذا عجز المجتمع لسبب من الأسباب عن منع مبررات الجريمة ، أو قامت الشبهة عليها في صورة من الصور ، فهنا يسقط الحد بسبب هذه الظروف المخففة ، ويلجأ ولى الأمر إلى إطلاق سراح المجرم أو توقيع عقوبات التعزير - كالضرب والحبس - بحسب درجة الاضطرار أو درجة المسئولية عن الجريمة .(3/98)
فهو مثلاً يسعى إلى توزيع الثروة توزيعاً عادلاً ، وقد وصل في عهد عمر بن عبد العزيز إلى إلغاء الفقر من المجتمع . ويعتبر الدولة مسئولة عن كفالة كل فرد فيها بصرف النظر عن دينه وجنسه ولغته ولونه ومكانه في الحياة الاجتماعية . والدولة تكفل أفرادها بإيجاد العمل الكريم لهم . أو من بيت المال إذا لم يوجد عمل ، أو عجز عنه فرد من الأفراد . وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة . ومع ذلك يحقق في كل جريمة تقع ، ليتأكد قبل توقيع العقوبة أن مرتكبها لم يرتكبها بدافع الاضطرار .
وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي وعنف إلحاحه على البشر . ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع : طريق الزواج ، فيدعو إلى الزواج المبكر ، ويعين على إتمامه من بيت المال إذا حالت الظروف الخاصة دون إتمامه . ويحرص كذلك على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء التي تثير الشهوة ، وعلى وضع الأهداف العليا التي تستنفد الطاقة الحيوية الفائضة وتوجهها في سبيل الخير ، وعلى شغل أوقات الفراغ في التقرب إلى الله ، وبذلك كله يمنع الدوافع التي تبرر الجريمة . ومع ذلك فهو لا يبادر بتوقيع العقوبة حتى يكون مرتكبها قد تبجح بها استهتاراً بتقاليد المجتمع وإمعاناً في الهبوط الحيواني حتى ليراه أربعة شهود .
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والخلقية الموجودة اليوم ، كلها تباعد بين الشباب وبين الزواج ، وتقرب بينهم وبين الجريمة . وذلك صحيح . والإسلام ينبغي أن يؤخذ كله وإلا فهو غير مسؤول عن انحرافات الجاهلية . وحين يحكم الإسلام فلن تكون هذه المثيرات الجنونية التي تدفع الشباب دفعاً إلى الهبوط . لن تكون السينما العارية والصحافة الخليعة والأغاني المبتذلة والفتنة الهائجة في الطريق . ولن يكون الفقر الذي يمنع الناس من الزواج . وعندئذ فقط يطالب الناس بالفضيلة وهم قادرون عليها وتوقع عليهم العقوبة وهم غير معذورين .
وهكذا شان الإسلام في بقية العقوبات . يعمل على وقاية المجتمع أولاً من دوافع الجريمة ، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط . فأي نظام في الدنيا كلها يبلغ هذه العدالة ؟
وإن " الإفرنج " الذين يخشى المسلمون تشنيعهم على الإسلام بسبب تطبيق هذه العقوبات ليستفظعونها ويرون فيها إهداراً لكيان الفرد واستهتاراً بشأنه ، لأنهم لم يدرسوا نظرة الإسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها . ولأنهم يتصورون خطأ أنها كعقوباتهم " المدنية " ستطبق كل يوم ، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة : هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم . ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة لا تكاد تنفذ .
ويكفي أن نعلم أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات في أربعمائة سنة لنعرف أنها عقوبات قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء . كما أن معرفتنا بطريقة الإسلام في وقاية المجتمع من أسباب الجريمة قبل توقيع العقوبة تجعلنا في اطمئنان تام إلى العدالة في الحالات النادرة التي توقع فيها هذه الحدود .
ولن يجد هؤلاء " الإفرنج " أو غيرهم ما يخشونه من تطبيق الحكم الإسلامي إلا أن يكون كلهم مجرمين بالطبع ، مصرين على الإجرام رغم انتفاء المبررات التي تدفعهم إلى الجريمة !
وربما خيل لبعض الناس أنها إذن عقوبات صورية لا قيمة لها في الواقع . وهذا غير صحيح . فهي موجودة لتخويف بعض الأفراد الذين لا يلجئهم إلى الجريمة دافع معقول ، ولكنهم مع ذلك يحسون ميلاً إليها وإقبالاً على ارتكابها ، فمهما تكن أسباب هذا الدافع فسوف يراجع هؤلاء الأفراد أنفسهم مرات عديدة قبل ارتكاب الجريمة خوفاً من العقاب . وإن من حق المجتمع ما دام يعمل في سبيل الخير ، ويرعى الجميع بعنايته ، أن يطمئن على أرواحه وأعراضه وأمواله أن تمتد إليها يد العدوان . ثم إن الإسلام لا يمتنع عن علاج هؤلاء النزاعين إلى الجريمة بغير مبرر واضح ، ولا يتركهم - إذا اكتشفهم - فريسة لما ينطوون عليه من انحراف .
* * *
تلك عقوبات الإسلام التي يخشاها الشباب " المثقف " والتي ينفر منها بعض فقهاء القانون لئلا يصمهم الإفرنج بالهمجية والانحطاط ! ألا من يعلّم هؤلاء وهؤلاء حكمة هذا التشريع الإسلامي الرفيع !( محمد قطب)
=====================
الإسلام … والحضارة
أتريدون أن ترجعوا بنا ألف سنة إلى الوراء .. إلى عهد الخيام ؟
لقد كان الإسلام صالحاً لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب قبل ألف عام . وكانت سذاجته وبدائيته مناسبة للبيئة البدوية التي نشأ فيها . أما اليوم فهل يصلح في عهد المدنية والحضارة الآلية ؟ عصر الطائرات الصاروخية والقنابل الهيدروجينية وناطحات السحاب والسينما المجسمة ؟ !
إنه دين جامد لا يتفاعل مع الحضارة الحديثة ، ولا مناص من نبذه إذا أردنا أن نتحضر كبقية خلق الله !
* * *
شبهة غبية لا يقول بها أحد درس تاريخ هذا الدين . وإلا فأين ومتى وقف الإسلام في طريق الحضارة ؟(3/99)
لقد نزل الإسلام – فيما نزل – في قوم نصفهم من الأعراب ، بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن : " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " فكانت معجزته العظمى أن جعل من هؤلاء الغلاظ الجفاة أمة من الآدميين ، لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدى الله فارتفعوا من حيوانيتهم إلى آفاق الإنسانية الرفيعة ، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية يدعونها إلى هدى الله . وذلك وحده برهان على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس وتهذيب النفوس .
ولكن الإسلام لم يكتف بهذا العمل الجبار في داخل النفوس . وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل ، لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات .. لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار والمشاعر ، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة ، فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم ، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله . ثم تبنّى كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة ، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث ، واشتغالهم الجدي بالعلم ، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع .
فمتى ؟ متى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة للناس ؟
* * *
أما موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم فهو موقفه من كل حضارة سابقة. يتقبل كل ما تستطيع أن تمنحه من خير ، ويرفض ما فيها من شرور . فهو لا يدعو – ولم يدع قط – إلى عزلة علمية أو مادية ، ولا يعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية ، لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات .
وإذن فلا خوف من أن تقف الدعوة الإسلامية دون استخدام ثمار الحضارة الحديثة كما يفهم بعض البلهاء من المثقفين . ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات والآلات مكتوباً عليها " بسم الله الرحمن الرحيم " حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم ! وإنما يكفي أن يستخدموها هم باسم الله وفي سبيل الله . والآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها دين ولا جنس ولا وطن . ولكن الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعاً . فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له ، ولكنك حين تستخدمه لا تكون مسلماً إذا استخدمته في الاعتداء على الآخرين ، فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون دفعاً لعدوان أو إحقاقاً لكلمة الله في الأرض . والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك . وتستطيع أن تكون مسلماً حين تستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير ، ولكنك لا تكون مسلماً وأنت تستخدمها لعرض الأجساد العارية والشهوات العارية والإنسانية الهابطة في حمأة الرذيلة . الرذيلة من كل نوع . خلقية كانت أم فكرية أم روحية . فليس عيب الأفلام التافهة التي تغرق الأسواق هو مجرد استثارة الغرائز الدنيا ، ولكنه تهوين الحياة وحصرها في أهداف تافهة رخيصة لا يمكن أن تكون غذاءً لبشرية صالحة .
وكذلك لم تقف الدعوة الإسلامية دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في أي مكان على الأرض . فكل تجربة بشرية صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة " واعلم حين يطلق هكذا يشمل كل علم ، وقد كانت دعوة الرسول إلى العلم كافة ، ومن كل سبيل .
كلا ! لا خوف من وقوف الإسلام في وجه الحضارة ما دامت نفعاً للبشرية . أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر ، والدعارة الخلقية ، والاستعمار الدنيء ، واستعباد البشر تحت مختلف العنوانات ، فحينذاك يقف الإسلام حقاً في وجه هذه " الحضارة " المزعومة ، ويقيم نفسه حاجزاً بين الناس وبين التردي في مهاوي الهلاك .
الإسلام … وَالرجعَّية
وتريدون أن نحجز أفكارنا ومشاعرنا فنقف عند أوضاع لم تعد اليوم مقبولة ولا منطقية مع الحياة الجديدة ، وتقاليد وضعت لأجيال غير هذه الأجيال ، واستنفدت أغراضها ، وأصبحت اليوم رجعية تعوق التقدم وقيداً يعوق الانطلاق ؟
أما تزالون تصرُّون على تحريم الربا ، وهو ضرورة اقتصادية لا غنى عنها في العالم الحديث ؟
وتصرون على جمع الزكاة وتوزيعها في محل جبايتها ؛ وهي بدائية لا تتفق مع مع نظام الدولة الحديثة ، فضلاً عن أنها تشعر الفقراء من أهل القرية أو المدينة أن فلاناً من الأثرياء هو الذي يحسن إليهم ، فيظلون أذلاء له خاضعين لسلطانه ؟(3/100)
وتصرون على تحريم الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين والرقص المشترك واتخاذ الخليلات والخلان ، وذلك كله ضرورة اجتماعية في العصر الحديث لا يمكن الاستغناء عنها ولا وقفها لأنها " تطور " لا بدّ أن يأخذ طريقه ؟
أف لكم ! أية رجعية تنادون بها أيها المسلمون !
* * *
وهذا الذي يقولونه صحيح من جانب ، وخطأ ومغالطة من جانب آخر .
صحيح أن الإسلام يحرم الربا . ولكن ليس صحيحاً أن الربا ضرورة اقتصادية . وفي العالم اليوم نظريتان اقتصاديتان لا تقومان على الربا : هما النظرية الإسلامية والنظرية الشيوعية على اختلاف ما بينهما في الأصل والاتجاه . كل المسألة أن الشيوعية قد وجدت القوة التي تنفذ بها نظامها واقتصادياتها ، والإسلام لم يجمع قوته بعد؛ ولكنه في طريقه إلى القوة . وهو صائر إليها بحكم طبائع الأشياء ، وبحكم جميع الدلالات الكامنة في الصراع القائم اليوم في مختلف بلاد العالم ، وهي دلالات توحي كلها ببعث إسلامي جديد .
وحين يحكم الإسلام فسوف يقيم اقتصادياته على غير الربا ، فلا تعجزه ضرورة اقتصادية . كما أقامت الشيوعية نظامها على غير الربا فلم تعجزها هذه الضرورة الوهمية .
ليس الربا إذن ضرورة لا مناص منها للعالم الحديث . وإنما هو ضرورة فقط في العالم الرأسمالي ، لأن الرأسمالية لا يمكن أن تقوم بدونه . ومع ذلك فكبار الاقتصاديين في الغرب الرأسمالي من أمثال الدكتور شاخت ينددون بنظام الربا ويقولون إن نتيجته الحتمية على مر الأجيال هي تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس ، وحرمان المجموع منها رويداً رويداً ، ووقوع الملايين – تبعاً لذلك – في العبودية لهذه الفئة الصغيرة المالكة للثروة . ونحن نرى مصداق ذلك في الرأسمالية الحالية بغير حاجة إلى تعمق في دراسة الاقتصاد . وقد كان من معجزات النظام الإسلامي أنه حرم الربا والاحتكار – وهما دعامتا الرأسمالية – قبل ظهور الرأسمالية بما يقرب من ألف عام ، لأن الله الذي نزّل هذا الدين يرى الأجيال كلها في وقت واحد ، ويعلم - وهو العليم الخبير – ما يؤدي إليه الربا من كوارث في عالم الاقتصاد ، فضلاً عما يثيره بين طوائف الأمة من الإحن والأحقاد .
وإن من أعجب العجب أن كاتباً " مكافحاً ! " في إحدى الصحف الأسبوعية يندد بالإسلام لإصراره على تحريم الربا ، في الوقت الذي يعتنق هذا الكاتب مبادئ الاشتراكية التي تقوم على غير أساس الربا ، وفي الوقت الذي بدأت الرأسمالية ذاتها تتنصل من عواقب الربا وتتحول رويداً رويداً إلى الاشتراكية ! فليست المسألة إذن مبادئ يعتنقها صاحبها عن فهم وإيمان . وإنما هي مجرد شهوة في التهجم على الإسلام !
ومن العجب كذلك أن وزيراً " مسلماً " قضى شبابه منتمياً إلى هيئة دينية ، يحاول – إرضاء لرؤوس الأموال الأجنبية - أن يتطوع فينفي عن الإسلام تهمة الجمود ( ! ) فيقول إنه آن الأوان لمراجعة تشريع الربا في الإسلام ، " لنتطور " به تبعاً للظروف القائمة اليوم ! فيشتري رضاء السادة أصحاب رؤوس الأموال بغضب الله ، ويتمسح بالتطور الاقتصادي وهو أجهل الناس به إن كان يقصد حقاً ما يقول ! وكذلك فعل شيخ للأزهر يحرف الكلم عن مواضعه ، بعدما كان له رأي سابق – قبل المشيخة – يحرم فيه الربا بتاتاً ، ويقول الحق فيه!
إن الربا ضرورة مذلة بالنسبة إلينا اليوم ، لأن اقتصادياتنا ما زالت معتمدة على العون الخارجي . ولكن الخضوع لهذه الضرورة حتى تنتهي شيء، والتطور المزعوم شيء آخر . وفي اليوم الذي تستقل فيه اقتصادياتنا في العالم الإسلامي بأجمعه وتستطيع الوقوف على قدميها ، وتكون علاقتنا مع العالم على أساس التبادل الحر لا على أساس الخضوع .. في ذلك اليوم نقيم اقتصادياتنا على قواعد الإسلام ، ونحرم الربا ، فنكون بالنسبة للعالم كله تقدميين متطورين !
* * *
أما الزكاة فقد تحدثنا عنها قي فصل سابق بما لا يدع مجالاً للشك في صفتها ، وهل هي إحسان ممنوح للفقراء ، أم حق تؤديه الدولة بتكليف من الله منزّل التشريع .
ولكن الشبهة هنا هي محلية الزكاة . أي توزيعها في مكان جبايتها .
ويضحك الإنسان من بلاهة " المثقفين " حين يرون النظام الواحد يأتي من الغرب " المتحضر " فيفتحون أفواههم عجباً وإعجاباً بآخر " تطورات " الحضارة ، والنظام ذاته يأتي من طريق الإسلام فيكون رمز التأخر والانحطاط والجمود !(3/101)
آخر تطورات النظام الإداري في أمريكا هو اللامركزية الكاملة . فالقرية وحدة اقتصادية وسياسية واجتماعية مستقلة ، في حدود ترابطها بالمدينة وبالولاية ، ثم بالحكومة المركزية للولايات المتحدة . وفي هذه الوحدة المستقلة تجبى الضرائب التي يفرضها المجلس القروي بنسب معينة . ثم تنفق في ذات القرية ، في شئون تعليمها وصحتها ووسائل مواصلاتها وخدماتها الاجتماعية .. الخ . فإذا فضلت منها فضلة أرسلتها " الحكومة " المدينة أو الولاية . أما إذا احتاجت فهي تستمد من هناك . وهو نظام جميل في ذاته لأنه يوزع العمل ولا يثقل به كاهل الحكومة المركزية التي لا يمكن أن تعرف حاجات الوحدات الصغيرة أو تقوم بها ، كما يعرفها ويقوم بها أهلها المحليون .
والمثقفون هنا يهللون لهذا النظام ويكبرون ..
والإسلام المتأخر قد اهتدى إلى هذا النظام قبل ألف وثلثمائة عام .
فجعل جباية الضرائب محلية ، وجعل صرفها محلياً كذلك ، فإذا فضلت منها فضلة أرسلت إلى بيت المال العام ، وإذا قصرت أخذ لها من بيت المال .
هذا هو المبدأ الذي قرره الإسلام لحسن توزيع العمل وإقامة اللامركزية في نظام الحكم. وهو الذي يندد المثقفون لأنه تأخر وانحطاط !
أما طريقة توزيع الزكاة فقد أسلفنا الحديث عنها . وقلنا إنه ليس في الإسلام ما يحتم صرفها نقداً وعيناً فحسب ، وليس ما يمنع من توزيعها في صورة مدارس ومستشفيات وخدمات اجتماعية ، بالإضافة إلى الإنفاق المباشر على العاجزين عن العمل بسبب الضعف والشيخوخة والطفولة .. إلخ .
فإذا طبقنا الإسلام في المجتمع الحاضر ، فلن نصنع أكثر من إقامة وحدات صغيرة تقوم بشئون نفسها في حدود ارتباطها بمراكزها الإقليمية ، وبالدولة ، وبالعالم الإسلامي ، وبالعالم الواسع كله في نهاية المطاف . ونكون بذلك تقدميين سابقين في التطور لكل أمم الأرض التي تعجب المثقفين .
* * *
أما الخمر والميسر والاختلاط بين الجنسين فحقيقة يحرمها الإسلام ، ويصر على تحريمها مهما ندد به التقدميون والتقدميات !
والجدل في أمرها قد يطول . ولكنا نأخذ المسألة من أقرب طريق . ويكفي من أمر الخمر أن تقوم في فرنسا الداعراة التي لا تفيق .. امرأة – نائبة في البرلمان – تطالب بتحريم الخمر ! ! يكفي ذلك للرد على المخمورين والمخمورات في عصر المدنية الحديثة !
ولست أجد في نفسي في الواقع احتراماً للخمر . ولكني أعلم أنها انعكاس مجتمع مريض في نفس فرد مريض . فالمجتمع الذي تشتد فيه فوارق الطبقات فتعيش طبقة في الترف الفاجر الذي يبلد الحس فيحتاج إلى منشطات صناعية .. وطبقة في الحرمان الكافر الذي يحتاج إلى " مغيبات " يهرب بها الإنسان من الواقع السيئ الذي يعيش فيه . والمجتمع الذي يسوده الإرهاب والحجز على الآراء والأفكار . والمجتمع الذي يحجر مشاعره الصراع على لقمة العيش ، أو يضفي عليه الكآبة طنين الآلات المزعج المكرر الوتيرة ، والجلسة الطويلة المملة على المكاتب وراء الجدران ..
هذا المجتمع يلجأ للخمر وغيرها من المخدرات ، ليخلق لنفسه في الأحلام عالماً آخر خالياً من الشقاء .
ولكن هذا كله لا يبرر وجودها .
إن وجودها دليل على المرض ، وداع إلى إزالة أسبابه . وحين حرَّم الإسلام الخمر لم يسقط من حسابه " المبررات " التي تدفع إليها ، بل عمل على إزالة هذه المبررات أولاً ، ثم جاء التحريم بعد ذلك . فلتتعلم المدنية الحديثة من الإسلام كيف يعالج أمراض النفوس بالتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري والروحي والجسدي .. قبل أن تفتح فمها بانتقاد الإسلام .
والميسر لا يرضى عنه أحد إلا الفارغون والفارغات من التافهين . فلا يحتاج منها إلى إطالة الحديث .
أما الذي يثور بشأنه الجدل فهو مسألة الاختلاط .
إلى متى سنظل متأخرين ؟ إلى متى سنقف في سبيل المدنية والتقدم ؟ ! " يا سلام " على مدنية فرنسا ؟ هناك يقف العاشقان في الطريق العام متعانقين متشابكين ، مستغرقين في قبلة عميقة لذيذة ، فلا يكدر صفوهما الأنطاع من دعاة الفضيلة ، ويقف رجل البوليس يحميهما من حركة المرور أن تزعجهما قبل الانتهاء من هذا " البوز " الفني الجميل . والويل كل الويل لمن ينظر إليهما نظرة استنكار ، فإنه يبوء وحده بالازدراء والاحتقار !
" ويا سلام " على مدنية أمريكا ! القوم هناك صرحاء مع أنفسهم ، لا يدورون ولا ينافقون . عرفوا أن الجنس ضرورة بيولوجية فاعترفوا بالضرورة ، ويسروا سبلها ، ومنحوها رعاية المجتمع واهتمامه . فلكل فتى صديقة ولكل فتاة صديق ، يخرجان معاً ويدخلان معاً ، ويتنزهان معاً نزهات خلوية يقضيان فيها الضرورة ، ويتخلصان من ثقلها على الجسم والنفس والأعصاب . فينطلقان في الغداة نشيطين مقبلين على عملهما بالبشر والانشراح ، فينتجان ، وينجحان ، وتتقدم الأمة كلها إلى الأمام .
نعم !(3/102)
وفرنسا هي التي خرَّت راكعة ذليلة عند أول ضربة وجهها إليها الألمان . لا لنقص معداتها واستعدادها الحربي فقط ، ولكن لأنها أمة لا كرامة لها تذود عنها . أمة غرقت في الشهوات الهابطة ، واستغرقها المتاع الحسي ، فخافت على عمائر باريس الفاخرة ومراقصها الفاجرة أن تحطمها القنابل ويدمرها القتال . فهل هذا هو الذي يدعونا إليه المثقفون ؟ أم أنهم قوم مخدوعون ، لا يفقهون ما يقولون ؟
وأمريكا التي تخايل للمستغفلين في الشرق ..
أُجري إحصاء في إحدى المدن هناك فظهر أن 38% من فتيات المدارس الثانوية حبالى! وتقل النسبة بين طالبات الجامعة لأنهن أكثر تجربة وأخبر باستخدام موانع الحمل !
فهل هذا ما يدعو إليه المثقفون ؟ أم إنهم مخدوعون ، يقولون ما لا يفقهون ؟
إن التخلص من ثقلة الجنس على الأعصاب هدف صحيح ، والإسلام يوليه أكبر عنايته ، لأنه يعلم – قبل أن يكتشف الأمريكان ذلك – أن اشتغال المحرومين بمسائل الجنس يعطلهم عن قدر من الإنتاج ، ويحبسهم في ميدان الضرورة فلا يرتفعون إلا ريثما يعودون فيهبطون . ولكن الهدف الصحيح ينبغي أن تتخذ له الوسائل الصحيحة . وتلويث المجتمع كله ، وإطلاق فتيانه وفتياته كالبهائم ينزو بعضهم على بعض ليس هو الطريق الصحيح . فإذا كان الإنتاج الأمريكي الضخم ناتجاً – كما يفهم المغفلون – من هذه الفوضى الجنسية ، فليعلموا أولاً أنه إنتاج مادي بحت ، يمكن أن يغني فيه الإنسان الآلي عما قريب عن الإنسان الحي . أما في عالم الأفكار والمبادئ فأمريكا هي التي تسترق الزنوج أبشع استرقاق عرفته البشرية في تاريخها الحديث ، وهي التي تؤيد كل قضية استعمار على ظهر الأرض . ولا يمكن الفصل بين الهبوط النفسي المتمثل في حيوانية الغريزة ، والهبوط النفسي المتمثل في الاسترقاق والاستعمار ، فكلاهما انحدار لا يمكن أن يلجأ إليه " المتحضرون " .
أما البهجة التي تشمل المجتمع حين تخرج إليه المرأة متبرجة خفيفة رشيقة ترف من حولها الأشواق وتهفو إليها الأنظار والقلوب … هذه البهجة حقيقة واقعة دون شك . فالصحاف المختلفة من الطعام أشهى بلا ريب من اللون الواحد المكرور .
ولكنا في حاجة أولاً إلى تحديد الأهداف . هل مهمتنا في الحياة أن نأخذ أكبر نصيب من البهجة والسرور بصرف النظر عن بقية الأهداف ؟ وهل أنكر أحد في القديم أو الحديث أن الشهوات لذيذة محببة إلى الناس ؟ ولماذا إذن سميت " ملذات " ؟ إن هذه البهجة ليست اكتشافاً حديثاً يعثر عليه الغرب في القرن العشرين ، فقد عرفتها اليونان من قبل وفارس وروما وغرقت فيها إلى الأذقان . ثم ماذا ؟ ثم دالت كل دولة من هؤلاء حين استغرقت في شهواتها المحرمة ، فشغلتها في نهاية الأمر عن العمل والإنتاج ، وعن النظرة الجدية إلى الحياة ، كما حدث في فرنسا ، وكما حدث في كل مكان على مدار التاريخ : سنة الله في الأرض " ولن تجد لسنة الله تبديلا " .
والغرب كان يملك القوة المادية منذ العصر الحديث – قوة العلم والتكالب على العَمل والجد في الإنتاج – فظلت هذه الشهوات تنخر فيه حتى تهاوى بعضه والباقي في الطريق . أما نحن فلا نملك القوة ، لأن الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بنا في القرنين الأخيرين على الأقل لم تكن في صالحنا ، فماذا نفيد من الانكباب على الشهوات باسم التحضر والمدنية ، أو نفوراً من تهمة الرجعية والجمود ؟ لن يفيدنا شيئاً إلا أن يصيبنا الخمار والدوار ، فكلما انطلقنا في سبيلنا كبونا من جديد . وكل كاتب أو " مفكر حر ! " يدعو إلى التحلل من التقاليد ، مهما يكن العنوان الذي يدعو تحته ، وهو رسول من رسل الاستعمار قصد أم لم يقصد . والاستعمار يعرف هؤلاء الكتاب والمفكرين ، ويعرف مدى الخدمة التي يؤدونها له بحلِّ أخلاق الأمة ، وشغل شبابها بالبحث عن " البهجة " والسرور ، ولذلك يحسن مكافأتهم حسب نوع الخدمة التي يملكون أداءها في الصحف والكتب والإذاعة ودواوين الحكم ، وهم ماكرون أو مستغفلون !
ويقولون أنظر إلى المرأة هناك .. لقد ارتفعت من أنثى إلى امرأة ! انصقلت وصارت مخلوقاً بشرياً له دور يؤديه في المجتمع .
وقد تحدثنا عن هذا " الانصقال " في فصل الإسلام والمرأة . ونزيد هنا أن خروج المرأة للعمل وانبثاثها في المجتمع . قد درب فيها دون شك جوانب لم تكن تنال هذه الدربة وهي عاكفة على مهمة الإنتاج البشري ورعايته . ولكنا نسأل أولاً : هل أضافت هذه الدربة إلى كيان المرأة ذاته ؟ أم إنها زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر ؟ ونسأل ثانياً : هل أضافت هذه الدربة إلى الكيان البشري كله ؟ أم إنها كذلك زادت عليه في جانب لتنقص منه في جانب آخر ؟ !(3/103)
لقد صارت المرأة في الغرب " صديقة " صالحة ، تصادق الرجل ، وتتلقى مغازلاته وضروراته الجنسية ، وتشترك معه في بعض مشكلاته ، ولكنها لم تعد تستطيع أن تكون زوجة صالحة وأُمّاً صالحة . وليس يجدي في إنكار ذلك صياح المحمومين هنا والمحمومات . فهذه حقائق الأرقام تؤيد ما نقول ، فقد ارتفعت نسبة الطلاق في أمريكا إلى 4.% وهي نسبة بشعة خطيرة الدلالة . أما أوربا فقد تكون نسبة الطلاق فيها أقل . ولكن اتخاذ العشيقات والأخدان أمر شائع هناك ومعروف بين المتزوجين . ولو كانت المرأة زوجة صالحة بمعنى أنها قادرة على الاستقرار في أسرة وإعطائها كل رعايتها ، لما حدث هذا الطلاق في أمريكا أو ما يشبهه من الهروب من البيت والزوجية في أوربا . أما الأمومة فقد سبق الحديث عنها ، حين قلنا إن اشتغال المرأة بالعمل – وهو الذي يدرب المرأة الحديثة – لا يتيح لها الفرصة الزمنية ولا النفسية للاشتغال بالأمومة . فالمرأة المكدودة المنهوكة من العمل لا تجد في أعصابها طاقة للأمومة الحقة ، ولا في نفسها فسحة لاستقبال مزيد من التبعات .
أما المجموع البشري فماذا استفاد ، بصرف النظر عن البهجة والانشراح ؟ ! وهل حل مشاكل العالم هذا البضع من النساء في برلمانات العالم ووزاراته ودواوينه ، أم هذه الألوف والملايين في مصانعه ومتاجره وحاناته ومواخيره ؟ وهل لا يكون للمرأة دور تؤديه في المجتمع إلا أن تقف بنفسها تخطب في البرلمان ، أو تمضي بنفسها قراراً من قرارات الموظفين ؟ .. وحين تربي أبناءها رجالاً ونساء تربية ذات هدف معين ، فتخرج منهم مواطنين صالحين ، وبشراً أسوياء لا تفسدهم الاضطرابات والانحرافات .. لا يكون لها دور في المجتمع ؟ لقد تأخذها النشوة وهي تتلقى التصفيق في البرلمان ، أو الإعجاب في " الصالون " أو الطريق العام . ولكن هذه النشوة الموقوتة ما قيمتها في حياة البشرية إذا كان يصحبها إخراج أجيال من البشرية بلا أمهات ؟ ! أجيال ينقصها عنصر الحب الذي يوازن شهوة الصراع في نفوس البشر ، والذي لا يمكن أن تبذره في النفوس إلا أم تمنح كيانها وعبقريتها لإنتاج البشر .
وليس بنا أن نقسو على المرأة ونحرمها متع الحياة وتحقيق كيانها الشخصي ، ولكن متى كانت الحياة تتركنا – رجالاً أو نساء – نستمتع كما نريد ، ونحقق كياننا كما نريد ؟ وحين تتملكنا الأنانية فنفضل أن نستمتع بذواتنا بغير حد ، فما الذي يحدث ؟ أليس يحدث أن تخلفنا على الأرض أجيال شقية ، تشقى بسبب أنانيتنا نحن وانحرافنا نحن ؟ أو ليست هذه الأجيال الشقية تشمل الرجال والنساء ؟ فهل ينفع قضية المرأة كجنس دائم على الأرض أن يستمتع بعض أفراده متعة زائدة في جيل من الأجيال ، ليشقى بقية أفراده في مقتبل الأجيال ؟
وهل يعاب على الإسلام أنه ينظر إلى البشرية كلها باعتبارها سلسلة متصلة الحلقات لا تنتهي عند جيل معين ، ولا ينفصل منها جيل عن جيل ، فيعمل لما فيه نفع الأجيال كلها ، ولا تستهويه شهوة جيل بعينه ، فينساق معه على حساب بقية الأجيال ؟
إنما كان يعاب عليه لو أنه يحرم المتاع في جميع صوره وأشكاله ، ويقف في طريق النزعات الفطرية فيكبتها ويمنع إشباعها .
فهل ذلك ما يصنعه الإسلام حقاً ؟
ردنا على ذلك في الفصل القادم : " الدين .. والكبت " . (محمد قطب)
======================
الدين والكبت
انظروا ماذا قال علماء النفس الغربيون عن الدين ؟
قالوا إنه يكبت النشاط الحيوي للإنسان ، ويظل ينكّد عليه حياته نتيجة الشعور بالإثم ، ذلك الشعور الذي يستولي على المتدينين خاصة فيخيل لهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة . وقد ظلت أوربا غارقة في الظلام طيلة تمسكها بالدين ، فلما نبذت قيود الدين السخيفة ، تحررت مشاعرها من الداخل ، وانطلقت في عالم العمل والإنتاج
أفتريدون إذن أن تعودوا إلى الدين ؟ تريدون أن تكبلوا المشاعر التي أطلقناها – نحن التقدميين – وتنكدوا على الشباب المتدفق بقولكم : هذا حرام وهذا حلال ؟
* * *
ونترك أوربا تقول في دينها ما تشاء . ولا يعنينا هنا أن نصدقه أو نكذبه ، لأننا لا نتحدث عن الدين عامة ، وإنما نتحدث عن الإسلام .
وقبل أن نذكر شيئاً عن كبت الإسلام للنشاط الحيوي أو عدم كبته له ، ينبغي أولاً أن نعرف ما هو الكبت ، لأن هذه اللفظة كثيراً ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين أنفسهم ، فضلاً عن العوام والمقلدين .(3/104)
ليس الكبت هو الامتناع عن إتيان العمل الغريزي كما يخيل للكثيرين . إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته ، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره . والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية . وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي . فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به ، شخص يعاني الكبت حتى ولو " ارتكب " هذا العمل عشرين مرة كل يوم . لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله . وهذا الشد والجذب في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية .
ونحن لا نأتي بهذا التفسير لكلمة الكبت من عندنا ، بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث ، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية . فهو يقول في ص82 من كتاب Three Contributions to the Sexual Theory " " : " ويجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين هذا " الكبت الشعوري " وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي ، فهذا مجرد " تعليق للعمل " .
والآن وقد عرفنا أن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي وليس تعليق التنفيذ إلى أجل معين ، نتحدث عن الكبت في الإسلام !
ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أصرح من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية ، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور . يقول القرآن : " زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ( ) " فيجمع في هذه الآية شهوات الأرض ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس ، لا اعتراض عليه في ذاته ، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات .
صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها ، لا يملكون أمرهم منها . فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع . والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع ، إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها ، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية .
نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان . ولكن هناك فرقاً هائلاً بين هذا وبين الكبت اللاشعوري ، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها ، ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع .
وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور ، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطاً معقولاً من المتاع ، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله .
والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات ، هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي ، واستعباد الشهوات له بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم ، فتصبح بعد فترة عذاباً دائماً لا يهدأ ، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر .
أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب ، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق . فضلاً عن تحطيم كيان الأسرة ، وفك روابط المجتمع ، وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى " مما يسهل على غيرهم غزوهم وتحطيمهم كما حدث لفرنسا .
وفي هذه الحدود - التي تمنع الضرر - يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة ، بل يدعو إليه دعوة صريحة فيقول مستنكراً : " قل : من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ( ) " ؟ ويقول : " ولا تنس نصيبك من الدنيا ( ) " ويقول : " كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ) " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( ) "
بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة - وهو مدار الحديث عن الكبت في الأديان - أن يقول الرسول الكريم : " حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ( ) . فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض ، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله . ويقول في صراحة كذلك : إن الرجل يثاب على العمل الجنسي يأتيه مع زوجته . فإذا قال المسلمون متعجبين : " يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ " قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " ( ) !
ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقاً في ظل الإسلام . فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر ، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه .(3/105)
وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن " يضبط " هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها . يضبطها في وعيه وبإرادته ، وليس في لاشعوره ، أي يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب . وليس تعليق التنفيذ كبتاً باعتراف فرويد ، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت ، وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية .
وليست هذه الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكماً يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع . فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام يقرر أنه ما من أُمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها ، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح . كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أُمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات ، قادرين على إرجاء ملذاتهم - أو تعليقها - حين تقتضي الضرورة ساعات أو أياماً أو سنوات .
ومن هنا كانت حكمة الصوم في الإسلام .
والمتحللون اليوم من التقدميين والتقدميات ، يحسبون أنفسهم قد اكتشفوا حقيقة هائلة حين يقولون : ما هذا السخف الذي يدعو إلي تعذيب الأبدان بالجوع والعطش ، وحرمان النفس مما تتوق إليه من طعام وشراب ومتاع .. في سبيل لا شيء ، وإطاعة لأوامر تحكمية لا حكمة لها ولا غاية ؟
ولكن .. ما الإنسان بلا ضوابط ؟ وكيف يصبح إنساناً وهو لا يطيق الامتناع سويعات عما يريد ؟ وكيف يصبر على جهاد الشر في الأرض ، وهذا الجهاد يتطلب منه حرمان نفسه من كثير ؟
وهل كان الشيوعيون - الذين يسخر دعاتهم في الشرق الإسلامي بالصيام وغيره من " الضوابط " التي تدرب النفوس - هل كانوا يستطيعون الصمود كما صمدوا في ستالنجراد ، لو انهم لم يدربوا على احتمال المشقات العنيفة التي تعذب الأبدان والنفوس ، أم إنهم " يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً " ؟ يحلّونه حين يصدر الأمر به من " الدولة " لأنها سلطة مرئية تملك العقاب السريع ، ويحرمونه – هو ذاته – حين يصدر الأمر به من الله خالق الدول والأحياء !
وماذا في الإسلام من العبادات غير الصيام ؟ الصلاة ؟ كم تستغرق من وقت المسلم التقي ؟ هل تستغرق في الأسبوع كله أكثر مما تستغرق زيارة واحدة للسينما في كل أسبوع ؟ وهل يضحي الإنسان بهذه الفرصة المتاحة للاتصال بالله ، وتلقِّي المعونة منه ، والاطمئنان إليه ، واسترواح الراحة في رحابه ، إلا وفي قلبه مرض وفي نفسه انحراف ؟
أما ما يقال من تنكيد الدين على أتباعه ، ومطاردتهم بشبح الخطيئة في يقظتهم ومنامهم فما أبعد الإسلام عنه ، وهو الذي يمنح المغفرة قبل أن يذكر العذاب !
إن الخطيئة في الإسلام ليست غولاً يطارد الناس ، ولا ظلاماً دائماً لا ينقشع . خطيئة آدم الكبرى ليست سيفاً مصلتاً على كل البشر ، ولا تحتاج إلى فداء ولا تطهير : " فتلقَّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ( ) ". هكذا في بساطة ودون أيَّة إجراءات .
وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون . فالله يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم ، ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم : " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( ) " " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ( ) " .
وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة عن العباد كثيرة في القرآن . ولكنا نختار منها واحدة فقط لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " ( ) .
يا الله، ما أشد رحمتك بعبادك ! إن الإنسان لا يملك نفسه من التأثر وهو يرى رحمة الله بالناس . ومتى ؟ وهم يفعلون الفاحشة ! إنه لا يقبل منهم التوبة فحسب . ولا يقيلهم من ذنبهم فحسب ، بل يمنحهم رضاءه ورحمته ، ويرفعهم إلى درجة المتقين ! !
فهل بعد ذلك شك في عفو الله ومغفرته ؟ وأين يطارد العذاب نفوس الناس والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب ، بكلمة واحدة صادقة يقولونها : التوبة ؟ !
لسنا نحتاج إلى نصوص أخرى تؤيد ما نقول . ولكنا مع ذلك نذكر هذا الحديث من أحاديث الرسول فهو شاهد عجيب : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ( ) " .
إنها إذن إرادة ذاتية لله أن يغفر للناس ويتجاوز عن سيئاتهم .
وهذه الآية العجيبة : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ وكان الله شاكراً عليماً ( )"
نعم ؟ ما يفعل الله بتعذيب الناس ؟ وهو الذي يحب أن يمنحهم الرحمة والغفران ! ؟ !
(محمد قطب)
====================
الإسلام …وَحرية الفكر
قال لي أحدهم وهو يجادلني: أنت لست حر الفكر !
قلت : لماذا ؟
قال : هل تؤمن بوجود إله ؟
قلت : نعم .
قال : وتصلي له وتصوم ؟(3/106)
قلت : نعم .
قال : إذن فلست حر الفكر ! !
قلت مرة أخرى : ولماذا ؟
قال : لأنك تؤمن بخرافة لا وجود لها !
قلت : وأنتم ؟ بماذا تؤمنون ؟ من الذي خلق الكون والحياة ؟
قال : الطبيعة !
قلت : وما الطبيعة ؟ !
قال : قوة خفية ليس لها حدود ، ولكن لها مظاهر يمكن أن تدركها الحواس .
قلت : أنا أفهم أن تمنعني من الإيمان بقوة خفية لتعطيني بدلاً منها قوة محسوسة , ولكن إذا كانت المسألة قوة خفية بقوة خفية ، فلماذا تأخذ مني إلهي الذي أجد الأمن والراحة والسلام في الإيمان به ، لتعطيني بدلاً منه إلهاً آخر لا يستجيب لي ولا يسمع مني الدعاء ؟ !
* * *
تلك هي قضية حرية الفكر لدى التقدميين ! حرية الفكر تعني الإلحاد ! وإذ كان الإسلام لا يبيح الإلحاد ، فهو إذن لا يبيح حرية الفكر !
وتسأل هؤلاء القرود أو هؤلاء الببغاوات : ما ضرورة الإلحاد في ظلّ الإسلام ؟ !
لقد كان الإلحاد ضرورة في أوربا لأسباب محلية ليس من الضروري أن تتكرر في كل مكان . فالصورة التي أعطتها الكنيسة الأوربية للعقيدة المسيحية من جهة ، وخنق الكنيسة لحركة العلم ، وتحريق العلماء وتعذيبهم ، وفرض الخرافات والأكاذيب على الناس باسم كلمة السماء من جهة أخرى .. كل ذلك قد فرض الإلحاد فرضاً على أحرار الفكر من الأوربيين ، ومزق سائرهم بين الاتجاه البشري الطبيعي للإيمان بالله ، وبين الإيمان بالحقائق العلمية من نظرية وتجريبية .
وكانت فكرة الطبيعية مهرباً يخلص به الناس من هذا الإشكال شيئاً من الخلاص . فكأن الأوربيين يقولون للكنيسة : خذي إلهك الذي تستعبديننا باسمه ، وتفرضين علينا الإتاوات المرهقة والدكتاتورية الطاغية ، والأوهام والخرافات ، والذي يقتضينا الإيمان به أن نتنسك ونتعبد ونترهبن .. وسوف نؤمن بإله جديد ، له معظم خصائص الإله الأول ، ولكنه إله ليس له كنيسة تستعبد الناس ، وليس له عليهم التزامات خلقية أو فكرية أو مادية ، فهم في رحابه طلقاء من كل القيود .
أما نحن في الإسلام فما حاجتنا إلى الإلحاد ؟
ليس في العقيدة إشكال يحير الذهن . إله واحد هو الذي خلق الكائنات كلها وحده ، وإليه مرجعها وحده لا شريك له ولا معقب لكلماته . فكرة بسيطة واضحة لا يختلف عليها أحد ولا ينبغي أن يختلف عليها عاقل !
وليس في الإسلام " رجال دين " كالذين كانوا في أوربا : فالدين ملك للجميع . ينهلون منه ، كل على قدر ما تطيقه طبيعته ومؤهلاته الفكرية والروحية ، والجميع مسلمون " ولكل درجات مما عملوا " وأكرم الناس عند الله أتقاهم ، سواء كانت وظيفته أنه مهندس أو مدرس أو عامل أو صانع . وليس الدين حرفة من بين هذه الحرف . فالعبادات كلها تتم بغير وساطة رجال الدين . أما الجانب الفقهي والتشريعي في الإسلام فطبيعي أن يتخصص في أناس باعتباره الدستور الذي يقوم عليه الحكم . ولكن موقفهم هو موقف كل المتخصصين في الفقه الدستوري والتشريعي في كل بلد من البلاد ، لا يملكون بصفتهم هذه سلطة على الناس ولا امتيازاً " طبقياً " عليهم . وإنما هم مستشارو الدولة وفقهاؤها فحسب . والذين يسمون أنفسهم " هيئة كبار العلماء " أحرار في أن يتسموا بهذا الاسم أو غيره . ولكن ليس لهم سلطان على أحد . ولا يملكون من أمر الناس شيئاً إلا في حدود الشريعة . والأزهر معهد علمي ديني . ولكنه ليس سلطة تحرق العلماء أو تعذبهم ، وكل ما يملكه أن يطعن في فهم أحد الناس للدين ويخطِّئ رأيه . وهو حر في ذلك ، لأن الناس أيضاً يملكون أن يطعنوا في فهم رجال الأزهر للدين ويخطئوا آراءهم . لأن الدين ليس حكراً لأحد ولا هيئة ، وإنما هو لمن يحسن فهمه وتطبيقه .
وحين يقوم الحكم الإسلامي لن ينتشر " علماء الدين " في الدواوين ، ولن يتغير في نظام الحكم شيء إلا قيامه على الشريعة الإسلامية . ولكن شئون الهندسة تظل في يد المهندسين ، وشئون الطب في يد الأطباء ، وشئون الاقتصاد في يد الاقتصاديين ( على شرط أن يكون الاقتصاد الإسلامي هو الذي يحكم المجتمع ) وهكذا وهكذا في كل شئون الحكم .
وليس في العقيدة الإسلامية ولا النظام الإسلامي ما يقف في طريق العلم بنظرياته وتطبيقاته ، ووقائع التاريخ هي الحكم في هذا الشأن . فلم نسمع بأن عالماً حرق أو عذب لأنه اكتشف حقيقة علمية . والعلم الصحيح لا يتعارض مع عقيدة المسلم في أن الله هو الذي خلق كل شيء . ولا يتعارض مع دعوة الإسلام للناس أن ينظروا في السموات والأرض ويتفكروا في خلقها ليهتدوا إلى الله . وقد اهتدى إلى الله كثير من علماء الغرب الملحدين أنفسهم عن طريق البحث العلمي الصحيح .
أي شيء إذن في الإسلام يدعو إلى الإلحاد ؟ إلا أن تكون شهوة التقليد الأعمى للسادة المستعمرين ؟
يقولون إنهم يريدون أن يكونوا أحراراً في أن يكتبوا ضد العقائد والعبادات ، وأن يسخفوها للناس ويدعوهم إلى التحلل منها دون أن يقعوا تحت طائلة القانون .(3/107)
نعم . ولكن لماذا ؟ إن هذا ليس كما يفهم الحمقى هدفاً في ذاته ، وإنما هو كان في أوربا وسيلة لهدف آخر هو تحرير الفكر من الخرافة ، وتحرير الناس من الطغيان . فإذا كانوا يملكون هذه الحرية وتلك في ظل الإيمان، فما الهدف الذي يريدون تحقيقه ؟
يريدون الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية بغير رادع ، تلك هي حقيقة المسألة . وليس الجانب الفكري إلا ستاراً يغطون به عبوديتهم للشهوات ، ثم يزعمون أنهم أحرار الفكر . وليس الإسلام مكلفاً أن يطيع العبيد وهو يدعو إلى التحرر من كل سلطان بما في ذلك سلطان الشهوات .
* * *
ويقولون إن نظام الحكم في الإسلام دكتاتوري بطبعه . لأن الدولة فيه تملك سلطة واسعة، ويزيد الأمر سوءاً أنها تملكها باسم الدين ، باسم شيء مقدس له على نفوس الناس سلطان . فما أسهل ما يغري هذا السلطان بالدكتاتورية ، وما أسهل ما تستنيم لها الدهماء . وبهذا تختنق حرية الرأي ، ويصبح الخارج على الحاكم عرضة للاتهام بالخروج على الدين .
فمن أين جاءوا بهذا القول الغريب على الدين ؟
أمن قول الله عزّ وجلّ : " وأمرهم شورى بينهم " ( ) ؟ وقوله : " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ( ) .
أم من قول أبي بكر : " .. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " ؟
أم من قول عمر : " فإن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموه " فيقول له رجل من المسلمين : " والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف " فيغتبط عمر ويرضى ويحمد الله على ذلك؟!
نعم وجد الطغيان باسم الدين في التاريخ ، ويمكن أن يقوم في أي وقت . ولكن من ذا الذي يقول إن الدين وحده هو ستار الطغيان في الأرض ؟ وهتلر ؟ هل كان يطغى باسم الدين؟ وستالين ؟ لقد اعترفت الصحافة الروسية ذاتها بدكتاتورية ستالين – بعد موته – وقالت إنه كان يحكم روسيا حكماً بوليسياً فظاً لا يجوز أن يتكرر ! وفرانكو ؟ ومالان في جنوب افريقيا ؟ وشان كاي شك في الصين الوطنية ؟ وماوتسي تونج في الصين الشيوعية ؟ كل هؤلاء يطغون باسم الدين ؟ ! لقد رأى هذا القرن " المتحرر " من سلطان الدين أبشع دكتاتوريات التاريخ ، بعنوانات أخرى لامعة لا تقل قداسة في نفوس أتباعها عن قداسة الدين في نفوس المؤمنين .
وما يدافع أحد عن الدكتاتورية ، وما يرضاها إنسان حر الفكر والضمير . ولكن استقامة الطبع والفكر تقتضي الإقرار بالحق الخالص دون ميل مع الهوى والشهوات . والحق أن كل معنى جميل يمكن استغلاله والتستر وراءه لقضاء المآرب الشخصية وقد ارتكبت باسم الحرية أفظع الجرائم في الثورة الفرنسية . فهل نلغي الحرية ؟ وباسم الدستور سجن الأبرياء وعذبوا وقتلوا ، فهل نلغي الدساتير ؟ وباسم الدين قام الطغيان حقاً في الأرض فهل يبرر ذلك أن نلغي الدين ؟ كان هذا يكون مطلباً معقولاً لو أن الدين في ذاته ، بتعاليمه ونظمه يؤدي إلى الظلم والطغيان . فهل يصدق ذلك على الإسلام الذي ضرب من أمثلة العدل المطلق – لا بين المسلمين وحدهم ، بل بين المسلمين وأعدائهم من المحاربين – ما أقر به حتى أولئك الأعداء في أكثر من حادث وأكثر من فترة على مدار التاريخ ؟
إنما علاج الطغيان أن ننشئ شعباً مؤمناً يقدر الحرية التي ينادي بها الدين ويحرص عليها ، فيصد الحاكم عن الظلم ، ويقف به عند حده المرسوم . ولست أحسب أن نظاماً يهدف إلى ذلك مثل النظام الذي جعل من واجب الشعب تقويم الحاكم الظالم . فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره .. ( ) " ويقول : " إن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند إمام جائر ( ) " ..
طريقكم إذن للتحرر أيها التقدميون ليس إلغاء الدين . وإنما هو تعليم الناس هذه الروح الثائرة التي تنفر من الظلم وتقوّم الظالمين . وإنها في صميمها لروح هذا الدين
(محمد قطب)
=====================
الإسلام … والطائفية
موقف الطوائف غير المسلمة من حكم الإسلام مسألة يقال عنها دائماً إنها شائكة ودقيقة ، ويتجنب الناس الحديث فيها مخافة وقوع الفتنة بين المسلمين وغير المسلمين .
ولكني شخص تعودت على الصراحة الكاملة بيني وبين نفسي ، وبيني وبين الناس ، وبهذه الصراحة الكاملة أحب أن أسأل المسيحيين في الشرق الإسلامي : ما الذي يخشون من حكم الإسلام ؟ هل يخشون النصوص أم يخشون التطبيقات ؟
أما النصوص فتقول : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم . إن الله يحب المقسطين ( ) " .
وتقول : " وطعام الذين أتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم ، والمحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتو الكتاب ( ) " .
والمبدأ الفقهي العام : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا ".(3/108)
فهي تأمر بالبر بهم والعدل في معاملتهم ، والمساواة بينهم وبين المسلمين في الحقوق والواجبات التي لا تتعلق بعبادة أو فريضة ، إنما تتعلق بنظام المجتمع وحقوق المواطنين فيه . وتزيد على ذلك أن تسعى إلى توثيق الروابط بينهم وبين المسلمين بالتزاور والمؤاكلة والمشاربة ، وهي لا تكون إلا بين الأصدقاء المتحابين ، وتتوج ذلك برباط الزواج وهو أوثق رباط .
أما التطبيقات ، فيحسن أن نترك الحديث فيها لرجل مسيحي أوربي لا يتهم بالتحيز للإسلام .
يقول سيرت. و . أرنولد في صفحة 48 من كتابه " الدعوة إلى الإسلام " ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي :
" ويمكننا أن نحكم من الصِّلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام . فمحمد نفسه قد عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية ، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية . كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة " .
ويقول في صفحة 51 : " ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة ، واستمر في الأجيال المتعاقبة ، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام ، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة . وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح " .
ويقول في صفحة 53: " ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن ، وعسكر أبو عبيدة في فحل ، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون : يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم ، وإن كانوا على ديننا . أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا " .
وفي صفحة 54 : " وهكذا كانت حالة الشعور في بلاد الشام إبان الغزوة التي وقعت بين سنتي 633 ، 639م والتي طرد فيها العرب جيش الروم من هذه الولاية تدريجاً . ولما ضربت دمشق المثل في عقد صلح مع العرب سنة 637م ، وأمنت بذلك السلب والنهب ، كما ضمنت شروطاً أخرى ملائمة ، لم تتوان سائر مدن الشام في أن تنسج على منوالها فأبرمت حمص ومنبج وبعض المدن الأخرى معاهدات أصبحت بمقتضاها تابعة للعرب ، بل سلم بطريق بيت المقدس هذه المدينة بشروط مماثلة . وإن خوف الروم من أن يكرههم الإمبراطور الخارج على الدين على إتباع مذهبه ، قد جعل الوعد الذي قطعه المسلمون على أنفسهم بمنحهم الحرية الدينية أحب إلى نفوسهم من ارتباطهم بالدولة الرومانية وبأية حكومة مسيحية . ولم تكد المخاوف الأولى التي أثارها نزول جيش فاتح في بلادهم تتبدد حتى أعقبها تحمس قوي لمصلحة الفاتحين " .
تلك شهادة رجل مسيحي عن الإسلام . فما الذي يخشاه المسيحيون إذن من الحكم الإسلامي ؟
لعلهم يخشون تعصب المسلمين ضدهم . فيظهر إذن أنهم لا يعرفون معنى التعصب . فلنضرب لهم أمثلة منه على مدار التاريخ .
كانت محاكم التفتيش في أسبانيا مقصوداً بها القضاء على المسلمين قبل كل شيء . وقد استخدمت فيها أبشع ألوان التعذيب التي عرفت في التاريخ ، من إحراق الناس أحياء ، ونزع أظافرهم وسمل عيونهم وتقطيع أوصالهم ، لإكراههم على ترك دينهم واتباع مذهب مسيحي معين . فهل لقي المسيحيون في الشرق الإسلامي شيئاً من ذلك طول مقامهم هناك ؟
والمجازر تقام للمسلمين في كل بلد أوربي أو واقع تحت سيطرة الأوربيين في يوغوسلافيا وألبانيا وروسيا ، وفي الشمال الأفريقي والصومال وكينيا وزنجبار ، وفي الهند والملايو ، مرة باسم تطهير الصفوف ومرة باسم إقرار الأمن والسلام !
ولكنا نترك كل هذا ونأخذ مثلاً واحداً له دلالته الخاصة وهو الحبشة ، فهي بلد تربطنا به منذ القدم روابط تاريخية وجغرافية وثقافية ودينية . فالحبشة – كما هو معلوم - تابعة للكنيسة المصرية . وسكانها خليط من المسلمين والمسيحيين ، وأقل الناس تقديراً يقدر المسلمين بـ55% من مجموع السكان . بينما يقدرهم آخرون بـ65% ! فلنأخذ أقل التقديرين!
ليس في الحبشة مدرسة واحدة حكومية تدرس الدين الإسلامي لتلاميذها المسلمين . ولا مدرسة واحدة تعلم اللغة العربية . أما المدارس التي يفتحها المسلمون على نفقتهم فإن الحكومة تظل تفرض عليها من الضرائب والمضايقات ما يؤدي إلى إغلاقها في آخر الأمر وتيئيس غيرهم من القيام بمحاولة جديدة . وهكذا يقتصر الأمر هناك بالنسبة للمسلمين على الكتاتيب .
وإلى عهد قريب – إلى ما قبل الغزو الإيطالي – كان المسلم الذي يستدين من مسيحي حبشي ويعجز عن الوفاء بدينه يصبح رقيقاً للحبشي يشترى ويباع ويعذب بمعرفة الدولة .
وبطبيعة الحال ليس في وظائف الحكومة ولا وزاراتها واحد مسلم ليقوم بتمثيل أكثر من نصف السكان . وهذا كله والكنيسة المصرية هي المشرفة على التوجيه الديني هناك ! !(3/109)
فهل رأى المسيحيون في العالم الإسلامي شيئاً من ذلك في تاريخهم ؟ أم يرضون المعاملة بالمثل مع هذا القطر الذي تربطنا به روابط الطبيعة وروابط الدين ؟ !
ذلك هو التعصب الحق . أما في مصر مثلاً فماذا يخشون !
والشيوعيون يقولون إن الكيان الحقيقي للإنسان هو كيانه الاقتصادي . فهل حرم المسيحيون في الإسلام من حق الملك أو التصرف أو تجميع الثروات ؟
هذا بشري حنا عندما زار الملك فؤاد الصعيد قد اقتلع من مزرعته من أشجار البرتقال المحملة بالثمار ما زرعه على طول 25 كيلو متراً من الجانبين في طريق الملك ! فمن أين له ذلك لو لم يكن له حق الملكية بغير حد ؟
وحق التعليم ؟ وحق التوظيف ؟ وحق الترقية في الوظيفة ؟ هل يدخل فيه العنصر الديني ؟
على أننا لا نوافق الشيوعيين في أن كيان الإنسان هو كيانه الاقتصادي فحسب . ونضيف إليه كيانه المعنوي والروحي .
فهل حدث اضطهاد في العبادة – إلا الأمثلة النادرة التي كان المستعمرون الإنجليز دائماً من ورائها ليثيروا الفتنه التي تمكن لهم في الأرض ؟
ويقولون إن هناك تمييزاً في مسألة الجزية . فنرد عليهم بقول سير أرنولد الذي استشهدنا به من قبل ، إذ يقول في ص 58 : " وقد فرضت الجزية كما ذكرنا على القادرين من الذكور في مقابل الخدمة العسكرية التي كانوا يطالبون بأدائها لو كانوا مسلمين . ومن الواضح أن أي جماعة مسيحية كانت تعفى من أداء الضريبة إذا ما دخلت في خدمة الجيش الإسلامي . وكان الحال على هذا النحو مع قبيلة الجراجمة ، وهي قبيلة مسيحية كانت تقيم بجوار أنطاكية وسالمت المسلمين وتعهدت أن تكون عوناً لهم وأن تقاتل معهم في مغازيهم على شريطة ألا تؤخذ بالجزية ، وأن تعطى نصيبها من الغنائم " .
وفي ص 59 : " ومن جهة أخرى أعفي الفلاحون المصريون من الخدمة العسكرية على الرغم من أنهم كانوا على الإسلام . وفرضت عليهم الجزية نظير ذلك كما فرضت على المسيحيين " .
ليست المسألة إذن تفرقة طائفية . وإنما هي الخدمة العسكرية من أداها أعفي من الجزية ، ومن لم يؤدها فعليه الجزية بلا تفرقة بين دين ودين .
أما النص الذي يقول : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " . [ سورة التوبة : 29 ] .
فهو نص خاص بالمحاربين لدار الإسلام من أهل الكتاب كما لو حاربنا الإنجليز أو الفرنسيين ، وليس ينصرف إلى المقيمين في الوطن الإسلامي .
ولكني أعلم أن شياطين الشيوعية ينبثون في كل طائفة فيمنونها بأمنية خاصة .
فهم ينبثون بين العمال فيقولون لهم : " اتبعونا وسنملككم المصانع " . وبين الفلاحين فيقولون لهم : " اتبعونا وسنملككم الأرض " . وبين خريجي الجامعات والمدارس المتعطلين فيقولون لهم " اتبعونا وسنمنحكم عملاً يوازي مؤهلاتكم " . وبين الشباب المحروم من الجنس ، فيقولون لهم : " اتبعونا وسننشئ لكم مجتمعاً " حراً " يصنع فيه من يشاء ما يشاء بلا تدخل من القانون ولا اعتراض من التقاليد " .
ثم يخلون بالمسيحيين فيقولون لهم : " اتبعونا وسنحطم لكم هذا الإسلام الذي يفرق بين الناس على أساس العقيدة " . كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً . ليس الإسلام هو الذي يفرق في نظامه ومعاملاته بين الناس على أساس العقيدة ، وهو الذي يمنحهم كل الحقوق الحيوية بلا تفريق . وإنما هو يجمع بينهم على أساس الإنسانية ، ثم يترك لهم بعد ذلك كامل الحرية في اعتناق العقيدة التي يريدونها ، برضاء الإسلام ، بل بحمايته وتحت رعايته .
وإني لأعلم كذلك أن المسيحيين في الشرق ، أحرص على روابطهم التاريخية مع المسلمين ، وأحرص على مصالحهم المتشابكة ، من أن يستمتعوا لدس الدساسين أو وسوسة الشياطين .
(محمد قطب)
======================
الإسلام … والمثالية
أين هو الإسلام الذي تحدثوننا عنه أيها المسلمون ؟ ومتى طبق في وضعه الصحيح ؟ إنكم دائماً تحدثوننا عن نظام مثالي رائع في ذاته ، ولكنه لم يوجد بالصورة التي تصفونها في واقع الأرض . فإذا سألناكم عن التطبيق العملي لم تجدوا إلا فترة قصيرة في حياة الرسول والخلفاء الراشدين ، أو بالأحرى الخليفتين الأولين . ورحتم تتشبثون بعمر بن الخطاب خاصة تجلون في شخصه صورة الإسلام ، وتعرضونها باهرة تتلألأ في العيون ، حتى إذا فتشنا حولها لم نجد إلا ظلمات بعضها فوق بعض ، من إقطاع وظلم واستبداد وتأخر ورجعية .
تتحدثون عن حق الشعب في تأديب حكامه ، فمتى – في غير عهد الخلفاء الراشدين – أتيح للشعب أن يختار حكامه فضلاً عن تأديبهم ؟
وتتحدثون عن حق الشعب في تأديب حكامه ، فمتى – في غير عهد الخلفاء الراشدين – أتيح للشعب أن يختار حكامه فضلاً عن تأديبهم ؟
وتتحدثون عن التوزيع الاقتصادي العادل في الإسلام ، فمتى تقاربت الفوارق بين الناس حتى في عهد الخلفاء الراشدين أنفسهم ؟(3/110)
وتتحدثون عن واجب الدولة في إيجاد عمل لكل مواطن . فما بال الألوف والملايين من المتعطلين الذين يعيشون على التسول حيناً ، وعلى البؤس والحرمان أبداً ؟
وتتحدثون عن حقوق المرأة في الإسلام فمتى نالت هذه الحقوق بالفعل ، ومتى مكنتها التقاليد الظالمة أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من استعمال هذه الحقوق ؟
وتتحدثون عن التربية الإسلامية التي تهذب النفوس وتودع فيها تقوى الله ، فتقوم العلاقات بين الحكام والمحكومين وبين طوائف الأمة المختلفة على التعاون في سبيل الخير ، فمتى حدث ذلك إلا في تلك الفترات النادرة التي تتمثلون بها ، ومتى منعت تقوى الله من أكل حقوق الفقراء والجور عليهم واستئثار الحكام بالمنافع وكبت الحريات وإذلال الشعوب ؟
إنكم تحدثوننا عن أحلام لا رصيد لها من الواقع ، إلا هذا الرصيد الضئيل الذي لا يؤلف نظاماً واضح المعالم ، وإنما هو أمثلة شخصية لم تتكرر في التاريخ .
* * *
تلك دعوى الشيوعيين وأشباههم ، بل هي شبهة قوية في نفوس المسلمين أنفسهم الذين لم يدرسوا التاريخ الإسلامي إلا على أيدي المستعمرين .
وهنا يجب أن نفرق تفريقاً حاسماً بين أمرين : مثالية النظام ذاته ، ومثالية التطبيق .
فهل الإسلام بطبيعته نظام مثالي لا يقبل التطبيق العملي في واقع الأرض ، لاعتماده على عناصر خيالية أو مستحيلة . أم هو نظام عملية ولكنه لم يطبق بصورته الكاملة على مدار الأجيال ؟
والفرق بين الوضعين كبير ..
فحين يكون نظاماً مثالياً في ذاته ، فلا أمل في تطبيقه أبداً مهما تبدلت الأحوال والظروف .
وإذا كان نظاماً واقعياً ، ولكن ظروفاً بعينها قد حالت دون تطبيقه . فالأمر مختلف ، والأمل في التطبيق قائم متى زالت هذه الظروف .
فأي الوضعين ينطبق على الإسلام ؟
نحسب أن الأمر من الوضوح بحيث لا يختلف في أمره أحد . فمجرد تطبيقه مرة واحدة في تاريخ البشرية يثبت بدليل قاطع أنه نظام قابل للتطبيق ، وأنه لا يعتمد على عناصر خيالية ولا مستحيلة . أم يريد التقدميون أن يقولوا إن الناس في صدر الإسلام قد ارتفعوا إلى مستوى تعجز البشرية عن العودة إليه ؟ إن ذلك على أي حال مخالف لرأيهم في مسألة التطور الذي يدفع بالبشرية دائماً إلى الأمام !
أما لماذا لم يتكرر عهد الخلفاء الراشدين مرة أُخرى إلا في فترات خاطفة من التاريخ كعهد عمر بن عبد العزيز مثلاً فسؤال وجيه ، ورده موجود في ملابسات التاريخ ، سواء منها ما كان محلياً في الرقعة الإسلامية أو عاماً في حياة البشرية .
فيجب أن نجعل بالنا إلى أمرين :
الأول : إن القفزة التي قفزها الإسلام بالبشرية من وهدتها التي كانت فيها ، إلى مستواها الرفيع الذي تحقق في عهد الخلفاء الراشدين ، لم تكن قفزة عادية . فهي معجزة من معجزات الإسلام حققها في واقع الأرض ، ولكنها كانت في حاجة إلى إعداد طويل وتربية شخصية للأبطال الذين حققوا المعجزة في أشخاصهم وأعمالهم جميعاً .
ولكن الإسلام انتشر بسرعة خاطفة لا مثيل لها من قبل ولا من بعد في كل حركات التاريخ . وتلك معجزة أُخرى من معجزات الإسلام لا تفسرها كل التفسيرات المادية والاقتصادية التي يفسر بها الماديون والشيوعيون تاريخ البشرية . ولكن هذه السرعة ذاتها قد جلبت إلى الإسلام أقواماً متعددين ليسوا كلهم قد تشربوا روح الإسلام ، ولا فهموا حقيقة نظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ولم يكن في الوسع تربيتهم جميعاً بالصورة التي تربى عليها المسلمون الأوائل في الجزيرة العربية . وكان من جراء دخول هذه الأقوام في الإسلام وحسبانها من تعداد المسلمين ، أن اتسعت رقعة الإسلام ولكن مبادئه لم تتغلغل في نفوس الناس فسهل الانحراف عنها ، واللعب بها على أيدي الحكام الظالمين من بني أمية والعباسيين والأتراك والمماليك وغيرهم ممن لم يستوفوا خصائص الإسلام .
والأمر الثاني : أن هذه القفزة الإسلامية لم تكن طبيعية بالنسبة " للتطور " البشري ، فقد رفعت الناس طفرة من الرق إلى صورة من العدل الاجتماعي لا تزال تعتبر خطوة تقدمية بالنسبة لكل النظم التي جربتها البشرية ، كما رفعتهم من حضيضهم النفسي الغارق في شهوات الأرض إلى قمة تزهى بها الإنسانية في جميع عصورها .(3/111)
وقد أطاق الناس وقتها هذا الارتفاع الشاهق المفاجىء ، لأن الدفعة الروحية الممثلة في الرسول وأصحابه كانت كقوة السحر التي ترفع الإنسان فوق طاقاته العادية وتجعله يصنع ما يشبه المعجزات . فلما انحسرت هذه الدفعة الهائلة ارتد الناس عن آفاقهم العليا ، وإن كانوا - مع ذلك - قد احتفظوا بقبسة لامعة من روح الإسلام سنتحدث بعد هنيهة عن آثارها العملية في تاريخ البشر . ولكن هذا ليس معناه كما يقول المزيفون أننا في حاجة دائمة إلى وجود الرسول والصحابة بأشخاصهم لنحقق ما حققه الناس في صدر الإسلام في الجانب العملي على الأقل . فالذي كان يعد معجزة قبل ألف وثلثمائة عام في سياسة الحكم ونظام الاقتصاد وعلاقات المجتمع ، أصبح بعد مرور هذه الحقب الطويلة ، وبعد التجارب التي مرت بها البشرية - وفي أولها التجربة الإسلامية ذاتها - في حدود المستطاع اليوم في كثير من ربوع الأرض . فإذا أردنا أن نطبق الإسلام اليوم في واقع الحياة ، بصرف النظر عن مثله الأخلاقية الرفيعة - وإن كان الإسلام يعني بها عناية خاصة ولا يفصل بينها وبين التطبيق العملي - فلن نقفز قفزات معجزة كتلك التي قفزها العرب في صدر الإسلام ، لأن التجارب والسوابق قربتنا من تلك القمة العالية ، فصارت النقلة أقرب ، وصار الجهد المطلوب أيسر من ذي قبل .
ولنضرب بعض الأمثلة لما نقول :
فالأمم التي تعيّن حكامها اليوم بالانتخاب العام ، وتعزلهم حين تراهم انحرفوا عن سواء السبيل ، لا تزيد على أن تطبق الصورة الإسلامية للحكم في صدر الإسلام من جانبها العملي. وقد كان هذا معجزة في عصر أبي بكر وعمر . ولكنه اليوم في متناولنا حين نريد ، أي حين يصير لدينا الوعي الذي تملكه هذه الأمم . فإذا كنا نملك ذلك بتقليد انجلترا أو أمريكا فلماذا نعجز عنه إذا طلبناه باسم الإسلام وهو موجود في الإسلام ؟ وضمان المطالب الأساسية لموظفي الدولة - ومن في حكمهم من العمال في المؤسسات العامة والخاصة - تشريع صريح من تشريعات الإسلام . وقد طبقته الشيوعية في القرن العشرين ( وإن كانت قد طبقته في مقابل دكتاتورية الدولة والإسلام أراده حراً من الدكتاتورية ) فإذا رغبنا في تنفيذه اليوم فهو في متناول يدنا . ولكن لماذا نأخذه من الشيوعية ولا نأخذه من الإسلام ؟
وهكذا وهكذا في كل باب .
فتجارب البشرية قد قربتنا اليوم مسافة هائلة من نظم الإسلام . وإن كانت لم تصل إليها كاملة حتى اليوم . فلماذا تصبح هذه النظم واقعية عملية حين تحاولها أوربا ، وتصبح خيالية مثالية حين يريدها الإسلام ؟ !
إن القضية في جوهرها يجب أن توضع على هذا النحو : هل تلك النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ممكنة في ذاتها أم غير ممكنة ؟ فما دامت ممكنة في أي مكان وفي أي نظام ، فكيف لا تكون ممكنة في الإسلام وهو أول نظام طبقها بالفعل على ظهر الأرض ؟ !
ولا عبرة بالوهم الذي يثيره الشيوعيون وأضرابهم ، من أن النظم الحديثة قائمة على أسس علمية ! والإسلام قائم على العواطف والنوايا الطيبة ! فالجانب التشريعي في الإسلام ليس عواطف . والخلفاء الراشدون حين كانوا يتشاورون في تطبيقه ويضعون له التفسيرات الفقهية لم يكونوا حالمين ولا معتمدين على حسن نوايا الناس . كل المسألة أن الإسلام لا يحب أن يعتمد على القانون وحده ، فهو يضع التشريع ، ولكنه يهذب النفوس وينظفها حتى تتطوع بما فوق الواجب المفروض ، وتنفذه - حين تنفذه - بدافع من الداخل لا خوفاً من سطوة الحاكم فحسب ، وهذه أبرع سياسة يمكن أن تطبق في عالم الناس . ولكن القانون موجود دائماً وينفذ دائماً بصرف النظر عن نوايا الناس ، على حد قول عثمان : " يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
* * *
وبعض الكتاب يحسبون أنهم يوقعون المسلمين في حرج ما بعده حرج ، حين يقولون لأصحاب الدعوة الإسلامية : لا تحاجونا بعمر ، فعمر لا يتكرر في التاريخ !(3/112)
وهي تفاهة في التفكير ، فنحن لا نحاجّ الناس بشخص عمر - وإن كان عمر بلا شك من صنع الإسلام ، ونموذجاً لما تصنعه التربية الإسلامية في تهذيب النفوس - ولكننا نحاجهم بتطبيقاته العملية . فحين يقرر عمر أن يد السارق لا تقطع إذا كانت هناك شبهة في أنه اضطر لارتكاب جريمته نتيجة اضطراب اقتصادي أو اجتماعي ، فهذا تطبيق لا يحتاج لشخص عمر لتنفيذه ، فعمر إنما استمده من أصل ثابت في الإسلام : " ادرأوا الحدود بالشبهات " . وحين ننفذه اليوم فلن نجد قوة خفية أو ظاهرة تمسك يدنا وتقول لنا : كيف تنفذونه وعمر غير موجود ! وحين يقرر عمر حق الإمام في أخذ فضول أموال الأغنياء وردها على الفقراء - كما قررت انجلترا في الضرائب التصاعدية - فهذا تطبيق ينفذ اليوم بصفته اجتهاداً فقهياً لا بصفته نزعة شخصية لعمر ، فعمر إنما استمده من أصل ثابت في الإسلام : " كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم " ولن نحتاج إلى شخص عمر لينفذه ، وقد نفذته انجلترا دون أن يكون لديها عمر ! وحين يقرر عمر مبدأ محاكمة الولاة وسؤالهم : من أين لك هذا ؟ ليتبين إن كان من مالهم أم من مال الناس ، فهذا مبدأ قانوني ينفذ في كل وقت ، وفي غيبة عن شخص عمر ! وحين يقرر عمر أن الطفل اللقيط ينفق عليه من بيت المال لأنه لا ذنب له في جريمة أبوية - وهو تشريع عرفته أوربا وأمريكا في القرن العشرين فقط - فلن نحتاج في تنفيذه إلى أكثر من إقراره في صلب القانون !
وهكذا معظم احتجاجنا بعمر ، بوصفه من أبرز المجتهدين في صدر الإسلام وأفهمهم للروح الإسلامية في تصرفاته ، لا بصفته الشخصية الفذة ، وإن كان كلام هؤلاء الكتاب لن يمنعنا أن نكرر التمثل بعمر حتى في تصرفاته الشخصية المثالية التي تطوع فيها بما لم يلزمه به أحد ، ليبقى مثلاً أعلى يحاول المسلمون على مر الأجيال أن يصلوا إليه أو يقتربوا منه . فإن وصلوا فهو الخير لكل البشرية ، وإن لم يقدر لهم ، فبحسبهم تطبيقاته العملية الواقعية يطبقونها ، بدل التسول على أبواب الدول واستمداد دساتيرها وترقيعها لاستخراج " دستور " منها ! !
* * *
على أن هناك مغالطة كبرى تزعم أن الإسلام لم يوجد إلا في عهد الخلفاء الراشدين ! وهي شبهة يؤمن بها كثير من المسلمين .
إن الصورة الكاملة للإسلام لم تنفذ بعد الخلفاء الراشدين إلا في فترة خاطفة في عهد عمر بن عبد العزيز . هذا حق . ولكنه لا يعني أن الإسلام قد انتهى بعد ذلك . فقد فسدت الحكومة وحدها فساداً جزئياً أو كاملاً . وبقي المجتمع - في غير العاصمة - إسلامياً حقاً ، يعيش بروح الإسلام المتعاونة المتكافلة ، التي لا تقسم المالكين وغير المالكين إلى أسياد وعبيد ، بل تجعل منهم إخوة مترابطين مشتركين في الجهد وفي الجزاء .
وبقيت الشريعة الإسلامية هي التي تحكم في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي . ولم تقم محاكم خاصة على هوى الإقطاعيين كما حدث في أوربا في نفس الفترة مع التاريخ .
وبقيت التقاليد الإسلامية سارية في حروب الإسلام مع أعدائه ، بما شهد به الصليبيون أنفسهم وخاصة في عهد صلاح الدين .
وبقي وفاء المسلمين بتعهداتهم مضرب المثل بين أمم الأرض
وبقي حب المسلمين للعلم وإخلاصهم للثقافة ، مما جعل العالم الإسلامي في الأندلس وغير الأندلس كعبة المتعلمين في مختلف الفنون .
وفي اختصار بقي الإسلام هو الشعلة المضيئة التي تتعلم منها أوربا ، وتستمد منها النظم ، وتحاول بكل جهدها أن ترتقي إليها ، وإن كانت بعد ذلك قد أدركتها خستها الأصيلة ، فأطفأت شعلة الإسلام في الأندلس ومضت بعد نهضتها المستمدة من الإسلام ، تحاول تحطيمه وتشويه صورته في الآفاق .
ليس الإسلام إذن نظاماً مثالياً بالمعنى السيء للمثالية . وإنما هو نظام عملي بحت ، طبقته البشرية مرة ، وهي اليوم أقدر على تطبيقه مما كانت قبل ألف وثلثمائة عام ، لأن تجاربها الطويلة قربت ما بينها وبينه من آفاق .
وإنما أولى بتهمة المثالية أن توجه إلى الشيوعية ! فالقوم يقولون إنهم لم يصلوا بعد إلى الشيوعية الحقيقية ، وإنما هم ما يزالون في طور الاشتراكية ، وحين يصل الإنتاج إلى ذروته ، ويتوحد العالم تحت حكومة عالمية موحدة ، فحينذاك تطبق الشيوعية المبنية على اكتفاء البشرية ، وكفها - إلى الأبد - عن الصراع المرذول الموجود اليوم بسبب عدم كفاية الإنتاج!
وهي مثالية لا تتحقق أبداً لأنها تقوم على عناصر خيالية أو مستحيلة . تقوم على تصور أن البشر يمكن أن يكتفوا في يوم من الأيام ! بينما هم خلقوا هكذا ! لو كفيتهم كل مطالبهم اليوم لقاموا منذ الغد يتطلعون إلى جديد ! وتقوم على تصور أن كفاية الإنتاج - على فرض تحققها - ستبطل الصراع على التميز والبروز ، وأن هذا - لو تم - يكون في صالح البشرية! مع أن البشرية لم تتقدم إلا من طريق الصراع على التميز والبروز !
تلك هي المثالية الحمقاء تنبع من قلب المادية الواقعية ، القائمة على نظريات العلم وحقائقه التجريبية ! !
(محمد قطب)(3/113)
===================
الإسلام … والشيوعية
سلمنا لكم بأن الإسلام يشتمل على جميع الأسس الصالحة للحياة ، وأنه دين الأجيال كافة والمجتمعات كافة ، ولكن الفقه الإسلامي في المسائل الاقتصادية قد تعطل في القرون الأربعة الأخيرة بسبب انكماش العالم الإسلامي . فلماذا لا نأخذ الإسلام عقيدة تهذب الضمائر وتنظف الأفكار ، ونأحذ الشيوعية نظاماً اقتصادياً بحتاً لا صلة له بأي شيء آخر في نظام الدولة وكيان المجتمع ، فنكون بذلك قد حافظنا على أخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا ، وأخذنا بأحدث النظم في عالم الاقتصاد ؟
شبهة خبيثة يلعب بها الشيوعيون منذ عهد بعيد . فقد كانوا بدأوا نشاطهم في الشرق بمحاربة الإسلام جهرة ، وإذاعة الشبهات حوله ، فلما وجدوا ذلك قد زاد المسلمين تمسكاً بإسلامهم لجأوا إلى هذا الباب الماكر فقالوا : إن الشيوعية لا تتعارض مع الإسلام ، فهي في صميمها عدالة اجتماعية ، وكفالة من الدولة لكل أفراد الشعب ، فهل يكره الإسلام العدالة الاجتماعية ؟ !
نفس الطريقة الماكرة التي اتبعها الاستعمار الغربي من قبل . بدأوا بمهاجمة الإسلام ، فتنبه المسلمون وتيقظوا . ولم يكن ذلك هو المطلوب . فلجأوا إلى الطريق الآخر ، وقالوا للناس إن الغرب لا يهمه سوى إدخال " الحضارة " في الشرق . فهل الإسلام يكره الحضارة وهو أبو الحضارة ؟ !
تستطيعون أن تظلوا مسلمين - أي تصلوا وتصوموا وتقيمون الأذكار والطرق الصوفية - وتأخذوا في ذات الوقت بالحضارة الغربية . وكانوا يعلمون علم اليقين أنه حين يأخذ المسلمون بهذه الحضارة فلن يظلوا مسلمين ، وستطويهم تلك الحضارة الزائفة في أجيال قليلة فإذا هم على غير وعي منهم مستعبدون . وكذلك كان … ونشأت أجيال لا تعرف الإسلام بل تنفر منه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
واليوم يكرر الشيوعيون نفس الخدعة . فلتظلوا أيها المسلمون في إسلامكم - تصلون وتصومون وتقيمون الأذكار والطرق الصوفية - ولن نتعرض لعقائدكم . كل همنا هو إدخال الشيوعية الإقتصادية ، وهي قطعة من صميم الإسلام تبلورت على يد علماء أوربا وشعوبها فلتتقبلوها مطمئنين ! وإنهم ليعلمون علم اليقين أن المسلمين إن أخذوا بالشيوعية فلن يظلوا مسلمين ، وستطويهم الشيوعية في سنوات قليلة ( فنحن في عصر السرعة ) فإذا هم على غير وعي منهم منحرفون عن الإسلام منسلخون .
ومع ذلك فكثير من " المسلمين " تستهويهم هذه الخدعة الماكرة . لأنها تمثل لهم حلاً مريحاً ينقذهم من المشاكل ، ويريحهم من البحث والاستنباط وجهد البناء ، وهم قاعدون يحلمون ، كما يحلم السابحون في الملكوت على دخان الحشيش وانسجام الأفيون !
* * *
ونحب أن نقرر من حيث المبدأ أن الأصول الإسلامية العامة تقبل أن ينشأ على أساسها أي نظام تطبيقي يلبي الحاجات المتجددة للجماعة الإسلامية ما دام لا يخالف هذه الأصول .
ولكن الأمر الواقع أن الشيوعية لا تلتقي مع الأصول الإسلامية وإن التقت معها عرضاً في بعض جزئياتها ، وأنه لا يستطيع مجتمع مسلم ، يملك النظام الأفضل ، وأن يعدل عنه إلى الشيوعية أو غيرها من النظم كالرأسمالية أو الاشتراكية المادية ، ولو شابهته في بعض التفصيلات ، لأن الله يقول له صراحة : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " .
ولم يقل : ومن لم يحكم بمثل ما أنزل الله أو بشبيه بما أنزل الله !
* * *
وهل نستطيع حقاً أن نكون شيوعيين ثم نظل مسلمين ؟
إننا إذا طبقنا الشيوعية - الاقتصادية كما يسمونها - فلا بد أن تصطدم مع الإسلام من الوجهة التصورية والوجهة العملية كلتيهما ، ولا مناص من هذا الاصطدام .
فأما من الوجهة التصورية فهناك عدة أمور :(3/114)
الأمر الأول : أن الشيوعية قائمة على فلسفة مادية بحتة . لا تؤمن إلا بما تراه الحواس فقط . وكل مالا تدركه الحواس فهو خرافة لا وجود لها ، أو على الأقل شيء ساقط من الحساب . يقول انجلز " إن حقيقة العالم تنحصر في ماديته " ويقول الماديون : " إن العقل ما هو إلا مادة تعكس الظواهر الخارجية " ويقولون كذلك إن ما يسمونه الروح " ليست جوهراً مستقلاً وإنما هي من نتاج المادة " . وهكذا نعيش مع الشيوعية في جو مادي خالص يسخر بالروحانيات ويعتبرها حقائق غير علمية ! والعقيدة الإسلامية تأبى أن تنحصر في هذا المحيط الضيق الذي يهبط بكرامة الإنسان ، و يحوله من كائن رفيع يسير على الأرض بجسمه وهو يتطلع إلى السماء بروحه وفكره ، إلى مخلوق مادي حيواني كل همه إشباع " المطالب الأساسية " التي حددها كارل ماركس بالغذاء والمسكن والإشباع الجنسي ! ولا يقولنّ أحد : إننا غير مقيدين بهذه الفكرة المادية ، ولا ملزمين بها إذا أخذنا الاقتصاد الشيوعي ، إذ ستظل لنا عقائدنا ، وإلهنا ورسلنا ، وروحانياتنا ، والاقتصاد كيان منفصل عن كل هؤلاء . لا يقولن ذلك أحد ، لأن الشيوعيين أنفسهم هم الذين قرروا استحالة ، إذا ربطوا ربطاً وثيقاً بين النظام الاقتصادي وبين العقائد والأفكار والفلسفات المصاحبة له ، على أساس أن النظام الاقتصادي هو الذي ينشىء العقائد والأفكار والفلسفات ، وإذن فلا يمكن لنظام اقتصادي قائم على فلسفة مادية صريحة ( كما يقرر إنجلز وماركس ) أن ينشىء فلسفة روحية أو ينسجم مع فلسفة روحية .
والشيوعيون – مثلاً - يؤمنون بالمادية الجدلية ، وبأن صراع المتناقضات هو وحده العنصر الكامن وراء التطور الاقتصادي والبشري ، من الشيوعية الأولى إلى الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية الثانية والأخيرة ، ويقرنون قيام الشيوعية الاقتصادية بصحة هذا المنطق الجدلي ، ويربطون ربطاً " علمياً " بين هذا وذاك . وهذه المادية الجدلية لا مكان فيها لتدخل الله في خط سير البشرية ، ولا مكان للرسل و رسالاتهم . لأن هذه الرسالات - في وهمهم - لا يكن أن تجيء سابقة للتطور الاقتصادي ولا منشئة له ، وإنما هي تجيء فقط في مكانها المرسوم من هذا التطور ، وبهذا تفقد قيمتها التوجيهية من وجهة النظر الإسلامية . وفضلاً عن ذلك فهذه المادية الجدلية التي تحصر أسباب كل التطورات البشرية في تغير وسائل الإنتاج تعجز عن تفسير ظهور الإسلام ذاته . فأي شيء كان قد تغيّر في وسائل الإنتاج في الجزيرة العربية أو في العالم أجمع قبل الإسلام ، فكان من نتيجته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بنظامه الجديد ؟ !
كيف إذن يمكن التوفيق بين هذه النظرة وتلك ؟ وكيف لا تتأثر عقائد المسلمين الذين يؤمنون برعاية الله لخلقه ، وإرشاده لهم على يد رسله ، وبأن الإسلام لم يكن خاضعاً للضرورات الاقتصادية .. كيف لا تتأثر عقائدهم حين نأخذ بنظام اقتصادي نقول في كل مرحلة من مراحل تطوره إنه يتطور حسب صراع المتناقضات الذي لا مجال فيه لله ، ولا محرك له غير الضرورات الاقتصادية ؟ !
والأمر الثاني : أن الإنسان في عرف الفلسفة الشيوعية كائن سلبي لا إرادة له إزاء قوة المادة وقوة الاقتصاد . يقول كارل ماركس : " في الإنتاج الاجتماعي الذي يزاوله الناس تراهم يقيمون علاقات محدودة لا غنى عنها . وهي مستقلة عن إرادتهم . ليس شعور الناس هو الذي يعين وجودهم ، ولكن وجودهم هو الذي يعين مشاعرهم " .
والإنسان في عرف الإسلام كائن إيجابي له إرادة - خاضعة بطبيعة الحال لإرادة الله - يقول القرآن : " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ( ) " فيقرر أن الإنسان هو القوة العليا في الأرض ، وأن القوى المادية والاقتصادية مسخرة لإرادته ، وليس هو المسخر لإرادتها . ومصداق ذلك هو الإسلام ذاته . فهو لا يسير حسب التطور الحتمي الذي يرسمه مبدأ المادية الجدلية . وحين كان الناس مسلمين - في صدر الإسلام - لم يشعروا أن التطور الاقتصادي قوة جبرية تخضعهم لها وهي " مستقلة عن إرادتهم " كما يقول ماركس . وإنما أحسوا أنهم هم يصنعون الاقتصاد كما وجههم الله على يد رسوله ، وهم ينشئون العلاقات الاجتماعية على هدي الإسلام ، فيحررون الرقيق بغير موجب اقتصادي يحتم عليهم تحريره ويحولون دون الإقطاع مع أنه ظل قائماً مئات السنين في أوربا وفي غير العالم الإسلامي .
وحين نأخذ الاقتصاد الشيوعي ، فسنأخذ معه – حتماً - تلك الفلسفة التي تجعل الإنسان مترقباً للتطور الاقتصادي يأخذ سبيله " مستقلاً عن إرادة الناس " ولا يسعى ولا يفكر في تغييره بإرادته - أو بإرادة الإسلام - لأن هذا مستحيل !(3/115)
والأمر الثالث هو ما أسلفناه في فصل " الملكية الفردية " من إستحالة الفصل بين أي نظام اقتصادي والفلسفة الاجتماعية الكامنة وراءه . فحين نأخذ الاقتصاد الشيوعي لا بد أن نأخذ معه الفلسفة الاجتماعية التي تقوم على أساس أن المجتمع هو الأصل والفرد لا كيان له إلا باعتباره فرداً في القطيع . وذلك مخالف في أساسه للتربية الإسلامية التي تعنى عناية شديدة بالفرد ، وتكل إليه - بعد تهذيب ضميره - القيام بتبعات المجتمع وهو شاعر أنه جزء حي مريد موجه ، يختار عمله بنفسه ، ويختار المكان الذي يعمل فيه ، ويملك حرية توجيه الحاكم والخروج عليه إذا خرج هذا الحاكم عن شرع الله . والإسلام - بهذه التربية الفردية داخل رقابة المجتمع - يقيم من كل فرد حارساً أخلاقياً يرعى أخلاق المجتمع ويحول دون وقوع المنكر فيه . وهو مالا يمكن - نفسياً وعملياً - أن يحدث حين يصبح الفرد ذرة تائهة في كيان المجتمع ، يطيع الدولة في شئون الاقتصاد ، ثم يطيعها - تبعاً لذلك - في جميع الأمور .
والأمر الأخير أن الفلسفة الشيوعية قائمة على أن العامل الاقتصادي هو الوحيد ، أو هو على الأقل صاحب الأولوية المطلقة في تصريف شئون المجتمع وإقامة علاقاته .
والعقلية الإسلامية لا تنكر أهمية الاقتصاد ، ولا ضرورة إقامة المجتمع على أسس اقتصادية سليمة ، ليمكن إقامة الفضائل الخلقية والاجتماعية فيه ولكنها مع ذلك لا تؤمن بأن الحياة كلها اقتصاد . ولا أن الحلول الاقتصادية تحل كل مشاكل المجتمع .
فهذان – مثلاً - شابان قد سوينا بينهما في الوضع الاقتصادي . ولكن أحدهما غارق - بطبيعة مزاجه - في الشهوات لا يكاد يفيق منها ، ولا يملك منها قياد نفسه ، والآخر مترفع يأخذ نصيبه المعقول من المتاع وينفق ما تبقى من طاقة في الآفاق العليا من علم أو فن أوعقيدة . هل يستويان مثلاً ؟ وهل تستقيم الحياة بهذا كما تستقيم بذاك ؟
وهذا رجل له شخصية ، يقول فيستمع له الناس وينفذون توجيهاته ، وآخر لا شخصية له هو سخرية أصحابه . هل يحل الاقتصاد مشكلة هذا الأخير ؟ وهل تستقيم الحياة بهذا كما تستقيم بذاك ؟
وهذه امرأة جميلة وأُخرى عاطلة من الجمال . هل يحل الاقتصاد مشكلتها ؟ وهل تستقبل الحياة كما تستقبلها الأخرى ؟
ومن هنا تهتم العقلية الإسلامية بالقيم الأخرى - غير الاقتصادية - وخاصة القيم الخلقية ، لإيمانها بأن في الحياة قيماً غير اقتصادية في جوهرها ، وأنها تحتاج إلى مجهود إيجابي لتنظيمها لا يقل عن المجهود الموجه لتنظيم الاقتصاد . وتهتم بإيجاد صلة دائمة بين العبد والرب ، لأن هذه هي الوسيلة المثلى لتثبيت القيم الخلقية ، ورفع الناس من عالم الضرورة وما يدور فيه من خصومات وأحقاد ، إلى عالم طليق يغلب فيه الخير والمودة .
ومن جهة أخرى تؤمن العقلية الإسلامية بأن الطاقة الروحية في الإنسان طاقة ثمينة كبيرة الأثر في الحياة البشرية ، وأنها حين توجه إليها العناية ويبذل الجهد في تربيتها ، لا تقل أثراً عن العوامل الأخرى مجتمعة ، بما فيها العامل الاقتصادي . بل قد تكون أحياناً من الضخامة بحيث ترجح تلك القوى جميعاً . ويجد المسلمون في تاريخهم مصداق هذه الحقيقة في موقف رجل مثل أبي بكر من الردة ، فقد وقف وحده مصراً على قتال المرتدين ، والمسلمون جميعاً بما فيهم عمر بن الخطاب ذاته لا يؤيدونه في موقفه . فعلى أية قوة كان يعتمد ؟ القوة المادية ؟ قوة الاقتصاد ؟ القوة البشرية ذاتها ؟ كل ذلك يخذله عن القتال . ولكن القوة الروحية العجيبة التي وصلت روح أبي بكر بخالقه فاستمد منه العون والعزم ، هي وحدها التي حولت المتخاذلين إلى متحمسين ، وحولت قوة المشاعر إلى قوة مادية واقتصادية لا مثيل لها في التاريخ ! كما يجدون مصداقها في موقف رجل مثل عمر بن عبد العزيز من الظلم السياسي والاجتماعي الذي بدأه بنو أمية ، فقد وقف في وجه هذا الظلم ورد الأمور إلى نصابها كما ينبغي أن تكون في المجتمع المسلم ، حتى حدثت في عهده معجزة اقتصادية تاريخية ، هي وجود مجتمع ليس فيه فقراء .
لذلك تهتم العقلية الإسلامية بالطاقة الروحية لأنها لا تحب أن تضيع على البشرية فرصة الاستفادة من معجزاتها ، وإن كانت في الوقت ذاته لا تنفض يدها من العمل في حدود الطاقة " الواقعية " انتظاراً لتلك المعجزات . وإنما يكون شعارها دائماً : " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
وليس في طوق الإنسان أن يصرف اهتمامه إلى الشئون الاقتصادية على الطريقة الشيوعية ، ثم تبقى لديه الطاقة أو الاهتمام الذي يوجهه للقيم الخلقية والجوانب الروحية . لأن " التضخم الاقتصادي " الذي تعنيه الشيوعية ، هو كالتضخم الذي يصيب بعض أجزاء الجسم كالقلب أو الكبد . فلا العضو المتضخم يؤدي وظيفته كاملة ، ولا هو يدع بقية الأعضاء تؤدي وظيفتها على الوجه الصحيح .
* * *(3/116)
وأنا أعلم أن البعض قد ضجروا من هذا العرض الذي قدمناه للجانب الفكري من الإسلام والشيوعية ، لأنهم لا يؤمنون بالمسائل النظرية ، ويحسبونها " دردشة " فارغة ، أو يحسبون أن المسائل العملية وحدها هي التي تستحق العناية ، وأن كل شيء يمكن تسويته إذا أمكن التطبيق العملي ، ولذلك فهم يتلهفون إلى معرفة الاصطدام العملي بين الإسلام والشيوعية .
ونحن لا نقرهم على الاستهانة بالجانب النظري أو التصوري ، لأنه لا انفصال بينه وبين الجانب العملي ، ولكنا مع ذلك نجيبهم إلى ذكر أوجه الخلاف العملية . وهي كذلك تشتمل على عدة أمور .
الأمر الأول : أن الإسلام يعتبر الوظيفة الأولى للمرأة هي رعاية الإنتاج البشري . ولا يستريح إلى خروجها من مملكتها إلى المصانع والمزارع إلا في حالة الضرورة . والضرورة هي عدم وجود عائل يكفلها سواء أكان أباً أم أخاً أم زوجاً أم قريباً .
ولكن الشيوعية - الاقتصادية - تحتم اشتغال المرأة ساعات كاملة كالرجل سواء . وبصرف النظر عن حماقة الفلسفة الشيوعية في هذا الباب ، وإنكارها للتفرقة بين الرجل والمرأة في الوظيفة والكيان النفسي ، فإن الاقتصاد الشيوعي ذاته قائم على أساس زيادة الإنتاج المادي إلى الحد الأقصى ، وهذا لا يتوفر إلا باشتغال جميع أفراد الشعب في المصانع والمعامل والمزارع ، وعدم احتجاز المرأة عن العمل إلا في شهور الولادة فقط . والمحاضن بعد ذلك تتولى الإشراف على الأطفال على طريقة الإنتاج الكبير Mass Production ( ) .
فإذا طبقنا الشيوعية الاقتصادية فستخرج المرأة ـ كل امرأة ـ للعمل . ونخرج بذلك عن ركن ركين من التصور الإسلامي الذي يقيم كل نظامه الاجتماعي والخلقي - والاقتصادي أيضاً - على أساس اختصاص المرأة بشئون الأسرة الداخلية ، وإختصاص الرجل بشئونها الخارجية ، توزيعاً للعمل ومراعاة للاختصاص ( ) . فإذا قال قائل : ليس من الضروري أن تعمل المرأة في المصنع ، فقد خرج إذن من الشيوعية ( والذي يقول ذلك هم الشيوعيون أنفسهم لا نحن ) وأصبحت المسألة مجرد زيادة الإنتاج ، وهو هدف حيوي أصيل دون شك ، ولكنه لا يحتاج إلى اعتناق الشيوعية - الاقتصادية - لأن الشيوعية ذاتها قد تعلمت زيادة الإنتاج من أوربا الرأسمالية ( ) . وقيام حكم إسلامي لن يمنع استخدام أحدث الوسائل لزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي دون حاجة إلى عمل المرأة في المصنع .
والأمر الثاني : أن النظام الاقتصادي الشيوعي قائم على الدكتاتورية الكاملة . فالدولة هي التي تعين الأعمال ، وتوزع عليها العمال حسبما ترى هي بصرف النظر عن رغبة العامل في نوع العمل أو المكان الذي يشتغل فيه ، وهي التي ترسم السياسة العامة وتجبر الناس على تنفيذها ، ولا يتم هذا إلا بأن تصبح الدولة هي المشرف الوحيد على جميع الأعمال والأفكار والأقوال والاجتماعات والتوجيهات ، لأن الحرية لو تركت في جانب ، فستصل حتماً إلى حرية نقد النظام أو نقد الحاكم وهو ما لا تسمح به الدولة بحال . ويجب أن نفرق هنا بين دكتاتورية الحاكم ودكتاتورية الدولة . فقد يكون الحاكم ذاته رجلاً متواضعاً لا يستبد بالرأي ، ولكن هذا لا علاقة له بدكتاتورية الدولة في تسيير النظام الاقتصادي والإشراف عليه بالقوة . وهو ما تعترف به الشيوعية صراحة في تسميتها نظام الحكم " بدكتاتورية البروليتاريا " .
يضاف إلى هذا كله أن الشيوعية نظام لا يزال يتخبط . فقد بدأ بإلغاء الملكيات جميعاً وتسوية الأجور بين العمال جميعاً . ثم وجد تحت ضغط الواقع أنه يحسن السماح بقدر معين من الملكية الفردية ، وقدر من التفاوت في الأجور حسب همة العمال . فارتد بذلك عن مبدأين أساسيين من مبادئ ماركس ، واقترب خطوتين من التصور الإسلامي ! فكيف يجوز لنا أن نترك الأصل الذي ترجع إليه البشرية كلما جربت تجربة جديدة ، لنلحق بقطار متخبط، مهما تكن السرعة الخاطفة التي ينهب بها الطريق ؟
لا يصنع هذا شخص في رأسه عقل ولا في نفسه ثقة بكيانه . إنها الهزيمة الداخلية تتخذ صوراً شتى ومبررات شتى . ولكنها هزيمة لا يقدم عليها إلا الضعفاء والخائرون
(محمد قطب)
==================
كيف السبيل إلى تحقيق الإسلام ؟
آمنّا بأن الإسلام خير نظام على الأرض . وبأن موقعنا التاريخي والجغرافي والدولي يجعل الإسلام هو طريقنا الوحيد إلى العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية . ولكن كيف السبيل إلى تحقيق الإسلام اليوم في عالم معاد للدعوة الإسلامية ، وفي حكم طغاة من الحكام يحاربون الإسلام في الداخل كما يحاربه أعداؤه في الخارج أوهم أشد قسوة ؟ !
" كيف السبيل " ؟ ؟
إنه لن توجد إلا سبيل واحدة لكل دعوة على الأرض… الإيمان !
لن يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح به أوله …(3/117)
إننا نواجه اليوم نفس الموقف الذي كان يواجهه المسلمون الأوائل في صدر الإسلام . كان المسلمون حفنة قليلة ، وكانوا يواجهون أكبر إمبراطوريتين في ذلك التاريخ : الإمبراطورية الرومانية عن شمال ، والإمبراطورية الفارسية عن يمين . وكانت موارد الإمبراطوريتين من الرجال والعتاد والأموال والفنون الحربية والخبرة العسكرية والسياسية أضعاف ما يقدر عليه المسلمون .
ومع ذلك فقد وقعت المعجزة .
وكانت أعجب معجزة في التاريخ . فقد تغلبت هذه الحفنة القليلة من المسلمين على إمبراطوريتي كسرى وقيصر ، وقضت عليهما تماماً في أقل من نصف قرن ، وورثت ملكهما ، وبسطت يدها على عالم يمتد من المحيط إلى المحيط !
فكيف حدث ذلك ؟
لن تستطيع كل التفسيرات المادية والاقتصادية للتاريخ أن تفسر كيف حدث ذلك . ولكن شيئاً واحداً يمكن أن يفسره .. الإيمان .
الإيمان الذي كان يدفع الرجل من أولئك أن يقول : أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل هذا الرجل أو يقتلني ؟ ثم يندفع إلى القتال كأنه مقبل على عرس . أو يقول : " هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ؟ " الشهادة أو النصر ؟ ثم يلقي بنفسه في المعركة ليلقى إحدى الحسنيين
تلك هي السبيل . ولا سبيل غيرها لكل دعوة على الأرض .
وإن قوماً ليقولون وهم مخلصون ، أو يقولون وهم متخاذلون : السلاح ! أين السلاح ؟
نعم نحتاج إلى سلاح . ولكن يجب ألا يفوتنا أن حاجتنا الأولى ليست إلى السلاح ، وأن السلاح وحده لا يغني . لقد كان الطليان في الحرب السابقة يملكون أسرع الأسلحة وأفتكها ، ومع ذلك لم ينتصروا أبداً ولم يصمدوا في معركة . كانوا يتسابقون إلى الفرار ، ويمنحون أسلحتهم لمن يمنحهم نعمة الوقوع في الأسر !
لم يكن ينقصهم السلاح وإنما كان ينقصهم الإيمان ، والروح المعنوية .
ولنذكر أيضاً أن بضعة من الفدائيين في القنال لم يكن يزيد عددهم على مائة ، ولم يكن ينزل في أي ليلة منهم أكثر من خمسة أو ستة ، قد أزعجوا الإمبراطورية العجوز ، فلجأت إلى الرحيل .
لم يكونوا يملكون أسلحة فتاكة . لا مدافع ثقيلة ولا طيارات ولا دبابات . بل مسدسات وبنادق ومدافع سريعة الطلقات . ولكنهم كانوا يملكون ما هو أفتك من السلاح . كانوا يملكون الإيمان . كانوا يعيشون بروح تلك الحفنة القليلة من المسلمين الأوائل . يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون . ولذلك أزعجوا الإمبراطورية العجوز .
وما يقول أحد إن الطريق أمامنا مفروش بالزهور .
كلا . إن أمامنا العرق والدماء والدموع . ولا بد لكل دعوة من تضحية . ولا بد للنصر من تضحيات . وإن الهدف الذي ننصبه أمامنا : هدف العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية ، لجدير بأن تبذل في سبيله التضحيات .
وهي على أي حال لن تزيد على التضحيات التي نبذلها ، والتي يطلب منا أن نبذلها في الهوان والفقر والتعاسة والتشريد .
كم بذلت شعوب هذه المنطقة في الحرب السابقة ؟ كم ألفاً قتلوا تحت سيارات المجرمين من جنود الحلفاء ؟ كم عرضاً انتهك ؟ كم من المؤن والأقوات سلب بلا مقابل ؟ .. ثم ؟ ثم طلع علينا تشرشل يقول : حميناكم فادفعوا ثمن الحماية .
وبالأمس كان الغرب يريد أن تدخل هذه الشعوب في حلف للدفاع المشترك . يريد أن يجند منها نصف مليون لتجرب فيه الأسلحة الفتاكة قبل أن تصل إلى " الرجل الأبيض " من الأمريكان والإنجليز . ويسلبوا أقواتها ويعتدوا على أعرضها . ثم ؟ ثم يركلوها بأقدامهم في نهاية المعركة سواء كسبوا أو كانوا من الخاسرين .
فإذا لم يكن من الموت بد ، فلماذا يموت الناس في سبيل الذل والهوان ؟
نصف مليون يموت في سبيل " الحلفاء "…
حين يموت نصف مليون في سبيل الإسلام ، فلن يبقى طاغية واحد في الأرض المقدسة ، ولن يبقى استعمار صليبى على وجه الأرض .
تلك هي السبيل …
وإن قوماً لينزعجون على الإسلام من انتشار الشيوعية .. فما الذي يزعجهم ؟
إن الوضع لن يتغير بالنسبة إلى الإسلام . فالعالم الذي تكتسحه الشيوعية اليوم هو العالم الصليبي ، الذي كان دائماً يناصب الإسلام العداء .
روسيا ذاتها التي بدأت فيها الشيوعية هي التي كانت من قبل تؤلب الطوائف على الدولة المسلمة لتوقع فيها الفتن والاضطرابات ، فما الذي تغير ؟ وأوربا هي مهد الصليبية الأولى وما تزال . فما الذي تغير ؟
كلا ! لم يتغير شيء .
وإن موقفنا اليوم لهو ذاته موقف المسلمين الأوائل من الإمبراطوريتين الكبيرتين عن شمال وعن يمين .
أما الحكام الطغاة في داخل العالم الإسلامي فمآلهم إلى الزوال …
من كان يصدق أن فاروق الطاغية سيخلع عن العرش ؟
وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرة ومرة ..
وهذا الوعي الإسلامي الذي يطلب العدالة الاجتماعية عن طريق الإسلام ، ولا يطلبها عن طريق التبعية والذوبان في الكتلة الشرقية أو الغربية ليس عبثاً .(3/118)
والإسلام سائر في طريق القوة - على الرغم من الضربات الوحشية التي تكال له في كل مكان - لأن طبائع الأشياء كلها تؤذن بمولد الإسلام من جديد ، لأن له اليوم دوراً في حياة البشرية لا يقل ضخامة ولا قوة عن دوره الأول في صدر الإسلام .
دور التبشير بعالم جديد لا تحكمه المادة ولا يستعبده النزاع على الاقتصاد ، عالم يحكمه مزيج من المادة والروح يجتمعان في نظام . وإن العالم الذي أغرق في المادة فلم تشبع روحه ، ولم تبعث الاستقرار إلى نفسه ، بل أوقعته في صراع دائم مرير … لا بد أن يفيء ذات يوم إلى نظام لا يهمل عالم المادة ولكنه لا يغفل عالم الروح . لا بد أن يفيء إلى الإسلام .
أما نحن فلن يكون طريقنا مفروشاً بالزهور . ولابد من تضحيات كثيرة كتلك التي بذلها المسلمون الأوائل ليقنعوا العالم بما في الإسلام من خير . ولكنها تضحيات مضمونة في الأرض والسماء : " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " صدق الله العظيم .
=====================
إبطال إدعاء الغرابة في كلام القرآن الكريم
شبهات حول الإسلام
فى القرآن كثير من الكلمات الغريبة ، وهاكم بعضاً منها: فاكهةً وأبًّا ، غسلين ، حنانا ، أوَّاه ، الرقيم ، كلالة ، مبلسون ، أخبتوا ، حنين ، حصحص ، يتفيؤا ، سربا ، المسجور ، قمطرير ، عسعس ، سجيل ، الناقور ، فاقرة استبرق ، مد هامتان..
ونحن نسأل: أليست هذه الألفاظ الغريبة مخالفة للسليم من الإنشاء.. ؟!
• الرد على الشبهة:
لا وجود فى القرآن لكلمة واحدة من الغريب حقّا ، كما يعرفه اللغويون والنقاد.
فالغريب ـ الذي يعد عيباً فى الكلام ، وإذا وجد فيه سلب عنه وصف الفصاحة والبلاغة ـ هو ما ليس له معنى يفهم منه على جهة الاحتمال أو القطع ، وما ليس له وجود فى المعاجم اللغوية ولا أصل فى جذورها.
والغريب بهذا المعنى ليس له وجود فى القرآن الكريم ، ولا يحتج علينا بوجود الألفاظ التي استعملت فى القرآن من غير اللغة العربية مثل: إستبرق ، وسندس ، واليم ، لأن هذه الألفاظ كانت مأنوسة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن ، وشائعة شيوعاً ظاهراً فى محادثاتهم اليومية وكتاباتهم الدورية.
وهى مفردات وليست تراكيب. بل أسماء مفردة لأشخاص أو أماكن أو معادن أو آلات.
ثم إنها وإن لم تكن عربية الأصل ، فهي ـ بالإجماع ـ عربية الاستعمال. ومعانيها كانت ـ وما تزال ـ معروفة فى القرآن ، وفى الاستعمال العام.
ومنها الكلمات التي ذكروها مما هو ليس عربيّا ، مثل:غسلين ، ومعناها: الصديد ، أي صديد أهل النار ، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق ، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذي يُغسَل به الأدران. أما بناؤه على: فعلين فظاهر أنه للمبالغة. ومثل: " قمطريرا " ومعناها: طويلاً ، أو شديداً. ومثل: " إستبرق " ومعناها: الديباج. وهكذا كل ما فى القرآن من لغة غير عربية الأصل فهي عربية الاستعمال بألفاظها ومعانيها. وكانت العرب تلوكها بألسنتها قبل نزول القرآن.
واستعارة اللغات من بعضها من سنن الاجتماع البشرى ودليل على حيوية اللغة. وهذه الظاهرة فاشية جدّا فى اللغات حتى فى العصر الحديث. ويسميها اللغويون بـ " التقارض " بين اللغات ، سواء كانت لغات سامية أو غيرها كالإنجليزية والألمانية والفرنسية وفى اللغة الأسبانية كلمات مستعملة الآن من اللغة العربية.
أما ما اقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة ، وأسموه بـ " المعرَّب " مثل كتاب العلامة الجواليقى ، وقد يسمونه بـ " الدخيل " هذا بالنسبة لما ذكروه من الكلمات غير العربية الأصل ، التي وردت فى القرآن الكريم.
أما بقية الكلمات فهي عربية الأصل والاستعمال ولكن مثيري هذه الشبهات قوم يجهلون فكلمة " حنان " لها جذر لغوى عربي ، يقال: حنَّ ، بمعنى. رق قلبه ومال إلى العطف على الآخرين. والمضارع: يحن والمصدر: الحنان والحنين ، وقد يستعملان استعمال الأسماء.
ومنه قول الشاعر:
حننت إلى ريَّا ونفسك باعدت * مزارك من رياء ونفساكما معا
وأما " أوَّاه " فهو اسم فاعل من " التأوُّه " على صيغة المبالغة " فعَّال ".
وكذلك " حصحص " ومعناه: ظهر وتبيَّن.
ومنه قول الشاعر العربي القديم:
من مُبْلغٌ عنى خِداشاً فإنه * كذوب إذا ما حصحص الحق كاذب
أما الناقور فهو اسم من " النقر " كالفاروق من الفراق.
وحتى لو جارينا هؤلاء الحاقدين ، وسلمنا لهم جدلاً بأن هذه الكلمات غريبة ؛ لأنها غير عربية ، فإنها كلمات من " المعرَّب " الذي عرَّبه العرب واستعملوه بكثرة فصار عربيّا بالاستعمال. ومعانيه معروفة عند العرب قبل نزول القرآن. وما أكثر الكلمات التي دخلت اللغة العربية ، وهجر أصلها وصارت عربية. فهى إذن ـ ليست غريبة ، لأن الغريب ما ليس له معنى أصلاً ، ولا وجود له فى المعاجم اللغوية ، التى دونت فيها ألفاظ اللغة.
* * *(3/119)
قد يقال: كيف تنكرون " الغريب " فى القرآن ، وهو موجود باعتراف العلماء ، مثل الإمام محمد بن مسلم بن قتيبة العالم السني ، فقد وضع كتاباً فى " غريب القرآن " وأورده على وفق ما جاء فى سور القرآن سورة ؟
وكذلك صنع السجستانى وتفسيره لغريب القرآن مشهور.
ومثله الراغب الأصفهانى فى كتابه " المفردات " فى شرح غريب القرآن.
ثم الإمام جلال الدين السيوطى ، العالم الموسوعي ، فله كتاب يحمل اسم " مبهمات القرآن ".
ألا يُعد ذلك اعترافاً صريحاً من هؤلاء الأئمة الأفذاذ بورود الغريب فى القرآن الكريم ؟ ومن العلماء المحدثين الشيخ حسنين مخلوف ، مفتى الديار المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين ، وكتابه " كلمات القرآن لا يجهله أحد ".
إن جميع مفسري القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريباً فى القرآن. فكيف يسوغ القول ـ الآن ـ بإنكار وجود الغريب فى القرآن أمام هذه الحقائق التي لا تغيب عن أحد ؟
من حق غير الملم بفقه هذه القضية ـ قضية الغريب ـ أن يسألوا هذا السؤال ، ومن واجبنا أن نجيب عليه إجابة شافية وافية بعون الله وتوفيقه.
والجواب:
هذا السؤال جدير بأن نستقصى جوانب الإجابة عليه لوجاهته وأهميته. فنقول مستمدين الهداية والتوفيق من الله العلى الحكيم.
فأولاً: إن الغريب الذي نسب فى كتب العلماء ـ رضي الله عنهم ـ إلى القرآن ، إنما هو غريب نسبى وليس غريباً مطلقاً.
فالقرآن فى عصر الرسالة ، وعصر الخلفاء الراشدين كان مفهوماً لجميع أصحاب رسول. صلى الله عليه وسلم ولم يرد فى رواية صحيحة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب عنهم فهم ألفاظ القرآن من حيث الدلالة اللغوية البحتة ، وكل ما وردت به الرواية أن بعضهم سأل عن واحد من بضعة ألفاظ لا غير. وهى روايات مفتقرة إلى توثيق ، وقرائن الأحوال ترجح عدم وقوعها ، والألفاظ المسئول عنها هي:
غسلين ، قسورة ، أبّا ، فاطر ، أوَّاه ، حنان. وقد نسبوا الجهل بمعاني هذه الكلمات إما إلى عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، وإما إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، وكلا الرجلين أكبر من هذه الاتهامات.
ومما يضعف إسناد الجهل إلى عمر رضي الله عنه ، بمعنى كلمة " أبًّا " أن عمر كما تقول الرواية سأل عن معناها فى خلافته ، مع أن سورة " عبس " التي وردت فيها هذه الكلمة من أوائل ما نزل بمكة قبل الهجرة ، فهل يُعقَلُ أن يظل عمر جاهلا بمعنى " أبًّا " طوال هذه المدة (قرابة ربع قرن) ؟
أما ابن عباس رضي الله عنه فإن صحت الرواية عنه أنه سأل عن معاني " غسلين " و " فاطر " فإنه يحتمل أنه سأل عنها فى حداثة سنه. ومعروف أن ابن عباس كان معروفاً بـ " ترجمان القرآن " ومعنى هذا أنه كان متمكناً من الفقه بمعاني القرآن ، وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له قائلاً: [اللهم فقهه فى الدين ، وعلمه التأويل].
هذا فيما يتعلق بشأن الروايات الواردة فى هذا الشأن.
أما فيما يتعلق بالمؤلفات قديماً وحديثاً حول ما سمي بـ " غريب القرآن " فنقول:
إن أول مؤلف وضع فى بيان غريب القرآن هو كتاب " غريب القرآن " لابن قتيبة (فى القرن الثالث الهجرى) وهذا يرجح أن ابن قتيبة ، لم يكتب هذا الكتاب للمسلمين العرب ، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التي دخلت فى الإسلام ، وكانوا يتحدثون لغات غير اللغة العربية.
أما مسلمو القرنين الأول والثاني الهجريين ، والنصف الأول من القرن الثالث ، فلم يكن فيها ـ فيما نعلم ـ كتب حول بيان غريب القرآن ، سوى تفسير عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، وكتاب " مجازات القرآن " لأبى عبيدة معمر بن المثنى (م 210هـ) وهما أعنى تفسير ابن عباس ، ومجازات أبى عبيدة ، ليسا من كتب الغريب ، بل هما: محاولتان مبكرتان لتفسير القرآن الكريم مفردات وتراكيب (1).
ولما تقادم الزمن على نزول القرآن ، وضعف المحصول اللغوي عند الأجيال اللاحقة ، قام بعض العلماء المتأخرين ـ مثل: الراغب الأصفهانى ، صاحب كتاب " مفردات القرآن " ، وجلال الدين السيوطى ، صاحب كتاب " مبهمات القرآن " ـ بوضع كتب تقرب كتاب الله إلى الفهم ، وتقدم بيان بعض المفردات التى غابت معانيها واستعمالاتها عن الأجيال المتأخرة.
وهذا يسلمنا إلى حقيقة لاحت فى الأفق من قبل ، نعيد ذكرها هنا فى الآتي:(3/120)
إن ما يطلق عليه " غريب القرآن " فى بعض المؤلفات التراثية ومنها كتب علوم القرآن ، وما تناوله مفسرو القرآن الكريم فى تفاسيرهم ، هو غريب نسبى لا مطلق ، غريب نسبى باعتبار أنه مستعار من لغات أخرى غير اللغة العربية ، أو من لهجات عربية غير لهجة قريش التي بها نزل القرآن وغريب نسبى باعتبار البيئات التي دخلها الإسلام ، وأبناؤها دخلاء على اللغة العربية ، لأن لهم لغاتٍ يتحدثون بها قبل دخولهم فى الإسلام ، وظلت تلك اللغات سائدة فيهم بعد دخولهم فى الإسلام وغريب نسبى باعتبار الأزمان ، حتى فى البيئات العربية ، لأن الأجيال المتأخرة زمناً ضعفت صلتهم باللغة العربية الفصحى مفردات وتراكيب. وكل هذه الطوائف كانت ، وما تزال ، فى أمس الحاجة إلى ما يعينهم على فهم القرآن ، وتذوق معانيه ، والمدخل الرئيس لتذوق معاني القرآن هو فهم معاني مفرداته ، وبعض أساليبه.
والغريب النسبي بكل الاعتبارات المتقدمة غريب فصيح سائغ ، وليس غريباً عديم المعنى ، أو لا وجود له فى معاجم اللغة ومصادرها ، وهذا موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان ، فى كل عصر ومصر. ولا وزن لقول من يزعم غير هذا من الكارهين لما أنزل الله على خاتم أنبيائه ورسله.
مسائل ابن الأزرق
بقى أمر مهم ، له كبير صلة بموضوع " الغريب " فى القرآن ذلك الأمر هو ما عرف فى كتب الأقدمين بـ " مسائل ابن الأزرق " ونوجز القول عنها هنا إيجازاً يكشف عن دورها فى الانتصار للحق ، فى مواجهة مثيري هذه الشبهات ومسائل ابن الأزرق مسطورة فى كثير من كتب التراث مثل ابن الأنباري فى كتابه " الوقف " والطبراني فى كتابه " المعجم الكبير " والمبرد فى كتابه " الكامل ". وجلال الدين السيوطي فى كتابه " الإتقان فى علوم القرآن " وغيرهم.
ولهذه المسائل قصة إيجازها: أن عبد الله بن عباس كان جالساً بجوار الكعبة يفسر القرآن الكريم ، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق ، ونجدة بن عويمر ، فقال نافع لنجدة " قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا له:
إنَّا نريد أن نسألك عن أشياء فى كتاب الله ، فتفسرها لنا ، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب. فإن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين.
فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما. ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف ، مستشهداً فى إجاباته على كل كلمة ، " قرآنية " سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربي المأثور عن شعراء الجاهلية ، ليبين للسائلين أن القرآن نزل بلسان عربي مبين.
وكان الإمام جلال الدين السيوطى قد جمع هذه المسائل وذكر منها مائة وثمانٍ وثمانين كلمة ، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس عليها رضي الله عنه ، وقال: إنه أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس (2).
وها نحن أولاء نورد نماذج منها ، قبل التعليق عليها ، ولماذا أشرنا إليها فى مواجهة هذه الشبهة التي تزعم أن ألفاظ الكتاب العزيز " غريبة " وغير مفهومة.
النموذج الأول: " عزين "
قال نافع بن الأزرق لابن عباس:
أخبرني عن قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) (3).
قال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
فقال ابن عباس: نعم ، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
فجاءوا يُهرعون إليه حتى يكونوا حول منسره عزينا
يعنى جماعات يلتفون حول الرسول(، وهو مشتق من الاعتزاء ، أي ينضم بعضهم إلى بعض ، قال الراغب فى المفردات: العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض (4).
النموذج الثاني: " الوسيلة "
قال نافع: أخبرنى عن قوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) (5). قال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة ، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال ابن عباس: نعم ، أما سمعت قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
يعنى: اطلبوا من الله حاجاتكم. واستعمال الوسيلة فى معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله ؛ لأن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.
النموذج الثالث: " شرعةً ومنهاجاً "
وسأله نافع عن الشرعة والمنهاج فى قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (6). فقال ابن عباس: الشرعة: الدين ، والمنهاج: الطريق ، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى
وبين للإسلام ديناً ومنهجاً.
النموذج الرابع: " ريشاً "
وسأله نافع عن كلمة " ريشاً " فى قوله تعالى: (يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يوارى سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير.. ) (7).
ففسره ابن عباس بالمال ، واستشهد بقول الشاعر:
فريشي بخير طالما قد بريتني
وخير الموالى من يريش ولا يبرى
النموذج الخامس: " كَبد "
وسأله نافع عن كلمة " كَبد " فى قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان فى كبد ) (8).
فقال ابن عباس: فى اعتدال واستقامة. ثم استشهد بقول لَبِيد بن ربيعة:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم فى كبد(3/121)
وهكذا نهج ابن عباس فى المسائل الـ (188) التي وجهت إليه ، يجيب عنها بسرعة مذهلة ، وذاكرة حافظة لأشعار العرب ، وسرعة بديهة فى استحضار الشواهد الموافقة لفظاً ومعنى للكلمات القرآنية ، التي سئل عنها (9).
وهذا يؤكد لنا حقيقتين أمام هذه الشبهات التي أثارها الحاقدون ضد القرآن الكريم.
الأولى: كذب الادعاءات التي نسبت لابن عباس الجهل ببعض معاني كلمات القرآن.
الثانية: أن القرآن كله لا غريب فيه بمعنى الغريب الذي يعاب الكلام من أجله ، وأن نسبة الغريب إليه فى كتابات السلف ، تعنى الغريب النسبي لا الغريب المطلق ، وقد تقدم توضيح المراد من الغريب النسبي فى هذا المبحث ، باعتبار الزمان ، وباعتبار البيئة والمكان ، وأن ما وضعه القدماء من مؤلفات تشرح غريب القرآن إنما كان المقصود به إما أبناء الشعوب التي دخلت الإسلام من غير العرب. وإما للأجيال الإسلامية المتأخرة زمنا ، التي غابت عنها معاني بعض الألفاظ.
وقد يضاف إلى هذا كله الألفاظ المشتركة والمترادفة والمتضادة، والاحتمالية المعنى.
أما أن يكون فى القرآن غريب لا معنى له وغير مأنوس الاستعمال. فهذا محال ، محال.. والحمد لله رب العالمين.
المراجع
(1) هذا وقد ظهرت مؤلفات أخرى فى هذا الموضوع مثل " معاني القرآن " للفراء ، وغيره من الأقدمين. وهى ليست من كتب الغريب، بل لها مجالات بحث أخرى كالقراءات.
(2) الإتقان فى علوم القرآن. فصل ما يجب على المفسر لكتاب الله.
(3) المعارج: 37.
(4) ومنه قول العامة " عزوة " أي جماعة انظر حرفي العين والزاي فى كتاب الراغب.
(5) المائدة: 35.
(6) المائدة:48.
(7) الأعراف 26
(8) البلد: 4.
(9) انظر " الإعجاز البياني للقرآن. د/عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط: دار المعارف
http://ww.islamic-council.com/qadaiaux/def2.asp
=====================
افتراءات الغرب على المرأة المسلمة
شبهات حول الإسلام
يعتقد الأمريكيون ومثلهم في ذلك كمثل الأوربيين أنهم من أرقى الدول والحضارات في العالم وأن المرأة في بلادهم قد حصلت على كامل حقوقها كإنسانه أسوة بالرجل وأنهم حققوا المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة.
وفي نفس الوقت يعتقدون أن الدول العربية والإسلامية لا تقوم بتطبيق حقوق الإنسان على المرأة المسلمة وأن هناك فرقا شاسعا بين المرأة والرجل في الإسلام بل أنهم ذهبوا إلى حد القول أن المرأة في الإسلام تساوي نصف رجل لأنها تحصل على نصف مقدار ميراث الرجل ولأن شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد.
ومن هذا المنطلق وضعوا معايير لقياس مدى تقدم الدول ورقيها فأصبح احترام حقوق المرأة في أية دولة يعتبر معيارا لقياس تقدم ورقي هذه الدولة وكلما ازداد احترام الدولة للمرأة ولحقوقها ولمساواتها بالرجل في الدستور وأمام القانون وكلما ارتفعت نسبة تعليم المرأة ونسبة تواجدها في سوق العمل وفي البرلمان وفي الحكومة كلما ازداد احترام العالم لتلك الدولة وتم اعتبارها من الدول الراقية المتقدمة
وهكذا يمكننا أن نستنتج مما سبق مدى ارتباط احترام حقوق الإنسان باحترام حقوق المرأة في أية دولة ولا يمكن القول بأن أية دولة تقوم بتطبيق حقوق الإنسان وبأنها دولة قانون طالما أن المرأة لا تحصل فيها على حقوقها في التعليم وفي العمل وعلى حقوقها السياسية وعلى حقوقها في المساواة مع الرجل فيما يتعلق بفرص العمل وبالمساواة في الترقي في السلم الوظيفي والاضطلاع بمسئوليات إدارية عليا وبمناصب حكومية ومقاعد في البرلمان وفي مجالس الحكم المحلي وفي مجال القضاء وسن القوانين واتخاذ القرار السياسي.
ومما لاشك فيه أن الإسلام يعتبر أول الأديان السماوية التي اعترفت بالمرأة كأنسنا كامل الأهلية ومنحتها المساواة بالرجل في الكرامة الانسانية وفي كونها خلقت مثله من نفس البوتقة البشرية "يائيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها..." (النساء، 1)، كما أكرم الله المرأة في الخطاب القرآني وفضلها على بقية المخلوقات مثلها مثل الرجل و بنفس الدرجة حيث جاء في الآية الكريمة "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقاهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا" (الإسراء، 70) وقد استخدم العلي القدير في هذه الآية الكريمة مصطلح بني آدم أي سلالة آدم كلها من الرجال و النساء أي الإنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى.(3/122)
وهذا التكريم المشترك المتساوي للمرأة بالرجل لم تعرفه اليهودية ولا المسيحية. كذلك نود التأكيد على أن الإسلام منح المرأة حقوقا متساوية للرجل في أداء الشعائر الدينية ولم يحرم على المرأة دخول أماكن العبادة (المساجد) مثلما تحرم المرأة اليهودية من دخول السيناجوج (المعبد اليهودي) كذلك لم يحرم الإسلام على المرأة مسك المصحف الشريف وتلاوة القرآن (إلا إذا كانت المرأة في فترة الحيض أو النفاس)، مثلما حرمت اليهودية على المرأة الإمساك بالتوراة وتلاوتها في جميع الأوقات حيث تعتبر المرأة في اليهودية مدنسة ولايحق لها أن تدخل المعبد أو تمسك التوراة حتى لا تدنسهما
وسوف نتناول في هذا البحث الافتراءات
على المرأة المسلمة أي كل ما دخل أو تم إدخاله على مكانة المرأة المسلمة سواء في المنظور الإسلامي للمرأة في مجتمعات الدول العربية والإسلامية من تأثير البيئة أو الثقافة أو العادات والتقاليد المتوارثة والتي لا علاقة لها بالإسلام، وكذلك الافتراءات على المرأة المسلمة في المنظور الغربي للمرأة المسلمة في المجتمعات الغربية غير المسلمة سواء في وسائل الإعلام أو في كتابات المفكرين الغربيين وفي ذهن الغربيين عامة على مر العصور.
الافتراءات الغربية على المرأة المسلمة
طبقا للمنظور الغربي غير الإسلامي فأن الإسلام لا يعطي للمرأة المساواة مع الرجل بل يعتبر مكانة المرأة في الإسلام أدنى من مكانة الرجل، ويبرر المستشرقون هذه الادعاء بأن الخطاب القرآني يقرر أن الرجل أفضل من المرأة ويستشهدون على ذلك بالآية الكريمة "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..."(النساء، 34). ولكنهم نسوا أو تناسوا أن القوامة لا تعني السيادة ولا الأفضلية ولا السيطرة ولا الهيمنة على المرأة ولكن تعني درجة أعلى في القيادة وليس معنى القوامة الانفراد بالرأي والسيطرة وإلا لما أقر الإسلام مبدأ الشورى وحث عليه في جميع أمور الحياة بما في ذلك أمور أدارة الأسرة التي يشترك في إدارتها الزوج والزوجة حسبما جاء في الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته...".
فالقوامة إذن معناها أن لكل من الرجل والمرأة درجة في سلم القيادة ودرجة الرجل هي أعلى درجة في السلم لأنه مثل ربان السفينة هو الذي يقودها ويوجهها ولا يمكن أن يكون لأية سفينة منذ قديم الأجل وحتى زماننا هذا قائدان في نفس الوقت وإلا غرقت السفينة.
كما يردد الغربيون أن المرأة في الإسلام مضطهدة ولا تتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل المسلم، وان الإسلام يحرم المرأة المسلمة من حق العلم وحق العمل وهذا الافتراء مردود عليه بأن الإسلام أقر حق المرأة في التعليم والعمل خارج البيت فقد حث الرسول الكريم المسلمين على طلب العلم "طلب العلم فريضة على كل مسلمّ."
وكلمة مسلم هنا اسم جنس أي أنها تشمل الرجل والمرأة والأطفال. وينقل لنا التاريخ الإسلامي أن كثير من كبار العلماء والفقهاء تلقوا العلم على يد النساء وتنقل لنا كتب السيرة أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت مرجعا من أهم مراجع السيرة النبوية الشريفة وكانت فقيهة تراجع الرواة والقراء والفقهاء، وقد كرمها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحديثه الشريف "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء". كما تنقل لنا كتب التاريخ الإسلامي أن حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوج الرسول كانت خطيبة فصيحة وراوية للحديث وقد حافظت السيدة حفصة على الصحائف المكتوب عليها سور القرآن الكريم والتي كانت في حوزتها حتى سلمتها للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه فتم نسخها في أول مصحف في التاريخ وتم توزيعه على الأمصار، ويرجع إليها فضل الحفاظ على تلك الصحائف فلولا قوة إيمانها واحترامها وتقديرها للعلم ولقيمة هذه الأوراق لما حافظت عليها بكل هذه العناية.
كما أن الإسلام لم يمنع الإسلام المرأة من ممارسة العمل خارج بيتها فهذه أسماء بنت أبي بكر تباشر العمل في أرض زوجها الزبير بن العوام وتقول: "فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء... وكنت أنقل النوى من أرض الزبير على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ.. فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال". وهذه الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس اشتغلت بتعليم القراءة والكتابة وكانت معلمة حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين وتميزت بالحكمة ورجاحة العقل حتى أن الخليفة عمر بن الخطاب ولاها ولاية الحسبة أي وزارة التجارة والأسواق، والأوزان والمعاملات، فكانت تراقب وتحاسب وتفصل بين التجار وأهل السوق من الرجال والنساء.
وتعتبر الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس أول امرأة تتقلد منصب وزيرة في الأمة الإسلامية.(3/123)
ومن الافتراءات المنتشرة في الغرب أن الإسلام يعتبر المرأة قاصرا لذا فهو يعتبرها نصف رجل فلا تحصل إلا على نصف نصيب الرجل في الميراث وتعتبر شهادتها نصف شهادة الرجل ونحن نرد عليهم بأن طبقا للإسلام تأخذ المرأة نصيبها من الميراث تطبيقا لما جاء في الآية الكريمة" "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء، 7) وهذه الآية الكريمة تكفل للمرأة نصيبها في الميراث دون أن تحدد كمية هذا الميراث أما الآية التالية فإنها تحدد كمية هذا النصيب في الميراث "للذكر مثل حظ الانثيين" (الآية 11، النساء).
ونصيب المرأة في الميراث من حقها وحدها ولها مطلق الحرية في إنفاقه أو عدم إنفاقه، فمن حقها أن تحتفظ به دون الإنفاق منه ويلزم الرجل سواء أكان زوجها أو أخوها أو ابنها بالإنفاق عليها. وفي كثير من حالات الميراث يكون نصيب المرأة في الميراث معادلا لنصيب الرجل بل أحيانا يفوق نصيب المرأة في الميراث نصيب الرجل. ومن أمثلة تعادل نصيب المرأة والرجل في الميراث حالة رجل يتوفى وليس له سوى ابنة وحيدة ويترك شقيق له من الأب ففي هذه الحالة يكون نصيب الابنة الوحيدة "نصف ما ترك" ويتبقى لشقيق الأب النصف الآخر، أي أن المرأة الابنة في هذه الحالة حصلت على ميراث مثل نصيب الرجل (عمها) فهي حصلت على نصف التركة وهو حصل على نصف التركة فهنا المرأة والرجل
متساويان تماما في الميراث.
كما أن هناك حالات تحصل فيها المرأة أحيانا على ضعف نصيب الرجل مثلا في حالة وفاة رجل له ابنة وحيدة وله شقيقان من الأب، ففي هذه الحالة تحصل الابنة على نصف التركة ويحصل كل واحد من أعمامها على ربع التركة وبذلك يكون نصيب المرأة في هذه الحالة ضعف نصيب الرجل في الميراث. وهناك أمثلة كثيرة ومتعددة فيجب تعريف ذلك والتأكيد على أن المقولة المنتشرة في الغرب بأن ميراث المرأة المسلمة نصف ميراث الرجل دائما إنما هي افتراء وبهتان على الإسلام.
أما الافتراء الذي يدعي إن المرأة تعتبر نصف رجل لأن شهادتها نصف شهادة الرجل فمردود عليه بأن شهادة المرأة جاء ذكرها في آية واحدة فقط في القرآن الكريم وهي الآية الخاصة بكتابة وتدوين الديون المالية "واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل أحداهما فتذكر أحداهما الأخرى". (سورة البقرة، 282). والحقيقة أن هذه الآية إنما تتحدث عن الإشهاد وليس عن الشهادة، وقد توصل كثير من الفقهاء إلى هذه الحقيقة وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والإمام الأكبر الشيخ شلتوت الذي كتب يقول في تفسير هذه الآية: "أن قول الله سبحانه وتعالى فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ليس واردا في مقام الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى طرق الاستيثاق والاطمئنان على الحقوق بين المتعاملين وقت التعامل".
إما الشهادة في جميع مجالات الشهادة الأخرى مثل الشهادة في حالة الزنا أو في حالة اللعان أو في حالة الميراث فلم يذكر القرآن الكريم أبدا جنس الشهود. وقد خلص المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة إلى خلاصة مستنيرة في قضية شهادة المرأة في كتابه "التحرير الإسلامي للمرأة" حيث يقول :"..على أن المرأة كالرجل في هذه الشهادة على بلاغ الشريعة ورواية السنة النبوية فالمرأة كالرجل في رواية الحديث التي هي شهادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فكيف تقبل الشهادة من المرأة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تقبل على واحد من الناس؟
ومن الافتراءات الخبيثة على المرأة المسلمة في المجتمعات الأوروبية الادعاء بأن الإسلام يعطي للرجل المسلم حق شراء زوجته حيث يدفع لها مهرا أي ثمن حبسها في البيت وتحجيبها ثم ينفق عليها طوال مدة الزوجية فيصبح من حقه أن يحبسها ويضربها ثم يطلقها بلا أي سبب حين يشاء ويطردها من بيت الزوجية ويحرمها من حضانة أولادها.
والغربيون يصدقون هذا الافتراء بل نجدهم يرددون ذلك في بعض المؤتمرات الدولية. لذا يجب على المسلمين أن يقوموا بالرد على هذه الافتراءات والتأكيد على أن الإسلام أعفى المرأة من الإنفاق على الأسرة وجعل الرجل يتكفل بذلك فهو مسئول عن الإنفاق على نساء الأسرة وهو ملزم بذلك أمام القانون الوضعي في معظم الدول الإسلامية مهما كانت ثروة المرأة ومقدرتها المادية.(3/124)
وهذا يقودنا إلى التأكيد على أن الإسلام منح المرأة استقلالية الذمة المالية وذلك قبل كل الحضارات والأديان الأخرى. فالديانة اليهودية مثلا تعتبر أن المرأة وكل ما تملكه ملكا لزوجها يتصرف هو في مالها بحرية وليس لها الحق في مراجعته. وكان هذا هو حال المرأة الغربية في أوروبا منذ القرون الوسطى وحتى نهاية القرن التاسع عشر، بينما المرأة المسلمة تمتعت بحق استقلالية الذمة المالية منذ ظهور الإسلام الذي كفل لها حق البيع والشراء وإبرام العقود دون أي تدخل من أي رجل سواء أكان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا.
أما الافتراء الأكثر انتشارا في الغرب فمفاده أن المرأة المسلمة محبوسة في بيتها وممنوعة من ممارسة حقوقها الاجتماعية وحقوقها السياسية فهذه الافتراءات ربما كانت مطبقة في بعض المجتمعات الإسلامية المنغلقة على نفسها ولكن ذلك يرجع إلى البيئة والى العادات والتقاليد العتيقة المتوارثة في تلك المجتمعات وليس منبعها الدين الإسلامي حيث أن الإسلام أقر حقوق المرأة الاجتماعية كما أقر حقوقها السياسية. لقد منح الإسلام المرأة حق المشاركة في الشئون الاجتماعية للمجتمع الإسلامي مثلما جاء في الآية الكريمة التي تؤكد على أن رأي المرأة لا يقل عن رأي الرجل وأنها تشترك معه في الأمر والنهي في المجتمع الإسلامي"المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله..."(التوبة، الآية 71). وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على أن المرأة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر تماما مثلما يفعل الرجل بين الناس جميعا رجال ونساء وليس فقط فيما يختص بأمور النساء والأطفال ولكن في كل الأمور المتعلقة بالدين والحياة والمجتمع والناس بدون أية تفرقة بينها وبين الرجل، ولذلك استخدم القرآن الكريم صيغة الجمع المؤمنون والمؤمنات ولم يستخدم صيغة المفرد الذكر والأنثى. وكل هذه المعالم لشخصية المرأة المسلمة يلخصها لنا الحديث النبوي الشريف "النساء شقائق الرجال" والشقيق هو الأخ من الأب الذي يتساوى معك في جميع الحقوق.
أما بالنسبة لما نطلق عليه حاليا مصطلح الحقوق السياسية أي حق المواطن في أيه دولة في اختيار الحاكم والإدلاء بصوته لصالحه، فان الإسلام قد كفل تلك الحقوق للرجل وللمرأة على حد سواء.
وهذا ما فعلته النساء عندما بايعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع الرجال تحت الشجرة. والمبايعة أو البيعة معناها اختيار الحاكم بالانتخاب والتصويت طبقا لمصطلحاتنا الحديثة، فكتب السيرة تنقل لنا أن النساء المسلمات اشتركن في بيعتي العقبة الأولى والعقبة الثانية طبقا لما ذكرته الصحابية الجليلة أميمه بنت رقيقة حيث قالت "جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسوة نبايعه فقال لنا: فيما استطعتن وأطقتن".
وهذه المشاركة النسائية في البيعة للرسول الكريم تعتبر إقرارا لحقوق المرأة السياسية طبقا لمصطلحاتنا اليوم إذ أن بيعة العقبة تعتبر عقد تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في يثرب.
وهناك افتراء آخر شديد الانتشار ومفاده أن المرأة المسلمة ليس لها رأي في مسألة زواجها واختيار شريك حياتها وان رجال أسرتها سواء أبيها أو أخيها أو عمها هم الذين يختارون لها زوجها ويفرضونه عليها، وتلك مقولة ظالمة الإسلام برئ منها وان كانت بعض المجتمعات القبلية لا تزال أسيرة لمثل هذه التقاليد البالية التي لا تمت للإسلام بصلة حيث أن الإسلام منح المرأة حق اختيار زوجها ويكون عقد الزواج باطلا بدون موافقتها. فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، والبكر حتى تستأذن"، فقالت السيدة عائشة "يا رسول الله، البكر تستحي، قال:" رضاها صمتها".
وروى البخاري عن امرأة تدعى خنساء بنت خدام الأنصارية زوجها أبوها من رجل بدون رضاها، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكت إليه أمرها، فرد نكاحه. وعن عبد الله بن عباس قال " جاءت فتاة بكر إلى رسول الله فشكت أن أباها زوجها من رجل وهي كارهة له فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قبوله أو رفضه.
ونضيف إلى ذلك حق احتفاظ المرأة المسلمة باسمها الذي كفله الإسلام لها فهي تحتفظ باسمها واسم أبيها وعائلتها ولا ينمحي اسمها بالزواج من رجل حتى وان كان هذا الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالتاريخ الإسلامي يذكر لنا النساء بأسمائهن وليس بأسماء أزواجهن هذه خديجة بنت خويلد وهذه عائشة بنت أبي بكر وهذه حفصة بن عمر ابن الخطاب لم يذكرهن أحد أبدا باسم زوجهن الرسول الكريم لم يذكرهن أحد أبدا باسم حرم محمد بن عبد الله. والاحتفاظ بالاسم إنما هو أكبر دليل على مساواة الإسلام للمرأة بالرجل فهي كائن مستقل مثلها مثل الرجل وليس مثل المرأة الأوروبية والأمريكية التي كانت حتى سنوات قليلة تفقد هويتها بالزواج وينمحي اسمها واسم عائلتها وتأخذ اسم زوجها وعائلته.(3/125)
ومن بين الافتراءات الغربية المسيئة للمرأة المسلمة المقولة بأن الإسلام لا يمنح المرأة حق الطلاق وان الرجل هو الذي يقرر الطلاق بمفرده وحسب مزاجه وأن المرأة المسلمة لا تستطيع المطالبة بالطلاق. والحقيقة خلاف ذلك لأن المرأة المسلمة من حقها الطلاق والانفصال عن زوجها إذا رغبت في ذلك بسبب عدم استطاعته الإنجاب أو بسبب مرضه بمرض عضال لا شفاء منه أو بسبب عجزه الجنسي. فالإسلام يعطيها الحق في الطلاق مع الاحتفاظ بكل حقوقها المالية المترتبة عن الطلاق. وكذلك منح الإسلام المرأة حق الطلاق لعدم تلاءم الطباع أو لأي سبب آخر فالقرآن ينهي عن عدم طلاق الزوجة والاحتفاظ بها للإضرار بها خاصة إذا كانت ترغب الطلاق كما جاء في الآية الكريمة "... فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرار لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه..." (البقرة، 231). كذلك أقر الإسلام حق المرأة في الطلاق على أن تفدي نفسها وتقوم بتعويض الزوج عن خسارته المادية الناجمة عن طلاقها بناء على رغبتها طبقا للآية الكريمة "فان خفتم إلا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به..." (البقرة، 229). وهذا الطلاق بناء على رغبة الزوجة يسمى "الخلع "وهو موجود ومتعارف عليه منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلما حدث مع الصحابية التي استشارت الرسول في طلب طلاقها من زوجها لأنها لا تطيقه أي لا تحبه رغم انه إنسان كريم وكان هذا الزوج قد منحها حديقة كمهر وصداق فاشترط عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقابل حصولها على الطلاق أن ترد عليه حديقته ففعلت فطلقها زوجها.
إما الافتراء الذي تعاظم في السنوات الأخيرة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فهو الافتراء على المرأة المسلمة بسبب ارتدائها الحجاب الشرعي وعلى الأخص غطاء الرأس حيث يعتقد الغربيون أن المسلمين الرجال هم الذين يفرضون على المرأة المسلمة ارتداء الحجاب وطبقا لهذا الافتراء فان حجاب المرأة المسلمة بالنسبة لهم دليل على خضوع المرأة للرجل حيث يدعون أن المرأة المسلمة تابعة للرجل وترتدي الحجاب لتتوارى وراءه فلا يكون لها ظهور ولا وجود إلى جوار الرجل بل تعيش في الخفاء وراء حجاب فرضه الرجال المسلمون عليها ليحجبوها عن المدنية الحديثة وعن العمل وعن المشاركة الفعالة في المجتمع.
ونرد عليهم بأن الإسلام لم يمنع المرأة من المشاركة الفعالة في جميع أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية، ولم يفرض الإسلام على المرأة الانحباس في البيت وعدم استقبالها لضيوف زوجها من الرجال في حضور زوجها في بيتهما وعدم خروجها إلى الاجتماعات العامة وعدم العمل خارج بيتها. فكل ذلك يعتبر من الافتراءات لأن المرأة المسلمة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تستقبل ضيوف زوجها في بيتهما وتشارك زوجها في مجلسه وتستقبل ضيوفه وتضيفهم وتشاركهم الطعام. ونذكر هنا ما جاء في البخاري ومسلم أن أبو أسيد الساعدي دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لحضور عرسه، فما صنع لهم طعاما ولا قرب إليهم إلا امرأته أم أسيد فكانت خادمتهم يومئذ، وهي العروس. بلت تمرات في تور (إناء) فلما فرغ النبي ( (صلى الله عليه وسلم - من الطعام أماثته (أذابته) له فسقته، تتحفه (تخصه) بذلك. هكذا كانت العروس تستقبل ضيوف زوجها وتضيفهم بنفسها وبيديها ومنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كما أن المرأة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تخرج لاجتماعات عامة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حيث يدعو إليها مؤذن الرسول بلال – رضي الله عنه، كما كانت النساء يذهبن إلى مسجد الرسول للصلاة ورائه ولسماع دروسه وخطبه الدينية وما ينزل عليه من وحي. كما طالبت النساء الرسول الكريم بدروس خاصة بهن في المسجد لأن الرجال يغلبوهن عليه في المسجد فاستجاب الرسول الكريم لذلك. وهذا معناه أن النساء كن يحضرن دروس الرسول العامة في المسجد إلى جانب الرجال ولكن نظرا لكثرة عدد الرجال كانت النساء المسلمات لا يتمكن من توجيه الاسئلة إلى الرسول مباشرة لذا طالبن بتخصيص دروس لهن وحدهن، بينما فسر الفقهاء ذلك بضرورة فصل الرجال عن النساء في الدروس العامة في حين كانت النساء في عهد الرسول يصلين في نفس صحن المسجد خلف الرجال لم يكن هناك ما يسمي حاليا بالسندرة أو بالحرملك فكل ذلك اختراعات وبدع لم تكن موجودة في عهد الرسول الكريم في المدينة المنورة.(3/126)
كما كانت المرأة تشارك في الغزوات وتصاحب زوجها أو أباها أو أخاها في رحلات الحج والعمرة وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج في أي غزوة أو رحلة حج دون النساء ودون أن يصطحب معه إحدى زوجاته. ولدينا الكثير من الأحاديث الشريفة ومن القرائن الثابتة في السنة النبوية الشريفة تؤكد تمتع المرأة المسلمة في عهد الرسول الكريم بحقوقها السياسية والاجتماعية وبعلو شأنها وباحترام رأيها والأخذ بمشورتها وبرؤيتها للأمور، حيث أن منظور المرأة للدنيا وللعالم يختلف عن منظور الرجل ويكفي للاستشهاد على ذلك باحترام الرسول الكريم لرأي زوجته أم سلمة عام صلح الحديبية ونصيحتها المشهورة له والتي أخذ بها ونفذها بحذافيرها بأن يخرج لأصحابه الرافضين لبنود صلح الحديبية ويبدأ بحلق شعره وذبح ذبيحته فيحذون حذوه.
وفي هذا المثال دليلان على مكانة المرأة المسلمة في عصر الإسلام وتمتعها بحقوقها الدليل الأول حقها في إبداء الرأي والنصيحة والدليل الثاني حقها في الخروج ومصاحبة الزوج حتى في الغزوات الحربية.
كذلك اشتركت المرأة المسلمة في أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة كما اشتركت أيضا في الهجرة إلى المدينة المنورة كما خرجت مع الرجال في الغزوات التي قادها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنشر الإسلام بالرغم من أنها معفاة من الجهاد ومن حمل السلاح.
فقد ذكرت كتب السنة أن امرأة مسلمة شاركت ببسالة في الدفاع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معركة أحد بعد أن فر كثير من الرجال وكانت هذه المرأة وتدعى نسيبة بنت كعب أو أم عمارة تقاتل وهي مشمرة قد ربطت ثوبها على وسطها تقاتل دون رسول الله وتتصدى لابن قميئة الذي اندفع نحو الرسول ليطعنه ولكن أم عمارة تلقت الطعنة في كتفها ورآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنادى على أحد الفارين كي يعطيها ترسه لتحتمي به وقال لها في إعجاب "من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة."
وأما الافتراء والادعاء بأن الحجاب رمز لخضوع المرأة المسلمة وأن الرجل هو الذي فرض الحجاب عليها لعزلها عن الحياة الاجتماعية فنجيب عليهم بأن الحجاب أمر من الله عز وجل نزل واضحا وجليا في آيتين كريمتين هما: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن..." (سورة النور، الآية 31) و"يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلاليببهن ذلك أدني أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" (سورة الأحزاب، الآية 59). فالمرأة المسلمة ترتدي الحجاب طوعا وامتثالا لأمر الله ولأمر رسوله الكريم وليس خضوعا للرجال كما يتوهم الغربيون.
وكلنا نعرف مدى تعسف بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا التي شنت حملة شعواء على الحجاب الإسلامي وأصدرت مؤخرا قانونا تم التصويت عليه في البرلمان الفرنسي وحصل على أغلبية ساحقة بمنع التلاميذ من ارتداء الرموز الدينية ومن بينها الحجاب في المدارس الابتدائية والثانوية الحكومية الفرنسية , وبالرغم من كل الاعتراضات من جميع أنحاء العالم ضد هذا القانون، إلا أن هذا القانون تم تطبيقه في فرنسا منذ العام الدراسي 2004. ولا نريد هنا أن ندخل في تفاصيل هذا القانون الفرنسي ومدى مشروعيته فليس هذا موضوع بحثنا ولكننا نريد أن نؤكد على أن هذا القانون لا يتعرض للطالبات في الجامعات الفرنسية اللواتي لهن الحق في ارتداء الحجاب في الجامعات الفرنسية الحكومية ولكن القضية قضية التعليم الإلزامي الذي تريده فرنسا علمانيا لجميع التلاميذ والتلميذات بدون تفرقة بسبب المعتقدات الدينية. ( ملاحظة : أصدر قانون في بريطانيا بتاريخ 25/3/2006 بمنع الحجاب في المدارس الحكومية على غرار فرنسا ))
وفي الواقع إن الفرنسيين أعطوا لقضية الحجاب الإسلامي بعدا سياسيا واعتبروه رمزا من الرموز الدينية وقرروا أنه رمزا لخضوع المرأة المسلمة للرجل، بينما الحقيقة أن الحجاب الإسلامي ليس رمزا دينيا ولكنه فرض من فرائض الدين الإسلامي على المرأة المسلمة، أي انه أمر يتعلق بالعقيدة الدينية ويندرج تحت حق التعبير عن الرأي وممارسة العقيدة الدينية وليس تحت بند الرموز الدينية. ومن المعروف في القانون الدولي أن حق التعبير عن الرأي من الحقوق الأساسية المذكورة في دساتير جميع الدول الأوروبية وفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وهذا القانون الفرنسي يعد خرقا للمادتين 18 و 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان اللتين تنصان على حق كل إنسان في حرية التعبير وفي حرية ممارسة عقيدته الدينية.(3/127)
ولم يكتف الأوروبيون بالافتراء على المرأة المسلمة في حياتها بل افتروا عليها أيضا بعد وفاتها وانتقالها إلى السماء فقد ادعوا كذبا أن الإسلام حرم الجنة على النساء وجعل الجنة حكرا على الرجال المسلمين لأن الإسلام وعد الرجال المسلمين بالجنة وبالحور العين فيها وحرم الجنة على المرأة المسلمة، وهذا الافتراء والادعاء الكاذب مرفوض ومردود عليه بالآية الكريمة التي ذكرناها عن أجر الأعمال الصالحة كما هناك أكثر من آية قرآنية تؤكد على دخول المؤمنات الجنة مثل المؤمنين تماما مثل الآية التالية "وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم" (التوبة، 72).
إذن علينا أن نؤكد للغرب أن كثير من الشوائب التي تشوه صورة المرأة المسلمة ليست لها علاقة بالإسلام لأن الإسلام جعل للمرأة مكانة رفيعة لو تم تطبيق الدول الإسلامية لها مثلما كانت مطبقة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة لحسدتها المرأة الأوروبية على تلك المكانة. كذلك يجب تطوير الرؤية الإسلامية المستقبلية لوضع المرأة في الإسلام والارتقاء بشأن المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية. ومما لاشك فيه أن من أهم أسباب تدحرج معظم الدول الإسلامية من دول نامية إلى دول أقل نموا حسب تقييم البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي ومن أسباب انخفاض معدلات النمو وارتفاع انتشار نسبة الأمية والجهل والفقر والتراجع في ميادين العلم والاختراعات والتكنولوجيا والإنتاج في كثير من الدول الإسلامية إنما يرجع إلى عدم احترام مبادئ حقوق الإنسان وعدم المساواة بين الرجل والمرأة مثلما جاء في النصوص الدينية الإسلامية الثابتة التي ذكرنا بعضها في هذا البحث. كما يرجع ذلك أيضا إلى التقاليد الزائفة التي ورثناها عن عهد الإمبراطورية العثمانية والتي ظلت راسخة حتى عهد قريب حيث حرمت المرأة من حقوقها الأساسية المنصوص عليها في القرآن الكريم وفي الأحاديث وفي السنة النبوية الشريفة.
إن حرمان المرأة المسلمة من حقوقها لقرون طويلة باسم الإسلام بينما الإسلام برئ من ذلك تسبب في تراجع الأمة الإسلامية تراجعا مزريا مازلنا نعيش آثاره المدمرة في بعض مجتمعاتنا الإسلامية. فقد كانت المرأة المسلمة حتى بداية القرن العشرين تعيش في ظلمات الجهل والانحصار بين جدران البيت فلم تكن تخرج منها إلا ثلاث مرات: من بطن أمها إلى العالم ومن بيت أبيها إلى بيت زوجها ومن بيت زوجها إلى القبر وإنني أتحدى من يجد أساسا في النصوص الدينية الإسلامية الثابتة لهذا الجهل المقدح.
ونأمل أن تحصل المرأة المسلمة التي تعيش في الدول الأوروبية على كل حقوقها وتتم مساواتها بالمرأة الأوروبية في هذه الدول الأوروبية بدون تفرقة بحجة أن المرأة المسلمة الأوروبية ترتدي الحجاب وهذا يجعلها مثل المعاقين حسب رأيهم وهذا نوع من الافتراء. وعلى المرأة المسلمة التي تعيش في المجتمعات الغربية أن تدحض هذه الافتراءات وتثبت بتصرفاتها وحسن أخلاقها أن الإسلام منحها حقوقها كاملة ويجب عليها أن تهتم أكثر ما تهتم بتنشئة أولادها على الأسس الراسخة للدين الإسلامي.
إن المرأة هي نصف المجتمع ومستقبل المجتمعات الإسلامية في النهوض بمستوى المرأة ومحو أميتها وتنشئتها التنشئة الإسلامية السليمة ومنحها الحقوق التي كفلها لها الإسلام ولا ننس أبدا ما وصانا به الرسول الكريم " استوصوا بالنساء خيرا" و" خيركم خيركم لأهله " و"النساء شقائق الرجال"
==================
كلام القرآن المتناقض
" جاء فى سورة النساء: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) (1).
ولكننا نجد فيه التناقض الكثير مثل:
كلام الله لا يتبدل: كلام الله يتبدل
(لا تبديل لكلمات الله ) (2): (وإذا بدلنا آية مكان آية..) (3)
(لا مبدل لكلماته ) (4): (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) (5)
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (6): (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (7)
هذه طريقتهم فى عرض هذه الشبهة يقابلون بين بعض الآيات على اعتبار تصورهم ، وهو أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، على غرار ما ترى فى هذا الجدول الذي وضعوه لبيان التناقض فى القرآن حسب زعمهم.
الرد على الشبهة:
الصورة الأولى للتناقض الموهوم بين آية يونس: (لا تبديل لكلمات الله) وآية النحل (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لا وجود لها إلا فى أوهامهم ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تمامًا. فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبداً فى الوجود فى محل واحد ، ولا يرتفعان أبداً عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، مثل الموت والحياة. فالإنسان يكون إما حيًّا وإما ميتا ولا يرتفعان عنه فى وقت واحد ، ومحال أن يكون حيًّا و ميتاً فى آن واحد ؛ لأن النقيضين لا يجتمعان فى محل واحد.(3/128)
ومحال أن يكون إنسان ما لا حي ولا ميت فى آن واحد وليس فى القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلي إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون . والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال ؛ لأن قوله تعالى فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) معناه لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه فى شؤون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية. ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية وما ينتج عنها من تفاعلات بين عناصر الموجودات ،أو تغييرات تطرأ عليها. كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة. هذه هي كلمات الله عزّ وجلّ.
وقد عبر عنها القرآن فى مواضع أخرى بـ.. السنن وهى القوانين التي تخضع لها جميع الكائنات ، الإنسان والحيوان والنبات والجمادات. إن كل شيء فى الوجود ، يجرى ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التي ليس فى مقدور قوة فى الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها فى الكون.
ذلك هو المقصود ب " كلمات الله " ، التي لا نجد لها تبديلاً ، ولا نجد لها تحويلاً.
ومن هذه الكلمات أو القوانين والسنن الإلهية النافذة طوعاً أو كرهاً قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت) (8). فهل فى مقدور أحد مهما كان أن يعطل هذه السنة الإلهية فيوقف " سيف المنايا " ويهب كل الأحياء خلوداً فى هذه الحياة الدنيا ؟
فكلمات الله إذن هي عبارة عن قضائه فى الكائنات وقوانينه المطردة فى الموجودات وسننه النافذة فى المخلوقات.
ولا تناقض فى العقل ولا فى النقل ولا فى الواقع المحسوس بين مدلول آية: (لا تبديل لكلمات الله) وآية: (وإذا بدلنا آية مكان آية..).
لأن معنى هذه الآية: إذا رفعنا آية ، أي وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أى وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى. قال جهلة المشركين: إنما أنت مفتَرٍ (9).
فلكل من الآيتين معنى فى محل غير معنى ومحل الأخرى.
فالآية فى سورة يونس (لا تبديل لكلمات الله) والآية فى سورة النحل: (وإذا بدلنا آية مكان آية..) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات زوراً وبهتاناً ، ليوهموا الناس أن فى القرآن تناقضاً. وهيهات هيهات لما يتوهمون.
أما الآيتان (لا مبدل لكلماته) و(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) وقد تقدم ذكرهما فى الجدول السابق.
هاتان الآيتان بريئتان من التناقض براءة قرص الشمس من اللون الأسود:
فآية الكهف (لا مبدل لكلماته) معناها لا مغير لسننه وقوانينه فى الكائنات. وهذا هو ما عليه المحققون من أهل العلم ويؤيده الواقع المحسوس والعلم المدروس.
وحتى لو كان المراد من " كلماته " آياته المنزلة فى الكتاب العزيز " القرآن " فإنه ـ كذلك ـ لا مبدل لها من الخلق فهي باقية محفوظة كما أنزلها الله عز وجل ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (10).
أما آية البقرة: (ما ننسخ من آية ) فالمراد من الآية فيها المعجزة ، التي يجريها الله على أيدي رسله. ونسخها رفعها بعد وقوعها. وليس المراد الآية من القرآن ، وهذا ما عليه المحققون من أهل التأويل. بدليل قوله تعالى فى نفس الآية: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ).
ويكون الله عز وجل قد أخبر عباده عن تأييده رسله بالمعجزات وتتابع تلك المعجزات ؛ لأنها من صنع الله ، والله على كل شيء قدير.
فالآيتان ـ كما ترى ـ لكل منهما مقام خاص بها ، وليس بينهما أدنى تعارض ، فضلاً عن أن يكون بينهما تناقض.
أما الآيتان الأخيرتان الواردتان فى الجدول ، وهما آية الحجر: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وآية الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فلا تعارض بينهما كذلك ؛ لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظاً من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه فى الوجود الزمني ، ومن أشهرها التوراة وملحقاتها. والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.
أما الآية الثانية: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) فهي إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف فى شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد. فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ ، يحيى ويميت ، يغنى ويفقر ، يُصحُّ ويُمْرِضُ ، يُسْعِد ويُشْقِى ، يعطى ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب على حكمه (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ) (11). فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين يا ترى ؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى. أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير فى طريقٍ متوازٍ غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الخبل والهذيان المحموم ، ولكن ماذا نقول حينما يتكلم الحقد والحسد ، ويتوارى العقل وراء دياجير الجهالة الحاقدة ؟ نكتفي بهذا الرد الموجز المفحم ، على ما ورد فى الجدول المتقدم ذكره.
وهناك شبه أخرى يمكن سردها بإيجاز:(3/129)
1- إنهم توهموا تناقضاً بين قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (12). وبين قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) (13). وفى عبارة شديدة الإيجاز نرد على هذه الشبهة الفرعية ، التي تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو فى آية السجدة ألف سنة وهو فى آية المعارج خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض. ولماذا ؟ لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعار جان لا عارج واحد.
فالعارج فى آية السجدة الأمر ، والعروج عروج الأمر ، والعارج فى آية المعارج هم الملائكة والعروج هو عروج الملائكة.
اختلف العارج والعروج فى الآيتين. فاختلف الزمن فيهما قصراً أو طولاً. وشرط التناقض ـ لو كانوا يعلمون ـ هو اتحاد المقام.
2- وقالوا أيضًا: إن بين قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) (14). وقوله تعالى: (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ) (15) تناقضا. وشاهد التناقض عندهم أن الله قال فى الآية (13)(وقليل من الآخرين ) وقال فى الآية (40) (وثلة من الآخرين) إذ كيف قال أولاً: (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) ثم قال ثانياً (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين ) ولو كان لديهم نية فى الإنصاف ، ومعرفة الحق ناصعاً ونظروا فى المقامين اللذين ورد فيهما هذا الاختلاف لوصلوا إلى الحق من أقصر طريق. ولكنهم يبحثون عن العيوب ولو كلفهم ذلك إلغاء عقولهم.
هذا الاختلاف سببه اختلاف مقام الكلام ؛ لأن الله عز وجل قسم الناس فى سورة الواقعة ، يوم القيامة ثلاثة أقسام. فقال: (وكنتم أزواجاً ثلاثة):
*السابقون السابقون. *وأصحاب الميمنة. * وأصحاب المشئمة.
ثم بين مصير كل قسم من هذه الأقسام فالسابقون السابقون لهم منزلة: " المقربون فى جنات النعيم "
ثم بيَّن أن الذين يتبوأ ون هذه المنزلة فريقان:
كثيرون من السابقين الأولين ، وقليلون من الأجيال المتأخرين
وذلك لأن السابقين الأولين بلغوا درجات عالية من الإيمان وعمل الباقيات الصالحات. ولم يشاركهم من الأجيال المتأخرة عن زمنهم إلا قليل.
أما أصحاب اليمين أو الميمنة فبلاؤهم فى الإسلام أدنى من بلاء السابقين الأولين. لذلك كانت درجاتهم فى الجنة أدنى من درجات السابقين الأولين ويشاركهم فى هذه المنزلة كثير من الأجيال اللاحقة بهم ؛ لأن فرصة العمل بما جعلهم أصحاب اليمين ، متاحة فى كل زمان.
ويمكن أن نمثل للسابقين الأولين بأصحاب رسول الله(ولأصحاب اليمين) بالتابعين ، الذين أدركوا الصحابة ولم يدركوا صاحب الرسالة. واذا صح هذا التمثيل ، ولا أظنه إلا صحيحاً ، صح أن نقول:
إن قليلاً منا ، بل وقليل جدِّا ، من يسير فى حياته سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كثيراً منا من يمكن أن يسير سيرة التابعين رضي الله عنهم.
وعلى هذا فلا تناقض أبداً بين الآيتين:
(ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين).
و(ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين).
المراجع
(1) النساء: 82.
(2) يونس: 64.
(3) النحل: 101.
(4) الكهف: 27.
(5) البقرة: 106.
(6) الحجر: 9.
(7) الرعد: 39.
(8) آل عمران: 185.
(9) انظر تفسير فتح القدير (ج2/232)
(10) تفسير فتح القدير (ج3 ـ ص 333).
(11) الأنبياء: 23.
(12) السجدة: 5.
(13) المعارج: 4.
(14) الواقعة: 13 ـ 14.
(15) الواقعة: 39 ـ 40.
(16) النساء: 138.
(17) التوبة: 30.
====================
كيف غير المخترعون المسلمون وجه العالم
شبهات حول الإسلام
نشرت صحيفة اندبندنت الأجنبية مقال رائع ومنصف عن المسلمين يبين أهمية المسلمين للعالم ندعكم الآن مع اترجمة الكاملة لهذا المقال
من القهوة مروراً بنظام الثلاث وجبات اليومي وحتى الشيكات, أعطانا العالم الإسلامي العديد من الإبتكارات التي لا غني عن إستعمالها في حياتنا اليومية الآن, يذكر كاتب الموضوع باول فاليللي أكثر 20 ابتكارا تأثيراً على العالم ويعرفنا بالعباقرة الذين كانوا وراء هذه الابتكارات.
: تقول القصة أن هناك عربي يدعى خالد كان يعني ببعض الماعز في منطقة “كافا” بجنوب أثيوبيا, عندما لاحظ أن حيواناته أصبحت أكثر نشاطاً حينما تأكل التوت, فقام بغلي التوت ليصنع أول فنجان من القهوة! , ومن المؤكد أن أول مرة خرج فيها مشروب القهوة إلى خارج أثيوبيا كان الى اليمن حيث شربها “صفي” كي يظل يقظاً طوال الليل ليصلي في مناسبة خاصة. في أواخر القرن الخامس عشر وصلت القهوة الى مكة وتركيا.. التي منها وصلت الى فينسيا في عام 1645م. ثم الى انجلترا بعد خمس سنوات في 1650 بواسطة تركي يدعى “باسكوا روسي” الذي فتح أول “محل قهوة” في شارع لومبارد بمدينة لندن… القهوة العربية صارت بعد ذلك تركية.. ثم إيطالية وإنجليزية!(3/130)
2: قدماء اليونانيون ظنوا أن أعيننا تُخرِج أشعة مثل الليزر والتي تجعلنا قادرين على الرؤية, أول شخص لاحظ أن الضوء يدخل إلى العين ولا يخرج منها كان في عالم رياضي وفيزيائي وفلكي مسلم, وهو الحسن بن الهيثم. حيث إكتشف أن الإبصار يحدث بسبب سقوط الإشعة من الضوء على الجسم المرئي مما يمكن للعين أن تراه.. ولكن العين لا تخرج أشعة من نفسها.. وإلا كيف لا ترى العين في الظلام ؟ و اكتشف ابن الهيثم ظاهرة انعكاس الضوء، وظاهرة انعطاف الضوء أي انحراف الصورة عن مكانها في حال مرور الأشعة الضوئية في وسط معين إلى وسط غير متجانس معه. كما اكتشف أن الانعطاف يكون معدوماً إذا مرت الأشعة الضوئية وفقاً لزاوية قائمة من وسط إلى وسط آخر غير متجانس معه, ووضع ابن الهيثم بحوثاً في ما يتعلق بتكبير العدسات، وبذلك مهّد لاستعمال العدسات المتنوعة في معالجة عيوب العين, ويعتبر الحسن بن الهيثم أول من انتقل بالفيزياء من المرحلة الفلسفية للمرحلة العملية [ from a philosophical activity to an experimental one ] .
3: كان هناك أحد أشكال لعبة الشطرنج في الهند القديمة, لكن اللعبة طورت إلى الطريقة التي نعرفها الآن في بلاد فارس [ إيران ] , من هناك إنتشرت اللعبة غرباً إلى أوروبا حيث قدمها المغاربة في أسبانيا في القرن العاشر الميلادي, وانتشرت شرقاً إلى اليابان.. تستعمل في الغرب كلمة rook لطابية الشطرنج كما نعرفها.. ويعود اصل هذه الكلمة إلى كلمة “رُخ” العربية.
4: قبل آلاف السنوات من تجربة الأخوان رايت في بريطانيا للطيران.. كان هناك شاعر وفلكي وموسيقي ومهندس مسلم يدعى “عباس بن فرناس” قام بمحاولات عديدة لإنشاء آلة طيران, في عام 825 قفر من أعلى مئذنة الجامع الكبير في قرطبة مستخدما عباءة صلبة غير محكمة مدعمة بقوائم خشبية, كان يأمل أن أن يحلق كالطيور.. لم يفلح في هذا ولكن العباءة قللت من سرعة هبوطه.. مكونة ما يمكن أن نمسيه أول “باراشوت” وخرج من هذه التجربة فقط بجروح بسيطة, في 875 حين كام عمره 70 عاماً.. قام بتطوير ماكينة من الحرير وريش النسور ثم حاول مرة أخرى بالقفز من أعلى جبل هذه المرة, وصل هذه المرة إلى ارتفاع عال.. وظل طائرا لمدة عشر دقائق.. لكنه تحطم في الهبوط!.. كان ذلك بسبب عدم وضع “ذيل” للجهاز الذي ابتكره كي يتمكن من الهبوط بطريقة صحيحة, مطار بغداد الدولي وفوهة أحد البراكين في المغرب تم تسميتهما على اسمه.
5: الإغتسال والنظافة متطلبات دينية لدي المسلمين, ربما كان هذا السبب في أنهم طوروا شكل الصابون إلى الشكل الذي مازلنا نستخدمه الآن!.. قدماء المصريين كان عندهم أحد أنواع الصابون.. تماما مثل الرومان الذين استخدموها غالبا كمرهم!, لكنهم كانوا العرب هم من جمعوا بين زيوت النباتات وهيدروكسيد الصوديوم والمواد الأروماتية مثل الـ “thyme oil” .كان أحد أكثر خصائص الصليبيون غرابة بالنسبة للمسلمين كانت أنهم لا يغتسلون!.. الشامبو قدم في انجلترا لأول مرة حينما قام أحد المسلمين بفتح احد محلات الاستحمام بالبخار في “بريتون سيفرونت” في عام 1759 .
6: التقطير ووسائل فصل السوائل من خلال الاختلافات في درجة غليانها, أخترعت في حوالي العام 800 م. بواسطة العالم المسلم الكبير “جابر بن حيان” , الذي قام بتحويل “الخيمياء” أو “الكيمياء القديمة” إلى “الكيمياء الحديثة” كما نعرفها الآن.. مخترعا العديد من العديد من العمليات الأساسية والادوات التي لانزال نستخدمها حتى الآن؛ السيولة, والتبلور, والتقطير, والتنقية, والأكسدة, والتبخير والترشيح.. جنباً الى جنب مع اكتشاف الكبريت وحمض النيتريك, اخترع جابر بن حيان أمبيق التقطير – تستخدم الانجليزية لفظ alembic وهو مشتق من لفظ “إمبيق” العربي – وهو آلة تستخدم في عملية التقطير.. مقدماً للعالم العطور وبعض المشروبات الكحولية ويذكر الكاتب أن ذلك حرام في الإسلام , إستخدم إبن حيان التجربة المنظمة ويعتبر مكتشف الكيمياء الحديثة.
7: المضخة جهاز عبارة عن آلة من المعدن تدار بقوة الريح أو بواسطة حيوان يدور بحركة دائرية، وكان الهدف منها أن ترفع المياه من الآبار العميقة إلى اسطح الأرض، وكذلك كانت تستعمل في رفع المياه من منسوب النهر إذا كان منخفضاً إلى الأماكن العليا.. صنعت بواسطة مهندس مسلم بارع يسمى “الجزري” .. هذه المضخة هي الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها جميع المضخات المتطورة في عصرنا الحاضر والمحركات الآلية كلها ابتداء من المحرك البخاري الذي في القطار أو البواخر إلى محرك الاحتراق الداخلي الذي يعمل بالبنزين كما في السيارة والطائرة.. ويعتبر “الجزري” هو الأب الروحي لعلم الـ robotics والخاص بتصنيع الـrobots كما نعرفها اليوم.. من ضمن إختراعاته الخمسين الأخرى كان الـ” combination lock ” وهي التي نراها اليوم في طريقة قفل بعض الحقائب والخزانات باستخدام بعض الأرقام بجوار بعضها مكونة شفرة .(3/131)
8: وضع طبقة من مادة أخرى بين طبقتين من القماش.. تعتبر أحدى طرق الخياطة وغير معروف إذا كانت ابتكرت في العالم الإسلامي أم انها قد نشأت أولاً في الهند أو الصين, ولكن من المؤكد أنها وصلت للغرب من خلال الصليبيون.. عندما رأوا بعض المحاربين المسلمين يرتدون قمصانا مصنوعة بهذه الطريقة بدلاً من الدروع والتي كانت مفيدة جداً كوسيلة للحماية من أسلحة الصليبيين المعدنية.. حيث كونت نوع من أنواع الحماية لهم.. وهي تعتبر أول “قميص واقي من الرصاص” في العالم : ) .. استخدمها الغرب هذه الطريقة فيما بعد للوقاية من برودة الجو في دول مثل بريطانيا وهولندا..
9: تعد الأقواس مستدقة الطرف من أهم الخصائص المعمارية التي تميز كاتدرائيات أوروبا القوطية, فكرة هذه الأقواس ابتكرها المعماريون المسلمون. وهي أقوى بكثير من الأقواس مستديرة الطرف والتي كان يستخدمها الرومان والنورمانيون, لأنها تساعدك على أن يكون البناء أكبر وأعلى وأكثر تعقيداً.. إقتبس الغرب من المسلمين أيضاً طريقة بناء القناطر والقباب. قلعات أوروبا منسوخة الفكرة أيضاً من العالم الإسلامي, بدءا الشقوق الطولية في الأسوار, وشرفات القلعة.. وطريقة الحصن الأمامي وحواجز الأسقف.. والأبراج المربعة.. والتي كانت تسهل جدا حماية القلعة.. ويكفي أن تعرف أن المهندس المعماري الذي قام ببناء قلعة هنري الخامس كان مسلم.
10: العديد من الآلات الجراحية الحديثة المستخدمة الآن لازالت بنفس التصميم الذي ابتكرها به الجراح المسلم “الزهراوي” في القرن العاشر الميلادي.. هذه الآلات وغيرها أكثرمن مائتي آلة ابتكرها لازالت معروفة للجراحين اليوم, وكان “الزهراوي” يجري عملية إستئصال الغدة الدرقية Thyroid . وذكر “الزهراوي” علاج السرطان في كتابه (التصريف) قائلا: متى كان السرطان في موضع يمكن استئصاله كله كالسرطان الذي يكون في الثدي أو في الفخد ونحوهما من الأعضاء المتمكنة لإخراجه بجملته ,إذا كان مبتدءاً صغيراً فافعل. أما متى تقدم فلا ينبغى أن تقربه فاني ما استطعت أن أبرىء منه أحدا. ولا رأيت قبلى غيري وصل إلى ذلك ” وهي عملية لم يجرؤ أي جراح في أوربا على إجرائها إلا في القرن التاسع عشر بعده أي بتسعة قرون, في القرن الثالث عشر الميلادي.. طبيب مسلم آخر اسمه “ابن النفيس” شرح الدورة الدموية الصغرى.. قبل أن يشرحها ويليام هارفي بثلاثمائة عام, إخترع علماء المسلمين أيضاً المسكنات من مزيج مادتي الأفيون والكحول وطوروا أسلوباً للحقن بواسطة الإبر لا يزال مستخدم حتى الآن.
11: اخترع المسلمون طواحين الهواء في عام 634 م.. وكانت تستخدم لطحن الذرة وري المياه في الصحراء العربية الواسعة, عندما تصبح جداول المياه جافة, كانت الرياح هي القوة الوحيدة التي يهب من اتجاه ثابت لمدة شهور, الطواحين كانت تحتوي على 6 او 12 أشرعة مغطاة بأوراق النخل, كان هذا قبل أن تظهر طواحين الهواء في أوروبا بخمسمائة عام!
12: فكرة التطعيم لم تبتكر بواسطة جبنر وباستير ..ولكن ابتكرها العالم الاسلامي ووصلت الى اوروبا من خلال زوجة سفير بريطانيا في تركيا وتحديدا في اسطنبول عام 1724 , الأطفال في تركيا طعِّموا ضد الجدرى قبل خمسون عاما من اكتشاف الغرب لذلك!
13: القلم الجاف اخترع في مصر أول مرة لأجل السلطان في عام 953, حينما طلب قلما لا يلوث يداه أو ملابسه.. و كان القلم يحتوي على الحبر في خزانة مثل الأقلام الحديثة .
14: نظام الترقيم المستخدم في العالم الآن ربما كان هندي الأصل.. ولكن طابع الأرقام عربي وأقدم ظهور له في بعض أعمال عالمي الرياضة المسلمين الخوارزمي والكندي حوالي العام 825, سميت “Algebra ” على اسم كتاب الخوارزمي “الجبر والمقابلة” والذي لا يزال الكثير من محتوياته تستخدم حالياً.. الأفكار والنظريات التي توصل لها علماء الرياضيات المسلمين نقلت إلى اوروبا بعد ذلك بـ300 عام على يد العالم الإيطالي فيبوناشي.. الـ” Algorithms” وعلم المثلثات نشأوا في العالم الإسلامي.
15: علي بن نفيس والمعروف باسم “زيراب”.. قدم من العراق الى قرطبة في القرن التاسع الميلادي, وعرّف الغرب لأول مرة بمبدأ الثلاث وجبات اليومية.. وقدّم أيضاً البلور أو الزجاج الشفاف لأول مرة والذي تم اختراعه بعد عدة تجارب بواسطة عباس بن فرناس.
16: بواسطة تقدمهم العالي في فنون الحياكة, ووجود أصباغ جديدة بفضل تقدم المسلمون في الكيمياء بالإضافة لوجود الحس العالي في استخدام النقوش والتي كانت اساسا للفن الإسلامي غير التصويري, برع المسلمون في صناعة السجاجيد وغيرها, على العكس في الجهة الأخرى كانت الأرضيات في اوروبا بوضوح بلا أغطية حتى وصلتها السجاجيد العربية والفارسية والتي قدمت في انجلترا كما سجل إيسراموس ” الأرضيات كانت مفروشة بالحشائش.. ونادراً ما تجدد.. وأحياناً كثيرة كانت تترك مخلفات البشر والحيوانات وفتات الأطعمة في الشوارع ” .(3/132)
17: كلمة “Cheque” الغربية أتت في الأصل من الكلمة العربية “صك” , وهي عبارة عن وصل مكتوب يستخدم لشراء السلع, وذلك لتفادي مشاكل نقل الأموال وتعرضها للمناطق الخطرة.. في القرن التاسع عشر كان يستطيع رجل الأعمال المسلم أن يدفع في الصين بواسطة شيك لبنك في بغداد!!
18: في القرن التاسع عشر قال الكثير من علماء المسلمين أن الأرض كروية, وكان الدليل كما قال الفلكي “ابن حزم” أن الشمس دائما ما تكون عمودية على نقطة محددة على الأرض , كان ذلك قبل أن يكتشف جاليليون ذات النقطة ب500 عام.. [ نلاحظ أن ابن حزم لم يعدم لقوله هذا عكس ما حدث مع جاليليو من الكنيسة! ] ..
19: كانت حسابات الفلكيون المسلمون دقيقة جدا حيث أنه في القرن التاسع.. حيث حسبوا محيط الأرض ليجدوه 40,253.4 كيلومتر وهو أقل من المحيط الفعلي بـ200 كيلومتر فقط! , رسم العالم الإدريسي رسما للكرة الأرضية لأحد الملوك في عام 1139 ميلادية.
20: إذا كان الصينيون هم من اكتشفوا البارود واستخدموه في إشعال النيران, فإن العرب هم أول من نقّى البارود باستخدام نترات البوتاسيوم ليكون صالحاً للإستعمال الحربي, مما أصاب أصاب الصليبيين بالرعب, في القرن الخامس عشر نجح المسلمون في اختراع أول صاروخ وأول طوربيد بحري .
في العصور الوسطى كان لدي الأوروبيون مطابخ وحدائق عشبية, ولكنهم كانوا العرب هم من طوروا فكرة الحديثة كمكان للجمال والتأمل.
=====================
هل انتشر الإسلام بحد السيف
هل انتشر الإسلام بحد السيف هذا ما سوف نرد عليه من خلال التاريخ والقرآن والسنة النبوية الشريفة
الإسلام انتشر بالسيف ، ويحبذ العنف
الرد على الشبهة:
وهى من أكثر الشبه انتشارًا ، ونرد عليها بالتفصيل حتى نوضح الأمر حولها:
يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1).
إن هذا البيان القرآني بإطاره الواسع الكبير ، الذي يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان ، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان ، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة ، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة ؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً في عظمة التوصيف القرآني لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين ، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة ، تجلت مظاهرها في كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.
والجهاد في الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر ، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:
1- من ناحية الهدف.
2- من ناحية الأسلوب.
3- من ناحية الشروط والضوابط.
4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.
5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.
وهذا الأمر واضح تمام الوضوح في جانبي التنظير والتطبيق في دين الإسلام وعند المسلمين.
وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة ، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامي الحنيف ، والإصرار على جعله طرفاً في الصراع وموضوعاً للمحاربة ، أحدث لبساً شديداً في هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين ، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف ، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف ، ويكفى في الرد على هذه الحالة من الافتراء ، ما أمر الله به من العدل والإنصاف ، وعدم خلط الأوراق ، والبحث عن الحقيقة كما هي ، وعدم الافتراء على الآخرين ، حيث قال سبحانه في كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) (2).
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو توماس كارليل ، حيث قال في كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " ما ترجمته: " إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (3).
ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: " قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة ، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول ، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند ـ التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط ، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة فيها ، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر " (4).(3/133)
هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً ، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل في الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين ، ولم يكن إلا الدعوة ، والدعوة وحدها ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسي عن تحمله ، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك صلابة في الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه ، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيري والتطبيقي ، ونقصد بالتنظيري ما ورد في مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقي ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التي شارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بعصرنا الحاضر ، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التي ذكرناها سابقاً.
أولاً: الجانب التنظيري
ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام ، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث ، أن المجاهد فى سبيل الله ، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقي المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية ؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهي الربانية التي تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة ، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع ، وألا يخرج مقاتلا من أجل أي مصلحة شخصية ، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التي ينتمي إليها ، أو من أجل أي عرض دنيوي آخر ، وينبغي أن يتقيد بالشروط التي أحل الله فيها الجهاد ، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى ، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله ، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً ، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها ، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً ، أو أصابه الأذى من عدوه ، فإن الله يأمره بضبط النفس ، وعدم تركها للانتقام ، والتأكيد على الالتزام بالمعاني العليا ، وكذلك الحال بعد القتال ، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر ؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين ، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر ، وسمي الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر ؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام ، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.
وفيما يلي نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحدثت عن هذه القضية ، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب ، ونعرف منها متى تنتهي الحرب ، والآثار المترتبة على ذلك:
أولاً: القرآن الكريم:
1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5).
2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6).
3- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (7).
4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) (8).
5- (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) (9).
6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون ) (10).
7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ) (11).
8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً ) (12).
9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً ) (13).
10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) (14).(3/134)
11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون ) (15).
12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) (16).
13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17).
14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18).
15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) (19).
16- (يا أيها النبي قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) (20).
17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) (21).
18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون ) (22).
19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23).
ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:
1- عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة " (24).
2- عن وهب بن منبه ، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا " (25).
3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلي أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة ، وقال: " جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر ، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضي الله عنه ـ وقتال من قاتله " (26).
4- عن سعيد بن جبير قال: " خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك " (27).
5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد الجهاد فقال: " أحي والداك ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد " (28).
ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتي:
1- رد العدوان والدفاع عن النفس.
2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.
3- المطالبة بالحقوق السليبة.
4- نصرة الحق والعدل.
ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:
(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.
(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.
(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.
(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التي تليق بالإنسان.
(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار ، وإفساد الزروع والثمار ، والمياه ، وتلويث الآبار ، وهدم البيوت.
(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.
الآثار المترتبة على الجهاد
يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا ، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح ؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات ، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:
(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.
(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس ، وهو الشر الذي يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.
(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.
(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.
(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.
يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:
(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (29).
قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية:(3/135)
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء ، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بنته أرباب الديانات من مواضع العبادات ، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم ، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات ؛ فكأنه قال: أذن فى القتال ، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية ؛ أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه ؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذي يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى ؛ أي لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس ، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. " لهدمت " من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية " (30).
ثانياً: الناحية التطبيقية
(1) حروب النبي صلى الله عليه وسلم:
(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:
الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة ، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب ، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب ، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما ، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التي تدعوه إلى التشبث بما يملكه ، حيث إن هذه الغريزة هي التي تحفظ عليه البقاء فى الحياة ، وهى بالتالي التي تتولد عنها غريزة المقاتلة ، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة ، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة ، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط ، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله ، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته ، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان ؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع ، كانت الحرب وهو أمر طبيعي فى البشر ، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه ، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده " (31).
(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:
إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية ، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التي يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة ، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض ، أو رغبة فى الثأر الشخصي من الآخرين ، أو حتى ردا للعدوان ، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى ، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين ، إلى بذل النفس إقامة للعدل ، ونصرة للمظلوم ، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله ، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التي يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصي المؤسس على الأنا ، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا ، التي تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.
الحرب فى العهد القديم:
وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هي: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثاني ـ حزقيال).
(1) ففي سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر ، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:
" فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش ، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة ، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه ، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جدًا وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك " (32).
(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:
" فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يفحصون كل واحد من أمام سيده ، أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم ؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام ، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة " (33).
(3) وفى سفر الملوك الثاني ـ الإصحاح الثالث:(3/136)
" وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش ، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها ، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب ، فهل تذهب معي إلى موآب للحرب ؟ " (34).
(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:
" وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفي من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفي من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفي من غمده لا يرجع أيضاً " (35).
(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:
" وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم " (36).
(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:
" وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل ".
(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:
" فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخا والكاهن الذي له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادي الذي لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذي ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش " (37).
(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:
" وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة ، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل " (38).
(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون:
" فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم ، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت " (39).
(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:
" فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب " (40).
(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:
" فقال الرب لموسى لا تخف منه لأني قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه " (41)
(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:
" ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها " (42).
(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:
تطالعنا التوراة ، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: " وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: " كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم " (43).
(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47
" فقال داود للفلسطيني: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل " (44).
(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:
" فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة " (45).
(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:
يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: " الذي يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس.. أتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام ، يسقطون تحت رجلي تمنطقني بقوة للقتال تصرع تحتي القائمين على وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم " (46).(3/137)
هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التي سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم ، فمفهوم الحرب والقتال ، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية ، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية ، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47).
الحرب فى العهد الجديد:
كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية ، بل جاء نص واضح صريح ، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التي تمثلت فى النص الشهير " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك ؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:
" لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض ، ما جئت لأرسى سلاماً ، بل سيفاً ، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه ، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته " (48).
ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده ] (49).
مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال ، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.
لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء ، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام ؛ لا مما به يشان ، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.
ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين ، فنتكلم عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، ممهدين لذلك بالحالة التي كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً ، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.
الحرب عند العرب قبل الإسلام
سجلت كتب التاريخ والأدب العربي ما اشتهر وعرف بأيام العرب ، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التي نشبت بين العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذي يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التي تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التي خلفتها هذه الحروب).
قال العلامة محمد أمين البغدادي: " اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر ، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال " (50).
وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذي قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التي لا تتسم بالعقل ، كانت هي الوقود المحرك لهذه الحروب ، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التي قامت من أجلها هذه المجازر ، والمدة الزمنية الطويلة التي استمرت فى بعضها عشرات السنين ، والآثار الرهيبة التي خلفتها هذه الحروب ، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التي قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم ، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما ، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا ، ودقوا بينهما عطر منشم ، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم ، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51).
هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع فى الكلام على تشريع الجهاد فى الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم.
الجهاد فى شرعة الإسلام:(3/138)
لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها ، بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب فى سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة ـ هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصوداً بالقتل ، إذ ليس معقولاً أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو ، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية فى جزيرة العرب ، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس ديني ربما يكون سبباً فى زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة. وإذا كان الإسلام ديناً بلغت الميول السلمية فيه مداها فى قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام ) (53) إلا أن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذي أنزله الله للإنسانية كافة ، فى عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما، فكان لا مناص من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذي يشهره خصومهم فى وجوههم ، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى:(أُذِنَ للذين يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (53).
أقول: كان التعبير بالإذن الذي يدل على المنع قبل نزول الآية يدل على طروء القتال فى الإسلام وأنه ظل ممنوعاً طيلة العهد المكي وبعضاً من العهد المدني.
" هذا ولم يغفل الإسلام حتى فى هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان ؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور ، وهذا من مميزات الحكومة النبوية ، فإن القائم عليها من نبي يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله ، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة ، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله ، والعالم كله فى نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليماً قوياً.. إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب ، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم ، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه ، ولا أظن أن قارئاً من قرائنا يجهل الناموس الذي اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعوه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضاً " (54).
" ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصراني للمسيح ، وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمراً بصلبه فنجاه الله منهم ، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون فى الأرض لا تجمعهم جامعة ، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الإمبراطور قسطنطين الذي أعمل السيف فى الوثنيين من أعدائهم.. أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية فى عالم مبنى على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل " ؟
" يقول المعترضون: وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم ، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه ؟
نقول: أعددنا لهذا العهد قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (55).
" هذه حكمة بالغة من القرآن ، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة ، وهى أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها ، ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التي لابد منها ما دام الإنسان فى عقليته ونفسيته المأثورتين عنه ، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمي يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حُجة لأهله من ناحية ، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى ، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم " (56).
ثانياً: نظرة تحليلية لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا تتبعنا هذه الغزوات وقسمناها حسب الطوائف التي ضمتها ، أمكننا التعرف على القبائل التي حدثت معها هذه المعارك وهى كالآتي:
(1) قريش مكة:
وهى القبيلة التي ينتمي إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إن قريشاً هو فهر بن مالك ، وقيل النضر بن كنانة ، وعلى كلا القولين فقريش جد للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت معهم الغزوات: غزوة بدر الكبرى ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.
(2) قبيلة بنو غطفان وأنمار:(3/139)
غطفان من مضر ، قال السويدى: " بنو غطفان بطن من قيس عيلان بن مضر ، قال فى العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون " (57) ، قال ابن حجر فى فتح الباري: " تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق " (58) ، أما أنمار فهم يشتركون فى نفس النسب مع غطفان ، قال ابن حجر: " وسيأتى بعد باب أن أنمار فى قبائل منهم بطن من غطفان " (59) ، أي أن أنمار ينتسبون إلى مضر أيضاً ونسبهم كالتالي: أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر (60).
والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذي أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة (61).
(3) بنو سليم:
قال السويدي: " بضم السين المهملة قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى ، وسليم من أولاد خصفة بن قيس عيلان بن مضر (62) ، والغزوات التى خاضها صلى الله عليه وسلم مع بنى سليم هي: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم (63).
(4) بنو ثعلبة:
ثعلبة هو ابن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (64) ، نسبه الدكتور على الجندى إلى مر بن أد هكذا: ثعلبة بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (65) ، والغزوات التي غزاها صلى الله عليه وسلم معهم هي: غزوة ذي القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى (66).
(5) بنو فزارة وعذرة:
قال فى سبائك الذهب: " بنو فزارة بطن من ذبيان من غطفان ، قال فى العبر: وكانت منازل فزارة بنجد ووادى القرى ، ونسب فزارة: فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.
أما بنو عذرة: بنوه بطن من قضاعة ، ونسبهم هكذا: عذرة بن سعد بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافى بن قضاعة (67). ونسبهم إلى قضاعة أيضاً الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم هكذا: عذرة بن سعد بن أسلم بن عمران بن الحافى بن قضاعة (68) ، وعلى هذا فبنو عذرة ليسو من مضر وإنما كانوا موالين لبنى فزارة وهم من مضر. وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية:
سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح (69).
(6) بنو كلاب وبنو مرة:
أما بنو كلاب فهم: بنو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وبنو مرة هم أبناء كعب بن لؤى فيكون كلاب بطن من مرة ، وهذه نفس سلسلة النسب التى ذكرها الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم (70) ، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك (71).
(7) عضل والقارة:
قال فى سبائك الذهب: "عضل بطن من بنى الهون من مضر" ، ونسبهم هكذا: عضل بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وأما القارة فلم يذكرها السويدي فى السبائك ولا الدكتور الجندي ، إلا أن الأستاذ الشيخ محمد الخضرى نسبها إلى خزيمة بن مدركة ، وذكر الفارة بالفاء الموحدة لا بالقاف المثناة (72) وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى غزوة الرجيع (73).
(8) بنو أسد:
قال السويدى: " بنو أسد حى من بنى خزيمة ، ونسبهم هكذا: أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (74) ، والغزوات التى غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل (75).
(9) بنو ذكوان:
قال السويدى: " بنو ذكوان بطن من بهتة من سليم ، وهم من الذين مكث النبى صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت فى الصلاة يدعو عليهم وعلى رعل (76) ونسبهم هكذا: ذكوان بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة خصفة بن قيس عيلان بن مضر (77) ، ولم يغزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.
(10) بنو لحيان:
من المعروف أن بنى لحيان من هذيل ، وهذيل هو: ابن مدركة بن مضر(78)، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى:غزوة بنى لحيان (79).
(11) بنو سعد بن بكر:
نسبهم: سعد بن بكر بن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (80) ، وقد أرسل لهم النبي صلى الله عليه وسلم سرية واحدة هي سرية فدك.
(12) بنو هوازن:
بنو هوازن بطن من قيس عيلان ، ونسبهم هكذا: هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (81)، وقد غزاهم صلى الله عليه وسلم غزوة ذات عرق.
(13) بنو تميم:
بنو بطن من طابخة ، قال فى العبر: " وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمن ، ونسبهم هكذا: تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر " (82).
(14) بنو ثقيف:
بنو ثقيف بطن من هوازن اشتهروا باسم أبيهم ثقيف ، ونسبهم: ثقيف ابن منبه بن بكر بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (83) ، وقد غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوتين هما: غزوة حنين ـ غزوة الطائف.(3/140)
ونستطيع من خلال هذا التتبع أن نقول: إن هذه القبائل كانت جميعها تنتسب إلى مضر وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم أو من والاهم ، وبالمعنى الأدق كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده ، أما اليهود فقد كانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم ، وبذلك ظهر جلياً أن الغزوات والسرايا التي خاضها أو أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم ، كانت موجهة فى نطاق ضيق هو نسل مضر ، فلا يمكن أن يقال حينئذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً ، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام ، ولو كان الأمر كما يقولون لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أي قبيلة من مئات القبائل العربية ، وهذه الحقيقة تحتاج إلى مزيد من التعمق والتحليل فى بعض خصائص القبائل العربية ؛ إذ قد يقول قائل أو يعترض معترض: إن هذا الذي توصلنا إليه بالبحث ـ ألا وهو انحصار القتال مع المضريين ـ لم يحدث إلا اتفاقاً ، والأمور الاتفاقية لا تدل على شيء ولا يستخرج منها قانون كلى نحكم به على جهاد النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من الممكن أن يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ربيعة بدلاً من مضر ، أو يقاتل ربيعة ومضر معاً ، أو يقاتل القحطانية بدلاً من العدنانية أو يقاتلهما معاً ، وهكذا.
ذلك المتوقع أن تزيد الألفة والمودة بين أفراد وقبائل الجد الواحد لا أن تشتعل نار الحرب والقتال بينهم ، فما الذي عكس هذا التوقع وقلب الأمر رأساً على عقب ؟!
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:
كان من أشهر الأمثلة العربية المثل المشهور " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " وقد كان العرب يطبقون هذا المثل تطبيقاً حرفياً ـ دون هذا التعديل الذي أضافه الإسلام عليه ـ فكانوا ينصرون إخوانهم وبنى أعمامهم نصراً حقيقياً على كل حال فى صوابهم وخطئهم وعدلهم وظلمهم ، وإذا دخلت قبيلتان منهم فى حلف كان لكل فرد من أفراد إحدى القبيلتين النصرة لأفراد القبيلة الأخرى ، وهذا الحلف قد يعقده الأفراد وقد يعقده رؤساء القبائل والأمر واحد فى الحالين.
بينما هم كذلك فى بنى أبيهم وفى حلفائهم ، إذ بك تراهم حينما تتشعب البطون قد نافس بعضهم بعضاً فى الشرف والثروة ، فنجد القبائل التي يجمعها أب واحد كل واحدة قد وقفت لأختها بالمرصاد تنتهز الفرصة للغض منها والاستيلاء على موارد رزقها ، وترى العداء قد بلغ منها الدرجة التى لا تطاق ، كما كان بين بطني الأوس والخزرج ، وبين عبس وذبيان ، وبين بكر وتغلب ابني وائل ، وبين عبد شمس وهاشم ، 000 إلخ ، فكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة ، تزيدها العصبية حياة ونمواً ، وكانت مفقودة تماماً بين القبائل المختلفة ؛ فكانت قواهم متفانية فى قتالهم وحروبهم ونزاعاتهم.
وقد علل الشيخ محمد الخضري بك هذه الحقيقة العجيبة بأمرين:
الأمر الأول:
التنافس فى مادة الحياة بين بنى الأب الواحد ، إذ أن حياتهم كانت قائمة على المراعى التي يسيمون فيها أنعامهم ، والمناهل التي منها يشربون.
الأمر الثاني:
تنازع الشرف والرياسة ، وأكثر ما يكون ذلك إذا مات أكبر الإخوة وله ولد صالح لأن يكون موضع أبيه ، فينازع أعمامه رياسة العشيرة ولا يسلم أحد منهما للآخر ، وقد يفارق رئيس أحد البيتين الديار مضمراً فى نفسه ما فيها من العداوة والبغضاء ، وقد يبقيا متجاورين ، وفى هذه الحالة يكون التنافر أشد كما كان الحال بين الأوس والخزرج من المدينة ، وبين هاشم وأمية من مكة ، وبين عبس وذبيان من قيس ، وبين بكر وتغلب من ربيعة. ومتى وجد النفور بين جماعتين أو بين شخصين لا يحتاج شبوب نار الحرب بينهما إلى أسباب قوية ، بل إن أيسر النزاع كاف لنشوب نار الحرب وتيتم الأطفال وتأيم النساء ؛ لذلك كانت الجزيرة العربية دائمة الحروب والمنازعات (84).
هذه الحقيقة التي توصلنا إليها ـ وهى أن نار الحرب سريعة النشوب بين أبناء الأب أو الجد الواحد ـ تدعم ما توصلنا إليه من أن الحرب إنما كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده ، وإذا كان الخلاف محصوراً فى السببين السابقين ، فأى سبب هو الذى أجج نار الغيرة والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ هل السبب هو التنافس فى مادة الحياة الدنيا ، أم الخوف من انتزاع الشرف والسيادة التى تؤول إلى النبى صلى الله عليه وسلم إذا هم أذعنوا له بالرسالة والنبوة ؟(3/141)
أما عن السبب الأول فليس وارداً على الإطلاق ، فلقد ضرب كفار مكة حصاراً تجويعياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بنى هاشم وبنى عبد المطلب ، فانحازوا إلى شعب أبى طالب ثلاث سنوات كاملة ، عاشوا فيها الجوع والحرمان ما لا يخطر ببال ، حتى إنهم من شدة الجوع قد أكلوا ورق الشجر وكان يسمع من بعيد بكاء أطفالهم وأنين شيوخهم ، ومع ذلك فقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم الصبر والثبات ، ولم يأمر أصحابه أن يشنوا حرباً أو قتالاً لفك هذا الحصار ، والخبير يعلم ما الذي يمكن أن يفعله الجوع بالنفس البشرية ، إن لم يصحبها نور من وحى أو ثبات من إيمان.
كان السبب الثاني إذن كفيلاً بإشعال هذه النار فى قلوب هؤلاء وعلى حد تعبير الأستاذ العلامة محمد فريد وجدى: " كان مقصوداً بالقتل من قريش ، وليس يعقل أن تغمض قريش عينها ، ومصلحتها الحيوية قائمة على زعامة الدين فى البلاد العربية ، وعن قيام زعامة أخرى فى البلاد كيثرب يصبح منافساً لأم القرى ، وربما بزها سلطاناً على العقول ، وكر على قريش فأباد خضراءها وسلبها حقها الموروث " (85) ، والذي يؤيد هذا ويقويه ذلك الحوار الذى دار بين الأخنس بن شريق وبين أبى جهل ؛ إذ قال له الأخنس: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ ـ يعنى القرآن ـ فقال ما سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذا ؟! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
ليست الصدفة إذن ولا محض الاتفاق هما اللذان دفعا النبي صلى الله عليه وسلم لقتال أبناء أجداده من مضر دون ربيعة أو غيرها من العرب ، بل الطبيعة العربية المتوثبة دائماً ، لمن ينازعها الشرف والسيادة من أبناء الأب الواحد ـ على ما بيناه آنفاً ـ كانت هى السبب الرئيسى لاشتعال هذه الحروب ولولاها لما اضطر صلى الله عليه وسلم للقتال بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة والصبر تخللها من المشاق والعنت ما الله به عليم ، ومع ذلك فقد كان هجيراه ـ بأبى هو وأمي ـ " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ".
وثمة أمر آخر ينبغى الإشارة إليه ، يتعلق بالآثار الناجمة عن هذا القتال ، من حيث أعداد القتلى التى نجمت عن هذه الغزوات والجدول الآتي يعطينا صورة بيانية عن هذه الآثار كالآتى:
الغزوة / شهداء المسلمين / قتلى المشركين / الملاحظة
بدر / 14 / 70 /
أُحد / 70 / 22 /
الخندق / 6 / 3 /
بنو المصطلق / ـ / 3 /
خيبر / 19 / لم يدخل اليهود فى هذه الإحصائية لأن لهم حكم آخر بسبب خيانتهم ، فهم قُتلوا بناء على حكم قضائى ، بسبب الحرب.
بئر معونة 69 / ـ /
مؤتة / 14 / 14 /
حنين / 4 / 71 /
الطائف / 13 / ـ /
معارك أخرى / 118 / 256 /
المجموع / 317 / 439 / 756 من الجانبين.
وبعد فقد بدا للناظرين واضحًا وجليًا أن الإسلام متمثلاً فى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن حمل الناس على اعتناق الإسلام بالسيف ، وهو الذى قال صلى الله عليه وسلم لأعدائه بعدما قدر عليهم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " هكذا دون شرط أو قيد ، أقول حتى دون اشتراط الإسلام.
والنتائج الحقيقية:
(1) تحويل العرب الوحوش إلى عرب متحضرين ، والعرب الملحدين الوثنيين إلى عرب مسلمين موحدين.
(2) القضاء على أحداث السلب والنهب وتعزيز الأمن العام فى بلاد تفوق مساحتها مساحة فرنسا بضعفين.
(3) إحلال الأخوة والروحانية محل العداوة والبغضاء.
(4) إثبات الشورى مكان الاستبداد (86).
هذا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضوابط وقيود كان من شأنها أن تحدد وظيفة الجهاد فى نشر الإسلام فى ربوع المعمورة ، دون سفك للدماء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ومن هذه الضوابط قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) (87).
فإن كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد ، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم ، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.
ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم ، لأنه لم يخف منهم بل علم ذلك يقينًا.
ودل مفهوم الآية أيضاً على أنه إذا لم يخف منهم خيانة بأن يوجد منهم ما يدل على عدم الخيانة ، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم ، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (88).
انتشار الإسلام
أ ـ معدلات انتشار الإسلام:(3/142)
الذي يؤكد على الحقيقة التي توصلنا إليها ـ وهى أن انتشار الإسلام كان بالدعوة لا بالسيف ـ أن انتشار الإسلام فى الجزيرة العربية وخارجها ، كان وفق معدلات متناسبة تماماً من الناحيتين الكمية والكيفية ، مع التطور الطبيعى لحركة الدعوة الإسلامية ، ولا يوجد فى هذه المعدلات نسب غير طبيعية أو طفرات تدل على عكس هذه الحقيقة ، والجدول الآتي يوضح هذه النسب:
السنوات بالهجري / فارس / العراق / سورية / مصر / الأندلس
نسبة المسلمين مع نهاية أول مائة عام / 5%/ 3%/ 2%/ 2%/أقل من 1%
السنوات التي صارت النسبة فيها 25% من السكان/ 185/ 225/ 275/ 275/ 295
السنوات التي صارت النسبة فيها 50% من السكان/ 235/ 280/ 330/ 330/ 355
السنوات التي صارت النسبة فيها 75% من السكان/ 280/ 320/ 385/ 385/ 400
* حسبت السنوات منذ عام 13 قبل الهجرة عندما بدأ تنزيل القرآن الكريم.
وتوضح معلومات أخرى أن شعب شبه الجزيرة العربية كان الشعب الأول فى الدخول فى الإسلام ، وقد أصبح معظمهم مسلمين فى العقود الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم.
وهكذا كان عدد العرب المسلمين يفوق عدد المسلمين من غير العرب فى البداية ، ومهدوا الطريق للتثاقف الإسلامي والتعريب من أجل المسلمين غير العرب ، ولم يمض وقت على هؤلاء رغم أنهم من أديان ومذاهب متعددة من كل الأمم والحضارات السابقة إلا وقد اندمجوا مع العرب وتثقفوا بعلوم الإسلام حتى عدوا من المساهمين فى خدمته .
خصائص ذلك الانتشار:
ـ عدم إبادة الشعوب.
ـ جعلوا العبيد حكاماً.
ـ لم يفتحوا محاكم تفتيش.
ـ ظل اليهود والنصارى والهندوك فى بلادهم.
ـ تزاوجوا من أهل تلك البلاد وبنوا أُسراً وعائلات على مر التاريخ.
ـ ظل إقليم الحجاز ـ مصدر الدعوة الإسلامية ـ فقيراً إلى عصر البترول فى الوقت الذى كانت الدول الاستعمارية تجلب خيرات البلاد المستعمرة إلى مراكزها.
ـ تعرضت بلاد المسلمين لشتى أنواع الاعتداءات (الحروب الصليبية ـ الاستعباد فى غرب إفريقيا ـ إخراج المسلمين من ديارهم فى الأندلس وتعذيب من بقى منهم فى محاكم التفتيش) ونخلص من هذا كله أن تاريخ المسلمين نظيف وأنهم يطالبون خصومهم بالإنصاف والاعتدال ، وأنهم نشروا بين الناس العدل والسلام ، ودعوهم إلى التوحيد الخالص من غير إكراه ، وعلموهم الأخلاق السمحة والآداب الرفيعة ، ونظموا حياتهم وفق شرائع قويمة من لدن حكيم عليم .
1 ـ سرية سيف البحر ـ رمضان 1 هجرية ـ 30 راكب ـ حمزة بن عبد المطلب ـ 300أبو جهل ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة ووجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم.
2 ـ سرية الرابغ ـ شوال سنة 1 هجرية ـ 60 ـ عبيدة بن الحارث ـ 200 عكرمة بن أبى جهل أو أبو صيان ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعاً عظيماً من قريش بأسفل ثنية المرة.
3 ـ سرية ضرار ـ فى ذى القعدة سنة 1 هجرية ـ 80 سعد بن أبى وقاص ـ خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيداً.
4 ـ غزوة ودان وهى غزوة الأبواب ـ صفر 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ عاهد عمرو بن مخثى الضمرى على ألا يعين قريش ولا المسلمين.
5 ـ غزوة بواط ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 200 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 100 ـ أمية بن خلف ـ بلغ إلى بواط ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة لقى فى الطريق قريشاً وأمية ـ رضوى اسم جبل بالقرب من ينبع.
6 ـ غزوة صفوان أو بدر الأولى ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ خرج فى طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه ـ كان كرز بن جابر قد أغار على مواشى لأهل المدينة.
7 ـ غزوة ذى العشيرة ـ جمادى الآخرة 2 هجرية ـ 150 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ وادع بنى مذلج وحلفائهم من بنى ضمرة ـ ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع.
8 ـ سرية النخلة ـ فى رجب 2 هجرية ـ 12 ـ عبد الله بن جحش ـ قافلة تحت قيادة بنى أمية ـ أطلق الأسيران وودى القتيل ـ أرسلوا لاستطلاعن قريش فوقع الصدام.
9 ـ غزوة بدر الكبرى ـ رمضان 2 هجرية ـ 313 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 1000 ـ أبو جهل ـ 22 ـ 70 ـ 70 ـ انتصر المسلمون على العدو ـ بين بدر ومكة سبعة منازل وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعاً عن المسلمين.
10 ـ سرية عمير بن العدى الخطمى ـ فى رمضان 2 هجرية ـ 1 ـ عمير ـ 1 ـ عصماء بن مروان ـ 1 ـ قتل عمير اخته التى كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين.
11 ـ سرية سالم بن عمير الأنصارى ـ فى شوال 2 هجرية ـ 1 ـ سالم ـ 1 ـ الخطمية أبو عكفة ـ كان أبو عكفة اليهودى يستفز اليهود على المسلمين فقتله سالم.
12 ـ غزوة بنى قينقاع ـ فى شوال 2 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة بنى قينقاع ـ تم إجلائهم ـ أتوا بالشر فى المدينة حين كان المسلمون فى بدر فأجلوا لذلك.(3/143)
13 ـ غزوة السويق ـ فى ذى الحجة 2 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 200 ـ أبو سفيان ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى طلبه فلم يدركه ـ بعث أبو سفيان من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها فحرقوا فى أسوال من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما.
14 ـ غزوة قرقرة الكدر أو غزوة بنى سليم ـ محرم 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ 1 ـ خرج العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى جمعاً من المسلمين ـ أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه.
15 ـ سرية قررة الكدر ـ 2 هجرية ـ 1 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ قبيلة بنى غطفان وبنى سليم ـ 3 ـ قتل من الأعداء وفر الباقون ـ بعثت هذه السرية إكمالاً إذ اجتمع الأعداء مرة أخرى.
16 ـ سرية محمد بن مسلمة ـ ربيع الأول ـ 3 هجرية ـ محمد بن مسلمة الأنصاري الخزرجى ـ 1 ـ كعب بن الأشرف اليهودى ـ 1 ـ 1 ـ كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من اليهود ضد المسلمين ودعا قريشاً للحرب فوقعت غزوة أحد.
17 ـ غزوة ذى أمر أو غزوة غطفان أو أنمار ـ فى ربيع سنة 3 هجرية ـ 450 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثعلبة وبنو محارب ـ اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعاً من المسلمين ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ نجد وهنا أسلم وعثود الذى هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18 ـ سرية قردة ـ فى جمادى الآخرة سنة 3 هجرية ـ 100 ـ زيد بن حارثة ـ أبو سفيان ـ 1 ـ خرج زيد بن حارثة فى بعث فتلقى قريشاً فى طريقهم إلى العراق ـ أسر فراء بن سفيان دليل القافلة التجارية فأسلم.
19 ـ غزوة أُحد ـ شوال 3 هجرية ـ 650 راجل ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ 2800 راجل ـ 200 راكب أبو سفيان الأموي ـ 40 ـ 70 ـ 30 ـ لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهم ـ بين أحد والمدينة ثلاثة أيمال كانوا الأعداء زحفوا من مكة إلى أُحد.
ـ غزوة حمراء الأسد ـ فى 7 من شوال المكرم سنة 3 هجرية ـ 540 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2790 ـ أبو سفيان ـ 2 أبو عزة ومعاوية بن المغيرة ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم مرعباً للعدو ـ لما آن الغد من يوم أُحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظاناً بهم ضعفاً ، أسر رجلان ، وقتل أبو عزة الشاعر لأن كان وعد فى بدر بأنه لا يظاهر أبداً على المسلمين ثم نقض عهده وحث المشركين على المسلمين.
21 ـ سرية قطن أو سرية أبى سلمة المخزومى ـ فى غرة محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 150 أبو سلمة المخزومى ـ طلحة وسلمة ـ لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة قام بها المسلمون ـ هو رئيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه.
22 ـ سرية عبد الله بن أنيس ـ فى 5 من محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 1 ـ عبد الله بن أنيس الجهنى الأنصاري ـ 1 ـ سفيان الهذيلى ـ 1 ـ سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوماً ضد المسلمين بعرفى فوصل عليها وقتل بها أبا سفينان.
23 ـ سرية الرجيع ـ فى صفر 4 هجرية ـ 10 عاصم بن ثابت ـ 100 ـ من عضل والقارة ـ 10 ـ استشهاد عشرة قراء.
24 ـ سرية بئر معونة ـ 70 ـ منذر بن عمر ـ جماعة كبيرة ـ عامر بن مالك ـ 1 ـ 69.
25 ـ سرية عمر بن أمية الضميرى ـ ربيع الأول 4 هجرية ـ 1 ـ عمر بن أمية الضمرى ـ 2 قبيلة بنى كلاب.
26 ـ غزوة بنى النضير ـ ربيع أول 4 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة النضير ـ تم إجلائهم بأنهم هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
27 ـ غزوة بدر الأخرى ـ ذى القعدة 4 هجرية ـ 1510 النبي صلى الله عليه وسلم ـ 2050 أبو سفيان ـ لم تحدث مواجهة ـ خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان ولما علم النبى صلى الله عليه وسلم خرج إليه فرجع أبو سفيان رجع النبى أيضاً.
28 ـ غزوة دومة الجندل ـ سنة 5 هجرية ـ 1000 النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل الدومة ـ رجع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيداً.
29 ـ غزوة بنى المصطلق ـ 2 شعبان 5 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق ـ 19 ـ 10 ـ انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم.
30 ـ غزوة الأحزاب أو الخندق ـ شوال 5 هجرية ـ 3000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 أبو سفيان ـ 6 ـ 10 ـ انقلب العدو خاسراً.
31 ـ سرية عبد الله بن عتيك ـ ذى القعدة 5 هجرية ـ 5 ـ عبد الله بن عتيك الأنصارى ـ 1 ـ سلام بن أبى الحقيق ـ 1.
32 ـ غزوة بنى قريظة ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو قريظة ـ 4 ـ 200 ـ 400 ـ من الأعداء من قتل ومنهم من أسر ـ قتلهم كان حكماً قضائياً بسبب الخيانة وكان هذا الحكم موافقاً لنصوص التوراة التي كانوا يؤمنون بها.(3/144)
33 ـ سرية الرقطاء ـ 30 ـ محمد بن مسلمة ـ 30 ـ ثمامة بن آثال ـ 1 ـ أثر ثمالة فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان ثمامة سيد نجد ، وأسلم بعد أن أطلق سراحه من الأسر.
34 ـ غزوة بنى لحيان ـ 6 هجرية ـ 200 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو لحيا من بطون هذيل ـ تفرق العدو حين علم بمقدم المسلمون إليه ـ كانت الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين قتلوا عشرة من القراء.
35 ـ غزوة ذى قردة ـ 6 هجرية ـ 500 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ خيل من غطفن تحت قيادة عيينة الفزارى ـ امرأة واحدة ـ 3 ـ 1 ـ أغاروا على لقاح لرسول الله فخرج المسلمون ولحقوا بهم.
36 ـ سرية عكاشة محصن ـ 40 ـ عكاشة بن محصن الأسدي ـ بنو أسد ـ تفرق الأعداء ولم تحدث مواجهة ـ كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إليهم هذه السرية.
37 ـ سرية ذي القصة ـ 6 هجرية ـ 10 ـ محمد بن مسلمة ـ 100 بنو ثعلبة ـ 1 جريح ـ 9 ـ استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد بن مسلمة بجرح ـ كان عشرة من القراء ذهبوا للدعوة وبينما هم نائمون قتلهم بنو ثعلبة وذو القصة اسم موضع.
38 ـ سرية بنى ثعلبة ـ 6 هجرية ـ 40 ـ أبو عبيدة بن الجراح ـ بنو ثعلبة ـ 1 ـ انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من متاع.
39 ـ سرية الجموم ـ 6 هجرية ـ زيد بن حارثة ـ بنو سليم ـ 10 ـ أسر مجموعة رجال وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم.
40 ـ سرية الطرف أو الطرق ـ 6 هجرية ـ 15 ـ زيد بن حارثة ـ بنو ثعلبة ـ هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيراً ـ بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذى القصة.
41 ـ سرية وادي القرى ـ 12 ـ زيد بن حارثة ـ سكان وادى القرى ـ 1 جريح ـ 9 ـ قتل من المسلمين تسعة رجال وجرح واحد ـ كان زيداً ذاهباً للجولة فحملوا عليه وعلى أصحابه.
42 ـ دومة الجندل ـ 6 هجرية ـ عبد الرحمن بن عوف ـ قبيلة بنى كلب ـ الأصبغ بن عمرو ـ تحقق نجاح ملموس فى مجال الدعوة ـ أسلم الأصبغ بن عمرو وكان نصرانياً وأسلم معه كثير من قومه.
43 ـ سرية فداك ـ 6 هجرية ـ 200 ـ على بن أبى طالب ـ بنو سعد بن بكر ـ هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مائة بعير وألفى شاة ـ بلغ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علىّ رضي الله عنه بالمظاهرة عليهم.
44 ـ سرية أم فرقة ـ 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة ـ 2 ـ انهزم العدو ـ كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد بن حارثة.
45 ـ سرية عبد الله بن رواحة ـ 6 هجرية ـ 30 ـ عبد الله بن رواحة ـ 30 ـ أسير بن رزام اليهودى ـ 1 ـ 30 ـ وقع اشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل اليهود جميعاً.
46 ـ سرية العرنيين ـ 6 هجرية ـ 20 ـ كرز بن جابر الفهرى ـ رجال من عكل وعريننة ـ 1 ـ 8 ـ قتلوا الراعى واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم ـ استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعى النبى صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل.
47 ـ سرية عمرو بن أمية الضمرى ـ 6 هجرية ـ 1 ـ عمرو بن أمية الضمرى ـ كان عمرو قد جاء إلى مكة ليقتل النبى صلى الله عليه وسلم ثم أسلم من حسن خلقه الشريف ثم ذهب إلى مكة يدعو أهلها.
48 ـ غزوة الحديبية ـ 6 هجرية ـ 1400 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ أهل مكة ـ سهيل بن عمرو القرشي ـ تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ريش عشر سنوات ـ كان النبي قد خرج معتمراً فصدته قريش عن البيت فى الحديبية.
49 ـ غزوة خيبر 7 هجرية ـ 100 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ 10000 ـ يهود خيبر كنانة بن أبى الحقيق ـ 50 جريحاً ـ 18 ـ 93 ـ فتح الله للمسلمين فتحاً مبيناً ـ كان اليهود قد قاتلوا المسلمين فى أُحد والأحزاب ونقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفسد خططهم العدوانية.
50 ـ غزوة وادي القرى ـ المحرم 6 هجرية ـ 1382 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ اليهود من وادي القرى.
51 ـ غزوة ذات الرقاع ـ 7 هجرية ـ 400 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار ـ تفرق العدو ـ كانت بنو عطفان قد جمعوا جموعاً من القبائل للإغارة على المسلمين فلما قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعاً.
52 ـ سرية عيص ـ فى صفر 7 هجرية ـ 72 ـ أبو جندل وأبو بصير ـ قافلة قريش ـ 9 ـ أخذ أموال العدو ثم ردها إليهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم.
53 ـ سرية الكديد ـ صفر 7 هجرية ـ 60 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ بنو الملوح ـ 1 ـ وقع اشتباك ـ كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ.
54 ـ سرية فدك ـ فى صفر سنة 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل فدك ـ قتل ناس من العدو.(3/145)
55 ـ سرية حسمى ـ فى جمادى الآخرة 7 هجرية ـ 500 ـ زيد بن حارثة ـ 102 ـ الهنيد بن عوض الجزرى ـ 100 ـ 2 ـ انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم ـ كان دحية الكلبي محملاً ببعض الهدايا من قيصر فقابله الهنيد في ناس وقطع عليه الطريق.
56 ـ سرية تربة ـ فى شعبان سنة 7 هجرية ـ عمر بن الخطاب ـ أهل تربة ـ تفرق العدو ـ بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بنى غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة فى محالهم.
57 ـ سرية بنى كلاب ـ فى شعبان 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو كلاب ـ انتصر المسلمون سبى من الأعداء جماعة وقتل آخرون ـ كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بنى محارب وبنى أنمار.
58 ـ سرية الميفعة ـ رمضان 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل الميفعة ـ وقع اشتباك ـ كانوا حلفاء أهل خيبر.
59 ـ سرية خربة ـ فى رمضان 7 هجرية ـ أسامة بن زيد ـ أهل خربة ـ بينما أسامة وأصحابه يمشون فى الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله.
60 ـ سرية بنى مرة ـ شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو مرة بالقرب من فدك ـ وقع اشتباك كانوا حلفاء أهل خيبر.
61 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري ـ فى شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو فزارة وعذرة ـ جرح جميع المسلمين وأسر منهم رجلان ـ كانت بنو فزارة وعذرة قد ساعدوا اليهود فى خيبر فبعثت إليهم هذه السرية للترويع.
62 ـ سرية ابن أبى العوجاء ـ 7 هجرية ـ 50 ـ ابن أبى العوجاء ـ بنو سليم ـ 1 ـ 49 ـ أصيب ابن أبى العوجاء بجرح واستشهد الباقون ـ قام المسلمون بحشد قواهم فى محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة.
63 ـ سرية ذات أطلح ـ 8 هجرية ـ 15 ـ كعب بن عمير الأنصاري ـ أهالي ذات أطلح بنو قضاعة ـ 14 ـ استشهد المسلمون جميعاً وبرأ واحد منهم ـ كانوا يجمعون فى عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخوفيهم فاستشهد المسلمون جميعاً.
64 ـ سرية ذات عرق ـ فى ربيع الأول 8 هجرية ـ 25 ـ شجاع بن وهب الأسدى ـ بنو هوازن أهالي ذا عرق ـ كانت هوازن قد مدّوا يد المعونة لأعداء المسلمين مراراً ثم اجتمعوا على مشارف المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم.
65 ـ سرية مؤنة ـ فى جمادى الأولى سنة 8 هجرية ـ 3000 ـ زيد بن حارثة ـ مائة ألف ـ شرحبيل الغساني ـ 12 ـ لم نعرف عدد المفقودين ـ انتصر المسلمون ـ كان شرحبيل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت لذلك الحرب وهزم ثلاثة آلاف مائة ألف.
66 ـ سرية ذات السلاسل ـ جمادى الآخرة 8 هجرية ـ 500 ـ عمرو بن العاص القرشى ـ بنو قضاعة ساكنوا السلاسل ـ هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين ـ كانت قضاعة قد تجمعت للإغارة على المدينة.
67 ـ سرية سيف البحر ـ فى رجب 8 هجرية ـ 300 ـ أبو عبيدة ـ قريش ـ أقام المسلمون على الساحل أياماً ثم انصرفوا ـ كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش.
68 ـ سرية محارب ـ فى شعبان 8 هجرية ـ 15 ـ أبو قتادة الأنصاري ـ بنو غطفان ـ هرب العدو خائفاً وأصاب المسلمون أنعاماً ـ تجمع بنو غطفان بخضرة فأرسلت إليهم سرية مكونة من خمسة عشر رجلاً للاستطلاع.
69 ـ غزوة فتح مكة ـ رمضان 8 هجرية ـ 10000 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ قريش مكة ـ 2 ـ 12 ـ انتصر المسلمون ـ لم يتعرض للمسلمين أحد إلا كتيبة واحدة ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة وجعل الناس كلهم طلقاء ولا تثريب عليهم.
70 ـ سرية خالد ـ فى رمضان 8 هجرية ـ خالد بن الوليد ـ الصنم العزى ـ كانت العزى صنم بنى كنانة فحطمها خالد رضى الله عنه.
71 ـ سرية عمرو بن العاص ـ 8 هجرية ـ عمرو بن العاص ـ الصنم سواع ـ كانت سواع صنم بنى هذيل فحطمها عمرو بن العاص رضى الله عنه.
72 ـ سرية سعد الأشهلى ـ رمضان 8 هجرية ـ سعد بن زيد الأشهلى الأنصاري ـ الصنم مناة ـ كانت مناة صنماً للأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلى رضي الله عنه.
73 ـ سرية خالد بن الوليد ـ شوال 8 هجرية ـ 350 ـ خالد بن الوليد ـ بنو جذيمة ـ 95 ـ قتل خمسة وتسعون رجلاً من بنى جذيمة ممن كانوا أسلموا فكره الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم وودى بهم الدية ـ كان خالد بن الوليد بعث داعياً وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشك خالد فى إسلامهم وقتل منهم رجالاً.
74 ـ غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف وبنو هوازن وبنو معز وبنو أحسم ـ 6 ـ 6000 ـ 71 ـ انتصر المسلمون ـ أطلق النبى صلى الله عليه وسلم سراح جميع الأسرى وأعطاهم الكسوة كذلك.
75 ـ غزوة الطائف ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف ـ جمع كثير ـ 13 ـ جمع كثير ـ رجع النبى صلى الله عليه وسلم بعد محاصرة دامت شهراً ـ لما رفع النبى صلى الله عليه وسلم عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا.(3/146)
76 ـ سرية عيينة بن حصن ـ فى محرم 9 هجرية ـ 150 ـ عيينى بن حصن الفزارى ـ قبيلة بنى تميم ـ 62 ـ تم القضاء على الثورة ـ قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينى أسر منهم 11 رجلاً و21 امرأة و 20 ولداً فأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه سيدهم.
77 ـ سرية قطبة بن عامر ـ فى صفر 9 هجرية ـ 20 ـ قطبة بن عامر ـ قبيلة خثم ـ أكثر من النصف ـ أكرهم ـ تفرقوا وانتشروا ـ كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسيراً فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
78 ـ سرية الضحاك ابن سفيان الكلابي ـ ربيع أول 9 هجرية ـ الضحاك رضى الله عنه ـ قبيلة بنى كلاب ـ بعث المسلمون إلى بنى كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك.
79 ـ سرية عبد الله بن حذافة ـ ربيع أول 9 هجرية ـ 300 ـ عبد الله بن حذافة القرشي السهمى ـ القراصنة من الخثعميين ـ هربوا ـ كانوا قد اجتمعوا فى ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية.
80 ـ سرية بن طىء ـ 9 هجرية ـ 150 ـ على رضى الله عنه ـ بنى طىء ـ أسرت سفانة بنت حاتم وغيرها من الناس.
81 ـ غزوة تبوك ـ 9 هجرية ـ 3000 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ هرقل قيصر الروم ـ قام النبي صلى الله عليه وسلم بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة.
82 ـ سرية دومة الجندل ـ 420 ـ خالد بن الوليد ـ أكيدر أمير دومة الجندل ـ أسر ...
=======================
التسري
شبهات حول الإسلام
هذا عن الرق في التاريخ الإنساني وفى الإسلام: الدين.. الحضارة.. والتاريخ.. أما التسري ، فهو: اتخاذ مالك الأمة منها سَرِية يعاشرها معاشرة الأزواج في الشرع الإسلامي.. وكما لم يكن الرق والاسترقاق تشريعاً إسلاميًا مبتكراً ، ولا خاصية شرقية تميزت به الحضارات الشرقية عن غيرها من الحضارات ، وإنما كان موروثاً اجتماعيًا واقتصاديًا إنسانيًا ، ذاع وشاع في كل الحضارات الإنسانية عبر التاريخ..
فكذلك كان التسري الذي هو فرع من فروع الرق والاسترقاق نظاماً قديماً ولقد جاء في المأثورات التاريخية المشهورة والمتواترة أن خليل الله إبراهيم ، عليه السلام ، قد تسرى بهاجر المصرية ، عندما وهبه إياها ملك مصر ، ومنها وُلد له إسماعيل عليه السلام.. فمارس التسري أبو الأنبياء ، وولد عن طريق التسري نبي ورسول.. وكذلك جاء في المأثورات التاريخية أن نبي الله سليمان عليه السلام قد تسرى بثلاثمائة سرية !.. وكما شاع التسري عند العرب قبل الإسلام ، فلقد مارسه ، في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ، غير المسلمين مثل المسلمين..
وإذا كان التسري ، هو اتخاذ مالك الأمة منها سرية ، أي جعله لها موضعا للوطء ، واختصاصها بميل قلبي ومعاشرة جنسية ، وإحصان واستعفاف.. فلقد وضع الإسلام له ضوابط شرعية جعلت منه زواجاً حقيقياً ، تشترط فيه كل شروط الزواج ، وذلك باستثناء عقد الزواج ، لأن عقد الزواج هو أدنى من عقد الملك ، إذ فى الأول تمليك منفعة ، بينما الثاني يفضى إلى ملك الرقبة ، ومن ثم منفعتها..
ولقد سميت الأمة التي يختارها مالكها سرية له سُميت " سَرِيَّةً " " لأنها موضع سروره ، ولأنه يجعلها في حالٍ تسرها " دون سواها ، أو أكثر من سواها.. فالغرض من التسري ليس مجرد إشباع غرائز الرجل ، وإنما أيضاً الارتفاع بالأَمة إلى مايقرب كثيراً من مرتبة الزوجة الحرة..
والإسلام لا يبيح التسري أي المعاشرة الجنسية للأَمة بمجرد امتلاكها.. وإنما لابد من تهيئتها كما تهيأ الزوجة.. وفقهاء المذهب الحنفي يشترطون لتحقيق ذلك أمرين:
أولهما: تحصين السرية ، بأن يخصص لها منزل خاص بها ، كما هو الحال مع الزوجة..
وثانيهماً: مجامعتها ، أي إشباع غريزتها ، وتحقيق عفتها.. طالما أنها قد أصبحت سرية ، لا يجوز لها الزواج من رقيق مثلها ، أو أن يتسرى بها غير مالكها..
ولأن التسري في المعاشرة الجنسية أو التناسل مثله مثل الزواج من الحرائر.. فلقد اشترط الإسلام براءة رحم الأمة قبل التسري بها ، فإباحة التسري قد جاءت في آية إباحة الزواج: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا ) (1).. والتكليف الإسلامي بحفظ الفروج عام بالنسبة لمطلق الرجال والنساء ، أحراراً كانوا أم رقيقاً ، مسلمين كانوا أم غير مسلمين: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) (2).. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا " أوطاس " أي حنين: [ لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة.. ] (3).
وكذلك الحال مع المقاصد الشرعية والإنسانية من وراء التسري.. فهي ذات المقاصد الشرعية والإنسانية من وراء الزواج:(3/147)
تحقيق الإحصان والاستعفاف للرجل والمرأة ، وتحقيق ثبوت أنساب الأطفال لآبائهم الحقيقيين.. ففي هذا التسري كما يقول الفقهاء " استعفاف مالك الأمة.. وتحصين الإماء لكيلا يملن إلى الفجور ، وثبوت نسب أولادهن ". وأكاد ألمح في التشريع القرآني أمراً إلهيًا بالإحصان العام للرجال والنساء ، أحرارًا كانوا أو أرقاء.. ففي سياق التشريع لغض البصر ، وحفظ الفروج ، جاء التشريع للاستعفاف بالنكاح الزواج للجميع.. وجاء النهى عن إكراه الإماء على البغاء ، لا بمعنى إجبارهن على الزنا فهذا داخل في تحريم الزنا ، العام للجميع وإنما بمعنى تركهن دون إحصان واستعفاف بالزواج أو التسري أكاد ألمح هذا المعنى عندما أتأمل سياق هذه الآيات القرآنية: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) (4). فالتشريع للاستعفاف والإحصان بالنكاح الزواج والتسري عام وشامل للجميع..
بل لقد جعل الإسلام من نظام التسري سبيلاً لتحقيق المزيد من الحرية للأرقاء ، وصولاً إلى تصفية نظام العبودية والاسترقاق.. فأولاد السرية في الشرع الإسلامي ، يولدون أحراراً بعد أن كانوا يظلون أرقاء في الشرائع والحضارات غير الإسلامية والسرية ، بمجرد أن تلد ، ترتفع إلى مرتبة أرقى هي مرتبة " أم الولد " ثم تصبح كاملة الحرية بعد وفاة والد أولادها..
وكما اشترط الشرع الإسلامي للتسري استبراء الرحم ، كما هو الحال في الزواج من الحرائر ، اشترط في السرية ما يشترط في الزوجة الحرة: أن تكون ذات دين سماوي ، مسلمة أو كتابية.. وأن لا تكون من المحارم اللاتي يحرم الزواج بهن ، بالنسب أو الرضاعة.. فلا يجوز التسري بالمحارم ، بل ولا يحل استرقاقهم أصلاً ، إناثاً كانوا أم ذكوراً ، فامتلاكهم يفضى إلى تحريرهم بمجرد الامتلاك.. وفى الحديث النبوي الشريف: [ من ملك ذا رحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حر ] (5).
وكما هو الحال في اختيار الزوجة الحرة ، استحسن الشرع الإسلامي تخير السرية ذات الدين ، التي لا تميل إلى الفجور ، وذلك لصيانة العرض. وأن تكون ذات عقل ، حتى ينتقل منها إلى الأولاد. وأن تكون ذات جمال يحقق السكينة للنفس والغض للبصر. فالتخيُّر للنُّطَف وفق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تخيَّروا لنطفكم](6) هو تشريع عام في الحرائر والإماء (7)..
وكما لا يجوز الاقتران بأكثر من أربع زوجات حرائر ، اشترط بعض الفقهاء الالتزام بذات العدد في السراري ، أو فيهن وفى الزوجات الحرائر.. وإذا كان جمهور الفقهاء لا يقيدون التسري بعدد الأربعة ، فإن الإمام محمد عبده في فتواه عن تعدد الزوجات قد قال عند تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى:(أو ما ملكت أيمانكم) (8).
" لقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجواري ما يشاء بدون حصر ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك ، فإن الكلام جاء مرتبطاً بإباحة التعدد إلى الأربعة فقط.. " (9).
ويؤيد هذا الاجتهاد ما كان عليه العمل في صدر الإسلام ، إذ لم يكن الرجل يتسرى بغير سرية واحدة وكما يجب العدل بين الزوجات الحرائر عند تعددهن.. قال بعض الفقهاء: إن ما يجب للزوجة يستحب للسرية ، وجعل الحنابلة الإحصان للأرقاء ذكوراً وإناثاً أمراً واجباً.. (10).
هكذا رفع الإسلام ، بالشروط التي اشترطها في التسري ، من شأن السراري ، وذلك عندما جعلهن في الواقع العملي أقرب ما يكن إلى الزوجات الحرائر. وعندما جعل من نظام التسري بابًا من أبواب التحرير للإماء ولأولادهن ، بعد أن كان رافداً من روافد الاسترقاق والاستعباد.
أما الواقع التاريخي ، الذي تراجع عن هذا النموذج الإسلامي للتسري ، عندما كثرت السبايا ، وتعددت مصادر الاسترقاق.. فمن الخطأ البين بل والتجني حمل هذا الواقع التاريخي على شرع الإسلام..(3/148)
فالإسلام كما قدمنا في الحديث عن الرق قد ألغى وجفف كل روافد ومصادر الاسترقاق ، ولم يستثن من ذلك إلا الحرب الشرعية المشروعة. ولذلك ، فإن تجارة الرقيق ، وأسواق الأرقاء ، وشيوع التسري الذي جاء ثمرة لاختطاف الفتيات والفتيان ، وللحروب غير المشروعة ، وغيرها من سبل الاسترقاق التي حرمها الإسلام.. كل ذلك إن حُسب على " التاريخ الإسلامي " فلا يمكن أن يُحسب على " دين الإسلام ".. وعن هذه الحقيقة الهامة يقول الإمام محمد عبده: " لقد ساء استعمال المسلمين لما جاء في دينهم من هذه الأحكام الجليلة ، فأفرطوا في الاستزادة من عدد الجواري ، وأفسدوا بذلك عقولهم وعقول ذراريهم بمقدار ما اتسعت لذلك ثرواتهم..
أما الأسرى اللاتي يصح نكاحهن فهن أسرى الحرب الشرعية التي قصد بها المدافعة عن الدين القويم أو الدعوة إليه بشروطها ، ولا يَكُنَّ عند الأسر إلا غير مسلمات.. وأما ما مضى المسلمون على اعتياده من الرق ، وجرى عليه عملهم في الأزمان الأخيرة ، فليس من الدين في شيء ، فما يشترونه من بنات الجراكسة أو من السودانيات اللاتي يختطفهن الأشقياء السَّلبَة المعروفون "بالأسيرجية"، فهو ليس بمشروع ولا معروف في دين الإسلام ، وإنما هو من عادات الجاهلية ، لكن لا جاهلية العرب بل جاهلية السودان والجركس.. " (11).
وإذا كان من العبث الظالم حمل تاريخ الحضارة الغربية مع الرق والاسترقاق على النصرانية ، كدين ، فالأكثر عبثية والأشد ظلماً هو حمل التاريخ الإسلامي في هذا الميدان على شريعة الإسلام !..
المراجع
(1) النساء: 3.
(2) المؤمنون: 5 ، 6.
(3) رواه أبو داود.
(4) النور: 30 33.
(5) رواه أبو داود.
(6) رواه ابن ماجة.
(7) انظر: [ الموسوعة الفقهية ] مادة " التسري " طبعة الكويت 1408 هجرية 1988م.
(8) النساء: 3.
(9) [ الأعمال الكاملة ] ج2 ص 91 طبعة القاهرة 1993م.
(10) المصدر السابق: ج2 91.
(11) المصدر السابق: ج2 ص 91، 92.
=======================
الرق
الرِّق لغة: هو الشيء الرقيق ، نقيض الغليظ والثخين.
واصطلاحًا: هو المِلْك والعبودية ، أي نقيض العِتْق والحرية.
والرقيق بمعنى العبد يطلق على المفرد والجمع ، وعلى الذكر والأنثى أما العبد ، فهو: الرقيق الذكر ، ويقابله: الأَمَة للأنثى. ومن الألفاظ الدالة على الرقيق الذكر لفظي: الفتى أو الغلام.. وعلى الأنثى لفظي: الفتاة ، والجارية. أما القنّ فهو أخص من العبد ، إذ هو الزى مُلِك هو وأبواه.
ومالك الرقيق هو: السيد ، أو المولى.
والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد والطبقية والاستغلال في تاريخ الإنسان ، وإليه أشار القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام:(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشْرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) (1)
وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء ، وعندما سئل إخوة يوسف عن جزاء السارق لصواع الملك(قالوا جزاؤه من وُجد في رحله فهو جزاؤه..) (2).
وفى الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال ، وفى بعض تلك الحضارات كالفرعونية المصرية والكسروية الفارسية كان النظام الطبقي المغلق يحول دون تحرير الأرقاء ، مهما توفرت لأي منهم الرغبة أو الإمكانات.. وفى بعض تلك الحضارات كالحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية ، وكانت الأغلبية فى الامبراطورية برابرة أرقاء ، أو في حكم الأرقاء.. وللأرقاء فى تلك الحضارات ثورات من أشهرها ثورة " اسبارتاكوس " [ 7371ق م ].
وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقي والطبقي منابع وروافد عديدة تغذى " نهر الرق " في كل يوم بالمزيد من الأرقاء.. وذلك من مثل:
1- الحرب ، بصرف النظر عن حظها من الشرعية والمشروعية ، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء ، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء..
2- والخطف ، يتحول به المخطوفون إلى رقيق..
3- وارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق..
4- والعجز عن سداد الديون ، كان يحوِّل الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين..
5- وسلطان الوالد على أولاده ، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد ، فينتقلون من الحرية إلى العبودية.
6- وسلطان الإنسان على نفسه ، كان يبيح له بيع حريته ، فيتحول إلى رقيق..
7- وكذلك النسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا ، حتى ولو كان أباه حرا..
ومع كثرة واتساع هذه الروافد التي تمد نهر الرقيق في كل وقت بالمزيد والمزيد من الأرقاء ، كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما ، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها..(3/149)
وأمام هذا الواقع ، اتخذ الإسلام ، إبان ظهوره ، طريق الإصلاح الذي يسعى لتحرير الأرقاء ، وإلغاء نظام العبودية ، وطي صفحته من الوجود ، لكن في " واقعية ثورية " إذا جاز التعبير.. فهو لم يتجاهل الواقع ولم يقفز عليه.. وأيضا لم يعترف به على النحو الذي يبقيه ويكرسه..
لقد بدأ الإسلام فأغلق وألغى وحرّم أغلب الروافد التي كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء.. فلم يبق منها إلا أسرى الحرب المشروعة والشرعية ، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء.. وحتى أسرى الحرب المشروعة فتح الإسلام أمامهم باب العتق والحرية المنّ أو الفداء: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها.. ) (3) فعندما تضع الحرب أوزارها ، يتم تحرير الأسرى ، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء
ومع إغلاق الروافد روافد الاسترقاق ومصادره التفت الإسلام إلى " كتلة " واقع الأرقاء ، فسعى إلى تصفيتها بالتحرير ، وذلك عندما عدد ووسع مصابّ نهر الرقيق..ولقد سلك الإسلام إلى ذلك المقصد سبيل منظومة القيم الإسلامية. وسبيل العدالة الاجتماعية الإسلامية. فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعا، إذ في عتق كل عضو من أعضاء الرقيق عتق لعضو من أعضاء سيده من النار ، فتحرير الرقيق سبيل لتحرير الإنسان من عذاب النار يوم القيامة..
كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة للكثير من الذنوب والخطايا.. وجعل للدولة والنظام العام مدخلاً في تحرير الأرقاء عندما جعل هذا التحرير مصرفا من المصارف الثمانية لفريضة الزكاة فهو جزء من أحد أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) (4). كما جعل الحرية هي الأصل الذي يولد عليه الناس ،
والرق هو الاستثناء الطارئ الذي يحتاج إلى إثبات ، فمجهولوا الحكم هم أحرار ، وعلى مدعى رقهم إقامة البينات ، وأولاد الأمة من الأب الحر هم أحرار و" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ! "..
كذلك ، ذهب الإسلام فساوى بين العبد والحر في كل الحقوق الدينية ، وفى أغلب الحقوق المدنية ، وكان التمييز فقط ، في أغلب حالاته بسبب التخفيف عن الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التي يفرضها الاسترقاق على الإرادة والتصرف.. فالمساواة تامة في التكاليف الدينية ، وفى الحساب والجزاء.. وشهادة الرقيق معتبرة فى بعض المذاهب الإسلامية عند الحنابلة وله حق الملكية في ماله الخاص ، وإعانته على شراء حريته بنظام المكاتبة والتدبير مرغوب فيها دينيًا (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) (6). والدماء متكافئة فى القصاص..
وبعد أن كان الرق من أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد ، حوّله الإسلام بمنظومة القيم التي كادت أن تسوى بين العبد وسيده إلى ما يشبه العبء المالي على ملاك الرقيق.. فمطلوب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل مالا يطيق.. بل ومطلوب منه أيضاً إلغاء كلمة " العبد " و الأمة " واستبدالها بكلمة " الفتى " و " الفتاة ".
بل لقد مضى الإسلام في هذا السبيل إلى ما هو أبعد من تحرير الرقيق ، فلم يتركهم فى متاهة عالم الحرية الجديد دون عصبية وشوكة وانتماء ، وإنما سعى إلى إدماجهم فى القبائل والعشائر والعصبيات التي كانوا فيها أرقاء ، فأكسبهم عزتها وشرفها ومكانتها ومنعتها وما لها من إمكانات ، وبذلك أنجز إنجازاً عظيماً وراء وفوق التحرير عندما أقام نسيجاً اجتماعياً جديداً التحم فيه الأرقاء السابقون بالأحرار ، فأصبح لهم نسب قبائلهم عن طريق " الولاء " ، الذي قال عنه الرسول (: [ الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب ] رواه الدارمي. حتى لقد غدا أرقاء الأمس " سادة " فى أقوامهم ، بعد أن كانوا " عبيداً " فيهم.. وقال عمر بن الخطاب وهو من هو فى الحسب والنسب عن بلال الحبشى ، الذي اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه: " سيدنا أعتق سيدنا " !.. كما تمنى عمر أن يكون سالم مولى أبى حذيفة حيًا فيختاره لمنصب الخلافة.. فالمولى ، الذي نشأ رقيقاً ، قد حرره الإسلام ، فكان إماماً في الصلاة وأهلاً بخلافة المسلمين.(3/150)
ولقد ساعد على هذا الاندماج في النسيج العربي فضلاً عن الإسلامي ذلك المعيار الذي حدده الإسلام للعروبة وهو معيار اللغة وحدها ، فباستبعاد " العرق.. والدم " غدت الرابطة اللغوية والثقافية انتماءً واحداً للجميع ، بصرف النظر عن ماضي الاسترقاق وعن هذا المعيار للعروبة تحدث الرسول(في معرض النقد والرفض للذين أرادوا إخراج الموالى ، ذوى الأصول العرقية غير العربية ، من إطار العروبة ، فقال: [ أيها الناس ، إن الرب واحد ، والأب واحد.. وليست العربية بأحدكم من أب أو أم ، وإنما هى اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي.. ]..
هكذا كان الإسلام إحياء وتحريراً للإنسان ، مطلق الإنسان ، يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، ويحرر الأرقاء ، لأن الرق في نظره " موت " ، والحرية " حياة وإحياء ".. ولقد أبصر هذه الحكمة الإسلامية الإمام النسفي [ 710هجرية /1310م ] وهو يعلل جعل الإسلام كفارة القتل الخطأ تحرير رقبة: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) (6).. فقال: إن القاتل " لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قِبَل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر ، والكفر موت حكماً.." (7)..
فالإسلام قد ورث نظام الرق عن المجتمعات الكافرة فهو من آثار الكفر ، ولأنه موت لروح وملكات الأرقاء ، وسعى الإسلام إلى إلغائه ، وتحرير أي إحياء موات هؤلاء الأرقاء ، كجزء من الإحياء الإسلامي العام (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (8).
ومع أن مقاصد الإسلام في تصفية نهر الرقيق بإغلاق روافده وتجفيف منابعه ، وتوسيع مصباته لم تبلغ كامل آفاقها ، إذ انتكس "الواقع التاريخي" للحضارة الإسلامية ، بعد عصر الفتوحات ، وسيطرة العسكر المماليك على الدولة الإسلامية.. إلا أن. حال الأرقاء في الحضارة الإسلامية قد ظلت أخف قيوداً وأكثر عدلاً بما لا يقارن من نظائرها خارج الحضارة الإسلامية ، بما في ذلك الحضارة الغربية ، التي تزعمت في العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء..
فلقد اقترن عصر النهضة الأوروبية بزحفها الاستعماري على العالمين القديم والجديد ، وبعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغاليون والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين ، وأهلكوهم في سخرة البحث عن الذهب وإنشاء المزارع ، مارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف في التاريخ ، تلك التي راح ضحيتها أكثر من أربعين مليوناً من زنوج إفريقيا ، سلسلوا بالحديد ، وشحنوا في سفن الحيوانات ، لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم التي صنعت رفاهية الرجل الأبيض فى أمريكا وأوروبا.. ولا يزال أحفادهم يعانون من التفرقة العنصرية في الغرب حتى الآن.
وعندما سعت أوروبا في القرن التاسع عشر إلى إلغاء نظام الرق ، وتحريم تجارته ، لم تكن دوافعها في أغلبها روحية ولا قيمية ولا إنسانية ، وإنما كانت في الأساس دوافع مادية ، لأن نظامها الرأسمالي قد رأى في تحرير الرقيق سبيلاً لجعلهم عمالاً أكثر مهارة ، وأكثر قدرة على النهوض باحتياجات العمل الفني في الصناعات التي أقامها النظام الرأسمالي.. فلقد غدا الرق بمعايير الجدوى الاقتصادية عبئاً على فائض رأس المال الذي هو معبود الحضارة الرأسمالية المادية وأصبحت حرية الطبقة العاملة أعون على تنمية مبادراتها ومهاراتها في عملية الإنتاج..
ولقد كان ذات القرن الذي دعت فيه أوروبا لتحرير الرقيق هو القرن الذي استعمرت فيه العالم ، فاسترقّت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقاً جديداً ، لا تزال الإنسانية تعانى منه حتى الآن..
المراجع
(1) يوسف: 1921.
(2) يوسف: 75.
(3) محمد: 4.
(4) التوبة: 60.
(5) النور: 33.
(6) النساء
(7) [ تفسير النسفى ] طبعة القاهرة ، الأولى
===================
قضية الحجاب
السياق القرآني لآية الخمار يبين أن العلة هي العفاف وحفظ الفروج ، حيث يبدأ بالحديث عن تميز الطيبين والطيبات عن الخبيثين والخبيثات.. وعن آداب دخول بيوت الآخرين ، المأهول منها وغير المأهول.. وعن غض البصر.. وحفظ الفروج ، لمطلق المؤمنين والمؤمنات..وعن فريضة الاختمار ، حتى لا تبدو زينة المرأة ـ مطلق المرأة ـ إلا لمحارم حددتهم الآية تفصيلاً. فالحديث عن الاختمار حتى في البيوت ، إذا حضر غير المحارم.. ثم يواصل السياق القرآني الحديث عن الإحصان بالنكاح (الزواج) وبالاستعفاف للذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله(3/151)
( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم * يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تَذكَّرون * فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون * قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) (1).
فنحن أمام نظام إسلامي ، وتشريع إلهي مفصل ، في العفة وعلاقتها بستر العورات عن غير المحارم. وهو تشريع عام ، في كل مكان توجد فيه المرأة مع غير محرم.
بل إن ذات السورة ـ (النور) تستأنف التشريع لستر العورات داخل البيوت ـ نصًا وتحديداً ـ فتقول آياتها الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاثُ عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم * والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ) (2).
فنحن أمام تشريع لستر العورات ، حتى داخل البيوت ، عن غير المحارم ـ الذين حددتهم الآيات ـ ومنهم الصبيان إذا بلغوا الحلم.. فحيث أمر الله بالعفاف وحرم الزنا وأقر الزواج وأباح إمكانية التعدد فكان لابد لكمال التشريع من الأمر بدرء ما يوصل إلى عكس ذلك كله فأمر بالحجاب وبغض البصر وبعدم الخلوة وهو أَمْرٌ له سبحانه فى كل دين.
المراجع
(1) النور: 26- 33.
(2) النور: 68: 70.
======================
شبهات حول الإسلام - حول المرأة
" بقلم الشيخ: مشهور فواز - محاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - ام الفحم
جاء الاسلام وفريق من الناس ينكرون انسانية المرأة، وفريق آخر يرتابون فيها ، وغيرهم يعترف بإنسانيتها، ولكنه يعتبرها مخلوقا خلق لخدمة الرجل.
بينما نحن كمسلمين عندنا وثيقة الهية قد كرمت المرأة ايما تكريم وانصفتها أعظم إنصاف، وانقذتها من ظلم الجاهلية وظلامها، هذه الوثيقة هي القرآن الكريم الذي كرّم المرأة وانصفها انسانا وكرمها وانصفها انثى وكرمها وانصفها بنتا، وكرمها وانصفها زوجة، وكرمها وانصفها اما، وكرمها وانصفها عضوا في المجتمع.
فها هو القرآن الكريم يؤكد انسانية المرأة ومساواتها للرجل في اصل النشأة، فهما متساويان في الخصائص الانسانية العامة، متساويان في التكاليف والمسئولية متساويان في الجزاء والمصير.
وفي ذلك يقول القرآن الكريم { يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا}(النساء-1).
ونحن وإن كنا نقر ونعلم ان بعض المسلمين ظلموا المرأة في عصور شتى وحرموها حقها في التفقه في الدين والعمل في الدنيا وحرموها ما قرر لها الشرع من الذهاب الى بيوت الله للتعبد او التعلم وأجبروها على الزواج ممن تكره، وفرضوا عليها أن تظل عمرها حبيسة دارها.
ولكن ما حصل هذا وما وقع الا في ظل غيبة الوعي الديني الصحيح لما فرضه وأقره الاسلام للمرأة من حقوق.
وليس من شأن الحق وأهله أن نأخذ الاسلام بجريرة الجاهلية به والمعرضين عنه، فلا يؤخذ على الاسلام واهله في هذا الصدد أن أعرافا جاهلية في بعض المجتمعات الاسلامية،حلت محل نظام الاسلام وحكمه، لا سيما في كثير من القرى التي لا يزال سلطان الجهل مهيمنا عليها.(3/152)
لذا عزمت على إعداد هذه العجالة السريعة من أجل عرض هذه الأعراف الجاهلية وأوضح فيها مدى سخافتها وبعدها عن هدي الاسلام وشرعه.
وانني أوصي بضرورة التحرر منها، بل أهيب بذوي السلطة والتدبير العمل على تطهير مجتمعاتنا الاسلامية منها ومن عواقبها.
ونحن في هذا الجهد المتواضع سنتعامل مع المضمون ولن نأسر أنفسنا لخداع الكلمات.
لن تعيش أبصارنا ببريق المصطلحات والرسوم، وإنما نبحث لبصائرنا عن غذاء الحقائق .. ولن نحاكم الادعاءات الا الى موازين المنطق والعدل بإذنه تعالى.
هذا وإن أصبت فمن الله وحده وإن اخطأت فمن نفسي وشيطاني.
اللهم لا تكلني الى نفسي فيما أكتب أو أرى.
*شبهات وردود*
إن مجتمعاتنا تفيض بوقائع وعادات مجحفة بحق المرأة. وان الاسلام هو المتهم في ألسن المتحدثين عن المرأة وحقوقها، سواء من رجال المجتمع الغربي أو من سدنة المجتمع العربي عندنا.
بل إنهم عندما يتحدثون عن شيء من هذه العادات الجانحة، فإنهم لا يتحدثون عنها الا من حيث أنها- فيما يوهمون أو يتوهمون- مظاهر لما يقضي به الاسلام.
ولقد غدا من الأمور البديهية، أن هؤلاء الذين ينتقصون الاسلام من خلال ما يتظاهرون به من الدفاع عن المرأة وحقوقها، لا ينطلقون الى ذلك من غيره على المرأة وانما حقد ذاتي على الاسلام وأهله.
فإذا كان هذا هو الواقع المرئي، فالموضوع الذي يجب أن يعالج اذن ليس بقايا من عادات جاهلية موجودة فعلا، ولكن الموضوع هو:
هل صحيح أن الاسلام هبط بمكانة المرأة، وأنه هو المسؤول عن هذه العادات الجاهلية.
لذا فها أنا اضع بين يديك -أخي القارىء- افتراءات اجترأ عليها المبطلون في حق الاسلام، وعن مدى تكريم الله للمرأة من خلال شرائعه وأحكامه المنزلة، ثم بيان التقصير الذي يتحمله الجهال المتعصبون لعاداتهم البائدة المخالفة لشرع الله عز وجل، والالحاح على ضرورة مقاومة هذه المخلفات الآسنة التي تتحدى شرع الله وحكمه.
وسنجد كما ذكرت انها شذوذات عن الاسلام وعادات لا يؤيدها الدين الحق .. وان السياج الوحيد الذي يقي المجتمع من هذه الشذوذات انما هو هيمنة الوعي الاسلامي وصدق التمسك به والاحتكام اليه.
* الشبهة الاولى: شهادة المرأة وشهادة الرجل*
يختلط البعض فهم قوله تعالى في آية المداينة:{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى}.
فظن البعض أن هذا التفاوت في الشهادة بين الرجل والمرأة نقصا في انسانية المرأة او كرامتها.
وفي الواقع أن هذا التفاوت ليس لنقص إنسانية المرأة وكرامتها، بل لأنها بفطرتها واختصاصها لا تشتغل عادة بالأمور المالية والمعاملات المدنية.
انما يشغلها ما يشغل النساء-عادة- من شؤون الأسرة والبيت.
ومن ثم تكون ذاكرتها أضعف في شؤون المعاملات لهذا أمر الله تعالى أصحاب الدين إذا أرادوا الاستيثاق لديونهم أن يشهدوا عليها رجلين أو رجلا وامرأتين.
وعلل القرآن ذلك بقوله{ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى}.
ولهذا يرى هؤلاء الفقهاء أنفسهم الأخذ بشهادة المرأة- ولو منفردة- فيما هو من شأنها واختصاصها كشهادتها في الرضاع والبكارة والثيوبة والحيض والولادة ونحو ذلك مما كان يختص بمعرفته النساء في العصور السابقة.
لذا اعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد ليس لضعف عقلها، الذي يتبع نقص انسانيتها ، وانما هو لأن المرأة كما قال الاستاذ الشيخ محمد عبده:" ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ومن هنا تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، ومن طبع البشر عامة أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويمارسونها ويكثر اشتغالهم بها".
ويقول الأستاذ محمد شلتوت في كتابه (الاسلام عقيدة وشريعة) ص 213:" الآية جاءت على ما كان مألوفا في شأن المرأة ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات ولا يشتغلن بأسواق المبيعات، وإذا كانت الآية ترشد الى أكمل وجوه الاستيثاق وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا الى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه.
* الشبهة الثانية: حديث ناقصات عقل ودين ..*
هذا أيضا واحد من المتكآت التي يعتمد عليها المتقولون على الاسلام وشرعته، اذ يوهمون ان الشربعة الاسلامية رسخت مبدأ اللامساواة بين الرجل والمرأة وهبطت بمكانة المرأة الى مستوى الدون.
فقد وجدوا في حديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغية نادرة رأوا انها قد تحقق آمالهم في تكريه الاسلام الى المرأة وحملها على التحرير من أحكامه وقيوده ..(3/153)
وهو ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجمع من النساء في حديث طويل :" ... ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن".
* الشرح والتحليل لهذا الحديث وإزالة الوهم في فهمه:
ان هذا الحديث لا يركز على قصد الانتقاص من المرأة بمقدار ما يركز على التعجب من قوة سلطانها على الرجال.
حيث انه من المقرر علميا في علم النفس التربوي، ان المرأة أقوى عاطفة من الرجل وأضعف تفكيرا منه، وان الرجل اقوى تفكيرا من المرأة وأضعف عاطفة منها.
وقد تشذ هذه السنة الربانية فتجد في الرجال من يتصفون بالعاطفة المشبوبة والمشاعر الرقيقة والضجر من القضايا الفكرية العويصة، فيعد ذلك شذوذا في الرجال وقد ترى مظهر هذا الشذوذ في النساء ، فتبصر فتاة راقدة العواطف والوجدان، وذلك ايضا لدى العلم يعتبر شذوذا مخالفا للقاعدة والأصل.
فهذا الحديث يصف المرأة بضعف التفكير ثم يصفها في الوقت ذاته بالسيطرة على الرجل والقدرة على التحكم به. فالرسول صلى الله عليه وسلم وجّه كلامه هذا الى النساء على وجه المباسطة، كما يقول احدنا لصاحبه: قصير ويأتي منك كل هذا الذي يعجز عنه الآخرون !!.
وفي ذلك تقول الكاتبة الألمانية -استرفيلاد- في كتابها ( حق الرجل في التزوج بأكثر من واحدة )ص 34:" بالنسبة للنساء فإن بإمكانهن بسط سلطتهن على الرجال وذلك بالتحكم في غرائزهن الجنسية مما يجعل الرجال تابعين لها، وبما أن النساء في أغلب الأحيان هنّ أضعف جسميا وفكريا من الرجال، فإنهن يستطعن اضافة الى امكانية امتناعهن جنسيا عنهم ان يلفتوا انتباه الرجال اليهن بمثابتهن مواضيع رعاية".
وتمضي فتؤكد هذه الحقيقة على ألسنة النساء قائلة:" والمعروف في النساء قولهن: ان الرجل الذي ابتغيه هو ذاك الذي باستطاعته ان يكون قادرا على حمايتي وهو لن يقدر على ذلك الا اذا كان أطول قامة وأقوى بنية وأشد ذكاء مني .."هذا وقد أوردت مجلة العلوم الأمريكية
- Scientific American - في عدد مايو ايار 1994 بحثا تحت عنوان :" الفوارق في الدماغ بين الجنسين" حيث قررت علميا وجود الاختلاف بين الجنسين،وعزت ذلك لأسباب هرمونية تؤثر في تكوين المخ في كل من الفريقين لا الى اسباب بيئية او اجتماعية.
اي ان الاختلاف ناشىء عن اسباب عضوية في مخ كل من المرأة والرجل.
كما ان دراسة قامت بها مجلة " الريدرز دايجست" تحت عنوان " لماذا يفكر الأولاد تفكيرا مختلفا عن البنات؟".
جاء في هذه الدراسة : ان تخزين المعلومات والقدرات في الدماغ يختلف في الولد عنه في البنت، ففي الفتى تتجمع القدرات الكلامية في مكان مختلف عن القدرات الهندسية والفراغية، بينما هي موجودة في كلا فصي المخ لدى الفتاة... ومعنى ذلك ان دماغ الفتى اكثر تخصصا من مخ اخته، وهذا ما يفسر أن أغلب المهندسين المعماريين من الذكور دون الاناث.
ثم قالت الدراسة: وبإمكان أن يشذ فرد من هذا الجنس او ذاك عن القاعدة امر لا يلغي القاعدة في ذاتها ...
نخلص بنتيجة أن المرأة تشغل جزئين من أقصى المخ عند الكلام بينما يستعمل الرجل فصا واحدا مما يجعله أكثر تخصصا ودقة في ضبط الكلام،لأن الجزء الآخر قد تخصص عند الرجل لوظيفة الذاكرة فلا يحدث لديه التشويش في الذاكرة عند الكلام.
اذن قد آن للذين يتبرمون بإسلام ويمارسون حرفة هابطة مكشوفة في التقول عليه، يجلجلون بهذا الحديث في الاواسط النسائية خاصة، ويطيلون ألسنتهم بالنقد عليه ، ان يلجموا ألسنتهم عن النقد ويصغوا اليه بالاحترام والقبول ان لم تقل بالاستسلام والتقديس !!
بقي أن أبين بعد ذلك ما المقصود بنقصان الدين !
ان نقص الدين يراد به في الحديث قلة التكليفات الدينية. وذلك لأن المرأة خفف الله عنها بعض الوظائف الدينية وأسقطها عنها فهي لا تكلف بالصلاة أثناء الحيض، كما لا تكلف بها أثناء النفاس ولا تكلف بقضاء شيء منها بعد ذلك.
كما أسقط عنها تلاوة القرآن في الفترات ذاتها. ولكن دون ان ينقص شيء من أجرها سبب ذلك.
فالأمر ليس عائدا الى تقصير منها ولكنه عائد الى تخفيف من الله عنها.
فالمرأة توصف في هذه الحال بأنها ناقصة دين اي ناقصة التكاليف الدينية.
ومعاذ الله ان يكون المعنى انها مقصرة في دينها اذ ليس لها اي اختيار في امر فرضه الله عليها. ...
=======================
رد شبهة المساواة بين الكلب والمرأة
تاريخ الفتوى : 10 شوال 1422 / 26-12-2001 السؤال
شيخي العزيز:
أنا مسلم جديد من أمريكا وقد رأيت في صحيح البخاري حديثاً يقارن المرأة بالكلب أو الحمار
إذا كانت هذه هي الطريقة التي ينظر بها الإسلام إلى المرأة فإنني أريد ترك هذا الدين أفيدوني.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:(3/154)
فنقول للأخت السائلة هنيئا لك أن هداك الله للإسلام، فهو دين الله الحق الذي لا يقبل ديناً سواه، قال سبحانه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)[آل عمران: 85] واعلمي أن أعظم نعم الله على الإنسان هدايته للإسلام، كما قال سبحانه: (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان)[الحجرات: 17] كما ينبغي أن تعلمي أن الشيطان وحزبه لا يرضون لأحد أن يفوز بهذه النعمة دونهم، فقد أخذ الشيطان على نفسه عهداً أنه سيقعد للناس على الطريق يصدهم عن سبيل الله، كما قال سبحانه عنه: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) [الأعراف:17]
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد… إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك -أي عصى الشيطان في كل مرة- كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة" رواه النسائي
وللشيطان وأعوانه طرق في صد الناس عن دين الله تتغير بتغير الظروف والبيئات، وتتلون بتلون الثقافات والمجتمعات، ومن ذلك ما يثار من شبهات حول الإسلام وتشريعاته، وعلى المسلم أن يكون على حذر من مكايد الشيطان وأعوانه، ولقد أحسنت الأخت السائلة لما أرجعت الأمر إلى أهله، واستعانت بمن يزيل عنها هذه الشبهة، وهذا هو الواجب في مثل هذا المقام، وما أكثر الشبه، ولكن ما أسرع أن تذهب جميعاً في أدراج الرياح، ومن هذه الشبه موقف الإسلام من المرأة، وإليك أيتها الأخت كلاماً مختصراً، بل في غاية الاختصار عن تكريم الإسلام للمرأة:
فالقرآن مملوء بالآيات التي تتحدث عن المرأة، تتلى هذه الآيات في المساجد والبيوت إلى يوم القيامة، وفي القرآن سورتان يقال لهما: سورتا النساء، وإحداهما ست وسبعون ومائة آية، والأخرى اثنتا عشرة آية، وقد اشتملت السورتان على كثير من الأحكام الخاصة بالمرأة، مزوجة ومطلقة، وكيف ينفق عليها؟ وماذا يجب لها؟ وكيف يسلم إليها حقها؟ ومتى يحل نكاحها ويحرم؟ وفي سورة البقرة إحدى وعشرون آية متتابعة تتحدث عن المرأة، وكذلك سورة النور، والأحزاب، والتحريم، أكثر آياتها في المرأة.
وما أكثر الآيات في بقية السور الدالة على فضل المرأة وعلو شأنها، ووجوب العناية بها.
ولقد قالت نساء من نساء الصحابة: (لو علم الله فينا خيراً لذكرنا في كتابه كما ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) فنزل قول الله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات…)[الأحزاب:35] إلى غير ذلك من الآيات الوفيرة في ذكر المرأة، ولك أن تقارني هذه الوفرة من الآيات القرآنية بتلك النتف اليسيرة في الأناجيل تتحدث عن بعض أحكام المرأة، يذهبون في تفسيرها وتأويلها -بمراد القساوسة والقديسين- شتى المذاهب.
والإسلام جعل المرأة قسيمة الرجل في تكوين البشرية والنشأة الإنسانية: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) [النساء:1]
وأخبرنا القرآن أن المرأة تتساوى مع الرجل في ميادين كثيرة، ومن أهم ذلك: مساواتها له في الأجر الأخروي، والقرب من الله بالعمل الصالح، فقال سبحانه: (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)[آل عمران:195]
وأمر الله عز وجل نبيه أن يأخذ البيعة من النساء كما يأخذها من الرجال، وأمره بأن يجعل للنساء حظاً من دعائه واستغفاره كحظ الرجال، فقال سبحانه: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)[محمد:19]
ومدح النساء على الطاعات كمدحه للرجال، فقال سبحانه: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله)[التوبة:71]
والإسلام هو الذي وصى بالإحسان إلى المرأة وإكرامها وتوقيرها في مواقعها المختلفة أماَّ أو أختاً أو بنتاً أو زوجة.
ويكفيك أيتها المرأة من إحسان الإسلام إليك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته -كما يروى عنه في مصنف عبد الرزاق-: "اتقوا الله في النساء" ويخاف من التقصير في حق المرأة فيقول: "استوصوا بالنساء خيراً" متفق عليه. والإسلام هو الذي جعل للمرأة شخصية مالية مستقلة كالرجل، تملك وتتصرف بأنواع التصرفات المالية، كما قال سبحانه: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ)[النساء: 7] فهل بعد هذا كله يصح لقائل أن يقول: إن الإسلام هضم المرأة حقها؟! فضلاً عن أن يقول: إنه يساويها بالحيوانات.
وأما ما أوردته الأخت في سؤالها من وجود حديث يساوي المرأة بالكلب والحمار فنقول:(3/155)
أولاً: ليس هناك حديث يساوي بين المرأة والكلب والحمار، ومن فهم هذا فقد أخطأ، وإنما ورد الحديث بذكر حكم شرعي وهو قطع الصلاة أي نقص أجرها بسبب مرور شيء من الثلاثة أمام المصلي، ثم بين الحديث نفسه سبب قطع الكلب الأسود للصلاة فقال: "إنه شيطان" وبينت الأحاديث الأخرى سبب قطع المرأة للصلاة، وهو افتتان المصلي بها واشتغاله بها، بخلاف الرجل فإنه إذا مرَّ أمام الرجل لا يفتتن به، وليس السبب أن المرأة مساوية للكلب والحمار.
ويدل على هذا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت أول من أنكر هذا الحديث، فقالت رضي الله عنها: شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة" رواه البخاري.
فدل هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي والمرأة أمامه، فإما لأنها زوجته فلا يخاف الافتتان بها، وإما لأنها كانت في ظلام كما يفهم من بعض الروايات، وإما لأن النبي صلى الله عليه وسلم أملك الناس لشهوته، وعلى كل الاحتمالات فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى وعائشة أمامه لعدم الافتتان بالمرأة.
ثانياً: العمل بهذا الحديث وهو قطع الصلاة بمرور المرأة ليست قضية اتفاق بين علماء الإسلام، بل بينهم خلاف كثير، فقد ادعى كثيرون أن هذا الحديث منسوخ بحديث عائشة، وهذا القول الأخير هو الصواب، وهو الذي أخذ به أكثر أهل العلم.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
====================
الرق وملك اليمين وهدي الإسلام في ذلك
تاريخ الفتوى : 19 شوال 1421 / 15-01-2001 السؤال
هل تجارة العبيد حلال أم حرام ؟ وهل ملك اليمين حلال أم حرام؟ وما موقفها إن كانت متزوجة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الجواب عن هذا السؤال يتلخص في أمور .
فقد جاء الإسلام والرق شائع في أمم الأرض كلهم، لا فرق عندهم بين أن يؤخذ الرقيق في حرب مشروعة، أو عدوان ظالم، أو احتيال على أخذ الحر غدراً وخيانة وأكل ثمنه. فضيق الإسلام هذا الباب، وشدد في حرمة بيع الحر واسترقاقه، وحصر دائرة الرق فيما أخذ من طريق الجهاد المشروع، ثم سعى لتحرير الأرقاء، ورغب في ذلك ترغيباً ظاهراً بفتحه وتكثيره لمجالات العتق، ككفارة اليمين والظهار والقتل، مع حثه وتأكيده على الإحسان إلى الرقيق وتعلميهم وتأديبهم وإكرامهم وإعانتهم .
وبعد ذلك كله فإن ما ملك من الرقيق ملكاً شرعياً صحيحاً جاز بيعه وهبته وتأجيره.
والأنثى من الرقيق يجوز لسيدها الاستمتاع بها ما لم تكن متزوجة، أو محرمة عليه بنسب أو سبب، لقوله تعالى: ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ) [المؤمنون:5-6] ويترتب على وطء الأمة أحكام شرعية منها: أنها بولادتها منه تصبح أم ولد لا يجوز بيعها، وتعتق بعد موت سيدها إلى غير ذلك من الأحكام. وللسيد أن يزوج أمته من عبد أو من حر إذا اجتمعت الشروط المبيحة لذلك. وإذا قاتل المسلمون الكفار فسبوا نساءهم جاز لهم المن بإطلاق سراحهن، أو الفداء، أو الاسترقاق. فإن دخل في نصيب أحد من المسلمين أمة متزوجة من كافر جاز له وطؤها إذا استبرأ رحمها، وثبت خلوه من حمل سابق، لما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشاً إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز وجل في ذلك ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [النساء:24] فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، وما رواه أبو داود مرفوعاً " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". والله أعلم
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=====================
لم يمنع الإسلام الرق ولكنه حث على العتق وجعله عبادة
تاريخ الفتوى : 16 صفر 1420 / 01-06-1999 السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل يوجد نص شرعي في القرآن الكريم حرم به امتلاك العبيد (ذكر أو أنثى)...؟ وما المعنى الدقيق لما ورد في القرآن (وما ملكت أيمانكم )؟؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فلا يوجد نص من كتاب أو سنة يحرم امتلاك العبيد، ولكن حث الإسلام على عتق الرقاب ورغب فيه، فجعله كفارة للقتل الخطأ، وفي الجماع في نهار رمضان ، وفي كفارة اليمين وغير ذلك. ومعنى : ( وما ملكت أيمانكم ) أي ما ملكتم من إلاماء والعبيد . وحسب علمنا فإنه لا يوجد إماء أو أرقاء في هذا العصر حيث إن ذلك لا يكون إلا بسبب الفتوحات والحروب الإسلامية. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===================
تصحيح شبهات حول الإسلام والقرآن
تاريخ الفتوى : 23 ربيع الأول 1425 / 13-05-2004 السؤال(3/156)
أنا شاب أريد أن أصحح عقيدتي في الإسلام. أنا ما زال الشك يملأ عقلي وقلبي عن صحت الإسلام. سؤالي هو. لماذا خلق الله كثيرا من أنواع الشعوب باختلاف لغاتهم, وجعل القرآن باللغة العربية. وكذلك أريد أن أعرف لماذا نحن مسلمون وما الشيء الذي يجعلنا معتقدين بصحة الإسلام.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاختلاف لغات الشعوب دليل واضح على عظمة الله تعالى واستحقاقه لأن يفرد بالعبادة وحده، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [الروم:22] وللتفصيل في هذا الموضوع راجع الفتوى رقم: 42971
ونزول القرآن باللغة العربية خصوصا دليل على فضل هذه اللغة العربية وعلو مكانتها، وهذا الأمر تقدير من الله تعالى فله الارادة المطلقة.
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. كما قال تعالى في سورة الأنبياء
والواجب على المسلم التسليم لقضاء الله تعالى والرضا به واعتقاد أنه مشتمل على كل حكمة وخير، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36] وكوننا مسلمين يعتبر مِنَةً من الله تعالى وتوفيقا منه لنا، ودليلا على الهداية إلى الطريق المستقيم قال تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء [الأنعام:125] واعتقادنا بصحة هذا الدين العظيم واعتناقنا له ثمرة قناعتنا العقلية والنقلية على صحته وأنه من عند الله، وأنه الذي ارتضاه الله تعالى لعباده. وقد أيد الله عز وجل رسوله بالبراهين الدالة على صدقه، ومن ذلك القرآن فهو المعجزة الخالدة الذي لايزال يتحدى البشر أن يأ توا بمثله، وجعل الله الإسلام خاتما للأ ديان السماوية قبله، حيث قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19]
وقال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]
وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48] وللمزيد عن هذا الموضوع نحيلك إلى الأجوبة التالية:
511 ، 38873 ، 11486
وحتى يزول مافي قلبك من شكوك، أكثر من الالتجاء الله تعالى ودعائه أن يشرح صدرك إلى اتباع الحق واليقين به.
ثم عليك بمطالعة الكتب الصحيحة التي تتحدث عن دين الإسلام، إضافة إلى حضور مجالس العلماء الربانيين حتى تتفقه في دينك، وعليك بدفع مثل هذه الشكوك والوساوس فذلك دواء ناجع لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وكثيرا ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق ثم يتوب الله عليه، وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق ويدفعه الله عنه، والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره؛ كما قال الصحابة: يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الايمان وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: الحمدلله الذي رد كيده إلى الوسوسة، أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الايمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو صريحا فدافعه حتى غلبه فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص كاللبن الصريح، وإنما صار صريحا لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الايمان فصار صريحا.
ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافرا أو منافقا، ومنهم من قد غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنا وإما أن يصير منا فقا. انتهى
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===================
كتب في الردود على أباطيل وشبهات المناوئين للدين، والواجب لدى الرد عليهم
تاريخ الفتوى : 17 شوال 1425 / 30-11-2004 السؤال
لو سمحت يا فضيلة الشيخ أريد أن تذكر لي أسماء كتب في مواجهة افتراءت أعداء الإسلام عليه وخاصة حول القرآن وحول السنة النبوية حيث إني قرأت كثيرا في هذا المجال على صفحات الإنترنت وقرأت أيضا بعض الكتب وأريد أن أستزيد في هذا العلم وأتخصص فيه لخدمة الدين والله المستعان.
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/157)
فإن الكتب المصنفة في الردود على أباطيل وشبهات المناوئين لهذا الدين كثيرة ومتنوعة، منها ما صنف في الرد على طعنهم في السنة (كدفاع عن السنة) للعلامة الدكتور محمد أبو شهبة، و(السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للدكتور مصطفى السباعي. وغيرهما، ومنها ما اختص بالرد على الملحدين، مثل كتاب (قصة الإيمان) لنديم الجسر، و(الفيزياء ووجود الله) لجعفر شيخ إدريس، ومنها ما اختص بالرد على شبهات العلمانيين والماركسيين والرأسماليين، (كمذاهب فكرية معاصرة)، و(شبهات حول الإسلام ) كلاهما لمحمد قطب، و (العلمانية) لسفر الحوالي. ومنها ما اختص بالرد على النصارى مثل (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية و(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم، و(محاضرات في النصرانية) لمحمد أبو زهرة. كما أن موقع (الأزهر) على الإنترنت به صفحة للردود على أباطيل الطاعنين في القرآن والسنة، وذلك بعرض شبهات المغرضين من المستشرقين ونحوهم ثم الكر عليها وتفنيدها.
هذا وينبغي التنبه إلى أمرين:
الأول: مع كون الرد على افتراءات المشككين في الإسلام من الغيرة على الدين؛ إلا أنه لا ينبغي الانشغال به إلا بعد التضلع من علوم الشريعة.. ذلك أن الذي يتعرض لهذه الشبهات قبل التسلح بالعلم قد تنطلي عليه بعض هذه الشبهات فيهلك! ولذلك كان السلف رحمهم الله ينهون أشد النهي عن مجالسة أهل البدع.
الثاني: لا ينبغي للمسلم أن يقف أمام شبهات المرجفين موقف المهزوم الذي يتمحل للدفاع عن الإسلام وتبرير ما جاء به من الأحكام، بل ينبغي أن يقف موقف المعتز بدينه الواثق بمنهجه المؤمن بعصمته، وبدلاً من أن يقف موقف المدافع يقف موقف المهاجم الذي ينقض على العلمانيين منهجهم، وكيف أنهم ردوا الشرع المعصوم واتخذوا بدلاً منه زبالة أفكار البشر لتكون دستورهم في الحياة، وكذلك ينقض على النصارى عقائدهم الباطلة من عبادة البشر والتثليث والصلب ونحو ذلك مما لا تقبله فطرة ولا يسيغه عقل. وهكذا مع باقي الطاعنين في هذا الدين.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=======================
ضرب الزوجة بين الحرمة والإباحة
تاريخ الفتوى : 10 ربيع الثاني 1426 / 19-05-2005 السؤال
كيف يكون ضرب الحيوان حراما وضرب الرجل لزوجته حلالا!؟ كما أني سمعت أن هناك نبيا ضرب زوجته فهل هذا صحيح؟ ولماذا؟.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما ذكر في السؤال غير صحيح فضرب الزوجة لغير نشوز حرام لا يجوز، بل حتى عند نشوز الزوجة ومعصيتها لزوجها فيحرم على الزوج أن يضربها ضربا مبرحا، والذي أجازه الإسلام الضرب غير المبرح الذي لا يشين عضوا ولا يكسر عظما، فما يروجه أعداء الإسلام من شبهات حول الإسلام وتشريعاته من مكانة المرأة فيه ترهات وأباطيل.
فالإسلام أمر الزوج بأن يوفر للزوجة المسكن اللائق والملبس اللائق والمطعم اللائق، فإن قصر في ذلك كان لها الحق في طلب الطلاق، فيلزمه الحاكم بالإنفاق أو الطلاق، فإن طلق وإلا حبسه القاضي من أجل زوجته، فديننا يحبس فيه الرجل من أجل المرأة. فأين هم من ذلك وهم الذين أخرجوا المرأة من بيتها وجعلوها(فرجة) وعارضة أزياء، وجعلوها بضاعة رخيصة، وتؤجَّر في الفنادق والمنتزهات، وكلفوها العمل الشاق وترك أولادها بحثاً عن لقمة العيش، ولكن الحقيقة التي يجهلها كثير من الناس، أن هؤلاء الكفار وقعوا في مستنقع الرذيلة وتخبطوا في حياتهم فأرادوا من المسلمين أن يقعوا في ما وقعوا فيه، وصدق الله تعالى إذ يقول: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {البقرة:105}. والقائل سبحانه: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً {النساء: 89}. وبشأن مسألة ضرب المرأة تنظر الفتاوى التالية برقم: 57395، ورقم:22559.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=====================
الخطاب في الشرع موجه إلى الرجال والنساء
تاريخ الفتوى : 06 جمادي الثانية 1426 / 13-07-2005 السؤال
هل عندما يقول الله تعالى في كتابه (يا أيها الذين آمنوا) يكون الخطاب للرجال والنساء أم للرجال فقط والنساء يجب أن يفعلن مثل الرجال؟ فالغربيون يقولون إن القرآن يخاطب الرجال فقط وإذا كان الخطاب للجنسين فلماذا فسر العلماء قول الله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) إن الخطاب للرجال؟ فكلمة زوج تقال للرجل أيضا, والدليل قول الله (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها).
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:(3/158)
فإن الخطاب في الشريعة الإسلامية موجه إلى الجميع الرجال والنساء إلا ما دل دليل على تخصيصه بأحدهما لحكمة لا تخفى على العقلاء، فهذا هو الأصل كما نص عليه أهل العلم، ودل عليه الدليل من نصوص الوحي، كما قال الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ {آل عمران: 195}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: النساء شقائق الرجال.
وما ورد في بعض النصوص مثل: ورجلان تحابا في الله. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة.. فلا مفهوم للرجل في هذه النصوص وما أشبهها عن المرأة، وهذا من باب التغليب الذي هو أسلوب من أساليب الخطاب العربي، وليس فيه نقص لمن لم يذكر باسمه.
فيقولون مثلاً: العمرين والحسنين والأسودين...
وما يدندن حوله الغربيون وأتباعهم دائماً من شبهات حول الإسلام والمرأة كلام فارغ لا قيمة له، وقد أزلنا تلك الشبهة في فتاوى سابقة تجدها مثبتة بالأرقام في آخر الإجابة.
وأما قول الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا {الروم: 21} ومثله: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا {النحل: 72}.
فكثير من أهل العلم فسر: من أنفسكم بجنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ {التوبة: 128}. أي من البشر.
فقد امتن الله على عباده بأن جعل لهم أزواجا من جنسهم، وذلك أبلغ في الإلفة والسكون... ولم يجعلهم من الأجناس الأخرى.
ونرجو الاطلاع على الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7520، 46353، 16032، 62236، 61352، 2369، 16441، 60219، 62354.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==================
شبهات حول الإسلام ودفعها
تاريخ الفتوى : 19 ذو الحجة 1426 / 19-01-2006 السؤال
في البداية أنا أعجبني هذا الموقع ورائع جداً ومن أفضل المواقع وأسأل الله العزيز القدير أن يجزيكم خير جزاء على هذا العمل الصالح .
أنا أعرف أن موضوعي قد سبب لكم صدمة لكن أحب أعلمكم ما حصل لي وجعلني أقول هذا الكلام أنا طالب جامعي و لدي شقة وقد اشترى أخي لي دش أوروبي وفجأة عندما كنت أتفرج في قنوات منها قذرة لأكون صريحا كلها قذرة المهم أدهشني قناة مسيحية تهاجم الإسلام بكل الطرق .
وبدأت أنا أتابع هذه القناة بشكل يومي وبدأت أخاف وأشك في ديني لقد أظهروا الكثير من الفظائع المخيفة حتى إني أبكي كل ليلة قبل أن أنام أخاف أن يكون القرآن من تنزيل الشيطان وأنا لا أريد أن أدخل نار جهنم لا أريد وقد أظهروا الكثير من الأشياء التي هدمت حياتي وجعلتني خائفا من يوم عمري 22 حتى الآن والله وأنا خائف ومن ضمنها سورة البقرة آية 194 ( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) ! هل يعني من اعتدى بالزنا أو اللواط يعتدى بمثل ما اعتدى ؟
وهل الله يقول في نفسه سورة التحريم آية 5 ( عسى ربه إن طلقكن ..... ) وغيرها مثل ربهم الله يقول لنفسه هكذا أم شخص يقول هذا عن الله ؟
وهل كارثة تسونامي وزلزال باكستان هل هي حب من الله للمسلمين أم كره ؟
أنا والله أفكر في أن أصبح نصرانيا والله وأنا خائف لأني أخاف أن أضل طريقي وأنا لا أريد أريد أن أربح الآخرة وهذا هدفي ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكثيراً ما نبه أهل العلم على خطورة مشاهدة القنوات الفضائية دون روية وتمحيص ، والحال الذي أنت فيه نتيجة للتفريط والتساهل في هذا الأمر ، فالواجب الحذر والتخلص من هذه الوسيلة والتوبة إلى الله تعالى مما سبق قال تعالى : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {النور: 31 }
واعلم أن الواجب على المسلم أن يكون على يقين من كون القرآن حقاً وأنه كلام رب العالمين قطعاً ، أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم حقاً ، ولا يجوز أن تكون الشبهات التي ترد إليه من أي جهة كانت باعثاً له على الشك في إيمانه ، فإن هذا من الخطورة بمكان ، وباعث على الردة والعياذ بالله ، وراجع الفتوى رقم : 56097 ، وإذا لم يكن لك علم ترد به هذه الشبهات ففوض العلم إلى الله تعالى ، وقل كما قال الله سبحانه عن الراسخين في العلم : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ {آل عمران: 7 }(3/159)
وأما إذا كانت هذه الخواطر مجرد وساوس لم تستقر في القلب ، وتقوم بمدافعتها فإنها لن تضرك بإذن الله ، بل إن مدافعة الوساوس دليل صدق إيمان صاحبها ، وراجع الفتوى رقم : 7950 ، وأما بخصوص ما أوردت هذه القناة من شبهات فيدخل ضمن القديم المتجدد من قبل أعداء الإسلام للطعن فيه والتشكيك في أصوله ومبادئه ، وهي محاولات يائسة قال تعالى : وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة: 217 } ثم إن جواب هذه الشبهات في النقاط التالية :
النقطة الأولى : أن المعاقبة بالمثل حال الاعتداء قد وضع أهل العلم لها ضوابط ، ومنها أن المحرم لا يحل الاقتصاص فيه بالمثل ، وراجع في هذا الفتوى رقم : 23483 ، والفتوى رقم : 46548 .
النقطة الثانية : أن القرآن قد أنزل بلغة العرب ، ولهم أساليب في بلاغة الكلام يقصدون منه معاني حسنة ، ومن ذلك تطريب أذن السامع ، وشد انتباهه للتأثر بالكلام ، ومن هذه الأساليب التنويع في الخطاب بين استعمال ضمير المتكلم أو ضمير الغائب أو ضمير المخاطب واستخدام أحدهما مكان الآخر ، والانتقال من أحدهما إلى الآخر في السياق الواحد كما في قوله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وهذا كله بضمير الغيبة ، ثم قال بعده : فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى {طه: 53 }
ويبحث أهل العلم في الأسرار البلاغية في هذا التنوع في الخطاب ، فقد يدركون هذه الأسرار أو جزءاً منها ، ويعجزون عن إدراك بعضها ، ويبقى أن القرآن هو كلام الله المعجز الذي تحدى به العرب الفصحاء فعجزوا عن أن يأتوا بمثله .
وفي الآية المذكورة وهي قوله سبحانه : عَسَى رَبُّهُ {التحريم: 5 } ونحوها من الآيات التي يخبر فيها الله تعالى عن نفسه بأسلوب الغائب قد يكون المقصود التعظيم ، وهذا موجود في لغة العرب ، قال الطاهر ابن عاشور في تفسيره ( التحرير والتنوير ) عند قوله الله سبحانه : وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ {الزخرف: 77 } قال رحمه الله: وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا ، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار ما مثل التعظيم في نحو قول الوزير للخليفة : لير الخليفة رأيه. اهـ وقد يكون ذلك لمعنى آخر غير ما ذكرنا ، والله أعلم .
النقطة الثالثة : أن الزلازل وغيرها من المصائب التي قد ينزلها الله على عباده ، قد تكون بلاء عليهم بسبب فسادهم كما قال تعالى : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ {الشورى: 30 } فقد يعذب الكافر لكفره ، ويعذب المسلم لفسقه ومخالفته أمر ربه ، فيبغض منه هذا الفعل ويعاقبه عليه ، بل وقد ينزل العذاب فيعم الصالح والطالح عند كثرة الفساد ، وراجع الفتوى رقم : 43939 ، ثم إن ما يصيب الكفار من زلازل وكوارث أعظم بكثير مما يصيب المسلمين ، وما إعصار كاترينا عن الناس ببعيد ، فماذا يقول أصحاب هذه القناة وغيرها من أبواق الكفر والضلال عن هذه الأعاصير وأمثالها والتي فيها مصداق قول الله تعالى : وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {الرعد: 31 } أما كان الأولى بأصحاب هذه القناة أن يلتفتوا إلى ما في أناجيلهم من تناقضات دالة على بطلان ما عليه النصارى من معتقدات ، فإذا أعملوا عقولهم ووقفوا مع نفوسهم وقفة تجرد لعلموا أنهم لا يملكون حجة صحيحة يثبتون بها مبادئهم فضلاً عن إبطال مبادئ غيرهم ، وراجع في بيان تحريف الإنجيل وأباطيل النصرانية الفتاوى بالأرقام : 10326 ، 8210 ، 2105 ، وإننا لا نجد مثلاً لهؤلاء في محاولة نيلهم من الإسلام إلا كما يقول القائل :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها **** فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وفي الختام نوصيك بأن تتقي الله تعالى وتحرص على دينك ، وأن تحذر ما قد يفسده عليك من مشاهدة أمثال هذه القنوات وغيرها ، وينبغي أن تحرص على العيش في بيئة صالحة تجالس فيها أهل العلم وتصاحب فيها الأخيار ، وأن تجتنب العيش في بيئة فاسدة تجالس فيها أهل الجهل والغفلة وتصاحب فيها الأشرار ، حفظ الله تعالى لك دينك وثبتنا وإياك على الحق حتى نلقاه .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
===================
جواب شبهات حول الإسلام
تاريخ الفتوى : 25 ذو الحجة 1426 / 25-01-2006 السؤال(3/160)
أنا مسلمة والحمد لله ولكني احترت في الإجابة عن بعض أسئلة لملحدين وأرجو مساعدتكم حتى أصحح نظرة البعض عن الإسلام وجزاكم الله خيرا إن شاء الله
الإسلام للبشرية جمعاء ولكن ليس كل الناس يسمعون عن الإسلام ويموتون وهم غير مسلمين وذلك بسبب الجهل أوالفقر أوعوامل أخرى تمنعهم من التعرف عن الإسلام فكيف يكون في هذه الحال الإسلام للبشرية جمعاء ؟ وهل يعاقب من في هذه الحال ؟
الطفل يعاقبه والداه إذا أخطأ حتى لا يعيد الكرة إلا إننا في هذه الدنيا لا نعاقب إلى أن تكون الآخرة فيعاقب المجرمون فما نفع العقاب على حد قول الملحدين ؟
يقولون أيضا إن الطريقة الإسلامية في الذبح تعذب الحيوان لذلك يؤيدون طرق أخرى في قتل الحيوان مثل ضربه بالرصاص فيموت من فوره دون أن يشعر بشيء على حد قولهم فما مدى صحة هذا الكلام ؟ وما هي حكمة الله عز و جل في الطريقة الإسلامية للذبح ؟
هل لغير المسلمين حق في لمس القرآن الكريم بهدف قراءته والتعرف على الإسلام ؟
أرجو ألا أكون قد أطلت عليكم وأنتظر منكم إجابة شافية إن شاء الله حتى ينتصر دين الحق ؟
وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا السؤال قد اشتمل على ثلاث شبه وسؤال وقبل الإجابة عليها ننبه الأخت السائلة إلى الحذر من مناقشة الملحدين إلا إذا كانت مؤهلة لذلك تأهيلاً يجعلها قادرة على كشف شبهاتهم وإبطالها ، وإلا عادت هذه المناقشات عليها بالخسران إذا انطلت عليها شبهاتهم وتشربها قلبها ، ولهذا كان السلف الصالح يحذرون من مجالسة أهل الأهواء والضلال ، وللمزيد من الفائدة راجعي الفتوى رقم : 66840 .
وأما الجواب على ما تضمنه السؤال : فنقول وبالله التوفيق :
1 ـــ فأما قولك (( ليس كل الناس يسمعون عن الإسلام .. ))
فإن من لم يسمع عن الإسلام ولا بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فهو من أهل الفترة ، والراجح في أهل الفترة أنهم لا يؤاخذون بما كانوا عليه من العصيان بسبب عدم بلوغ الرسالة إليهم ، وإنما يمتحنون يوم القيامة ، وهذا من رحمة الله تعالى بهم ، وقد فصلنا ذلك في الفتوى رقم : 3191 ، فراجعيها .
2 ــ وأما قولهم (( إلا أننا في هذه الدنيا لا نعاقب إلى أن تكون الآخرة ، فيعاقب المجرمون ، فما نفع العقاب )) فهذا كلام غير صحيح لأن الله تعالى كثيراً ما يعاقب العصاة والكفار في الدنيا قبل الآخرة لينتهوا ويعودوا إلى ربهم سبحانه ، لكن أكثرهم لا يستشعرون ولا يتعظون بهذه العقوبات ، قال تعالى : وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {الرعد: 31 } وعقوبات الله تعالى في الدنيا كثيرة ومتنوعة ، فقد تكون العقوبة مرضا ، وقد تكون نقصا في المال ، وقد تكون بفقد الأحبة ، وقد تكون بالهم والقلق وغير ذلك ، قال تعالى : فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {الأنعام: 42 } وقال أيضاً : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ {الأعراف: 94 } قال الشوكاني في فتح القدير (( أي البؤس والضر ، وقيل البأساء المصائب في الأموال ، والضراء المصائب في الأبدان ، وبه قال الأكثر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . رواه أحمد وابن ماجة وحسنه البوصيري ، في مصباح الزجاجة ، وبناء على ذلك فلا يمكن لأحد أن يزعم بأن العصاة لا يعاقبون أبدا في هذه الحياة ، لأن عقوبات الله تعالى في الدنيا أنواع وأشكال ، ثم إن زعمهم بأن عقاب الآخرة لا نفع فيه غير مسلم لهم ، لأن عددا كبيرا من البشر الذين يؤمنون بالحساب والعقاب ، يكفهم عن المعاصي علمهم بما أعده الله تعالى من العقوبة للعصاة يوم القيامة ، وهذا من ثمرات الإيمان الطيبة .
3 ــ وأما قولهم بأن ذبح الحيوان تعذيب له : فنقول : إن الإسلام قد سبق هؤلاء في الأمر بالعطف على الحيوان والنهي عن تعذيبه ، ونورد لك بعض الأحاديث النبوية في هذا المعنى :
1 ــ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضاً . رواه مسلم
2ـ وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى أن تصبر البهائم . رواه مسلم أيضاً
قال النووي رحمه الله: قال العلماء : صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه ، وهو معنى ( لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ) أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه .. وهذا النهي للتحريم. اهـ(3/161)
3 ــ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : مر ابن عمر بنفر نصبوا دجاجة يترامونها فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها ، فقال ابن عمر من فعل هذا ؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا . رواه البخاري ومسلم
4 ــ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالعطف على الحيوان عند الذبح ، فعن شداد ابن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته . رواه مسلم
قال النووي في شرح مسلم: ويستحب أن لا يحد السكين بحضرة الذبيحة ، وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى ، ولا يجرها إلى مذبحها .... وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام.
5 ــ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال : أفلا قبل هذا ، أتريد أن تميتها موتتين . رواه الطبراني في الكبير والأوسط والحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري ، وصححه الألباني .
قال الملا علي القاري: قال علماؤنا : وكره السلخ قبل التبرد وكل تعذيب بلا فائدة لهذا الحديث.
ثم نحيلك على مقالة رائعة بعنوان : ذبح الحيوان قبل موته ضمان لطهارة لحمه من الجراثيم ، وقد نشرها موقع طريق الإسلام ( lslamway ) وهذا عنوانها
http://www.islamway.com/?iwــ a view&article id 159
وهي مقالة طويلة ومما ورد فيها :
" الرحمة بالحيوان : إذا قمنا بذبح الحيوان وقطع أوردته ، وبعد أن يسيل الدم منه ، فهل يشعر الحيوان بالألم من جراء ذلك ؟
الجواب بسيط : قد اكتشف العلم أن مراكز الإحساس بالألم تتعطل إذا توقف ضخ الدماء عنها لمدة ثلاث ثوان فقط ، لأنها بحاجة إلى وجود الأكسجين في الدم باستمرار .
كيف نقول إن هذا الحيوان لا يحس بالألم مع أننا نراه يرفس ويتحرك ويتلوى و يتخبط ؟
هذا سببه أن الجهاز العصبي لا يزال حياً ، وما تزال فيه حيوية ، ولم يفقد منه غير وعيه فقط ، وفي هذه الحالة مادمنا لم نقطع العنق فإننا لم نعتد على الجهاز العصبي فتظل الحياة موجودة فيه ، لكن الذي يحدث في عملية الذبح بطريقة المسلمين أن يبدأ الجهاز العصبي بإرسال إشارات من المخ إلى القلب طالباً منه إمداده بالدماء لأنها لم تصل إليه ، وكأنه ينادي : لقد انقطعت عني الدماء .. أرسل إلينا دماً ايها القلب ، يا عضلات .. أمدي القلب بالدماء ، أيها الجسم .. أخرج الدماء فإن المخ في خطر . عندها تقوم العضلات بالضغط فوراً ، ويحدث تحرك شديد للأحشاء والعضلات الداخلية والخارجية ، فتضغط بشدة وتقذف بكل ما فيها من دماء وتضخها إلى القلب ، ثم يقوم القلب بدوره بالإسراع في دقاته بعد أن يمتلئ بالدماء تماما ً فيقوم بإرسالها مباشرة إلى المخ ، ولكنها ــ بطبيعة الحال ــ تخرج للخارج ولا تصل إليه ، فتجد الحيوان يتلوى ، وإذا به يضخ الدماء باستمرار حتى يتخلص جسم هذا الحيوان تماما من الدماء .. وبذلك يتخلص جسم هذا الحيوان من أكبر بيئة خصبة لنموا الجراثيم وأخطر مادة على الإنسان ، أي أن الحيوان المذبوح يفقد الحياة خلال ثلاث ثوان فقط إذا ذبح بالطريقة الصحيحة ، وأن ما نراه في الحيوان من رفس وتشنج وما شابه ذلك هي من مؤثرات بقاء الحياة في الجهاز العصبي ، ولا يشعر الحيوان المذبوح بها على الإطلاق "
وأما سؤالك عن مس الكافر للقرآن فقد سبق لنا تفصيل القول فيه في الفتوى رقم : 34457 ، فراجعيها .
والله أعلم .
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
====================
تعدُّد الزَّوجات في الإسْلام
تقدمة وتمهيد:
يحاول أعداء الاسلام – من ملاحدة ومستشرقين – أن يثيروا على النظام الإسلامي اتهاما باطلة ، وشبهات مغرضة ،وحملات حاقدة ، ليشككوا بصلاحية هذا النظام ، ومقومات خلوده على مدى الزمان والأيام ، وليجدوا من المسلمين من يستجيب لآرائهم ويؤمن بمعتقداتهم وأفكارهم ، ويقع في حبائل شكوكهم واتهاماتهم.
فمن هذه الاتهامات التي يثيرونها ، والحملات المغرضة التي يشنونها:
إباحة الإسلام لنظام تعدد الزوجات، وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع زوجات في وقت واحد ويتخذ أولئك الأعداء من هذا التعدد ذريعة للطعن بنظام الإسلام ، وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، بل يتهمون الإسلام بأنه أهدر كرامة المرأة ، وأسقط اعتبارها الذاتيفي الحياة !!
هذا الكلام المعسول الذييروّج له أولئك المثيرون قد يستهوي بعض العقول القاصرة بادئ ذي بدء ، بل ربما يتأثر البعض – ممن ينتسب إلى الإسلام – بهذه الاتهامات المغرضة ، فيذهبون إلى ترويجها وإشاعتها ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وهؤلاء المروّجون لمثل هذه الشبهات والاتهامات: إما أن يكونوا عالمين بالحقائق وحكمة التشريع ، وإما أن يكونوا جاهلين بها.(3/162)
فإن كانوا عالمين ، فإنهم يبرهنون بشكل قاطع لا يقبل الريبة والشك أنهم عملاء لأعداء الإسلام، بل أداة تنفذ لإشاعة كل ما يثيرونه من أراجيف ، وما يروجونه من أكاذيب ، وما أكثر أولئك الذين يرتبطون بالأعداء ، ويوصمون بالعمالة ، وما هم في الحقيقة إلا طابور خامس لإثارة الفتن ، وتمزيق وحدة الأمه ، وربط البلاد بعجلة الدول الأجنبية ، والسير بالجيل الناشئ نحو الإلحاد الشائن ، والضلال الممقوت.
وإن كانوا جاهلين ، فإن من الواجب عليهم أن يسألوا ويفهموا ، قبل أن يحكموا ويروّجوا ، حتى تظهر لهم الحقائق ناصعة بأجلى مظاهرها ومعانيها ، وليس عاراً على الإنسان أن يبحث ويسأل ويتعلم ، ولكن العار كل العار أن يعيش في بيداء الجهل ، ويسير في متاهات الضلالة ، يتبع كل ناعق ، ويخطو وراؤ كل عميل ، ورحم الله من قال:
لاتأخذ العلم إلا عن جهابذة
بالعلم نحيا وبالأرواح نفديه
أما ذوو الجهل فارغب عن مجالسهم
قذ ضّل من كانت العميان تهديه
وقبل أن أشرع في دفع هذه الاتهامات الباطلة التي يثيرها الأعداء على نظام تعدد الزوجات أريد أن أبيّن حقيقة هامة ، لها أكبر الارتباط بالكتّاب الإسلاميين الذين يكتبون عن الإسلام في هذا العصر ، وهي أنهم – في أكثر مايكتبون – يظهرون الإسلام بمظهر المتهم ، ويضيعونه حين يتولون الدفاع عنه في موضع الريبة والشك ، بل يصل الأمر عند البعض يؤولوا النصوص ، ويقلبوا الحقائق ، إبعاداً للإسلام عن التهمة ، وتوفيقاً بين مبادئ الإسلام وأراجيف الأعداء.
وهذا من الخطأ الفادح الذي وقع فيه كثير من الكتّاب في هذا العصر ، وفي تقديري أنهم يسيئون أكثر مما يحسنون ، ويزيدون التهمة تعميقاً وتثبيتاً أكثر مما يدافعون ، وما كان عليهم لو أنهم وقفوا في ردودهم وكتاباتهم مقف الهجوم لكل من ينال من نظام الإسلام ، أو يمس قدسية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فلو أنهم فعلوا مثل هذا لأفهموا خصوم الإسلام: أن مبادئ الشريعة ةنظم القرآن ، هي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وماعداه من أنظمة وضعية وقوانين بشرية ، فيها الكثير من القصور والنقص والباطل .. ولا شك من ذلك . ولو أنهم وقفوا من أعداء الإسلام موقف الهجوم لوضعوا التشريع الإسلامي موضعه اللائق به من التشريف والتكريم ، ليعلم كل ذي عقل وفيهم أن للإسلام دوره العظيم ، ومهمته الكبرى ، في رد الناس إلى الحق ، وهداية البشرية الحائرة .. وما أجمل تعبير القرآن حين أعلن حكم الله ، وهاجم حكم الجاهلية في قوله : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1) ، ألا فليأخذ كتّاب الإسلام من القرآن الكريم طريقة الرد ومنهج المناظرة في دفاعهم عن نظام الإسلام ، حتى لايقعوا في الخطأ الذي وقعوا فيه ، وعلى الله قصد السبيل.
وبعد هذه التقدمة سأشرع في بيان نظام الإسلام في تعدد الزوجات ، ثم أعّرج على ذكر الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأرى – إن شاء الله – بعد ذكر هذه الحقائق أن شبابنا وشاباتنا الذي تأثروا بالدعايات المغرضة ، والإشاعات الكاذبة سيؤوبون إلى الحق ، ويثوبون على الرشد ، ويؤمنون من قرارة نفوسهم: أن الإسلام دين العزة والكرامة ، وتشريع الحق والهداية ، ومبدأ العدالة والمساواة ، ومنهج حكم ، ونظام حياة . صدق الله العظيم القائل في محكم كتابه {وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}(2)
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة الأنعام الآية 15
لمحة تاريخيّة عن التعدُّد لم يكن الإسلام أول من شرع نظام تعدد الزوجات ، بل كان موجوداً في الأمم القديمة كلها تقريباً: عند الأثينيين ، الصينيين ، الهنود ، البابليين ، الآشوريين ، المصريين . ولم يكن له عند أكثر الأمم عدد محدود ، فقد سمحت شريعة (ليكي) الصينية بتعدد الزوجات إلى مائة وثلاثين امرأة ، وكان عند أحد أباطرة الصين نحو من ثلاثين ألف امرأة.
والديانة اليهودية كانت تبيح التعدد بدون حد ، وأنبياء التوراة جميعاً بلا استثناء كانت لهم زوجات كثيرات(1) ، ويقول الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومة)(2) ما يلي (ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراتة أو في الانجيل ، بل هو مباح ومأثور عن الأنبياء أنفسهم ، من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى عهد الميلاد ...).(3/163)
أما في الديانة النصرانية فلم يرد في الأناجيل نص صريح بمنع التعدد ، بل ورد في بعض الرسائل (بولس) مايفيد أن التعدد جائز فقد قال (فعلى الاسقف أن يكون منزهاً عن اللوم ، زوج امرأى واحدة)(3) وقد ثبت تاريخياً أن بين المسيحيين الأقدمين من كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، وفي آباء الكنيسة الأقدمين من له كثير من الزوجات ، وقد كان في أقدم العصور المسيحية من يرى إباحة تعدد الزوجات في أمكنة مخصوصة وأحوال استثنائية ، وإليكم الشواهد على ذلك:
أ- ذكر الاستاذ عباس محمود العقاد في كتابة المرأة في القرآن الكريم أن (مستر مارك) العالم الثقة في تاريخ الزواج يقول: (إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر ، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لاتحصيها الكنيسة والدولة) ويقول هذا العالم : (إن ملوك النصارى كانوا يتزوجون أكثر من واحدة ، فهذا (ديار مات) ملك إيرلندة كان له زوجتان وسريتان ، وكان (لشارلمان) زوجتان وكثير من السراري . وبعد ذلك بزمن كان (فيليب أوفاهيس) و(فريديريك وليام) الثاني البروسي يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين: وكان (لوثر) يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراضي ، فإنه لم يحرم بأمر من الله ، ولم يكن إبراهيم عليه السلام يحجم عنه إذ كان له زوجتان).
ب-وذكر العقاد في كذلك في كتابة (المرأة في القرآن الكريم) : ( أن مجلس الفرنكيين بنورمبرج أصدر قرارً يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتيين ، وذلك سنه 1560 ميلادية بعد صلح وستفاليا ، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين)، ويقول: (بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاد تعدد الزوجات ، ففي سنة 1531 نادى (اللامعدانيون) في مونستر صراحة : بأن المسيحي ينبغي أن تكون له عدة زوجات ، ويعتبر (المرمون) كما هو معلوم أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس).
ج- وقال جرجي زيدان(4) : ( فالنصرانية ليس فيها نص صريح يمنع أتباعها من التزوج بأمرأتين او اكثر ، ولو شاؤوا لكان تعدد الزوجات جائزاً عندهم ، ولكن رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتحادها ، وكان ذلك شائعاً في الدولة الرومانية ، فلم يعجزهم تأويل آيات الزواج حتى صار التزوج بغير امرأة واحدة حراماً كما هو مشهور)
د- والمسيحية المعاصرة تعترف بالتعدد في افريقيا السوداء للإفريقيين المسيحيين إلى غير حدود ، فقد ذكر (نورجيه) مؤلف كتاب (الإسلام والنصرانية في أواسط افريقية) هذه الحقيقة في قوله: ( فقد كان هؤلاء المرسلون يقولون: إنه ليسمن السياسة أن نتدخل في شئون الوثنيين الاجتماعية التي وجدناهم عليها ، وليس من الكياسه ان نحرم عليهم التمتع بأزواجهم ماداموا نصارى يدينون بدين المسيح ، بل لا ضرر من ذلك مادامت التوراة وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه أساس دينهم يبيح هذا التعدد ، فضلاً عن أن المسيح أقر في ذلك بقوله : ( لاتظنوا أني جئت لأنقض الناموس او الانبياء ماجئت لأنقض بل لأكمل). وأخيراً أعلنت الكنيسة رسمياً السماح للإفريقيين النصارى بتعدد الزوجات إلى غير حد.
هـ- والشعوب الغربيةالنصرانية وجدة نفسها تجاه زيادة عدد النساء على الرجال –وبخاصة بعد الحربين العالميتين- إزاء مشكلة اجتماعية خطيرة ، لاتزال تتخبط في إيجاد الحل المناسب؛ وقد كان بين الحلول التي برزت إباحة تعدد الزوجات.
ففي عام 1948م عقد مؤمتر للشباب في (ميونخ) بألمانيا ، وبحث مشكلة زيادة عدد النساء في ألمانيا أضعافاً مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب ، وقد استعرضت مختلف الحلول لهذه المشكلة ، وكانت النتيجة أن أقرت اللجنة توصية المؤتمر بالمطالبة بإباحة تعدد الزوجات لحل المشكلة.
وفي عام 1949م ، تقدم أهالي (بون) عاصمة ألمانيا الاتحادية بطلب إلى السلطات المختصة ، يطلبون فيه أن ينص في الدستور الألماني على إباحة تعدد الزوجات(5). ونشرت الصحف منذ عشر سنوات تقريباً أن الحكومة الألمانية أرسلت إلى مشيخة الأزهر تطلب منها نظام التعدد في الإسلام ، لأنها تفكر في الاستفادة منه كحد لمشكلة ازدياد النساء ، ثم اتبع ذلك وصول وفد من العلماء الألمان اتصلوا بشيخ الأزهر لهذه الغاية(6)
(1) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ص71
(2) ص237 في بحث الاسرة.
(3) رسالة تيموثاوس الأولى الاصحاح 3 العدد 2
(4) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) للسباعي رحمه الله ص74
(5) عن كتاب (المرأة بين الفقة والقانون) ص57.
(6) عن كتاب (أحكام الأحوال الشخصية) د.محمد يوسف موسى
ثناء المفكّرين الغربيّين على نظام التعدُّد(3/164)
تطالعنا الصحف والمجلات والكتب الاجتماعية بين الحين والآخر بكلمات لكثير من الكتاب الاجتماعيين والمفكرين الغربيين ، ويحبذون فيها نظام تعدد الزوجات ، وينادون به ويشجعون عليه؛ لما له من أثر كبير في إصلاح المجتمع والأخلاق ، وإليكم طرفاً من أقوالهم وكتاباتهم :
أ- فقد عرض (جروتيوس) العالم القانوني المشهور لموضوع تعدد الزوجات ، فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والأنبياء في العهد القديم(1)
ب- وقال الفيلسوف الألماني المشهور (شوبنهور): في رسالته (كلمة عن النساء): (إن قوانين الزواج في أوروبا فاسدة المبنى بمساوات المراة بالرجل ، فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا ،وضاعفت علينا واجباتنا .. إلى أن يقول: ولاتعدم المرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشؤونها ، والمتزوجات عندنا نفر قليل ، وغيرهنَّ لايحصين عدداً ، تراهن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة ، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى ، يتجشمن الصعاب ، ويتحملن مشاق الأعمال ، وربماابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار ، ففي مدينة (لندن) وحدها ثمانون ألف بنت عمومية(2) ، سفك دم شرفهن على مذبح الزواج ، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة ، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية ، وما تدعية لنفسها من الأباطيل ، أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره)(3)
جـ- ويقول (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب): (إن مبدأ نظام تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب ، يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به ، ويزيد الأسرة ارتباطاً ، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لاتراهما في أوربا).
د- ذكر العقاد في كتابه (المرأة في القرآن الكريم) طائفة من آراء الفلاسفة الأوربيين في التعدد ، فينقل عن الدكتور (ليبون) قوله (إن القوانين الأوربية سوف تجيز التعدد) ، ونقل عن الاستاذ (أهرنفيل) قوله : (إن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء السلالة الآرية).
هـ- وقالت (أني بيزانت) زعيمة التصوفية العالمية في كتابها (الأديان المنتشرة في الهند): (ومتى وَزَنَّا الأمور بقسطتط العدل المستقيم ، ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي –الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء- أرجح وزناً من البغاء الغربي ، الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته ، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره).
و- وجاء في مجلة (الفتح) القاهرية نقلاً عن جريدة (ديلي ميل) الأنكليزية المشهورة ، التي نشرت مقالاً تدافع فيه عن تعدد الزوجات بسبب الأزمة التي وقعت في إنجلترا ، وبلاد الغال في زيادة عدد النساء على الرجال والتي قدرت بمليونين.) جاء في هذه المجلة المذكورة: ( إن إباحة تعدد الزوجات هي الطريقة الوحيدة للعلاج الناجح ، وليست مسألة الزوجة الواحد إلا مسألة اعتقاد واتفاق ، وهي في الحق الواقع نتيجة نسبة عددية . ثم ذكرت أن نظرية المرأة الواحدة للرجل الواحد هي نظرية الأنسب والأوفق ،ولكن الاستمساك بها لايستحسن إلا عند التعادل العددي في الجنس ، أما إذا زاد عدد جنس النساء على العدد الآخر ، ولم تتخذ التدابيرفي ذلك فلا مفر من حرب طاحنة تنشب بين الجنسين).
ز- وقال الدكتور نظمي لوقا في كتابه (محمد الرسالة والرسول) ما يلي:
( وما من شك في أن نظام الزوجة الواحدة الدائم نظام مثالي ... ونظرة إلى واقع الحياة البشرية في تاريخ مجتمعاتها الغابر والحاضر ، تطلعنا على تعدد النساء في حياة الرجل الواحد سواء جهراً او سراً ، سواء برخصة من القانون أو الدين ، أو رغم القانون والعقيدة . وما من عاقل يفضل التعدد بغير رخصة على التعدد برخصة ... وعندئذ لا حيلة إلا في التعدد ، لأنه الحل السليم الوحيد لأساس الجماعة ، والضرورات تبيح المحضورات ، وماالقول في زوجة أقعدها المرض ؟ وماالقول في الزوجة العقيم ؟ وماالقول في الزوجة الفاترة؟ وماالقول في الزوجة سقيمة الأعصاب؟ طلاقها أرحم بها أم اردافها بزوجة أخرى؟ لا شك أن الامر واضح ، هي رخصة إذن تستخدم بحقها ، ولكنها ليست إلزاماً ..).
وهذا الذي ذكرناه من ثناء المفكريين الغربيين غير المسلمين عن نظام التعدد ، ماهو إلا غيض من فيض ، وغرفة من بحر ، ومن أراد أن يتتبع آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتربية في هذا المجال ، يجدها أكثر من أن تحصى ، وأعظم من أن تستقصى ، ولابد من أن يأتي اليوم الذي تثوب فيه البشرية إلى الإسلام ؛ لكونه دين حق وفطرة ، وتنزيلاً من رب العالمين ، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(4)
(1) العقاد في كتاب (حقائق الإسلام) ص167.
(2) هذا في عهد شوبنهور ، قد توفي سنة 1860م
(3) مصطفى الغلاييني في كتابة (الإسلام روح المدينة) ص224
(4) سورة فصلت الآية 53(3/165)
الحكمة من التعدُّد في نظر الإسْلام
لاشك أن الإسلام حين شرع التعدد ، كان ذلك لحكمة سامية ، ومصلحة عامة ، وضرورات اجتماعية وشخصية ، وسبق أن ذكرنا قبل قليل طرفاً من هذه الضرورات والحكم التي جاء ذكرها على ألسنة العلماء والمفكرين ، والتي دفعتهم إلى أن يثنوا على نظام التعدد ، وينادوا بأحقيته وضرورته لتخليص المجتمعات البشرية من المشكلات الاجتماعية ، والمفاسد الخلقية.
وتوضيحاً للبحث نحصر الحكمة من نظام تعدد في الأمور التالية:
أ - الفائدة الاجتماعية
ب - المصلحة الشخصية
ت - الحكمة الخلقية
أما الفائدة الاجتماعية فتظهر في حالتين لايُنْكِر أحدٌ وقوعها:
1- عند زيادة النساء على الرجال ، كما هو الشأن في كثير من البلدان كشمال أوربا ، فإن النساء حتى في غير اوقات الحروب تفوق الرجال بكثير ، وقد دلت الإحصائيات في (فنلندا) أنه من بين كل أربعة أطفال ألا ثلاثة يولدون يكون واحد منهم ذكراً ، والباقون إناثاً ، ففي هذه الحالة يكون التعدد أمراً واجباً.
2- عند قلة الرجال عن النساء قلة بالغة نتيجة الحروب الطاحنة أو الكوارث العامة ، وقد دخلت أوربا حربين عالميتين خلال ربع قرن ، فهلك فيها ملايين الرجال ، وأصبحت جماهير غفيرة من النساء – مابين أبكار وما بين متزوجات – فقد فقدن عائلهن وأصبحن بلا زواج ، وسبق أن ذكرنا أن قامت بعض بلاد أوربا – ولاسيما ألمانيا- جمعيات نسائية واجتماعية تطالب بالسماح بتعدد الزوجات ، أو بتعبير آخر أخف واقعاً في أسماع الغربيين وهو: (إلزام الرجل بأن يتكفل امرأة أخرى غير زوجته).
وضرورات الحرب ونقصان الرجال فيها ، لاتدع مجالاً للمكابرة في أن الطريق الوحيد لتلافي الخسارة البالغة بالرجال هو السماح بتعدد الزوجات.
رد على اعتراض: ورب سائل يقول: في حالة زيادة الرجال على النساء لماذا لا يباح للمرأة تعدد الأزواج؟
أقول في الرد على هذا الاعتراض: إن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعةً وخِلقةً وواقعاً ،ذلك لأن المرأة في طبيعتها لاتحمل إلا في وقت واحد ، ومرة واحدة في السنة كلها ، أما الرجل فغير ذلك؛ فمن الممكن أن يكون للرجل أولاد متعددون من نساء متعددات ، ولكن المرأة لايمكن أن يكون لها مولود واحد من أكثر من رجل واحد ، وأيضاً تعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يضيع نسبة ولدها إلى شخص معين ، وليس الأمر كذلك بالنسبة غلى الرجل في تعدد زوجاته.
وشيء آخر وهو أن للرجل حق رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم ، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة ؟ أتخضع لهم جميعاً ؟ وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم ، أم تخص واحداً دون الآخر ؟ وهذا مايسخط الآخرين.
وهناك أمور تتعلق بنسبة الولد إلى أحد الأزواج ، وأمور تتعلق بالإتصال الجنسي ، لاتخفى على من كان عنده أدنى إدراك أو بصيرة : من إرهاق للمرأة وإضرار بها ، ومن وقوع في المشاكل العائلية ، والأمراض الجسمية والنفسية ... إلى غير ذلك من الأضرار البالغة ، والعواقب الوخيمة .
إذن فتعدد الأزواج بالنسبة للمرأة مستقبح عقلاً ، وحرام شرعاً ، ومستحيل طبيعة وواقعاً ، فلا يقول به إلا من كان إباحي النزعة ، مدنس السمعة ، فاسد الخلق ، عديم الغيرة ، ملوث الشرف.
أمَّا المصلحة الشخصية ، فإنها تعود إلى مصحلة الشخص بالذات ، وهي كثيرة نجتزئ منها بأهمها:
1- أن تكون الزوجة عقيمة لاتلد ، والزوج يحب انجاب الأولاد والذرية ، ومثل هذا ليس أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يطلق زوجته العقيم ، أو أن يتزوج عليها ، ولا شك في أن الزواج عليها أكرم للمرأة ، وأصلح لها ، والمرأة العاقلة تفضل التعدد على الطلاق ، لكون الطلاق ضياعاً وتشرداً.
2- أن يصاب الزوجة بمرض مزمن أو معدٍ أو منفر ، بحيث لايستطيع الزوج أن يعاضرها معاشرة الأزواج ، فالزوج هنا بين حالتين: إما أن يطلقها ، وإما أن يتزوج عليها ويبقيها في عصمته وتحت رعايته ، ولايشك أحد في أن الحالة الثانية أكرم وأنبل ، وأضمن لسعادة الزوجة المريضة وزوجها على السواء.
3- أن يكون الرجل بحكم عمله كثير الاسفار ، وتكون إقامته في غير بلدته تستغرق في بعض الأحيان شهوراً ، ويتعذر عليه نقل زوجته وأولاده كلما سافر ، وهنا يجد نفسه كرجل بين حالتين: إما أن يشبع ميلة الجنسي عن طريق غير مشروع وهذا هو الزنى(1) ، وإما أن يتزوج أخرى ، ولاشك أن الزواج بأخرى هو من مصلحة الدين والأخلاق والمجتمع.
4- أن يكون عند الرجل من القوة الجنسية ما لايكتفي معها بزوجته ، إما لشيخوختها ، أو لضعفها ، أو لكثرة الأيام التي لاتصلح فيها المعاشرة الجنسية – وهي أيام الحيض والحمل والنفاس والمرض وما أشبهها – في هذه الحالة إما أن يكون إشباع غريزته بالمعاشرة المحرمة ، وإما أن يكون عن طريق الزواج المشروع ، ولاشك أن مبادئ الأخلاق ، وأحكام الشريعة تختار الزواج المشروع على المعاشرة المحرمة.(3/166)
5- أن يكون عند الرجل الرغبة الأكيدة ، والعزم الصادق في إنجاب الأولاد ، وتكثير الذرية ، إما ليستعين بهم على أعباء الحياة ، وإما ليعدهم شباباً مؤمنين ، ودعاة صادقين ، يبلغون رسالات ربهم ، ويخشونه ولايخشون أحداً إلا الله ، وإما ليحظى بالأجر والمثوبة حين يحسن أدبهم وتربيتهم ، لكي تقرعين رسول الله صلى الله عليه وسلم في مباهته الأمم يوم القيامة بكثرة أمته (2)
(1) ومنه نكاح المتعه
(2) في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة).
أمَّا الحكمة الخلقية: فلأن الأمة التي يكون فيها عدد النساء أكثر من عدد الرجال يكون التعدد واجباً أخلاقياً ، وواجباً اجتماهياً على السواء ، لأن التعدد أفضل من تسكع النساء العازبات الزائدات عن الرجال في الطرقات أو أماكن الفجور ، لا عائل لهن ، ولا بيت يؤويهن . ولا يوجد إنسان يحترم كرامة المرأة ، ويقدر مصلحة المجتمع يفضل انتشار الدعارة على تعدد الزوجات. ومنذ أوائل هذا القرن تنبه المنصفون الغربيين إلى ماينشأ من منع تعدد الزوجات من تشرد النساء ، وانتشار الفحشاء ، وكثرة الأولاد غير الشرعيين ، وأعلنوا أنه لا علاح لذلك إلا السماح بتعدد الزوجات. فقد نشرت جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) نقلاً عن جريدة (لندن تروث) بقلم إحدى السيدات الانجليزيات مايلي : ( لقد كثرت الشاردات من بناتنا ، وعم البلاء ، وقل الباحثون عن أسباب ذلك ، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً ، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني ، وإن شاركني فيه الناس جميعاً ؟ لافائدة إلا العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ، ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكامل الشفاء ، وهو الإباحة للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة ، وبهذه الواسطة يزول البلاء لامحالة ، وتصبح بناتنا ربات بيوت ، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة).
(أي ظن يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كَلاًّ وعاراً وعالة على المجتمع؟! فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ماهم فيه من العذاب والهون ، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن .. إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل مرأة ربة بيت ، وأم أولاد شرعيين)(1)
وتدلنا الإحصائيات التي تنتشر في أوربا وأمريكا عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين زيادة مستمرة ، تقلق الباحثين الاجتماعيين وهؤلاء ليسوا إلا نتيجة اقتصار الرجل على امرأة واحدة ، وكثرة النساء اللواتي لايجدن طريقاً مشروعاً للاتصال الجنسي ، وبناء على هذه الإحصائيات المؤلمة ، والأوضاع الاجتماعية المزرية ، أباحت ألمانيا أخيراً تعدد الزوجات(2) ، وتسوية للمشكلة . ولا يبعد أن تحذوا أوربا وأمريكا حذو ألمانيا في إباحة التعدد ، لأن تعدد الحلائل خير من تعدد الخلائل(3) ، والزواج المشروع خير من الاتصال المحرم ، والفاحشة الممقوتة ، ومن أحسن مِن الله حكماً لقوم يوقنون؟.
(1) مجلة المنار للسيد رشيد رضا المجلد الرابع ص485-486
(2) ذكرت الخبر مجلة صوت الإسلام العدد/90/ نقلاً عن صحيفة الأهرام القاهرية.
(3) على حد تعبير الشيخ محمد أبوزهره رحمة الله
تعدد الزوجات ...
مقارنة بين تعدادنا وتعدادهم
إن نظام التعدد في الشريعة الإسلامية أخلاقي إنساني:
أما أنه أخلاقي، فلأنه لا يسمح للرجل أن يتصل بأية امرأة إلا إذا كانت زوجته (1) بشرط ألا يتجاوز عدد الزوجات الأربع.
وأما إنه إنساني فلأنه يخفف من مشكلات المجتمع ، بإيواء امرأة لازوج لها ، ونقلها إلى مصاف الزوجات المصونات المحصنات ؛ ولأنه يعترف بالأولاد الذين أنجبتهم ، ويقوم بحقهم ورعايتهم كما يجب؛ ولأنه يدفع مقابل هذا الزواج مهراً وأثاثاً ونفقات باعتبارها زوجه ولها حقوق.
أين هذا التعدد الواقع في حياة الغربيين؟ فإنه واقع من غير شرع ولا قانون ، بل واقع تحت سمع القانون وبصره. وإنه لايقع باسم الزوجات ، ولكن يقع باسم الصديقات والخليلات. وإنه ليس مقتصراً على أربع فحسب ، بل هو إلى مالا نهاية له من العدد. إنه لا يقع علناً تفرح به الأسرة ، ولكنه سر لايعرف به أحد.
إنه لايلزم صاحبه بأية مسئولية مالية نحو النساء اللاتي يتصل بهن ، بل حسبه أن يلوث شرفهن ، ثم يتركهن للخزي والعار والفاقة ، وتحمَّل آلام الحمل والإجهاض والولادة غير المشروعة. إنه لايلزم صاحبه بالاعتراف بما نتج عن هذا الاتصال من أولاد ، بل يعتبرون غير شرعيين ، يحملون على جباههم خزي السفاح والعار ماعاشوا.
إنه تعدد خال من كل تصرف أخلاقي أو يقظة وجدانية أو شعور إنساني. إنه تعدد تبعث عليه الشهوة الأنانية ، ويفر من تحمل كل مسؤولية. فأي النظاميين ألصق بالأخلاق ، وأكبح للشهوة ، وأكرم للمرأة ، وأدل على الرقي ، وأبر بالإنسانية؟.(3/167)
بعد هذا يحق لك أن تتعجب من إثارة الغربيين وأعداء الإسلام للضجة التي يحدثونها على نظام الإسلام في تعدد الزوجات !!!
وتتساءل أنت أيها العاقل المنصف: ألا يشعرون في قرارة نفوسهم بأنهم ليسوا على حق في إثاره الضجة ، وافتعال هذا الاتهام ؟! ألا يشعرون بأن من يقتصر على أربع خير ممن يجدد كل ليلة امرأة ؟.
وأن من يلتزم نحو من يتصل بها مسؤوليات أدبية ومالية ، أنبل ممن يتخلى نحوها عن كل مسؤولية ؟!. ألا يشعرون أن إنجاب نصف مليون ولد - مثلاً - عن طريق الزواج أكرم وأحسن للنظام الاجتماعي من انجابهم عن طريق السِّفاح.
في الحقيقة إنهم يشعرون بذلك لو تخلوا عن غرورهم وتعصبهم.
أما الغرور: فهو اعتقادهم أن كل ماهم عليه حسن وجميل ، وأن ماعلية غيرهم من الأمم والشعوب سئ وقبيح.
أما التعصب: فهو هذا الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل ضد الإسلام ، ونبي الإسلام ، والقرآن الكريم (2)
(1) أو أمته في حال وجود الرقيق وهو الآن غير موجود
(2) بحث المقارنه بين تعدادنا وتعدادهم اقتبست أكثر فقراته من كتاب (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور السباعي ص93-94 مع بعض التصرف ...
تعدد الزوجات ...
أحكام التعدُّد في الشريعة الإسْلامية
قبل أن نشرع في أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية يحسن بنا أن نبين وجه الارتباط بين قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ .. }(1) وقوله : {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ }(1) .
ذكر المفسرون في ذلك عدّة آراء أظهرها رأيان:
الأول: ] وإن حفتم ألا تعدلوا في تزوجكم بيتامى النساء المشمولات بولايتكم فتزوجوا غيرهن مما طاب لكم من النساء إثنين إن شئتم ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، لأن العاقل يترك الذي يترك الزواج الذي يفضي به إلى الظلم إلى الزواج الذي لاظلم فيه[.
وهذا التفسير مروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ووجه الارتباط واضح عليه.
الثاني: ] وإن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى ، فكذلك خافوا ألا تعدلوا في النساء اللاتي تتزوجون بهن ، فتزوجوا منهن ما لا تخافون فيه الظلم: اثنين ، أو ثلاثاً ، أو أربعاً ، فإن خفتم ألا تعدلوا بين الأكثر من واحدة فتزوجوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم . لأن من تحرج من عمل ما يُفضي إلى الظلم كظلم اليتامى عليه أن يتحرج من أن يتحرج من كل عمل يُفضي إلى ظلم كظلم الزوجات [.
هذا التفسير مروي عن سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة .. ورجحة شيخ المفسرين ابن جرير الطبري وقال ( إنه أولى الأقوال بالقبول).
فالآية – على حسب ما رجحة الإمام الطبري – تحذر الأولياء والأوصياء من سلوك الطريق المفضلة بهم إلى ظلم الزوجات الذي لايقل قبحاً وشناعة عن ظلم اليتامى الذي يخافونه ويتحرون منه.
كما أنهم يتحرون من ظلم اليتامى فعليهم أيضاً أن يتحروا من ظلم الزوجات حين يريدون التعدد ، فإن خافوا ألا يعدلوا فعندئذ يقتصرون على واحدة.
وبعد أن بيّنا وجه الارتباط في الآية نشرع في تبيان أحكام التعدد والله المستعان:
1- الأمر بقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ}(1) للإباحة لا للإيجاب ، وإذا كان للإباحة فالمسلم مخير بين أن يقتصر على زوجة واحدة أو يعدد ، وعلى ذلك إجماع المجتهدين والفقهاء في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً
2- لايجوز الجمع بين أكثر من أربع زوجات في وقت واحد لقوله تعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } ، على ذلك إجماع الصحابة والأئمة المجتهدين في جميع العصور ، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع ، فخلافهم ناشئ من جهلهم ببلاغة القرآن الكريم ، وأساليب البيان العربي ، ومن جهلهم بالسنة النبوية كما قال القرطبي.
وإلا فمن يقول: إن هذه الكلمات {مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} في الآية جاءت لمطلق الجمع ، فيصبح مجموع الزوجات تسع؟ ومن يقول أيضاً: إن هذه الكلمات جاءت لجمع اثنين مع اثنين ، ثلاثاً مع ثلاث ، وأربعاً مع أربع ، فيصبح المجموع العام ثماني عشرة زوجة؟ إن هذه التقوّلات الباطلة تتنافى مع أبسط الأذواق في الفهم العربي ، وتتعارض مع فصاحة القرآن الكريم وأسلوبه البياني المعجز ..
فحين نقول: حضر أعضاء المؤتمر مثنى وثلاث ورباع ..فهم العربي صاحب الذوق السليم من هذا التعبير أن بعض أعضاء المؤتمر حضروا اثنين اثنين وبعضهم حضر ثلاثة ثلاثة ، وبعضهم حضروا أربعة أربعة ولايمكن أن يفهم أحد أن جمهلة من حضر تسعة أو ثمانية عشر ...(3/168)
وكذلك حين قال الله عز وجل {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } فيفهم من هذه الآية كما دلّ عليها ظاهر لفظها ، وأسلوب بيانها: يباح لكم – يامسلمين – أن تنكحوا من النساء زوجتين إن شئتم ، أو ثلاث زوجات إن أردتم إلى أربع زوجات ، وهذا هو الحد الأعظم؛ فلا يجوز لكم أن تزيدوا على الأربع بحال من الأحوال. والسنة النبوية الصحيحة قد أكدت من أن المراد من الجمع في الآية أربع زوجات.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3 ...
وإليكم ماذكرته السنة الصحيحة:
أ- أخرج مالك في الموطأ ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه والترمذي في سننهما ، والشافعي في الأم أن غيلان الثقفي أسلم وفي عصمته عشر نسوة ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً وفارق سائرهن).
ب- وروى ابن ماجه وأبوداود في سننهما أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثماني نسوة ، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: (اختر منهنّ أربعاً).
جـ- وقد روت كتب السنة غير هذين الحديثين ، فقد رُوي أن نوفل بن معاوية الديلمي قال: أسلمتُ وتحتي خمس نسوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فارق واحدة منهن) قال: فعمدتُ إلى عجوز عاقر معي منذ سنتين فطلّقُتها.
فهذه الأحاديث متفقة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم وفي عصمته أكثر من أربع زوجات أن يتخيّر منهن أربعاً ، ويفارق سائرهن.
ويفهم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا أن السنة جاءت متضافرة ومؤكّدة لما صّرح به القرآن الكريم ألا وهو: لايجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة في آن واحد ، فأصبح للمنع دليلان: دليل القرآن ، ودليل السنة ، عدا من دليل الإجماع الذي هو حجة تشريعية بعد القرآن والسنة . فبأي حديث بعد ذها يؤمنون؟!.
وأما ماصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه جمع بين تسع نسوة في آن واحد ..
فأولاً: كان هذا الجمع –كما سيأتي- خصوصية من خصوصياته ، وثانيا كان لأسباب تشريعية وإنسانية ، وأغراض سياسية واجتماعية .. وسوف يأتي الحديث عنها ، والتفصيل فيها في بحث الحكمة من تعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في القسم الثاني من هذا الكتاب إن شاء الله.
3- إن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ}(1) ، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل لم يجز له شرعاً أن يتزوج بأكثر من واحدة ، ولو تزوج كان العقد صحيحاً بالإجماع ، ولكنه يكون آثماً ؛ لما روى أبو داود وابن ماجه والترمذي وابن حبان في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل).
وروى مسلم وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وماولوا)(2)
وقد أجمع العلماء – وأيده تفسير الرسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله – أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشرب والمبيت ، وكل مايتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه تحقيق العدل ، ومما يدخل في طوق الإنسان وإرادته.
4- إن العدل في الحب بين الزوجات غير مستطاع ، وليس في طوق البشر لقوله تعالى {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً}(3) ؛ فتفيد هذه الآية الكريمة أن على الزوج ألا يميل عن الزوجة الأولى كل الميل ، فيذرها كالمعلقة لا هي زوجة يؤديها حقوقها ، ولا مطلقة تعرف سبيلها ، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع عسى أن يصلح قلبها ، ويكسب مودتها؛ وقد فهم النبي صلى الله عيه وسلم أن المراد من آية: {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ .. } الحب القلبي لأن الإنسان لايستطيع أن يعدل فيه ولو حرص ، ولكنه خارجاً عن طاقة البشر ، فقد كان حبه للسيد عائشة – رضي الله عنها – أكثر من حبه لباقي زوجاته ، فكان صلى الله عليه وسلم حين يعدل بين زوجاته بالأمور المادية يقول: (اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما لا أملك)(4) (ملاحظة: هذا الحديث ضعيف)(5)(3/169)
هذا التفسير لآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ} وعليه إجماع المفسرين قديماً وحديثاً ، وعليه إجماع الفقهاء والمجتهدين في كل العصور ولو أخذنا بآية {وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ.. } على ظاهرها لكان بينها وبين آية {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .. } تناقض ، والقرآن الكريم منزة عن الخلل والتناقض ، بل هو غاية في الإبداع والإحكام ورصانة النظم ، وسمو التشريع ، لقوله تبارك وتعالى {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(6) ، {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(7) ؛ ويتلخص مما تقدم: أن المقصود بالعدل في الآية هو الحب القلبي ، وهذا ما عليه تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للآية ، وما عليه إجماع الأئمة كما بيّنا سابقاً.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
- من العلماء الموثوقين وعلى رأسهم الإمام الشافعي – رحمة الله – من اشترط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد ، وهذا الاشتراط للإمام الشافعي مبني على فهم خاص للآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً ... ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ} ، وهذا الفهم تؤيده قواعد اللغه كما سيأتي. قال الإمام البيهقي في كتابه (أحكام القرآن) الذي جمعه من كلام الشافعي –رحمه الله- في مصنفاته: (وقوله: {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لايكثر من تعولون إذا اقتصر المرء على واحدة وإن أباح له أكثر منها) ا هـ صحيفة 260 . وقد أيد الكسائي وأبو عمر الدُّوري وابن الأعرابي ماذهب إليه الشافعي في تفسير قوله تعالى {أَلاّ تَعُولُواْ} أي لاتكثر عيالكم ، قال الكسائي – أبوالحسن علي ابن حمزة - : العرب تقول: عال يعول، وأعال يُعيل أي كثر عياله(8) . ومما يؤيد مايذهب إليه الشافعي لغة حمير ، قال الثعلبي المفسّر: قال أستاذنا أبوالقاسم بن حبيب: سألتُ أبا عمر الدُّوري عن هذا –وكان إماماً في اللغة غير مدافع- فقال: هي لغة حمير ، وأنشد:
إن الموت يأخذ كل حيّ بلاشك وإن أمشي وعَالا
يعني وإن كثرت ماشيته وعياله(8)
وقال أبو حاتم: (كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا) ، وقرأ طلحة بن مصِّرف (ألّا تُعِيلوا) والمعنى ألا تكثر عيالكم وهي حجة الشافعي. وهذا الفهم للإمام الشافعي ومن ذهب مذهبه يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد إلا أنه شرط ديانة(9) لا شْرط قضاء.
* * *
وبعد: فهذه هي أهم الأحكام التي شرعها الله في نظام التعدد ، وهي متفقة كل الاتفاق مع الواقع الاجتماعي والحالة المادية ، فالذي يأنس من نفسه أنه لايستطيع أن يعدل إن تزوج بأكثر من واحدة ، أو لم يكن عنده النفقة مايسد حاجة الزوجتين أو الثلاث : من مسكن ، وطعام ، وكسوة ؛ فلا يجوز له شرعاً أن يعدد ؛ حتى لايقع في الظلم الذي حرمه الإسلام ، وبالتالي لاتقع الزوجة الثانية بالمضارَّة التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لاضرر ولاضرار)(10) ، فهو حديث ، وقاعدة أصولية كما هو معلوم.
هذا وإن التعدد – حين لايتحقق فيه جانب العدل – يوقع الزوج في مشاكل عائلية ، تؤدي في الغالب إلى تنافر بغيض ، وعداوَة مستحكمة ؛ مما يجعل حياة الزوج جحيماً لايطاق ، وربما انتقل هذا التنافر والعداء إلى أولاد الزوجات ، فينشأ الإخوة بينهم من البغضاء والشحناء ما يؤول إلى الفرقة والهجران ، وعدم استقرار الحياة الزوجية.
وفي تقديري أن المشاكل العائلية ناتجة عن سبيين رئيسيين:
الأول: ناتج عن الرجل لكونه لم يتحقق جانب العدل المادي في جميع المجالات: العدل في النفقة ، العدل في المعاملة ، العدل في القسمة ، العدل في الحقوق.
الثاني: ناتج عن المرأة لكونها تنظر إلى الحياة بمنظار الأنانية وعدم تفهم الواقع ، ومصلحة المجتمع ، بل تنساق وراء عواطفها وأهوائها انسياقاً أعمى دون تحكيم لعقل ، أو نظر إلى مصلحة.
وإذا قامت الحياة الزوجية على أساس من التربية الإسلامية ، والتهذيب الاجتماعي ، والرقابة الإلهية ، عاش المجتمع في ظلال الزوجية على أحسن مايكون من السعادة الحقة ، والاستقرار الكامل ، والعيش الهانيء الرغيد. ومثل هذه التربية تجعل التعدد – حين تقتضية الظروف – قليل المساوئ والأضرار ، حسن النتائج والآثار ، فلا زوجات تحركها العواطف والأهواء ، ولا أولاد تفرقهم العداوات والخصومات ، بل بيت إسلامي تعمره الفضيلة والأخلاق ، ويملؤه الحب والإخلاص ، ويشيع في رحابه الهناءة والاستقرار.(3/170)
فما أحوجنا أن نعود إلى الدين الحق ، والإسلام الصحيح ، والتبرية الإسلامية المثلى ، وما أحوجنا أن نقوي في نفوسنا جانب التقوى والمراقبة والخشية من الله ، حتى تكون أعمالنا ومعاملاتنا على الوجه الذي يرضي الله ، ويحقق الخير لعباده.
1 2 3
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أي ومادخل تحت ولايتهم.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) رواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه.
(5) هذه ملاحظة من موقع "طريق الحقيقة" ، ضعف هذا الحديث الإمام الألباني رحمة الله في ضعيف سنن أبي داود رقم الحديث 2134
(6) سورة هود الآية 1
(7) سورة النساء الآية 82
(8) ذكره القرطبي في تفسيره ج/5/ص22.
(9) والمعنى أنه إن كان يعلم أنه لايستطيع الإنفاق على الزوجة الثانية فلا يجوز له ديانة أن يعدد.
(10) رواه ابن ماجه والدارقطني
محَاولات لِمنع التّعدُّد
من المؤسف حقاً أن نسمع من بعض المسؤولين في الدول التي تنتمي إلى الإسلام ، ومن بعض من ينتمي إلى جمعيات نسائية من النساء الدعوة إلى إلغاء تعدد الزوجات ، أو تقييده بقيود شديدة ،تجعل الزواج بأكثر من واحدة ضرباً من المستحيل ، لقد كان لهذه الدعوه صدى سيء بالغ الأثر على الأوساط الإسلامية ، أما في الأوساط التبشيرية والاستعمارية فكان لها صدى مستحب ، وتأييد مطلق ، حيث نُعتت هذه المحاولات بأنها خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة.
هذا الذي يريد المسؤولون أن يفعلوه في بعض الدول ، وتحاول أن تنتهج منهج بعض الدول العربية ، وتسعى لتحقيقه بعض الجمعيات النسائية في بلادنا ، ليس إلا مجرد استرضاء للغربيين ، أو للدول التي تنادي بدعوة التقدمية ، إثباتاً لانسلاخهم من الإسلام ، وتحررهم من ربقة الدين والأخلاق ، وهو في الوقت ذاته دليل تهافت الشخصية ، واحتقار الذات ، والترامي على اقدام المتعصبين الغربيين ، الماديين الشرقيين ، لاستجلاب عطفهم ، واسترضاء مبشريهم وملاحدتهم على حساب كرامتنا وديننا ومبادئ شريعتنا.
ياليت عند هؤلاء المفترين المتأثرين بالدعايات الغربية ، والأفكار الإلحادية ، العقل الناضج ، والتفكير الصحيح ، ليناقشوا القضايا على ضوء الواقع والمصلحة ، والظروف الاجتماعية !!. وياليتهم حين يتكلمون يتجردون عن الهوى والعاطفة والتعصب! ... لو فعلوا هذا لما قبلوا الحقائق ، ولما وقفوا من نظام التعدد هذا الموقف الملتوى ، ولما أعلنوا تطاولهم على شريعة الله ، ونظام الإسلام.
ألم يسمعوا أن كثيراً من المفكريين ، والمصلحين الاجتماعيين في اوربا وفي كثير من بلاد العالم ، ينادون بنظام التعدد ، وأنه العلاج الناجح لحل مشكلة الأخلاق ، وحل أزمة ازدياد عدد النساء؟
ألم يعلموا أن الله سبحانه حين يشرع لعباده الأنظمة ، ويقرّ لهم المبادئ؛ هو الأعلم بما يصلحهم ، والأدرى بما يحقق سعادتهم واستقرارهم؟.
ألم يقرأوا في الصحف والمجلات عن ازدياد نسبة الأولاد غير الشرعيين ، للعلاقة الجنسية المحرمة بين الرجال والنساء؟
ألم يدركوا أن نظام التعدد يخلّص الكثير من النساء من ذل الحاجة ، وغائلة الفقر ، ويحفظ لهن كرامتهن وعفافهن ؟ فبأي حديث بعد هذا يؤمنون ؟!.
-----------------
الحِكمة من تعدُّدِ أزواج النّبّي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد
انتشار التعليم
كسب التأييد
اكتمال التشريع
تحقيق التكافل
توثيق روابط الصحبة
إعطاء القدوة
السؤال الأول : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة مع فارق السن؟
السؤال الثاني : نبذة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
تقديم وتمهيد:
يتخذ أعداء الإسلام من جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد ، منفذاً للطعن ، ووسيلة للاتهام ، وحين يبحثون عن الأسباب فلا يجدون تعليلاً لهذا الجمع سوى الشهوة الجنسية والثورة الغريزية ، دون أن يحيطوا بالظروف التي صحبت هذا الزواج ، ودون أن يبحثوا عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الجمع.
وأراهم حين يسددون هذه المطاعن ، ويثيرون تلك الشبهات منساقين كل الإنسياق وراء التعصب الأعمى ، والحقد الأسود على الإسلام ورسول الإسلام ، بل عداوتهم لهذا الدين قديمة متأصلة توارثوها عن الحروب الصليبية جيلاً بعد جيل ، فترسخت حتى خالطت اللحم والعظم ، وتأصلت حتى انطبعت في سويداء القلوب ، وماذا تنتظر من اللئيم غير الخبث واللؤم ، ومن الحقود غير العقد والظلم ؟.
ومع كل هذا لابد أن يوجد من غير المسلمين عقلاء منصفون تجردوا من مؤثرات العصبية والهوى ، فتكلموا بلسان المنطق والحق ، وكشفوا عن وجه الحقيقة في تعداد أزواجه عليه الصلاة والسلام . ومن هؤلاء (توماس كارليل) الذي يقول في هذا المقام : ( ماكان محمد أخا شهوات ، برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً ، وشدَّ مانجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً ، لا همّ له إلا مآربه من الملاذ . كلا! فما أبعد ماكان بينه وبين الملاذ أياً كانت ..(1)(3/171)
بعد هذه التقدمة سأشرع بعون الله في بيان الحكمة من تعداد أزواجه صلى الله عليه وسلم مفصلاً الأسباب التي دعت إلى التعدد ، ومبيناً الظروف التي أحاطت بهذا الجمع ، ليعلم القارئ الكريم لماذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة في آن واحد ؟.
ولكن قبل أن أسرد الحكمة من هذا الزواج أريد أن يضع في ذهن القارئ حقيقتين هامتين :
الحقيقة الأولى : أن الجمع بين عدة زوجات كان شائعاً في البيئة الإنسانية والعربية قبل الإسلام . ومما يدل على هذا أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ، وأن الحارث ابن قيس حين أسلم كان عنده ثمان نسوة ، وسبق أن ذكرنا في مبحث (أحكام التعدد) أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهما أي يختارا منهن أربعاً ويفارقن سائرهن.
ولقد كان كثير من العرب يعددون ولا يرون في ذلك حرجاً ولا غضاضة ، فلما رأى أعداء الإسلام النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ولم يروا العصر كله ، ولماذا خصوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالذكر ، ولم ينظروا إلى التعدد الذي رافق أبياء التوراة عبر التاريخ؟.
يقول الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – في كتابه (2): ( حين كنت في دبلن (ايرندا) عام /1956 / زرت مؤسسة الآباء اليسوعيين فيها ، وجرى حديث طويل بيني وبين الأب المدير لها ، وكان مما قلته له: لماذا تحملون على الإسلام ونبيه بخاصة في كتبكم المدرسة بما لا يصلح أن يقال في مثل هذا العصر ، الذي تعارفت فيه الشعوب والتقت الثقافات؟!
فأجابني : نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج تسع نساء ! ..
قلت له: هل تحترمون نبي الله داود ، ونبيه سليمان ؟.
قال : نعم! وهما عندنا من أنبياء التوراة !
قلت : إن النبي داود كانت له مائة زوجة كما هو معلوم ، ونبي الله سليمان كانت له – كما جاء في التوراة - سبعمائة زوجة من الحرائر ، وثلاثمائة من الجواري ، وكن أجمل أهل زمانهن ، فَلِمَ يستحق احترامكم من تزوج ألف امرأة ، ولا يستحق من يتزوج تسعاً ؟ ثمانية منهن ثيبات وبعضهن عجائز ، والتاسعه هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوّجها طيلة عمره .
فسكت قليلاً وقال: لقد أخطأت التعبير ، أنا أقصد أننا نحن الغربيين لا نستسيغ الزواج بأكثر من امرأة ، ويبدو لنا أن من يعدد الزوجات غريب الأطوار ، أو عارم الشهوة !.
قلت: فما تقولون في داود وسليمان – عليهما السلام – وبقية أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا جميعاً معددين الزوجات بدءاً من جدهم إبراهيم عليهم السلام.
فسكت ولم يُحِرْ جواباً ..)(3) .
ورب سائل يقول: لماذا جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة ، بينما كان التشريع الذي شرعه الله للأمة مقيداً بأربع زوجات.
الجواب: إن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد كان خصوصية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهذه خصوصية خاصة به لايجوز لأحد من الأمة أن يقتدي بالإضافخ إلى خصوصياته الكثيرة التي عددتها كتب السنة ، وتكلم عنها الفقهاء والمفسرون .
نذكر منها على سبيل المثال وصاله عليه الصلاة والسلام الصوم (معنى الوصال: وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما. ) ، ولما واصل الصحابة نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال(4) ، ثم قال لهم : ( إني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني(5) .. )
ومن خصوصياته أنه لا يحل له أن يتزوج على نسائه التسع أو يطلق واحدة منهن ، مكافأة لهن على اختيارهن مرضاة الله ورسوله ، وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا وزينتها ، ودليل هذا التحريم قوله تعالى {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ ..} (6)
ومن خصوصياته : أنه لا يحل لأحد من المسلمين أن يتزوج بعد وفاته صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه؛ لأنهن أمهات المؤمنين ، قال تعالى { .. وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً .. }(7) .
إلى غير ذلك من هذه الخصوصيات التي ذكرها العلماء ، وعددها المجتهدون . وإذا كان من وراء كل خصوصية حكمة وقصة ، فعمّا قريب سيجد القارئ الحكمة من تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، وقصته ، عليه السلام مع كل زوجة تزوجها .
الحقيقة الثانية : زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من واحدة كان في المدينة وفي سن الكهولة. فمن المعلوم تاريخياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بعد وفاة السيدة خديجة – رضي الله عنها – إلا سوداء بنت زمعه وإلى أن هاجر إلى المدينة ولم يعدّد إلا بعد أن ولِدت الدولة الإسلامية ، وقامت على أرجلها قوية متينة ، وكان لهذا التعدد أغراض إصلاحية وتشريعية سنذكرها في حينها .(3/172)
ومن الثابت تاريخياً كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بالسيدة خديجة وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ، وكانت هي ثيباً(8) بنت اربعين سنة ، فعاشت معه خمس عشرة سنة قبل البعثة ، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين ، وكان عمرها يومئذ خمساً وستين سنة.
فهل من المعقول أن نحكم على إنسان أنه شهواني وقد قضى زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته بزواجه من امرأة تزيد على عمره خمسة عشراً عاماً ؟ إذن لماذا يسدد أعداء الإسلام سهام طعنهم لرسول الإسلام وهم يعلمون الحقيقة بأجلى معانيها .
إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ليشفوا حقدهم القديم ، وعداوتهم اللئيمة !! فإذا عدَّد بعد أن جاوز الخمسين ، درج في سن الكهولة لحكم اجتماعيه ، وأغراض تشريعية ، أيكون قد أتي بشئ عظيم ؟.
ثمّ مَن اللواتي تزوجهن ، ألسْنَ أيامى وثيبات(9) ؟ ألسْنَ عجائز وفقيرات ؟ إذا كان الأمر كذلك ؛ فلم هذه الإثارة والضجة ؟ وَلِمَ هذا الطعن والاتهام ؟ اما يدل هذا على التعصب الأعمى ، والحقد الدفين ؟.
فياليتهم ينكلمون حين يتهمون بلسان الحث والمنطق !.
وياليتهم حين يتقولّون يزنون الأمور بميزان العقل السليم والمنهج العلمي الصحيح !.
بعد ذكر هاتين الحقيقتين أشرع في بيان الحكمة من تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي سرد الملابسات التي اقضت الجمع بين تسع نسوة في آن واحد ، وأرى أن الحكمة من هذا التعدد ، والملابسة لهذا الجمع ترتكز على الأمور التالية:
1- انتشار التعليم.
2- كسب التأييد.
3- اكتمال التشريع.
4- تحقيق التكافل.
5- توثيق روابط الصحبة.
6- إعطاء القدرة.
---------------------------------------------------------
(1) كتاب الأبطال ص83
(2) المرأة بين الفقه والقانون ص96
(3) عن كتاب المرأة بين الفقه والقانون بتصرف يسير
(4) معنى الوصال : وصل صيام اليوم بالذي بعده دون الإفطار بينهما.
(5) أي يعينني ويقويني ، والحديث رواه البخاري ومسلم.
(6) جزء من الآية (52) سورة الأحزاب
(7) جزء من الآية (53) من سورة الأحزاب
(8) والثيب هي التي تزوجت من قبل ، ومن المعروف أن خديجة تزوجت مرتين قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم
(9) من الثابت تاريخياً أن جميع النسوة اللاتي تزوجهن الرسول صلى الله عليه وسلم كن متزوجات من قبل ؛ عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فإنها كانت بكراً.
أما انتشار التعليم: فيكفي أن نعلم أنّ نصف المجتمع نساء وأنهن بحاجة إلى الثقافة والتعليم كالرجال سواء بسواء ، وإن واحدة أو اثنتين أو ثلاثة لايمكن أن يقمن بدورهن في إرشاد النساء ، وتعليم البنات في المجتمع الإسلامي الجديد ؛ إذن فالأمر يتطلب أن يقوم بعض نسوة في آداء رسالتهن كمرشدات ومعلمات ، حتى يتعلم النساء كل ما ينفعنت في امور دينهن ، ولا سيما في الأمور التي يستحيين أن يسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأحكام الزوجية ، ومسائل الحيض والنفاس ، وقضايا الحنابة والطهارة وغيرها.
ومن الشواهد على هذا: ماروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها : أن مرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غُسلها من المحيض ، فأمرها أن تغتسل ثم قال ( خذي فرصة (10) فتطهري بها ) قالت: كيف أتطهر بها ؟ قال: (تطهري بها ) ، قالت : كيف ؟ قال: ( سبحان الله تطهري ) قالت عائشة : فا جذبتُها إليّ ، فقلت : ( تتبعي بها أثر الدم ).
فالرسول صلى الله عليه وسلم استحيى بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيّبة بالمسك في المكان الذي كان يخرج منه الدم إتماماً لطهارة ، فأخذتها عائشة وأفهمتها المراد .
وفي صحيح مسلم أن المرأة من الأنصار اسمها أسماء ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ، فقال : ( تأخذ إحدكنّ ماءها وسِدْرَها(11) فتطَّهر فتحسن المطهر ، فتصب على رأسها ، فتدلكه دلكاً شديداً حتى يبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطَّهَّر بها) قالت اسماء : وكيف اتطهر بها ؟ قال : ( سبحان الله تطهري بها ! ) سبح الله تعجباً من عدم فهمها حتى كفته زوجه عائشة ذلك .
والشواهد على ذلك كثيرة ، وليس أمر التعليم منوطاً في امور الحيض والطهارة فقط كما يفهم البعض وإنما كان يشمعل كل مايرفع من مستوى المرأة من ناحية العبادة والمعاملة والأخلاق ، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم خير مبلغ عن رسول الله في حياته ، وخير مرجع في الاستفتاء ورواية الحديث بعد وفاته.
ومن ذا الذي يقول إن زوجاً واحدة كانت تقوم بهذا العبء والواجب وحدها ؟ ومَنْ ذا الذي ينكر هذه الحقيقة بعد أن ظهر الحق ، وبان الدليل ؟.
--------------------------------
(10) الفرصة : قطعة أو صوفة أو خرقة مطيبة بالمسك .
(11) السدر : شجر النبق ، كان يستعمل في الغسل لأنه نبات منظف كالصابون .(3/173)
أما كسب التأييد: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفع الدعوة الإسلامية بزواجه من قبائل قريش ، باعتبار أن قريشاً سيدة العرب ، وإذا أسلمت قريش أسلمت العرب ، وفعلاً قد وجد من هذه القبائل التي صاهرها العطف الكامل ، والتأييد المطلق ، بل أصبحوا يدخلون في الإسلام تباعاً ، ويعتنقون الدين الجديد طواعية واختياراً ، وكان لهذا التعدد للزوجات دون في تشجيع الناس على الدخول في الإسلام وكان له دور في كسب النبي صلى الله عليه وسلم هذا العطف والتأييد.
فهذه جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : لما أُسِرَت مع قومها في غزوة بني المصطلق ، استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أذن لها قالت: يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس ، فكاتبته (12) على نفسي ، فجئتك أستعينك على أمري : فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فهل لك في خير من ذلك ؟ ) قالت: وما هو يا رسول الله ؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم : ( أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ) فقالت في فرحمة غامرة : نعم يارسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد فعلت )(13) .
فما هي نتائج هذا الزواج ؟ أقبل الناس وبأيديهم أسرى قومها ، فأرسلوهم أحراراً وهم يقولون : ( أصهار رسول الله ) ! فما كانت إمرأة أعظم على قومها بركة منها ، فأعتق المسلمون بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأسرى السبايا ، ودخل الجميع في الإسلام وهم راضون وراغبون ، وكان لهذا الزواج من جويرية أفضل الآثار ، وأحسن النتائج .
وروت كتب السيرة أن أباها جاء النبي صلى الله عليه وسلن فقال : يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فإن ابنتي لا يسبى مثلها !! ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يخيرها ، فسرَّ أبوها بذلك ، فخيّرها ، فاختارت الله ورسوله ، وكانت من أعبد امهات المؤمنين.
وذكر ابن هشام في السيرة أن والدها سمع حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم عما جاء فيه من فداء ابنته ، فصاح بصوت جهير : ( أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله ) وأصدقها النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم.
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموى رضي الله عنها ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكان تزوجه بها تأليفاً لأبي سفيان سيد قريش وزعيم مكة ، وترغيباً له في الدخول بالإسلام ، ومن ناحية أخرى كان هذا الزواج جبراً لخاطرها ، وجمعاً لشملها ، وإنهاءً لوحشة الهجرة وسوء تصرف زوجها ؛ ولزواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها قصة ،تتلخص في أن أم حبيبة أسلمت مع زوجها (عبيد الله بن جحش الأسدي ) بمكة ، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسة ، ولما عادت إلى المدينة بني بها وتزوجها ، ولما بلغ أبا سفيان الخبر قال : ( هو الفحل لايقدع أنفه ) ويقصد أنه الكفء الذي لايماثلة أحد ، وكانت هذه المصاهرة فيما بعد من العوامل الأساسية التي دفعت أبا سفيان إلى الدخول في الإسلام في العام التالي عام الفتح .
وهذه صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة ، وكانت من يهود بني النضير ، وأُسرت بعد قتل زوجها في غزوة خيبر ، فأخذها دحية بن خليفة الكلبي في سهمه ، فقال أهل الرأي من الصحابة : يارسول الله إنها سيدة قومها لا تصلح إلا لك ، فاستحسن رأيهم أسباب منها : إباؤهه عليه الصلاة والسلام أن تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها في المكانة ، وتشجيعه الناس على إعتاق الرقيق ، أما بيت القصيد من هذا الزواج فهو رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تحريض اليهود على اعتناق الإسلام ، أو على الأقل تخفيفهم من عداوتهم للإسلام ، ومكرهم بالمسلمين وروى الإمام في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم خير صفية بين أن يعتقها وتكون زوجته أو يلحقها بأهلها ، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته.
فإذا أضفنا إلى هذا الزواج زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر وهي من بني عدي ، وزواجه بزينب بنت جحش وهي من بني أسد ، وزوجه من أم سلمة وهي من بني مخزوم ، وزواجه من ميمونة بنت الحارث وهي من بني هلال ، وزواجه من سودة بنت زمعة وهي من بني عامر بن لؤي . إذا اضفنا كل هذا إلى باقي الزوجات اللاتي تحدثنا عنهن قبل قليل ؛ يتبين لنا بشكل قاطع لايتحمل الشك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النسنوة يستهدف في الدرجة الأولى مصاهرة هذه القبائل ، ليكسب تأييدها في المهمة التي كلف بها ، وبعث من أجلها ، ألا وهي رسالة الإسلام . ثم بالتالي كان يطمع بهدايتهم واعتناقهم هذا الدين الجديد ، ولو اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجة واحدة لما كان هذا التأليف ، ولما حظي بهذا التأييد .(3/174)
------------------------------------
(12) الكتابة اشتراء الرقيق نفسه من سيدة بمال يؤديه أقساطاً.
(13) كان زواجه عليه السلام منها سنة خمس من الهجرة
أما اكتمال التشريع فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج بعدة نسوة في وقت واحد لأغراض تشريعية ، نذكر منها ما يلي :
أ - إبطال عادة التبني التي كانت متبعة في الجاهلية : كان من عادات العرب الشائعة في الجاهلية أنهم يتخذون لأنفسهم أبناء أدعياء يلصقونهم بأنسابهم ، ويعطونهم جميع حقوق الأبناء حتى في المواريث ، ومحرمات النكاح ، ولما أراد الله أن يبطل عادة التبني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زينب بنت جحش الأسدية لزيد بن حارثة مولاه ومتبناه (14) ، والله سبحانه يعلم أنهما لايتفقان على بقاء هذه الزوجية ؛ بسبب التفاوت في المكانة ، والاختلاف في النسب ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى زينب وقال لها : ( إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة ، فإني قد رضيته لك ) ، قالت يارسول الله : لكني لا أرضاه لنفسي ، وأنا أيّم قومي ، وبنت عمتك فلم أكن لأفعل ، فنزلت الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً}(15) ، فقالت زينب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية : قد أطعتُك فاصنع ما شئت ، فزوجها زيداً ودخل عليها ، فكانت بعد الزواج تغلظ له القول ، وتتعاظم عليه بالضرف والمنزلة ، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكياً منها ، ويستأذنه في طلاقها ، فيقول له صلى الله عليه وسلم : ( أمسِك عليك زوجك واتّقِ الله ) وهو يعلم أنه لابد له من طلاقها ، وأن الله سيأمره بالتزوج بها إبطالاً لبدعة التبنّي ، وتجويزاً لنكاح أولاد الأدعياء.
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر هذا لزيد ، ولا لغيره من الناس خشية أن يقولوا : إن محمداً تزوج امرأة ابنه المتبنّى ، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله : {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ ..}(16) .
فلما طلقها زيد بمحض اختياره وإرادته ، زوَّجه الله إياها بدون عقد ، وفي هذا نزل قوله تعالى : {.. فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا .. } (17) .
ثم عللت الآية هذا الزواج فقالت : {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ}.
وبعد نزول هذه الآيات التشريعية بطلت عادة التبنّي ، وحلّ الزواج بزوجات الأدعياء.
ويتلخص مما تقدم : أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب الأسدية كان لغرض تشريعي ، وغاية اجتماعية ألا وهي إبطال عادة التبنّي.
ب - المساهمة الكبرى في رواية السنة : إن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وإن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قد ساهمن مساهمة فعالة في رواية كل قول سمعنه ، وفي نقل كل فعل رأينه من النبي صلى الله عليه وسلمه ، فوصل بذلك كثير من السنة إلى الأمة الإسلامية ، عن طريق الرواية من نساء مقطوع بصدقهن ، ومجمع على أمانتهن وعدالتهن ، ويكفيهن فخراً وشرفاً أن سماهن القرآن أمهات المؤمنين وخطابهن بقوله : { يا نساء النبي ... } إلى غير ذلك من هذه الألقاب والصفات .
ولقد ذكر الرواة أن عدد الأحاديث التي رواها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم عنه جاوزت ثلاثة آلاف حديث ، وأن صاحبة السهم الأكبر في رواية الحديث السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد روت عنه 2210 حديثاً ، ويليها أم سلمة رضي الله عنها التي روت 378 حديثاً ، وباقي الزوجات كن تتراوح أحاديثهن بين 11 إلى 65 حديثاً ، وهذا التفاوت في رواية الحديث يرجع بسببه إما إلى الذكاء ، أو مدة الحياة الزوجية ، أو امتداد العمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اجتمعت هذه الأسباب للسيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد كانت ذكية ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم بها في أول الهجرة ، وعاشت بعدة حتى سنة 58 هـ
أما السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها فكانت آخر نسائة زواجاً ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة ، فروايتها للحديث كانت اقل من باقي الزوجات لقصر الإقامة ، وقس على ذلك صفية وزينب الأسدية رضي الله عنهما .
ويتلخص مما تقدم عن حكم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مساهمتهن الفعالة في رواية الحديث لاكتمال التشريع ،، والحفاظ على السنة النبوية .(3/175)
سنة مبدأ العدل والأخلاص السمحة : باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة ، أقواله وأفعالة تشريع ، وجب على كل من يرغب بالزواج ، أو يجد في نفسة حاجة ملحة إلى التعدد ، أن يكون على اطَّلاع تام بكل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في ملاطفة الأهل ، والعناية بالزوجات ، وإحقاق الحق لهن ، وتطبيق مبدأ العدل والمساواة بينهن ؛ حتى لا يحيف مسلم ، ولا يتطاول متزوج؛ وسبق أن ذكرنا في بحث (أحكام التعدد في الشريعة الإسلامية ) طائفة من الأحكام القرآنية ، فارجع إلى البحث تجد مافيه الكفاية.
أما فعلة عليه الصلاة والسلام في سنة مبدأ العدل بين زوجاته ، وإعطائه المثل الكامل في الأخلاق الرضية والملاطفة؛ فإن رواة الحديث مؤرخي السيرة قد أفاضوا في معاشرته أزواجه بالمعروف ، والقسمة بينهن بالعدل ، في كل من المبيت والنفقة واللطف والتكريم . وحين يأتي الكلام عن حكمة إعطاء القدوة في تعدد أزواجه عليه الصلاة والسلام ، سنفصل القول في ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه وحسن معاشرته لهن ، وعندئذ يتضح للقارئ الكريم السر من هذا التعداد ، والحكمة من هذا الجمع .
------------------------------------------
(14) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبني زيد بن حارثة لاختياره البقاء في جواره على أبيه وأهله ، فما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أعتقه ، وأخرجه إلى الحجر فقال : (اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه ) فكان يدعي بعد هذا التبني بزيد بن محمد ، حتى جاء الله بالاسلام ، وابطل هذه العادة .
(15) الآية (36) من سورة الأحزاب
(16) (17) جزء من الآية (37) سورة الأحزاب
أما تحقيق التكافل : فمن المعلوم بداهة أن من الأسباب التي دعت إلى التعدد؛ هي رحمة ببعض نسوة كن لايجدن من يرعاهن ، ويقوم على امرهن بعد فقد ازواجهن .
فهذه سودة بنت زمعة رضي الله عنها ، اول إمرأةتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ، وكان تّوفي عنها زوجها الذي هو ابن عمها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، والحكمة في اختيارها أنها لو عادت إلى أهلها في مكة لأكرهوها على الشرك بالفتنة والعذاب ، فختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالتها ، ورغب في زواجها . وكان الزواج منها قبل عام الذي هاجر فيه إلى المدينة بثلاثة أعوام .
وهذه هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها ، كانت هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي ، وقد توفي زوجها بعد غزوة أحد ، وعزاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سلي الله يأجرك في مصيبتك ، ويخلفك خيراً ) ، فقالت : ومن يكون خيراً من أبي سلمة ؟، ولما خطبها لنفسة اعتذرت بأنها مسنة وأم أيتام (18) وذاتُ غَيْرة ، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سناً ، وبأن الغيرة يذهبها الله سبحانه وتعالى ، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله .
فهذا النص يدل دلالة وضحة على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على رعاية الأيتام ، وكفالة الأرمل ، وتعزية المصابين .
وهذه أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها كانت أسلمت في مكة وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة ، فتنصر زوجها هنالك وفارقها ، فأرسل النبي صلى الله عليه سلم إلى النجاشي فخطبها له ، وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، ولما عادت إلى المدينة بني بها ، وكان من دوافع هذا الزواج احترامهاوكفالتها وجبر خاطرها بعد مصابها بتنصّر زوجها ، وعداوة أبيها .
ويتلخص مما تقدم أن من دوافع هذا الزواج ، أسباب هذا التعدد الرحمة بالأرامل وكفالة النساء المسنّات الأيامى ، فهل يكون التزوج بهؤلاء النسوة وأمثالهن لغرض الشهوة والاستمتاع كما يتقوّل البعض ؟.
-----------------------------
(18) وكانوا ثلاثة: سلمة وعمر وزينب.
اما توثيق روابط الصحبة: فظاهر في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بابنتي احب الناس إليه ، وأعزهم عليه: عائشة بنت ابي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً . أما زواجه بعائشة أم المؤمنين فقد ؤوى ابن سعد وابن أبي عاصم من طريق عائشة قالت : لما توفيت خديجة – رضي الله عنها – قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خَلّة لفقد خديجة ، فقال: أجل ، كانت أم العيال ، وربة البيت .(3/176)
قالت: أفلا أخطب عليك ؟ قال: بلى ، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك ، فخطبت عليه سودة بنت زمعة ، و عائشة بنت أبي بكر . وفي رواية : قالت خولة للنبي صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ألا تزَوَّج؟ قال: من ؟ قالت : إن شئت بكراً ، وإن شئت ثيّبا ، قال : فمن البكر ، قالت : بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر ، قال : ومن الثيب ؟ قالت : سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك ، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ .. قالت عائشة: فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أمّ رومان ، فقالت خولة : ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة ؟!. قالت: وماذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة ، قالت : وددت ، لو تنتظرين أبا بكر ، فجاء أبوبكر فذكرت له ، فقال : وهل تصلح له وهي بنت أخية ؟ فرجعت فكذرت ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( قولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ).
وهنا نقف لحظة لنعرف ماذا يقصد الدِّيق أبو بكر من قوله : ( وهل تصلح له وهي بنت أخيه ؟) يقصد أن الرابطة الأخوية الصادقة التي تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت في القوة والمتانة مبلغ رابطة إخوّة النسب ، فما كان يتصور رضي الله عنه أن عائشة تحل له ، وماكان يدور في خلده أن يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بابنته ؛ ولكن لما علم أبو بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقلته له خولة : (أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي ) ، لما علم ذلك هشّ لهاذا الزواج وفرح به ، بل كان مفتخراً بهذه المصاهرة معتزاً بها على مدى الأيام ؛ فإذا اجتمعت فضيلة وإخوة الدين ، وفضيلة المصاهرة ، وفضيلة الصحبة والسبق إلى الإسلام في إنسان ، فلتكن في أبي بكر الصديق ، فقد جمع الخير من كل جهاته ، وحاز المجد من جميع أطرافه رضي الله عنه وأرضاه .
أما زواجه بحفصة بنت عمر أم المؤمنين ، فقد روى ابن الأثير في أسد الغابة حفصة كانت متزوجة بخنيس بن حذافة السَّهمي ، وكان من المهاجرين الأولين إلى أرض الحبشة ، وممن شهدوا بدراً ، ومات في المدينة متأثراً بجراحه بعد موقعة أحد ، فرأى عمر أن يزوجها ، فعرضها على أبي بكر فسكت ، وعرضها على عثمان بعد موت زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ماأريد أن أتزوج اليوم ، وإنما كان يرجوا أن يزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم ، وقد ساء عمر رضي الله عنه ماكان من أبي بكر وعثمان ، وهنا الكفئان الكريمان لابنته ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة )، فلقي أبو بكر عمر فقال : لا تَجدْ عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لتزوجتها ، وكان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بحفصه سنة ثلاث من الهجرة على القول الراجح.
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة في السنة الثانية من الهجرة ، فكان هذا قرّة عين لوزيره الأول ، وصاحبه في الغار ، وتزوج في حفصة في السنة الثالثة من الهجرة ليسوي بين عمر وبين أبي بكر في شرف المصاهرة ، ومتانة الصحبة ، ولم يكن في الإمكان أن يكافئهما على صدقهما وإخلاصهما وجهادهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الزواج ، وأكرم من تلك المصاهرة.
لولا الذي فعلة الرسول صلى الله عليه وسلم من الزواج بحفصة لكانت حسرة في قلب عمر ، ولوعة تعتلج نفسه وصدره ؛ فما أكرم سياسته صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم وفاءه للأصحاب المخلصين! ..
---------------------------------------
(19) خلة: حاجة.
(20) هي ام عائشة.
وأما إعطاء القدوة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة والمثل الكامل في حسن معاشرته لأزواجه ، وإرادة الخير لهن ، وتحقيق العدل بينهن ، ولا بأس أن نذكر طرفاً من هذه المعاملة الطيبة حتى يتأسى المتزوجون بها ، ويمشوا على هديها ونهجها ، وبالتالي حتى يعلم كل ذي عقل وبصيرة الحكمة من هذا التعدد والسر من هذا الجمع.
أ - القسمة بالعدل: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يقسم أوقاته بالعدل بين نسائه جميعاً ، وكان يدور عليهن كل يوم امرأةً امرأةً ، إلى أن يصل إلى التي عندها الدور (فيبيت عندها) ، ولما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة ، تبغي رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، روى أحمد وأصحاب السنن أن سودة بنت زمعة لما أسنّت وخافت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قالت يارسول الله: وهبتُ يومي لعائشة ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منها .(3/177)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها ؛ تحقيقاً لجانب العدل ، ولما حج أخذهن كلهن معه . ولما مرض عليه السلام مرضه الأخير شقّ عليه أن ينتقل بين بيوت نسائة كل يوم كما كان يفعل في حال صحته ، فكان يسأل – كما روى البخاري - : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ يريد يوم عائشة ، فأذن له أزواجه كلهن أن يكون حيث شاء ، فختار بيت عائشة وفيه توفي ، وروى أبو داود أنه بعث في مرضه إلى نسائة فاجمعهن ، فقال : ( إني لا أستطيع أن أدور بينكن ؛ فإن رأيتنّ أن تأذنّ لي أن أكون عند عائشة ) فأذنّ له ، ومن حكمة ذلك أن يدفن في بيتها ، وقد كان صرح من قبل بأنه يدفن حيث يموت.
وقس على عدله بالمبيت عدله صلى الله عليه وسلم بالنفقة واللطف والبشاشة والتكريم.
ب - احترامه لآرائهن: كان عليه الصلاة والسلام يقبل من نسائه أن يراجعنه فيما لا يرضين به ، فلا يسخطه ذلك ، حتى أصبح نساء الصحابة يقتدين بهن ، فقد روى الطبري عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : ( فَصِحْتُ على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولِمَ تُنكِر أن أراجِعَك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ).
ت - مساعدته في خدمة البيت: روى الطبري وغيره عن عائشة أنها لما سئلت : ماذا كان يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت قالت: ( كما يصنع أحدكم ، يشيل هذا ، ويحط هذا ، ويخدم في مهنة أهله ، ويطح لهن اللحم ، ويقمّ البيت ، ويعين الخادم في خدمته ) وفي رواية : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ).
ث - استنكاره ضرب النساء: روى ابن سعد في طبقاته أن سبعين امرأة شكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب رجالهن لهن ، فأغضبه ذلك ، وقال : إنه لا يحب أن يرى ذلك أبداً ، وقال : عندما شكت له مرأة ضرب زوجها : ( يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ، ثم يظل يعانقها ولا يستحي ) وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر على الناس ضرب نسائهم ، فإن أعطى لأصحابه القدوة العملية في الملاطفة ، وعدم ضرب النساء ، فقد روى ابن سعد عن عائشة أنها قالت : ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط ، ولا خادماً ، ولا ضرب شيئاً قط ؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله ) .
ج - وفاؤه لمن مات منهن: من المعلوم أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، كانت أول زوجاته صلى الله عليه وسلم فقد قضى معها زهرة شبابه ، وعنفوان رجولته ، ولما ماتت ظل النبي صلى الله عليه وسلم طول عمره يذكرها ، ويكرم صديقاتها ومعارفها.
وذكرت كتب التاريخ والسِّير أن عجوزاً زارت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، فأكرم مثواها ، وبسط لها رداءه فأجلسها عليه ، فلما انصرفت سألته عائشه عنها لتعلم سبب إكرامه لها ، فأخبرها أنها كانت تزور خديجة .
وروى ابن عبد البر والدَّوْلابي أن عائشة كانت تغار من خديجة كلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت له مرة: هل كانت إلا عجوزاً أبدلك الله خيراً منها؟ - تعني نفسها- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( لا والله ماأبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من الناس ) قالت عائشة : فقلت في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبداً.
وروى الشيخان عن عائشة أنها قالت : (ماغرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها قط ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يطعها أعضاءً ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، وربما قلت له : لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ؟! فيقول إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ، وإني لأحب حبيبها ).
ح - مداعبتهن والبشاشة لهن: كان عليه الصلاة والسلام يبسم دائماً في وجه نسائه ، ويلين لهن ، ويجاملهن ويؤانسهن ، فقد روى ابن سعد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس ، وأكرم الناس ، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان يسّاماً ).(3/178)
أما المداعبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب نساءه ويمازحهن ، وحينما يجلس معهن ويخلو بهن ، وقد كان لعائشة بنت الصديق رضي الله عنهما من قلب رسولا لله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن لأحد من نسائه بعد خديجة رضي الله عنها ، فكانت الحبيبة بنت الحبيب ، وكانت هي أكثرهن إدلالاً عليه لصغر سنها ، وفرط ذكائها ، ومنزلة والدها . وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ
وروى الإمام أحمد في مسنده أن عائشة أم المؤمنين خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره ، وكانت صغيرة لم تبدُنْ بعد ، فتسابق وإياها فسبقته ، فسكت عنها إلى أن بَدُنتْ ، وخرجت معه مرة أخرى فتسابقا ، فسبقها ، فجعل يضحك وهو يقول لها (هذه بتِيك) أي واحدة بواحدة.
خ - موقفه منهن موقف الصلح: المرأة بما جبلت عليه من عاطفة فياضة ، وغيرةٍ متقدمة ، تتأثر دائماً بأي موقف يثيرها ، وبأية حادثة تحدث لها ، وما نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جملة نساء البشر ؛ لهن عواطف تتأثر ، ومشاعر تتحرك ، فمن الطبيعي أين يقع بينهن شئ من الخصومات وسوء التفاهم ، ومن الطبيعي كذلك أن يقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهن موقع المصلح المعلم ، حتى إذا صلح أمرهن ، وتهذبت نفوسهن كن لغيرهن من النساء قدوة ، وللزوجات والأمهات مثالا .
وإليكن طرفاً من هذا التعليم والإصلاح :
• روى الترمذي أن صفية بلغها أن عائشة وحفصة قالتا : نحن أكرم على رسول الله منها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ( ألا قلت : وكيف تكونان خيراً مني ، وزوجي محمد ، وأبي هارون ، وعمي موسى ؟! ) وقد لقبتها زينب مرة باليهودية ، فهجرها النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً عقوبة لها.
• وروى ابن سعد أن عائشة اختصمت مرة مع زينب – إحدى ضرائرها – أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر الرسول إليهما نظرة المغضب ولم يكلمهما ، فانتبهت عائشة لنظرات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستطاعت بلباقتها أن تضفي على الجو روح الألفة والسرور ،فبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : ( إنها بنت أبي بكر !! ).
• وروى أبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلا للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا – تعني أنها قصيرة – فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد قلتِ كلمة واحدة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) أي أن كلمتها لو ألقيت في البحر لأفسدته.
• وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يقربهن شهراً ، واعتزلهن كلهن زجراً وتأديباً لتواطئهن والائتمار بينهن ، حتى يكنَّ قدوة صالحة لسائر النساء.
تلكم أهم المواقف التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في ملاطفته لأهله ، وحسن معاشرته لأزواجه ، ألا فليأخذ المتزوجون من هذه المواقف دروس القدوة ، وليستلهموا منها مواطن العبرة ، حتى لا يقعوا في الجور ، ولا يتعثروا في أوحال الانحراف والظلم . ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقتصراًعلى زوجة واحدة لما عرف الناس هذه التعاليم العملية ، ولما اتضح لهم المنهج السليم في معاشرة الأهل ومعاملة الزوجات ، ولما اتضح لهم مواطن الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب .
---------------------------------------------------------
(21) المسند 6 : 108.
(22) أما رواية ابن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد فراقها فناشدته أن يمسكها فإنها ضعيفة
(23) ابن سعد.
(24) أي يكنسه.
(25) ابن سعد ( 8 : 148 ).
(26) وإذا كان القرآن الكريم أباح للزوج أن يضرب زوجت في حال النشوز ضرباً غير مبرح؛ فينبغي ألا يعرب عن البال أن هذا الضرب يأتي بالمرحلة الأخيرة بعد الوعظ والهجر في المضجع كما نصت عليه الآية ، ثم بالتالي إن كان ينفع ولم يترتب على الضرب فتنة أشد ولا مصيبة أعظم ، وأن لا يضرب في أماكن الخطر كالوجه مثلاً ؛ والأفضل في حق الزوج أن لا يلجأ إلى الضرب اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام لأنه لم يضرب امرأة قط كما مر.
(27) لم تبدن : أي لم يصيبها السمن,
(28) قد كان نساء النبي صلى الله عيه وسلم تواطأن على طلب التوسعه في النفقة ، وإفشاء السر ، والكيد لبعض النساء من زوجاته ، وارجع إلى القرطبي في تفسيره لسورة التحريم ، وآية : {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ ...}(52) الموجودة في الأحزاب تجد ما فيه الكفاية .(3/179)
أما ما يتعلق بالإجابة عن السؤال الأول: فنقول: إن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة كان لأسباب أهمها:
1- زواجه لها كان أمراً من الوحي: كانت عائشة تفتخر فيما بعد على سائر أزواج الرسول ، وتعتز بأن الله سبحانه وتعالى أوصى الرسول بها ، وأتاه جبريل عليه السلام بصورتها في خرقة من حرير خضراء قائلاً له : أنها زوجته في الدنيا والآخرة. وكانت عائشة تردد دائماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : ( أُريتك في المنام مرتين ، أرى رجلاً يحملك في سَرقٍة (31) من حرير ، فيقول هذه امرأتك ، فأكشف عنها ، فإذا هي أنتِ ، فأقول: إن يك هذا من عندالله يمضه )(32) .
2- زواجه لها كان تكريماً لصاحبه: كلنا يعلم أن أبابكر رضي الله عنه كان أول المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال ، ومن كبار الصحابة الذين أخلصوا حبهم لله وللرسول والإسلام ، وتحملوا في سبيل الدعوة كل أذى واضطهاد ، وكان له شرف الصحبة في الهجرة ، والإقامه معه في الغار ، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدِّيق ، لمواقفه الصادقة ، وجهاده المخلص . فإنسان هذا حاله ، وهذا صدقه ، وهذا جهاده أليس يزداد فخراً وشرفاً حين يتقدم أحب خلق الله إليه ، وأكرمهم لديه ، ليخطب ابنته ، ويكون صهره ؟ أليس يجد في هذه المصاهره تكريماً ما بعده تكريم ومنزلة لاتدانيها منزلة ؟ وقد مر معك ملابسة زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة في بحث توثيق روابط الصحبة من هذا الكتاب فأرجع إليه.
3- زواجه لها كان الأثر الأكبر من الناحية العلمية: أبرز ما برزت فيه عائشة رضي الله عنها رواية الحديث ، وقد اعتمد علماء الحديث على كثير مما نقل عنها ؛ لأنها كانت صادقة فيما تنقل ، عالمه بأحكام الشريعة ، وكان ابن الزبير إذا حدث عنها يقول : (والله لاتكذب عائشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً)(33)، كما أن مسروقاً كان يقول في نقل الأحاديث عنها : ( حدثتني الصديقة ابنة الصديق البريئة المبرأة)(34) . وسبق أن ذكرنا في بحث (اكتمال التشريع) من هذا الكتاب أن عدد الأحاديث التي روتها عائشة بلغت 2210 حديثاً . ولم يكن دور عائشة خاصاً بالحديث ، وإنما تجاوزت ذلك إلى الفقه ، فقد كانت معلوماتها في الأحكام الشرعية وافرة ، يقول الإمام الزركشي : ( إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها).
ولم تكن عائشة فقيهة فحسب ، بل كانت من أفقه الناس ، وكانت تفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وكانوا يسألونها عن أشياء كثيرة إلى أن ماتت ، وكان القضاة يجتمعون عندها لحل بعض المشاكل ، فيستأذنون عليها ، فتأذن لهم ، وتكلمهم من وراء حجاب.
وكانت السيدة عائشة إلى جانب أنها محدثة وفقيهة فصيحة اللسان ، بليغة الكلام ، قوية الحجة ، فلنستمع إلى كلامها يوم توفي أبوها الصديق : ( نضَّر الله وجهك ياأبت ، وشكر لك صالح سعيك ، فلقد كنت للدنيا مذلاً بإدبارك عنها ، وللآخرة معزياً بإقبالك عليها ، ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك ، وأعظم المصائب بعد فقدك ؛ فعليك سلام الله تودع غير قاليه لحياتك ، ولا زارية على القضاء فيك )(35) ، وإلى جانب هذا كانت عالمة بالشعر والأدب ، وأخبار العرب الماضية ، والأنساب ، وعلم الفلك والطب.
ولقد شهد رجال العلم والمعرفة بعلم عائشة وذكائها.
- قال عنها عطاء بن أبي رباح : ( كانت عائشة أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأياً في العامة)(36) .
- قال عروة : ( ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة )(37) .
- وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن : (ما رأيت أحداً أعلم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أفقه في رأي إذا احتيج إلى رأيه ، ولا أعلم بآيه فيمن أنزلت ولا بفريضة من عائشة )(38) .
- ويقول الأعمش : (لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين ، وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل )(39) .
- وروى عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – وهو ابن أخت عائشة – أنه قال : ( لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت ، ولا بفريضة ، ولا بسنة ، ولابشعر ، ولاأروى له ، ولا بيوم من أيام العرب ، ولا بنسب ، ولابكذا ، ولا بكذا ... ولا بقضاء ولا بطب منها)(40).
هذه هي أهم الأسباب التي دعت الرسول صلى الله عليه وسلم لأن يتزوج من عائشة في سن مبكرة مع المفارقة في السن ، والتفاوت بالعمر (41) ، وهي – كما رأيت – أسباب مقنعة ، وحجج دامغة ، لا يجادل فيها إلا مَنْ كان في قلبه زيغ ، وعلى عينيه غشاوة ، ويكفي عائشة فخراً وخلوداً أنها زوج رسول الله ، وأم المؤمنين ، وراوية الحديث ، وجاءت الإشارة بزواجها من السماء ، ويكفيها فخراً كذلك أن الوحي نزل ببراءتها ، وأن الرسول توفي في حجرتها بين سَحْرها ونحرها (42) رضي الله عنها وأرضاها .
---------------------------------------------------------
(31) السرقة: شقة من حرير.(3/180)
(32) مسند أحمد وغيره.
(33) ابن سعد
(34) ابن عبد البر وابن الأثير.
(35) الزركشي ص61.
(36) ابن الأثير ، وابن حجر.
(37) المرجع السابق.
(38) الأنساب للبلاذري.
(39) الأنساب للبلاذري وابن حجر.
(40) الأنساب للبلاذري.
(41) صحيح أن الإسلام راعى التكافؤ في السن في مسألة الزواج ، ولكن لم يجعل ذلك شرطاً في صحة العقد . علماً بأن التفاوت الكبير الذ كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة لايشكل خطراً على هذا الزواج ، فالإسلام قد رغب في تقارب السن ليتفاهم الزوجان . أما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرب الإنسانية ومعلم البشرية ، فكيف لايمكنه سياسة فتاة صغيرة وتربيتها وحسن معاشرتها ؟!.
(42) أي مات وهو مستند إلى صدرها.
فإليك – أيها القارئ – نبذة عن عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، وعن عددهن بعد مماته . تروي كتب التاريخ والسيرة أن جميع من عقد عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة ، فاللواتي تزوجهن ودخل بهن إحدى عشرة امرأة هن على الترتيب التالي :
1- خديجة بنت خويلد .
2- سودة بنت زمعة .
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق.
4- زينب بنت جحش الأسدية.
5- حفصة بنت عمر بن الخطاب .
6- أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان .
7- هند أم سلمة بنت أبي أمية .
8- جويرية بنت الحارث .
9- صفية بنت حيي بن أخطب .
10- ميمونة بنت الحارث .
11- زينب بنت خزيمة .
واللواتي عقد عليهن وفارقهن ولم يدخل بهن اثنتان : أسماء بنت النعمان الكِنْدية ، ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل بها وجد بها بياضاً فمتّعها(43) ، وردها إلى أهلها . وعمرة بنت زيد الكلابية ، وكانت حديثة عهد بكفر ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذت منه ، فردها إلى أهلها بعد أن أداها حقها.
وأما ملك يمينه فاثنتان : مارية بنت شمعون القبطية ، وريحانة بنت زيد القرظيَّة .
وأما اللاتي توفينه قبله فاثنتان : خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة
وأما اللاتي توفي عنهن فتسع زوجات هن كمايلي: عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، وهند أم سليمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث ، وجويرية بنت الحارث ، وصفية بنت حيي بن أخطب .
والذي عليه كتب السيرة والمحققون من أهل العلم والحديث أن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد هو المعتد به والمشهور ، ولا عبرة بما ذكره بعض المؤرخين كالطبري من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج من خمس عشرة (44) امرأة ، وجمع بين إحدى عشرة ، ومما يؤيد الجمع بين تسع نسوة في آن واحد ما روى ابن كثير عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن : أنه لما نزلت آية التخيير وهي قوله تعالى : {يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً}(45) ، ولما نزلت كان تحته صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، حفصة ، ام حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ، وأربع من غير قريش وهن : صفية الخيبرية ، وميمونة الهلالية ، وزينب الأسدية ، وجويرية المصطلقية ، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك ، فلما خيرهن واخترن الله ورسول والدار الآخرة شكرهن الله جل شأنه على ذلك إذ قال : {لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً} (46) .
ويقول ابن كثير في تفسيره : (وذكر غير واحد من العلماء عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وغيرهم .. أن هذه الآية : (لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ .. ) نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضاه عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية) (47) .
فهذه النصوص بجملها تؤكد أن جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين تسع نسوة في وقت واحد وأمر مقطوع به لايقبل الشك ، وهذا الجمع يبدأ عهده على الأرجح من السنة السابعة (48) من الهجرة إلى أن نزلت آية (لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ ..) إلى أن توافاه الله تعالى.(3/181)
ولم تكن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم – كما رأيت – من جنس واحد ، ولا من دين واحد . ففيهن العربيات وغير العربيات ، وفيهن القرشيات وغير القرشيات ، وقد سبق ذكر القرشيات وغير القرشيات ، وأما غير العربيات وغير المسلمات من الديانات الأخرى فهن : ريحانة بنت زيد القرظية فكانت ملك يمينه وهي يهودية ، وصفية بنت حيي وهي يهودية . أما مارية فكانت ملك يمينه وهي قبطية نصرانية ، ثم أسلمن عندما بنى بهن النبي صلى الله عليه وسلم .
هؤلاء هن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم على اختلاف اجناسهن وأديانهن ، فقد جمع في عصمته من قومه ومن غير قومه ، كما جمع المسلمه والنصرانية واليهودية ، وجمع بين البكر والثيب ، والفقيرة وابنة رئيس العشيرة .. وهذا كله من حسن سياسته صلى الله عليه وسلم ، ونظره البعيد في تآلف القوم ، ومحو الفوارق العنصرية .
وإذا أردنا تقسيم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجية اتخذنا طريقة (محمد علي) (49) بذلك ، وهي أنه قسمها إلى أربع حلقات (50) :
1- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن كان في الخامسة والعشرين من عمره ، وكان لايزال عازباً يحيا حياة هادئة تمتاز بالطهر والعفاف.
2- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الخامسه والعشرين إلى الخمسين ، وكان في هذه الفترة سعيداً مع زوجه خديجة بنت خويلد ، ولم يفكر في غيرها قط إلا بعد وفاتها.
3- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الخمسين إلى الستين حين تزوج عدة نساء لأسباب اجتماعية وسياسية وإنسانية ، كما مر معك .
4- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الستين من عمره إلى وفاته ، لم يتزوج خلالها تنفيذاً لأمر الله ، وتكريماً لنسائة اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة .
---------------------------------------------------------
(43) المتعة : كسوة تعطى لمن يطلق زوجته ولم يسم لها مهراً بعد العقد وقبل الدخول ، بشرط ألا تزيد القيمة على نصف مهر المثل .
(44) ويمكن الجمع بين الروايات ، فإذا نظرنا إلى عدد زوجاته اللواتي دخل بهن أو فارقهن وعدد إمائه يكون المجموع /15/ ، وإذا نظرنا إلى اللواتي دخل بهن فقط يكون المجموع 11 ، وإذا نظرنا إلى اللواتي نزلت في حقهن آية التخيير إلى أن توفي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون المجموع 9 والله أعلم.
(45) الآية 28 من سورة الأحزاب
(46) الآية 52 من سورة الأحزاب
(47) انظر تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص501 تجد البحث وافياً.
(48) وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يقارب الستين سنة .
(49) عالم مسلم هندي
(50) عن كتاب (عائشة أم المؤمنين) لمؤلفته زاهيه مصطفى قدورة ص103 مع شئ من التصرف.
================
الجزية
تمهيد
أولاً : الجزية في اللغة
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
ثالثاً : الجزية في الإسلام
التحذير من ظلم أهل الذمة
بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
تمهيد
استشكل البعض ما جاء في القرآن من دعوة لأخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك في قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (1) ، ورأوا – خطأً - في هذا الأمر القرآني صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعوية الأمة المسلمة.
ولا ريب أن القائل قد ذهل عن الكثير من التميز الذي كفل به الإسلام حقوق أهل الجزية، فقد ظنه كسائر ما أثر عن الحضارات السابقة واللاحقة له، فالإسلام في هذا الباب وغيره فريد عما شاع بين البشر من ظلم واضطهاد أهل الجزية، كما سيتبين لنا من خلال البحث العلمي المتجرد النزيه.
(1) سورة التوبة : 29 .
أولاً : الجزية في اللغة
الجزية في اللغة مشتقة من مادة (ج ز ي)، تقول العرب: "جزى ، يجزي، إذا كافأ عما أسدي إليه"، والجزية مشتق على وزن فِعلة من المجازاة، بمعنى "أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن"، وقال ابن المطرز: بل هي من الإجزاء "لأنها تجزئ عن الذمي". (2)
(2) الجامع لأحكام القرآن (8/114)، المغرب في ترتيب المعرب (1/143)، وانظر مختار الصحاح (1/44).
ثانياً : الجزية قبل الإسلام
لم يكن الإسلام بدعاً بين الأديان، كما لم يكن المسلمون كذلك بين الأمم حين أخذوا الجزية من الأمم التي دخلت تحت ولايتهم، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أشهر من علم ، فالتاريخ البشري أكبر شاهد على ذلك.
وقد نقل العهد الجديد شيوع هذه الصورة حين قال المسيح لسمعان: " ماذا تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس من الأجانب.قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار " (متى 17/24-25).(3/182)
والأنبياء عليهم السلام حين غلبوا على بعض الممالك بأمر الله ونصرته أخذوا الجزية من الأمم المغلوبة، بل واستعبدوا الأمم المغلوبة، كما صنع النبي يشوع مع الكنعانيين حين تغلب عليهم "فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر.فسكن الكنعانيون في وسط افرايم إلى هذا اليوم وكانوا عبيداً تحت الجزية" (يشوع 16/10)، فجمع لهم بين العبودية والجزية.
والمسيحية لم تنقض شيئا من شرائع اليهودية، فقد جاء المسيح متمماً للناموس لا ناقضاً له (انظر متى 5/17)، بل وأمر المسيح أتباعه بدفع الجزية للرومان، وسارع هو إلى دفعها ، فقد قال لسمعان: " اذهب إلى البحر وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولا خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستارا، فخذه وأعطهم عني وعنك" (متى 17/24-27).
ولما سأله اليهود (حسب العهد الجديد) عن رأيه في أداء الجزية أقر بحق القياصرة في أخذها "فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين: يا معلّم نعلم أنك صادق، وتعلّم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا: ماذا تظن ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ .. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة.قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما للّه للّه" (متى 22/16-21).
ولم يجد المسيح غضاضة في مجالسة ومحبة العشارين الذين يقبضون الجزية ويسلمونها للرومان (انظر متى 11/19)، واصطفى منهم متى العشار ليكون أحد رسله الاثني عشر (انظر متى 9/9).
ويعتبر العهد الجديد أداء الجزية للسلاطين حقاً مشروعاً، بل ويعطيه قداسة ويجعله أمراً دينياً، إذ يقول: "لتخضع كل نفس للسلاطين، السلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة... إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضا بسبب الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضاً، إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه، فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام" (رومية 13/1-7)
ثالثاً : الجزية في الإسلام
لكن الإسلام كعادته لا يتوقف عند ممارسات البشر السابقة عليه، بل يترفع عن زللهم، ويضفي خصائصه الحضارية، فقد ارتفع الإسلام بالجزية ليجعلها، لا أتاوة يدفعها المغلوبون لغالبهم، بل لتكون عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعويتها. عقد بين طرفين، ترعاه أوامر الله بالوفاء بالعهود واحترام العقود، ويوثقه وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخل به ، وتجلى ذلك بظهور مصطلح أهل الذمة، الذمة التي يحرم نقضها ويجب الوفاء بها ورعايتها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله بأخذ الجزية من المقاتلين دون غيرهم كما نصت الآية على ذلك { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (3) قال القرطبي: "قال علماؤنا: الذي دل عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من المقاتلين... وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني".(4)
وقد كتب عمر إلى أمراء الأجناد: (لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي)(5) أي ناهز الاحتلام.
ولم يكن المبلغ المدفوع للجزية كبيراً تعجز عن دفعه الرجال، بل كان ميسوراً ، لم يتجاوز على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدينار الواحد في كل سنة، فيما لم يتجاوز الأربعة دنانير سنوياً زمن الدولة الأموية.
فحين أرسل النبي معاذاً إلى اليمن أخذ من كل حالم منهم دينارا، يقول معاذ: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة (هذه زكاة على المسلمين منهم)، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله مَعافر(للجزية))(6)، والمعافري: الثياب.
وفي عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب: أربعة دنانير، وعلى أهل الورِق: أربعين درهما؛ مع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.(7)
(3) سورة التوبة : (29) .
(4) الجامع لأحكام القرآن (8/72).
(5) انظره في إرواء الغليل ح (1255).
(6) رواه الترمذي في سننه ح (623)، وأبو داود في سننه ح (1576)، والنسائي في سننه ح (2450)، وصححه الألباني في مواضع متفرقة ، منها صحيح الترمذي (509).
(7) مشكاة المصابيح ح (3970)، وصححه الألباني.
الجزية ...
1- التحذير من ظلم أهل الذمة(3/183)
يأمر الله في كتابه والنبي في حديثه بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وتحرم الشريعة أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على البر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }(8) ، والبر أعلى أنواع المعاملة ، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين ، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله : (( البر حسن الخلق ))(9) .
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: (( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) (10)، ويقول: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )). (11)
وحين أساء بعض المسلمين معاملة أهل الجزية كان موقف العلماء العارفين صارماً، فقد مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)). قال: وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه، فأمر بهم فخُلوا. (12)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: { وهم صاغرون }، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: "أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً"، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا العاطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم، يقول القرطبي في تفسيره: "فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا". (13)
(8) الممتحنة ( 8 ).
(9) رواه مسلم برقم (2553) .
(10) رواه أبو داود في سننه ح (3052) في (3/170) ، وصححه الألباني ح (2626)، و نحوه في سنن النسائي ح (2749) في (8/25).
(11) رواه البخاري ح (2295) .
(12) رواه مسلم ح (2613)
(13) الجامع لأحكام القرآن (8/115) ، وتفسير الماوردي (2/351-352).
2- بعض صيغ عقد الذمة في الدولة الإسلامية
وقدم الإسلام ضمانات فريدة لأهل الذمة، لم ولن تعرف لها البشرية مثيلاً، ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم .
وقد تجلى ذلك في وصايا الخلفاء لقادتهم ، كما أكدته صيغ الاتفاقات التي وقعها المسلمون مع دافعي الجزية، ونود أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى تأمل الضمانات التي يضمنها المسلمون وما يدفعه أهل الجزية في مقابلها.
ونبدأ بما نقله المؤرخون عن معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجزية، ونستفتح بما أورده ابن سعد في طبقاته من كتاب النبي لربيعة الحضرمي، إذ يقول: " وكتب رسول الله e لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه، أن لهم أموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشِراجهم (السواقي) بحضرموت ، وكل مال لآل ذي مرحب ، وإن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسدره وقبضه من رهنه الذي هو فيه ، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأل أحد عنه ، وأن الله ورسوله براء منه ، وأن نَصْرَ آل ذي مرحب على جماعة المسلمين ، وأن أرضهم بريئة من الجور ، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس ، وأن الله جار على ذلك ، وكتب معاوية" (14)
وقوله: (( وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين )) فيه لفتة هامة، وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لمن دخل في حماهم ، وأصبح في ذمتهم ، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول القرافي: "فعقد يؤدي إلى إتلاف النفوس والأموال صوناً لمقتضاه عن الضياع إنه لعظيم". (15)
كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب ذمة وعهد إلى أهل نجران النصارى، ينقله إلينا ابن سعد في طبقاته، فيقول: " وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته ، ولا راهب عن رهبانيته ، ولا كاهن عن كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين ، وكتب المغيرة". (16)(3/184)
وانساح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبقون ما تعلموه من نبيهم العظيم، ويلتزمون لأهل الجزية بمثل الإسلام وخصائصه الحضارية، وقد أورد المؤرخون عدداً مما ضمنوه لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وفيها: "بسم الله الرحمن الرحيم ؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم .
ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم ، ولا يُسَكَّن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغ مأمنه ، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ...ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكتب وحضر سنة خمس عشرة". (17) ، وبمثله كتب عمر لأهل اللد.(18)
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها مثله، "بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين، لا يُعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية". (19)
ويسجل عبادة بن الصامت هذه السمات الحضارية للجزية في الإسلام، وهو يعرض الموقف الإسلامي الواضح على المقوقس عظيم القبط ، فيقول: "إما أجبتم إلى الإسلام .. فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدت في الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، فإن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم ، نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ...". (20)
ونلحظ ثانية كيف يتقدم المسلم بنفسه لحماية أهل الجزية وأموالهم، ونرى فداءه لهم بماله ودمه "نقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم" .
(14) طبقات ابن سعد (1/266) .
(15) الفروق (3/14-15)
(16) الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 266) .
(17) تاريخ الطبري (4 / 449) .
(18) انظر: تاريخ الطبري (4/ 449).
(19) فتوح البلدان للبلاذري (128) .
(20) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (68) .
3- حرص المسلمين على الوفاء بعقد الذمة
وقد خشي الخلفاء أن يقصر المسلمون في حقوق أهل الذمة ، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سياقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة " قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا:ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة". (21)
ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه "أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني ". (22)
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: " أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتلوا من ورائهم ، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ". (23)
وكتب علي رضي الله عنه إلى عماله على الخراج: "إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة، شتاءً ولا صيفاً، ولا رزقاً يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحداً منهم سوطاً واحداً في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرَضاً في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا الله أن نأخذ منهم العفو ، فإن أنت خالفت ما أمرتك به يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك". (24)
وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص ، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً.(25)(3/185)
ولما أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة يوحنا من النصارى قهراً، وأدخلها في المسجد، اعتبر المسلمون ذلك من الغصب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكى إليه النصارى ذلك، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاد في المسجد عليهم.(26)
(21) تاريخ الطبري (2/503).
(22) المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).
(23) رواه البخاري برقم (1392) في (3/1356).
(24) الخراج (9).
(25) فتوح البلدان (156).
(26) فتوح البلدان (132).
4- من أقوال الفقهاء المسلمين في حراسة وتقرير حقوق أهل الذمة
ونلحظ فيما سبق الإسلام لحراسة حقوق أهل الذمة في إقامة شعائر دينهم وكنائسهم ، جاء في قوانين الأحكام الشرعية : "المسألة الثانية: فيما يجب لهم علينا، وهو التزام إقرارهم في بلادنا إلا جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن، وأن نكف عنهم، ونعصمهم بالضمان في أنفسهم وأموالهم، ولا نتعرض لكنائسهم ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لم يظهروها". (27)
وينقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة في أكل الخنازير والخمر وغيره مما يحل في دينهم، فيقول: "وأجمعوا على أنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، إذا كان مِصراً ليس فيه أهل إسلام (أي في بلادهم التي هم فيها الكثرة)".(28)
وتصون الشريعة نفس الذمي وماله ، وتحكم له بالقصاص من قاتله ، فقد أُخذ رجل من المسلمين على عهد علي رضي الله عنه وقد قتل رجلاً من أهل الذمة، فحكم عليه بالقصاص، فجاء أخوه واختار الدية بدلا عن القود، فقال له علي: "لعلهم فرقوك أو فزّعوك أو هددوك؟" فقال: لا ، بل قد أخذت الدية، ولا أظن أخي يعود إلي بقتل هذا الرجل، فأطلق علي القاتل، وقال: "أنت أعلم، من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديّتنا". (29)
وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتحوطه بقطع اليد الممتدة إليه، ولو كانت يد مسلم، يقول المفسر القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقِق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه". (30)
قال الماورديّ: "ويلتزم ـ أي الإمام ـ لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين". (31)
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم". (32)
وتوالى تأكيد الفقهاء المسلمين على ذلك، يقول ابن النجار الحنبلي: "يجب على الإمام حفظ أهل الذمة ومنع من يؤذيهم وفكُّ أسرهم ودفع من قصدهم بأذى". (33)
ولما أغار أمير التتار قطلوشاه على دمشق في أوائل القرن الثامن الهجري، وأسر من المسلمين والذميين من النصارى واليهود عدداً، ذهب إليه الإمام ابن تيمية ومعه جمع من العلماء، وطلبوا فك أسر الأسرى، فسمح له بالمسلمين، ولم يطلق الأسرى الذميين، فقال له شيخ الإسلام: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع لديك أسيراً، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فإن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا" ، فأطلقهم الأمير التتري جميعاً. (34)
وينقل الإمام القرافي عن الإمام ابن حزم إجماعاً للمسلمين لا تجد له نظيراً عند أمة من الأمم، فيقول: "من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". (35)
(27) قوانين الأحكام الشرعية (176).
(28) اختلاف الفقهاء (233).
(29) مسند الشافعي (1/344).
(30) الجامع لأحكام القرآن (2/246).
(31) الأحكام السلطانية (143).
(32) انظر: مغني المحتاج (4/253).
(33) مطالب أولي النهى (2/602).
(34) مجموع الفتاوى (28/617-618).
(35) الفروق (3/14-15).
5- صور ناصعة من معاملة المسلمين لأهل الذمة
وحين عجز المسلمون عن أداء حقوق أهل الذمة وحمايتهم من عدوهم ردوا إليهم ما أخذوه من الجزية لفوات شرطها، وهو الحماية، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من أصحاب السير عن مكحول أن الأخبار تتابعت على أبي عبيدة بجموع الروم، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين ، فكتب أبو عبيدة لكل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج ، كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم، لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". (36)(3/186)
وحين قام أهل الذمة بالمشاركة في الذود عن بلادهم أسقط عنهم المسلمون الجزية، كما صنع معاوية رضي الله عنه مع الأرمن، يقول لوران المؤرخ الفرنسي في كتابه "أرمينية بين بيزنطة والإسلام" : "إن الأرمن أحسنوا استقبال المسلمين ليتحرروا من ربقة بيزنطة، وتحالفوا معهم ليستعينوا بهم على مقاتلة الخزر، وترك العرب لهم أوضاعهم التي ألفوها وساروا عليها، والعهد أعطاه معاوية سنة 653م، إلى القائد تيودور رختوني ولجميع أبناء جنسه ماداموا راغبين فيه، وفي جملته: ((أن لا يأخذ منهم جزية ثلاث سنين، ثم يبذلون بعدها ما شاؤوا، كما عاهدوه وأوثقوه على أن يقوموا بحاجة خمسة عشر ألف مقاتل من الفرسان منهم بدلا من الجزية، وأن لا يرسل الخليفة إلى معاقل أرمينا أمراء ولا قادة ولا خيلا ولا قضاة... وإذا أغار عليهم الروم أمدهم بكل ما يريدونه من نجدات. وأشهد معاويةُ الله على ذلك)). (37)
ولا يتوقف حق أهل الذمة على دفع العدو عنهم، بل يتعداه إلى دفع كل أذى يزعجهم، ولو كان بالقول واللسان، يقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا (حمايتنا) وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمة دين الإسلام". (38)
وواصل المسلمون بهدي من دينهم عطاءهم الحضاري حين تحولوا من آخذين للجزية إلى باذلين للمال رعاية وضماناً للفقراء من أهل الذمة، فقد روى ابن زنجويه بإسناده أن عمر بن الخطاب رأى شيخاً كبيراً من أهل الجزية يسأل الناس فقال: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله أن لا يأخذوا الجزية من شيخ كبير.(39) وكان مما أمر به رضي الله عنه : "من لم يطق الجزية خففوا عنه، ومن عجز فأعينوه". (40)
وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: "وانظر من قبلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه". (41)
أما إذا امتنع الذمي عن دفع الجزية مع القدرة عليها فإنه يعاقب، من غير أن تنقض ذمته، يقول القرطبي: "وأما عقوبتهم إذا امتنعوا عن أدائها مع التمكين فجائز، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم، لأن من عجز عن الجزية سقطت عنه، ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء". (42)
لقد أدرك فقهاء الإسلام أهمية عقد الذمة وخطورة التفريط فيه، وأنه لا ينقض بمجرد الامتناع عن دفع الجزية، يقول الكاساني الحنفي: "وأما صفة العقد (أي عقد الذمة) فهو أنه لازم في حقنا، حتى لا يملك المسلمون نقضه بحال من الأحوال، وأما في حقهم (أي الذميين) فغير لازم". (43)
(36) الخراج (135) ، وانظره في: فتوح البلدان للبُلاذري ، وفتوح الشام للأذري.
(37) وانظر فتوح البلدان (210- 211).
(38) الفروق (3/14).
(39) الأموال (1/163).
(40) تاريخ مدينة دمشق (1/178).
(41) الأموال (1/170).
(42) الجامع لأحكام القرآن 8/73-74.
(43) بدائع الصنائع (7/112).
رابعاً : شهادة المؤرخين الغربيين
ولسائل أن يسأل : هل حقق المسلمون هذه المثُُل العظيمة ، هل وفوا ذمة نبيهم طوال تاريخهم المديد؟ وفي الإجابة عنه نسوق ثلاث شهادات لغربيين فاهوا بالحقيقة التي أثبتها تاريخنا العظيم.
يقول ولديورانت: "لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زيّ ذي لون خاص، وأداء ضريبة عن كل شخص باختلاف دخله، وتتراوح بين دينارين وأربعة دنانير، ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون البلوغ، والأرقاء والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية..ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها اثنان ونصف في المائة من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم..." (44)
يقول المؤرخ آدم ميتز في كتابه "الحضارة الإسلامية": "كان أهل الذمة يدفعون الجزية، كل منهم بحسب قدرته، وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، فلا يدفعها ذوو العاهات، ولا المترهبون، وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار". (45)(3/187)
ويقول المؤرخ سير توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" موضحاً الغرض من فرض الجزية ومبيناً على مَن فُرضت: "ولم يكن الغرض من فرض هذه الضريبة على المسيحيين - كما يردد بعض الباحثين - لوناً من ألوان العقاب لامتناعهم عن قبول الإسلام، وإنما كانوا يؤدونها مع سائر أهل الذمة. وهم غير المسلمين من رعايا الدولة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش في مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين".
وهكذا تبين بجلاء ووضوح براءة الإسلام بشهادة التاريخ والمنصفين من غير أهله، ثبتت براءته مما ألحقه به الزاعمون، وما فاهت فيه ألسنة الجائرين.
هذا والله أسأل أن يشرح صدورنا لما اختلفنا فيه من الحق بإذنه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(44) قصة الحضارة (12/131).
(45) الحضارة الإسلامية (1/96).
=====================
ادعاؤهم أن وجود الله كوجود الإنسان ..
ومنشأ الخطأ لدى «سارتر» وغيره من الوجوديين ممن تشبث بهذه الشبهة أنه اعتقد أن كل موجود مفتقر في وجوده لآخر حتى وجود الله، فتصور وجوده كوجود الإنسان، ولذلك لم يتصور أنه أصل الوجود الذي ليس وراءه أصل، والوجود لا يكون إلا هكذا، إذ إنه لا بد – في الوجود – من موجِد أوجد غيره ولم يوجده الغير، هو الأول للوجود، كما عبر عنه «فيثاغورس» بأنه كالعدد واحد، أصل الأعداد، ولا يوجد أصل له.
ولذلك قال تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « أنت الأول فليس قبلك شيء ».
وقوله صلى الله عليه وسلم : « كان الله ولم يكن شيء قبله ».
ولكي يتضح هذا التقدير يُستدل بما يلي:
إن التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، حجة يوسوس بها الشيطان للإنسان، منذ أن بدأ الفكر الإلحادي يدب إلى أذهان بعض الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: « الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فقولوا: آمنا بالله ورسوله »، وفي رواية: « فعند ذلك يضلون ».
فهذه الحجة الشيطانية تزعم أن الإيمان بأن الله هو المصدر الأول للأشياء، والوقوف عنده، يساوي نظريًّا وقوف الملحدين عند المادة الأولى للكون، التي يطلقون عليها اسم السديم، وتزعم أن كلا الفريقين لا يجد جوابًا على هذا التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، إلا أن يقول: لا أعرف إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وتزعم أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة، وبعد هذه المزاعم يخادع مطلقوها (بأن إعلان الجهل والاعتراف به من متطلبات الأمانة الفكرية، حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين كافيات).
ولدى البحث المنطقي الهادئ يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة ليست إلا مغالطة من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تباينًا كليًّا، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم. وفيما يلي تعرية تامة لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي سترت بها.
سبق إثبات كون الله عز وجل أزليًّا، كما سبق إثبات كون المادة حدثت بعد أن لم يكن لها وجود، واستنادًا على هذا الإثبات إننا إذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كان كما يلي:
ما دام الموجود الأزلي الذي هو واجب الوجود عقلاً، ولا يصح في حكم العقل عدمه بحال من الأحوال غير معلول الوجود، فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضًا؟
إن كل ذي فكر سليم صحيح من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناءً على ذلك في حكم هو من خصائص أحدهما.
وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صنعت هذه المغالطة الجدلية، والتورط في هذه المغالطة راجع إلى علة نفسية، غفلة منا وانصياعًا للتصور الغالب، شأن رجل يشتغل عمره بكيمياء النحاس، فعرض له الذهب فجأة، فراح يطبق عليه قوانين النحاس، أفتراه يصيب، أم يخطئ؟ لا جرم أن خطأه نشأ من انهماكه الدائم في قانون معين، وغفلته عن التفريق بين القوانين حينما اختلفت مجالات التطبيق، ولقد عرفنا أن خالق الحوادث لا يتصف بالحدوث قطعًا، فكيف نطبق عليه قانون الحوادث؟!
ذكروا: (أن رجلاً جاء إلى عالم من علماء الأمة فقال: إذا أقررنا بالخالق فمن ذا خلقه؟ قال: عُدَّ من الواحد صعودًا، ففعل الرجل، قال: عُدَّ قبل الواحد، قال: ليس قبل الواحد شيء. قال: كذلك ليس قبل الواحد شيء!).
والخلاصة: إن الخالق ليس بحادث، فنطبق عليه قانون الحوادث في السؤال عن خالقه، فذلك غير سائغ، وأنه كامل مطلق، والكامل المطلق لا يحتاج إلى غيره، وبذلك ينهدم آخر صرح من صروح الشك، فنقول: الكامل المطلق لا يمكن أن يفتقر إلى الموجد.
وأما أزلية الخالق، وعدم احتياج وجوده إلى علة، فبرهان ذلك يمكن إيجازه بما يلي:(3/188)
إن العدم العام الشامل لكل شيء يمكن تصوره في الفكر، لا يصح في منطق العقل أن يكون هو الأصل؛ لأنه لو كان هو الأصل لاستحال أن يوجد شيء مَّا.
إذن: فلا بد أن يكون وجود موجِد مَّا هو الأصل، ومن كان وجوده هو الأصل فإن وجوده لا يحتاج عقلاً لأية علة، بل وجوده واجب عقلاً، ولا يصح في العقل تصور عدمه، وأي تساؤل عن علة لوجوده لا يكون إلا على أساس اعتبار أن أصله العدم ثم وجد، وهذا يتناقض مع الإقرار باستحالة أن يكون العدم العامل الشامل هو الأصل الكلي.
ومن كان وجوده واجبًا بالحتمية العقلية باعتبار أنه هو الأصل، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتصف بصفات تستلزم أن يكون حادثًا.
أما ادعاء أصلية الوجود للكون بصفاته المتغيرة فهو ادعاء باطل، وذلك بموجب الأدلة التي تثبت أنه حادث وليس أزليًّا.
إن هذا الكون يحمل دائمًا وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة: النظريات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية، وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجال من مجالات المعرفة، والقوانين العلمية التي توصل إليها العلماء الماديون.
وإذ قد ثَبَتَ أن هذا الكون عالم حادث، له بداية ونهاية، فلابد له حتمًا من علة تسبب له هذا الحدوث، وتخرجه من العدم إلى الوجود، وذلك؛ لاستحالة تحول العدم بنفسه إلى الوجود.
أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه مطلقًا، وتقضي الضرورة العقلية بوجوده، فوجوده هو الأصل، لذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجِد يوجده، وكل تساؤل عن سبب وجوده تساؤل باطل بالحتمية العقلية؛ لأنه أزلي واجب الوجود، ولا يمكن أن يكون غير ذلك عقلاً، وليس حادثًا حتى يتساءل الفكر عن سبب وجوده.
وهنا نقول: لو كانت صفات الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه أيضًا كذلك، لكن صفات الكون المشاهدة المدروسة تثبت حدوثه.
يضاف إلى هذا: أن مادة الكون الأولى عاجزة بطبيعتها عن المسيرة الارتقائية التي ترتقي بها ذاتيًّا إلى ظاهر الحياة، فالحياة الراقية في الإنسان.
وبهذا تنكشف للبصير المنصف: المغالطة الشيطانية التي يوسوس بها الشيطان، وتخطر على أذهان بعض الناس، بمقتضى قصور رؤيتهم عن استيعاب كل جوانب الموضوع وزواياه، فهم بسبب هذا القصور في الرؤية يتساءلون: وما علة وجود الله؟
إنها مغالطة تريد أن تجعل الأزلي حادثًا، وأن تجعل واجب الوجود عقلاً ممكن الوجود عقلاً، وأن الأصل فيه العدم، ليتساءل الفكر عن علة وجوده.
أو تريد أن توهم بأن ما قامت الأدلة على حدوثه فهو أزلي، أو هو واجب الوجود لذاته؛ لتسوي بين الحادث والأزلي في عدم الحاجة إلى علة لوجوده.
وتريد هذه المغالطة أن تطمس الضرورة العقلية التي تقتضي بأن الأصل هو وجود موجِد أزلي، وهذا الموجِد الأزلي لا يصح عقلاً أن يُسأل عن علة لوجوده مطلقًا؛ لتنافي هذا السؤال مع منطق العقل، وهذا الموجِد الأزلي لا يمكن أن تكون له صفات تستلزم حدوثه.
أما الكون فصفاته تستلزم بالبراهين العقلية والأدلة العلمية المختلفة - حدوثه، لذلك كان لا بد من السؤال عن علة لوجوده، ولا تكون هذه العلة إلاَّ من قبل الموجِد الأزلي، الذي يقضي منطق العقل بضرورة وجوده، خارجًا عن حدود الزمن ذي البداية والنهاية، وخلاف ذلك مستحيل عقلاً.
والحدوث من العدم العام الشامل، دون سبب من موجِد سابق له مستحيل عقلاً.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 744-749 ) .
====================
ادعاؤهم أن وجود الله ينافي حرية الإنسان!
ومقصودهم بهذا القول: أن الإنسان لا يكون حرًّا إلا إذا أنكر وجود الله، فإنه ما دام يثبت وجود الله فإنه لا بد من إتباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا مخالف للحرية التامة، فإذا قُضي على فكرة وجود الله فقد ثبتت الحرية، وإلا فلا.
الرد على هذه الشبهة:
إن دعوى الحرية التامة المطلقة – التي أسس عليها الوجوديون إنكار الله الخالق الرازق المحيي والمميت – لا وجود لها إلا في خيالهم المريض؛ إذ لو كان الإنسان حرًّا حرية مطلقة لتحكَّم في مسيره ومجريات أحداثه، وكان عالمًا بكل ما يحيط به من أحداث، بل لكان هو المتحكم والمخطط لمسيرها في الحياة، ولما كان هناك ما يقع على الإنسان غير ما يبتغيه أو يرغب فيه، بل يتمنى ألا يقع، تأكد كذب ما ترتب على دعوى الوجودية من استغناء الإنسان من خالق أوجده أو قدره. وبيان ذلك: أن الإنسان وهو بطريق الحياة تنتابه الأقدار:
1- أحداث تقع به فيفجؤه، بل يفجعه نزولها به دون أن يدور بخلده – قط – أنها ستصيبه أو ستلِم به، مثل: النوازل والكوارث التي قد تصيب الإنسان وهو بطريق الحياة دون سابق إنذار، وما يستطيع عاقل أن يقول: إن الإنسان هو الذي وضعها بنفسه أو أنزلها بساحته بناء على حريته المطلقة.(3/189)
2- تنوبه أحداث أخرى ما يتمناها لنفسه – قط – لكنها تقع به، مثل: ضعف البصر، انحناء الظهر، عجز القدمين عن حمل الجسم، تجاعيد الوجه، ابيضاض الشعر، فلو كان الإنسان سيد أفعاله لما أوقع بنفسه ما تكرهه نفسه.
3- لو كان الإنسان هو الخالق لنفسه لكان عالمًا بتفاصيل حياته وأسباب وجوده، أو الغاية التي تصير إليها بعد رحيله، وهذا يتناقض مع ما تنادي به الوجودية في أضل مبادئها، فهي ترى أن الإنسان قد قذف به في الحياة دون قصد وهدف، وسيرحل عن الحياة دون إرادة أو غاية، وتوضيح ذلك وبيانه أوضح من أن يثار.
4- هل يعقل أن يلغي الإنسان وجود الله لمجرد إثبات حريته الكاملة، وهل هذه إلاَّ حرية بهيمية شيطانية لنيل مقصوده والتسلط على حقوق الآخرين؟
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 750-751) .
===============
حصر إيمانهم بالمحسوسات فقط .
حيث قالوا: إذا كان الله موجودًا، فلماذا لا نراه بأعيننا ولا ندركه بحواسنا كما ندرك ونرى الموجودات؟ وهل يسوغ لنا أن نؤمن بما لا نراه؟
الرد على هذه الشبهة:
1- إن الإيمان بالمحسوسات والموجودات فقط مسخ للإنسان، وتغليب لجانب من شخصيته على الجانب الآخر مما ينتج عنه القلق والفزع الذي يعاني منه الوجودي، وإلاَّ فالإنسان جسد وروح، وحصر الموجودات فيما يرى ويحس غير صحيح، فكم من موجودات لا تحس ولا ترى، كما أن حصر وسائل المعرفة في الإدراك الحسي غير صحيح كذلك، فالإنسان يعرف ويدرك عن طريق البداهة والفطرة، وعن طريق العقل والفكر، وعن طريق البصيرة والإلهام.
كما يدرك، ويدرك عن طريق الحس والرؤية، فعلماء الفلك يقدرون وجود كواكب بيننا وبينها ملايين السنين الضوئية، وقدَّروا مواقعها والأبعاد بين بعضها؛ لأن وجودها في المواقع التي حددوها، يفسر لهم آثارًا وظواهر معينة، في حركة الكواكب التي رصدوها، ويستدلون بما رأوه على ما لم يروه، ويتبين بالملاحظات العلمية صحة الفرض الذي فرضوه، فهل يلام هؤلاء العلماء على إيمانهم بما لم يروه ولم يحسوه، مع أنهم اهتدوا إليه بالمنطق الرياضي الذي يعتمد على الأرقام لا على الأوهام؟
إن هؤلاء العلماء قد اعتمدوا على منطق بسيط ولكنه صادق – هو الاستدلال بالأثر على المؤثر -، فهم قد عرفوا الكواكب البعيدة بآثارها لا بذاتها، وعلى هذا النهج نفسه درس العلماء الطبيعيون (الذرة)، واستخدموا قوانين الكتلة والطاقة، مع أنهم لم يروا الذرة حتى الآن، كل ما انتهوا إليه بوسائلهم الإلكترونية الجبارة أنهم استطاعوا أن يروا ظلها أو خيالها بعد تكبيره وتضخيمه، فكيف نسلم بهذا المنطق – منطق الاستدلال بالآثار – ونستخدمه في علوم الطبيعة والفلك ثم ننكره في معرفة الخالق؟.
2- إن هذا الزعم لا دليل عليه مطلقًا، إنه مجرد إنكار ورجم بالغيب، لقد كان الماديون ينكرون ما لا تصل إليه الحواس الإنسانية قبل أن يتوصل البحث العلمي إلى اكتشاف أجهزة تستطيع أن تحس بأشياء كونية كانت بالنسبة إلى الحواس البشرية أمورًا من أمور الغيب، ولمَّا اكتشفت هذه الأجهزة، وكشفت للعلماء الباحثين ما كشفت من خفايا داخل الكون تراجع الفكر المادي عن تعنته قليلاً، فاعترف بوجود أشياء يمكن أن تدركها الأجهزة التي توصل العلماء الباحثون إلى اكتشافها.
ومنها أجهزة الإحساس بالأشعة التي لا تدركها حواس الناس، وأجهزة الإحساس بالذبذبات الصوتية التي تنطلق في الأجواء، وأجهزة الإحساس بالطاقات الكهربائية والمغناطيسية والحرارية وغيرها.
وكلما تقدم العلم تطورت أجهزة الإحساس بالموجودات كانت غيبًا على الناس قبل التوصل إليها، تراجع الفكر المادي الوجودي عن بعض تعنتاته، ولكن ظل منكرًا ما وراءه مما لا يزال غيبًا.
لقد كان الاستنتاج العقلي يثبت أمورًا، وكان الفكر المادي الوجودي ينكر بتعنت وعناد، وحين كشفت الأجهزة المستحدثة ما كان يثبته العقل، تجاهل الماديون الوجوديون إنكارهم الأول، وأخذوا يراوغون، ويوسعون مذهبهم المادي، حتى يشمل ما أثبتته الأجهزة المستحدثة وأحست به، وقدمت للعلماء شهادة بما شاهدت من خفايا كانت قبلها غيبًا عن حواس الناس.
أما الماديون المعاصرون الذين يعترفون بقوانين العلوم، وما توصلت إليه استنتاجًا عقليًّا، فإنهم يتناقضون مع أنفسهم حين يسلمون بمقررات علمية لم يتوصل إليها العلم إلا عن طريق الاستنتاج العقلي، ويرفضون مع ذلك الاستنتاجات العقلية التي توصل إلى ضرورة الإيمان بالخالق.
ما أعجب أمر هؤلاء الوجوديين والماديين!!(3/190)
إنهم يرفضون الاستنتاج العقلي، حينما يُلزمهم ويُلزم جميع العقلاء بضرورة الإيمان بالخالق الذي هو غيب عن الحواس بذاته، لكن ضرورة وجوده تعلم حتمًا بآثار صنعته المتقنة، ثم هم يقبلون بمقررات علمية كونية كثيرة ما زالت غيبًا عن الحواس، وغيبًا عن الأجهزة العلمية المتقدمة جدًّا، مثل صفات الذرة، وحركاتها، وصفات الخلية وتطورها، مع أن هذه المقررات يوجد في بعضها ما دلّ عليه الاستنتاج العقلي بأمارات ظنية، لا بأدلة قطعية.
أليس هذا منهم تناقضًا مع أنفسهم؟!
إنهم لو كانوا منسجمين مع الأدلة العلمية انسجامًا سويًا لم يتدخل معه الهوى لما كانوا متناقضين في مناهجهم، ولقبلوا على طول خط المعرفة ومكتسباتها كل الاستنتاجات العقلية القطعية، أو التي تعطي ظنًّا قويًا راجحًا، ولما فرقوا بين أفرادها وهي متماثلة في قوة دلالتها.
لكنهم متعصبون أصحاب هوى ضد قضية الإيمان بالرب الخالق، فهم يرفضون كل دليل يثبت وجوده عز وجل، مهما كان دليلاً برهانيًّا قويًّا، وحينما يكون لهم هوى في أن ينتفعوا من طاقات الكون وخصائصه يقبلون ما يقدمه لهم الاستنتاج العقلي حول هذه الطاقات والخصائص، ولو كان استنتاجًا ظنيًّا أو وهميًّا أحيانًا، ويخادعون بأن هذا مما تثبته الوسائل العلمية.
3- يضاف إلى ذلك: أن البصيرة العقلية ومستنبطاتها التجريدية لا تسمح مطلقًا بانغلاق في حدود المادة والوجود.
إن الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير ممكن الوجود، فعدم الوجود فعلاً لا يدلُّ على استحالة الوجود. فما بالك بالحكم على الخالق بأنه غير موجود، وبأنه متناقض وجوده، لمجرد أننا لم نشاهده في دوائر حواسنا المحدودة جدًّا؟
4- إن وسائل العلم ثلاثة:
الأولى : المعرفة المباشرة، وتكون بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات.
الثانية : الخبر الصادق، ومن الخبر الصادق الوحي الذي يتلقاه نبي من أنبياء الله مؤيد بالمعجزات الباهرات، ومن الخبر الصادق قطعًا ما يبلغه عن الوحي هذا النبي.
فهؤلاء الملحدون حصروا العلوم المدركة في دوائر ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك نفوه، وهذا باطل، بل قصور في العلم، فمن ليس عنده علم بشيء مَّا يجب أن يتعلم من الآخر، وليس عليه أن ينكر ذلك الشيء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما أخبرت به الرسل من الغيب فهي: أمور موجودة ثابتة أكمل وأعظم مما نشهده نحن في هذه الدار، وتلك أمور محسوسة تشاهد وتحس ولكن بعد الموت في الدار الآخرة، ويمكن أن يشهدها في هذه الدار مَن يختصه الله بذلك، ليست عقلية قائمة بالعقل كما تقوله الفلاسفة؛ ولهذا كان الفرق بينها وبين الحسيات التي نشهدها أن تلك غيب وهذه شهادة، وكون الشيء غائبًا أو شاهدًا أمر إضافي بالنسبة إلينا، فإذا غاب عنا كان غيبًا، وإذا شهدناه كان شهادة، وليس هو فرقًا يعود إلى أن ذاته تعقل ولا تشهد ولا تحس، بل كل ما يعقل ولا يمكن أن يحس بحال فإنما يكون في الذهن، والملائكة يمكن أن يشهدوا ويروا، والرب تعالى يمكن رؤيته بالأبصار، والمؤمنون يرونه يوم القيامة وفي الجنة كما تواترت بذلك النصوص).
وبهذا يبطل أصل الملاحدة الذين يحصرون المعلومات بمدركاتهم الخاصة القاصرة، فإن هؤلاء قصروا معرفتهم في شيء ولم يعرفوا غيره، ومن عرف له حجة على من لم يعرف، فليس كل من لم يعرف شيئًا ينكره على حجة عدم علمه ومعرفته.
ولنضرب لذلك مثلاً: لو أن عالمًا من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان برِّيٍّ غريب رآه بعينه، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له، ثم جاء سمَّاك فقال: لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم، فإنا لم نشاهد في البحر نظيره. لما كان كلامه أكثر سقوطًا من ناحية الاستدلال العلمي من كلام هؤلاء الوجوديين، فقد جاءتنا الأخبار الصادقة من قِبَل الرسل الكرام الصدِّيقون في أخبارهم بأن هناك إله ورب خالق له الصفات العُلى كذا، وكذا، ثم جاء بعض من أعمى الله بصره وحجب عنه بصيرته، فيقول: لا أحسُّ به، ليس كلامه هذا أقل سقوطًا من كلام هذا السمَّاك.
ولهذا قال ابن القيم: (المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحسِّ والعقل، بل لا نسبة بينها بوجه من الوجوه، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة، والمعلومات التي لا تدرك بالحسِّ والأمور الغائبة عن الحسِّ نسبة المحسوس إليها كقطرة من بحر، ولا سبيل إلى العلم بها إلا بالخبر الصادق).
فإذا أبطلنا هذه العلوم فإننا قد أبطلنا علومًا جمّة، ومعارف كثيرة، وليس هذا إلا نداء إلى الجهل والطيش.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 751-757) .
========================
ادعاؤهم أنهم أولى من المسلمين بأرض فلسطين .(3/191)
يبني اليهود ادعاءاتهم الدينية على ما ينقلونه من التوراة المحرفة من إعطاء الله سبحان هذه الأرض لإبراهيم ونسله. ومما جاء فيها "وقال الرب لإبراهيم : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك .. فذهب إبراهيم كما قال الرب ... فأتوا إلى أرض كنعان ... وظهر الرب لإبراهيم وقال : لنسلك أعطي هذه الأرض ، وجاء في التوراة المحرفة أيضاً "وسكن (إبراهيم) في أرض كنعان فقال له الرب : ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ، لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" ، وجاء فيها أيضاً : ( قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً : لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.
كما يحتجون بتراث أنبياء بني إسرائيل في الأرض المقدسة ، وسعيهم لإسكان أتباعهم فيها ، ومد نفوذهم عليها كما فعل موسى ويوشع وداود وسليمان عليه السلام ، غير أن الرؤية الإسلامية تنظر للأمر من زاوية مختلفة .
ويمكن إجمال رد المسلمين على اليهود في النقاط التالية :
أولاً : يؤمن المسلمون بكل الأنبياء ، والإيمان بالأنبياء من أركان الإيمان ، والكفر بأي منهم ممن ثبتت رسالتهم (بما فيهم أنبياء بني إسرائيل) كفر يخرج عن الإسلام. غير أن المسلمين يؤمنون أن اليهود حرفوا التوراة ، وكذبوا أنبياءهم وقتلوا عدداً منهم ، ولم يتبعوا هداهم. ويؤمن المسلمون أنهم الأتباع الحقيقيون لهؤلاء الأنبياء ، وأنهم ورثة رسالتهم ، في هذا الزمان وليس باليهود.
وإذا كانت رابطة العقيدة والإيمان هي الأساس الذي يجتمع عليه المسلمون مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم ، فإن المسلمين هم أحق الناس بميراث الأنبياء بما فيهم أنبياء بني إسرائيل ، لأن المسلمين هم الذين لا يزالون يرفعون الراية التي رفعها الأنبياء ، وهم السائرون على دربهم وطريقهم ، وهؤلاء الأنبياء هم مسلمون موحدون حسب الفهم القرآني. وانظر قوله تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى :{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
وبشكل عام ، فأمة التوحيد واحدة من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وأنبياء الله ورسله وأتباعهم هم جزء من أمة التوحيد ، ودعوة الإسلام هي امتداد لدعوتهم ، والمسلمون هم أحق الناس بأنبياء الله ورسوله وميراثهم.
فرصيد الأنبياء هو رصيدنا وتجربتهم هي تجربتنا ، وتاريخهم هو تاريخنا ، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المباركة المقدسة هي دلالة على شرعيتنا وحقنا في هذه الأرض وحكمها.(3/192)
ثانياً : يؤمن المسلمون أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأرض لبني إسرائيل لفترة محدودة ، عندما كانوا مستقيمين على أمر الله ، وعندما كانوا يمثلون أمة التوحيد في الأزمان الغابرة ، ولسنا نخجل أو نتردد في ذكر هذه الحقيقة وإلا خالفنا صريح القرآن ، ومن ذلك قول موسى عليه السلام لقومه : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ، غير أن هذه الشرعية ارتبطت بمدى التزامهم بالتوحيد والالتزام بمنهج الله ، فلما كفروا بالله وعصوا رسله وقتلوا الأنبياء ونقضوا عهودهم وميثاقهم ، ورفضوا اتباع الرسالة الإسلامية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والذي بشر به أنبياء بني إسرائيل قومهم { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} ، { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } ، فلما فعلوا ذلك حلت عليهم لعنة الله وغضبه { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، وقال تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
وبذلك تحولت شرعية حكم الأرض المقدسة إلى الأمة التي سارت على منهج الأنبياء وحملت رايتهم ، وهي أمة الإسلام. فالمسألة في فهمنا ليست متعلقة بالجنس والنسل والقوم ، وإنما بإتباع المنهج.
لقد شوه اليهود جمال التوحيد ، وافتروا على الله الكذب ، وزوروا تاريخ أنبيائهم. وعلى سبيل المثال تذكر التوراة المحرفة والتلمود أن الله { تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} يلعب مع الحوت والأسماك كل يوم ثلاث ساعات ، وأنه بكى على هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سماوات إلى أربع سماوات ، وأن الزلازل والأعاصير تحدث نتيجة نزول دمع الله على البحر ندماً على خراب الهيكل ، هذا فضلاً عما ذكره القرآن من ادعاءاتهم { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } ، { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}
كما ينسب اليهود إلى سيدنا يعقوب عليه السلام سرقة صنم ذهبي من أبيه ، وأنه صارع الله (!!) قرب نابلس ، وسمي بذلك بإسرائيل ، كما تنسب له رشوة أخيه وخدعة أبيه ، وأنه سكت عن زنا ابنتيه وأنه أشرك بربه .. !! وقس على ذلك ما ذكروا عن باقي الأنبياء عليهم السلام.
إن اليهود أنفسهم يعترفون بالمنكرات التي فعلوها بحق الله وحق أنبيائه ، فيذكرون أن ملكهم يوحاز بن يوتام 735 – 715 ق.م علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية ، وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور ، وأضل مني منسي بن حزقيا الذي حكم خلال الفترة 687 – 642 ق.م قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية.
ولسنا نستغرب هذا عن بني إسرائيل فتلك أخلاقهم مع موسى عليه السلام تشهد بذلك . كما أن القرآن الكريم يشير إلى أنهم غيروا وبدلوا وقتلوا الأنبياء { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ، ويحدثنا التاريخ أنهم قتلوا النبي حزقيال حيث قتله قاضٍ من قضاتهم لأنه نهاه عن منكرات فعلها ، وأن الملك منسى بن (حزقيا) قتل النبي أشعيا بن أموص إذ أمره بنشره على جذع شجرة لأنه نصحه ووعظه ، وأن اليهود قتلوا النبي أرميا رجماً بالحجارة لأنه وبخهم على منكرات فعلوها.
ويسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم ، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ ونصر والكلدانيين قائلاً : "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار ، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب".
وتشير التوراة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم ، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم "ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الآثم ، نسل فاعلي الشر ، أولاد مفسدون تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى وراء" ، سفر أشعيا الإصحاح الأول (4) ، وتقول التوراة :" والأرض تدنست تحت سكانها ، لأنهم تعدوا الشرائع ، غيروا الفريضة ، نكثوا العهد الأبدي" سفر أشعيا الإصحاح 24 (5).(3/193)
وهكذا لم يعد اليهود مؤهلين لحمل أعباء الرسالة وتكاليفها ، ففقدوا حقهم الديني في الأرض المقدسة.
ثالثاً : فضلاً عن فهمنا المسألة في أصلها الشرعي ، فإذا كان الله قد أعطى إبراهيم عليه السلام ونسله هذه الأرض ، فإن بني إسرائيل ليسوا وحدهم نسل إبراهيم ، فالعرب العدنانيون هم من نسله أيضاً ، وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وإليهم تنتمي قبيلة قريش ، التي ينتسب إليها محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فللعرب حقهم في الأرض.
رابعاً : إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه ، وتأمل قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بين الله له أن عهدهم لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون ، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله بنو إسرائيل ويفعلونه !!
ثانياً : المزاعم التاريخية :
يزعم اليهود أن فلسطين هي أرضهم التاريخية ، وأن تاريخهم وتراثهم قد ارتبط بها ، وأنهم هم الأصل في هذه الأرض وغيرهم ليسوا من أبنائها ، وليسوا أكثر من عابري سبيل ، وأن الأرض لا ترتبط عندهم بمعنى مميز كما ترتبط لدى اليهود ويشيرون إلى فترات حكم داود وسليمان عليهما السلام ودولتي إسرائيل ويهودا .. الخ.
وابتداء ، فإننا لا نعد اليهود الحاليين امتداداً تاريخياً شرعياً لبني إسرائيل ، وحكم الأنبياء والصالحين لأرض فلسطين ، وصراعهم مع أعدائهم هو جزء من تاريخ أمة التوحيد ، التي تعد أمة الإسلام امتداداً تاريخياً طبيعياً لهم.
وعلى أي حال ، وحتى لو قبلنا فرضاً ، بمناقشة الأمر وفق الافتراضات اليهودية ، فإنه يمكن إجمال ردنا عليهم فيما يلي :
أولاً : سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم ، أي قبل حوالي مليون عام ، وبنى أبناء فلسطين أقدم مدينة في العام "أريحا" قبل نحو عشرة آلاف سنة أي 8000 قبل الميلاد ، وهاجر الكنعانيون من جزيرة العرب إلى فلسطين حوالي 2500 ق.م ، وكانت هجرتهم واسعة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد ، وعرفت البلاد باسمهم ، وأنشأوا معظم مدن فلسطين وقراها ، والتي بلغت في الألف الثاني قبل الميلاد حوالي مائتي مدينة وقرية ، ومنها مدن شكيم ( نابلس وبلاطة) ، وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم وغيرها.
ويرى ثقاة المؤرخين أن عامة أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من أنسال الكنعانيين والشعوب القديمة ، مثل شعوب البحر "الفلسطينيون" ، أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها ، وامتزجوا بأهلها الأصليين ، أي أن جذور الفلسطينيين الحاليين تعود إلى 4500 سنة على الأقل ، وهم لم يغادروها أو يهجروها طوال هذه الفترة إلى أي مكان آخر.
ثانياً : إن قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كان حوالي سنة 1900 ق.م ، والتوراة تعترف أنها كانت أرضاً عامرة وتسميها باسمها "أرض كنعان" ، حتى إن إبراهيم عليه السلام اشترى من أهلها مكاناً يدفن فيه زوجته سارة ، وهو مغارة المكفيلة ، وهي التي بني عليها المسجد الإبراهيمي ، واستقر بنو يعقوب فيما بعد (واسمه إسرائيل أيضاً) ، في مصر بعد ذلك لأجيال عديدة حتى جاء موسى عليه السلام بتكليف إرسالهم إلى الأرض المقدسة حوالي 1250 ق.م.
وحتى سنة 1000 ق.م لم يتمكن بنو إسرائيل سوى من الاستيطان في أجزاء ضئيلة من فلسطين في الأراضي المرتفعة بالقدس ، وفي السهول الشمالية.
ثالثاً : إن ملك داود وسليمان عليهما السلام استمر حوالي ثمانين عاماً فقط (1004 – 923 ق.م) ، وخلالها تمت السيطرة على معظم أنحاء فلسطين باستثناء المناطق الساحلية التي لم تلامسها المملكة إلا من مكان قريب من يافا.
وبعد وفاة سليمان عليها السلام انقسم اليهود إلى مملكتين :
1- مملكة إسرائيل : في الجزء الشمالي من فلسطين ، وعاصمتها في شكيم ثم ترزة ثم السامرة قرب نابلس ، واستمرت حوالي مائتي عام (923 – 721 ق.م) ، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" ، لضعفها وقلة شأنها ، وقد قام الآشوريون بقيادة سرجون الثاني بالقضاء على هذه الدولة ونقلوا سكانها اليهود إلى حران والخابور ، وكردستان وفارس ، وأحلوا محلهم جماعات من الآراميين ، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى ، فلم يبق بعد ذلك أثر لنسل الأسباط العشرة من بني إسرائيل (يعقوب) ، وهم الذين كانوا يتبعون هذه المملكة.(3/194)
2- مملكة يهودا: وعاصمتها القدس واستمرت 337 عاماً أي الفترة 923 – 586 ق.م ، ولم تكن تملك سوى أجزاء محدودة من وسط فلسطين ، وقد اعترتها عوامل الضعف ووقعت تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة ، ودخل المهاجمون القدس نفسها مرات عديدة ، كما فعل فرعون مصر شيشق أواخر القرن العاشر ق.م ، والفلسطينيون الذين استولوا على قصر الملك يهورام (849 – 842 ق.م) وسبوا بنيه ونساءه ، كما خضعت للنفوذ الآشوري في عهود سرجون الثاني ، وأسر حدون وآشور بانيبال ، .. إلخ ، وأخيراً سقط البابليون بقيادة نبوخذ نصر "بختنصر" هذه المملكة ، وسبى 40 ألفاً من اليهود إلى بابل في العراق ، وهاجر من بقي من اليهود إلى مصر.
وعلى هذا ، فإن ملك بني إسرائيل استمر في أقصى مداه الزمني حوالي أربعة قرون لكن كان الأغلب على أجزاء محدودة من أرض فلسطين ، وكانت مساحة نفوذهم على الأرض ونفوذهم السياسي تتآكل كلما مر الوقت.
رابعاً : عندما دخلت فلسطين تحت الحكم الفارسي 539 – 332 ق.م سمح الإمبراطور قورش الثاني لليهود بالعودة إلى فلسطين من سبيهم البابلي ، فرجعت أقلية منهم بينما بقيت أغلبيتهم في الأرض الجديدة (العراق) بعد أن أعجبتهم فاستقروا فيها. وسمح لليهود بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية في منطقة القدس وبمساحة لا يتجاوز نصف قطرها 20 كيلو متراً في أي اتجاه ، أي بما لا يزيد عن 4.8% من مساحة فلسطين الحالية ؟!
وتحت الحكم الهلليني الإغريقي 332 – 63 ق.م استمر وضعهم على حاله تقريباً في عصر البطالمة (302 – 198 ق.م) غير أنهم عانوا من حكم السلوقيين (198 – 63 ق.م) الذين حاولوا فرض عبادة الآلهة اليونانية عليهم. وعندما ثار اليهود على الوضع ، سمح لهم السلوقيون بممارسة دينهم ، وتأسس لهم حكم ذاتي في القدس منذ 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع ، وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الزمان على فلسطين. لكنهم ظلوا تحت نفوذ غيرهم ، ولم يتهيأ لهم الاستقلال السياسي الكامل رغم أنهم شهدوا انتعاشاً وتوسعاً تحت زعيمهم الكسندر جانيوس 103 – 76 ق.م وقد غير الرومان الذين بدأوا حكم فلسطين منذ 63 ق.م من سياستهم تجاه الحكم الذاتي اليهودي منذ السنة السادسة للميلاد ، فبدأوا حكماً مباشراً على القدس ، وباقي فلسطين.
وعندما ثار اليهود على الرومان 66 – 70م أخمد الرومان الثورة بقسوة ، ودمروا الهيكل والقدس. كما قضى الرومان على ثورة أخرى وأخيرة لليهود 132 – 135م فدمروا القدس وحرثوا موقعها ، ومنع اليهود من دخولها ، والسكن فيها ، وسمح للمسيحيين فقط بالإقامة على ألا يكونوا من أصل يهودي ، وأقام الرومان مدينة جديدة فوق خرائب أورشليم (القدس) سموها إيليا كابيتولينا ، ولذلك عرفت القدس فيما بعد باسم إيلياء ، وهو الاسم الأول للإمبراطور الروماني في ذلك الوقت هادريان. واستمر حظر دخول اليهود للقدس مائتي سنة أخرى.
خامساً : منذ القرن الثاني للميلاد وحتى القرن العشرين ، وطوال حوالي 1800سنة لم يشكل اليهود أية مجموعة بشرية أو سياسية ذات شأن في تاريخ فلسطين ، وانقطعت صلتهم بها ، سوى ما حفظوه من عواطف روحية ، لم يكن لها تأثير سوى زيارة بعضهم للقدس ، بإذن وتسامح من المسلمين.
ويدعي اليهود ارتباطهم المقدس بأرض فلسطين ، وأنهم لم يخرجوا منها إلا قسراً، وأنهم لو سمح لهم لعادوا كلهم إليها ، وهذا ينطوي على قدر هائل من المبالغة ، إذ يذكر المؤرخون أن أغلب اليهود استنكفوا عن العودة إلى فلسطين بعد أن سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بذلك. كما يجمع المؤرخون أن أعداد اليهود في فلسطين لم تزد على ثلث يهود العلم قبل أن يحطم الرومان القدس على يد تيتوس في القرن الأول الميلادي. والآن وبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الكيان اليهودي لا يزال أكثر من 60% من يهود العالم يعيشون خارج فلسطين ، ويستنكفون عن الهجرة إليها ، خصوصاً من تلك المناطق التي تتمتع بأوضاع اقتصادية أفضل كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
سادساً : انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي منذ 1395م، فتكونت الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ، غير أن الإمبراطورية الشرقية ، التي عرفها العرب بدولة الروم ، والتي عرفت كذلك باسم الدولة البيزنطية ، حافظت على الهيمنة على فلسطين باستثناء فترات ضئيلة حتى جاء الفتح الإسلامي.
سابعاً : فتح المسلمون فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد هزيمة الروم في أجنادين واليرموك وغيرها ، ودخلوا القدس في 15هـ / 636م. ومنذ ذلك الزمان اكتسبت فلسطين طابعها الإسلامي ، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً ، وتعرب سكانها وتعربت لغتها بامتزاج أبنائها في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة ، وظلت متحفظة بشكل عام بطابعها الإسلامي إلى عصرنا هذا.(3/195)
ثامناً : احتل الصليبيون القدس وأنشأوا مملكة بيت المقدس ، واستمر حكمهم 88 عاماً 1099 – 1187 إلى أن استطاع صلاح الدين الأيوبي تحريرها أثر معركة حطين ، وفيما عدا ذلك فإن فلسطين نعمت بالحكم تحت راية الإسلام 636 – 1917 ، أي حوالي 1200 عام. وهي أطول فترة تاريخية مقارنة بأي حكم آخر ، كان الحكم فيه مسلماً والشعب مسلماً ، وهو ما لم يحظ به أي عهد آخر مر على فلسطين ، ثم إن المسلمين حكموا على مر تاريخهم فلسطين كلها وليس بعضاً منهم. كما ضرب المسلمون المثل الأعلى في التسامح الديني ، فوفروا حرية العبادة لليهود والنصارى ، وأمنوهم على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم ، فكانوا خير من خدم الأرض المقدسة وحمى حرمتها ومنع سفك الدماء.
تاسعاً : إذا كانت المسألة متعلقة بالانتماء القومي والتركيب العرقي ، فهل يستطيع يهود هذا الزمان إثبات أنهم أنسال بني إسرائيل الذين عاشوا في فلسطين قبل ألفي عام ؟
إن الدراسات العلمية الأكاديمية لعدد من يهود أنفسهم ، وعلى رأسهم الكاتب المشهور آرثر كوستلر A. Koestler في كتابه القبيلة الثالثة عشر The Thirteenth T ribe : The Khazar Empire & its Heritage تشير إلى أن الأغلبية الساحقة ليهود هذا الزمان ليست من ذرية بني إسرائيل القدماء ، وأن معظم اليهود الآن هم من نسل يهود الخزر ، وهم في أصلهم قبائل تترية قديمة كانت تعيش في منطقة القوقاز ، وأسست لنفسها مملكة في القرن السادس الميلادي شمال غربي بحر الخزر (بحر قزوين). وقد تهودت هذه المملكة في القرن الثامن الميلادي ، ودخل ملكها بولان في اليهودية سنة 740 للميلاد ، وقد سقطت هذه المملكة في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر على يد تحالف الروس والبيزنطيين ، وانتشر يهود الخزر بعد ذلك في روسيا وأوربا الشرقية والغربية ، واستقرت أعداد منهم في الأندلس أيام الحكم الإسلامي ، وبعد سقوطها على يد الأسبان ، هاجروا إلى شمال إفريقيا حيث شملهم تسامح المسلمين ورحمتهم.
عاشراً : إن الحكم الصهيوني المعاصر على معظم أرض فلسطين منذ سنة 1948 لم يتم إلا بالغضب والقوة والبطش والدمار ، وبناء على طرد أهلها وحرمانهم من حقوقهم ، وتحت حماية القوى الكبرى ورعايتها كبريطانيا وأمريكا ، وهو يفتح باباً لسفك الدماء والحروب التي لا يعلم مداها إلا الله.
وهكذا فمن الناحية التاريخية لم يحكم اليهود إلا أجزاء من فلسطين وبما لا يزيد عن أربعة قرون (400عام) ، بينما حكمها المسلمون حوالي 1200 عام. ثم إن أهل فلسطين من الكنعانيين ومن امتزج بهم ظلوا أهلها منذ 4500 عام وحتى الآن، ولم يخرجوا منها على مر العصور ، وهم الذين تنصروا أيام الرومان ، وهم الذين أسلموا فيها بعد ، فبقيت الأرض أرضهم ، والبلاد بلادهم ، أما اليهود فقد انقطعت صلتهم بفلسطين حوالي 1800 عام (135 – 1948) ، ولأصحاب العقل والمنطق أن يجيبوا الآن : من هو صاحب الحق التاريخي في أرض فلسطين ؟
حادي عشر : ما هو التقييم التاريخي الحضاري للدور الذي قام به اليهود في فلسطين ؟
نترك الإجابة لبعض مؤرخي النصارى المشهورين ، فمثلاً يقول هـ.ج ولز في كتاب موجز التاريخ حول تجربة بني إسرائيل في فلسطين بعد السبي البابلي : "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار ... ومن الأول إلى الآخر لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسورية وآشور وفينيقية ، وذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم.
ويذكر المؤرخ المشهور غوستاف لوبون أن بني إسرائيل عندما استقروا في فلسطين "لم يقتبسوا من تلك الأمم سوى أخس ما في حضارتها ، أي لم يقتبسوا غير عيوبها وعاداتها الضارة ودعارته وخرافاتها فقربوا لجميع آلهة آسيا ، قربوا لعشتروت ولبعل ولمولوخ من القرابين ما هو أكثر جداً مما قربوه لإله قبيلتهم يهوه العبوس الحقود الذي لم يثقوا به إلا قليلاً " ويقول :"اليهود عاشوا عيشة الفوضى الهائلة على الدوام تقريباً ، ولم يكن تاريخهم غير قصة لضروب المنكرات" "إن تاريخ اليهود في ضروب الحضارة صفر .. وهم لم يستحقوا أن يعدوا من الأمم المتمدنة بأي وجه". ويقول غوستاف لوبون أيضاً : " وبقي بنو إسرائيل حتى في عهد ملوكهم بدواً أفاقين مفاجئين سفاكين .. مندفعين في الخصام الوحشي" ، ويقول : ( إن مزاج اليهود النفسي ظل على الدوام قريباً جداً من حال أشد الشعوب بدائية، فقد كان اليهود عنداً مندفعين ، غفلاً سذجاً جفاة كالوحوش والأطفال ".." ولا تجد شعباً عطل عن الذوق الفني كما عطل اليهود.
( كتب الرد : الدكتور محمد محسن صالح ، نقلا عن موقع " التاريخ " للدكتور محمد موسى الشريف ).
=======================
زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُبعث لنا :(3/196)
قال النصارى :إن محمدا –صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إلينا ، فلا يجب علينا اتباعه ، وإنما قلنا : إنه لم يرسل إلينا لقوله تعالى في الكتاب العزيز:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }. ولقوله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }. ولقوله تعالى :{بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ }. ولقوله تعالى :{لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. ولقوله تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. ولا يلزمنا إلا من جاءنا بلساننا ، وأتانا بالتوراة والإنجيل بلغاتنا .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن الحكمة في أن الله تعالى إنما يبعث رسله بألسنة قومهم ، ليكون ذلك أبلغ في الفهم عنه ومنه ، وهو أيضا يكون أقرب لفهمه عنهم جميع مقاصدهم في الموافقة والمخالفة وإزاحة الأعذار والعلل ، والأجوبة عن الشبهات المعارضة ، وإيضاح البراهين القاطعة ، فإن مقصود الرسالة في أول وهلة إنما هو البيان والإرشاد وهو مع اتحاد اللغة أقرب ، فإذا تقررت نبوة النبي في قومه قامت الحجة على غيرهم ، إذا سلموا ووافقوا ، فغيرهم أولى أن يسلم ويوافق ، فهذه هي الحكمة في إرسال الرسول بلسان قومه ، ومن قومه .
وفرق : بين قول الله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وبين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }فالقول الثاني هو المفيد لاختصاص الرسالة بهم ، لا الأول . بل لا فرق بين قوله :{وما أرسلنا من رسول إلا لقومه }.وبين قوله:{وما أرسلنا من رسول إلا مكلفا بهداية قومه}فكما أن الثاني لا إشعار له بأنه لم يكلف بهداية غيرهم ، فكذلك الأول ، فمن لم يكن له معرفة بدلالة الألفاظ ، ومواقع المخاطبات ؛ سوى بين المختلفات ، وفرق بين المؤتلفات.
وثانيها : أن التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي ، فلو صح ما قالوه لكانت النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة ، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا اللسان إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم ، وأن تكون القبط كلهم والحبشة مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل ، لأن الفريقين غير العبراني والرومي ، ولو لم ينقل هذان الكتابان بلسان القبط ، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي ، ولا حبشي ، ولا رومي شيئا من التوراة ، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك اللسان ، كما يتعلمون العربي .
وثالثها : أنه إذا سُلم أنه عليه السلام رسول لقومه ، ورسل الله تعالى خاصة خلقه وخيرة عباده معصومون عن الزلل ، مبرؤون من الخطل ، وهو عليه السلام قد قاتل اليهود ، وبعث إلى الروم ينذرهم وكتابه عليه السلام محفوظ عندهم إلى اليوم في بلاد الروم عند ملكهم يفتخرون به ، وكتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط ولكسري بفارس ، وهو الصادق البر ، كما سلم أنه رسول لقومه ، فيكون رسولا للجميع ، ولأن في جملة ما نزل عليه – صلى الله عليه وسلم- {وما أرسلناك إلا كافة للناس }.فصرح بالتعميم ، واندفعت شبهة من يدعي التخصيص ، فإن كانت النصارى لا يعتقدون أصل الرسالة ، لا لقومه ، ولا لغيره ، فيقولون : أوضحوا لنا صدق دعواكم ، ولا يقولون كتابكم يقتضي تخصص الرسالة ، وإن كانوا يعتقدون أصل الرسالة لكنها مخصوصة لزمهم التعميم لما تقدم ، وكذلك قوله تعالى {بعث في الأميٍين رسولا منهم } لا يقتضي أنه لم يبعثه لغيرهم ، فإن الملك العظيم إذا قال : بعثت إلى مصر رسولا من أهلها لا يدل ذلك على أنه ليس على يده رسالة أخرى لغيرهم ، ولا أنه لا يأمر قوما آخرين بغير تلك الرسالة ، وكذلك قوله تعالى : { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } ليس فيه أنه لا ينذر غيرهم ، بل لما كان الذي يتلقى الوحي أولا هم العرب كان التنبيه عليه بالمنة عليهم بالهداية أولى من غيرهم ، وإذا قال السيد لعبده : بعثتك لتشتري ثوبا ، لا ينافي أنه أمره بشراء الطعام ، بل تخصيص الثوب بالذكر لمعنى اقتضاه ، ويسكت عن الطعام ، لأن المقصد الآن لا يتعلق به ، وما زالت العقلاء في مخاطباتهم يتكلمون فيما يوجد سببه ، ويسكتون عما لم يتعين سببه ، وإن كان المذكور والمسكوت عنه حقين واقعين ، فكذلك الرسالة عامة .(3/197)
ولما كان أيضا المقصود تنبيه بني إسرائيل ، وإرشادهم خصوا بالذكر ، وخصصت كل فرقة من اليهود والنصارى بالذكر ، ولم يذكر معها غيرها في القرآن في تلك الآيات المتعلقة بهم ، وهذا هو شأن الخطاب أبدا ، فلا يغتر جاهل بأن ذكر زيد بالحكم يقتضي نفيه عن عمرو ، وكذلك قوله تعالى : {وأنذر عشيرتك الأقربين }ليس فيه دليل على أنه لا ينذر غيرهم ، كما أنه إذا قال القائل لغيره : أدب ولدك ، لا يدل على أنه أراد أنه لا يؤدب غلامه ، بل ذلك يدل على أنه مراد المتكلم في هذا المقام تأديب الولد ،لأن المقصود مختص به ، ولعله إذا فرغ من الوصية على الولد يقول له : وغلامك أيضًا أدبه ، وإنما بدأت بالولد لاهتمامي به ، ولا يقول عاقل : إن كلامه الثاني مناقض للأول ، وكذلك قرابته عليه السلام هم أولى الناس ببره عليه السلام وإحسانه ، وإنقاذهم من المهلكات ، فخصهم بالذكر لذلك ، لا أن غيرهم غير مراد كما ذكرنا في صورة الولد والعبد .
وبالجملة فهذه الألفاظ ألفاظ لغتنا ، ونحن أعلم بها .
وإذا كان عليه السلام هو المتكلم بها ولم يفهم تخصيص الرسالة ، ولا إرادته ، بل أنذر الروم والفرس وسائر الأمم ، والعرب لم تفهم ذلك ، وأعداؤه من أهل زمانه لم يدعوا ذلك ، ولا فهموه ، ولو فهموه لأقاموا به الحجة عليه ، ونحن أيضا لم نفهم ذلك ؛ فكيف فهم هؤلاء هذا الفهم ؟ إلا لقصد التلبيس .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 15-22).
2- وقولهم : إن القرآن ورد بتعظيم عيسى و مريم – عليهما السلام - .
قال النصارى: إن القرآن الكريم ورد بتعظيم عيسى عليه السلام ، وبتعظيم أمه مريم رضي الله عنها ، وهذا هو رأينا واعتقادنا فيهما ، فالدينان واحد ، فلا ينكر المسلمون علينا .
والجواب من وجوه :
أحدها : تعظيمهما لا نزاع فيه ، ولم يكفر النصارى بالتعظيم ، إنما كفروا بنسبة أمور أخرى إليهما لا يليق بجلال الربوبية ، ولا بدناءة البشرية ؛ من الأبوة والبنوة والحلول والإلحاد ، واتخاذ الصاحبة والأولاد ؛ تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا ، فهذه مغالطة في قوله (موافق لاعتقادنا) ، ليس هذا هو الاعتقاد المتنازع فيه ، نعم لو ورد القرآن الكريم بهذه الأمور الفاسدة المتقدم ذكرها وحاشاه كان موافقا لاعتقادهم ، فأين أحد البابين من الآخر ؟!
وثانيها : أنه اعترف بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق ، فإن الباطل لا يؤكد الحق ، بل المؤكد للحق حق جزما ، فيكون القرآن الكريم حقا قطعا ، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى ، وهو أنهم اختبروا ما جاء به عليه السلام ، فوجدوه موافقا لما كانوا يعتقدونه من الحق ، فجزموا بأنه حق وأسلموا واتبعوه ، وما زال العقلاء على ذلك يعتبرون كلام المتكلم ، فإن وجدوه على وفق ما يعتقدونه من الحق اتبعوه،وإلا رفضوه .
وثالثها : أن هذا برهان قاطع على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان ، فإنه مشتمل على تعظيم جملة الرسل وجميع الكتب المنزلة ، فالمسلم على أمان من جميع الأنبياء عليهم السلام على كل تقدير ، أما النصراني فليس على أمان من تكذيب محمد –صلى الله عليه وسلم- ، فتعين رجحان الإسلام على غيره .
ولو سلمنا تحرير صحة ما يقوله النصراني من النبوة وغيرها يكون المسلم قد اعترف لعيسى عليه السلام ، ولأمه رضي الله عنها بالفضل العظيم والشرف المنيف ، وجهل بعض أحوالهما - على تقدير تسليم صحة ما ادعاه النصارى - والجهل ببعض فضائل من وجب تعظيمه لا يوجب ذلك خطرا ، أما النصراني ، فهو منكر لأصل تعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم- ، بل ينسبه للكذب والرذائل والجراءة على سفك الدماء بغير إذن من الله ، ولا خفاء في أن هذا خطر عظيم ، وكفر كبير ، فيظهر من هذا القطع بنجاة المسلم قطعا ويتعين غيره للغرر والخطر قطعا ، فليبادر كل عاقل حينئذ للإسلام ، فيدخل الجنة بسلام .
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 22-25).
3- قولهم : إن القرآن ورد بأن عيسى روح الله وكلمته :
قال النصارى :إن القرآن الكريم ورد بأن عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته ، وهو اعتقادنا .
والجواب من وجوه :(3/198)
أحدها : أن من المحال أن يكون المراد الروح والكلمة على ما تدعيه النصارى ، وكيف يليق بأدنى العقلاء أن يصف عيسى عليه السلام بصفة ، وينادي بها على رؤس الأشهاد ، ويطبق بها الآفاق ، ثم ُيكفر من اعتقد تلك الصفة في عيسى عليه السلام ، ويأمر بقتالهم وقتلهم وسفك دمائهم وسبي ذراريهم ، وسلب أموالهم ؟! بل هو بالكفر أولى ؛ لأنه يعتقد ذلك مضافا إلى تكفير غيره ، والسعي في وجوه ضرره ، وقد اتفقت الملل كلها مؤمنها وكافرها على أنه عليه السلام من أكمل الناس في الصفات البشرية خَلقا وخُلقا وعقلا ورأيا ، فإنها أمور محسومة ، إنما النزاع في الرسالة الربانية ، فكيف يليق به عليه السلام أن يأتي بكلام هذا معناه ، ثم يقاتل معتقده ويكفره ، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم والفضلاء من الخلفاء من بعده ، وهذا برهان قاطع على أن المراد على غير ما فهمه النصارى.
ثانيها : أن الروح اسم الريح الذي بين الخافقين يقال لها : ريح وروح لغتان ، وكذلك في الجمع رياح وأرواح ، واسم لجبريل عليه السلام وهو المسمى بروح القدس ، والروح اسم للنفس المقومة للجسم الحيواني ، والكلمة اسم للفظة المفيدة من الأصوات . وتطلق الكلمة على الحروف الدالة على اللفظة من الأصوات ، ولهذا يقال : هذه الكلمة خط حسن ومكتوبة بالحبر ، وإذا كانت الروح والكلمة لهما معان عديدة فعلى أيهما يحمل هذا اللفظ ؟ وحمل النصراني اللفظ على معتقده تحكم بمجرد الهوى المحض .
وثالثهما : وهو الجواب بحسب الاعتقاد لا بحسب الإلزام ، أن معنى الروح المذكور في القرآن الكريم في حق عيسى عليه السلام هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم لبدن الإنسان ، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه ، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله ، وروح كل حيوان هي روح الله تعالى ، فإن الإضافة في لسان العرب تصدق حقيقة بأدنى الملابسة ، كقول أحد حاملي الخشبة لآخر : شل طرفك يريد طرف الخشبة ، فجعله طرفا للحامل ، ويقول : طلع كوكب زيد إذا كان نجم عند طلوعه يسري بالليل ، ونسبة الكوكب إليه نسبة المقارنة فقط ، فكيف لا يضاف كل روح إلى الله تعالى ، وهو خالقها ومدبرها في جميع أحوالها ؟ وكذلك يقول بعض الفضلاء لما سئل عن هذه الآية فقال : نفخ الله تعالى في عيسى عليه السلام روحا من أرواحه ، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه ، وأما تخصيص عيسى عليه السلام فللتنبيه على شرفه ، وعلو منزلته بذكر الإضافة إليه ، كما قال تعالى :{وما أنزلنا على عبدنا}. .{إن عبادى ليس لك عليهم سلطان} مع أن الجميع عبيده ، وإنما التخصيص لبيان منزلة المخصّص .
وأما الكلمة فمعناها أن الله تعالى إذا أراد شيئا يقول له : كن فيكون ، فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن ، فلما أوجد الله تعالى عيسى عليه السلام قال له : كن في بطن أمك فكان ، وتخصيصه بذلك للشرف كما تقدم ، فهذا معنى معقول متصور ليس فيه شئ كما يعتقده النصارى من أن صفة من صفات الله حلت في ناسوت المسيح عليه السلام ! وكيف يمكن في العقل أن تفارق الصفة الموصوف ، بل لو قيل لأحدنا : إن علمك أو حياتك انتقلت لزيد لأنكر ذلك كل عاقل ، بل الذي يمكن أن يوجد في الغير مثل الصفة ، وأما أنها هي في نفسها تتحرك من محل إلى محل فمحال ؛ لأن الحركات من صفات الأجسام ، والصفة ليست جسما ، فإن كانت النصارى تعتقد أن الأجسام صفات ، والصفات أجسام ، وأن أحكام المختلفات وإن تباينت شئ واحد سقطت مكالمتهم ، وذلك هو الظن بهم ؛ بل يُقطع بأنهم أبعد من ذلك عن موارد العقل ومدارك النظر ، وبالجملة فهذه كلمات عربية في كتاب عربي ، فمن كان يعرف لسان العرب حق معرفته في إضافاته وتعريفاته، وتخصيصاته ، وتعميماته ، وإطلاقاته ،وتقييداته ، وسائر أنواع استعمالاته فليتحدث فيه ويستدل له، ومن ليس كذلك فليقلد أهله العلماء به ، ويترك الخوض فيما لا يعنيه ولا يعرفه.
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 25-30).
4- قولهم : القرآن مدحنا في آية { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا....} .
قال النصارى : في الكتاب العزيز يقول الله : {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ فهذا مدح لنا .(3/199)
والجواب: أن الذين اتبعوه ليسوا النصارى الذين اعتقدوا أنه ابن الله ، وسلكوا مسلك هؤلاء الجهلة ، فإن اتباع الإنسان موافقته فيما جاء به، وكون هؤلاء المتأخرين اتبعوه غير صحيح ، بل متبعوه هم الحواريون ، ومن تابعهم قبل ظهور القول بالتثليث ، أولئك هم الذين رفعهم الله في الدنيا والآخرة ، ونحن إنما نطالب هؤلاء بالرجوع إلى ما كان أولئك عليه ، فإنهم قدس الله أرواحهم آمنوا بعيسى وبجملة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين ، وكان عيسى عليه السلام بشرهم بمحمد –صلى الله عليه وسلم- ، فكانوا ينتظرون ظهوره ليؤمنوا به عليه السلام ، وكذلك لما ظهر عليه السلام جاءه أربعون راهبا من نجران فتأملوه فوجدوه هو الموعود به في ساعة واحدة بمجرد النظر والتأمل لعلاماته ، فهؤلاء هم الذين اتبعوه وهم المرفوعون المعظمون ، وأما هؤلاء النصارى فهم الذين كفروا به مع من كفر ، وجعلوه سببا لانتهاك حرمة الربوبية بنسبة واجب الوجود المقدس عن صفات البشر إلى الصاحبة والولد الذي ينفر منها أقل رهبانهم ، حتى إنه قد ورد أن الله تعالى إذا قال لعيسى عليه السلام يوم القيامة :{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}. يسكت أربعين سنة خجلا من الله تعالى ؛ حيث جُعل سببا للكفر به ، وانتهاك حرمة جلاله ، فخواص الله تعالى يألمون ويخجلون من اطلاعهم على انتهاك الحرمة ،وإن لم يكن لهم فيها مدخل ولا لهم فيها تعلق ، فكيف إذا كان لهم فيها تعلق من حيث الجملة ؟! ومن عاشر أماثل الناس ورؤسائهم ، وله عقل قويم وطبع مستقيم غير طبع النصارى أدرك هذا ، فما آذى أحد عيسى عليه السلام ما آذته هؤلاء النصارى ، نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 30-33).
10- قولهم : ليس من العدل أن يطالبنا الله بالإيمان بمن لم يرسله لنا !
قال النصارى : ليس من عدل الله تعالى أن يطالبنا بإتباع رسول لم يرسله إلينا ، ولا وقفنا على كتابه بلساننا .
والجواب : أنه عليه السلام لو لم يرسل إليهم فليت شعري من كتب إلى قيصر هرقل ملك الروم ، وإلى المقوقس أمير القبط يدعوهم إلى الإسلام ؟!
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
( المرجع : رسالة " إفحام النصارى " دار القاسم ، ص 58).
=======================
الشبهة(1) : القول بأزلية المادة وأبديتها ..
وقبل أن ندخل في الردود عليهم يحسن بنا أن نذكر مقصدهم بالمادة، وصفاتها لديهم، حتى يتسنى لنا الردُّ على وجهٍ لا تبقى معه فجوة فيها.
تعريف المادة لدى «لينين»:
يعرف «لينين» المادة بقوله: (هي مقولة فلسفية تخدم في تعيين الواقع الموضوعي المعطى للإنسان في إحساساته التي تنسخه، تصوره، تعكسه، والموجود بصورة مستقلة عن الإحساسات).
وبناءً على هذا التعريف الذي يعتبر المادة شاملة لجميع مفاهيم الأشياء كالورد والشجر، والبيت ونحوها - إذ كلها مفاهيم – تكتسب المادة خاصية السبق على الإدراك والتأثير فيه، وبما أن الفلسفة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، أُطلق على هذه الدراسة مقولة فلسفية، وبما أن المادة تدرس المفاهيم شاملة إلى أقصى حدٍّ، فهي إذن على هذا الأساس مقولة فلسفية، ووظيفتها: تعيين الواقع الموضوعي؛ أي: الواقع المادّي الموجود خارج الإدراك، وهو المؤثر في أعضاء حواس الإنسان وإثارة إحساساته.
إذن: فالفكر انعكاس للمادة الواقعة على الدماغ، وهو يفكر في المادة التي تعكس عليه، وقبل انعكاس المادة على الدماغ لا يوجد فكر، فالمادة إذن تسبق الفكر عنده.
بعد أن عرفنا المادة وأنها سابقة – حسب قولهم – في الوجود على الفكر، أذكر هنا رأيهم في أزلية المادة وأبديتها.
يقول الماديون: (وبالتالي فليس للكون نهاية ولا حدود، العالم أبدي وليس له أي (بداية) ولن يكون له أيّ (نهاية)، ومن هنا، فأيَّ عالم غيبي، غير مادي، غير موجود، ولا يمكن أن يوجد.
وفي واقع الأمر أنه إذا لم يوجد شيء غير المادة، فلا يوجد غير عالم مادّي واحد، وهذا يعني أنه عند وجود الأشياء والظواهر المختلفة في العالم المحيط بنا، هناك خاصية واحدة توحدها، هي: ماديتها).
إذن، فلا يوجد شيء – على حدِّ تعبيرهم – غير العالم المادي، ولا يمكن أن يوجد عالم روحي أو يوم آخر، كما جاءت به الأديان، فالإنسان، في نظرهم نتاج المادة فقط، فالمادة هي الخالقة، ولها خصائص الخالق، وليس هناك عالم غيبي؛ لأن العالم محصور فيما تدركه الحواس، ولم يكتفوا بإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، بل صرَّحوا بأن الله من إبداع الإنسان، وأن المشكلة ليست هي مشكلة وجوده سبحانه، بل هي مشكلة فكرة وجوده.
إذن، مبدؤهم الذي ينطلقون منه: أن الله لا نفع فيه، وإثارة النقاش حول وجوده لا طائل تحته، إذ لديهم فكرة لا تتغير؛ وهي: أن ما وراء الكون المادي وهمٌ وهُراءٌ.
فهذه المادة هي كل شيء، ترد بمعنى الطبيعة، كما أن الطبيعة ترد بمعنى المادة.(3/200)
وأما قولهم بأبدية المادة فيعللون لها بقولهم: (إن في الطبيعة لا ينشأ شيء من لا شيء، ولا يختفي أبدًا بلا أثر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المادة أو الطبيعة قد وجدت دائمًا، لأننا إذا سلمنا بأنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك شيء في العالم، أي لم تكن توجد مادة، فمن أين لها أن تنشأ؟ ولكن ما أن توجد المادة فهذا يعني أنها لم تنشأ في أي وقت من الأوقات، بل وجدت دائمًا، وستوجد دائمًا فهي أبدية وخالدة؛ ولهذا لم يمكن أن تُخلق، فلا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه، وبذلك فالمادة لم تنشأ أبدًا، بل وجدت دائمًا وستوجد دائمًا فهي أبدية).
إذن، فالمادة أبدية خالدة، لم تنشأ من العدم؛ لأنه لا يمكن أن يخلق ما لا يمكن إفناؤه؛ ولهذا لا يجوز السؤال عن بداية المادة ونهايتها؛ لأن آثارها واضحة ومشاهدة، والحركة كذلك محال خلقها وإفناؤها؛ لأنه صنعة المادة.
يقول «انجلز»: (المادة من دون حركة، أمر غير معقول، بقدر ما هي الحركة من دون المادة، وإذن فالحركة محال خلقها وإفناؤها قدر ما هو محال ذلك بالنسبة للمادة نفسها).
الردود على هذه الشبهة:
قبل البدء في الردِّ عليهم أورد هنا الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية، فإن الأساس الفكري لهذه الفكرة المادية التي نشأت منها الشيوعية هو حصر نطاق المعرفة في المادة وحدها.
وهذا الفكر وإن كان نشأ ونما في أوروبا فيما بعد القرن السابع عشر، إلاَّ أنه قديم في البشرية قدم الآفات والانحرافات فيها، ويعتبر امتدادًا لفكرة هؤلاء الماديين أو الدهريين الذين أنكروا البعث قديمًا ونسبوا الموت للدهر بدلاً من الله... كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ }.
كذلك أعداء الرسالات أغلبهم مادّيون، ولذلك تراهم يتطاولون بالمادة وينكرون البعث واليوم الآخر ويرون الجزاء للإنسان قاصرًا على متع الحياة الدنيا... يقول سبحانه وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
كما يحكي القرآن مقالة الماديين لدى ظهور الإسلام: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ}.
وقد بيَّن القرآن أن هذا الذي طلبه الماديون في شأن التصديق بالرسالة الخاتمة ليس غريبًا، ولا غير معهود في تاريخ البشرية، وإنما هو أمر تكرر على عهد الرسالات السابقة: { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ }؛ أي: أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد.
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً}.
{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}، فتشابهت قلوبهم، وقال متأخروهم بما قال به متقدموهم.
فالظاهرة العامة لهم هي الركون إلى المادة، وإنكار ما وراء المحسوس المشاهد، ولا يعرفون غيرها في مجال الإقناع والاقتناع.
ولكنَّ هناك فروقًا بين الإلحاد القديم والحديث، من أهمها ما يلي:
أولاً: أن الإلحاد بمعنى: إنكار وجود الله أصلاً – وهو أبرز ما في الاتجاه المادي الحديث عمومًا – لم يكن ظاهرة منتشرة متفشية في القديم، وإنما الذي كان شائعًا هو الشرك بمعنى منح خصائص الإلوهية لغير الله عز وجل، وإشراك آلهة مزعومة معه سبحانه.
صحيح أن الملاحدة الدهرية كان لهم وجود منذ القدم – كما أُشير من قبل – ولكن هؤلاء كانوا شرذمة قليلين مع اختلاف آرائهم في هذا الجانب، فإنهم كانوا على طائفتين:(3/201)
الأولى: الفلاسفة الدهرية الإلهية، القائلون بقدم العالم، وكان من مقدمتهم أرسطو، وأتباعه، فهؤلاء لم يكونوا يقولون: بأن المادة هي الخالقة، بل كانوا يثبتون للعالم علة يتشبه بها.
الثانية: الفلاسفة الدهرية الملاحدة أو الطبيعية، القائلون بما ذكر الله عنهم بقولهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فهؤلاء يشبهون في بعض الجوانب الشيوعيين في العصر الحاضر، وقد ردَّ الله عليهم في هذا القول بقوله: { وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}؛ أي: (يتوهمون ويتخيلون)، فقولهم هذا ما كان مستندًا إلى علم أو يقين، بل كان عن ظن وتخمين.
ولكن الشيوعية الحديثة وإن كانت تشبه أفكارهم في جانب الإلحاد معهم إلاَّ أنها تختلف معها في بعض الجوانب – كما يأتي -.
ثانيًا : الإلحاد في هذا الزمن هو إنكار وجود الله أصلاً، انتشر في العصور الحديثة انتشارًا واسعًا في دول أوروبا بصورة ملفتة للنظر، وأصبح له حكومات تحرسه، ودول تحميه، بل لقد غزا بلاد الإسلام حتى قام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته.
ثالثًا: إن إلحاد هذا الزمان يضرب بسيف من العلم، ويزعم بأنه يقوم على سند من العلم وتأييد من البحث، وذلك أن الصفة التي تتصف بها المادية قديمًا وحديثًا هي أن الماديين يتصورون أن المادة حقائق محسوسة ملموسة وليست فروضًا وراء الحس... والنظرة العلمية في تصورهم هي ما تخضع للبحث التجريبي، وما لا يخضع للبحث التجريبي لا يسمّى علميًّا في نظرهم، ومن ثَمَّ أبعدوا مفاهيم الدِّين والغيب من مجال البحث العلمي حيث لا يقوم عليها دليل عندهم، ووصل الأمر أن أصبح الدين في حسِّ كثير من العلماء الأوروبيين مثلاً للخرافة، وصاروا يدفعون عقيدة الإيمان بالله بحجة أن العلم يأباها،.. وشنّوا حملة ضد الإيمان عامة وضدّ الإسلام خاصة... بل بلغ الأمر إلى أن أصبحت هذه الآراء والأفكار الملحدة تدرس في كثير من جامعات العالم الإسلامي تارة باسم الفلسفة، وتارة باسم الجيولوجية، وتارة باسم الاقتصاد الحديث.
وهذه النظرية يمكن إبطالها بما يلي:
1- عدم استقرارهم على منهج معين، وذلك؛
أ . تراجعهم عن تعريف المادة :
سبق تعريف المادة كما عرفوها، وذلك ما قال به الشيوعية أخيرًا، حيث أعادوا صياغة تعريفها بقولهم: هي: (الوجود الموضوعي خارج الذهن)، ولكن ماذا كانوا يقولون في تعريف المادة في أول أمرهم؟ كانوا يقولون: هي: (كل ما تقع عليه الحواس)، وحصروا موادها في أمور أربعة؛ الماء والهواء والتراب والنار، وكان المادّي يخبط المائدة بيده أو يضرب الأرض بقدمه ويقول لمن يجادله: هذه هي الحقيقة التي ألمسها بيدي وقدمي أو أراها بعيني وأسمعها بأذني.
ثم توالت الاكتشافات العلمية، وشاعت العلوم التجريبية في القرنين الأخيرين، وشاعت معها قوانين الحركة والضوء وسائر القوانين التي عُرفت بالقوانين الوضعية، فتجاوزت ما تقع عليه الحواس إلى عالم الذرة، فأعادوا صياغة تعريف المادة بأنها: (الوجود الموضوعي خارج الذهن).
ب . تراجعهم عن القول بأسبقية المادة على الفكر:
إن هؤلاء الشيوعيين كانوا في بداية أمرهم يقولون بأسبقية المادة على الفكر، وأرادوا بذلك إنكار المغيبات على أنها أفكار، والمادة سابقة لها، فلا يفكر فيها، بل الأصل هو المادة.
ولكنهم سرعان ما تراجعوا عن القول بأسبقية المادة في الوجود على الفكر، يقول أصحاب أسس الماركسية اللينينية: (إن النشاط الذهني أو الفكر خاصة مميزة للمادة، ولكنها ليست شكلاً من أشكال المادة، وفي المسألة الأساسية في الفلسفة يطرح الفكر كضد للمادة والروح كضد للطبيعة، فالمادة هي أي شيء يوجد خارج العقل ولا يتوقف عليه، وبالتالي: من الخطأ الجسيم اعتبار الفكر جزءًا من المادة، وفي الوقت الحالي يعتبر التوحيد بين الفكر والمادة من مفاهيم المادية المنحطة).
إذن، لقد وصف الشيوعيون أنفسهم الفكر المادي للقرن التاسع عشر الذي قامت الماركسية والشيوعية على أساسه، والذي يسوي بين المادة والفكر، ويعتبر الفكر شكلاً متطورًا من أشكال المادة يعكس الوسط المادّي، وصفوا هذا القول بأنه من المفاهيم المنحطة.
إذن، هؤلاء على اضطراب تام في تفسير الفكر، فبعضهم اعتبروه من المادة، وبعضهم اعتبروا التوحيد بين المادة والفكر كلامًا منحطًا، فلنتساءل: ما هو الحق لديكم في هذا الباب؟ هل هما شيء واحد، أم بينهما انفصال؟.
ج . تراجعهم عن القول بالمادة بأنها هي أصل كل شيء، وذلك؛
أنه لما جاء القرن العشرون وجاء معه تفجير الذرة فتحولت المادة إلى طاقة وفتح ذلك الباب إلى تعريفات جديدة للمادة، منها: أنها صورة مختلفة من الطاقة فحسب، وقال آخر منهم: إن المادة مركبة من بروتونات وإليكترونات، أي شحنات موجبة وسالبة من الكهرباء.(3/202)
فلمّا تغير مفهوم المادة ورأوا عدم صحة القول بأنها هي وراء كل شيء، بل اكتشف أخيرًا أن المادة في نفسها طاقة تشكلت بوضع خاص فصارت مادة، قالوا: وماذا في الأمر؟ إن ما نقوله بالنسبة إلى المادة قد انتقل إلى الطاقة التي هي أصل المادة، هكذا قال «لينين».
من العرض السابق لتعريف المادة وبيان أقوالهم حولها رأينا أن المادة التي قال بها الشيوعيون والماديون، وبنوا عليها مذهبهم قد تغير مفهومها تمامًا، ولم يَعُد لها ذلك المفهوم السطحي الذي نشأت الشيوعية في ظلها، فالمادة في القرن العشرين تحولت إلى طاقة.
وقررت الحقائق العلمية أخيرًا؛ أن الشيء الصلد الذي نلمسه فنراه ذا حجم ثابت ليس أكثر من شحنات كهربية وإلكترونية، بل العالم المادّي المكون من جبال وأنهار وأرض وأشجار ونحو ذلك مما تشهد به حواسنا، هو كتل من الإشعاعات الضوئية المتحركة.
وبهذا نكون قد قضينا على القول بأن المادة هي أصل كل شيء، وفيما يلي نقد أقوالهم في أزلية المادة وأبديتها.
2- عدم وجود دليل قاطع على أزلية المادة وأبديتها: فإن هؤلاء الملاحدة عندما يوجه إليهم السؤال – الذي يقوم عليه التحدي – من خلق المادة؟ فإنهم يجيبون: إن العلم أثبت أنها وجدت دائمًا منذ الأزل، فنحن نطرح عليهم سؤالاً لابدّ من إجابته لإثبات هذا المدعى، وهو: أين الدليل العلمي القاطع الذي يثبت صدق دعواكم أن المادة وجدت منذ الأزل؟ وكل ما ذكرتموه من الاستدلالات بأنها سابقة للفكر، وأنها لا تنشأ عن لا شيء، وما لا يمكن إفناؤه لا يمكن أن يخلق، هذه الشبهات الثلاث السابقة الذكر ليست إلاَّ تخمينات وظنون وليس عليها أيّ دليل علمي قاطع، فكيف تؤمنون بالنظريات هذه وأنتم ما أثبتموها إلاَّ بالظنون الكاذبة، ولم تؤمنوا بالخالق المبدع مع أنّ آثار وجوده ظاهرة وباهرة؟
3- مخالفة الشيوعية للمنهج العلمي: وذلك؛ أن فلسفتهم المادية هي – حسب زعمهم – الفلسفة العلمية الوحيدة التي تتفق وسائر العلوم، ومن شأن المنهج العلمي الطبيعي – كما هو معروف – الاقتصار على الكون المادّي، وعدم تجاوزه إلى ما وراءه؛ لأن وسائله التي يعتمدها هي الملاحظة والتجربة، وهذه الوسائل قاصرة عن إدراك ما وراء الكون المادّي، فهي لا تملك إزاءه أية وسيلة للنفي أو الإثبات. فكان الواجب على الماركسية والشيوعية أن تلتزم بموضوع هذا المنهج ولا تتجاوزه إلى غيره، فتركز همّها في دراسة الكون المادّي ولا تتعداه إلى غيره؛ ولكنها أقحمت نفسها بشيءٍ خارج عن مجال خطته التي خطها لنفسه، فتقحمت عالم الغيب، وأنكرت وجود الله سبحانه.
4- مخالفة المادة - التي زعموا أنها أزلية - خصائص الأزلية المعترف بها لدى جميع العقلاء، والمعترف بها لدى الشيوعيين أيضًا لزامًا: وذلك؛
أن الأزلي كما هو مجمع عليه عند العقلاء لابدّ أن تتوفر فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون وجوده من ذاته ومتوقفًا على ذاته، ومن ثَمَّ فإنه يكون مستغنيًا في وجوده وفي بقاء هذا الوجود واستمراره عن غيره، ولا يستطيع غيره أن يؤثر عليه في إيجاد أو تحويل أو إعدام.
2- أن يكون قديمًا لا بداية له؛ لأنه لو كانت له بداية لكان محدثًا من العدم، فلا يكون أزليًّا.
3- أن يكون باقيًا لا نهاية له؛ لأنه لو كانت له نهاية لكان هناك مَن يستطيع إفناءَه.
والماديون عمومًا يسلِّمون بهذه الشروط الواجب توافرها فيما هو أزلي، ولكنهم يحاولون تطبيقها على المادة، ويزعمون أنها أزلية، فهل المادة كذلك؟ هذا ما سيحقق فيما يأتي في الردّ الخامس، وما بعده.
5- أدلة حدوث الكون أو المادة :
وهذه الأدلة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى: في بيان الأدلة العقلية الفلسفية القديمة:
وأصل هذه الأدلة: هو إثبات حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك؛ أن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات، وهذا الحدوث لابدّ له من علة، وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى سنصل حتمًا إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى، وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لابدّ أن نقرر أن هناك خالقًا أزليًّا- لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه – وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأوجده بالصفات التي هو عليها، والذي يوضح ذلك ما يلي:
1- دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم:
قال تعالى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }.(3/203)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (وقد قيل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}: من غير رب خلقهم، وقيل: من غير مادة، وقيل : من غير عاقبة وجزاء، والأول مراد قطعًا، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابدّ له من خالق، ومعرفة الفطر أن المحدَث لابد له من محدِث أظهر فيها من أن كل محدَث لابدّ له من مادة خلق منها وغاية خلق لها، فإن كثيرًا من العقلاء نازع في هذا وهذا، ولم يُنازع في الأول، طائفة قالت: إن هذا العالم حدث من غير محدث أحدثه، بل من الطوائف من قال: إنه قديم بنفسه واجب بنفسه ليس له صانع، وأمَّا أن يقول: إنه محدث حدث بنفسه بلا صانع، فهذا لا يعرف عن طائفة معروفة، وإنما يحكى عمّا لا يعرف).
وقال في موضع آخر: (قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فيها قولان: فالأكثرون على أن المراد: أم خلقوا من غير خالق، بل من العدم المحض؟ كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}.
وكما قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}، وقال: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}، وقيل: أم خلقوا من غير مادة، وهذا ضعيف؛ لقوله بعد ذلك: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} فدلَّ ذلك على أن التقسيم أم خلقوا من غير خالق، أم هم الخالقون؟ ولو كان المراد: من غير مادة لقال: أم خلقوا من غير شيء، أم من ماء مهين؟ فدل على أن المراد: أن خالقهم لا مادتهم؛ ولأن كونهم خلقوا من غير مادة ليس فيه تعطيل وجود الخالق، فلو ظنوا ذلك لم يقدح في إيمانهم بالخالق بل دلَّ على جهلهم؛ ولأنهم لم يظنوا ذلك، ولا يوسوس الشيطان لابن آدم ذلك، بل كلهم يعرفون أنهم خلقوا من آبائهم وأمهاتهم؛ ولأن اعترافهم بذلك لا يوجب إيمانهم ولا يمنع كفرهم، والاستفهام: استفهام إنكار، مقصوده تقرير أنهم لم يخلقوا من غير شيء، فإذا أقروا بأن خالقًا خلقهم نفعهم ذلك، وأمَّا إذا أقروا بأنهم خلقوا من مادة لم يغنِ ذلك عنهم من الله شيئًا).
والمقصود: بيان أن في هذه الآية، ذكر الله – عز وجل – شيئين في قضية الخلق، وهما:
أ - إمّا أنهم خلقوا من العدم، والعدم هو الأصل.
ب - وإما أنهم خلقوا من شيء، وخلقوا أنفسهم بأنفسهم، فالوجود هو الأصل.
فمعنى الآية: هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير خالق؟ أم هل كانوا هم الخالقين لأنفسهم في هذا الانتقال؟ وكلاهما من الأمور المستحيلة بداهة.
والموجِد لا يكون عدمًا؛ لأن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل؛ لأنه هو النفي العام لكل ما يخطر بالبال، ونفي صفاته، فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء، ولا يمكن أن يتحول هذا العدم إلى الوجود، ولا يمكن أن يأتي من هذا العدم العام: ذوات وصفات وقُوى تنطلق بنفسها منه إلى الوجود، فقد ثبت لنا أن العدم لا يمكن أن يكون هو الأصل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولم يذكر القرآن خلق شيء من لا شيء، بل ذكر أنه خلق المخلوق بعد أن لم يكن شيئًا، كما قال تعالى: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}، مع إخباره أنه خلقه من نطفة).
فإذا لم يكن العدم هو الأصل لابدّ أن يكون الوجود هو الأصل؛ لأنه نقيض العدم، ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على وجود عِلمنا أنه هو الأصل.
ولو نظرنا إلى الموجودات التي تقع تحت مجال إدراكنا الحسّي في هذا الكون العظيم لوجدنا أن هذه الموجودات – ومنها الإنسان – لم تكن ثم كانت، وأن أشكالاً كبيرة كانت معدومة في أشكالها وصورها ثم وجدت، كما هو مشاهد لنا باستمرار، كما تبدو لنا صورة التغيرات الكثيرة الدائمة في كل جزء من أجزاء هذه المواد الكونية التي نشاهدها، أو نحسُّ بها، أو ندرك قواها وخصائصها، فمن موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت، ومن تغييرات في الأشكال والصور إلى تغييرات في الصفات والقوى، وكل ذلك لا يعلل في عقولنا – وفق قوانين هذا الكون الثابتة التي استفدناها من الكون نفسه- إلاَّ بالأسباب المؤثرة التي تحمل سرّ هذه التغييرات الكثيرة المتعاقبة في كل شيء من هذا الكون على اختلاف جواهره وصفاته، سواء منها المتناهي في الصغر أو المتناهي في الكبر.
وهنا نقول: لو كان الأصل في هذه الموجودات المعروفة على حواسنا (المادة) هو الوجود الأزلي، لم تكن عرضة للتحول والتغير والزيادة والنقص، والبناء والفناء، ولم يحتج صور وجوداتها وتغيراتها إلى أسباب ومؤثرات، وبما أنه عرضة للتغيير والتحويل، وبما أن قوانينها تفرض احتياجاتها إلى الأسباب والمؤثرات، لزم عقلاً ألا يكون الأصل فيها الوجود، وإنما يجب عقلاً أن يكون الأصل فيها هو العدم، ولابدّ لها من سبب أوجدها من العدم، وهو الله سبحانه وتعالى.
2- دليل الإمكان في الكون أو المادة :(3/204)
بملاحظتنا لكل شيء في الكون، سواء كان من الأشياء المادية التي يمكن أن نُدركها ببعض حواسنا كالأرض والكواكب والنجوم، أو صفة من الصفات القائمة في الأشياء المادية التي نستنبط وجودها بعقولنا كالجاذبية الخاصة الموجودة في حجر المغناطيس، وكخواص المركبات المادية التي لا حصر لها في الكون سواء في ذلك الظواهر الكيميائية أو الفيزيائية، من خلال ملاحظتنا لجميع هذه الأشياء الكونية، ندرك بداهة في كل واحد منها أنه كان من الممكن عقلاً أن يتخذ صورة وحالة غير ما هو عليه الآن، فما المانع من أن يكون العقل في البهائم والنطق في العجماوات؟ وما المانع من أن تكون الأرض أدنى إلى الشمس والقمر من الوضع الذي هي عليه؟ أو غير ذلك من أشياء كثيرة.
فإن قيل: إن الحكمة تقتضي أن تكون هذه الأشياء كما هي عليه الآن، وإلاَّ لاختل النظام وفسدت النتائج المرجوة من هذا الكون.
قلنا: إن الحكمة هي من صفات الحكيم – هو الله سبحانه – وما دام أن كل شيء في الكون يحتمل أن يكون على واحد من أوضاع كثيرة غير الوضع الذي هو عليه الآن، فإن العقول لابدّ أن تحكم بداهة بأن ما كان كذلك فلابدّ من مخصص قد خصصه باحتمال موافق للحكمة والإبداع والاتفاق من جملة احتمالات كثيرة، ولولا وجود المخصص للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر من غير مرجح، أو القول بأن موافقة الحكمة – فيما لا حصر له من الأعداد – كان على طريق التصادف، وكلاهما مستحيل عقلاً.
3- دليل الإتقان في الكون :
من أعظم ما يدهشنا في أنفسنا في الكون من حولنا ذلك الإتقان العجيب في التركيب والصنع، فما نصادف من شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ وهو في غاية الإتقان، مركب أحكم تركيب يؤدّي به إلى غايته التي خُلق من أجلها.
أليس من الإتقان هندسة الكون العجيبة، في مخطط كواكبه ونجومه، بحيث إن أيّ تغيير فيه يؤدّي به إلى الخلل والنقص أو الخراب والفناء، وكذلك أليس من الإتقان المدهش هذا الإنسان في خلقه وتكوينه، وكذلك هذه الحيوانات المدهشة في تكوينها؟ نعم، في كل شيء نرى فيه الإتقان المدهش الذي لا يصدر إلاّ عن متقن بنفسه يتقن كل شيء صنعًا.
فهذه أدلة علمية عقلية كلها تدل على أن الكون بما فيه المادة، حادثة وموجودة بعد أن لم يكن لها وجود، فهي حادثة، والحادث لابدّ له من مُحدِث، وبهذه يبطل قول الماديين بأزلية المادة كما أنها في حالة حدوث وتغيير دائمين، فحدوثها وتغييرها دليل على أن لها بداية، وهذا الدليل نفسه يقودنا إلى أن للمادة نهاية محتومة لابدّ أن تصير إليها؛ لأن كل شيء له بداية لابدّ أن يكون له نهاية.
وحين لا يسلم بهذه الأدلة المنطقية العقلية التي تدل على حدوث الكون (المادة) وبدايته ونهايته طائفة من المفتونين بالعلوم الحديثة وقوانينها، ومنجزاتها، فإنني أعرض لهم أدلة من هذه العلوم وقوانينها التي تثبت حدوث الكون، وأنه لابدّ له من إله أوجده من العدم، كما أن له نهاية محتومة سيصير إليها.
المجموعة الثانية: في بيان الأدلة العلمية على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية:
وهذه الأدلة يمكن أن نقسمها قسمين:
الأول: الأدلة العلمية الحديثة الدالة على أن المادة ليست بأزلية:
وذلك بما يلي:
1- أثبتت الاكتشافات العلمية في العصر الحديث أن للمادة بداية، حيث لاحظ العلماء أن حركة المادة في الكون كله حركة دائرية، فكل ذرة من ذرات الكون مؤلفة من جزئي كهربيّ موجب، ويُسمَّى (البروتون)، وجزئيٍ كهربي سالب، ويُسمَّى (إليكترون)، وبعض الذرات تحتوي على جزء ثالث معتدل ويُسمَّى (النيترون)، هذا، ويشكل البروتون والنيترون في حالة وجوده كتلة النواة، أمَّا الإليكترون فهو يدور بسرعة دائرية هائلة، ولولا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإليكترون، ولم يكن هناك امتداد لأيّ مادة على الإطلاق، بل لولا هذا الدوران لكانت الأرض كلها – كما يقال – في حجم البيضة.
هذا الدوران هو سنة الله في الطبيعة، فالقمر يدور حول الأرض، والأرض تدور حول الشمس، وهكذا كل ذرة تدور في هذا الكون، والذي نريده هو: أن الشيء الدائر لابدّ أن تكون له نقطة بداية زمانية ومكانية ابتدأ منها.(3/205)
2- يقول «إدوارد لوثر كيسيل» في معرض ردّه على القائلين بأزلية الكون: (ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يُثبت خطأ هذا الرأي الأخير، فالعلوم تُثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا، فهنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة، ومعنى ذلك؛ أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام وينضب منها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة؛ ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًّا وإلاّ لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم – دون قصد – إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله؛ لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولابدّ من مبدئٍ، أو من محرك أول، أو من خالق هو: الإله).
فهذه الأدلة العلمية القاطعة تُثبت أن المادة غير أزلية، والآن أعرض فيما يلي الأدلة العلمية على أن المادة ليست أبدية.
الثاني: الأدلة العلمية الدالة على أن المادة ليست أبدية:
من أشهر هذه الأدلة:
1- ما سبق معنا من قانون الديناميكا الحرارية، فإنه قد جاء فيه: أنّ مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيًّا، وأنها سائرة حتمًا إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.. ولا شك أنه يدل على أن للمادة نهاية محتومة ستصير إليها.
2- ومنها قانون تحطم الشموس، وفحواه: أن ذرات الشموس تتحطم في قلبها المرتفع الحرارة جدًّا، وبواسطة هذا التحطم الهائل المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها، وكما هو معلوم فإن الذرة عندما تتحطم تفقد جزءًا من كتلتها حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة، فكل يوم يمر بل كل لحظة تمر على أيّ شمس فإنها تفقد جزءًا ولو يسيرًا من كتلتها، ومعنى هذا بالضرورة أن سيأتي الوقت الذي تستنفد الشموس كتلتها نهائيًّا؛ أي: أنها تفنى.
3- (جون كليفلاند كوتران) عالم الكيمياء والرياضيات يقول: (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد على سبيل الزوال والفناء، ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة، وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية..).
فهذه الأدلة كلها تدل على أن المادة ليست أزلية ولا أبدية، بل إنها مخلوقة وفانية، وبهذا يسقط دعوى الشيوعية في كون المادة هي الأصل، والحياة هي المادة.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 692-712) .
=======================
القول بالتطور
وذلك؛ في قولهم : إن الحياة إنما هي من نتاج المادة دون أن يكون وراءها شيء، بل تطورت ذاتيًّا، ونشأت تلقائيًّا حسب قوانين المادة التطورية، هذا ما يسمونه أيضًا بالقوانين الطبيعية.
هذه الشبهة مؤلفة من ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي، وهذا ما كان يقول به الشيوعيون في بداية أمرهم.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء، هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول كالفرضية أو النظرية، دعمًا لمواقفهم السابقة.
الجانب الثالث: القول بنسبة الخلق والحياة إلى الطبيعة، فهذا وإن كانوا في حقيقة أمرهم لا يُبالون بجانب البحث عن الخالق أو المسبب، إلاَّ أنهم قالوا بهذا القول رغم إنكارهم لذلك في كتاباتهم هروبًا من الكنيسة، وإله الكنيسة.
الجانب الأول: القول بالتطور الذاتي:
الرد عليه بما يلي:
إن هذا القول إنما هو محاولة تفسيرهم لظاهرة الحياة في المادة، فإنهم لمَّا أنكروا وجود الخالق – جلاَّ وعلا – لزمهم أن يقولون: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون الأولى، ثم نشأت بعد ذلك في الحياة: الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه، وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ.
قبل مناقشة هذه المسألة: لابدّ من طرح سؤال وهو: ما هو الدليل العلمي على أن الروح والفكر والإحساس ثمرة من ثمرات المادة؟
إن أدق ما قدمته الشيوعية من برهان على هذه الدعوى إلى الآن هو: أن الحياة تنشأ عن الحرارة ، والحرارة بدورها تنشأ من الحركة، أي أن: الحركة + حرارة = حياة.
ونحن نلجأ إلى نفس الأسلوب الذي تسير عليه الماركسية لضبط سلامة معارفنا، وهو التطبيق العلمي لنرى هل الحركة + الحرارة = الحياة؟(3/206)
ولنتساءل من الذي جمع هاتين الظاهرتين إلى بعضهما (بجهد من تطبيقه الخاص) بهذه البساطة أو بما شاء من التعقيد الكيميائي فاستخرج منها حقيقة الحياة؟... وهنا لابدّ أن يُعاد إلى الأذهان خبر المؤتمر الذي عقده ستة من علماء الحياة في كلٍّ من الرِّق والغرب في نيويورك 1959م، وكان فيهم العالم الروسي (أوبارين) أستاذ الكيمياء الحيوية في أكاديمية العلوم السوفيتية، أملاً في فهم شيء عن أصل الحياة ومنشأها على ظهر الأرض، وإلى معرفة مدى إمكان إيجاد الحياة عن طريق التفاعل الكيميائي.
لقد قرر المجتمعون في نهاية بحوثهم بالإجماع (أن أمر الحياة لا يزال مجهولاً، ولا مطمع في أن يصل إليه العلم يومًا ما، وأن هذا السرّ أبعد من أن يكون من مجرد بناء مواد عضوية معينة وظواهر طبيعية خاصة).
ثم إن الحقيقة التي أجمع عليها العلماء حتى الآن – مسلمهم وكافرهم – أن العلم لا يدري إلى اليوم شيئًا عن الحياة والروح، فهل تجميع الحرارة والحركة ينتج حياة بهذه البساطة؟ إن مما لا شك فيه أن كلاًّ من الحركة والحرارة من أبرز خصائص الحياة، ولكن من المفروغ منه في قواعد المنطق أن خواص شيءٍ ما ليست تعبيرًا عن الجوهر الذاتي الذي يقوم به؛ فالماء مثلاً في حالة الغليان يتصف بكلٍّ من الحركة والحرارة، وهكذا أن الحركة والحرارة خصيصتان من خصائص الحياة الدالة عليها كالأيدروجين والكربون والأوزون والأوكسجين، وغير ذلك من عناصر الحياة الأساسية، أما جوهر الحياة ذاته فشيء آخر لا يقف عليه إنسان.
ولهذا قال «انجلز»: (ليس في مكنة العلم الطبيعي حتى الوقت الراهن أن يؤكد شيئًا بخصوص أصل الحياة)، فهذا اعتراف منهم على أنهم ما وصلوا في خصوص الحياة إلى نتيجة علمية ثابتة، وإنما هذه الأقوال دعاوى كاذبة، وأحاجي فارغة تناقض حتى المبادئ العقلية.
فالإنسان ليس من صنع المادة؛ لأن المصنوع لا يحيط بصانعه، والإنسان قد أحاط بصورة المادة وخرج بها إلى دائرة الأثير، بل إلى عمليات رياضية فكرية في قدرة الإنسان أن يحتويها، وهذا لا يأتي إلا إذا كان في طبيعة الإنسان شيء يعلو على مكونات المادة، شيء مفارق لكل خصائصها المعروفة.
فمادة الكون الأولى، التي ليس فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، لا تستطيع أن ترقى إلى الكمال ارتقاءً ذاتيًّا، ولا تستطيع أيضًا أن تصنع أجزاءً فيها هي أكمل منها وأرقى، وذلك؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير تحول العدم إلى الوجود تحولاً ذاتيًّا؛ لأن القيمة الزائدة قد كنت عدمًا محضًا، والعدم المحض لا يُخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه، والمادة العمياء الصماء الجاهلة لم تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيّة مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها.
فهذه الدعوى – دعوى وجود الحياة نتيجة التطور الذاتي – كانت تقول بها الشيوعية في بداية أمرها، وكانت تقول: إن المادة تتطور من كمية إلى كيفية، ومصادفة يحدث في المادة شيء آخر، والحياة ما هي إلا نتيجة من نتائج هذه المصادفة في المادة في بعض مراحل تطورها، وتُمثل الشيوعية لها بالماء إذا زاد في غليانه يزيد في الحرارة، ولكن لما تصل الحرارة إلى 100% فإنه يصبح بخارًا، فأخذ شكلاً آخر في بعض تطورها، فيقال لهم: إن التطور في مثل هذه الأشياء أحدث شيئًا آخر ولكن ليس لذاتها، بل بفعل فاعل، ثم إن حدوث البخار من الماء شيء يمكن إثباته بالتجربة، فهل الحياة مثل هذا؟ هل يمكن إثبات الحياة في مادة ميتٍ ما على سبيل التجربة؟
ثم إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر قانونًا عامًّا ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقرر به، وهو وإن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.
إن التراكم في الكم لا يقتضي دائمًا التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك، إن الملاحظة تُثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطًا معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور، فمثلاً:
أ- بيضة الدجاجة الملّقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجيًّا حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذ يخرج من غُلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته إلى الأرض.
لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المُدَّعَى في المبدأ الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكوّن جنين البيضة تكونًا تدريجيًّا، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه، ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدَّد في نظام التكوين لسُلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.(3/207)
فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات، هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها الله عز وجل بقوله: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} .
إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الشيوعي، الذي يعتبرونه قانونًا شاملاً لكل تطور في الوجود، وهو أيضًا كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطورًا تدريجيًّا.
ب- والكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بيضة الأنثى، ويسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة فيه دبَّت الحياة فيه، ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدت، ثم يسير في نمو تدريجي أيضًا حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شابًّا، فكهلاً، ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخًا، فهرمًا، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسّخ جسمه، ويعود ترابًا كما بدأ من التراب، وقد يموت في أيّ مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمرّ في المراحل المعتادة للأحياء، وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء: في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.
هذا المثال الثاني كافٍ أيضًا لنقض كل ما قالوا في مبدأ التطور، ففكرة التراكم المقررة في المبدأ فكرة منقوضة، ذلك؛ لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي، وفكرة التطور السريع المفاجئ المقررة في المبدأ الشيوعي منقوضة أيضًا؛ لأن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ، (أو الصدفة – كما يقولون-).
فهذان المثالان من آلاف الأمثلة في نقض أقوال الشيوعية في القول بالتطور – على التفسير الذي يريدونه – وبنقض مبدأ التطور ينقض أيضًا مبدؤهم القائل بأن الحياة وظيفة من وظائف المادة، متى وصل تركيبها إلى وضع خاص بالتطور، فإن آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي أنفقوا في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلاّ من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية.
وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها، وصِفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم.
فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين الملحدين.
على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأيّ دليلٍ عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذي يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.
الجانب الثاني: القول بنظرية النشوء والارتقاء :
وكما سبق أن هذا ما مالوا إليه بعدما سمعوا أن داروين قد أظهر هذا القول، فوجدوا فيه غايتهم المنشودة، فقالوا بها دعمًا لمواقفهم السابقة، وقالوا: انتصرت المادة.
يقول (جون لويس): (لقد حول داروين ما كان يجول بخاطر العديد من المفكرين إلى فكرة ممكنة مقنعة، وهي أن عالم الحيوان لم يوجد نتيجة خلق واحدة، بل هو ثمرة تغيرات ارتقائية عملت على تحويل الأنواع التي ظهرت في عصور مبكرة إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا، والتي ظهرت في عصور متأخرة... والإنسان نفسه لم يُخلق بفعل خاص منفصل، بل هو ثمرة الارتقاء، ونظرية الارتقاء لا تستبعد قوى ما فوق الطبيعة من عملية الخلق فحسب، بل تضع بدل هذه القوى: تطور الحياة الطبيعي، وقد كان هذا تجديدًا مدهشًا).
فهذا القول يُظهر لنا مدى تأثر الماديين بهذه النظرية الخبيثة، وسيأتي بيان مجمل لهذه النظرية مع الرد عليها فيما بعد.
الجانب الثالث: القول بوجود الخلق من الطبيعة:
سبق أن ذكرنا: أن المادة والطبيعة عندهم شيء واحد، ولكنهم لما وجدوا ضغوطًا من الكنائس البابوية المنحرفة قالوا: الخلق إنما هو من الطبيعة. فلينظر مدى صحة هذا القول، وهل الطبيعة تصلح أن تكون خالقًا؟
في الحقيقة: إن هذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين – يظنون أنهم – نبغوا في العلوم المادية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي تُوجد وتحدثُ.
وهؤلاء نوجه إليهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته؟
فإننا نرى: أن الطبيعة في اللغة: السجية.
أمَّا في عقول الناس اليوم فلها مفاهيم:(3/208)
المفهوم الأول: أنها عبارة عن الأشياء بذاتها، (الكون نفسه)، فالجماد والنبات والحيوان كل هذه الكائنات هي الطبيعة.
وهو مفهوم غير دقيق وحكم غير سديد، فإن هذا القول يصبح ترديدًا للقول السابق بأن الشيء يوجد نفسه – بأسلوب آخر، أي أنهم يقولون: الكون خلق الكون، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، هذا القول لا يخرج بالطبيعة بالنسبة لخلق الوجود عن تفسير الماء بالماء، والأشياء أوجدت ذاتها، فهي الحادث والمُحدِث، وهي الخالق والمخلوق في الوقت ذاته، وقد سبق بيان كون العقل الإنساني يرفض التسليم بأن الشيء يوجِد نفسه، كما أن الشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلاً ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا بصيرًا عليمًا؟ هذا لا يكون، فبطلان هذا القول بيّن، فهو لا يخلو عن أمرين:
1- إمّا ادعاء بأن الشيء وجد بذاته من غير سبب.
2- وإمّا ازدواج الخالق والمخلوق في كائنٍ واحد، فالسبب عين المسبب، وهو مستحيل، بل هو من التهافت والتناقض بحيث لا يحتاج إلى الوقوف والشرح.
فإن قالوا: خلق كل ذلك مصادفة، يقال: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون – كما سيأتي-.
وكان مما ساعد على انتشار هذا القول: نظرية التولد الذاتي، وكان من أدلتها: ما شاهده العلماء الطبيعيين من تكوّن (دود) على براز الإنسان أو الحيوان، وتكون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده، فقالوا: ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها، وراجت هذه النظرية التي مكنّت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين والتائهين بعيدًا عن هدي الله الحق، لكن الحق ما لبث أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستير) الذي أثبت أن الدود المتكون والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًّا من الطبيعة، وإنما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقدير الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع غذاء وعزله عن الهواء وأمات البكتيريا بالغليان، فما تكونت بكتيريا جديدة ولم يفسد الطعام، وهذه هي النظرية التي قامت عليها الأغذية المحفوظة (المعلبات).
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم للطبيعة جليًّا وبينًا.
المفهوم الثاني: أن الطبيعة عبارة عن القوانين التي تحكم الكون؛ بمعنى أنها تعني صفات الأشياء وخصائصها، فهذه الصفات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، وملاسة وخشونة، وهذه القابليات: من حركة وسكون، ونمو واغتذاء، وتزاوج وتوالد، كل هذه الصفات والقابليات: هي الطبيعة.
إن هذا تفسير الذين يدَّعون العلم والمعرفة من القائلين بأن الطبيعة هي الخالقة، فهم يقولون: إن هذا الكون يسير على سُنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرًا طويلاً، فإنها تسير بذاتها دون مسيّر.
الردود:
1- إن هذا القول ليس جوابًا، وإنما هو انقطاع عن الجواب، وذلك؛
إن هؤلاء في واقع الأمر لا يُجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؛ ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا كيف يعمل القوانين في الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجِد الكون وموجِد القوانين التي تحكمه.
(كان الإنسان القديم يعرف أن السماء تُمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول الماء على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى إن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟
إن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة).
2- الطبيعة لا تفسّر شيئًا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجةٍ إلى تفسير، وذلك؛ (لو أنك سألت طبيبًا: ما السبب وراء احمرار الدم؟).
لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها 1/700 من البوصة.
- حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
- في هذه الخلايا مادة تُسمّى (الهيموجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب.
- هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل (الهيموجلوبين)؟
- إنها تُصنع في كبدك.
- عجبًا! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكَبِد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطًا كليًّا وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟
- هذا ما نُسميه «بقانون الطبيعة».
- ولكن ما المراد «بقانون الطبيعة» هذا يا سيادة الطبيب؟
- المراد بهذا القانون هو: الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.(3/209)
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلىنتيجة معلومة؟ وكيف تُنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا، بجميع ما لديه من الإمكانيات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلاَّ عن (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟).
هكذا يتضح من هذه الأسئلة عدم صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون، وأن من أمعن النظر في تعبير الطبيعيين يجد أنها جميعها أفعال مبنية للمجهول؛ لجهلهم أو تجاهلهم الفاعل الحقيقي.
3- إن مبدأ السببية متفق عليه بين المؤمنين والملحدين نظريًّا، فأين تطيقه عمليًّا؟ والمراد بالسببية هنا: أن الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بالعقل، منذ أن أشرقت أشعة عقله على الوجود بدأ يتساءل ولا يزال وسيبقى يتساءل عن بداية نشأته، وأين سينتهي مصيره؟ ويتساءل عن هذه الموجودات، والكائنات، كيف وجدت؟ ومن أوجدها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراءها؟
هذا المبدأ من المبادئ الثابتة التي لم تتغير على مدى التاريخ، وهو محل اتفاق بين المؤمنين والملحدين، أما المؤمنون فيقولون به نظريًّا وعمليًّا، وهذا أشهر من أن يقام عليه دليل، أمّا الملحدون، فهؤلاء أيضًا قالوا به نظريًّا، والدليل عليه ما يلي:
يقول «سبركين وياخوت»: (نواجه دائمًا في نشاطنا سؤالاً عن علل هذه الظواهر أو تلك، وهو أحد الأسئلة التي تساعد على تبيّن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تجري حولنا والتوصل إلى جوهرها، ولم يكن عبثًا؛ أن كتب الفيلسوف اليوناني «ديموقريطس» يقول: (لأفضّل أن أجد السبب الحقيقي ولو لظاهرة واحدة من أن أصبح قيصرًا على بلاد فارس). فإذن، ماذا تعني مقولتنا (السبب) و(النتيجة)؟ تعرف من الخبرة أنه (لا شيء) لا ينتج شيئًا، وكل ظاهرة لها ما يُولدها، وهو الذي يُسمّونه (السبب). السبب هو: ما يخلق وينتج ويولد ظاهرة أخرى، وما ينتج تحت تأثير السبب يُسمّى نتيجة أو فعلاً).
فهذا المبدأ العام الذي اعترف به الماديون الملحدون وأخذوا به من الناحية النظرية هل طبقوه من الناحية العملية؟
هذا ما سيتضح لنا عندما يطرح سؤال – وهو مثار خلاف جذري بين المؤمنين من جهة، وبين الماديين الملحدين من جهة أخرى- وهو:
ما هو السبب الكامن وراء هذا الوجود من أرض وسماوات ونبات وحيوانات وإنسان وغيره من المخلوقات؟
هذا السؤال نجد الإجابة عليه جاهزة وميسرة ومتوفرة عند الماديين، وهي أن هذا من الأمور الميتافيزيقية التي لا تهمنا بحالٍ من الأحوال، ولا نشغل عقولنا بها؛ لأنها أمور تافهة، والبحث عنها مضيعة للوقت، فكل شيء يخالف نظريتهم – ولو كان صحيحًا – لا يأخذون به ويصمونه بوصمة عار عندهم وهي إرجاعه إلى الميتافيزيقية، أو المثالية التي هي في عرفهم عدوة للعلم، فهم لا يعرفون إلا العالم المادّي، هذا العالم وجد، ولا خالق له، وبالتالي فليس له سبب أول أوجده.
وقد كتب «لينين» بصدد المفهوم المادّي عند فيلسوف العهد القديم (هيراكليت) يقول في ترجمة حرفية: (العالم، وحدة الكل، لم يخلقه أي إله ولا أيّ إنسان، ولكن كان وسيبقى نارًا حية أزليًّا تشتعل وتنطفئ بموجب قوانين... هذا عرض جيد جدًّا لمبادئ المادية الجدلية).
في هذا النص نرى أن «لينين» نفى السبب الأول في إيجاد العالم المادّي، وهذا نفي صريح للقانون الذي قرروه هم أنفسهم، حين وقفوا في تفسيره عند حدود معينة لم يتجاوزوها؛ لأن تجاوز هذه الحدود يؤدّي بهم إلى الاعتراف بخالق الكون، ومن ثَمَّ الاعتراف بالأديان، وهذا ما لا يرضونه.
والمقصود: بيان كون تفسيرهم لمظاهر الكون في وجوده وتغيره بالطبيعة وعدم تفسيرهم للطبيعة إنما هو هروب منهم لقانون السببية – المعترف به لديهم – فإن تطبيقهم العملي لهذا القانون سيؤديهم حتمًا إلى الاعتراف بخالق للكون. وهذا ما لا يستيسغونه مطلقًا.
وبهذا يظهر بطلان هذا المفهوم (الثاني) أيضًا للطبيعة، فما بقي إلاَّ أن يقولوا بالمفهوم الثالث حتمًا، وإن كانوا ينكرونه بشدة لما يترتب على الاعتراف به من إثبات وجود الله وبالتالي بمستلزمات هذا الإثبات التي هي عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا المفهوم الثالث بيانه ما يلي:
المفهوم الثالث: أن يقول: إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وهي قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة.. فإننا نقول لهم: هذا صواب وحق، وخطؤكم في أنكم سمّيتم هذه القوة (الطبيعة)، وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، وهو عرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعلينا أن نُسمّيه بما سمّى به نفسه سبحانه وتعالى.(3/210)
قال ابن القيم: (وكأنّي بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار! فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه؟
فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة، فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعة؟!
ويا لله! عن ذكر الطبائع يرغب فيها فهلاّ سميتَه بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلتَ في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفته به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد!
فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممّن لا فعل له ولا قدرة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلاَّ دخول في سلك المجانين والمبرسمين.
ثم قُل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادعيت فمعلوم أنّ مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربّها ومُبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذن من أدل الدليل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يُجْدِيْكَ تعطيلك ربّ العالم جحدك لصفاته وأفعاله إلاَّ مخالفتك العقل والفطرة.
ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل، ولا الفطرة، ولا الطبيعة، ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلاَّ من صانع قادر مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يُعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده.
قيل لك: فإذن أقررت – ويحك – بالخلاق العظيم الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه، فدَع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصوّر ربّ العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، وربّ المشارق والمغارب، الذي أحسن كل شيء خَلَقَه، وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته - بل وذاته- وأضفت صُنعه إلى غيره وخلقَه إلى سواه؟ مع أنك مضطر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بدّ، فالحمد لله رب العالمين.
على أنك لو تأمّلت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلّك على الخالق الباري لفظها كما دلّ العقولَ عليه معناها؛ لأن (طبيعة) فعلية بمعنى مفعولة، أي مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا ألبتة؛ لأنها على بناء الغرائز التي ركبت في الجسم ووضعت فيه كالسجية والغريزة، والبحيرة والسليقة، والطبيعة؛ فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.
ومعلوم أن طبيعة من غير طابع لها محال، فقد دلَّ لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دلَّ معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخر مربوب، وهي سنة في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد، ويقلب تأثيرها إلى ضدّه إذا شاء؛ ليُريَ عباده أنه وحده البارئ المصوّر، وأنه يخلق ما يشاء، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وإن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته..).
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 712-730 ) .
الشبهة(3) : القول بالمصادفة
وأن الكون أو الإنسان لا يحتاج إلى موجِد أوجده، بل وجد صدفة دون تقدير ولا تدبير، فلا خالق ولا موجِد له.
الرد على هذه الشبهة :
القول بالصدفة هو المخرج الثاني للقائلين بنظرية النشوء والارتقاء لأصل الإنسان، فإنهم لمَّا قالوا بنظرية الارتقاء والتطور، والنشوء سُئلوا عن أساس التطور، فأجابوا بأنه حدث فعلاً بالصدفة، وأن الحياة والكون إنما هما نتيجتا الصدفة، وقد سبق معنا الرد على نظرية التطور والنشوء والارتقاء، وأما القول بالصدفة فيقال في الرد عليها:
إن القول بالصدفة من الافتراءات الآثمة التي قال بها الغافلون عن الإبداع الكوني، وما في العالم من أسرار ونواميس هي أكبر شاهد على مدبر حكيم، إن ما يحدث في الكون من تقدير في الأرزاق والآجال، وما عليه الكون من إبداع، وما يحتوي عليه من أسرار لا مرد له إلى العشوائية والارتجال، فهي قضية من المسلَّمات التي اتفقت عليها الدلائل العلمية المادية، والبراهين العقلية المنطقية.(3/211)
فالدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالمصادفة، وترفض المصادفة في أية ظاهرة كونية ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون العلميون سواء أكانوا مثاليين أو ماديين، يبحثون باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضًا قاطعًا؛ لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في الكون دون أن تكون مسبوقة بسبب مكافئ لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر التي تحتاج إلى علم ومهارة حتى يكون قادرًا على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم ومهارة، وهكذا. فكيف بالكون كله وما فيه من متقنات لا حصر لها، أصغرها الذرة وأكثرها المجرة – في نظرنا -، وأدناها في الأحياء التي اكتشفناها الفيروس، وأعلاها فيما نشاهد: الإنسان؟
وللرد عليهم علميًّا، يُذكر ما يلي:
1- إن البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية، وهي تتكون من خمسة عناصر، هي: الكربون والأيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، ويبلغ عدد الذرات في الجزء الواحد (40) ألف ذرة، ولمَّا كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة (92) عنصرًا موزعة بقدر معلوم، فإن احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزئيًا واحدًا من جزئياتِ البروتين يمكن حسابه لمعرفة كميات المادة التي ينبغي أن تخلط خلطًا مستمرًا لكي تُؤلِّف هذا الجزئي. وقد حاول أحد العلماء حساب الفترة الزمنية التي يجب أن تستغرقها عملية خلط العناصر المذكورة هي (10) 243 سنة.... معنى ذلك أنه قبل وجود الكون وما بعد أيامنا هذه بمليون سنة أمامه (239) صفر، واشترط العلماء توفر مواد كونية تساوي حجم الكون مليون أمامه (431) صفر مرة، فهل هذا معقول؟ كل تلك الأرقام المستحيلة يطلبها قانون الصدفة لتكوين جزئي، واحدة من جزئيات الخلية الحية،... ألا يكفي خلق الإنسان من بلايين الخلايا [الحية] التي تحركها إشعاعة الحياة (تلك النفخة الإلهية العظمى في المادة)، ألا يكفي هذا لكي يؤمن الملحدون بالخالق الواحد الأحد الفرد الصمد؟).
2- يقول أحد الباحثين المعاصرين: إن (معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسمِّيها (الخلايا)، كما يتكون المبنى من مجموعة من الأحجار المرصوصة).
وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة الانقسام، وذلك الانقسام قد يكون لنمو الجسم أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخلايا لأسباب عديدة، وكل خلية من هذه الخلايا تتكون أساسًا من مادة عجيبة نطلق عليها اسم (البروتوبلازم).
وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة، ومن هذه المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم (الكروموسومات)، وعدد هذه الكروموسومات ثابت في خلايا كل نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة، فعددها في خلايا القط – مثلاً – يختلف عن عددها في خلايا الكلب أو الفيل أو الأرنب أو نبات الجزر أو الفول. وفي كل خلية من الخلايا التي يتكون منها جسم الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه الكروموسومات.
وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا، فإن كل خلية جديدة لا بد أن تحتوي على العدد نفسه من (الكروموسومات)، وهي ستة وأربعون، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنسانًا.
والخلايا – كما ذكرت – دائمة الانقسام. يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا، ونحن حتى الآن ما ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة – عملية انقسام الخلايا –، بل يكتفي العلم بوصف خطوات العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات (الميكروسكوب) العادي، أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني) الذي يكبر الأشياء تكبيرًا أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي.
إن جميع الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بد أن تحتوي – كما ذكرت – على ستة وأربعين كروموسومًا، فيما عدا نوعين من الخلايا؛ هما الخلايا التناسلية، أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى، إذ عندما تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين كروموسومًا، بل تحتوي على نصف هذا العدد؛ أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة وعشرون كروموسومًا فقط.
لماذا يحدث ذلك؟ يحدث هذا؛ لحكمة بالغة ولهدف عظيم، إذ إن الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) لا بد أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة) لتكوين أول خلية في جسم الجنين، وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة)، وبهذا الاندماج يعود عدد الكروموسومات في الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي وهو ستة وأربعون (كروموسومًا).(3/212)
وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين (كروموسومًا) توالي انقسامها فتصبح خليتين، ثم أربع خلايا، ثم ثمان خلايا، وهكذا حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من بطن أمه ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى يصبح إنسانًا كامل النمو في كل خلية من خلاياه ستة وأربعون (كروموسومًا)، كما هو الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده وجميع أفراد الجنس البشري.
إن اختزال عدد الكروموسومات إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقًا نتيجة مصادفة عمياء، بل لا بد أن يكون نتيجة تخطيط دقيق من قوة عُليا تعرف ماذا تفعل، وهي في الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقُضي على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني؛ أي أن هذا الترتيب لا بد أن يكون قد تَمَّ منذ تكوين أول جنين ظهر في الوجود. ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود قوة عُليا مدبرة مقدرة حكيمة؟ بل لا يمكن أبدًا أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلام، إذ إن المصادفة لا يمكن أن تتخذ مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات.
فهذه بعض الأمثلة من جملة عشرات الأمثلة للدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية، تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة.
وأما البراهين العقلية المنطقية فهي أيضًا تحيل وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالصدفة. وفيما يلي استعراض سريع لبعض هذه الأدلة:
1- إن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي يمكن أن توجد فيه الحياة على الوجه الذي نعرفه (إن حركة دوران الأرض حول نفسها إن أسرعت أو أبطأت عمَّا هي عليه؛ لطالت الأيام أو قصرت، ولتوقفت الحياة بسبب برودة الليل أو قيظ النهار، والشمس في نفس الموقع بالضبط الذي يمكنها من حفظ الحياة على الأرض، ودرجة حرارتها البالغة (6500) درجة مئوية هي على وجه التحديد درجة الحرارة اللازمة لكوكبنا، فلو انحرف متوسط درجة الحرارة صعودًا أو هبوطًا على الهامش الصغير الذي لا يتجاوز (28) درجة لانعدمت أمواج المد، فغمرت السهول والجبال وغطت كل شيء على ظهر الأرض تحت طبقة من الماء عمقها (2500) متر.
أما محور الأرض فإنه إن لم يكن على زاوية (23) درجة كما هو، فلن تكون هناك فصول، ولتحركت أبخرة المحيطات نحو القطبين: الشمالي والجنوبي، مكونة تراكمات هائلة من الثلج عند القطبين، تاركة وسط الأرض خاليًا تمامًا من الماء، لن تكون هناك عندئذٍ أمطار، وستخلو المحيطات من مياهها، وستنبعج الأرض عند خط الاستواء تحت ضغط الثلوج المتراكمة عند القطبين، وسيترتب على ذلك آثار هائلة.
أما الغازات التي يتكون منها الغلاف الجوي فإنها إن اختلفت عمَّا هي عليه فلن يستطيع أي شيء أن يبقى حيًّا، واحتمال أن يكون كل هذا وليد الصدفة احتمال متناهي الضآلة، ولا يعدو أن يكون واحدًا في المليار؛ ولذلك يقول « آينشتين » : (لا أستطيع أن أصدق أن الكون قد نتج عن رمية زهر).
2- لقد وجد من يقول: (لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها بلايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير – فكذلك الكون الموجود الآن، نتيجة لعمليات عمياء، ظلَّت تدور في المادة لبلايين السنين). هذا قول أحد الملاحدة من المنكرين لوجود الله، ويجاب عن هذه الفرية؛ بأن أي كلام من هذا القبيل (لغو مثير)، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ، فإن جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية مصادفة أنتجت واقعًا عظيمًا ذا روح عجيبة، في روعة الكون.
ثم إن الرياضيات التي تعطينا نكتة (المصادفة) هي نفسها التي تنفي أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة، ولهذا ردَّ على هذه الفرية عالم آخر من الغرب بقوله: (لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدًا، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في المائة، وإمكان أن نخرج الدراهم (1، 2، 3، 4) بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف... حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (1-10) بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات). وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خاليًا يصعب حسابه فضلاً عن تصوره.(3/213)
إن كل ما في الكون يحكي أنه إيجاد موجِد حكيم عليم خبير، ولكن الإنسان ظلوم جهول: { قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ*مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً}. كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في ذلك كله، في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صنع طعامه على هذا النحو المقدَّر الذي تشارك فيه الأرض والسماء. { قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}. وصدق الله في وصفه للإنسان: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}.
قال الإمام ابن القيم: سل المعطل الجاحد: ما تقول في دولاب دائر على نهر قد أُحكمت آلاته، وأُحكم ترتيبه، وقُدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه بحيث لا يرى الناظر فيه خللاً في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار والزروع يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلِمُّ شعثها ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها فلا يختل منها شيء ولا تتلف ثمارها، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام... أترى هذا اتفاقًا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر؟ بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقًا من غير فاعل ولا قيِّم ولا مدبر.. أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان؟ وما الذي يفتيك به؟ وما الذي يرشدك إليه؟
ولكن من حكمة العزيز الحكيم أنْ خلق قلوبًا عميًا لا بصائر لها – فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية – كما خلق أعينًا عميًا لا أبصار لها، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وهي لا تراها، فما ذنبها إن أنكرتها وجحدتها! فهي تقول في ضوء النهار: هذا ليل! ولكن أصحاب الأعين لا يعرفون شيئًا.
ولقد أحسن القائل:
وَهَبْنِي قلت هذا الصبح ليل أَيَعْمَى العالمون عند الضياء
أخيرًا : ما أقول، هو ما اعترف به كبار علماء الكون المعاصرين، من تراجع العلم المعاصر عن اعتبار الكون عن طريق المصادفة إلى إدراك أنه مظهر لخطة عليم حكيم قدير مهيمن على كل شيء.
يقول العلاَّمة الفلكي الرياضي البريطاني السيد (جيمس جينز): (لقد كنا قبل ثلاثين سنة – ونحن ننظر إلى الكون – نظن أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي، وكان يبدو لنا أن الكون يشتمل على ركام من المادة المبعثرة، وقد اجتمعت أجزاؤه بالمصادفة، وأنَّ عمل هذه المادة ينحصر في أن ترقص لبعض الوقت رقصًا لا معنى له، تحت تأثير قوى عمياء لا هدف لها، وأنها بعد نهاية الرقص ستنتهي هذه المادة في صورة كون ميت، وأن الحياة قد وجدت مصادفة خلال عمل هذه القوى العمياء، وأن بقعة صغيرة جدًّا من الكون قد نعمت بهذه الحياة، أو على سبيل الاحتمال يمكن أن توجد هذه الحياة في بقاع أخرى، وأن كل هذه ستنتهي يومًا ما، وسيبقى الكون فاقد الروح.
ولكن توجد اليوم أدلة قوية، تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة: بأن نهر العلم ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية.
إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكينة عظيمة. إن (الذهن) لم يدخل إلى هذا العالم المادي كأجنبي عنه، ونحن نصل الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال (الذهن) كخالق هذا الكون وحاكمه.
إن هذا الذهن – بلا شك – ليس كأذهاننا البشرية، بل هو ذهن خَلَقَ الذهن الإنساني من (الذرة، المادة)، وهذا كله كان موجودًا في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج معد سابقًا.
إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي أقمناها على عجل، لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو مهيمنة..).
فهذا التراجع يدلنا على أن مواقفهم غير ثابتة، بل هي واهية البنيان والأساس، وما الاستدلالات التي استدلوا بها على أفكارهم إلا ظنونًا وتخمينًا، فالعالم من خلق خالق مبدع حكيم مريد خلقه على خطة مسبقة معدٍّ، وهو يهيمن عليه ويحيط به في جميع أجزائه.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، للأستاذ أبوبكر محمد زكريا ، 2 / 734-744) .
============================
الشبهة(1) : قولهم: إن "الديمقراطية" توافق الإسلام في الجملة.
الجواب:
المخالفون لنا لم يثبتوا على جواب، إذا قيل لهم: لماذا قبلتم "الديمقراطية؟ فمرة يقولون: هي في بلادنا بمعنى "الشورى"، وفي القرآن سورة اسمها" سورة الشورى"، والله يقول: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ويقول الله: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } .
ومرة يقولون : "الديمقراطية" قسمان :
قسم يخالف الشرع، فنحن نكفر به، وهو: رد الحكم للشعب، لا لله.(3/214)
وقسم يوافق الشرع، وهو : حق الأمة في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتوليتهم وعزلهم، وهذا نؤمن به، ونسعى لخدمة الإسلام من خلاله!.
ومرة يقولون: نحن مُكرَهون على هذا كله.
ومرة يقولون: هو من باب أخف الضررين. ويتخلل ذلك أمثلة عقلية غير مطردة ولا صحيحة، فحدّث بها ولا حرج.
وأريد أن أكشف النقاب عمَّا في هذه الأجوبة من العجب العجاب :
- أما الجواب عن الأول ، فهذا تلبيس قد سبق بيانه بجلاء في هذا الكتاب.
- وأما عن قولهم: هي توافق الإسلام من جهة، أو توافقه في الجملة، مستدلين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وأن أبا بكر استخلف عمر، وأن عمر استخلف ستة، وجمع الأمر في أحدهم.
فأقول : لو سلمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه الإشارة بخلافة أبي بكر بعده، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وهو القائل: (ائتوني بكتاب، كي أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي، كي لا يتمنى متمنٍ..) إلى غير ذلك.. لو فرضنا حقاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فأين ما ذكرتموه من الدلالة على محل النزاع؟.
فنحن نسألكم: هل من حق الأمة أن تختار حكامها، بأي وسيلة ولو خالفت الكتاب والسنة؟.
فإن قلتم: نعم. فضحتم، وعلم الناس مذهبكم الفاسد، وتداعت عليكم سهام الأدلة من أطرافها، فأزهقت هذا الباطل، وأرست دعائم الحق.
وإن قلتم: لا، فليس للأمة الحق في اختيار ولاتها إلا بطريقة شرعية صحيحة، أو على الأقل بطريقة لم يرد في الشرع النهي عنها. قلنا: هنا انقطع النزاع.
وقد سبقت أدلة كثيرة تدل على بطلان هذه الجزئية، لأنها فرع من شجرة خبيثة، بل "الانتخابات" جذور "الديموقراطية" وسلمها الذي ترتقي عليه في تعبيد الناس لبعضهم البعض، بإتباع ما أحله لهم النواب، وترك ما حرموه عليهم.
فالله قد عاب على من اتخذ العلماء والعباد مشرعين من دون الله، قال الله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ..} الآية.
فكيف بمن يتخذ حطاب الليل مشرعين من دون الله؟!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
- وأما عن دعوى الإكراه، فمن المعلوم أن للإكراه شروطاً، فأين هذه الشروط منكم؟
- وكذا الكلام على قاعدة "أخف الضررين"، فهل راعيتم ضوابطها وقيودها عند أهل العلم، وكل هذا سيأتي الجواب عليه مفصلاً في موضعه – إن شاء الله-.
أما الأمثلة العقلية فالجواب عليها : أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، كما بسط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لا نظير له في بابه (درء تعارض العقل والنقل).
ولو كان العقل كافياً وحده لما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 163-165) .
الشبهة(2) : قولهم : إن الانتخابات كانت في صدر الإسلام.
قالوا: "اُنتُخِب أبو بكر وبويع"، وذكروا "انتخابات" عمر وعثمان! راجع (ص15) من كُتيّب (شرعية الانتخابات!).
الجواب:
هذا الذي قلتموه ليس بصحيح، لأمور، منها: لقد اتضح للجميع أن "الانتخابات" تقوم على مفاسد كثيرة، وقد ذكرناها سابقاً، فحاشا الصحابة من أن يكونوا قد ارتكبوا مفسدة واحدة من هذه المفاسد، فضلاً عن أن يكونوا قد فعلوا جميعها، فالصحابة اجتمعوا وتشاوروا: من يكون خليفة على المسلمين؟. وبعد الأخذ والرد، اتفقوا على مبايعة أبي بكر خليفة، ولم يشارك في ذلك امرأة واحدة، فكان ماذا؟!
وأبو بكر أوصى أن يكون الخليفة بعده عمر، فنفّذ الصحابة وصية أبي بكر، أما عمر فقد جعل الأمر شورى في "الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ"، وهم من العشرة المبشرين بالجنة.
فهذا هو الأمر الصحيح الثابت.
وأما عن استشارة عبد الرحمن بن عوف للنساء؟! فإليكم بيان الحق فيها:
هذه القصة أخرجها البخاري (7/61 مع الفتح)، وليس فيها ذكر استشارة عبد الرحمن للنساء. بل فيها: أن عبد الرحمن بن عوف قام بجمع الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم، وهم :
عثمان ، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن - رضي الله عنهم-، والقصة تذكر هؤلاء الستة أنهم أهل الشورى دون غيرهم، وهي ثابتة صحيحة.
وذكرها الحافظ ابن حجر في (الفتح 7/69) والذهبي في (تاريخ الإسلام ص 303) وابن الأثير في (التاريخ 3/36) وابن جرير الطبري في (تاريخ الأمم والملوك 4/231)، وليس عند هؤلاء : أن عبد الرحمن -رضي الله عنه- استشار النساء، وإنما يذكرون: أنه استشار الرجال، كما قال الحافظ، وأنه دار تلك الليلة على الصحابة، وعلى من في المدينة من أشراف الناس، لا يخلو برجل منهم إلا أمره بعثمان، وهكذا عند البقية المذكورين.
تنبيه:
ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية 4/151) استشارة عبد الرحمن للنساء، ولكن القصة كلها بدون سند عنده.
فعلى هذا التحقيق نستنتج أموراً :(3/215)
1- صحة القصة، وهي في (البخاري) أن عبد الرحمن اجتهد في الستة فقط.
2- أنه أيضاً استشار أشراف الناس، ومن قدم من الأجناد، وهذه القصة سندها عند الطبري، ولها طرق يقوي بعضها بعضاً.
3- قصة استشارة عبد الرحمن للنساء، ليس لها سند، ومعنى هذا أنه: لا أصل لها، أي لا وجود لها بسند يصحّ في كتب السنّة، كما قاله أكثر من واحد من العلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ومما يدل على أن ذكر استشارة النساء لا أصل له: أن أهل التواريخ – كما ذكرنا آنفاً – لم يذكروها حتى بدون سند، باستثناء ابن كثير رحمه الله تعالى.
هذا نقد القصة من جهة سندها، أما من جهة متنها: فهي أيضاً مخالفةٌ لنصوص شرعية، فاختيار الأمراء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عن طريقه صلى الله عليه وسلم وعن طريق الصحابة في الاستشارة، كما حصل من أبي بكر وعمر في شأن: الأقرع بن حابس وعيينة، والقصة في (صحيح البخاري) وغيره، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة باختيار الخليفة لهم، لم يطالب واحد منهم بمشاركة النساء في اختيار الخليفة، فضلاً عن أن يكون ذلك مشروعاً، كذلك جعل أبو بكر الأمر بعده لعمر، وعمر جعل الأمر في الستة المذكورين آنفاً.
فعلى فرض وجود سند لها – ولا يوجد – وعلى فرض صحته، فهي مخالفة لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة مِنْ قَبْلِ عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه-.
وعلى كل : فقد ظُلِم عبد الرحمن بن عوف عند أن نُسب إليه أنه يتعدّى ويخالف نصوصاً واضحة. ولكنه بريء من ذلك كما برئ الذئب من دم يوسف عليه السلام.
وعلى هذا: فلا يجوز أن تنسب هذه القصة إلى عبد الرحمن بن عوف، لأنها منكرة.
ثم لو سلّمنا جدلاً بأن عبد الرحمن بن عوف استشار النساء والصبيان، فالسؤال: هل استشار الفَجَرَة وأهل المُجُون والخلاعة من هؤلاء؟ أم استشار الصالحين: أهل الفهم والمعرفة؟.
فإن قلتم بالأول: سقطتم. وإن قلتم بالثاني؛ سقطت حجتكم، لأن محل النزاع في إباحة "الديمقراطية" هو أخْذُ الرأي من أهل المجون والخلاعة، واعتباره موازياً لرأي أهل العلم والفضل والاستقامة.
ومن المعلوم أن دولة الإسلام قد اتسعت رقعتها زمن عمر، فهل جَعَلَ عبد الرحمن أميراً مؤقتاً، ثم قسَّم ديار الإسلام إلى "دوائر انتخابية" ثم جمع أصوات المسلمين جميعاً، ثم رجّح من كثرت أصواته؟ أم أنه اقتصر على أهل المدينة مهبط الوحي، وفيها أهل الحل والعقد؟.
فأين هذا مما نحن فيه، وأين الثرى من الثريا ؟!!.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 166-169) .
الشبهة(3) : قالوا : يجوز الأخذ بجزئية من "النظام الجاهلي .
قولهم تحت عنوان : " موقفنا من النظم الأخرى " (ص19) من كُتيّب ( شرعية الانتخابات) : " ولكن هل يحرم أن نأخذ بجزئية من نظام جاهلي، وهذه الجزئية صحيحة ؟.
قالوا : يجوز ذلك، إن لم يتوجب عليك أن تأخذ بالجزئية الصحيحة النافعة المشروعة من مجموعة جزئيات تكوّن نظاماً يمكن أن نطلق عليه بمجموعه: "النظام الجاهلي".
قالوا: ودليلنا على ذلك شيئان:
الأول: هي مسالة الجوار، أي أن شخصاً يعلن أنه يجير فلاناً الفلاني، وبهذا الإعلان صار في حمايته، وهذا النظام أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ به أصحابه، فقد رضي بجوار عمه أبي طالب، ودخل مكة بجوار مطعم بن عدي". أ هـ كلامهم.
والجواب :
هذه القصة لم تثبت، أخرجها ابن إسحاق مُعْضَلَة، وكل من ذكرها كابن هشام وابن كثير اعتمدوا على رواية ابن إسحاق، فهي غير صحيحة، مع أن قصة جوار أبي بكر مع ابن الدغِنّة ثابتةٌ في (البخاري) وغيره. فكان الأولى بهم – لو أنهم يهتمون بنظافة الأسانيد – أن يستدلوا بما صحّ، لا بما هو ساقط السند. وهذه ثمرة قولهم: "ليس هذا زمان: حدثنا وأخبرنا، ولا نشتغل بقول من قال: حديث صحيح أو ضعيف، فإن هذا تضييع وقت".
ونأتي إلى مناقشة هذا الاستدلال، وادعاء أن هذا أخذ بنظام جاهلي، فنقول:
هذا الاستدلال على جواز أخذ نظام "الانتخابات" وغيره مردود من وجوه:
الوجه الأول :
هذه القصة على فرض صحتها، لا تنطبق على مسألة "الانتخابات"، لا من قريب ولا من بعيد، فما هي علاقة قضية "الانتخابات" بجوار النبي صلى الله عليه وسلم عند مطعم بن عدي؟ ألسنا نحن في بيوتنا؟. لسنا مشرّدين بحمد الله، ولا مطاردين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مطارداً، بخلافنا.
هذا الاستدلال في غير موضعه، ولا صلة له بالموضوع الذي نحن فيه، وما أكثر الفساد في الدين إذا كان الفقه هكذا...!
الوجه الثاني:
على سبيل الافتراض جدلاً أن قضية الجوار المذكورة يستدل بها على جواز الدخول في "الانتخابات"، فهنا سؤال، وهو:
هل حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل عن شيء من الحق حين آواه مطعم بن عدي إلى جواره؟ أو ارتكب شيئاً من المفاسد السابقة؟.(3/216)
الجواب: لا. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ما تنازل عن شيء من الحق. – هذا على فرض صحة القصة – فهل حصل من الذين دخلوا في "الانتخابات" تنازل عن حق أم لا؟.
الجواب: نعم . فقد تنازلوا عن أحكام كثيرة شرعها الله عز وجل، حرصاً على الوصول إلى مآربهم، وارتكبوا في سبيل ذلك كثيراً من المفاسد، كما سبق بيانها مفصلاً.
الوجه الثالث:
قولهم: "إنّ لنا أن نأخذ من أنظمة الكفر ما كان صحيحاً".
قلت: كلمة "صحيحاً" غير صحيحة، وأين الصحة من نظام "الانتخابات" الذي أخذتم به؟!.
أليس قد سبق أن قلنا: إن قبول نظام "الانتخابات" يوقع الآخذين له في مفاسد كثيرة، ومنها: الشرك بالله، - في كثير من الحالات- فما قيمة كلمة "صحيحاً؟ وهل يوجد في نظام الكفار قضية صحيحة، وليست موجودة في الإسلام، فيما يتعلق بما نحن بصدده من كيفية إقامة حكم الله في الأرض؟.
فالواقع يشهد أن ما عندنا في أي قضية من قضايا رعاية الحقوق، وإصلاح أحوال الناس، وإزالة الشرِّ، وتحقيق العدل، ونشر دين الله، هو أضعاف أضعاف، ما عندهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} المائدة. وقال تعالى : {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} البقرة. وقال تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمَْ} المائدة. وقال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون } الجاثية.
فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ليس عندهم إلا الهوى.
وعلى كلٍّ: فقد اتضح لنا من هذا كله؛ أن هذا تَقَوُّل على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام بدون علم وفقه، وأن سبب ذلك عدم رد المسائل إلى العلماء القادرين على إخراج الأمة من المزالق.
وأذكرهم بقول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } الحاقة.
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به على جواز أخذ نظام جاهلي جزئي على حد زعمهم فنصه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حضرت في بيت عبد الله بن جدعان حلفاً، قبل أن يكرمني الله بالنبوة، ما أود أن يكون لي به حمر النعم، اجتمعت بطون قريش، وتحالفوا على نصرة المظلوم بمكة، ولو دعيت لمثله لأجبت).
ووجه الدلالة : أن أولئك الذين اجتمعوا وكانوا ينتمون للنظام الجاهلي والعصبية الجاهلية، اجتمعوا على خصلة حميدة، وهي: تكاتفهم على نصرة المظلوم، فأجازها النبي صلى الله عليه وسلم وباركها". أ هـ، يُنظر كُتيّب (شرعية الانتخابات).
قلت: أما حديث شهوده صلى الله عليه وسلم حلف قريش فقد رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) والحاكم وصححه، وسكت عليه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة 4/524) وله شواهد أخرى عند الطبراني وغيره، فالحديث صحيح، وقد شهد هذا الحلف وأشاد به صلى الله عليه وسلم ، لكن: ما هو النظام الجاهلي الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحلف؟
الجواب: ما حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من هذا الحلف نظاماً واحداً، ولا قضية واحدة، فكيف جاز لهم أخذ نظام «ديموقراطي»؟ سواء أخذوا به كله أو ببعضه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخذ شيئاً من نظام الكفر.
واُلخِّص الجواب على استدلالهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحلاف التي كانت في الجاهلية، بما يلي:
اختلف العلماء في حكم هذه الأحلاف، فمن قائل: إن هذه الأحلاف نسخها الإسلام، وأبدلنا الله عنها بإخوّة الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام» رواه مسلم.
ومن قائل: إنها محكمة وباقية في نصرة المظلوم.
فعلى قول من يرى النسخ؛ فلا دليل لكم في هذا الإقرار لبعض أحلاف الجاهلية، وعلى قول من يرى أنها محكمة؛ فنسأل المخالف: هل ارتكب النبي صلى الله عليه وسلم أي مفسدة في إقراره لهذه الأحلاف؟ وهل تنازل عن شيءٍ من دعوته بسبب هذه الأحلاف؟
فإن قلتم: نعم، فبيّنوه لنا، وإن قلتم: لا، - وهو الصواب – فلماذا تستدلون به على نظام «الانتخابات» التي قد بيّنا الكثير من مفاسدها، ومن تنازلات مَنْ رفع لواءها.
ثم نسألكم: هل أنتم عندما قلتم: «إن أخذ جزئية نافعة صحيحة مشروعة من نظام جاهلي لا بأس بذلك»، اكتفيتم بهذه الجزئية النافعة على حد زعمكم، أم أخذتم النظام "الديمقراطي" ورضيتم بأن يكون تغيير المنكر – على حد زعمكم – من خلاله.
فأخبروني: ما هي بقية الجزئيات التي رفضتم الخضوع والرضوخ لها؟ حتى نقول: إنكم اقتديتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: نحن نكفر بحاكمية الشعوب، قلت: هذا كلام نظري، لكن ما بالكم سلمتم للأغلبية عمليًّا في المجالس النيابية.(3/217)
أما الرسول صلى الله عليه وسلم - مع شهوده بعض الأحلاف النافعة، وإقراره لها – فإنه تبرأ من كل أمر يخالف الإسلام، ولم يمارسه، بل هجر أهله وأماكنه والأسباب المفضية إليه، ولكن هكذا فقه الخَلَف، فرحم الله السَّلف.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 169-173) .
الشبهة(4) : قولهم في «الانتخابات»: إنها مسألة اجتهادية
يقولون في قضية «الانتخابات»: هي مسألة اجتهادية.
فنقول لكم : ماذا تعنون بقولكم: إنها مسألة اجتهادية؟.
فإن قلتم: أي إنها مسألة جديدة لم تكن معروفة في زمن الوحي والخلفاء الراشدين. فالجواب من وجهين:
1- أن هذا يناقض قولكم السابق بأنها كانت في صدر الإسلام، فتذكّروا ما تقولون وتكتبون، ولا تحملكم قناعتكم بفكرة، أن تقولوا قولاً لينفعكم في مجلس ما، ثم تحكمون عليه بالنقض في مجلس آخر، فلا يغرنكم عدم إدراك كثير ممن يسمعونكم لهذا التناقض، فإن في الزوايا بقايا.
2- نعم، لم تكن هذه الطامات موجودة في زمن الوحي، وليس معنى ذلك أنه ما لم يكن موجودًا بذاته في زمن الوحي، أن يكون الأمر متروكًا فيه للاجتهاد، ولا ينكر فيه على المخالف، فالعلماء في هذا ينظرون لكل حدث جديدٍ، ويردُّونه إلى الأصول والكليات، ويعرفون الأشباه والنظائر ويحلقونها بها، ومن ثَمّ يلحقونها بالحكم الأول إباحةً أو حظرًا، إيجابًا أو تحريمًا، وما نحن فيه قد سبق بيان مفاسده.
وإن قلتم : هي مسألة اجتهادية بمعنى: أنه لم يرد فيها نص، فالجواب السابق شامل لهذا أيضًا.
وإن قلتم: هي مسألة اجتهادية بمعنى: أننا ندرك حرمتها، لكن نرى أن الدخول في ذلك يحقق مصالح لا تكون دون هذا الدخول، وأنتم أيها السلفيون ترون المفسدة في ذلك، فهي اجتهادية، بمعنى تحقيق المناط، وتطبيق الأحكام الشرعية على الواقع القائم. وهذا مجال تختلف فيه الأنظار، فلا ينكر على أحد.
قلت : ولو سلمنا بذلك لكان لهذا وجه قبل خمسين عامًا مثلاً، وذلك عند ابتداء فرض هذه الفكرة – فكرة النظام الديموقراطي – على بلاد المسلمين، فالأنظار تختلف في الشيء الجديد.
أمَّا أنّ المسلمين لهم قدر ستين عامًا يلهثون وراء ذلك، وما رجعوا إلا بخفي حنين، فهل نضرب بتجارب المسلمين خلال أكثر من نصف قرن عرض الحائط؟ ونعيد أذهاننا إلى الوراء ستين عامًا؟ فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين». متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وإن قلتم: إنها مسألة اجتهادية بمعنى: أنها نِزاعيّة بين العلماء وليست إجماعية.
فالجواب:
من المعلوم أنه ينكر على مخالف الإجماع الصحيح، لكن بقي تفصيل في مسائل الخلاف:
فمنها: ما هو ظاهر الحجة لأحد الطرفين، مع وجود مخالف لهذا الأمر الظاهر، فليس معنى ذلك إرخاء الحبل لمن أخذ بأي قول.
وكم هي المسائل الإجماعية بالنسبة للخلافية؟
وبطون الكتب طافحة بردود أهل العلم على بعضهم البعض، في مسائل لم تسلم من وجود مخالف فيها.
نعم، هناك مسائل خلافية تتجاذب فيها الأدلة، ولا يوجد وجه صريح أو ظاهر في الترجيح، فعند ذلك يتنزل قول أهل العلم: «المسائل الخلافية لا يتعين فيها الإنكار».
وألفت النظر في هذه العبارة إلى أمرين:
الأول: استقراء وتتبع المواضع التي ورد فيها هذا القول من أهل العلم: هل ورد ذلك في مسائل تُفضي إلى مثل تلك المفاسد السابقة؟ أم في مسائل دون ما نحن فيه؟
الثاني: قولهم: «لا تعين»، ليس معناه أنه لا يجوز، بل من سكت فلا إثم عليه، ومن أنكر بالشروط الشرعية في الإنكار، المفضية للمصلحة الشرعية، لا للمفسدة، فهو جائز، بل مستحب.
ثم إني أسأل سؤالاً آخر، فأقول: وهل أنتم – معشر القائلين بأنها مسألة اجتهادية، لا يُنْكَر فيها على المخالف – التزمتم بهذا القول مع إخوانكم طلبة العلم الذين أنكروا ذلك، ولم يشاركوكم في هذا؟ أم قلتم: «هم إخوان الاشتراكيين من الرضاع»؟! ومنكم من قوّى نسبتهم وصلتهم بالاشتراكيين فأطلق: أنهم اشتراكيون وعملاء للحكام، وغير ذلك من التهم التي لو عاملناكم بظاهر أعمالكم، وجازفنا كما تجازفون، لقلنا: إن هذه الفِرَى أنتم أحق بها وأهلها.
لكن يحملنا ديننا وخوفنا، من يومٍ تُنشر فيه الصحف، فتَبْيضُّ فيه وجوه، وتَسْوَدُّ وجوه، على عدم معاملتكم بالمثل.
والشكوى إلى الله - عز وجل -، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 174-176) .
الشبهة(5) : قولهم:إن «الانتخابات» من المصالح المرسلة .
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة!
الجواب:
1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها، وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها، عُمِل بها، ومتى لم تتوفر، لم يُعمَل بها.
2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأتِ نصٌّ فيه بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراجها تحت أصل عام.(3/218)
وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَل الشارع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات 4/210):
« فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج» ا هـ.
فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، ومنها: مصلحة عامة أو خاصة، أما ما نحن فيه، ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة، إلى المفاسد المحرمة، والله أعلم.
وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وهكذا التابعون وأتباعهم، فتأليف الكتب الفقهية، وكتب اللغة العربية، وكتب علوم الحديث، وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها .. إلى غير ذلك من المصالح، وكما ذكرنا سابقاً أنها ليست من الأصول، وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ، والتشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23)، ورفع المشقّة والعسر والحرج.. الخ، كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد.
فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تُراعى، فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها، فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟
وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر – إن شاء الله -.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 177-178) .
الشبهة(6) : قولهم: إن «الانتخابات والحزبية»أشياء شكلية، وليست جوهرية
نقول:قولكم في هذه الأشياء: إنها شكلية وليست جوهرية، مغالطة واضحة.
1- كيف تكون شكلية، وفيها بذل أموال؟ وفيها مواجهة للأعداء كما تزعمون؟! وفيها حب وبغض؟ وفيها تقرّب إلى الله – على حد زعمكم -؟!
2- كيف تكون شكليةً، وظاهر حالكم قولاً وعملاً أنها المنهج الوحيد والخيار المناسب لإقامة دين الله؟ فهل أنتم صادقون مع أنفسكم في هذا القول؟
إن قلتم: نعم. فأين الشكليات في مسألة من أهم مسائل الدين، وهي: تمكين التوحيد في الأرض؟
وإن قلتم: لا، لسنا مصدّقين لأنفسنا في هذا القول، فحسبكم هذا من أنفسكم. والله المستعان.
والإسلام كله جوهر – إن صح التعبير – فهو العقيدة الصحيحة الراسخة، والتوحيد الشامل، والولاء والبراء، والخضوع للحق، وليس فيه قشور، بل كله لباب وخير.
3- الشكلية التي تتكلمون بها، قد حذّر منها الإسلام؛ لأنها من أعمال المنافقين، يُظهرون خلاف ما يسرّون، ويقولون خلاف ما يفعلون، ويفعلون خلاف ما يؤمرون، قال الله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} المنافقون . ورصيد المنافقين هو شكليات؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى عن صلاتهم: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ..} النساء.
هذه هي الشكليات التي حذَّر منها الإسلام، ولكنها شكليات تضر وترمي بصاحبها في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} النساء.
فالله عز وجل قد دعا عباده إلى الصدق في عبادته والإخلاص، والخوف من عذابه، والرضى بحكمه، والتسليم لشرعه، والمراقبة لأمره ونهيه، والتوكل عليه، والثقة به، والأنس بكلامه. فهذه جواهر.. والإسلام يدعو إلى هذا كله.
4- الظاهر أن عندكم جرابًا للمصطلحات! فأنتم على استعداد أن تملئوا الدنيا بالمصطلحات التي تشغلون بها المجتمع وطلبة العلم، وتروّجون لها، وتخدعون بها الناس إلى أجل قريب، والأحكام جاهزة لكل ما يناسب نظامكم وأهواءكم.
والدمج عندكم مشروع: أن يندمج الحق بالباطل، والباطل بالحق، إذا كان في ذلك مصلحة تتماشى مع الحزبية في نظركم.
وهذا نقوله لا من باب الشماتة – والذي نفسي بيده – ولكن للأسف أن هذا واقع، ومن حق المسلم على المسلم الصدق والوضوح في النصيحة.
وقد تكلمنا كثيرًا في المجالس العامة والخاصة، فما رأينا تجاوباً يُذْكَر، بل رأينا الاستمرار في مخالفة الشرع، والجد في التحذير من أهل السنة، ورميهم بأبشع التهم، والتدخل في ضمائرهم، والطعن في إخلاصهم وصدقهم.. الخ.
فكان لزامًا علينا أن نظهر الرد كما أظهرتم خلاف الحق.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 178-180) .
الشبهة(7) : قولهم: دخلنا الانتخابات وما قصدنا إلا الخير
ويريدون أن يقولوا: ليس علينا إثم لحسن نياتنا، وصلاح مقصدنا؛ لأننا لا نريد إلا نصرة الإسلام.
ولكن نقول لهم:(3/219)
كم من مريد للخير لا يصل إليه، ولا يوفّق له بسبب اقتصاره على النية الطيبة، وإهماله للبحث عن الحق، ومن المعلوم قطعًا أن كل عمل لا يقبل عند الله إلا بشرطين:
1- أن يكون العمل خالصًا لله.
2- أن يكون موافقًا لهدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا افتقد أحد الشرطين، فلا يُقبَل العمل عند الله.
فنحن من باب التسليم الجدلي نسلم أنكم جميعًا قصدتم الخير، فهل هذا يكفي في أن يكون العمل صحيحًا، وهو مخالف للشرع؟ أم لا بد من الموافقة الشرعية كمًّا وكيفًا وصفةً وهيئةً، بدايةً ونهايةً، في الأصل والفرع، في المكان والزمان؟!
ولا شك أن الثاني هو الجواب.
وإليك بعض الأدلة على ذلك:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ». متفق عليه من حديث عائشة، وفي (صحيح مسلم): «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ».
و«مَنْ» مِنْ ألفاظ العموم، وهذا عمل، وهذا إحداث، فهو مردود.
وقد رُدّت بالفعل عبادة المبتدع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعته». رواه الطبراني والبيهقي والضياء من حديث أنس رضي الله عنه.
فهذا متعبِّد، أجهد نفسه، وشمّر في عبادة ربه، ومع هذا لم يتقبل الله منه شيئًا من ذلك، مع حبه للأجور عند الله، وإخلاصه العمل، لكنه لم يبحث عن شرعيته.
فكلما تاب وَجَدَّ في التوبة، فهي مردودة عليه، مهما حسنت النية، وعظم المقصد، فلا يخرج صاحبه من أخطائه أبدًا.
وفي (الصحيحين) من حديث أسامة أنه قال: «تبعت ومعي رجل من الأنصار رجلاً من المشركين، فلما وجد أننا سنقتله قال: «لا إله إلا الله» فتأخر صاحبي، وضربته حتى برد، أي: مات، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله»؟ قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا، فقال: «أشققت على قلبه؟ فكيف تصنع بـ «لا إله إلا الله» إذا جاءت يوم القيامة»؟ قال: فلم يزل يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ».
انظر: فهذا أسامة ما أراد إلا نصرة الإسلام، وهل أراد بذلك شرًّا؟ بلا شك: لا، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لامه على فعله، ولم يعذره بحسن قصده.
ولأهمية هذا القصد ألّف العلماء الكتب الكثيرة في التحذير من البدع وأهلها.
والبدعة هي: التعبُّد لله بما لم يشرعه، ولا شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم، وارجع إلى كتاب: «الاعتصام» للشاطبي، فقد أجاد وأفاد رحمه الله في الكلام على خطورة البدع، وبيّن أقسامها وشُعَبَها.
ولو فُتِح المجال لأصحابِ هذا القول: «أنا نيتي طيبة، ومقصدي حسن». لأدى إلى أن يقتل القاتل، ويقول: أنا نيتي طيبة، ويشرب الخمرَ الشاربُ، ويقول: أنا نيتي طيبة.
وهذا عمل قلبي ليس لنا قدرة على إثباته ولا نفيه إلا بدليل خارجي.
فالله عز وجل قد أرشدنا إلى الأخذ بظاهر الأمور، وهو يتولى السرائر، ولهذا قال عمر كما في «البخاري» وغيره: «إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إنّ سريرته حسنة».
فليس عندنا استعداد أن نقبل من يدعي صلاح قلبه، وعندنا أدلة واضحة على أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن، وفساد الظاهر دليل على فساد الباطن. قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله». متفق عليه من حديث النعمان.
ومن عُلِم منه الصلاح، فحصل أن زلّ بكلمةٍ أو فعلٍ، فهذا يحمل على حسن مقصده، ويبقى عليه تبعة العمل الذي زلّ فيه.
أما من عُلِم بالمخالفات الشرعية ولم يقبل الحق، فهذا لا يحمل هذا المحمل.
والذي يظهر أن قيادات الحركات الإسلامية يعرفون أن "الانتخابات" حرام، ولكنهم سائرون على ذلك مهما كانت الظروف. ونحن نحسن الظن بكثير منهم، أنهم أرادوا بذلك نصرة الإسلام، لكن كم من طالب للحق لا يدركه، ولا يعني ذلك أننا نتألى على الله، وندعي أن الله عز وجل يحرم فلانًا الأجر أم لا، إنما الذي يهمنا بيان الحكم الشرعي فيما نحن بصدده، أما الآخرة فالناس فيها عند حَكَمٍ عدل، لا يظلم الناس شيئاً.
لكن إذا أردنا حقًّا أن ننصر الإسلام، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والله المستعان.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 180-183) .
الشبهة(8) : نحن دخلنا«الانتخابات» من أجل أن نقيم دولة الإسلام!
يقولون: نحن ندخل في «الانتخابات» من أجل أن نقيم دولة الإسلام!
فكيف يقيم دولة الإسلام، ويحكم بشرع الله، من بدأ بالتنازل من أول وهلة؟! أليس قانون «الانتخابات» جزءًا من الدساتير العلمانية المستوردة مِنْ قِبَل الكفار؟
الجواب : بلى.(3/220)
فإذا كانوا حقًّا سيقيمون دولة الإسلام على حد زعمهم فلماذا ما يبدأون بإقامتها برفض «الانتخابات»، ويقولون: نحن ما نقبل «الانتخابات»؛ لأنها نظام طاغوتي؟
ما سمعنا أحدًا منهم تبرأ ورد هذا البلاد. فعند خضوعهم للدستور في قضية «الانتخابات» صاروا محجوجين بهذا التنازل، إذا أرادوا أن يصححوا أي حكم من أحكام «الديمقراطية».
كيف يرضون أن يحكمهم نظام الغرب، ويقولون: نحن سنقيم حكم الله؟ فالقضية قضية شعارات فقط.
ونحن نعد هذا التصرف من إخواننا تنازلاً، وهم دائمًا يُهبطون على سلّم التنازل، وعلى سبيل المثال: كانوا يقولون: سنقيم دولة الإسلام، ودندنوا بهذه الكلمة، ثم ما شعرنا إلا وعندهم شعار جديد، وهو: { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ }.
فتنازلوا من إقامة دولة، إلى الإصلاح ما استطاعوا على حد زعمهم!
ولا شكّ أن المسلمين يصلحون ما استطاعوا.
وهذا الشعار الذي أبدوه أخيرًا من جملة تنازلاتهم، ومفاده أنهم قد فشلوا في إيهام الناس حول إقامة دولة الإسلام، وما داموا على سلم التنازلات فنخشى أن يضيعوا أكثر فأكثر، لأن الانحرافات تبدأ شيئًا فشيئًا، وصدق الله إذ يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } النور.
فانظر إلى نهاية الذي يريد الإصلاح ما استطاع، إذا به يأمر بمخالفة الشرع باسم المصلحة، والتنازل عن شيء من الحق، سبب لإنزال العذاب الإلهي عاجلاً وآجلاً، قال الله سبحانه وتعالى:{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } الإسراء.
إذن فما قيمة التنازلات؟ وما مدى الانتفاع بها، إذا كان هذا المتنازل سيذوق من الله سوء العذاب في الدنيا والآخرة؟ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} .
فالكفار هنا لا يطلبون من النبي × أن يترك دينه؛ لأنهم قد علموا أنه لا يترك دينه؛ لكنهم يطالبونه بالتنازل، ولو في بعض الحقّ، فربنا يمتنّ على نبيه صلى الله عليه وسلم بما منحه من الخير والفهم الصحيح والثبات والعصمة عند مواجهة المشركين. وأفادت الآية أن اكتساب أصحاب الزعامات والسلطات، ليكونوا في صف الدعوة على حساب الدعوة إلى الله؛ لا يجوز، لأن التنازل عن شيء من هذا الدين، باسم تحقيق مصلحة الدعوة ؛ لا يجوز، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } المائدة.
خاب وخسر من ظن أنشه سيعيش سالماً، ويتنازل عن شيءٍ من الإسلام، وهو في مقام الدعاة والعلماء والقدوة الحسنة.. وإلى الله المشتكى.
تنبيه:
كثير من الناس يطلق قوله: نريد أن نقيم دولة إسلامية، ونحن – ولله الحمد – في بلاد إسلامية، ليست كافرة، وإن كان فيها كثير من المخالفات الشرعية، إلا أن ذلك لا يسوّغ تكفيرها، وإخراجها من جملة البلاد الإسلامية. وإذا جارينا غيرنا في هذا الاصطلاح، فمرادنا به: قيام الدولة الإسلامية الراشدة، التي تسير على منهاج النبوة ما أمكن، فليُتَنَبَّه لهذا، والله أعلم
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 184-186) .
الشبهة(9) : قولهم: إقامة الشريعة يكون بالتدرج
يقولون – وهو من باب المغالطة – لمن قال لهم: أنتم ما حققتم في خلال هذه الفترة شيئًا يذكر، يقولون: «إقامة الشريعة تكون عن طريق التدرّج»!
وهذا ليس بصحيح؛ لأمور، منها:
1- تكون إقامة الشريعة عن طريق التدرج بالطرق الشرعية، لا بالأنظمة الغربية.
2- هذا الكلام يقوله دعاة «الانتخابات» الإسلاميون، لكي يقنعوا الناس بـ«الانتخابات»، والدخول فيها، وأما أعضاء مجلس النواب من الإسلاميين، فهم ليسوا حول إقامة الإسلام بالتدرج ولا بغيره، بدليل أنهم كلما جاء حُكْمٌ، وافقوا عليه مهما كان فيه من المخالفة الشرعية، دون أي تأخّر، إلا من رحم الله سبحانه، وذلك تحت مبررات واهية، هذا إن استُشيروا، وأما إن قُطِع الأمر دونهم، فهذا أمر آخر، وما أشبه حالهم بمن قال:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يُستأذنون وهم شهود(3/221)
3- لماذا لا تشرحون طريقة التدرج هذه؟ فأنتم تركتموها مفتوحة – والله أعلم – من أجل أنكم كلما أراد أن يحتجّ عليكم محتج، قلتم: أما نحن فقد قلنا: «إن تطبيق الشريعة بالتدرج»، وأظن - والله أعلم - أنكم ما دمتم هكذا فقد تقوم الساعة، وما حققتم هذا الهدف.
4- ليس لكم حُكْمٌ نافذ إلا من العلمانيين، وليس في أيديكم شيء وإن كثرتم، فلا تكونوا خياليين؛ لأنكم سلّطتم القانون على أنفسكم، فاتقوا الله، وكونوا مع الصادقين.
وعلى هذا فدعوى: أنكم ستقيمون الشريعة بالتدرج، دعوى عارية عن الحقائق والأدلة.
وأخشى – والله – أن تضيّعوا بقية ما عندكم من الخير، باسم أنكم في التدرج.
والله سبحانه وتعالى يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ } الصف.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 186-188) .
الشبهة(10) : قولهم: عدلنا الدستور من علماني إلى إسلامي !
ويقول بعضهم: أبشر أيها الشعب، فقد جعلنا «الدستور» إسلاميًّا!
وأما نحن فلسنا من هذا الصنف، صنف الذين أرهقوا أسماع الناس بقولهم: «أبشروا، فقد عدّلنا الدستور».
ماذا عملت يا مسكين؟! الحبر على الورق مكسب إعلامي فقط، أمَّا الواقع فلا نرى إلا ما هو أشد، ونسأل الله صلاح المسلمين.
ومادة التعديل هي: «الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات».
أسألك يا فضيلة المفتخر بتعديل الدستور: هل القرآن الآن هو السائد، والمرجع في كل الشؤون، أم الدستور؟
ماذا يغنينا تعديل مادة بحبر على ورق فقط، وبقية المواد تنضح بالباطل؟
وانظر ما بعد هذه المادة في «دستورنا» اليميني، وهي التي تلي المادة المعدّلة، وهذا نصّها: «الشعب مالك السلطة، ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر، عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يزاولها عن طريق غير مباشر: عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية»!
فماذا أبقت هذه المادة للمادة المعدَّلة؟ وأين عيونكم عند أن عدّلتم مادة على حد زعمكم، وما عدّلتم بقية المواد؟
وقد أُقيمت دولة الإسلام من مشرقها إلى مغربها بحكم القرآن، وما احتاجوا إلى سطر واحد من مناهج اليهود والنصارى وغيرهم.
تنبيه:
حصل تعديل في بعض المواد، ولكنها لا تُسمِن ولا تغني من جوع، ومن أشهر ذلك تعديل مادة القسم، وهذا نصها: «أقسم بالله العظيم: أن أكون متمسكًا بكتاب الله وسنة رسوله، وأن أحافظ على النظام الجمهوري، وأن أحترم الدستور والقانون»!
والواقع أن «الدستور أو القانون» هو المحترم، وليس بكافٍ أن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حد زعمكم، فإن معنى هذا الكلام تجميد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل كان الصواب أن يقال: «أقسم بالله العظيم: أن أحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحكم بغيرهما».
والأيام القادمة ستظهر لنا كل شيء، ويعرف كل واحد ما الذي وصل إليه.
أما الذين يدندنون بأنهم عدّلوا «الدستور»، إما أنهم جهلة بما يتكلمون به، وإما أنهم يعلمون حقيقة الحال، فإن كانوا جهلة؛ فلا يستحقون أن يكونوا قادة للأمة، وهم يجهلون واقعًا يدركه الباعة في الأسواق، والشحاذّون في الطرقات، والمكنِّسون في الشوارع.
وإن كانوا يعلمون حقيقة الحال، وأن هذا التعديل حبر على ورق وليس له أي واقع، بل لا يستطيعون هم أنفسهم أن يحتجوا به ويستدلوا به، فمعنى ذلك أنهم يُلبِّسون على الأمة، وفاعل ذلك غاشّ للأمة، وليس ناصحًا لها، وهذا يزحزحه عن مرتبة القيادة والتوجيه.
واذهبوا واسألوا جميع الطبقات والطوائف عن أحوال المسلمين في مجالسهم التشريعية، ومعاملاتهم، وإعلامهم، ودوائر الحكومات، ومحافلهم، وغير ذلك: هل الكتاب والسنة عندهم فوق الدستور والقانون، أم لا؟
ومثلكم لا يخفى عليه الجواب، ولكن الشكوى إلى الله في كيلكم بصاعيْن: فلو عمل أهل السنَّة من الأخطاء عشر معشار ما تعملون؛ لرميتموهم بالغفلة والسطحية، والسذاجة، وعدم فقه الواقع، بل رميتموهم بذلك وهم بعيدون عن كل ما يخالف شرع الله.
فإلى الله المشتكى.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 188-190) .
الشبهة(11): قولهم: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء
يقولون: نحن لا نريد أن نترك الساحة للأعداء، من علمانيين واشتراكيين وغيرهم!
الجواب:
ونحن أيضًا ما نريد أن يكون لأعداء الله سبيل على مؤمن، ولكن نقول للإخوة: ماذا أعددتم لهذا العمل؟ فإذا كنتم تأخذون بنفس وسائلهم، وتخضعون لقوانينهم، فلن تحصلوا على شيء إلا على التنازلات تلو التنازلات.
وقد يقولون: نحن نحرص على أن تكون الأغلبية في مجلس النواب معنا، ونفترض أنكم حصلتم على الأغلبية، فهل يجوز لكم أن تحكموا بحكم الأغلبية؟
الجواب:
لا يجوز، وقد كنا نسمع هذه النغمة، وهي: كيف نترك الساحة للأعداء؟(3/222)
وهل تحبون أن يتولى عليكم علمانيون أو اشتراكيون أو غيرهم، يمنعونكم من التدريس والدعوة إلى الله، ويصادرون الإسلام؟ هكذا نسمع كثيرًا من القوم.
والواقع يثبت لنا أن هذه النغمات هي من باب الدعاية الانتخابية، وإلا فما هي الثمرة خلال أكثر من ستين عامًا؟
فقد حصلوا على نسبة كبيرة في المجالس النيابية في الباكستان وفي تركيا وفي الأردن وفي الكويت وفي مصر وفي اليمن وغيرها، ولم يحصل أنهم غيَّروا من مناهج الخصوم، بل خدموهم وتحالفوا معهم في أكثر من بلد، وهذا واضح كوضوح الشمس.
أما نحن فلا نحب أن يتولى أحد إلا الصالح، فإن لم يوجد صالح، ولم يتيسر، صبرنا على حكامنا الموجودين، ونصحناهم بالكتاب والسنة، فإن أمروا بمعصية؛ لم نطعهم، وذكرناهم بأيام الله في الأمم السابقة، عندما أعلنوا بالمعصية، وحاربوا الله بالانحراف عن نهجه، كيف نقض الله بنيانهم، وأذهب ملكهم، وسلّط عليهم الأعداء، فأخذوا ما بأيديهم، وساموهم سوء العذاب، فلسنا أصحاب حماس فارغ، ولا ثورة تضر أكثر مما تنفع، ولسنا ممن يدق أبواب السلاطين، ولا ممن يمد يديه إليهم، ولا نبرر انحرافهم عن الصراط المستقيم، وهل كان منهج سلف الأمة إلا هذا؟
لكننا ابتلينا في هذا العصر بأقوامٍ إن أعطاهم الحُكّام من دنياهم ووظائفهم رضوا، وقالوا: هؤلاء الحكام أحسن من غيرهم، وإن منعوهم؛ سخطوا وفزعوا إلى المساجد والمنابر يكفرونهم، ويدعون إلى الجهاد ضدهم، ويحرضون عليهم.
فإن حاججناهم بمنهج السلف الذي يأمر بالنصح وعدم التشهير المفضي على الشر، قالوا: أنتم عملاء للحكام!
ولستُ أدري من أحق بهذا الوصف؟ أهو الذي يهرب من مجالسهم، أم الذي يقف عند أبوابهم صباح مساء ؟!!
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 190-192) .
الشبهة(12) : قولهم: نحن مكرهون على دخول الانتخابات والبرلمانات
والجواب:
الإكراه في الاصطلاح: حمل الشخص على فعل أو قول لا يريد مباشرته. هذا تعريف الإكراه.
وعليه فلا بد من مُكْرِهٍ (بكسر الراء)، ومن مُكْرَهٍ (بفتح الراء).
وهذا ما دلّ عليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ } النحل. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وُضِعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». رواه الطبراني عن ثوبان. فدلّت الآية والحديث أن هناك من يُكْرِه المسلم على فعل محرم، أو قول محرم.
والعلماء يقسمون الإكراه إلى قسمين:
1- مُلجئ. وضابطه: أن يُهدَّد بالقتل، أو بما لا يطيقه، مع توقع حصول ذلك الفعل، وأقوال العلماء في تحديد الإكراه متقاربة، ولهذا رأي المتأخرون أن يقسموه على قسمين.
2- إكراه غير مُلجئ. وضابطه: أن يُهدَّد الإنسان بما لا يؤدي إلى هلاكه، أو يكون المُهدِّد (بالكسر) ليس عنده قدرة ولا سلطة على ذلك، والأخذ بالرخصة من أجل الإكراه في الدين جائز بهذا الشرط.
ولنأتِ إلى إخواننا فنقول لهم: مَن الذي أكرهكم على الدخول في «الانتخابات»؟
فإن قالوا: هم أكرهونا، فنقول: الواقع عدم الإكراه لكم، ولا يتحقق هنا نوع الإكراه، لا الأكبر ولا الأصغر؛ لأن المُكرِه (بكسر الراء) غير موجود، بل أنتم الذين تدعون لهذا، وتلتمسون له الأدلة، وتحاربون من خالفكم في الفهم، فدعوى أنكم مكرهون دعوى غير صحيحة، فإذا كانت دعوى غير صحيحة، فما فائدة هذا القول والإعلان به بين الناس؟.
الجواب: هذا كله تبرير مواقف، وخداع للجماهير، حتى يصيروا في رأي الجماهير معذورين إذا فشلوا.
ولو قالوا: نحن مكرهون، بمعنى: أننا لا نحب ذلك، لكن رأينا أن المصلحة تقتضي ذلك!
فالجواب سيأتي بعد قليل، لكن هنا سؤال: لماذا يضعون قاعدة شرعية في غير محلها؟. أليس هذا تلاعبًا بالقواعد الشرعية ليلتبس بعضها ببعض.
الجواب: هو هذا.
وإلى الله المشتكى.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 192-193) .
الشبهة(13) : قولهم: دخولنا «الانتخابات» للضرورة
والجواب:
الضرورة مشتقة من الضَّرَر، وفي الاصطلاح: قال الزركشي: «الضرورة بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب»، وهو من المنثور في القواعد.
وعرَّفها غيره بقوله: «هي أن تطرأ على الإنسان حالة من المشقة والخطر والشدّة، بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعِرْض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها».
وينبغي عندئذٍ – أو يباح - ارتكاب محرم، أو ترك واجب، أو تأخيره عن وقته، دفعًا للضرر عنه في غالب ظنه، ضمن قيود شرعية.
وهذا تعريف جامع لا مزيد عليه.
قلت: هناك فرق بين الضرورة والمصلحة، حيث أن المصلحة أعم، والضرورة أخص، فالضرورة تكون عند حالة شديدة وخشية ضرر، كما رأيت.
القرآن يبين الضرورة:(3/223)
قال الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِّثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } المائدة.
فهذه المحرمات أُبيح أكلها عند اشتداد جوع الذي يخشى على نفسه الهلاك، وقد جعل الله شريعته قائمة على اليُسْر، ورفع الحرج في مجالات كثيرة، لا يتسع الوقت لذكرها.
فما هي الضرورة التي جعلت أصحاب «الانتخابات» يختارون هذا الطريق؟
هم يقولون: نحن مضطرون، وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا، ويمنعونا من إقامة الإسلام، حتى من الصلاة في المساجد، وتعليم القرآن وعدم السماح بالخطب والمحاضرات.. إلى آخر ما يقولونه.
ومن جهة ثانية: أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر، فهل سيزول الضرر الذي بالمسلمين، بدخولكم في المجالس البرلمانية؟
فإن قالوا: نعم، فهذا غير صحيح، وخذ مثالاً على ذلك، وهو: أن الرئيس/ أنور السادات في آخر حكمه اعتقل عشرات الآلاف من الإسلاميين، وكان يوجد في مجلس الشعب المصري كتلة برلمانية لهم، فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئًا، وكذلك في السودان عندما اعتقل النميري الإسلاميين، وكان من الإسلاميين مستشارون له في أعلى قمة السلطة، فلم يستطيعوا أن يعملوا شيئًا، إذ أن أحوال المسلمين هي هي، ولم يحصل إلا زيادة شر في أماكن، وقلة شر في أماكن أخرى.
إذن هذا الأمر الأول يبطل الاحتجاج بأنها ضرورة، وذلك أن الضرورة شرعت لإزالة الضرر، وهنا لم يحصل، وها هي ستون سنةً قد مضت على هذه الأقوال، ونحن نجد الأمور كل يوم تزداد سوءًا، حتى في سلوك القائلين بذلك.
والظاهر أن إخواننا سامحهم الله، وقفوا في عدة خنادق، فإن أُحيط بهم في خندق، صاحوا من آخر، فأول ذلك أنها شورى، ثم مصلحة مرسلة، ثم أخف الضررين، ثم ضرورة وإكراه.
فإن لم ينفع هذا كله، فالجواب منهم: ماذا تريدون أن نفعل؟! أنترك الأمور لأعداء الإسلام؟! واستطردوا من الأمثلة العقلية غير الصحيحة، وإلا فالعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
ومن لم تنفعه الأدلة، ولم ينفعه واقع المسلمين في هذه المجالس النيابية منذ أكثر من نصف قرن، وهم ينحدرون فيها إلى الأسفل، فلا يبالي بالأدلة المذكورة هنا، إلا أن يشاء الله عز وجل، وإلى الله المشتكى.
وأما قولهم: «وإن لم نفعل فسيسحبونا بلحانا..» إلخ.
فجوابه:
من المعلوم أن الله جعل العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل، وقد يسلّط الله أهل الباطل على أهل الحق. فالواجب على أهل الحق الصبر، ولا يجوز لهم أن يسلكوا طرقًا غير مشروعة، من أجل مقاومة الأعداء.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 194-196) .
الشبهة(14) :قولهم: نحن ندخل «الانتخابات» ونرتكب أخف الضرريْن
يقولون: نحن نشارك في «الانتخابات» وهي شرٌّ، ولكننا نرتكب أخف الضررين، لتحقيق مصلحة كبرى!
فنقول:
أخف الضررين عندكم المشاركة في المجالس النيابية. وإليك بيان هذا الضرر الخفيف عندهم:
سؤال 1: من الحاكم في مجلس النواب: الله أم البشر؟
الجواب: البشر.
سؤال 2: إذا كان حكم البشر هو السائد في المجالس النيابية، فهل هذا شرك أكبر أم أصغر؟
الجواب: شرك أكبر.
سؤال 3: ولماذا كان شركًا أكبر؟
الجواب: لأن حكم الله معطّل، وهناك من لم يقرّ بحاكمية الله عز وجل، وإنما الحكم للأغلبية.
وقد تقدم أن المجالس البرلمانية الحاكم فيها هو البشر، بل يُردّ حكم الله ويُعترض عليه، فهذا شرك أكبر بلا شك. وإذا كان شركًا تصادر فيه شريعة الله، فهل بقي ذنب أكبر من الشرك الأكبر أو الكفر الأكبر الذي يقول الله تعالى فيه: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } النساء.
فلما كان الشرك – وهو أعظم الذنوب – لا يغفر الله لصاحبه إذا مات عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» قيل: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك..». الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.(3/224)
فاتضح لنا أنهم في بعض الحالات قد يفعلون شركًا أكبر، وليس هو بأخف الضررين، وقد قال الله سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }. فهذا حكم الله فيمن والى اليهود والنصارى.
وقال الله: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} النساء.
لم يقل سبحانه: ما عليكم من شيء، ولم يقل: إلا الأحزاب الإسلامية، فإن ذلك مشروع لهم.
ونقول لهم: هل سألوا العلماء عن الشر الذي ارتكبوه؟ وهل وضّحوا لهم حقيقة هذا العمل؟ أم أنهم يغالطون العلماء؟
إذن هذه القاعدة استعملت في غير محلها.
صحيح أنه يُرْتَكَب بعض الشر لتحقيق مصلحة كبرى، كما حصل أن الصحابة نظروا إلى عانة أولاد اليهود – يهود بني قريظة – من أجل أن يعرفوا من كان قد أنبت فيُقتَل ومن لم يُنبِت فلا يُقتل.. وما أشبه ذلك، لكن اتضح لنا أن القاعدة لم تطبق على حقيقتها.
وهذه مصيبة الأحزاب الإسلامية، أنهم يطبقون الأشياء على أهوائهم، فيُحْرَمُون من الاتِّباع، والتوفيق من الله.
ثم ما هي المصلحة الكبرى على حد زعمهم التي حققوها؟ فقد عرفنا الشر الذي وقعوا فيه، فنريد أن نعرف المصلحة؛ لأنهم قالوا: سيحققون مصلحة كبرى.
الجواب: أن الواقع من مدة ستين عاماً، يثبت لنا أنهم ما حققوا مصلحة كبرى للإسلام كما زعموا.
أما قولهم: إنهم دخلوا في «الانتخابات»، وارتكبوا أخف الضررين، من أجل أن يقيموا دولة الإسلام، ويحكموا بالشريعة الإسلامية، وذلك على حد زعمهم.
فهل تقام الشريعة مع أن المجتمع ليس عنده أهلية لذلك؟.
جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في قصة هرقل عندما أخبره أبو سفيان عن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق عظيم بُصْرى، فلما قرأ هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – أي هرقل -: «يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي»؟. فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فدعاهم هرقل، وقالوا: «أنا أريد أن أعرف شدتكم على دينكم، فسجدوا له». الحديث في (الصحيحين).
والشاهد في الحديث أن هرقل مع كونه ملكًا، لم يستطع أن يرغم قومه على الدخول في الإسلام، باعتبار أنه ملك وبيده السلطة، وهكذا النجاشي أسلم، ونزلت فيه آيات، منها قوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ..} المائدة. كما في (الصحيح المسند من أسباب النزول) لشيخنا / مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله، ولمّا مات ما وُجِد من يُصلي عليه، وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجاشي ملك النصارى في الحبشة.
فليس من صعد على الكرسي أقام الإسلام ولا بد، هذه قضية فيها مجازفة وعدم فقهٍ للواقع.
فلا بد من إصلاح المجتمع قبل الوصول إلى الحكم، وقد قيل للأحزاب الإسلامية: تعلموا العلوم الشرعية، فما وُفِّقوا لهذا الخير.
وقيل لهم: علّموا الناس الدين، ولا تعلّموهم الأطماع، فما وُفِّقوا لهذا الخير.
لقد رأينا كثيراً من الإسلاميين عندما تمكنوا من بعض الوزارات، يلتزمون بالنظام والقانون الوضعي أشد من غيرهم، وإذا قيل لهم: هل أمر الله بهذا؟ قالوا: «هذا النظام» !.
فأين تغييركم للفساد الذي أرهقتم أسماع الناس به، واستترفتم به أموالهم، وصرفتموهم عما هو أنفع من الاعتصام بنشر السنة والتحذير من البدع ؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 196-200) .
الشبهة(15) : قولهم: أفتى بشرعية "الانتخابات" علماء أفاضل
قد يقول قائل: قد أفتى بشرعية «الانتخابات» علماء أفاضل من أهل السنة، وليسوا حزبيين، كمحدّث العصر فضيلة الشيخ الألباني، وسماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمهم الله، فهل ندخل هؤلاء فيما سبق؟.
الجواب :
كيف ندخلهم فيما سبق، وهؤلاء العلماء الأفاضل هم علماؤنا وقادتنا وقادة هذه الدعوة المباركة، وهم حماة الإسلام، وما تعلمنا إلا على أيديهم، ومعاذ الله أن يكونوا حزبيين، بل هم المحذّرون من الحزبية، وما سلمنا من الحزبية إلا بتوفيق الله ثم بنصائحهم، ونصائح أمثالهم كالشيخ الجليل المُحدِّث مقبل بن هادي الوادعي يحفظه الله تعالى. وكتبهم وأشرطتهم طافحة بالتحذير من الحزبيات.(3/225)
فإذا كانوا يحرمون الحزبية، فليس لأصحاب الحزبية فيهم نصيب لتبرير ما يريدون أن يمضوه ويخدعوا به المسلمين، وبالذات الشباب المسلم، المتمسك بدينه، الراضي بالحق، السائر عليه.
وأما بالنسبة لفتوى هؤلاء العلماء فهي مقيدة بضوابط شرعية، ومنها: تحقيق المصلحة الكبرى، أو دفع المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، مع بقية ضوابط هذه القاعدة، ولكن دعاة "الانتخابات" لم يراعوا هذه الضوابط.
تنبيه:
لماذا نرى الحزبيين لا يشيدون بفتاوى علمائهم الذين يفتون بشرعية "الانتخابات"، وإنما يشيدون بفتاوى علماء أهل السنة كالألباني وابن باز وابن عثيمين حفظهم الله؟
الجواب: إن علماء السلطة والأحزاب في بلاد المسلمين أحرقتهم الحزبية، فإنها مرض فتّاك، فصار الناس غير مقتنعين بفتاواهم، لأنهم يعرفون أنهم يُلبّسون عليهم في مسائل من الدين، فرأوا أن يكون علماء السنة في واجهة هذه الحزبية، وهكذا من تلبيساتهم يستخدمون فتاوى علماء السنة لصالحهم، متى اضطروا إلى ذلك، ومتى استغنوا عنهم قالوا: هم جهّال لا يفقهون الواقع، وكالُوا لهم التهم.
وعلى سبيل المثال: عند أن أفتى الوالد/ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى في قضية الصلح مع اليهود بشروط وضوابط، قامت قيامتهم، ولم تقعد، ومن يستطيع أن يسكتهم؟ ومن يستطيع أن يقنعهم؟ وصار كل واحد من هؤلاء يصدر الفتوى.. ولم يبق الأمر عند الكبار فقط. وكأن ابن باز رحمه الله رجل لا خبرة عنده، ولا علم عنده، بل صارت خطب الجمعة بهذا الصدد حنّانة رنّانة، والحمد لله أن علماء "السنة والجماعة" يحسنون الظن بالناس ويصبرون. والله يعلم المفسد من المصلح.
وأيضاً يلزمهم إذا كانوا يعتمدون على فتوى الألباني وابن باز وابن عثيمين أن يقبلوا فتاواهم في تحريم الحزبية، وتحريم الموالد، والذبح لغير الله، والتقليد لليهود والنصارى.. وما أشبه ذلك من المحرمات التي يفعلونها. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شروط الأخذ بقاعدة: «ارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى»
1- أن تكون المصلحة المرجوة حقيقية لا وهمية، فلا نرتكب المفسدة المحققة ، لجلب مصلحة وهمية، ولو كانت «النظم الديمقراطية» خادمة للإسلام وشريعته خدمة حقيقية، لنجحت في مصر أو الشام أو الجزائر أو الباكستان أو تركيا أو أي بلد في الدنيا من ستين عاماً.
2- أن تكن المصلحة المرجوة أكبر من المفسدة المرتكبة، بفهم العلماء الراسخين في العلم، لا بفهم المولعين بالحزبية أو الحركيين أو المنظرين للأحزاب.
ومن عَلِم أن من مفاسد" الديمقراطية" الكثيرة: نسخ شريعة الإسلام، والاستغناء عن الرسل عليهم السلام، لأن الحلال والحرام يدرك بما تراه الأغلبية، لا بما تخبر به الرسل عليهم السلام.
ومن عَلِم أن من مفاسد "الديمقراطية": ضياع مبدأ الولاء والبراء من أجل الدين، وتمييع الوضوح العقائدي، لكسب القلوب، ومن ثَمّ الأصوات، ومن ثَم المقاعد البرلمانية، من عَلِم هذا؛ فما كان له أن يقول: إن دخول هذه المواضع أخف الضررين، بل العكس هو الصواب، ولو سلّمنا بالتساوي هنا، فدرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
3- ألا يكون هناك سبيل آخر لجلب هذه المصلحة، إلا بارتكاب هذه المفسدة؟.
وهنا لو قلنا: بذلك فقد حكمنا على نهج محمد × بأنه غير صالح لإقامة حكم الله في الأرض مرة أخرى.
أما أهل الحق فيعلمون أن سبيل "الديمقراطية والتعددية الحزبية" ما تزيد الأمة إلا وهناً، ولذا حرص عليها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وقاموا بحراسة هذا الوثن طيلة هذا الوقت.. والله من ورائهم محيط.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 200-203) .
=================
الشبهة(1):قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) !
( يزعم الفكر العلماني أنه ليس في الإسلام نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة، ولست أعرف بالضبط متى ظهرت هذه المقولة، ولا أول من أشاعها على وجه التحديد، وإن كانت جذورها تمتد إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق؛ وذلك أنه قال عن نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس )
ذكر الأدلة على مجيء الإسلام بنظام سياسي :
لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به دون ما سواه من الأنظمة السياسية، وعلى ذلك أدلة متعددة نوجزها فيما يلي:(3/226)
أولاً : النصوص الشرعية ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي محدد: جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ببيان نظام الحكم (النظام السياسي) الذي ينبغي إتباعه والالتزام به؛ فبينت غايته وطبيعته وشكله، وأصل السلطة فيه، ومصدر الإلزام به، وصفات القائمين عليه، وواجباتهم وحقوقهم، ومكانة الأمة فيه، إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت بها النصوص الشرعية أو دلت عليها، كما أعطته مصطلحاته الخاصة به التي تميزه عن غيره بحيث لا يشبه في ذلك نظاماً بشرياً سبقه، ولا يشبهه نظام بشري جاء بعده، فهو في ذلك متميز عن السابق واللاحق.
والنظام السياسي في الإسلام أو نظام الحكم هو الخلافة، والقائم عليه هو الخليفة، وقد يسمى الإمام، والأمير، وأمير المؤمنين، ومن النصوص التي جاءت في ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه فهو يقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام ،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] .
فقوله تعالى {احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ( بعد قوله ) إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } ( دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله"، وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم الذي يحكم بين الناس.
وقد ذكر ابن كثير أيضاً –في تفسير هذه الآية- أن الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين، سأل أبا زرعة أحد العلماء في زمانه قائلاً له: أيحاسب الخليفة؟ فرد عليه أبو زرعة وقال له: إن الله قد جمع لداود النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه وتلا عليه قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية.
وفي قوله: " إن الله جمع لداود النبوة والخلافة" تأييد لما ذكرناه من المراد بلفظ الخليفة في الآيات السابقة.
أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة منها :
1- قوله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل مناطة بالأنبياء، وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس –بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - مناطة بالخليفة، إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا يعني أن النظام السياسي هو النظام الذي يكون على الخليفة، وهو الخلافة، والخليفة هو الذي يسوس أمر الناس على مقتضى الشرع، لأنه قائم في مقام الأنبياء والأنبياء يسوسون الدنيا بالدين.
هذا وقد كثر في السنة استعمال لفظ (خليفة) للقائم على رأس الدولة الإسلامية.
2-قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث.
3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".
4-قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ".
5-قوله صلى الله عليه وسلم : " يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده".
6-قوله صلى الله عليه وسلم :" ما بعث الله نبي ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان..." الحديث.
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا المعنى، وقد ورد أيضاً لفظ (إمام) ليدل على ما دل عليه لفظ (خليفة) فمن ذلك:
1-قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
2-وفي الحديث حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وفيه "فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها... قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..." الحديث.
3-قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه".(3/227)
4-قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته..." الحديث.
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وبما تقدم يعلم أيضاً أن لفظ (خليفة) ليس مما استحدثه المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض الكاتبين.
وإذا كانت تلك النصوص السابقة قد تناولت اسم القائم على ذلك النظام، فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها:
1-قوله صلى الله عليه وسلم : "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء".
2-قوله صلى الله عليه وسلم : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً..." الحديث، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
فهذه النصوص التي أوردناها –وهي قليل من كثير- تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام، وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به؛ ليصبح لفظ (الخلافة) علماً على النظام السياسي في الإسلام، وإذا كان ذلك التحديد الذي ذكرناه إنما هو تحديد على مستوى (النظرية) فهيا بنا لننظر تحديد النظام السياسي على مستوى الواقع الفعلي.
ثانياً: الواقع الفعلي في عصر الرسالة، ودلالته على مجيء الإسلام بنظام سياسي بيِّن مفصل:
فنقول : من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أنه على إثر ظهور الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره، يعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد، ويهدف إلى غايات مشتركة، وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين، والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر، هو الذي يوصف بأنه سياسي، أو هو الذي يقال عنه إنه دولة فإنه لا يوجد أي تعريف لها غير أن تجتمع هذه الصفات كلها التي ذكرنا في مجتمع ما.
وحينئذ نتوجه بالسؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟ فسيقولون: نعم –وخاصة أن الذين نناقشهم هنا ممن يقولون بأن الإسلام دين ودولة، أو أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة-.
فنقول ترتيباً على ذلك: وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس؛ فيسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس، وينشر بينهم الأمن، ويقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقب الخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدول الأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويسير الجيوش ويعين لها قيادتها، ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك من الأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ فسيقولون –ولابد- نعم.
فنقول: -إكمالاً لما سبق- ومن أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها؟ فسيقولون: هو محمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فنقول: ومن الذي خلفه في حكمها؟ فسيقولون: أصحابه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، وهم الخلفاء الراشدون الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..." الحديث، وهم أيضاً من المبشرين بالجنة.
وحينئذ نتقدم بهذا السؤال: هل بقيت هذه المبادئ –التي تزعمون أن الإسلام جاء بها ولم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته- على إجمالها أو إطلاقها -بغير بيان ولا تفصيل؟! أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئ المجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهد؟! ولابد من أن يقولوا: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها، وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ، وهذا ما لا يجرؤ –بحمد الله- أحد ممن ينتسب إلى الإسلام ولم يجهر بعلمانيته أو كفره على التصريح به.
فإذا كان الجواب: نعم، وهو كذلك، فحينئذ نكمل السؤال السابق بالسؤال التالي: إذا كانت تلك المبادئ العامة، قد ترجمت إلى واقع حي مشاهد بما فيه من التفصيل والتحديد فما مدى حجة هذه الترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلامي الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السنة العملية ملزمة لنا شرعاً معاشر المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً عن الله دينه؟.(3/228)
ألم يبعث الله رسوله ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل:44]، وإذا كانت تلك المبادئ منزلة من عند الله، ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ بنص الآية السابقة ؟، وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! ثم نقول بعد ذلك: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته.
ثالثاً : تصانيف العلماء في أحكام النظام السياسي ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي واضح:
لقد صنف أهل العلم من المسلمين تصانيف كثيرة في النظام السياسي الإسلامي، يبدؤونها بتعريف (الخلافة) ثم ينطلقون من ذلك إلى الحديث عن أمور كثيرة جداً متعلقة بها مثل: الحديث عن شروط من يتولى الخلافة، وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة، وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله، وصفات من يوليه، وصفات من يعزله، وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، وعن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة ، التي تزخر بها مصنفات أهل العلم ؛ وهي كثيرة مطبوعة بين أيدينا بحمد الله.
وهنا نسأل ونقول: هل الذين عرفوا (الخلافة) من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له ؟ وهل يمكن وضع تعريف لشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عن غيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هو منه؟
ونقول أيضاً: هل يمكن أن يكون هذا الكلام الكثير في تلك التفريعات والتفصيلات التي ذكرنا طرفاً منها حديثاً عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟! ثم نقول: وهل يمكن أن يقوم في فهم رجل عاقل أن يكتب كاتبٌ بمثل تلك الدقة والتفاصيل التي ذُكرت عن شيء هو عنده وفي فهمه غير محدد أو غير موجود؟!
والأسئلة ليست في حاجة إلى الجواب، فهي تجيب عن نفسها، والذي يتحصل لنا من الكلام في هذه الجزئية: أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عن أمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه، ومن هنا فإن القول بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، هو قول محدث لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين ) .
( يا للعجب! نظام سياسي متكامل يُكلف المسلمون بإقامته ويحاسبون عليه ويأثمون إن هم قصروا فيه، ثم لا تقدم لهم الشريعة التي نزلت تبياناً لكل شيء أية أحكام تفصيلية تتعلق به ؟! ألا ترون في مثل هذا التكليف أنه تكليف بما هو فوق الطاقة البشرية، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286] ؟! أيكون في وسع المسلم –مهما أوتي من علم- أن يقيم نظاماً سياسياً إسلامياً بكل تفاصيله انطلاقاً من القول بأن الإسلام قد أتى بالشورى والعدالة والحرية والمساواة ومسئولية الحاكم وكفى! وماذا تغني عنه مثل هذه الكلمات، وفي أي شيء تنفعه، وكيف يضمن المسلم أن التفصيلات التي وضعها تحت مبدأ (العدالة) مثلاً تفصيلات صحيحة مقبولة شرعًا ، إذا لم يكن عنده من شيئ إلا أن الإسلام قد جاء بمبدأ العدالة ؟ أو أن الإسلام قد أقر مبدأ العدالة أو نحو هذه الكلمات التي لا تسمن في هذا المجال ولا تغني ؟ وما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون إذا اختلفوا في الأحكام التفصيلية التي تتدرج تحت مبدأ العدالة مثلاً، إذا لم تكن الشريعة قد أتت بالأدلة الدالة على هذه الأحكام؟! ومن الذي يحكم في هذه الحالة، بأن هذه التفصيلات صحيحة مقبولة شرعاً، وتلك باطلة مرفوضة شرعاً؟ وكيف يحكم؟ وعلى أي دليل يستند؟! إن مثل هذا القول ليس له من نتيجة سوى نشر الفوضى الفكرية بين المسلمين، وجعل النظام السياسي محكوماً بالمصالح العاجلة والعقول والإفهام القاصرة دون الاحتكام إلى الإسلام وشريعته؛ إذ هل يستطيع المرء أن يقوم بأداء الفريضة على وجه صحيح من غير خلل، إذا كانت تلك الفريضة غير محددة، وإنما جاءت على سبيل المبدأ فقط؟!
وإذا كان من حجتكم على أن الإسلام ترك تحديد النظام السياسي فلم يأت بنظام محدد: أن الأنظمة السياسية دائماً تتطور، فهل كل التفاصيل المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام كبيرها وصغيرها متغيرة متبدلة متطورة، بحيث لا يكون فيها شيء ثابت على مر الأزمان حتى يمكن أن يُدَّعى أنه لا توجد –في التفاصيل- نصوص ملزمة على مر الأزمان ؟(3/229)
ولو فرض أن التفاصيل كما ادعيتم لم تأت بها نصوص شرعية - وهو فرض غير صحيح- فهل فعلاً تركت الشريعة للمسلمين حرية الاختيار لتفاصيل النظام السياسي، ولم تضع على هذا الاختيار من قيود سوى: أن توائم تلك التفاصيل العصور المختلفة والظروف المختلفة، وأن الشريعة أحالت في التفاصيل على الخبرة والتجارب البشرية؟!
أقول: ولو فرض أن كل ما ذكرتموه في هذا المجال صحيح لوجب عليكم أن تغلقوا ملف (النظام السياسي في الإسلام) وأن تنفضوا أيديكم من الكتابة عنه، لأنه حسب دعواكم: أن الإسلام لم يتعرض للتفاصيل وإنما جاء بمبادئ عامة، وأن هذه المبادئ لا ينفرد بها المسلمون بل تقر بها جميع الأمم، وأن التفاصيل متروكة للمسلمين يضعونها حسب ما يرون فيه المصلحة، معتمدين في ذلك على الخبرة والتجارب البشرية، فإن كان ذلك صحيحاً فما معنى الحديث عن (النظام السياسي الإسلامي) وما علاقة الإسلام بذلك النظام القائم على ذلك التصور المتقدم؟!
إنني أرى أنه لا مفر أمام هؤلاء من أحد أمرين :
أ-إما الإصرار على تلك المزاعم –التي أبطلناها- وحينئذ فلابد لهؤلاء من أن يكفوا عن الحديث في (النظام السياسي في الإسلام) لأنه لا وجود له حقيقة في ظل تلك المزاعم، ولن يكون له وجود.
ب-وإما الإقرار حقاً بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي محدد، له قواعده وتفصيلاته التي وردت في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فلابد لهم من أن يكفوا عن ترديد المزاعم الباطلة من مثل قولهم: إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد وإنما أتى فقط ببعض المبادئ السياسية ).
( ثم لا يمتنع بعد ذلك أن تُترك بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛ أن تُترك مطلقة من غير تقييد للمسلمين بطريق عملي معين يجب على المسلمين –في كل عصر ومصر- سلوكه دون ما سواه؛ وذلك أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها، وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو أُلزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وعلى مدى الزمن بطريق علمي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير ، والله تبارك وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فهذا الوجه جائز حدوثه، ولا محذور فيه شرعاً، كما أنه لا مناقضة فيه لما أسلفنا من القول بأن النظام السياسي في الإسلام نظام محدد وليس مجرد مبادئ.
ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات أو الوسائل لتنفيذ أو تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل إلزام المسلمين به دون ما سواه من الوسائل الأخرى التي تحقق المقصود نفسه بدون مخالفات شرعية.
ولا يمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان الكيفية أو الوسيلة التي ينبغي اتباعها في تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان على سبيل الإلزام؛ بحيث يجب على المسلمين سلوك ذاك الطريق واتباع تلك الوسيلة، ويحرم عليهم مخالفتها واتباع غيرها ) .
مناقشة القول بعدم وجود نظام سياسي للإسلام :
( 1-إن هذا القول يصب في اتجاه الكارهين للنظام السياسي الإسلامي، وتفصيل ذلك أنه متى قيل بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي، وأنه لم يعتن ببيان أحكام تفصيلات النظام السياسي أو جزئياته، وأن كل ما جاء فيه في هذا الصدد لم يزد عن كونه تقريراً لبعض المبادئ السياسية، فإنه يمكن –لاسيما مع المخادعة- تمرير النظم السياسية العلمانية تحت زعم تحقيق تلك المبادئ والمحافظة عليها، أو على الأقل عدم مخالفتها، لاسيما أن المبادئ المجردة تختلف وجهات النظر في تفصيلاتها اختلافاً حاداً، يصل إلى حد التناقض، وذلك أنه في تلك الحالة ليس هناك مرجع أعلى يمكن الرجوع إليه لمعرفة حقيقة تلك المبادئ وتفاصيلها.
فهذه شعارات الحرية، والعدالة، والمساواة، وأمثال تلك الشعارات ترفعها الدول جميعها: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويُنص عليها في دساتيرها وقوانينها، ومع ذلك فبينها من الخلاف في الفهم والتطبيق ما بين المشرق والمغرب من البعد وعدم اللقاء.
وإننا لنرى الآن تحت شعار "مبدأ الشورى" المحاولات العديدة لإدخال النظام البرلماني الغربي وإضافته إلى الإسلام، بأصوله العقدية وتفصيلاته التطبيقية كلها: من مثل القول بأن "السيادة للشعب" وأن "الأمة مصدر السلطات"، وذلك على أنه تطبيق مفصل للشورى التي جاء بها القرآن – زعموا- على سبيل المبدأ !!
وتحت شعار "مبدأ الحرية" يجري التشكيك في فريضة الجهاد، وفي قتل المرتد، وفي محاربة المرتدين؛ لأن هذه الأمور –بزعمهم- تخالف مبدأ الحرية.(3/230)
وتحت شعار "مبدأ المساواة" يصار إلى القول بأن الكفار والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم ساكني دولة المسلمين، لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية من حيث تولي الوظائف العامة التي يكون لهم فيها قيادة واستطالة على المسلمين، ويؤخذ برأيهم –كالمسلمين تماماً- في اختيار الحكام في الدولة الإسلامية.
وتحت شعار المبدأ نفسه يتم إخراج المرأة من بيتها لتكون عضواً بمجلس الشورى، أو لتتولى منصباً وزارياً، بل ويجعلون لها الحق أيضاً في أن تتولى رئاسة الدولة في بلاد المسلمين.
وهكذا تحت مظلة المبادئ التي يدَّعون، يُهدم النظام السياسي، بل يُهدم الإسلام كله، وذلك قرة عين العلمانيين، لا أقر الله عيونهم ).
( 2- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو في نفسه قول متناقض وغير مستقر. وذلك أن هذا القول لابد أن ينتهي إلى أحد قولين:
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له بالسياسية أصلاً كما يقوله العلمانيون المجاهرون.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة. وبيان ذلك يتضح من خلال كلامنا التالي:
إن المبادئ التي يذكرها هؤلاء "العدالة، الحرية، المساواة، الإخاء" إلى غير ذلك، تقر بها جميع الأمم، وتدعيها كل الدول، فما من دولة على وجه الأرض إلا وهي تدَّعي الالتزام بتلك المبادئ –وإن كانت كل دولة تقدم مفهومها الخاص بها لتلك المبادئ كما ذكرنا ذلك من قبل- ففي أي شيء يفترق الإسلام في هذا المجال في تصوركم عن تلك الأمم، إن كان كل ما جاء به فيه تقرّ به وتدعيه أيضاً دول الكفر ؟
وما مرادكم بأن الإسلام أتى بمبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات؟
هل تريدون بذلك: أن الإسلام أتى بهذه المبادئ مجملة، وأرشد إليها وطلب العلم بها، ثم لم يجعل للمسلمين طريقاً إلى معرفة ما يتعلق بها من تفصيلات إلا ما تهديه إليه عقولهم، أو ما يقلدون فيه غيرهم من أمم الكفر؟
إذا كنتم تقصدون ذلك فانزعوا عن هذه المبادئ وما تعلق بها من تفصيلات الصفة "الإسلامية" لأنه إذا كانت المبادئ مشتركة بين جميع الأمم، وكلهم يقر بها، وكانت تفصيلات تلك المبادئ هي من ثمرات العقول أو تقليد الكفار، فلا معنى لأن تعلق عليها لافتة "الإسلام" إذ لا تصدق نسبة هذا النظام –مبادئ وتفصيلات- إلى الإسلام، إلا كما تصدق نسبته بالدرجة نفسها إلى غير الإسلام، بل نسبته إلى غير الإسلام أكثر؛ لأن الإسلام وإن اشتراك مع الأنظمة غير الإسلامية في المبادئ فإن الأخيرة زادت عليه-زعموا- ببيان التفصيلات، وحينئذ تكون النسبة إلى غير الإسلام أصدق وأدق !!
بل مضمون هذا الكلام –بلا أدنى ارتياب- هو أن الإسلام لا تعلق له بالسياسة أصلاً.
ومن هنا يتبين أن صفة "الإسلامية" التي يريدون سحبها على تلك الأنظمة المستقدمة والمجلوبة من بلاد الكفر، بزعم محافظتها على تلك المبادئ أمر باطل وغير صحيح.
وإن كنتم تريدون بذلك القول أن الإسلام وإن لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات، لكن حكم هذه التفاصيل والجزئيات التي لم ينص عليها صراحة، يمكن أن يستنبط من هذه المبادئ العامة بطرق الاستنباط المعروفة والمدونة في كتب أصول الفقه، فإننا نقول لكم: إن كان هذا مرادكم فقد أحسنتم من هذا الوجه، ولكنكم أسأتم من أوجه أُخر:
أما الإحسان: فمن حيث ذكركم أن التفاصيل والجزئيات حكمها موجود في أدلة الشريعة، ويمكن استخراجها واستنباطها بطرق الاستنباط المعروفة في كتب أصول الفقه، وبالتالي تكون النصوص الشرعية وافية بجميع الأحكام التي يحتاج إليها المسلمون في نظامهم السياسي –أو غيره- سواء ذكرت تلك الأحكام بطريق النص عليها مباشرة، أو ذكرت بطريق الاستنباط من المنصوص عليه.
وأما الخطأ والإساءة فمن حيث:
1- إطلاق العبارات والألفاظ من غير ضبط لها أو تدقيق فيها، مما يجعلها موافقة لفكر من يحارب الله ورسوله والمؤمنين.
2- القول بأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لأحكام التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالنظام السياسي، وهذا محض الخطأ، وسوف نورد –إن شاء الله- كثيراً من الإحكام المتعلقة بالتفاصيل والجزئيات التي جاءت عن طريق النص الواضح عليها.
3- وحتى لو سلمنا –جدلاً- بعدم وجود النص الصريح على أحكام تتعلق بالتفاصيل والجزئيات، فما دمتم قد أقررتم بأن تلك التفاصيل والجزئيات يجري استفادة أحكامها والحصول عليها باستنباطها من تلك المبادئ العامة، فلا يجوز إذاً إطلاق القول بعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات؛ إذ كيف يكون ذلك وأنتم تقرون بأن أحكام هذه التفاصيل والجزئيات قد أخذت من المبادئ العامة؟!(3/231)
وإذا أقررتم بأن في الإسلام مبادئ عامة تتعلق بالنظام السياسي، وأن أحكام التفاصيل والجزئيات لهذا النظام –وإن لم يأت النص عليها صريحاً- إلا أنه يجري أخذها واستفادتها من تلك المبادئ العامة بطرق الاستنباط المتعارف عليها، كان معنى هذا أن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة حسب ما جاءت به الأدلة الشرعية.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة، فالآن لا مفر لكم من أحد أمرين:
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له أصلاً بالسياسة والحكم، وهذه علمانية وردة سافرة معلنة عن نفسها بغير مواربة من قائلها.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد، له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة التي جاءت بها الشريعة.
ولا يوجد بعد هذا خيار ثالث، وحينئذ تصبح هذه المرحلة المذبذبة -لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- التي زعموا فيها أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط ببعض المبادئ العامة، مثل الشورى والعدالة والحرية والمساواة، من غير تعرض للأحكام التفصيلية ؛ تصبح مجرد لغو من القول لا قيمة له؛ لأنه لابد أن ينتهي إلى أحد الأمرين السابق ذكرهما.
3- القول بالمبادئ دون التفصيلات رمي للشريعة بالقصور.
إن القول بوجود مبادئ عامة ولكن بدون أحكام تفصيلية يعني عدم إحاطة الشريعة بالإحكام التفصيلية المتعلقة بأمر مهم من أمور المسلمين، وهذا رمي للشريعة بالقصور وعدم الكمال، وهذا يعني أيضاً أن علاقة الإسلام بالحكم والسياسة –إن كان له علاقة- هي علاقة هامشية لا قيمة لها؛ إذ غيره من الأنظمة الوضعية أكثر شمولاً منه وأوفى بياناً؛ إذ لم يقتصر على المبادئ، كما اقتصر الإسلام –كما زعموا- وإنما أتى بالتفصيلات والجزئيات المطلوبة، وهذا القول يعني أيضاً أن عموم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية شمولها لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه، عموم ناقص، إذ يخرج منه ما يخص النظام السياسي، ومن المعلوم الذي لا خلاف عليه أن رسالة الرسول عامة ويشمل عمومها أمرين:
أ- عموم من ناحية المرسل إليهم، فهو مرسل لكل أحد من الجن والإنس على اختلاف طبقاتهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم منذ أن أرسله الله تبارك وتعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا العموم يشمل في طياته عمومين: عموم الزمان، وعموم المكان، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل لكل أحد في كل زمان ومكان.
ب- عموم من ناحية المرسل به، فإن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم شاملة لكل ما يحتاج إليه المرسل إليهم في أصول دينهم وفروعه في كل زمان ومكان.
فليس هناك شيء يحتاج إليه المسلمون في أمور دينهم، إلا وقد أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه لهم أوضح بيان وأكمله وأتمه، وليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله دليل على سبيل الهدى فيها، وليس هناك فعل للمكلف إلا وله في الشريعة حكم يخصه.
وعلى ذلك فإن القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات أو الأحكام المفصلة يناقض عموم الرسالة ويناقض كمالها.
4- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو قول هادم للمبدأ نفسه:
وذلك أن القول بمجيء المبادئ مجردة دون أن يصحبها نصوص أو أدلة تبين المبدأ، يجعل المبدأ قابلاً للتحوير والتبديل، ويجعله عرضه لأهواء الناس، واختلاف رغباتهم، في الوقت الذي لا يكون فيه ميزان توزن به أقوال الناس في فهمهم للمبدأ، ومن ثمَّ يتغير مضمون المبدأ ويتلون على حسب رغبة المتكلمين به أو فهمهم له، وهذا يؤدي في حقيقة الأمر إلى هدم المبدأ نفسه؛ إذ يصبح المبدأ في هذا الحالة مجرد كلمة خالية حقيقةً من مضمون ثابت يمكن الرجوع إليه، بل ربما انقلب المبدأ الذي ظاهره الخير والرحمة والعدل، إلى أداة ظلم وتجبر وطغيان –وهذا حادث فعلاً- إذ في ظل غياب التفصيلات المبينة للمبدأ، يمكن لمن بيده السلطة أن يضع من عنده تفصيلات لذلك المبدأ الجميل في ظاهره، بينما تكون هذه التفصيلات في حقيقتها ظالمة جائرة، بل ومناقضة لحقيقة المبدأ، فيظهر المعارض غير القابل لتلك التفصيلات الجائرة الظالمة –في هذه الحالة- وكأنه معارض أو مناوئ للمبدأ الجميل الذي أقر به الناس وقبلوه، ومن ثمَّ يتعرض للظلم، ويتهم بأنه خارج على النظام مخالف للجماعة، ويتعرض لأنواع الأذى والعقوبات.
ومن أراد أن يعرف اختلاف الناس في فهمهم للمبادئ المجردة، فلينظر إلى دول العالم التي تقر كلها بمبادئ: العدالة، الحرية، المساواة، ولينظر إلى الاختلاف الحاصل بينها في فهم المبادئ وما ينتج عنه من تطبيقات تصل درجة التباين فيها إلى حد التناقض المطلق ).
ادعاؤهم أن الواقع يُصدق قولهم !(3/232)
( تعتمد هذه الشبهة على ما يدّعونه من شهادة الواقع بعدم وجود هذا النظام؛ إذ يرى أصحابه أن الشريعة لم تحدد مثلاً مدة ولاية الحاكم، ولا كيفية عزله، ولا نوع الحكومة، ولا كيفية الفصل بين السلطات، ولا الطريقة التي تتبع في تطبيق الشورى، ولا الأمور التي يجب أو يجوز أن تكون محلاً للشورى، ولا الطريقة التي يتولى بها الحاكم السلطة، إلى غير ذلك من الأمور التي يذكرونها في هذا الصدد، وانطلاقاً من كل ما تقدم يرى أصحاب هذه الشبهة أنه لا يوجد في الإسلام نظام سياسي محدد واجب الإتباع.
وهذه الشبهة مردود عليها من عدة أوجه:
أولاً: أن يقال: إن بعض ما ذُكر أن النصوص لم تبينه أو لم تحدده، إنما هو خطأ من قائله وتقوّل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإن النصوص الشرعية قد بينت كل ذلك –كما سنفصله في موضعه إن شاء الله-.
وقد يكون السبب في ما زعمه هؤلاء: أنهم لا يفهمون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام التفصيلية أو الفرعية المستفادة منها.
لقد بينت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، ولكن كثيراً من الناس –خاصة من لم يتمرس في دراسة العلوم الشرعية- لا يعلمون ولا يدرون كيفية دلالة النصوص الشرعية على الأحكام المستفادة منها، ولو درس هؤلاء –دراسة صحيحة- ما كتبه علماء أصول الفقه في كيفية دلالة الأدلة الشرعية على ما تتضمنه من أحكام، لهداهم ذلك بمشيئة الله إلى الحق إن صدقوا في طلبه.
(1-من الأمور أو المسائل التي تعتني بها الأنظمة السياسية، والتي تنص عليها نصاً صريحاً واضحاً نظراً لما لها من أهمية خاصة مسألة "تحديد صاحب السيادة" أي صاحب الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة، بحيث لا تكون هناك كلمة لأحد أعلى من كلمته، أو حتى مساوية لها في كل ما يخص أمر الدولة والمجتمع، ومن الأمر البين الذي لا يحتاج إلى كبير عناء في التدليل أن النصوص الشرعية قد تكلمت بتفصيل شديد عن صاحب السيادة –وإن لم تستعمل المصطلح نفسه- في مواضع عدة، وفي مناسبات مختلفة، فقد بينت النصوص الشرعية أن "السيد هو الله تبارك وتعالى" وأن الكلمة العليا إنما هي لله العلي الكبير المتضمنة للشرع المنزل من عند الله تبارك وتعالى سواء ما جاء في كتاب الله تعالى، أو ما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وكون الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة هي لله الواحد القهار، ليست مجرد حكم فقهي، بل هي جزء من عقيدة المسلم، ومن النصوص الواردة في ذلك قوله تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] وحكمه تعالى إنما يعرف من كلامه الذي أوحاه إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم سواء كان الموحى به قرآنا أو سنة، ومنها قوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] وقوله تعالى{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [يوسف:67] وقوله تعالى: { وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف: 26] وقوله تعالى: { وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:70] وقوله تعالى: { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }[الرعد:41] وقوله تعالى: { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } [التوبة:40] .
ومن النصوص التي جاءت في حق السنة قوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 ،4] وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء:80].
2-ومن الأمور المتعلقة بالنظام السياسي وجاء الحكم فيها مفصلاً مسألة اعتقاد أو ديانة ولي أمر المسلمين، فقد بينت النصوص أن الحاكم أو ولي الأمر في النظام السياسي في الإسلام لابد أن يكون من المسلمين قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ....} الآية [النساء:59] فالمخاطبون في الآية هم "المؤمنون" وأولو الأمر المطلوب طاعتهم مقيدون بلفظ "منكم" يعني من المؤمنين.
3-ومن الأحكام الجزئية المفصلة التي دلت عليها أدلة الشريعة، الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يتولى أمر المسلمين، ومن تلك الشروط:
أ- البلوغ والعقل.
ب- العدالة: وهو أمر اشترطه الله بتارك وتعالى في الشهود فقال: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } [الطلاق:2].(3/233)
ج- الرجولة: ومن ذلك أن يكون الإمام رجلاً لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء:34] فإذا كان الله تبارك وتعالى لم يجعل للمرأة القوامة على زوجها وهو فرد واحد، فكيف يمكن أن يُجعل لها القوامة على الأمة كلها؟! ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
د- القرشية: ومن تلك الشروط أن يكون قرشي النسب لقوله صلى الله عليه وسلم : "الأئمة من قريش". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان".
4- ومن تلك الأحكام التفصيلية: واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا، فالأمة مهما تعددت أجناسها، واختلف لغاتها، وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين جميع أفرادها رابط العبودية الحقة لله رب العالمين، قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
5-ومن الأحكام التفصيلية: منع طلب المرء الإمارة لنفسه، وقد دلَّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه".
6-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص: أحكام طاعة أولي الأمر، فقد أوجبت النصوص الشرعية المتكاثرة على الرعية طاعة ولاة أمورهم، وحرَّمت الخروج عليهم أو معصيتهم، ولكن طاعة أولي الأمر ليست طاعة مطلقة، وإنما هي طاعة مقيدة، مقيدة بإتباع أولي الأمر للكتاب والسنة.
7-ومن الأحكام التفصيلية: بيان المرجع الذي يُرجع إليه، ويكون حكماً لحل النزاع الذي قد ينشب –في بعض الأحيان- بين فرد أو طائفة من الأمة وبين أولي الأمر، وبيان أن هذا المرجع إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو رأي الأغلبية وما تهواه، كما أنه ليس رأي الحاكم وما يهواه، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
8-ومن الأحكام التفصيلية: وجوب نصب الإمام الذي يشمل بعنايته ورعايته أمة المسلمين، ويقيم لهم دينهم؛ فيحرسه من الزيادة فيه أو النقصان منه، ويسوس دنياهم بدينهم، محققاً المصالح المشروعة، التي بها فلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، وقد دلَّ على وجوب نصب الإمام أدلة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" والمراد بالبيعة هنا بيعة الإمام الذي يكون على الناس.
9-ومن الأحكام التفصيلية: بيان النصوص الشرعية لمدة ولاية الخليفة، فقد دلت النصوص الشرعية على أن ولاية الخليفة غير مقيدة بمدة زمنية، وأن بقاء الخليفة في منصبه مرهون بدوام صلاحيته لهذا المنصب الرفيع، وقدرته على القيام بأعبائه اعتماداً على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمتى كان الخليفة على النحو الذي وصفنا؛ فإنه لا يخرج عن الولاية ولا تنزع منه، ولا يملك المسلمون أن يخرجوه عنها –لو أرادوا ذلك- بغير سبب اعتمده الشرع مخرجاً عن الولاية، ولو فعلوا ذلك لكانوا بفعلهم هذا من العاصين الخارجين على الإمام الذي ثبتت بيعته، ووجبت طاعته، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخذ من البيعة على المسلمين"... وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له"، فترك السمع والطاعة ومنازعة ولاة الأمور لا تجوز إلا ببرهان دلّ عليه الشرع.
10-ومن الأحكام التفصيلية: بيان مكانة أهل الذمة في النظام السياسي الإسلامي.
11-ومن الأحكام التفصيلية التي جاءت بها النصوص أيضاً، بيان حقوق الخليفة على الرعية إذا قام بواجبه، وهذه الحقوق تتمثل في:
أ-السمع والطاعة.
ب-النصرة.
والأدلة على ذلك كثيرة منها :
قول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...} الآية [النساء:9].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".(3/234)
وجملة القول في ذلك أن جميع الأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي الإسلامي، قد دلت عليها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بأنواع الدلالات المختلفة –علم ذلك من علم وجهل ذلك من جهله- فما من حكم من أحكام هذا النظام الذي طُولب به المسلمون إلا وفي كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بيان له وإرشاد إليه ودلالة عليه، ولا توجد مسألة من مسائل هذا النظام ولا غيره مما كُلف به المسلمون، خالية من الحكم الشرعي الذي يتناولها ).
( وإن بعض ما زعمتم أن النصوص لم تبين أو لم تفصل أحكامه، إنما هو من قبيل الطرق العملية أو الإجراءات التنفيذية، وقد بينا قبلُ أن مثل هذه الأمور لا يلزم مجيء النص أو الدلالة عليها بعينها ).
( المرجع : رسالة " تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة(2): احتجاجهم بحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم " .
( تعتمد هذه الشبهة على الاستدلال الخاطئ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إذ قد قرر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن المسلمين هم أعلم بأمور دنياهم، وبالتالي فإن الشريعة لا تتدخل في تحديد الأمور الدنيوية التي هم بها عالمون، ولما كان النظام السياسي –عند هؤلاء أمراً دنيوياً وليس أمراً دينياً- فإنه يمتنع أن تتدخل الشريعة في تحديده أو المجيء بتفصيل أحكامه !!
ولكي نبين ما في هذه الشبهة من التلبيس والضلال نقول:
أما الحديث فصحيح قد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ولفظه عن طلحة رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء؟" فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل".
وفي رواية عن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبِرون النخل، يقولون يُلقِّحون النخل، فقال: "ما تصنعون" ؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
وفي رواية عن أنس وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: "لو لم تفعلوا لصلُح" قال: فخرج شيصاً، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم؟" قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
فالعلمانيون ومن تبعهم أو تابعهم –وإن كان لكل منهم باعث مختلف عن الآخر- يريدون التوصل من خلال الفهم المحرف لهذا الحديث، إلى أن كل ما جاء في النصوص الشرعية متعلقاً بأمر من أمور الدنيا على جهة الأمر أو النهي أو غير ذلك، فإن تلك النصوص تصبح كأن لم تكن، وتدار أو يتم التعامل مع تلك الأمور الدنيوية من قبل الرأي البشري القائم على المصلحة أو التجربة على أساس أنها مسألة دنيوية، لا دخل للشرع فيها.
وهم بعد تقريرهم لتلك القاعدة الفاسدة، إذا أعياهم تأويل أو تحريف أي نص يتعلق بمسألة لهم فيها رأي مناقض للشرع، إذا أعياهم ذلك، قالوا: هذه من مسائل الدنيا وأمورها، وبالتالي فنحن أحق بها، ولا دخل للشريعة فيها! ومن تلك المسائل التي تعاملوا معها بتلك القاعدة الفاسدة : النظام السياسي فإنهم يقولون: هو من مسائل الدنيا التي نحن أعلم بها، وأحق بإبداء الرأي فيها.
والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يقال: إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه، مرفوض غير مقبول، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث: "قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم "من رأي" أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم ".(3/235)
فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في "أمر الدنيا ومعايشها" ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث، فقد قيد العلماء "أمر الدنيا ومعايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين:
الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.
الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية –ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران:
أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل –رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية- وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال على غير سبيل التشريع، وهذا يعني أنهم رضي الله عنهم يتعاملون مع أقواله صلى الله عليه وسلم -ولو كانت في أمور المعايش- على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع.
ب- طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا، بأنها التي جاءت "على سبيل الرأي" أو "لا على سبيل التشريع" وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها.
الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد، حتى يقال: إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود وهو من أمور الدنيا فإن الشرع يترك –في هذه الحالة- ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم-كما هو بُيِّن في الحديث- لم يأمرهم أمراً مطلقاً، أو لم ينههم نهياً مطلقاً -أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع- وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة رضي الله عنهم قد غلبوا جانب التشريع. فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع، ولذلك لما غلَّب بعض الصحابة رضي الله عنهم جانب التشريع في ذلك، بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يرد ذلك وأن كلامه السابق لا يدل عليه، ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة: "فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن" وقال: "إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر"، وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع، وإذا تبين ذلك، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا، لا يعول عليها، ولا يرجع إليها، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها.
الوجه الثالث : أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه، هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين –أو إلى غيرهم- يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي.(3/236)
وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع.
وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا، فأشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط، فعلى سبيل المثال:
- عيادة المريض، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً: منه قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع.. الحديث وفيه "وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونُفشي السلام".
- وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي، وانظر في ذلك كتاب "الطب" أو كتاب "المرضى" في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي" ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأدوية النافعة في العلاج، ثم ينهي عن بعضها، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي . حتى إنه عندما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن، وأخذ المريض الدواء، فازداد بطنه استطلاقاً، ورجع الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل :"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وإنما قال لمخبره: اسقه عسلاً، فسقاه فازداد استطلاقاً، فرجع إليه وقال: لقد ازداد بطنه استطلاقاً، فقال صلى الله عليه وسلم -مصراً على مقالته الأولى- اسقه عسلاً، فسقاه فجاءه الرجل المخبر- وكان أخاً للمريض- وأخبره بعدم الشفاء، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم- مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها- "صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ" والحديث أخرجه البخاري في كتاب الطب ومسلم وغيرهما .
يقول ابن تيمية رحمه الله: "التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي.. والتحقيق أن منه ما هو محرم ومنه ما هو مكروه ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب وقد يكون منه ما هو واجب".
وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء ومالا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم "كتاب اللباس والزينة".
وعلى سبيل المثال أيضاً: كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة، وسواء كان الإيجار بمال، أو بغلة جزء معين من الأرض وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية.
وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء، والربح والدين، والرهن، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا.
فكل ما ذكرناه، وما لم نذكره من هذه الأمور، هو من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً وتفصيلاً وبياناً، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين وتبديل أحكام الشريعة ؛وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم، وما استلزم الباطل فهو باطل فيكون فهمهم للحديث باطلاً.
ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به.(3/237)
الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟ حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين "أمر الدنيا" و"أمر الدين" فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم: هذا من أمر الدنيا، وذاك من أمر الدين بنص شرعي، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة، وقُصر تدخلها أو قُصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم، أصبحت "أمور الدين" -عندهم- محصورة في علاقة الفرد بربه، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه.
كما أصبحت "أمور الدنيا" تعني –عندهم- كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين.
وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمور الدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين –عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.
بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.
ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به.
إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين ).
( المرجع : رسالة "تحطيم الصنم العلماني " للأستاذ محمد شاكر الشريف ) .
الشبهة (3) : قولهم : الإسلام ديانة روحية !
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال : لا يخفى أن في القرآن أحكاماً كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة ؛كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً، بل في القرآن آيات حربية ... الخ هذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين ديناً آخر سماه الإسلام.
ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين :
* إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين.
* وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السماوات تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً!، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرِّع جل في علاه، وكفر من يجتريء على ذلك معلوم بالضرورة من الدين.
وهؤلاء بهذا المسلك يجعلون الإنسان نداً لله الذي خلقه، بل هم –بهذا- يعلون كلمة الإنسان على كلمة الله جل جلاله، ويمنحونه من السلطة والاختصاص ما يحجرون مثله على الله جل في علاه، وبهذا يصبح الإنسان "رباً" فوق الرب يحكم بما يريد، ويقضي بما يشاء!!
لقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه ، فكيف بهؤلاء وهم يردون على الله كافة شرائعه وأحكامه ويتهمونها بالقصور والجمود وانعدام الصلاحية؟! ترى هل يبقى مع هذا المسلك أدنى مثقال ذرة من إيمان.(3/238)
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: ( والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.
فمن زعم أنه دين عبادة فقط أنكر هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قال فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم).
ويقول الشيخ محمد الخضر حسين في معرض رده على هؤلاء: (وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات وجزاء السعي في الأرض فساداً... بل في القرآن آيات حربية وهذا يدلك على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام ) إلى أن يقول: (فصل الدولة عن الدين هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين).
ويقول الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في الدولة العثمانية: (إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه، ولقد كان في كل بدعة أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين ومحاولة للخروج عليه، لكن كيدهم في فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد، فهو ثورة حكومية على دين الشعب –في حين أن العادة أن تكون الثورات من الشعب على الحكومة- وشق عصا الطاعة منها "أي من الحكومة" لأحكام الإسلام بل ارتداد عنه من الحكومة أولاً ومن الأمة ثانياً، وهو أقصر طريق إلى الكفر).
ويذكر الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي بمكة المكرمة، يذكر من مراحل الدعوة إلى الله: (التصدي لدعوى "فصل الدين عن الدولة" أو " عن السياسة"، بإبطالها، والبيان للناس جهاراً بأن السياسة عصب الدين، ولا يمكن له القيام والانتشار وحفظ بيضته إلا بقوة تدين به، وإن هذه الدعوة الآثمة "فصل الدين عن السياسة" في حقيقتها "عزل للدين عن الحياة"، ووأد للناس وهم أحياء، وما حقيقة وصل الدين بالسياسة إلا الدعوة إلى الله، وإقامة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على مد الإسلام، وجزر الكفر والكافرين وقهر الفسقة عن المحارم والتهارش ؛ حماية لحرمات المسلمين وأوطانهم واستقرار أمنهم، ليكونوا يداً على من سواهم عوناً على من ناوأهم، وبالجملة ليعيش المسلمون في ظل حماية إسلامية لا في ظل أعدائهم من المشركين والملحدين.
ولن يقوم هذا الدين ولن تتحقق غاياته في الحكم والقضاء ومجالات الحياة كافة إلا بمن يحمل راية التوحيد يصدّع الكفر والكافرين، ويقوّم عوج الفسقة والمائلين عن الصراط المستقيم، وهذا لا يتأدى إلا بسلطان "ذي شوكة" يدين بالإسلام وعالم يجهر بالبيان، فإذا اجتمع اللسان والسنان من تحتهما جيل الجهاد في "دائرة الإسلام" كانت الضمانة العظمى لنصرته ونشر الدعوة إليه، وبناء حياة الأمة على هدي الكتاب والسنة.
وهذا التلاحم بين الدين والدولة هو حقيقة الوفاء بين الذين آمنوا بربهم –سبحانه وتعالى- للتجارة معه ببيع النفس والمال والولد في سبيله )يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله( الآيات ).
ويقول الأستاذ عبد الحليم عويس في كتابه تطبيق الشريعة الإسلامية: (ويصل هؤلاء في حربهم لتطبيق الشريعة حد الخيانة العظمى لأمتهم وللحقيقة المجردة، وذلك حين يزعم بعضهم –هداهم الله- أن الشريعة مجموعة وصايا أخلاقية، وهم بهذا يلغون مئات الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام، والتي قدرها الإمام الغزالي وابن العربي بخمسمائة آية نازعه ابن دقيق العيد في هذا التقرير وقال :إن مقدار آيات الأحكام لا تنحصر في هذا العدد بل هو يختلف باختلاف القرائح والأذهان وما يفتحه الله من وجوه الاستنباط حتى من الآيات الواردة في القصص والأمثال.(3/239)
وليس التشريع الإسلامي كليات مجملة –كما يعتقدون- بل هناك مجالات فصل فيها التشريع تفصيلاً محدوداً كالأحكام المتعلقة بالجهاد والدفاع عن النفس والعلاقات الدولية، وهناك مجالات فصل فيها الشرع تفصيلاً كافياً وشافياً مثل القصاص والحدود والحلال والحرام من الطعام والميراث وقوانين الأسرة، وغيرها، وينحصر مجال "الكليات" في بعض النظم السياسية التي تختلف صور تطبيقها، وفي قواعد الاجتهاد، وكل من ينكر أي حكم مفصل في القرآن والسنة أو يرفضه أو يكتب ضده ويعمد إلى تحريفه ؛ مثل من يحاول جعل ميراث الأنثى مثل ميراث الذكر، أو جعل شهادة المرأة في الشئون التي نص عليها القرآن مثل شهادة الرجل يدخل في دائرة الارتداد، فهذه أمور لا يتقبل الاجتهاد. { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
من أجل هذا كله كانت المعركة مستعرة وحامية الوطيس بين العلمانيين وبين الشريعة الإسلامية، فإن الشريعة هي العدو الأول لهم لأنها هي التي تهيئ للمجتمع سياجاً من القوانين يحميه من عدوان العادين، وهي التي تردع من لم يرتدع بوازع الإيمان كما قال الخليفة الثالث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
هذا وإن في الدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة بالإضافة إلى ما تتضمنه من الكفر والزندقة فإنها دعوة إلى تأليه الإنسان وإعطائه الحق في أن يشرع لنفسه فيما رفض فيه ولاية الإسلام عليه من أحكام المعاملات وشئون الدولة ونحوه، وقد تمهد في محكمات الأدلة أن التشريع حق خالص لله وحده من نازعه فيه فهو مشرك بالإجماع.
إن عقيدة التوحيد الإسلامية ترفض الشرك في العبودية لله، أو الشرك في الولاء له، أو الشرك في الطاعة لحكمه، فالمسلم لا يبغي غير الله رباً، ولا يتخذ غير الله ولياً ولا يبتغي غير الله حكماً، كما وضحت ذلك سورة التوحيد.. سورة الأنعام في هذه الآيات: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام:14] .
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً }[الأنعام:114] {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام:164] . إنما يجب أن يكون المسلم كله لله، وحياته كلها لله { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
إن الإسلام لا يعرف هذه الثنائية التي عرفها الفكر المسيحي والفكر الغربي الذي يشطر الإنسان، ويقسم الحياة بين الله تعالى وبين قيصر، فليس قيصر نداً لله ينازعه في ملكه، بل هو عبد لله، يخضع لحكمه، ويدين لأمره ونهيه، كما يدين كل العباد ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(4) : قولهم : انقضت الدولة الدينية وحلت الدولة القومية !
( ولمناقشة هذه الدعوة لابد من تقرير مدخل هام نرى ضرورة تقريره ابتداء قبل الدخول في الجزئيات والتفاصيل، ويمثل هذا المدخل في الإجابة على هذه الأسئلة: هل نحن مسلمون؟ هل نرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؟ هل نعتقد بعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه؟ هل نعتقد أن الكتاب والسنة هما الحجة القاطعة والحكم الأعلى؟ هل نؤمن بوجوب رد ما تنازع الناس فيه إليهما؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة يعد مقدمة ضرورية لمناقشة هذه الدعوى وكافة الدعاوى المشابهة. إذا آمنا بحجية القرآن والسنة وبعصمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه توجهنا في المناقشة إلى سوق الأدلة الشرعية التي تبين عوار هذه الدعاوى وبطلانها، والغرض أن هذه الأدلة مسلمة من الفريقين.
أما إذا كنا نناقش قوماً لا يدينون بهذه الأصول ولا ينطلقون من هذه الثوابت، فلا وجه للدخول في تفاصيل الشريعة مع قوم لا يؤمنون ابتداء بالعقيدة، ولا معنى للمنازعة حول الفروع في حين أن الأصول لا تزال عندهم موضع نظر ومكابرة، وتكون المناقشة ابتداء حول إثبات صحة هذه الأصول.
إن بعض العلمانيين في بلادنا لا يزالون يعلنون إيمانهم المجمل بالكتاب والسنة، وهم حريصون على إظهار ذلك، وقد يكون ذلك حقاً، وقد يكون من قبيل ما يسمونه بالنضج السياسي لعدم تهيؤ الأمة للمجاهرة بضده، ولكن نأخذ بظاهر أقوالهم ونكل سرائرهم إلى الذي يعلم السر وأخفى ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي ) .
الشبهة(5):ادعاؤهم أن الدولة الإسلامية تؤدي للاستبداد !
يقولون: نحن دخلنا في "الانتخابات" من باب أنها مصلحة من المصالح المرسلة!
الجواب:(3/240)
1- المصلحة المرسلة ليست أصلاً من أصول الدين التي يُعمل بها، وإنما هي وسيلة متى توفرت شروطها، عُمِل بها، ومتى لم تتوفر، لم يُعمَل بها.
2- تعريف المصلحة المرسلة هي: ما لم يأتِ نصٌّ فيه بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراجها تحت أصل عام.
وتعريف آخر يذكره الأصوليون وهو: الوصف الذي لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه مِنْ قِبَل الشارع.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه (الموافقات 4/210):
« فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح، بشرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج» ا هـ.
فالمصالح المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، ومنها: مصلحة عامة أو خاصة، أما ما نحن فيه، ففيه من المفاسد السابقة الذكر التي لا يشك عاقل أنها كافية في إخراج محل النزاع من باب المصالح المرسلة، إلى المفاسد المحرمة، والله أعلم.
وقد أخذ الصحابة بالمصالح المرسلة، وهكذا التابعون وأتباعهم، فتأليف الكتب الفقهية، وكتب اللغة العربية، وكتب علوم الحديث، وجمع القرآن والاقتصار على النُّسَخِ التي اختارها عثمان وإلغاء ما عداها .. إلى غير ذلك من المصالح، وكما ذكرنا سابقاً أنها ليست من الأصول، وإنما هي مسألة اجتهادية يصيب فيها الرأي ويخطئ، والتشريعة كلها جاءت لتحقق مصالح الناس، كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة 2/23)، ورفع المشقّة والعسر والحرج.. الخ، كلها من لوازم المصالح للناس. ومن خلال هذا العرض السريع نستفيد أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد.
فعلى هذا فالمصلحة المرسلة لها شروط يجب أن تُراعى، فإذا توافرت شروط المصلحة عُمِل بها، فهل تقيّد المخالفون بهذه الشروط؟
وسيأتي ذكر الشروط بعد الكلام على الشبهة الخامسة عشر – إن شاء الله -.
( المرجع : رسالة : تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات ،لمحمد الإمام ، ص 177-178) .
الشبهة(6): تحججهم بوجود طوائف غير مسلمة .
وللإجابة عن هذه الشبهة( نقول وبالله التوفيق :
أولاً : إنه لا يُقبل شرعاً ولا عرفاً ولا ديمقراطياً أن تتخلى الأغلبية عن هويتها ومقدساتها وحضارتها طلباً لمرضاة الأقلية، لاسيما إذا كانت هذه المقدسات لا مساس لها بالحقوق الأساسية المشروعة لهذه الأقليات، ماذا لو حدث العكس، وكان المسلمون هم الأقلية؟ هل كان يقبل منهم أن يطلبوا إلى الأكثرية التنازل عن هويتهم ومقدساتهم طلباً لمرضاتهم؟
ثانياً : إن الدولة القومية التي تنشدها هذه الأقليات التي تفصل فيها الدولة عن الدين، وتنفصم بها عرى الموالاة بين المسلمين تتعارض تعارضاً جذرياً مع أصل الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ولا سبيل إلى القبول بها إلا يوم أن نقرر أننا قد تخلينا عن ديننا وخلعنا ربقة الإسلام من أعناقنا وهيهات هيهات أن نكفر بالله ورسوله!
ثالثاً : إنه فيما عدا الولايات التي يُعتبر الإسلام فيها شرطاً لانعقادها تُفتح أمامهم كافة الأبواب للمشاركة الكاملة في بناء هذا الوطن شأنهم في ذلك شأن المسلمين سواء بسواء، وغني عن الذكر أن صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم حقوق مقدسة لا مماراة فيها ولا جدال، ولا نرى حرجاً أن تصدر في شئونهم وثيقة خاصة ينص فيها على مركزهم القانوي في المجتمع من حقوق وواجبات إن هم رغبوا في ذلك وتكون ملحقة بالدستور، وتتمتع بنفس القوة التي يتمتع بها، ولهم أن يشترطوا لأنفسهم ما يشاؤون من ضمانات لكفالة حقوقهم المشروعة وعدم المساس بها من أحد من الناس، ثم بعد بهذا يعيشون كما عاش أجدادهم في هذه البلاد ولمدة تزيد عن ثلاثة عشر قرناً من عمر الزمان في ظل تحكيم الشريعة ؛ آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم، لم تمتد إليهم يد بسوء، ولم يُكرهوا كما أكره المسلمون في الأندلس على تغيير دينهم، ولو أن المسلمين في الشرق توجهوا إلى شيء من ذلك ما بقي نصراني واحد في بلادنا إلى اليوم.
ملكنا فكان العفو فينا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
ولنستمع إلى شهادة كبار المؤرخين وهم يعقدون المقارنة بين نصارى الشرق وبين المسلمين في الغرب ومدى ما يتمتع به هؤلاء وأولئك من الحقوق والواجبات.
يقول الوزير دوجو فارا صاحب كتاب (مائة مشروع لتقسيم تركيا) فيما ينقله عنه الأمير شكيب أرسلان: (إن الدولة المسيحية ظلت مدة ستة قرون (699-1299هـ) تهاجم الدولة العثمانية الإسلامية رغم تسامح المسلمين وحسن معاملتهم لرعاياها من المسيحيين، ويقول: إن من أعظم أسباب انحلال هذه الدولة الإسلامية هو مشربها من إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية للأمم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين –المذهبية والمدرسة- كانت تبث دعايتها القومية للانفصال عن السلطة العثمانية).(3/241)
ويقول جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: (وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذين كانوا يرغبون في نشره في العالم... ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون –الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة- أن النظم والديانات ليست مما يُفرض قسراً ؛ فعاملوا –كما رأينا- أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقاً في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم).
وننقل عن جوتيه في كتابه أخلاق المسلمين وعاداتهم قوله: (ولقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية في فضيلة المسامحة التي لم تكن تتوقع من أناس يحملون ديناً جديداً. وما فكر العربي قط في أشد أطوار تحمسه لدينه الجديد أن يطفئ بالدماء ديناً منافساً لدينه) .
ويقول ريتشارد ستيبز من أبناء القرن السادس عشر: (وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب... فقد سمحوا للمسيحيين جميعاً –للأغريق منهم واللاتين- أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخرى كثيرة جداً، على حين أستطيع أن أؤكد بحق بدليل اثني عشر عاماً قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا.
وهذا ما جعل بطريارك أنطاكية واسمه ماركوس يقول: أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد! فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان، سواء كان رعاياهم مسيحيين أو يهوداً أو سامرة).
ويقول القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الأنجيلية في مصر: (في كل عهد أو حكم التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين –والمسيحيين على وجه الخصوص- بكل أسباب الحرية والأمن والسلام .. ) .
وأخيراً ننقل هذه الوثيقة وهي من القرن التاسع عشر وتتمثل في نص الفرمان (الظهير) الذي أصدره السلطان محمد بن عبدالله سلطان المغرب في 5 فبراير سنة 1864م وهذا نصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر ولاياتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحداً منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام، وألا يعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم، وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، ونحن لا نوافق عليه، لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء، ومن ظلم أحداً منهم أو تعدى عليه فإننا نعاقبه بحول الله، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقرراً ومعروفاً محرراً، لكن زدنا هذا المسطور تقريراً وتأكيداً ووعيداً في حق من يريد ظلمهم وتشديداً ليزيد اليهود أمناً إلى أمنهم، ومن يريد التعدي عليهم خوفاً إلى خوفهم، صدر به أمرنا ، المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 1280 ثمانين ومائتين وألف).
أرأيت إلى هذا الإنصاف والتسامح ورعاية العهود والذمم الذي صحب الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها، وسطرته أقلام الكتّاب النصارى أنفسهم لتسجل ذاكرة الزمان أن تاريخنا لم يعرف اضطهاداً لأقليات تخالفنا في الدين وتشاركنا في الوطن، وليثبت للمرتابين تهافت التذرع بوجود أقليات في المجتمع المسلم إلى رفض الشريعة والاعتداء الظالم على دين المسلمين ).
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(7): ادعاؤهم جمود الشريعة في مواكبة التغيرات !
( وهذه الدعوة أيضاً مما ينعق به خصوم الشريعة، ويقولون إن تحكيم الشريعة يقعد بنا عن ملاحقة التطور والوفاء بمقتضياته، لأن الشريعة أساسها الدين، والدين ثابت لا يتغير، ولكن الحياة في تغير دائم وتحول مستمر فأنى للجامد الثابت أن يحكم المتحول المتغير ويفي بحاجاته؟ ولذلك يرون أن من الخير للدين أن يبقى عقيدة في الحنايا، وشعائر في دور العبادة، وأن يترك قيادة الحياة إلى نظم وضعية تستلهم من واقع الحياة المتجدد والمتطور وتفي بمقتضيات المدينة الحاضرة وهذه الشبهة تقوم على محورين:
- ثبات أحكام الشريعة فلا مجال فيها للتجديد بوجه من الوجوه.
- تطور أوضاع الحياة فلا مجال فيها للثبات بوجه من الوجوه.(3/242)
وكلا الأمرين في إطلاقه على هذا النحو وهم وخرافة ؟!
فأحكام الشريعة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير، وأحوال الحياة وأوضاع البشر منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير كذلك.
فإن أرادوا التجديد في الثوابت والقطعيات التي حسم فيها الشارع الحكيم بنصوص محكمة قاطعة فقد خابوا وخسروا، وإن دون ذلك الردة عن الإسلام!! لقد حرّم الله الزنا، فإذا جاءت القوانين الوضعية تبيحه لمن بلغ سن الرشد القانونية تحت دعوى التطور والحرية الشخصية فذلك خسران وردّة، ولقد حرّم الله الخمر ، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحتها مسايرة للأوروبيين، وملاحقة للمدنية، وتقديساً للحرية الشخصية، فإن ذلك خسران وردّة، ولقد حرم الله الربا والميسر، فإذا جاءت القوانين الوضعية بإباحته لاعتبارات اقتصادية أو ملاحقة للتطور والمدنية فإن ذلك خسران وردّة!! فما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، وما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وكما لا يملك الإنسان تغيير أمر الله الكوني لا يحلّ له تبديل أمر الله الشرعي، وكما أن الخلق كله لله فإن الأمر كله لله: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وإن أرادوا تجديد الاجتهاد في الظنيات ومسائل الاجتهاد بما يحقق المصالح البشرية ولا يخرج على الأدلة الشرعية فذلك حق، على أن يتم بضوابطه وأن يمارس من أهله، حتى لا يصبح دين الله نهباً لكل عابث أو جهول، وإن قواعد الشريعة وأصول الاجتهاد فيها ما يلبي هذه الحاجة، ويحقق مصالح العباد أتم تحقيق في إطار من الحق والعدل، وهل جاءت الشريعة ابتداءً إلا لتحقيق مصالح العباد وإرشادهم إلى ما يكفل لهم الحياة الطيبة في الأرض والفوز بجنة الخلد ونعيم الأبد في الآخرة ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(8): ادعاؤهم قسوة العقوبات الشرعية !
( يزعم دعاة التغريب وخصوم الشريعة أن الحدود والقصاص من العقوبات البشعة التي لا تلائم مدنية هذا العصر، ولا تتفق مع ما انتهت إليه النظريات الجديدة في علم الإجرام والعقاب التي تبدلت نظرتها إلى مرتكب الجريمة من كونه مجرماً يستحق العقاب إلى كونه مريضاً يستحق الرحمة والعلاج، وهذه الشبهة قد أوسعها أهل العلم دحضاً ونقضاً وفيما كتبوه غناء بل ثراء، ولكن لا نرى بأساً من إيراد هذه اللمحات .
نقول لهؤلاء الرحماء ! :
أولاً : إن الذي قرر هذه العقوبات هو الله رب العالمين. أليس كذلك؟ إن جحدوا فقد كفروا وانتقل الحديث معهم إلى دائرة أخرى... إلى أصل الإيمان بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، ولا وجه أن يناقش في الفرع من كفر بالأصل.
وإن أقروا انتقلنا بهم إلى سؤال آخر: أتؤمنون بحكمة الله في شرعه، وعدله في حكمه أم لا؟ إن جحدوا فقد كفروا ، وإن أقروا فقد خُصِمُوا، لأن هذه العقوبات من شرعه ومن حكمه، وقد أقروا بأن شرعه حكيم وحكمه عادل، فسقط الاعتراض من الأساس! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(9): قولهم : أي مذهب نُطبق ؟!
( ومن التهافت البيّن بعض ما يشنع به هؤلاء الخصوم من أن إقامة الحدود سيحوِّل أغلب المجتمع إلى معوقين ومشوهين نظراً للانتشار الهائل للجريمة والتنامي المستمر في معدلاتها، فكيف تُقطع أيدي ثلثي المجتمع ونرجم أو نجلد تسعة أعشاره ؟!
وهذا القول فضلاً عما فيه من المبالغة في تصوير الواقع، وتقديم الأمة كلها على أنها عصابة من السراق والزناة والسكارى ؛ فإنه إلى التهافت والديماجوجية أقرب منه إلى المنطق العلمي النزيه.
فلقد علم هؤلاء وعلمت الدنيا كلها أن قيمة هذه العقوبات تكمن في التهديد بها وإعلانها على الملأ، وأن في مجرد النص عليها وإعلام الأمة بها والجدية في تطبيقها من الزجر والردع وإشاعة الهلع والفزع في نفوس الجناة والمجرمين ما تنحسر به هذه الجرائم وتتراجع به معدلاتها المتزايدة، بل ما ينقطع به دابرها أو يكاد ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة (10) : ادعاؤهم افتقاد أهل الإسلام لبرامج عملية .
( يقولون: أي شريعة تطبقون وأية إسلام تنشدون: إسلام مالك أم إسلام أبي حنيفة أم إسلام الشافعي أم إسلام أحمد بن حنبل؟ إسلام الخميني في إيران أم إسلام النميري في السودان، أم إسلام ضياء الحق في باكستان، أم إسلام السعودية؟ إنكم لم تتفقوا على الإسلام الذي تدعوننا إليه وتجادلوننا في تطبيقه!!
وهم بهذا يريدون تقديم قضية الإسلام وكأنه شرائع منفصلة، ونماذج شتى متباينة تتفاوت من النقيض إلى النقيض، ويغرق معها مريد التطبيق في لجج من المتناقضات والمفارقات، ثم يحمِّلونه أوزار بعض هذه التجارب البشرية القاصرة، وكأن الإسلام هو المسئول عن هذا التشرذم وعن هذه الأخطاء، إذاً فهو لا يصلح للتطبيق.(3/243)
إن الإسلام الذي ننشده وينشده كل مسلم هو إسلام الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة، هذا هو المحكم الذي لا جدال فيه ولا مماراة، أما ما وراء ذلك من الاجتهادات الفقهية، فهو من موارد الاجتهاد التي لا يُضيّق فيها على المخالف، ولأهل العلم في كل عصر أن يرجحوا ما تقتضيه الأدلة ويحقق المصلحة، ولا حرج أن تتفاوت هذه الاجتهادات من قطر إلى آخر حسبما تقتضيه المصلحة ويرفع الحرج عن المكلفين، بل وأن يعاد النظر فيها من حين لآخر كلما طرأت ظروف وتجددت أحوال حتى تبقى دائماً في هذا الإطار.
ثالثاً: إن تفاوت الاجتهادات والتفسيرات في الأمور الجزئية ظاهرة طبيعية ولا يكاد يخلو منه تشريع سماوي أو تقنين وضعي.
ألا تختلف المحاكم الوضعية في تطبيق القانون أو في تفسيره فتقضي بينها محكمة النقض بحكم بات يرفع الخلاف؟ ألا يختلف علماء القانون الوضعي في شروح القوانين واللوائح الإدارية؟ بل ألا يختلف الأطباء والمهندسون وسائر الفنيين في كثير من الفروع والتفصيلات؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ وما لهم يجعلون من الظواهر العادية مسبة ومطعناً ماداموا يتحدثون عن الإسلام؟!
رابعاً : إن هؤلاء العلمانيين القائلين بهذه الشبهة يكيلون بكيلين ويزنون بمعيارين، فعندما يتحدثون عن الإسلام يشغبون عليه باختلاف مذاهبه وتعدد تجارب تطبيقه، وعندما يتحدثون عن مذاهبهم الوضعية وعقائدهم السياسية لا يكادون يتفقون على تعريف محدد لما ينادون به من هذه النظريات، ولا يجدون في تعدد مدارسها وتباين مذاهبها مانعاً يمنع من تطبيقها، أو يثني عزمهم عن المناداة بها والدعوة إليها ؟
ولنتأمل هذه العبارة عن الماركسية وهي لأحد الماركسيين المعروفين وهو مكسيم رودستون الكاتب اليهودي الفرنسي : (الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة، ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة!! إن هذا التراث كالكتاب المقدس "أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها" حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصاً تؤيد ضلالته !!) اهـ
وليست الديمقراطية بأقل حظاً من الاشتراكية في هذا التعدد، فنحن لا نكاد نجد مذهباً في هذا العصر ليبرالياً أو اشتراكياً أو شيوعياً إلا ويدعي أن ديمقراطيته هي الديمقراطية الحقة، وأن ما عداها زائف ومدخول!
أما الأخطاء التي صحبت بعض تجارب التطبيق فوزرها على أصحابها، والإسلام منها براء، هذا هو الذي تقتضيه الموضوعية في التقويم، والإنصاف في الحكم، ولكن أنى لهؤلاء العلمانيين هذه الموضوعية وهذا الإنصاف وهم الذين تنغل قلوبهم حقداً على الشريعة وعداوة لأنصارها.
ومرة أخرى نرى التطفيف في منطق هؤلاء العلمانيين ؛ فعندما يتحدثون عن فشل المذاهب الوضعية في بلاد المسلمين يبرئون هذه المذاهب في ذاتها ويلتمسون للفشل أسباباً أخرى، وعندما يتحدثون عن تجارب التطبيق الإسلامي يحمِّلون الإسلام في ذاته هذه الأخطاء ويجعلون الفشل مرتبطاً بطبيعة الحل الإسلامي في ذاته، وعدم صلاحيته في ذاته للتطبيق.
فتجدهم يلتمسون الأعذار لفشل الديمقراطية الليبرالية في مصر بأنها لم تدم أكثر من ثلاثين عاماً 1923 – 1952م ، ويعتذرون لفشل الاشتراكية في مصر بقصر المدة وبعدم الجدية في التطبيق وأنها كانت اشتراكية بغير اشتراكيين فالمكلفون بحراستها كان يتم اختيارهم على أساس الولاء وليس على أساس الكفاية.
أجل! يعتذرون بهذا عن فشل الاشتراكية والديمقراطية في الوقت الذي يحاسبون فيه باكستان على بضع سنين، والسودان على سنة أو سنتين، ولا يقولون إنها كانت تنقصها الجدية الكافية في التطبيق أو إنها كانت عملية إسلامية بغير إسلاميين! ومرة أخرى { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1-5] .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
الشبهة(11):قولهم: تطبيق الشريعة يؤدي للكبت !!
( وهذه مناورة أخرى يهدف بها دعاة العلمانية إلى إحراج العمل الإسلامي بالتشنيع عليه بأنه يغذ السير بالناس إلى دولة مجهولة، ويدعو الناس إلى منهج لم يسبر أغواره ولم يعرف أبعاده، فهو لا يعرف تفاصيل هذا المنهج ولا يملك برامج عملية لوضعه موضع التنفيذ، مثله كمثل رجل ظل يلح على آخر حيناً من الدهر بأن يدخل في الإسلام، وتوعده إن أعرض بسوء المآل فقال له : ماذا أفعل لكي أسلم، فقال : لا أدري !
وللإجابة على هذه الشبهة نقول:(3/244)
أولاً : إننا لا نبتدع في الناس أمراً لا عهد لهم به من قبل، بل نردهم إلى ما درجوا عليه وعاشوا في ظله ثلاثة عشر قرناً من الزمان، ولم يتوقف إلا على يد الاستعمار الكالح الذي وطئت خيله الأزهر على يد نابليون، وقتل الأبرياء في دنشواي على يد كرومر، ومكن لليهود في فلسطين على يد بلفور، وفعل بأمتنا الأفاعيل والعجائب.
وطني كم صنم مجدته لم يكن يحمل طُهْر الصنم
لا تلومي الذئب في عدوانها إن يك الراعي عدو الغنم
ثانياً: إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهي التي تتبنى الإسلام بشموله عقيدة وشريعة إقراراً به، وعملاً بموجبه، ودعوة إليه، وولاء وبراءً على أساسه، وإن مفتاح التغيير المنشود هو التعبير عن سيادة الشريعة وأنها وحدها الحجة القاطعة والحكم الأعلى، وأن كل قانون يتعارض معها فهو باطل يجب على المحاكم أن تمتنع عن تطبيقه تلقائياً لمخالفته لمبدأ المشروعية، ومن حق أي مواطن أن يطعن أمامها ببطلان أي قانون يُعتقد مخالفته للشريعة، وتقضي ببطلانه إذا ثبت لديها ذلك.
ثالثاً : هب أن المنادين بتحكيم الشريعة لا يملكون هذه البرامج وتنقصهم الكفايات والتخصصات النظرية أو العملية فأين ذهبت الجهات المتخصصة التي تقدر على ذلك في بلادنا الإسلامية؟ والتي إذا استنفرتها الدولة نفرت وإذا دعتها لبت؟ ألسنا نعلن أننا مسلمون ديننا الرسمي هو الإسلام؟ والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ وعلى أرضنا توجد أعرق جامعات العالم وبلادنا هي التي تُصَدر العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفي غيرها إلى جميع أنحاء العالم ؟
إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست برنامجاً حزبياً تطرحه فئة محدودة على أرض الوطن، إنها إرادة هذه الأمة، والدين الذي يستمسك به الكافة، فهي فوق الأطر الحزبية، والتنظيمات السياسية، والخلافات المذهبية، والدولة كل الدولة حكومة ومعارضة مسئولة أمام الله عز وجل عن أن تقيم هذا الدين، وأن تُجيِّش له الطاقات، وأن تعد له الرجال، وأن توظف كل إمكاناتها المادية والبشرية لإقامته على وجهه كما أمر الله.
إن هذا العمل مسئولية أمة وليس مسئولية حزب من أحزابها، أو تيار من تياراتها الفكرية أو السياسية، ولا حرج على الدعاة إلى الله –بل يجب عليهم- إن هم رأوا تعطيلاً لشرائع الله وتحاكماً إلى غير ما أنزل الله، أن يصدعوا بالنصيحة الواجبة، وأن يجهروا بكلمة الحق في مختلف المواقع، وأن يطلبوا كل قادر ومتخصص أن يدلي بدلوه وأن يبذلوا قصارى جهدهم لتقويم هذا الخلل، وإعادة الدولة إلى الإسلام، وحسبهم أن يشاركوا في ذلك بقدر ما تؤهلهم له قدراتهم وتخصصاتهم، وألا يضنوا على ذلك بوقت ولا جهد ولا مال.
رابعاً : إن الجامعات الإسلامية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ودور الفتوى في العالم الإسلامي رصيد هائل للدعوة إلى تطبيق الشريعة ، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات والكفايات النادرة المتخصصة ما يفوق الحصر ويذهل العقل . فهل يصح مع ذلك أن يقال: إن الدعوة إلى تحكيم الشريعة دعوة عاطفية تفتقد البرامج التفصيلية والكفايات العملية؟ أليس هذا غمطاً للأمة كلها واتهاماً لجميع مؤسساتها وجامعاتها بالعقم والسلبية والقصور بل بالخيانة وإضاعة الأمانة ؟
إن ما كتب في مجال الاقتصاد الإسلامي من الدراسات والبحوث الإسلامية المتخصصة رغم حداثة العهد بالكتابة في هذا المجال يبلغ بضع مئات وفق التقرير الذي قدم إلى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة قبل ما يزيد على عشرين سنة ! ترى كم بلغ عددها الآن؟ وما عدد الدراسات المتخصصة في المجالات الأخرى التي لا يزال المتخصصون فيها يكتبون منذ أمد بعيد؟ إن الأزمة التي تواجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست أزمة برامج وتفصيلات وإنما هي أزمة إرادة سياسية قادرة على التغيير واتخاذ القرار! ولو وجدت هذه الإرادة لتحوّلت كل كفايات الأمة ومؤسساتها إلى جنود في معركة التطبيق، ولتحولت القيادة السياسية إلى غرفة عمليات تشرف على ذلك كله، تحث الخطى وتوجه المسار!
خامساً : إن العلمانيين وخصوم الشريعة عندما يرددون هذه الشبهة فهم محجوجون بمنهج التغيير الذي اعتمدته كبريات الحركات الأيديولوجية العالمية التي لم تعن إلا بالعقائد والمبادئ الأساسية، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات.
فالثورة الفرنسية تجمع الناس حول ثالوثها المعروف: الحرية والإخاء والمساواة، ومن خلاله عرف الناس أي مجتمع تنشده هذه الثورة.(3/245)
والشيوعية لا تعني في بداية الأمر إلا بالعقائد الاشتراكية الكبرى والمبادئ الرئيسية العامة، وكان جل اهتمامها منصباً على الجانب السلبي الذي يجب هدمه حتى يمتهد الطريق لإقامة اقتصاد اشتراكي، أما الخطوات الجزئية والبرامج التفصيلية فلا تكاد تجد في كتابات روادها الأوائل ما يغطي شيئاً من ذلك، بل إن ماركس في رسالته التي كتبها إلى صديقه (تيسلي) عام 1869م اعتبر ذلك من قبيل الرجعية، وأن من يرسم خطة للمستقبل يكون رجعياً، ومن هنا يقرر ندلوب ميلا أن ماركس كان بخيلاً جداً في تحديد المجتمع الجديد وفي امتناعه عن إعطاء أية صورة واضحة عنه.
يقول مؤلفو علم الاقتصاد الحديث : (لقد ركز كل من " ماركس " و" لينين " اهتمامهما في العقائد الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك عندما تسلم "البولشيفك" زمام السلطة سنة 1917م لم يكن أمامهم أي مخطط جاهز للنظام الاقتصادي الذي ستنشئه ديكتاتورية العمال، ولقد حاولوا لفترة قصيرة تطبيق نظرية ماركس في " القيمة المنبثقة من العمل " لكنهم تخلوا عن هذه المحاولة، وأظهر " البولشيفك " براعة سياسية أمنت لهم البقاء في الحكم، وأخذوا يطبقون التجارب على مر السنين حتى أنشأوا النظام الروسي الحالي، وربما كان باستطاعة الزعماء الروس أن يكتشفوا نفس النتائج بطريقة أقصر، وكلفة أقل لو درسوا علم الاقتصاد دراسة نظامية، ولكن عقيدتهم الماركسية كانت تنكر هذا العلم من أساسه) اهـ
فإذا كان هذا هو المنهج مع كبريات الحركات العالمية التي ينتمي إليها هؤلاء الخصوم فلماذا يطالبون العمل الإسلامي وحده بأن يقدم ابتداءً برامجه التفصيلية وحلوله العملية لكل جزئية من جزئيات الحياة في المجتمع، وهو الأمر الذي اعتبره قادتهم وأئمتهم من جنس الرجعية والتخلف ؟
سادساً : إن كثيراً من مشكلاتنا المعاصرة هي نتاج لهذه المناهج الوضعية السائدة في بلادنا، وترتبط بها وجوداً وعدماً ، وقد يختفي كثير منها بحلول أيديولوجية أخرى لتنشأ مشكلات من نوع آخر وتحديات من لون جديد ، فلماذا نفترض أن كل علل مجتمعاتنا سوف تبقى في ظل تحكيم الشريعة، وأن علينا أن نستغرق في وضع الحلول التفصيلية لها من الآن؟ ألا يعد هذا من قبيل العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ؟! ) .
( المرجع : " تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية " د / صلاح الصاوي) .
======================
الشبهة(1): قولهم : لماذا تلزمونا بفهم السلف ؟
الجواب : للأدلة التالية :
1- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[ التوبة : 100].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم؛ فإذا قالوا قولاً فاتبعهم متبع قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محموداً على ذلك، وأن يستحق الرضوان.
ولو كان اتباعهم تقليداً محضاً كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عامياً، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم إتباعهم حينئذ".
قلت: دلت الآية على حجية منهج الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه دليل فاستحق متبعهم الرضوان فلا يمدح إلا من اتبع الدليل، ولذلك وجب إتباعهم على العالم والعامي سواءً؛ لأن فرض العالم إتباع الدليل؛ كما قال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [الأعراف: 3] ولو لم يكن كذلك لاستحق العقوبة، ولم يستحق الرضوان؛ فتدبر.
2- قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس: 21].
قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله -: "هذا ما قصّه الله - سبحانه وتعالى - عن صاحب يس على سبيل الرضا بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار له عليها.
وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجراً وهم مهتدون بدليل قوله تعالى: خطاباً لهم: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
ولعل من الله واجب .
وقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 16 ، 17].(3/246)
وقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد : 4 ، 5].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
وكل منهم قاتل في سبيل الله، وجاهد إما بيده أو بلسانه؛ فيكون الله قد هداهم، وكل من هداه الله فهو مهتد؛ فيجب إتباعهم بالآية".
3- قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15].
قال ابن قيم الجوزية: " وكل من الصحابة منيب إلى الله ؛ فيجب اتباع سبيله ، وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله .
والدليل على أنهم منيبون إلى الله تعالى : أن الله قد هداهم ، وقد قال تعالى { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [ الشورى : 13].
4- قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [ سورة يوسف : 108 ] .
قال ابن القيم : ( فأخبر تعالى أن مَن اتبع الرسول يدعو إلى الله، ومن دعي إلى الله على بصيرة وجب إتباعه؛ لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ } [الأحقاف: 31].
ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالماً به، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله، لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذاً فالصحابة رضوان الله عليهم قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إتباعهم إذا دعوا إلى الله".
5- قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "شهد الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفتِ فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والمنكر خطأ من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قولهم حجة".
6- قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
قال ابن قيم الجوزية: "ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقة صدقه إتباعه لهم وكونه معهم.
ومعلوم أن من خالفهم في شيء، وإن وافقهم في غيره، لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإذا ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط.
وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب، بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتفِ عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان.
وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال له لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم.
ففرق بين المعية المطلقة ومطلق المعية، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني، فإن الله تعالى لم يرد منا أن نكون معهم في شيء من الأشياء، وأن نحصل من المعية ما يطلق عليه الاسم، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب تعالى من أوامره.
فإذا أمرنا بالتقوى والبر، والصدق، والعفة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، ونحو ذلك؛ لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم، وهو مطلق الماهية المأمور بها، بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء".
7- قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلكم أمة خياراً عدولاً، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلمَ خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر الملائكة أن تصلي عليهم، وتدعو لهم، وتستغفر لهم.(3/247)
والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستنداً إلى علمه به؛ كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقاً من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم.
فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالفة لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله، إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها؛ كانت تلك الأمة العدل الخيار قد أطبقت على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين: قسماً أفتى بالباطل، وقسماً سكت عن الحق، وهذا من المستحيل، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان خيراً ما سبقونا إليه".
8- قال تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر تعالى أنه اجتباهم، فهم المجتبون الذين اجتباهم الله إليه، وجعلهم أهله وخاصته، وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم تعالى أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهاً معبوداً محبوباً على كل ما سواه، كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم، وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه وأحباءه، وآثرهم بذلك على من سواهم.
ثم أخبرهم تعالى أنه يسَّر عليهم دينه غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتة؛ لكمال محبته لهم، ورأفته ورحمته، وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده تعالى وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام، فيكون تعلق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم، وسمّاهم كذلك بعد أن أوجدهم، اعتناءً بهم، ورفعةً لشأنهم، وإعلاءً لقدرهم.
ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله، ويشهدوا هم على الناس، فيكونوا مشهوداً لهم بشهادة الرسول، شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم، فكان هذا التنويه؛ وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين؛ ولهاتين الحكمتين العظيمتين.
والمقصود: أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى؛ فمن المحال أن يحرمهم كلهم الصواب في مسألة؛ فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، والله المستعان".
9- قال تعالى: { وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران : 101].
قال ابن قيم الجوزية: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر عن المعتصمين به بأنهم هدوا إلى الحق.
فنقول: الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون؛ فإتباعهم واجب.
أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوهن :
أحدها: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ومعلوم كمال تولي الله ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديين بشهادة الرب لهم بلا شك، وإتباع المهدي واجب شرعاً وعقلاً وفطرةً بلا شك".
10- قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24].
قال ابن قيم الجوزية: " فأخبر تعالى أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم، إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله لا يتم له أمره إلا بيقينه للحق الذي يدعو إليه، وبصيرته به، وصبره على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاق الدعوة، وكف النفس عمّا يُوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره تعالى.
ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى عليه السلام، فهم أكمل يقيناً وأعظم صبراً من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابت بلا شك بشهادة الله لهم، وثنائه عليهم، وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيرة الله وصفوته.
ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكناً لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًّا وعقلاً فهو محال شرعاً، وبالله التوفيق".(3/248)
11- قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً }[الفرقان: 74].
قال ابن قيم الجوزية: "فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم به، والتقوى واجبة، والائتمام بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا فيه مخالف للائتمام بهم".
12- قال الله تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 136، 137].
قال ابن قيم الجوزية: "فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزاناً للتفريق بين الهداية والشقاق، والحق والباطل.
فإن آمن أهل الكتاب بما آمن به الصحابة فقد اهتدوا هدايةً مطلقة تامة، وإن تولوا عن الإيمان بما آمن به الصحابة كمثل إيمانهم فقد سقطوا في شقاق كلي بعيد.
وعلى قدر مطابقة إيمانهم إيمان الصحابة يتحقق لهم من الهداية، وبمقدار بُعدهم عن إيمان الصحابة يكون فيهم من الشقاق.
ووجه الدلالة: أن إتباع الصحابة في الإيمان هو مناط الهداية، والعاصم من الشقاق والضلال، وهو يشمل إتباعهم في اعتقادهم وأقوالهم وأعمالهم، فكلها داخلة في مسمى الإيمان عند إتباع السلف.
وطلب الهداية والإيمان أعظم الفرائض، واجتناب الشقاق والضلال من كليات الواجبات؛ فدلَّ على أن إتباع الصحابة من أوجب الواجبات".
13- قال الله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115].
قال ابن قيم الجوزية: "والآية قرنت بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباع غير سبيل المؤمنين في استحقاق الإضلال وصلي جهنم.
ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمة مع إتباع غير سبيل المؤمنين، كما أن إتباع سبيل المؤمنين متلازم مع إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا كثير من علماء السلف، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وهو أمر ظاهر؛ لأن إتباع سبيل المؤمنين ممتنع دون إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن إتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متعذر بمخالفة ما سلكه المؤمنون في تأويل الكتاب والسنة والتحليل والتحريم والإيجاب.
والآية مما احتج به الإمام الشافعي على الإجماع اليقيني المتحقق، وقد علمت قوله فيه، وسبيل المؤمنين أوسع من المعلوم من الدين ضرورة، مثل كون الخمر حرام، والظهر أربع، وهو يشمل كل ما كان عليه سلف هذه الأمة.
ووجه الدلالة: أن الآية جعلت مخالفة سبيل المؤمنين هو أقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنه دلّ على هذا قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } [البقرة: 285]، والمؤمنون آنئذٍ هم الصحابة ليس إلا ".
قلت : فدلّ على أن إتباع سبيلهم في فهم شرع الله واجب، ومخالفته ضلال.
فإن قيل : هذا استدلال بدليل الخطاب، وليس حجة.
قلت : هو دليل، ودونك الدليل:
أ- عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ } [النساء: 101] فقد أمن الناس؟
قال عمر: عجبت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فقال: "صَدَقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".
لقد فهم هذان الصحابيان: يعلى بن أمية، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من هذه الآية: أن قصر الصلاة مقيد بشرط الخوف، فإذا أمن الناس فلا بد من الإتمام، وهذا هو دليل الخطاب المسمى بـ "مفهوم المخالفة".
وسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّه على فهمه، ولكنه بيَّن له أن ذلك غير معتبر هنا لأن الله تصدق عليكم؛ فاقبلوا صدقته.
ولو كان فهم عمر لا يصح لما أقرّه الرسول ابتداءً ثم وجهه هذا التوجيه، ولقد قيل: التوجيه فرع القبول.
ب- عن جابر عن أم مبشر - رضي الله عنهما -: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "إني لأرجو أن لا يدخل الناس أحد إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها"؛ فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } [مريم: 71].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله عز وجل: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [مريم: 72] ".(3/249)
لقد فهمت أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها - أن الورود لجميع الناس، وأنه بمعنى الدخول؛ فأزال رسول الله × إشكالها بتمام الآية { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } [مريم: 72].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّها على فهمها ابتداءً ثم وضَّح لها أن الدخول المنفي غير الورود المثبت، وأن الأول خاص بالصالحين المتقين، والمراد به نفي العذاب فهم يمرون منها إلى الجنة دون أن يمسهم سوء وعذاب، وباقي الناس على خلاف ذلك.
فثبت ولله الحمد والمنة: أن دليل الخطاب حجة يعتمد عليه، ويعول في الفهم إليه.
ناهيك أن قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } ليس دليل خطاب، وإنما هو احتجاج بتقسيم عقلي؛ لأنه ليس بين إتباع سبيل المؤمنين وإتباع غير سبيلهم قسم ثالث، فإذا حرم الله جل جلاله إتباع غير سبيلهم، وجب إتباع سبيلهم، وهذا واضح لا يشتبه.
فإن قيل: فإن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الإتباع أصلاً.
قلت : هذا من أوهى ما نطقت به العقول؛ لأن عدم الإتباع أصلاً هو إتباع لسبيل غيرهم قولاً واحداً؛ لقوله تعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]؛ فثبت أنهما قسمان لا ثالث لهما.
فإن قيل: لا نسلم أن إتباع غير سبيل المؤمنين موجب لهذا الوعيد بل هو مع مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يلزم حرمة إتباع غير سبيل المؤمنين مطلقاً بل إذا كانت مع المشاقة.
قلت : معلوم أن المشاقة محرمة بانفرادها، مستقلة بنفسها لإيجاب الوعيد عليها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 13]؛ فدلّ أن الوعيد على كل منهما بانفراده، وأن هذا الوصف يوجب الوعيد بمفرده، ويدل على ذلك أمور منها:
أ - أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن محرماً بانفراده لم يحرم مع المشاقة.
ب - أن إتباع غير سبيل المؤمنين لو لم يكن يدخل بانفراده في الوعيد لكان لغواً لا فائدة من ذكره؛ فثبت أن عطفه علة مستقلة كالأول.
فإن قيل : لا نسلم أن الوعيد لمن اتبع غير سبيل المؤمنين مطلقاً، بل بعد ما تبين له الهدى، لأنه ذكر مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرط فيها تبين الهدى، ثم عطف عليه إتباع غير سبيل المؤمنين، فيجب أن يكون تبين الهدي شرطاً في الوعيد على إتباع غير سبيل المؤمنين.
قلت: قوله تعالى: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ }معطوف على قوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } فلا يكون قيد الأول شرطاً للثاني، وإنما العطف لمطلق الجمع والمشاركة في الحكم، وهو قوله تعالى: ] نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؛ فدل على أن كلا الوصفين يوجب الوعيد بانفراده.
ويدل عليه ما يأتي:
أ - أن تبين الهدى شرط في مشاقة الرسول ×؛ لأنه من جهل هدى رسول الله × لا يوصف بالمشاقة، أما إتباع سبيل المؤمنين فهو هدى في نفسه.
ب - أن الآية خرجت مخرج التعظيم والتبجيل للمؤمنين فلو كان إتباع سبيلهم مشروطاً بتبين الهدى لم يكن إتباع سبيلهم لأجل أنه سبيلهم بل لتبين الهدى، وعندئذ فإن إتباع سبيلهم لا فائدة منه.
وبهذا تبين: أن إتباع سبيل المؤمنين منجاةً؛ فثبت أن فهم الصحابة للدين حجة على غيرهم فمن حاد عنه فقد ابتغى عوجاً، وسلك مكاناً حرجاً؛ فحسبه جهنم وساءت مستقراً، ومصيراً، ومقاماً، ومقيلاً.
14- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
قال ابن قيم الجوزية: "فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مُربياً ومُعلماً للكتاب وللسنة، وهذا من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما علّم جيل الصحابة، ومن بعدهم تلقي العلم عن طريقهم.
وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه، وقواعده وضوابطه، كما علّمهم السنة أتم تعليم وأكمله، ولم يشاركهم أحد في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ فلا يماثلهم أحد في كمال علمهم وفهمهم؛ لأن من تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَعَلّم على يديه ليس كمثل من تلقى عن غيره، إذ لا يمكن لأحد أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان والتعليم.
ووجه الدلالة: أن أولى الناس بالإتباع هو أتمّهم علماً وأكملهم فهماً، والصحابة هم أكمل الناس علماً، وأتمهم فهماً، فينبغي إتباعهم وتقديمهم عند الاختلاف وتعارض الفهم والحكم، قال إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] ".(3/250)
15- قال الله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] .
قال ابن قيم الجوزية: "والرشد ضد الغي والضلال، ويأتي بمعنى الهداية، والصحابة هم الراشدون المهتدون، الذين تمت هدايتهم ورشدهم، وكمال رشدهم يتضمن تمام الهداية في القول والفعل، ومعرفة الخطأ والصواب، والحق والباطل، وهذا يقتضي أنهم أولى بالهداية إلى الحق من غيرهم.
ووجه الدلالة : أن من كان راشداً مهتدياً كان قوله وفتياه أقرب إلى الحق والصواب ممن لم يكن كذلك، وهذا يقتضي إتباعه، وتقديم قوله وفهمه لكما هدايته، والصحابة كذلك بنص الآية، فاقتضت الآية تقديم أقوالهم وفتاويهم، والله أعلم".
16- قال الله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 6، 7].
قال ابن القيم الجوزية: "والصراط المستقيم هو صراط الأنبياء قبل هذه الأمة، وصراط الصديقين والشهداء والصالحين منها؛ كما قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69]، فأولئك هم أهل النعمة والفضل، وصراطهم بمعزل عن أسباب الغضب وموجبات الضلال، إذ هو تام الاستقامة لا عوج فيه ولا انحراف .
وسلوك الصراط المستقيم فريضة واجبة على كل مسلم، قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وإنما يكون سلوك هذا الصراط بأتباعه السابقين عليه في التحليل والتحريم والإيجاب، فيتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في هديه وسننه، ويتبع الصحابة فيما اختلف فيه الناس، وتشابه عليهم، لأنهم المبرءون من الانحراف القائمون المستقيمون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه الدلالة : أن البراءة من سبل المغضوب عليهم والضالين، في الاعتقاد والعبادة والسياسة والأخلاق والعبادات شرط للبراءة من العذاب والغضب والضلال.
وأن هذه البراءة تكون بإتباع صراط السابقين الأدلاء على الطريق، وهم من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي إتباعهم، واقتفاء آثارهم، ولزوم هديهم".
17- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7].
قال ابن قيم الجوزية : " والآية بينت أن القرآن منه آيات محكمة ظاهرة الدلالة، وهي الأصل الذي يتبع ويهتدي به، ومنه آيات متشابهة في دلالتها، تحتاج إلى بيان وتفسير من بينات القرآن والسنة.
وأن أصحاب القلوب المريضة الزائغة عن الاستقامة يتبعون الدلالات المتشابهة قبل إحكامها طلباً لتحريفه عن معناه، وتفسيره وفق أهوائهم، وهم لا يعلمون جلية بيانه وتفسيره.
وأن الراسخين في العلم هم الذين يعرفون تفسيره وبيانه المحكم.
وهذا يقتضي : أن الواجب على كل أحد طلب تأويل المتشابهة من أهل العلم به من الراسخين في العلم، وأن تأويله دون الرجوع إليهم إنما هو فتنة وإتباع للأهواء.
والراسخون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً، ويكفي في ذلك ما سبق من الأدلة والبراهين في مباحث هذه الرسالة، فاقتضى ذلك أن إتباع الصحابة في تأويل المتشابه فريضة تقتضيها البراءة من الفتن والأهواء، وأن مخالفتهم فيه من علامات الفتنة وإتباع الأهواء، والله الموفق".
18- قال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ".
قال ابن قيم الجوزية: "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونوا خير القرون مطلقاً.
فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم، وسائرهم لم يُفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم، وأخطأوا هم؛ لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه، لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن.(3/251)
ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة، لأن من يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة، تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه؟
ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أية وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم - رضي الله عنهم - قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة؛ وأخطأ في ذلك؛ ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى تبع من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم".
قلت: هل الخيرية المثبتة لجيل الصحابة في ألوانهم أو أجسامهم أو أموالهم؟ لا يشك عاقل عَقِل الكتاب والسنة أن شيئاً من ذلك غير مقصود؛ لأن الخيرية في الإسلام مقياسها تقوى القلوب والعمل الصالح؛ كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
ولقد نظر الله إلى قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدها خير قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فآتاهم فهماً لا يدركه اللاحقون، ولذلك فما رآه الصحابة حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه الصحابة سيئاً فهو عند الله سيء.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء".
عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟
قال : " لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ".
قلت : فما في هذه الصحيفة؟
قال : " العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
وبذلك يكون فهم الصحابة للكتاب والسنة حجة على من بعدهم إلى أخر هذه الأمة، ولذلك فهم شهداء الله في الأرض.
19- عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم هنا؟".
قلنا : يا رسول الله! صلينا معك ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء.
قال : " أحسنتم أو أصبتم".
قال : ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء.
فقال : " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء أمرها، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة أصحابه - رضي الله عنهم - إلى من بعدهم في الأمة الإسلامية كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء.
ومن المعلوم: أن هذا التشبيه النبوي يعطي في وجوب إتباع فهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم للدين نظير رجوع الأمة إلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم المُبيِّن للقرآن، وأصحابه - رضوان الله عليهم - ناقلو بيانه للأمة.
وكذلك رسول الله معصوم لا ينطق عن الهوى، وإنما يصدر عنه الرشاد والهدى، وأصحابه عدول لا ينطقون إلا صدقاً، ولا يعملون إلا حقًّا.
وكذلك النجوم جعلها الله رجوماً للشياطين في استراق السمع؛ فقال تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * )وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات:6 – 10].
وقال سبحانه وتعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك: 5].
وكذلك الصحابة - رضي الله عنهم - زينة هذه الأمة كانوا رصداً لتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالِين الذين جعلوا القرآن عضين، واتبعوا أهواءهم؛ فتفرقوا ذات اليمين وذات الشمال؛ فكانوا عزين.
وكذلك فإن النجوم منار لأهل الأرض ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر؛ كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16].
وقال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].(3/252)
وكذلك الصحابة يُقتدى بهم للنجاة من ظلمات الشهوات والشبهات، ومن أعرض عن فهمهم فهو في غية يتردى في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
وبفهم الصحابة نحصن الكتاب والسنة من بدع شياطين الإنس والجن الذين يبتغون الفتنة ويبتغون تأويلها ليفسدوا مراد الله ورسوله فيهما، فكان فهم الصحابة - رضي الله عنهم - حرزاً من الشر وأسبابه، ولو كان فهمهم لا يحتج به لكان فهم من بعدهم أمنة للصحابة وحرزاً لهم، وهذا محال.
20- عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله × موعظة بليغة؛ ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب؛ فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
قال ابن قيم الجوزية: "وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أصحابه بسنته، وأمر بإتباعها، كما أمر بإتباع سنته، وبالغ في الأمر بها، حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به، وسنّوه للأمة، وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنته.
ويتناول ما أفتى به جميعهم، أو أكثرهم، أو بعضهم، لأنه علَّق ذلك بما سنَّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد، فعلم أن سنَّة كل واحد منهم في وقته من سنة الخلفاء الراشدين".
قلت : هذا الحديث صاعقة على رؤوس المبتدعة المخالفين لمنهج السلف، لأنه يدل على حجيته من وجوه:
أ - قَرَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الخلفاء الراشدين وهي فهم السلف، مع سنته؛ فدلّ على أن الإسلام لا يفهم إلا بمنهج السلف.
ب - أنه جعل سنة الخلفاء الراشدين سنته؛ فقال: "عضوا عليها" ولم يقل: "عضوا عليهما"؛ فتبين أن سنة الخلفاء الراشدين من سنته.
ت - أنه قابل ذلك كله بالتحذير من البدع؛ فدل على أن كل مخالف لمنهج السلف واقع في البدع وإن لم يشعر.
ث - أنه جعل ذلك مخرج من الاختلاف والابتداع؛ فمن تمسك بسنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين كان من الفرقة الناجية يوم القيامة؛ كما صرّح ابن حبان عقب حديث العرباض - رضي الله عنه - فقال: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذلك الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنة، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنّه".
ج - أنه لم يدخل سنته وسنة الخلفاء الراشدين في الاختلاف الكثير؛ فدل على أنها جميعاً من عند الله؛ لأن الاختلاف الكثير ليس من عند الله؛ كما قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82].
من هذه الوجوه مجتمعة يتبين: أن سبيل النجاة من الاختلاف والافتراق وطوق الحياة من مضلات الهوى ومعضلات الشبهات والشهوات – التي تحيل من اتبعها عن المحجة البيضاء – ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من فهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أخذوا منها بحظ وافر، وحازوا قصبات السابق، واستولوا على الأمد، فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق بهم فإنهم على هدى وقفوا، وبعلم قد كفوا، وببصر ثاقب نظروا، والسعيد من اتبع صراطهم السوي، والشقي من زاغ ذات اليمين وذات الشمال وسلك سبل الغي، والتائه الحائر في ميدان المهالك والضلال يظن سراب الأهواء ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الشيطان عنده فاستحوذ عليه، نعوذ بالله من الخذلان.
فقل لي بربك : أي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؛ والذي نفسي بيده لقد نهلوا الحق من معينه عذباً زلالاً؛ فأيدوا قواعد الإسلام فلم يتركوا لأحد مقالاً، وألقوا إلى التابعين بإحسان ما ورثوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً، وكان سندهم فيه: نبيهم صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سنداً عالياً.
لقد كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم أن يقدموا عليها هوى، أو أن يخلطوها برأي مشوب، كيف وقد عادوا ووالوا عليها؟
فإذا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر طاروا إليه زرافات ووحداناً، وحملوا أنفسهم عليها فلا يسألوه عما قال برهاناً.
لذلك فهم أولى الناس برسولهم صلى الله عليه وسلم وسنته فهماً وعملاً ودعوةً، وأن على من بعدهم: أن يتمسك بمنهجهم؛ ليكون موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله، وإلا فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.(3/253)
21- عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني؛ فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين؛ فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر..." الحديث.
ووجه الدلالة : أن هؤلاء التابعين رجعوا في معرفة حقيقة مقالة معبد الجهني وأصحابه إلى فهم الصحابة ومنهجهم؛ فدلّ على أن التابعين يرون حجية منهج الصحابة، وأن المحدثات بعدهم يجب عن تعرض على منهجهم وفهمهم؛ لأنه المعيار في قبول ذلك أو ردّه.
22- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف: يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
ووجه الدلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أصحاب النبي بأنهم يقتدون بأمره ويأخذون بسنته، ومن كان كذلك فوجب الإقتداء به؛ لأنه السبيل إلى الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الخلوف فهي مخالفة للأمر والسنة فلا يُقتدى بها ولا يعول عليها؛ لأنها خالفة مخالفة، فتبين أن فهم الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار هو المعيار.
23- ورد في أحاديث الخوارج قوله صلى الله عليه وسلم: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم".
ووجه الدلالة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قارن صلاة الخوارج وصيامهم مع صلاة الصحابة وصيامهم، ولما كان الخوارج على غير منهج الصحابة وقد تواترت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم تبين أن منهج الصحابة هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فمن تمسك به كان على صراط مستقيم ومن خالفه تفرقت به السبل عن البيضاء النقية.
وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فهم الصحابة - رضي الله عنهم - وعملهم ميزاناً لوزن أفهام وأعمال من بعدهم؛ فمن وافقهم فقد نجا وإلا فلا يَلومنَّ إلا نفسه.
24- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ".
قال ابن قيم الجوزية: " فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك أصحابه على ملة قويمة مستقرة، ومحجة بيضاء ناصعة، لا خفاء فيها، ولا لبس، ولا إبهام، لا عذر لمن انحرف عنه؛ لأن الحجة قامت عليه وبلغته ".
وذلك من خصوصيات الصحابة، لأنهم هم دون غيرهم الآخذون المتلقون المبلغون، والناس تبع لهم في العلم بهذا البيان الناصع، وعالة عليهم في ذلك، لأن هذا أمر لم يتفق لغيرهم أصالة.
فكل ما خفي وأشكل واشتبه؛ فبيانه وجلاؤه في علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: معتقدهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وكل دينهم، جَهِله من جَهِله، وعلِمه من علِمه.
وهذا قاض بوجوب العودة إلى علمهم عند كل إشكال ولبس واختلاف ".
25- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق: " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة: ما أنا عليه وأصحابي ".
قال ابن قيم الجوزية: " والحديث يبين وقوع الافتراق في الملة بعده صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون على ثلاث وسبعين ملة، وأن الفرق الممثلة بهذه الملل كلها إلى النار، وأنها تنجو فرقة واحدة، رغم انتسابها جميعها إلى الإسلام؛ هي: من كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهذا يدلك على أن فيصل التفريق بين الحق والباطل إنما هو إتباع الصحابة فيما كانوا عليه؛ لأن كل الفرق المنحرفة تنتسب إلى السنة، ولا تجرؤ على التبرؤ منها.
فإتباع ما عليه الصحابة زمن النبوة، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مناط النجاة والهداية، وخلافه من سبل الفرق الهالكة، التي هي تحت الوعيد بمخالفتها منهج الصحابة.
ولا بد أن يكون الوصف المؤثر في هلاك تلك الفرق، والذي تعلق به وقوعهم تحت الوعيد هو مخالفة هدى الصحابة؛ ما دام أن الوصف الوحيد المؤثر في النجاة – كما ذكر الحديث – موافقة منهاج النبوة، وسبيل المؤمنين الذي كان عليه الصحابة.
وهذا يقتضي أن إتباع منهج الصحابة وما كانوا عليه، مما تلقوه من كتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم واجب يهلك بتركه الهالكون، ويسعد بأخذه الفائزون، وهو إتباع أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم في التدين كله".
26- وقد جاء في حديث الافتراق وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بأنها: "الجماعة".
قال ابن قيم الجوزية: " وفي نصوص القرآن والسنة نصوص كثيرة في الحضِّ على الجماعة والأمر بها.
وهذا اللفظ النبوي يفيد أن الجماعة هم أصحابه - رضي الله عنهم -؛ لأنه لم تكن آنذاك جماعة غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى لزوم الجماعة: لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم وعدم الخروج عليها.(3/254)
قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: " إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين، والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنّة ولا قياس - إن شاء الله -.
فلزوم الجماعة هنا هو لزوم أقوال الصحابة في التحليل والتحريم؛ لأن هذا هو معنى لزوم الجماعة؛ كما بيّنه الإمام الشافعي.
والجماعة هم جماعة الصحابة كما أفاد حديث الافتراق؛ فاقتضى وجوب لزوم أقوالهم في التحليل والتحريم والإيجاب، وإتباعهم فيها؛ لأن الغفلة في الفرقة فأما الجماعة فلا يمكن فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس - إن شاء الله -؛ كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله -، والله المستعان".
27- وبالجملة؛ فوجوب فهم الإسلام بفهم الصحابة ومن تبعهم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال ابن قيم الجوزية: "إنه لم يزل أهل العلم في كل عصر مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكر منهم، وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقة بهم.
قال بعض علماء المالكية: أهل الإعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاج به، ولا نصبه دليلاً للأمة، فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدت ذلك طرازها وزينتها، ولم تجد فتياً قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة، ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم، ولا ما يدل على ذلك، وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم، فقال وأفتى بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظاً ومعنى قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة، ولا يدانيها؟
وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل؛ وعرفوا التأويل؛ وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم، وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم؟
قال جابر: " والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به" في حجة الوداع، فمستندهم في معرفة مراد كلام الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال ".
( انتهى جواب الشبهة من كتاب " بصائر ذوي الشرف بشرح مرويات منهج السلف " للشيخ سليم الهلالي ( ص 43 – 78 ) .
الشبهة(2) : ادعاؤهم أن عمر رضي الله عنه قد عطل بعض الأحكام الشرعية !!
قال الأستاذ محسن الميلي : ( قد يَعْتِرض البعض قائلين: إنَّ هناك حَوادث َفي تاريخ الإسلام ظهر فيها «تعطيل» بعض الأحكام الشرعية. وغالبًا ما يَقَع الاستدلال بِعُمَرَ بِنِ الخطاب و «إِيقافِه» لِحَدِّ السَّرِقة عامَ المَجَاعة، أو عدمِ إِعطائِه سَهْم المُؤَلَّفَة قلوبُهم من الزكاة. وهذه الحُجة- إذا جاز أن نُسَمِّيها حُجةً – يُوَظِّفُها بَعض أنصار «الفَهم التَّقَدُّميِّ» لِتَعْطيل النصوص إذا خالفت بعض اخْتيارتهم العقلية.(3/255)
والحقُّ أنَّ عمر بن الخطاب في الحادِثَتين لم «يُعَطل» نَصَّاً، ولم يُحِلّ حراماً، ولم يُحَرِّم حلالاً، ولم يَعْتبر أنَّ النصوص الواردة في شأْنِ الحادِثَتَين أصبحت لاغِيةً. فلَم يَقُل عمر: إنَّ إِقامة الحَدِّ على السارِق أصبح وَحْشِيةً واسْتِهانةً بِكرامة الإنسان، وحِرْماناً للمجتمع من بعض قُوَى إنتاجه... كما لم يَقُل بأن قطْعَ يَدَ السارق كان مُلائماً للإنسان وقت نزول الوَحْيِ، وإِنَّه فَقَد صَلاحِيتَّه الآن. إن ما فعله عمر هو دراسته لِواقِعِهِ، أيْ للمَيْدان الذي يَتَنَزَّل فيه حُكْم الله، فَرَأى أنَّ الشروط لم تَتحقق كلها لإقامة الحد، فقد يَلْتَجِئُ الإنسان إلى «السَّرِقة» حِفْظًا لنفسه من الهلاك لا اختيارًا للسرقة، أو اغْتِصابًا لأموال الآخرين دُون جُهْد أو عمل، فَتَقَع الْتِباساتٌ عديدةٌ، وتختَلِط البَيِّناتُ بالشُّبُهات، وكما هو معلومٌ في قواعد الفقه:«ادْرَؤوا الحدود بالشُّبُهات،، و «الضرورات تُبِيحُ المَحْظورات»... فإنَّ عمر كان حكِيماً في عدم تَطْبيقه الآلِيِّ لِحُكمٍ لم تَتَوفر شروط تحقيقِه، لأنه فَهِم بِوَعْيٍ وعُمْق مُلابَسات تطْبيق الحُكم الشرعي. لم يكن عمر مُجَرَّد«آلَةِ تَسْجيْلٍ وتَرْديْد» لنصوص وأحكامٍ لم يَفْهَمْها، وإنما كان يَتَفَهَّم الحُكم والحِكْمة منه، ويبحث عن شروط تَنْفيذه... لقد كان عمر يَتَدبَّر القرآن ويقرأ نصوص الْوَحْيِ بِبَصيرةٍ وتفْكيرٍ.
نفس الأمر يُمْكن أنْ يقال في شأن «إسقاط» نصيب المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة. فقد رَأَى عمر أنَّ الإسلام قد أصْبح عزيزًا بين الناس, فلا يمُكن أنْ يَبْقَى دائمًا مُعْتمِداً على المُؤَلَّفة قلوبهم، فقد رُوِيَ أنَّه قال لبعضهم: إنَّ الله قد أعَزَّ الإسلامَ وأغْنَى عنْكُم. لهذا ولأسبابٍ أُخْرَى تَصَرَّف عمر بِهذه الطريقة. فكلُّ ما فعَله أنَّه لم يَجِد في عصْرِه مَنْ يَسْتحِق التَّأَلُّف في نَظَرِه، وليس من الضروري أنْ يَظَلَّ الذين أُلِّفُوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُؤَلَّفَةً إلى الأبَد. فالمسألة مسألة تَفَهُّمٍ للشريعة، ودِرايةٍ بالواقِع، وحِكْمةٌ في تطْبيق الأحكام الشرعية، وليست مسألةَ «اختياراتٍ عقليةٍ» تسْتَوْجِب تعطيل النصوص. إنَّ عمر لم «يَنْسَخ» الآيتين الوارِدتَين في شأْن الحادِثتين: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }؛ { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، ولم يُبْطِل أحكامَها، ولم يُحِلّ السرقة، ولم يُحَرِّم إِعْطاء سَهْم المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة.
لم يَقُل عمر بأنَّ القرآن كان يُراعِي عصْر نُزولِه ومُستوَى وَعْيِ الناس، وأنَّ علينا نَسْخ هذه الأحكام بأُخْرَى أكثرَ «تَقَدُّماً» منها، وأكثر مُلاءمةً لِعَصْرنا وأكثر «إنسانيةً»كما يقولُ البعض... فَلَيس مِن حقِّ عمرَ أو غيره أنْ يُعَطل هذه الأحكام، لأنَّ تعطيل النصوص هو تعبيرٌ عن هَوَىً لا عن فَهْمٍ لمَقاصِد الشريعة، إِذْ ليس مِن مَقاصِد الشريعة أن تُعَطَّل أحكامُها ).
( المرجع " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 124-126).
الشبهة(3) : تقديمهم المصلحة على النص وشبهات أخرى
الفاصل بين العلمانيين والعصرانيين إن وجد رقيق جدًا فهو فاصل درجي، وكأنهما وجهان لعملةُ واحدة، واسمان لمسمى واحد، ومصطلحان لمعنى واحد.(3/256)
من أهم الشعارات والدعاوى التي رفعها العصرانيون- الأموات والأحياء منهم – والتي كادت تلغي الفاصل بينهم وبين إخوانهم العلمانيين شعارات (الثابت والمتغير في الإسلام) أو (المصلحة مقدمة على النص) أو (فقه المرحلة) وما إلى ذلك. فتلاعبهم بالألفاظ كتلاعبهم بالدين أو أشد، وقد استفاد العصرانيون مما واجهه العلمانيون من استنكار فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويتلاعبون بالألفاظ، والمصطلحات ويبحثون عن الشبه والهفوات والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوبًا إسلاميًا مزوراً، ويضفوا عليها صفة الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى حين، وإلا فقل لي بربك- أيها القارئ الكريم، والمسلم الأمين- ما الفرق بين قول العصراني: (إن الثابت في الإسلام هو العبادات فقط، وهي التي يلتزم فيها بالنصوص القرآنية والحديثية، أما فيما سوى ذلك فالمجال مفتوح لتغيير النصوص وحسب ورد بعضها، حسب معطيات العصر، ومقتضيات المصلحة في كل زمان ومكان). وبين ما يدعو إليه العلمانيون من فصل الدين عن الحياة وحصره في دائرة العبادات، فمال الدين والحياة، ويتعجبون من الذين يريدون أن يحشروا أنف الدين في كل شئ: في الحكم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وآداب الأكل والشرب واللباس، والزواج، ونحو ذلك.
لا فرق إلا المكر، والخداع، والمراوغة، التي ينتهجها العصرانيون في العرض، وما مثلهما إلا كمثل لصين أتى أحدهما أهل بيت طيبين غافلين نائمين فنقب دارهم من الخلف وأخذ ما أخذ من متاعهم ولم يشعروا به إلا ساعة الخروج والهرب، أما الثاني فجاء في صورة زائر محتال، فسرق أشياء خفيفة المحمل، غالية الثمن، ولم يشعر به أحد إلا بعد أن اختفى من الأنظار.
ومما يؤسف له أن جل رموز العصرانية (1) اليوم كانوا من أعضاء الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون) وغيرهم، بل إن بعضهم كان في المقدمة ولا يزال البعض منهم يتولى قيادتها (2).
وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي في حدوث ذلك هو التسيب الفكري، والعقدي، وعدم وضوح المنهج، وتحديد الهوية، لدى هذه الحركات. فالمنهج القويم السليم- لا نقول يعصم عن الوقوع في الانحراف والابتداع إذ لا عاصم إلا الله، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء- ولكنه يقلل من حدوث ذلك.
يقول الدكتور النويهي في مقالة بعنوان: «نحو ثورة الفكر الديني» (3): (إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي، والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي يحتويها القرآن والسنة، لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا خطوة مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل. وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه).
وبقول د. معروف الدواليبي في مقال بعنوان «النصوص وتغير الأحكام بتغير الزمان»: (إذا كان النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه، فهل يصح في الاجتهاد تغيير لما لم ينسخه الشارع من الأحكام وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟
1- إن جميع الشرائع قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ النسخ لما في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان. غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغيير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة ولم ينسخ من قبل من له سلطة الاشتراع.
2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولاً وبالأخذ بهما ثانياً.
فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًا خاصًا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضاً، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درساّ بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) (4).
وهذه الدعوة – الثوابت والمتغيرات في الشريعة الإسلامية – تعرض تحت شعارات مختلفة، مثل شعار المصلحة، أو أن المصلحة مقدمة على النص، أو تحت شعار فقه المرحلة كما هو الحال عندنا في السودان وهكذا.
والذي ندين به ويدين به كل مسلم أن المصلحة كل المصلحة هي في الالتزام بالنصوص القرآنية والحديثية، وأنه لا اجتهاد مع نص، حتى قال الأئمة الأعلام: «إذا صح الحديث فهو مذهبي» و«إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط» و«كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول ×».
وكل أمر ورد فيه نص قرآني أو سنة صحيحة صريحة فهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل سواء كان في العبادات أو المعاملات أو الأمور المعايشة فلا فرق، ومن الذي يستطيع أن يفرق بين شرع الله فيقبل بعضه ويرد البعض الآخر؟(3/257)
أما المسائل التي ليس فيها نص صحيح صريح فللعلماء أن يجتهدوا فيها، وللعامة أن يقلدوا أقربهم في رأيهم إلى السنة، وهذه هي المسائل التي يمكن أن يتغير الاجتهاد فيها حسب الظروف الزمانية والمكانية.
وقد نهى الأئمة الأعلام أن يقلد المرء دينه الرجال، فقد روي عن إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله قوله: «لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، ولكن خذ من حيث أخذوا».
أما النصوص الصحيحة الصريحة فالمصلحة في الالتزام والتمسك بها كما تمسك بها أسلافنا الصالحون، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ثم من الذي يحدد هذه المصلحة؟ فالمصلحة أمر تقديري، وما تراه أنت مصلحة قد يراه غيرك عين المفسدة، وليس هناك أضر على الإسلام من التحسين والتقبيح العقليين، ورحم الله الخليفة الراشد الملهم عمر حين قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهرة». وما فسدت أحوال المسلمين وانحطت مكانتهم إلا عندما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، استبدلوا الآراء والأفكار بالتمسك بالقرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
شبه القائلين بتقسيم الدين إلى ثابت ومتغير ودحضها :
يتشبث هؤلاء الأدعياء في دعواهم الكاذبة هذه بشبه باطلة، يرمون من ورائها إلى ترسم خطى أسيادهم من المستشرقين الماكرين أعداء الملة والدِّين:
يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه القيم «الإسلام والحضارة الغربية » (5) في الفصل السادس منه تحت عنوان «التغريب في دراسات المستشرقين» موضحًا لخطورة البحث الذي كتبه المستشرق ولفرد سميث بعنوان «مجلة الأزهر: عرض ونقد» ومنبهًا لأمرين مهمين: (أن الخطط التي يقترحها المؤلف على المسلمين موجهة إلى محو ما استقر في نفوسهم، من أن للإسلام طبعًا ثابتاُ صلباً، وقيمًا محدودة مرسومة، يجتمع عليها المسلمون من ناحية، ويتميزون بها عن غيرهم من ناحية أخرى. فالخطط المقترحة في الكتاب موجهة نحو تطوير المسلمين عن طريق تطوير الإسلام نفسه، وإفقاده طابعه المحدد الثابت الذي يحول دون تحقيق التفاهم المنشود، الذي يرسي دعائم الاستعمار ويثبت أقدامه).
وعلق الأستاذ محمد محمد حسين كذلك على البحث الذي قدمه الدكتور مصطفي الزرقا – في مؤتمر عقد بجامعة برنستون بأميركا 1953 والذي اشترك فيه عدد من القسس المبشرين الأمريكان كما قدمت الدعوة إلى شخصيات معينة في العالم الإسلامي- معلقًا على ما في بحثه من روح انهزامية أمام هؤلاء القسس المبشرين تتضح في تسويغ الأساليب العصرية السائدة التي تخالف الإسلام مخالفة صريحة وانتحال الأعذار لها مثل قوله (6) : (فالصفة الدينية في الفقه الإسلامي لا تنافي أنه مؤسس على قواعد مدنية (7) بحتة، منتجة لفقه متطور كفيل بوفاء الحاجات العصرية وحل المشكلات النابتة في الطريق ص157).
يعلق أستاذ حسين فيقول: (وما يسميه هو بالحاجات العصرية نابع في أكثر الأحيان من تقليد نظم حضارية غربية عن الإسلام ومخالفة لأصوله، وليس مطلوبًا من المسلمين أن يكونوا على صورة غيرهم، يتبعون سننهم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا فيه، بل إن مخالفة المسلمين لغير المسلمين هي شئ مقصود لذاته، صونًا للشخصية الإسلامية، وتمييزًا لها عن غيرها، ومن أجل ذلك كان المسلمون منهيين عن تقليد غير المسلمين في زيهم وعاداتهم.
وهذا المنهج الفاسد الذي التزمه الزرقا بنية تزيين الشريعة الإسلامية عند أعدائها، وعند من يجهلونها قد أوقعه في أخطاء فاحشة فهو عند كلامه عن عقوبة الزنى بالجلد- وقد أهمل (8) الرجم وتجاهله- وعقوبة السارق بقطع اليد، وبقية الحدود الأربعة يقول: (فإذا لوحظ أن تطبيق بعض عقوبات الحدود الأربعة أصبح متعذراً (9) في زمان أو مكان، فمن الممكن تطبيق عقوبة أخرى ولا يوجب هذا ترك الشريعة أجمع ص158) !!
يقول الأستاذ حسين معلقاً: (فمن الواضح أن كلامه هذا تسويغ لإسقاط الحدود الإسلامية، سعيًا لإرضاء النظم المعاصرة، غير الإسلامية، التي تعتبرها ضربًا من القسوة والوحشية، وهو يفعل مثل ذلك في كلامه عن المعاملات التجارية العصرية التي تقوم كلها على أساس الربا، فيقول: (إن هذه المشكلة يمكن حلها في مبادئ الشريعة الإسلامية بطرق عديدة ص159) ويذكر فيما يذكره من الحلول: (الرجوع إلى تحديد الحالة الربوية التي كان عليها العرب وجاءت الشريعة بمنعها، إذ كان المرابون يتحكمون (10) كما يشاؤون بالفقير المحتاج للقرض الاستهلاكي الاستثماري ص 159). ويذكر فيما يذكره كذلك من مسوغات وحلول: (تأميم المصارف لحساب الدولة، فينتفي عندئذ معنى الربا من الفائدة الجزئية التي تؤخذ عن القرض، إذ تعود عندئذ إلى خزينة الدولة لمصلحة المجموع ص159).(3/258)
عذرًا للإطالة، وإنما كان غرضي بيان أن السبب الحقيقي لرفع مثل هذه الشعارات ليس دليلاً نقليًا ولا عقلياً، وإنما هو تقليد الكفار وتنفيذ مخططاتهم، فما العصرانيون إلا ممثلون يقومون بأدوار مرسومة لا يستطيعون التخلي عنها منهم من يحسن التمثيل، ومنهم من لا يحسنه، وما رفعهم لهذه الشبه إلا من باب التدليس وذر الرماد على العيون.
نعود إلى تلك الشبه الممجوجة المكررة التي يتشبث بها هؤلاء، فنقول:
الشبهة الأولى : التشبث بقوله صلى الله عليه وسلم :«لا ضرر ولا ضرار» (11) :
نعم، لا ضرر ولا ضرار، ولكن هل هناك ضرر وضرار أكبر من رد النصوص الصحيحة الصريحة؟ وهل هناك أرحم من رب العالمين الذي شرع ذلك وأمر بالتزامه؟ وأي ضرر في الالتزام بمنهج الله الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضرر والضرار فرق أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقاً. ثم قيل إن الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتفٍ في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.
وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضرارًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح.
وقيل الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.
وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى الضرر والضرار بغير حق.
فأما إدخال الضرر على أحد بحق. إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهو غير مراد قطعاً، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين:
أحدهما: ألا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه...
والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك) (12) .
هذا هو مراد الحديث كما بينه هذا العالم الرباني رحمه الله، أما استدلالهم به على عدم إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، أو حد القطع على السارق بعد إقامة البينة، واستيفاء الشروط، فهذا هو عين الضرر على الفرد نفسه وعلى المجتمع بأسره، فما هذه الرحمة التي فاقت رحمة رب العالمين ولكنها على العصاة والزناة والمجرمين؟ تبًا لهم وتبًا لمقالتهم هذه، وخاب فألهم وفأل أسيادهم من أعداء الملة والدين.
ألم أقل لكم إن القوم ناكثون للعهد، جاهلون بالشرع، ليس عندهم مسحة من فقه؟
الشبهة الثانية : التشبث بالقاعدة الأصولية: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان » (13):
هذه القاعدة كذلك لا تدل أدنى دلالة على ما ذهبوا إليه من التلاعب بالنصوص الشرعية، إذ لا اجتهاد مع النص، إنما تتناول هذه القاعدة المسائل الاجتهادية والفرعية التي ليس فيها نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع فهذه هي التي لا ينكر تغير الاجتهاد فيها حسب الظروف والملابسات والمستجدات.
فما لهؤلاء والقواعد الأصولية البالية؟! هل هناك خيار وفقوس، فما كان موافقًا للهوى من كلام الأصوليين قُبل وتلقف وما لم يوافق الهوى ويسبب الحرج مع الكفار رُد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟
{ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (14) .
نعم، القلوب مريضة ومرتابة، نسأل الله لنا ولهم الهداية والرشاد.
تشبثهم باجتهادات عمر رضي الله عنه:
ما لهؤلاء القوم واجتهادات عمر؟ وما لهم ولعمر ولمنهج عمر؟ إنهم مخالفون له مخالفة كاملة، إنهم يريدون أن يبنوا منهجهم على أنقاض ما بناه عمر وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وحاشا عمر أن يسن سنة يقتدي بها مبتدع.
1- يقولون أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، ويعتقدون أنه عطل هذا المصرف لمصلحة رآها بعد تغير الظروف. وليس الأمر كما زعموا، ولكن الإسلام في عهد عمر عز بأهله ولم يعد بحاجة إلى من يتألفهم. وعمر رضي الله عنه لم يعطل نصًا فالنص باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يستطيع عمر ولا غير عمر أن يفعل ذلك أو يتجزأ عليه إلا شقيًا تعيسًا، ولكن لعدم وجود هذا الصنف من مستحقي الزكاة صرف عمر الزكاة في المصارف الأخرى، حيث يجوز صرف الزكاة في مصرف واحد أو مصرفين أو أكثر.
2- يقولون: لم ينفذ عمر حد السرقة عام الرمادة... وفي تغيير لحكم السارق الثابت بنص القرآن بعد تغير الظروف. هذا ما يدعونه بل هو ما يتمنونه، فهم لا يقولون على تنفيذ الحدود الشرعية خوفًا من حماة الحقوق الإنسانية.(3/259)
فهل عطل عمر حقًا حد السرقة عام الرمادة لتغير الظروف؟ لا، فحد السرقة لا ينفذ إلا إذا توفرت شروط تنفيذه وانتفت موانعه، ومن شروط القطع في السرقة ألا يسرق السارق ما يسد به رمقه، وقد روي أن عمر رضي الله عنه لم يقطع غلمان (حاطب بن أبي بلتعة) رضي الله عنه لأنهم كانوا في حالة خصاصة، وهذا لا يعني أنه عطل الحد ولكن لم تتوفر الشروط، ومن المعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات.
وكيف يظن بعمر- ذلك العبقري الملهم المحدث- أن يفعل ذلك؟ إن هذا لا يليق إلا بمتخلف عن متابعة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل يعقل أن يعطل عمر حدًا من حدود الله، وهو الذي أقام الحد على أخي زوجه وخال أبنائه قدامة بن مظعون رضي الله عنه وقد شرب الخمر متأولا أنها حلال عليه وهو مريض خشية أن يقبض عمر قبل تنفيذ الحد عليه؟
إن استدلالات هؤلاء مصدرها عقولهم الباطنة، فهم يستدلون بما يتمنونه ليس إلا.
تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان :
تشبثهم بما قاله العالم الرباني ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين (15) عن تغير الفتوى واختلافها بتغير الزمان والمكان والعادات والنيات.
وما قاله ابن القيم رحمه الله وبينه بالأمثلة، ليس فيه هو الآخر دليل على ما ذهبوا إليه في وادٍ آخر.
قال في (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد):
(هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهو قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا، وطي العالم رفع إليه من بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وخطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل- بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة).
وسنأتي ببعض الأمثلة التي جاء بها ابن القيم للتدليل على ما قال ليتبين لك أيها القارئ اللبيب الفَطن أنه لا علاقة البتة بين ما رمى إليه ابن القيم رحمه الله وبين ما يهدف إليه هؤلاء من تطوير الدين وتطويعه حتى يُجاري العصر ويوافق ما توصلت إليه الحضارة الغربية... وحاشا ابن القيم أن يكون منطلقه وغرضه ومنهجه موافقًا لمنهج العصرانيين الذي رسمه لهم المستشرقون ومن لف لفهم من المشبوهين ومرضى القلوب.
المثال الأول : ترك إنكار المنكر مخافة حدوث ما هو أنكر، وقد اعتمد ابن القيم رحمه الله على قواعد فقهية وهي ارتكاب أخف الضررين، وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكل هذه أصول مستقاة من أدلة شرعية، وليس في كلام ابن القيم إذن أدنى تلميح لتعطيل النصوص وردها، وهو لم يأت بشئ مخالف لما كان عليه السلف الصالح، وإنما هو سائر على منهاجهم ملتزم بما كان عليه الصحابة والتابعون، وهذا هو الظن به وبأمثاله من العلماء الربانيين، فما للعصرانيين ولابن القيم ولمنهجه القويم؟(3/260)
قال رحمه الله تحت عنوان: «الإنكار له شروط»: (المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج (16) عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعته». ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل (17) وعدم الصبر على المنكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيير البيت ورَده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم، من عدم احتمال قريش لذلك لقُرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
أربع درجات للإنكار:
فإنكار المنكر أربع درجات، الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يَزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء (18) وتصدية (19) ، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع (20) والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (21).
المثال الثاني : النهي عن قطع الأيدي في الغزو، وهو من باب الخاص والعام.
فالأمر بقطع يد السارق مشروط بشروط، وهو أمر عام استثنيت منه حالات خاصة، نهي فيها عن القطع أو أمر بتأخيره، قال ابن القيم: (المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى (22) عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكر أبو القاسم الخرقي في مختصره ، فقال : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو، وقد أتى بشر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق مجنَّة (23) فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تقطع الأيدي في الغزو» لقطعت يدك، رواه أبو داود، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة.
روى سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب إلى الناس ألا يجلدنَّ أمير جيش ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدًا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك.
وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة- رضي الله عنه – فشرب الخمر. فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم (24) ؟!
وأُتي سعد بن أبي وقاص بأبي محجَن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجَن:
كفى حزنًا أن تطرد الخيل بالقنا وأتركُ مشدودًا علي وثاقيا(3/261)
فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك- والله عليَّ- إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني. قال: فحلته حتى التقى الناس، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال وصعدوا به فوق العُذَيْب (25) ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فوثب أبو محجَن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، جعل الناس يقولون: الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجَن، وأبو محجَن في القيد، فلما هزم العدو. رجع أبو محجَن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنه حفصة سعدًا بما كان من أمره. فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاه، فخلى سبيله، فقال أبو محجَن: قد كنت أشربها إذ يُقام عليَّ الحدُّ وأطهر منها، فأما إذ بَهْرَجْتَنى والله، لا أشربها أبداً، وقوله: «إذا بَهْرَجْتَنى» أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه «بهرج الدمَ ابنُ الحارث» أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا، ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصواب.
قال الشيخ في المغني: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه.
قلت: أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة (26) راجحة. إما لحاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يُؤخر (27) عن الحامل والمرضع عن وقت الحر والبرد والمرض فهذا تأخير لمصلحة المحدود. فتأخير لمصلحة الإسلام أولى.
فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: «والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهما» فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: «لا حد على مسلم في دار الحرب» كما يقوله أبو حنيفة. ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجَن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأَ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقطرة نجسة وقعت في بَحر، ولاسيما قد شام منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال) (28).
قلت : لعل سعدًا فهم من الحديث أن الحد يسقط في دار الحرب وليس يؤجل ويؤخر إلى حين رجوع الجيش، وربما كان هذا اجتهادًا من سعد، وقول الصحابي إذا خالف غيره ليس حجة، والمهم أن الحد إذا وصل إلى الحاكم فلا مجال لإسقاطه أبدًا، أما قبل ذلك فهو غير مسؤول عما لم يحط به علمًا. ولذلك عندما أراد صفوان بن أمية أن يعفو عن سارق ردائه بعد أن وصل أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد قطع يده فقال: «قد وهبته له» لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك منه وقال ما معناه: هلا كان هذا العفو قبل ذلك؟ أما الآن فلا.
وكذلك عندما جاء أسامة بن زيد يشفع للمرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده بعد أن وصل أمرها إليه قال له: «أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أو كما قال.
أما قياس ابن القيم رحمه الله ما قاله سعد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد عندما قتل النفر من بني خزيمة عام الفتح «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ولم يبرأ من خالد (29)- فهو قياس مع الفارق، لأن خالدًا رضي الله عنه كان متأولاً وظانًا أنهم كفار لأنهم قالوا «صبأنا» ولم يعرفوا أن يقولوا «أسلمنا» فظن أنهم على الشرك، أما أبو محجَن فلم يكن متأولاً.
وكذلك التوبة لا تسقط الحد، ولو كانت التوبة تسقط الحد لأسقطه صلى الله عليه وسلم عن تلك الصحابية التي اعترفت بزناها دون أن يراها أو يعلم بها أحد، فأقام عليها الحد وقد قال عنها: لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لو سعتهم.
فالتوبة النصوح تفيد في الآخرة ولكنها لا تسقط حدًا أبدًا، وقد قلت هذا ردًا على ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا الموضوع من أن التائب يمكن أن يسقط عنه الحد معللاً لمقولة سعد.
المثال الثالث: هو عبارة عن قياس وإلحاق لبعض النظائر ببعض، وهذا لا غبار عليه ولا معارضة فيه لنص كما يقول العصرانيون.
قال ابن القيم تحت عنوان «فصل: صدقة الفطر حسب قوت المخرجين».(3/262)
المثال الرابع (30) : أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كالبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال غيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه حديث، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وأن كان أنفع للمساكين لقلة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحب أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه مالا يتأتى من الخبز والطعام) (31) .
المثال الخامس: ويعتمد على أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة عظيمة من قواعد الشرع مفادها رفع الحرج عن عباد الله لأن الله ما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد مثل به ابن القيم لبيان مراده. فقال:
(إن النبي صلى الله عليه وسلم منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهر، وقال: «اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت» فظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال (32) والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك. وتمسك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاة للصلاة والصيام، وأن نهي الحائض عن الجميع سواء، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما صحح الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه...
والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز.
إلى أن قال :
قالوا: وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صفية وقد حاضت: «أحابستنا هي؟» قالوا: «إنها قد أفاضت، قال: «فلتنفر إذاً» وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. فأما في الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيَّض فلا تخلو من ثمانية أقسام (33)» (34).
وهكذا نرى أنه لا علاقة البتة بين ما ذهب إليه ابن القيم وما ذهب إليه هؤلاء من جعل المصلحة هي الحاكمة على النصوص، هذه المصلحة المزعومة التي لم يلتفت إليها أحد من علماء الأمة طيلة هذه المدة ثم جاء ليكشفها سيد أحمد خان صاحب اللسان الأعجمي والقلب المفتون.
الشبهة الخامسة (35) : رأي شاذ مهجور لرجل نكرة مبتدع يُدعى الطوفي :
يقول الأستاذ بسطامي: (أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه ولا يعرف (36) أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة المنار في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو نجم الدين الطوفي ذكرت المجلة أنه تحدث عن المصلحة بما لم تر مثله لغيره من الفقهاء (37) .
فمن هو الطوفي هذا؟ وما رأيه الذي شذ به عن بقية الفقهاء؟ تذكر المصادر التي ترجمت لحياة الطوفي أنه كان من فقهاء الحنابلة وتصفه بالعلم والصلاح والفضل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلالاً على انحراف منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشيع والرفض وسب الصحابة (38) . وتجعل ذلك سببًا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة فانتقل منها إلى بلدة صغيرة.
وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأي شاذ لم يعرف قبله، ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (39) . وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا.
إلى أن قال:
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث «لا ضرر ولا ضرار»، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى من مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع إذا عارضتها.(3/263)
يقول: «اعلم أن هذه الطريقة إذا ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار- ليست هي القول بالمصالح المرسلة (40) على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام... فالمصلحة وباقي أدلة الشرع، إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلفا وتعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة عليها... وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له... وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسة شرعية، وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة وعلى تحصيلها المعول... ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته، لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع وهي أقواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المنافع) (41) .
قلت: هذا القول الشاذ والرأي الساقط، لو كان صادرًا من أحد الأئمة المعتبرين – وحاشاهم أن يصدر منهم مثل هذا الهراء- لما كان فيه حجة لأن الله لم يتعبدنا بسقطات وهفوات العلماء الأخيار، دعك من هؤلاء الأغمار المبتدعين، دعك عن رجل شيعي.
والعجب كل العجب من صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا -سامحه الله- حيث اعتبر أن هذا القول الشاذ سبق تحمد على نشره مجلته، وما علم أن ذلك وزر عظيم، إذ ليس هناك ذنب أكبر بعد الإشراك بالله من نشر البدع وإشاعتها، خاصة بين الجهلة الذين لا يميزون بين الحق والباطل، والغث والسمين، والبدعة والسنة.
وقد أتي الشيخ محمد رشيد من قبل مداخلته لمحمد عبده وتتلمذة على يديه وهو الذي أفسد عقول الكثيرين، ولا تزال آراؤه تفسد وتخرب، وأي علم يمكن أن يستفاد من أمثال هؤلاء سوى التحلل من أواصر الدين والتمكين لشبه المستشرقين؟ ورحمة الله على من قال: «إن هذا العلم دين، فلينظر أحدكم ممن يتلقى دينه».
دينك هو رأس مالك أيها الأخ الكريم فلا تتلاعب به، ولا تأخذ عن هؤلاء الأغرار فإنهم والله أجهل الناس بالدين مع سوء قصدهم وقلة أدبهم.
وما قول الطوفي هذا، وقول خان، والدواليبي، وكل من لفَّ لفهم إلا سواء، لا ميزة لسابقهم على لاحقهم إلا أن السابق منهم يتحمل من الوزر والإثم مثل أوزار من أضلهم بهذه الأقوال وأزاغ قلوبهم بتلك الشبه، دون أن ينقص من أوزارهم شيئًا.
فهنيئًا للطوفي بهذا، وليعلم الجميع أن الله حافظ لدينه ومبلغ لأمره، وستظل النصوص هي الحكم لأنها هي عين المصلحة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
( المرجع : مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور الترابي ، الأمين الحاج محمد أحمد ،ص 103-122).
وقال الأستاذ سعيد الزهراني ردًا على هذه الشبهة :
(القول بالدوران مع المصلحة لم يُبق شيئًا من أحكام الشرع غير خاضع للاجتهاد، حتى ولو كان ثابتًا بالنص القطعي الدلالة والثبوت، ومجمع عليه كما سيتبين بعد قليل .
والقول بتخطي النص والإجماع، من أجل تحقيق المصلحة بدعة، أظهرها نجم الدين الطوفي (42) المتوفى سنة 716هـ، الذي يقول بعد أن عدد أدلة الشرع: (وهذه الأدلة ... وأقواها النص والإجماع. ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت، ولا نزع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم: النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله – عليه السلام -: « لا ضرر ولا ضرار » وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما ... ) (43).
هذا هو رأي الطوفي في المصلحة، والعلماء قديمًا وحديثًا على أن هذا الرأي قول شاذ. ومع هذا فقد قال به بعض المفكرين المعاصرين، وأصبح مبررًا لهم لإخضاع الأحكام التشريعية للاجتهاد، حتى لو كانت ثابتة بالنصوص، والإجماع منعقد عليها .
وهذه بعض الأمثلة من أقوالهم توضح ذلك :
فالدكتور عبدالمنعم النمر يبدأ بتقرير أن أحاديث المعاملات كالبيع والشراء والإجارة، التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن عن وحي، وإنما كانت بناء على نظرة الرسول لتحقيق مصالح الناس، ثم يقول: (ولذلك لم يكن الرسول يتردد في تغيير حكمه الأول، إذا ظهر أنه لم يحقق مصالح الناس، ولم يقطع النزاع، ويحكم بحكم جديد يوفر المصلحة على ضوء الواقع والتجربة...) (44) .
فبإخراجه أحاديث المعاملات من أن تكون عن وحي، والسعي للدوران مع المصلحة، لا مانع عنده من الاجتهاد، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول باجتهاده على ضوء الواقع أمامه وبعيدًا عن الوحي، حكما ثابتا للأبد، لا يجوز لأحد بعده أن يتصرف فيه، حتى ولو كانت الظروف الجديدة ومصلحة الناس في ظلها، تحتم هذا التغيير ؟
إن العقل المجرد في هذه الحالة يقول: إن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا حين تقتضيه المصلحة ... ) (45).(3/264)
وقاعدته هنا فيما يرى له حق الاجتهاد فيه، ألا يعارض لنص قرآني، أو قاعدة شرعية، يقول: (إن الإطار العلمي الديني للاجتهاد، هو عدم معارضته لنص قرآني، أو قاعدة شرعية مع تحقيقه المصلحة العامة) (46) .
وعلى هذا فتحقيق المصلحة عنده مقدمة على نصوص السنة، حيث لم يأت لها بذكر هنا في شروطه .
وفي موضع آخر يؤكد ضرورة مراعاة المصلحة، فيقول: (وقد بلغت ضرورة مراعاة مصلحة المجتمع إلى حد أن إمامين كبيرين من أئمة الفقه والفكر الإسلامي، وهو الإمام الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716هـ، وحجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505هـ- 1111م، يقرران: أنه إذا عارضت مصلحة حكمًا ثبت بالنص والإجماع، فإن هذا في الحقيقة تعارض بين مصلحتين: مصلحة حكم النص والإجماع، والمصلحة العارضة، فإذا ترجحت المصلحة العارضة بمرجحاته المعتبرة، روعيت المصلحة المعارضة، وعدل عن النص والإجماع) (47).
وينتصر لما ذهب إليه الطوفي من رأي شاذ فيقول: (لكن الذي جر على الطوفي بعض المتاعب، وأثار الاعتراضات، هو قوله: بأن النص والإجماع إذا عارضتهما المصلحة الراجحة، قدمت رعاية المصلحة على طريق البيان أو التخصيص للنص .
مع أن الطوفي بهذا لم يأت بجديد. لأنها قضية معمول بها منذ عهد الصحابة، لكن التصريح بهذا ربما يكون هو الجديد .. والعادة جرت على أن الناس ترى أو تعمل الشيء أحيانًا، لكنها تكره التصريح به .. ) (48).
ثم يقول: (وهذا الذي صرح به الطوفي، قد مارسه الصحابة والتابعون عمليًا في حياتهم، وكل الفقهاء يُقِرُّون هذا، ويقررونه في كتبهم، عند الكلام عن اجتهاد الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم.. فكانت الغرابة أن ينزعج بعضهم مما قرره الطوفي !!
فما وجه الإنكار – إذن – على الطوفي والتنديد به. وهو لم يزد على أن استخلص قضية من أعمال واجتهادات الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ وأسمعها الآذان ووضعها أمام الأنظار؟) (49).
وهذا كلام صريح من عبدالمنعم النمر على موافقة الطوفي في قوله الشاذ، ولو كان صحيحًا أنها قضية معمول بها في اجتهادات الصحابة والتابعين لما عَدَّها أهل العلم رأيًا شاذًا.
وممن قالوا بتقديم المصلحة على النص والإجماع محمد عمارة، وهذا قوله: (فالحكم المجمع عليه، والمؤسس إجماعه على نص قطعي الدلالة والثبوت، إذا كان متعلقًا بعلة غائبة تبدلت أو بعادة تغيرت أو بعرف تطور – أي إذا لم يعد محققًا للمقصد منه، وهو المصلحة – فلابد من الاجتهاد فيه ومعه، اجتهادًا يثمر حكمًا جديدًا، يحقق «المقصد – المصلحة ») (50)، وهذا هو الدوران مع المصلحة .
وفي مقال بعنوان « وثنيون هم عبدة النصوص » لفهمي هويدي، يرى أن تقديم النص على المصلحة والاستمساك به في أي ظرف وثنية جديدة، ويتسائل ما العمل إذا لم تحقق النصوص تحت أي ظرف مقاصد الشريعة، وبدا أن هناك تعارضًا بينهما؟ ويجيب أن الثابت عند أغلب الفقهاء أن المصلحة تُقدَّم على النص (51).
وفي موضع آخر يقول تحت عنوان فقهاء السلف جاروا على المصلحة: (لم يعد أحد يجادل في اعتبار المصلحة كأحد مصادر التشريع، فقد استقر الأمر على نحو بعيد لصالح المصلحة وترجيحها. حتى شاعت مقولة « حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله ») (52).
ويقول: (... إن مدونات أهل السنة أغمطت المصلحة حقها، بحيث لم تعطها نصيبها الذي يتناسب مع مكانتها الجليلة في الشريعة ... ولقد أدى التضييق وعدم العناية باعتبار المصالح إلى تحريم الأشياء بأدنى الشبهات) .
ويبين (أن المشكل الذي هو مثار الجدل، يتمثل في افتراض تعارض المصلحة مع الدليل الشرعي.
ذلك أن الأغلبية الساحقة من الفقهاء المعتبرين، تُعارِض رأي الطوفي في تغليب المصلحة في المعاملات على الدليل الشرعي على الإطلاق، أي بغير ضابط ولا رابط) (53).
ويرى هويدي أن معالجة التعارض بين المصلحة والنص يكون بالمنطوق التالي: (إن الحكم الشرعي في المعاملات إذا ثبت بنص قطعي أو بإجماع صريح يطمأن إليه، لا يعدل عنه إلى حكم غيره إلا في حالتين: إذا كانت المصلحة المستفادة من النص أو الإجماع مما بتغير في معاملات الناس – أو إذا قضت بهذا العدول ضرورة، لأن مواضع الضرورات مستثناة بالنص. أما النصوص التي لا تتغير مصالحها، كنصوص حِلّ البيع والإجارة والرهن وحرمة الربا والغضب، فلا عبرة بالمصلحة المظنونة في مقابلتها) (54).
وهذا المنطوق الذي يقول به، ما هو إلا محاولة لتبرير رأيه في مخالفة النص القطعي والإجماع الصريح وتقديم المصلحة عليه .
وهذا محمد سليم العوا، الذي سبق ذكر قوله عند حديثه عما هو شرع دائم، يبالغ في مكانة المصلحة، فيقول: (... وإنما كان الشرع الدائم هو تحقيق مصلحة الأمة، التي ما بعث الله الرسل في أي أمة كانوا إلا لتحقيقها، فأينما تبين وجهها فثم شرع الله ودينه) (55) .
الرد :(3/265)
هذه نماذج من أقوال هؤلاء المفكرين يتبين منها كيف جعلوا السعي لتحقيق المصلحة مطلبًا أساسيًا، من أجله ردوا النصوص الثابتة، وتخطوا ما أجمعت عليه الأمة من أحكام تشريعية وفتحوا بذلك بابًا واسعًا لرد ما أرادوا من الأحكام، وقبول ما أرادوا تحت تبرير شرعية الاجتهاد، فيما يحقق المصلحة، ويمكن بيان فساد قولهم في النقاط التالية:
1 – لم يفرق أصحاب هذه الاتجاه بين ما شهد الشرع باعتباره من المصالح وغيرها. فالمصلحة من حيث شهادة الشرع لها إما أن تكون مصلحة معتبرة، أو مصلحة ملغاة، أو مصلحة مسكوت عنها (56).
والمصلحة الملغاة هي ما شهد الشرع ببطلانها، بوجود نص يدل على حكم في الواقعة، يناقض الحكم الذي تمليه المصلحة (57).
وقول هؤلاء المفكرون بتقديم المصلحة على النص القطعي الدلالة والثبوت، مناقَضة لأحكام ثابتة بالنصوص، بما تمليه مصلحة متوهمة والعلماء المعتبرين لم يعملوا بمصلحة في مقابل نص شرعي، (لأن العمل بالمصلحة في مقابلة هذا النص «يغير النص » أو «يصدم النص » أو «يرفع حكم النص » أو «يناقض النص » أو «يخالف النص » أو «يحرف النص» وقد قرر الغزالي أن المصلحة التي هذا شأنها مصلحة ملغاة) (58).
2 – مما هو متفق عليه أن الشريعة إنما جاءت لتحقيق المصالح وعلى هذا فكيف يصح أن يقال أن في نصوص الشرع الثابتة، أو مسائل الإجماع ما قد يصادم المصلحة، ولذلك نحتاج إلى تقديم المصلحة عليها ؟
3 – من الانحراف البّين أن جعل هؤلاء المفكرون لعقولهم تحديد المصالح، وأخلوا بضوابط المصلحة المعتبرة، التي قررها أهل العلم، وتتلخص فيما ذكره البوطي بقوله: (المصلحة المعتبر شرعًا ينبغي أن تكون غير مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسول الله، ولا للإجماع أو القياس الصحيح، وأن لا تكون مُفَوِّتَة لمصلحة مساوية لها أو أهم منها) (59) .
بالإضافة إلى ضابط آخر وهو أن يوكل تقدير المصلحة إلى المجتهدين من العلماء.
وواقع هؤلاء المفكرين يخالف هذه الضوابط ولا يعبأون بها كثيرًا، ومثال ذلك أنهم هم الذين يقدرون المصلحة مع قصر باعهم في العلم الشرعي، ويرون أن تقدير غيرهم من العلماء المعتبرين يتسم بالجمود والقصور عن معرفة حاجة العصر ومتطلباته المستجدة .
4 – أن رأي الطوفي الذي يستند إليه من قال بتقديم المصلحة على النص، قول شاذ، كما قرر أهل العلم ذلك، وقد رد عليه كثير من العلماء وشنعوا عليه. يقول عنه أبو زهرة: (إن مهاجمته للنصوص، ونشرة فكرة نسخها، أو تخصيصها بالمصالح هي أسلو شيعي، أُريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق، لأن الشارع الحكيم جاء بشرعة لمصالح الناس في الدنيا والآخرة، وأدرى الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه وصى أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها، وإن لم يذكر كلمة الإمام، ليروج القول، وتنتشر الفكرة) (60).
ويقول عبدالوهاب خلاف: (إن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه، وفيما فيه نص، فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي، لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالروية والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية، وعلى كل القوانين) (61).
ويقول يوسف كمال: (وقد أُتهم الطوفي من البعض بالتشيع والرفض وسب الصحابة، والعلماء على أن رأيه في المصلحة شاذ ولم يعرف قبله ولم يتابعه بعده أحد إلا بعض المعاصرين) (62) .
وبعد هذا كيف يصح أن يكون قول الطوفي هو القول المعتمد وتُرد أقوال العلماء المعتبرين؟
5 – يرد على القائلين بتقديم المصلحة على النص، بمثال تطبيقي، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة، حيث فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة. فعمر قال: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ». قال أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ... ».
وسأل الناس أبا بكر في رد جيش أسامة ليستعين به على قتال أهل الردة، فأبى، والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، وهي من ظنهم بقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين، ولما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة – وهم مجتهدون – وعملوا بما ورد في النص ) .(3/266)
يقول الشاطبي –رحمه الله -: ( ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافة، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (63).
وفي هذه القصة دلالة واضحة وقوية على أن المصلحة المقابلة للنص، لا عبرة بها حتى وإن كانت من كبار المجتهدين (64).
6 – مما يريد به على الدكتور عبدالمنعم النمر في قوله بجواز الاجتهاد فيما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التغيير ممكن، بل قد يكون لازمًا تقتضيه المصلحة. أن يقال ما المصلحة هنا؟ هل هي المصلحة التي أرادها الشارع؟ أم المصلحة التي تتبع هوى الناس .
ونظن أنه لا يقول بغير الأولى، وعلى ذلك فالمصلحة فيما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى أما غيره فليس معصومًا من النقص والتقصير مهما ادعى القدرة على الاجتهاد، والدليل على ذلك ما يذكر الدكتور علي محيي الدين داغي عند رده على النمر بقوله: (إن الدكتور النمر قد تولى هو واثنان من شيوخ الأزهر تقنين قانون الأحوال الشخصية رقم (40) لسنة (1979) الذي راعى المصلحة التي تريدها الدولة، فقيد الزواج بالثانية برضا الزوجة الأولى، وأعطى المسكن للزوجة، فترتب على ذلك مشاكل ومظالم لا قبل للمحاكم بها، ولم يطقها الشعب المصري المتدين بفطرته، فرفضوها رفضًا باتًا مما أدىل إلى إلغائه بعد عمر قصير، وقد اعترف الشيخ النمر على صفحات جريدة الأهرام بأنه كان مخطئًا في أكثر بنود هذا القانون (273) .
وهذا دليل عملي وتجريبي للشيخ نفسه بأن المصلحة إن أعطينا معيارها للناس فلا تنضبط، ولذلك فالتشريع في نظر الإسلام من حق الله تعالى ورسوله فقط والمصلحة هي التي أقرتها الشريعة، ولذلك إذا وجد نص صحيح صريح فلا يجوز لأحد مهما كان أن يعارضه...) (65) .
وفي نهاية هذا الفصل نخلص إلى أن أصحاب هذا الاتجاه قد جعلوا الاجتهاد هو المعبر الذي يصلون عن طريقه إلى كل ما يطيب لهم، تحت مسوغ شرعي – في نظرهم – يبررون به منهجهم العقلي الذي خالفوا فيه القواعد التي قررها أهل العلم، ومنها: مجال الاجتهاد، فلا يكون الاجتهاد فيما فيه دليل قاطع، وإنما يكون فيما كان الدليل فيه ظني، أو ما لا نص فيه من كتاب أو سنة، أما عند العقلانيين فلا التزام بهذه الضابط، ويمكن أن يكون الاجتهاد في الأصول والثوابت، ولذلك يرون أن الاجتهاد العقلي يمكن أن يعيد دراسة وتفسير المبادئ التشريعية كما يقول محمد إقبال: (والرأي عندي هو أن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام من تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم، وعلى هدى ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة .
هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ، كما أن حكم القرآن على الوجود بأنه خلق يزداد ويترقى بالتدريج، يقتضي أن يكون لكل جيل الحق في أن يهتدي بما يورثه من آثار أسلافه، من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه، وحل مشكلاته الخاصة) (66).
وعند محمد عمارة يمكن أن يكون الاجتهاد في النصوص القطعية كما مر، والباعث على ذلك هو تحقيق المصلحة، وكأنه لا يعلم (أن ليس من المصلحة في شيء على الإطلاق ما خالف دليلاً من الكتاب والسنة، أو عارض قاعدة محكمة من قواعد الشريعة .
ولا يصح على الإطلاق أن يكون المعيار في تحديد المصالح موافقتها لأهواء الناس وشهواتهم، أو مراعاتهم لعاداتهم وأعرافهم إذا كانت تخالف شرع الله) (67).
ومن المخالفات الظاهرة عند محمد عمارة التي يخالف فيها ضوابط الاجتهاد هي في من يرى أن لهم حق الاجتهاد، وهم من يسميهم أهل الاختصاص في فكرنا الإسلامي، والمقصود بهم أشمل وأعم من أن يكونوا علماء الشريعة، وعنده أن كل مفكر له حق الاجتهاد، دون أن يكون بالضرورة دارسًا لعلوم الشريعة (68).
( المرجع : الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين المعاصرين ، سعيد الزهراني ، 2/649-658).
الشبهة(4) : الثابت والمتغير في الإسلام
من مبادئ (العصرانية) تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيرات، وقد تناول مفكروها هذه القضية بالبحث في المسيحية واليهودية (69) والإسلام (70). ويشرح الدكتور معروف الدواليبي هذا المبدأ في مقال له بعنوان: « النصوص وتغير الأحكام بتغيير الزمان» فيقول:
« إذا كان النسخ لا يصح إلا مِنْ قِبَل الشارع نفسه فهل يصح في الاجتهاد تغير ما لم ينسخه الشارع من الأحكام، وذلك تبعًا لتغير الأزمان؟
1- إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لِمَا في الشريعة من بعض الأحكام، تبعًا لتغير المصلحة في الأزمان، غير أنها لم تأخذ بمبدأ السماح للمجتهدين بتغير حكم من الأحكام ما دام ذلك الحكم باقيًا في الشريعة، ولم ينسخ مِنْ قِبَل مَنْ له سلطة الاشتراع.(3/267)
2- ولقد تفردت الشريعة الإسلامية من بين جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة بالتمييز ما بين المبدأين أولا، وبالأخذ بهما ثانيًا.
فلقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ لبعض الأحكام الشرعية حقًّا خاصًّا بمن له سلطة الاشتراع وأخذت به. أما التغيير لحكم لَمْ ينسخ نصه مِنْ قِبَل الشارع فقد أجازته للمجتهدين من قضاة ومفتين، تبعًا لتغير المصالح في الأزمان أيضًا، وامتازت بذلك على غيرها من الشرائع، وأعطت فيه درسًا بليغًا عن مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في الاجتهاد، ومن تقدير لتحكيم المصالح في الأحكام.. وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع الإسلامي، تعلن بأنه «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان». (71)
فعلي رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة الإسلامية تمتاز بالمرونة والطواعية في هذه الناحية على غيرها من التشريعات، فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من الأحكام، ولو كان هذا الحكم ثابتًا بنص القرآن أو السنة، تبعًا لتغير المصالح بتغير الأزمان، مع أن كثيرًا مِنَ القوانين قديمًا وحديثًا لا تتميز بهذه المرونة، فلا يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي، ينقضه أحد كائنًا مَنْ كان ولو أحد قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء. ويقول: إن ذلك أصبح في الإسلام قاعدة فقهية مقررة؛ وهي أنه « لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».
ولتتضح لنا الحقيقة في هذه المسألة لا بد من النظر أولا في هذه القاعدة الفقهية التي أشار إليها الكاتب، ثم ننظر في الأدلة التي تورد عادة لتعضيد وجهة النظر القائلة بهذه المرونة الواسعة للشريعة الإسلامية، التي لا تداينها حتى أكثر القوانين العصرية تقدمًا.
من المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلى قسمين: رئيسين: أحكام مصدرها نصوص القرآن والسنة مباشرة، وأحكام مصدرها الاجتهاد دون أن تستند مباشرة على النصوص؛ مثل أن تكون مبنية على مصلحة سكتت عنها النصوص، أو عُرْف أو عادة لم ينشئها نص شرعي.
لا يختلف اثنان على أن الأحكام في كلا القسمين إنما ترمي إلى تحقيق مصالح الناس ومراعاة منافعهم، ومما لا ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل ويتغير بتغير الزمان أو المكان، أو لأي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير المصالح.
ففي القسم الثاني من الأحكام الذي لم يكن مصدره النص مباشرة، ولم يجد الفقهاء صعوبة تُذْكَر في تقرير أن المصلحة التي لم يأتِ بها نص أصلا يمكن أن تغير وتصبح في حين مِنَ الأحيان مفسدة، أو أن العُرْف و العادة الذي لم يتكون إثر نص شرعي أصلا يمكن أن يتبدل ويتغير، وحينئذ قرروا - بلا تحفظ- أن الأحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان؛ لأن الأصل الذي تبني عليه أصل متغير، وتغيره سواء كان مصلحة أو عُرْفًا متصور عقلا وواقع ملموس.
أما القسم الثاني من الأحكام وهي الأحكام التي تقررها النصوص مباشرة، فكل أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم، فغاية النص وهدف النص وحكمة النص هي المصلحة. حينئذ لم يستطع ذهن الفقهاء أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن من الأزمان مفسدة؛ ذلك أن مِنَ المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوى أو المزاج الشخصي، وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح حقيقة. وأن من التناقض الواضح أن يقال: إن مصلحة ما عارضت النص؛ فالنص هو عدل كله، ورحمة كله، وحكمة كله، ومصلحة كله، فأي مصلحة تلك التي تعارض النص، إلا إذا كانت نابعة من هوى أو مصدرها مزاج سقيم. حينئذ قرر الفقهاء أن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلى يوم الدين لا يتغير بتغير الزمان.
يقول الإمام ابن حزم مؤكدًا هذه الحقيقة :
« إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل زمان وفي كل مكان على كل حال، حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى». (72)
وعلى هذا فإن القاعدة الفقهية: «لا ينكر تغير الأحكام بتدل الزمان» قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام؛ وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة على نص شرعي، بل مصدرها عُرْف أو مصلحة سكتت عنها النصوص. وهذه القاعدة هي إحدى قواعد المجلة، وقررتها المادة (39)، وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها على الأحكام التي لم تستنبط من النصوص (73)، وعلى هذا استقر فهم الفقهاء...
يقول الدكتور (مصطفى الزرقا) في بحثه لهذا الموضوع :(3/268)
« من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير الأوضاع والأحوال الزمنية تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية، وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان. وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختلاف الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، وهي المعنية بالقاعدة الآنفة الذِّكر، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان؛ بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال». (74)
أثر العرف في تغير الأحكام :
ويزيد الإمام الشاطبي أحد علماء أصول الفقه المتمكنين مسألة تأثير العرف تغير الأحكام شرحًا وتوضيحًا؛ فيبيِّن أن العادات والأعراف المتبدلة هي الأعراف التي لم تنشئها الشريعة أصلا، ولم تتعرَّض لها إطلاقًا، لا بمدح ولا ذم، إنما أنشأها الناس بأنفسهم نتيجة العلاقات الاجتماعية بينهم، فهذه هي التي يؤثر تغيرها في أحكامها الشرعية فيتغير حكمها تبعًا لتغيرها. وضرب بعض الأمثلة على ذلك؛ منها على سبيل المثال: العبارات التي يكون لها تأثير في إنشاء أو إنهاء عقود المعاملات المالية، مثل البيع أو ألفاظ الطلاق، فهذه يراعى فيها العبارات التي يعتادها الناس والاصطلاحات التي يستعملونها في كل عصر. ومن الأمثلة أيضًا للعوائد التي تتغير لها، ويكون لها تأثير العادات الخاصة بالزواج مثلا، فهذه قد تختلف من عصر إلى عصر، أو من بلد إلى بلد، فإذا كانت العادة مثلا أن يدفع المهر كاملا قبل الزواج أو الهدايا التي تدفع للعروس تكون من ضمن المهر، فلهذه العادات تأثير في الأحكام الشرعية.
أما العادات والأعراف التي تنشئها الشريعة، وتعتبرها من المحاسن أو تذمها وتعدها من القبائح، فهذه لا تتبدل ولا تتغير بل هي ثابتة، وفيما يلي عبارة الإمام الشاطبي التي شرح فيها هذه القضية (75) :
يقول: «العوائد المستمرة ضربان؛ أحدهما: العوائد الشرعية التي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو نَدْبًا، أو نهي عنها كراهة أو تحريمًا، أو أذن بها فِعْلا وتَرْكًا. فالثانية: هي العوائد الجارية بين الْخَلْق بما ليس في نفيه وإثباته دليل شرعي.
فأما الأول: فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية.. فهي إما حسنة عند الشارع أو قبيحة.. فلا تبديل لها.. فلا يصح أن ينقلب الْحَسَن فيها قبيحًا ولا القبيح حَسَنًا.. إذْ لو صَحَّ مثل هذا لكان نَسْخًا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل.. فرفع العوائد الشرعية باطل».
أما الثانية: فهي عند الشاطبي المتبدلة، ثم ضرب لها أمثلة سقناها.
رأي الطوفي في أثر المصلحة في تغير الأحكام :
أسلفنا القول أن الحكم الذي جاء به نص حكم ثابت لا يتغير؛ لأن المصلحة التي يحققها مصلحة ثابتة لا تتغير، وقد ظل هذا هو الرأي السائد الوحيد بين الدوائر العلمية، لا يشذ عنه فقيه، ولا يعرف أحد رأيًا غيره، حتى نشرت مجلة (المنار) في أوائل هذا القرن رأيًا مهجورًا لأحد فقهاء القرن السابع الهجري، وهو (نجم الدين الطوفي) ذكرت المجلة أن تحدث عن المصلحة بما لم تَرَ مثله لغيره من الفقهاء (76)، فمن هو الطوفي هذا؟ ما رأيه الذي شَذَّ به عن بقية الفقهاء؟
تذكر المصادر التي ترجمت لحياة (الطوفي) أنه كان من الفقهاء الحنابلة، وتصفه بالعلم والصَّلاح والفَضْل، ولكن هذه المصادر ذاتها تلقي ظلاله على منهجه في التفكير، وتتهمه بالتشييع والرفض وسَبِّ الصحابة، وتجعل ذلك سببا للثائرة التي ثارت عليه حين كان في القاهرة، ومنها نُفِيَ إلى بلدة صغيرة. وإذا كان البعض يشكك في صحة ما اتهم به ويبرئ ساحته، إلا أن كل الكتابات قديمًا وحديثًا تتفق على أن رأيه في المصلحة رأيًا شاذًّا، لم يعرف قبله ولم يتابعه فيه أحد بعده إلا بعض المعاصرين (77)، وقد يكون الشذوذ وحده ليس عيبًا وإن كان في الغالب دليل الخطأ، فهل كان رأي الطوفي في المصلحة مع كل تلك الظلال القاتمة في حياته ومع ذلك الشذوذ رأيًا صائبًا، أم كان رأيًا لا وزن له؟
أوضح الطوفي رأيه في المصلحة في ثنايا شرحه لأحد الأحاديث الأربعينية وهو حديث «لا ضر ولا ضرار» (78)، وخلاصة رأيه أن المصلحة أقوى مصادر التشريع، بل هي أقوى من النص والإجماع، وأنه في غير دائرة العبادات والمقدرات فإن المصلحة تقوم على النص والإجماع إذا عارضتهما.(3/269)
يقول: « واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها مستفيدين لها من الحديث المذكور – حديث لا ضرر ولا ضرار – ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا؛ فإن اتفقا فبها ونِعْمَتْ، وإن اختلفا وتعذَّر الجمع بينهما قُدِّمتِ المصلحة على غيرها.. وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها؛ لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رُسِمَ له.. وهذا بخلاف حقوق المكلفين؛ فإن أحكامها سياسية شرعية وضعتْ لمصالحهم، فكانت هي المعتبر، وعلى تحصيلها المعوَّل.. ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته؛ لأنا قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأخصها فلنقدمها في تحصيل المنافع». (79)
ويسوق لرأيه هذا عددًا من الأدلة؛ منها : (80)
1- أن النصوص إجمالا وتفصيلا قد بيَّنت أن مقصود الله -عز وجل- من تشريع أحكامه تحقيق المصلحة ورفع الحرج؛ من ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185] ، وقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] وقال عليه السلام: «الدين يسر»، وقال: «بعثت بالحنيفية السمحة».
2- حديث لا ضرر ولا ضرار وهو واضح الدلالة في نفس الضرر والمفسدة، وتقديم المصلحة على جميع أدلة الشرع، فإذا تضمن بعد أدلة الشرع ضررًا كان لا بد عملا بهذا الحديث من إزالة ذلك الضرر.
3- أن النصوص متعارضة مختلفة، فلهذا تكون سببًا للخلاف والتفرق، أما المصلحة فأمر حقيقي لا يختلف فيه، ولهذا فهي أولى بالتقديم على النصوص.
4- أن المصلحة دليل متفق عليه، أما الإجماع فدليل مختلف حوله، فالتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
وهذا مجمل ما عند (الطوفي) من أدلة على رأيه، ولكن تحليل هذه الأدلة بكل رَوِيَّة وتَمَعُّن يظهر فيها ضعفًا وتناقضا لا يُخْطِئه مَنْ له أدنى إدراك بالأدلة وطرق مناقشتها.
1- فمما لا يختلف فيه اثنان أن النصوص دلت عمومًا وتفصيلا أن أحكام الشريعة غايتها المصلحة، ولكن هذا دليل إثبات أنه حيثما وُجِدَ النص فَثَمَّ المصلحة، والله أراد من النصوص اليُسْر ولم يرد بها العُسْر، وكل نصوص الدين ما جعل الله فيها مِنْ حَرَجٍ وهي سمحة سهلة، فكل أدلة (الطوفي) في أن المصلحة واليسر ورفع الحرج في مقصود الشارع، فهي دليل على ضرورة التزام النص وتقديمه؛ لأنه الذي يحقق المصلحة في كل الظروف.
2- وحديث لا ضرر ولا ضرار هو أحد الأدلة أيضًا على أن كل نصوص الشرع لا ضرر فيها، وأن المصلحة متحققة منها دائمًا، إذا كيف يقرر الرسول أنه لا ضرر وتكون بعض النصوص التي جاء بها سببًا في الضرر. إن من يفرض وقوع الضرر من تطبيق النص يقع في تناقض بَيِّنٍ.
3- والاختلاف في تقدير المصلحة أمر واقع، وهو اختلاف كبير واسع، فالمصلحة ليست أمرًا منضبطًا يتفق عليه الناس، وإلا لو كان الأمر كذلك
لاتَّفق الناس في شرائعهم ونظمهم وطرق حياتهم، وكل هذا ينقض ما قاله (الطوفي) مِنْ أن المصلحة أمر حقيقي متفق عليه.
4- والطوفي في عبارته عن تقديم المصلحة على الإجماع متناقض جدًّا؛ فهو يقول: إن المصلحة متفق عليها والإجماع مختلف حوله ، فتقدم المصلحة لأنها متفق عليها ( فأصبح معنى كلامه : الإجماع أضعف من رعاية المصلحة؛ لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه). (81)
5- ومن الملاحظ أن الطوفي لم يأتِ بمثال واحد يرينا فيه كيف أن المصلحة عارضت النص، وكيف تقدَّم عليها؛ حتى نستيقن مما يقول، وما ذلك إلا لأنه لم يجد مطلقًا -بعد طول الاستقراء والبحث- حالة واحدة تعارض فيها المصلحةُ النصَّ؛ لأن ذلك التعارض أمر متوَّهم. (82)
ولضعف أدلة (الطوفي) وشناعة رأيه حمل عليه كثير من المعاصرين حملة قوية؛ فيقول الشيخ أبو زهرة عن رأيه: «إنه رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية» ويقول: «.. إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هي أسلوب شيعي، أريد به تهوين القدسية التي يعطيها الجماعة الإسلامية لنصوص الشارع. والشيعة الإمامية يرون أن باب النسخ والتخصيص لم يغلق؛ لأن الشارع الحكيم جاء بشرعه لمصالح الناس في الدنيا والآخر، أدري الناس بذلك الإمام، فله أن يخصص كما خصص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أوصيائه. وقد أتى الطوفي بالفكرة كلها وإن لم يذكر كلمة الإمام ليروج القول وتنتشر الفكرة». (83)(3/270)
ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: «.. وإن الطوفي الذي يحتج بالمصلحة المرسلة إطلاقًا فيما لا نص فيه وفيما فيه نص فتح بابًا للقضاء على النصوص، وجعل حكم النص أو الإجماع عرضة للنسخ بالرأي؛ لأن اعتبار المصلحة ما هو إلا مجرد رأي وتقدير، وربما قدر العقل مصلحة بالرويَّة والبحث يقدرها مفسدة. فتعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء، وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين». (84)
شذوذ بعض المعاصرين :
ومع وضوح خطأ (الطوفي) فقد تَمَسَّك برأيه بعض المعاصرين، وألبسوا به العلمانية ثوبًا إسلاميًّا، فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في الإسلام التي يلتزم فيها بالنصوص، أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح على مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها، وحذفها وإضافة غيرها..
يقول الدكتور (النويهي) في مقالة بعنوان: (نحو ثورة الفكر الديني): (85)
«إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعلاقات الاجتماعية بين الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولا مؤقتة، احتاج لها المسلمون الأوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقِّنَا بل من واجبنا أن نُدْخِلَ عليها من الإضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه».
ويضيف هؤلاء المعاصرون تأييدًا لرأيهم في تغير الأحكام الثابتة بالنص تبعًا لتغير المصالح بتغير الزمان حججًا جديدة؛ منها: اجتهادات عمر بن الخطاب، التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق الحرفي للنصوص، ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه المصري الجديد. (86)
ونتناول هذه الحجج فيما يلي:
اجتهادات عمر بن الخطاب :
يقال: إن عمر بن الخطاب لم يلتزم بحرفية النصوص في عدد من اجتهاداته، وفيما يلي اثنان من أشهرها:
1-«اجتهاد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في قطع العطاء الذي جعله القرآن الكريم للمؤلَّفة قلوبهم كان في مقدمة الأحكام التي قال بها عمر تبعًا لتغير المصلحة بتغير الأزمان، رغم أن النص القرآني لا يزال ثابتًا». (86)
ويقول النويهي عن ذلك:
«فأي شيء هذا إن لم يكن إلغاء تشريع قرآني؛ حين اعتقد أن الظروف المتغيرة لم تعد تجيزه؟ لكن هل يجرؤ علماؤنا وكتابنا على مواجهة هذه الحقيقة الصريحة؟». (87)
ولكن هل صحيح أن عمر في هذه القضية غَيَّر حكمًا ثابتًا بالقرآن؟ إن سؤالا واحدًا كفيل بوضع هذه القضية في موضعها الصحيح، وهو هل كان يوجد مؤلفة قلوبهم في عهد عمر أم لا؟
فمن المعلوم أن مصارف الزكاة محدودة لأصناف ثمانية معروفة أوصافهم، فإذا لم يوجد صنف منهم في أي عصر من العصور، مثل عدم وجود صنف (في الرقاب) في هذا العصر، فكل ما يمكن أي يقال أن مصرفًا من مصارف الزكاة موقوف حتى يوجد مَنْ يستحقه، فكل ما فعله عمر -رضي الله عنه- هو أنه حكم بعدم وجود صنف المؤلفة قلوبهم في عصره، وليس ذلك إلغاء لتشريع قرآني، وليس فيه تغيير لحكم ثابت بالقرآن لتغير الزمان، فإذ وجد المؤلفة قلوبهم في أي عصر أعطوا، وإذا لم يوجدوا لم يعطوا».(88)
2- «اجتهاد عمر -رضي الله عنه- عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد.. وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة». (89)
ولكن من الواضح أن عمر هنا إنما درأ الحد بالشبهة، ودرأ الحدود بالشبهات أمر مشروع، وروى عن غير واحد من الصحابة. (90)
ويقول ابن القيم عن ذلك: «فإن السَّنَة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غَلَبَ على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رَمَقَه، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشُّبَهِ التي ذكرها كثير من الفقهاء». (91)
فليس في اجتهاد عمر تغيير للنص الثابت بالقرآن استجابة للظروف.
فقه الشافعي القديم والجديد:
ومن الأمثلة التي تساق لتغير الأحكام بتغير الظروف ما ثبت من تغير فقه الشافعي القديم حين كان بالعراق إلى فقهه الجديد حين انتقل إلى مصر. (92) وتغير فقه الشافعي من القديم إلى الجديد أمر ثابت، أما تعليل هذا التغير بتغير الظروف فهو يحتاج إلى نظر؛ فمن المعلوم أن الشافعي قد جمع فقهه في كتبه، وهو قد ألف أكثر هذه الكتب في القديم، ثم حين أعاد تأليفها في الجديد كان يأمر بتمزيق الأولى التي حَوَتْ اجتهاداته القديمة والتي تغير رأيه فيها (93)، وفوق ذلك فقد روى البيهقي عنه أنه كان يقول: «لا أجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي» وكتابه البغدادي هو المشتمل على مذهبه القديم (94)، فلماذا هذا التشدد في نسخ آرائه القديمة وسعيه لإماتتها؟(3/271)
لا يبدو من ذلك أن السبب في تغير اجتهاداته تغير ظروف مصر عن ظروف العراق؛ لأن الأمر لو كان كذلك لأجاز للناس رواية ونقل مذهبه العراقي، ولكن تشدده في نسخه وسعيه لإماتته كأنه لم يقله دليل على أنه اكتشف أخطاء في اجتهاده القديم، لهذا أحب ألا ينقل عنه رأي خطأ. وإعادته النظر في آرائه القديمة وتغير اجتهاده فيها أمر عادي بسبب زيادة علمه وخبرته لا بسبب تغير الظروف.
ويقول أحد أشهر تلامذته وهو الإمام أحمد بن حنبل عن كتبه القديمة والجديدة التي حوت (فقهه القديم والجديد): «عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك». (95)
ولعل استقراء المسائل التي تغير اجتهاده فيها هي أفضل وسيلة لمعرفة ما إذا كان للظروف أثر في ذلك التغير، ولا أعلم مسألة واحدة يمكن أن يقال أن لتغير الظروف بين مصر والعراق أثر في تغير رأيه فيها.
رأي الإمام ابن القيم في تغير الأحكام :
عقد الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فصلا عن (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد) وقد حمل سوء الفهم لهذا الفصل بعض الناس فجعل رأي ابن القيم ورأي الطوفي سواء (96)، ولكن الدارس لرأي ابن القيم من الأمثلة التي ساقها يتضح له أنه لا فرق بينه وبين رأي سائر الفقهاء في إثبات تغير الأحكام في دائرة المسائل التي سكتت عنها النصوص، أما في دائرة النصوص فالأحكام ثابتة، إلا إذا دَلَّ النص نفسه على تغيرها.
وقد أورد ابن القيم عددًا من الأمثلة لتغير الحكم، وكل أمثلته تدور على الحالات الآتية : (97)
1- الحالة التي يثبت تغير النص فيها نَصٌ آخر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع الأيدي في الغزو، فتعطيل الحد هنا في هذا الظرف ثابت في نص آخر.
2- الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، ومثالها: ترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه.
3- حالة يستعمل فيها القياس وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، ومن أمثلة ذلك أن النص جعل صدقة الفطر في أصناف مخصوصة، فقياس عليها أمثالها من الأصناف التي تصلح أن تكون قُوتًا في البلاد التي لا يوجد فيها الأصناف التي حددها النص.
4- حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها: صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج، مع أن بعض النصوص يفهم منها عدم صحة ذلك في الأحوال العادية.
5- الحالات التي تتغير فيها عبارات العقود والأيمان والطلاق والنفور، تبعًا لتغير العُرْف والعادة في ذلك.
وليس من أمثلة ابن القيم مثال واحد لتقديم المصلحة على النص.
أحكام النصوص ثابتة:
ومن هذه المناقشات كلها لا نجد دليلا واحدًا يؤيد رأي (العصرانية) فيما تحاوله من فتح الباب لتغيير النصوص، بل إن الأحكام في دائرة النصوص أحكام ثابتة إلى يوم الدين لا تستطيع هيئة تشريعية أن تعدل فيها أو تغيرها.
لا كهنوتية في الإسلام.. ولكن!!
ينادي (سيد خان) (98) وأمثاله من (العصرانيين) بفتح أبواب الاجتهاد، وبإتاحة حرية واسعة في الاجتهاد حتى للأفراد العاديين، ولو أدى ذلك إلى فوضى فكرية.
وهكذا نشأت في أيامنا وجهة جديدة للتفكير تقول أن لا كهنوتية في الإسلام، فليس للعلماء مِنَ اختصاص بالقرآن والسنة والشريعة؛ حتى يكون لهم وحدهم الحق في التعبير عنها، بل المسلمون جميعًا يتمتعون بهذا الحق معهم، وما عند العلماء من حجة تجعل آراءهم أرجح مِنْ آرائنا، وأقوالهم أكثر وزنًا من أقوالنا في أمر الدين.
«.. ولعمر الحق أنه لو تركت صورة الجهل على حالها تشتد وتثور لا يبعد أن يقوم غدًا رجل مِنَّا فيقول أن لا قضاء في الإسلام، فيجوز لكل أحد من الناس أن يدلي برأيه في القانون، ولو لم يكن يعرف منه الألف والباء.. ويقوم بعده رجل آخر يقول ويعلن أن لا هندسة في الإسلام، فمن حق كل رجل أن يتكلم في الهندسة، ولو لم يكن على أدنى معرفة بمبادئها. ثم يقوم بعده رجل ثالث ويعلن أن ليس هناك مِنْ حاجة إلى حذق مهنة الطب، فيشرع في معالجة المرضى ومداواتهم من غير أن يكون على صلة بالطب ».(3/272)
«.. نعم لا جرم أنه لا كهنوتية في الإسلام، ولكن هل يعلم هؤلاء أن اليوم ما معنى ذلك؟ إنما معناه أن الإسلام ليس كاليهودية؛ حتى ينحصر فيه علم الشريعة والقيام على الخدمات الدينية في وسط من الأوساط، أو قبيلة من القبائل ولم يفرق فيه - كما في المسيحية - بين الدين والدنيا للقياصرة، ويكون الدين للرهبان والأحبار، ولا ريب – كذلك – أن لا اختصاص لأحد بتفسير القرآن والسنة والشريعة، وأنه لا ينحصر العلماء في سلالة أو أسرة معينة من الأسر، فلا يكون إلا لأفرداها يتوارثونه كابرًا عن كابر، ولهم وحدهم أن يتحدثوا باسم الدين، ويجتهدوا في تعاليمه دون سائر المسلمين، فكما أنه من الممكن لكل أحد مِنَ الناس أن يكون محاميًا إذا درس القانون، أو مهندسًا إذا درس الهندسة، أو طبيبًا إذا درس الطب فكذلك يجوز في الإسلام لكل فرد من أفراد المسلمين إذا درس القرآن والسنة، وصرف جانبًا من أوقاته وجهوده في تلقي علمها أن يتكلم في مسائل الشريعة... وهذا هو المعنى الصحيح المعقول؛ أن يكون هناك معنى لانعدام الكهنوتية في الإسلام».
« ليس معناه أن الإسلام كالألعوبة في أيدي الأطفال، يجوز لكل مَنْ شاء للناس أن يعبث بأحكامه وتعاليمه، ويصدر فيها آراءه، كما هو الشأن في أقضية أعلام المجتهدين وفتاواهم، ولو لم يكن قد بذل أدنى سعي في فهم القرآن والسنة والتبصر فيهما، وإذا لم يكن مقبولا ولا معقولا أن يدعي المرء أنه مرجع في أمر من أمور الدنيا من غير علم به، فما بالنا إذن نقبل في أمر الدين هؤلاء القوم الذين يتكلمون فيه من غير معرفة بأصوله ومبادئه». (99)
نقد فقه العصرانية
أنتجت آراء العصرانية الأصولية وموقفها من الحديث وموقفها من التفسير فقهًا متميزًا، يهدف في معظمه إلى تبرير الواقع المعاصر، وإدخال كثير من القيم الغربية في صُلْبِ الإسلام. وقد مرت بنا أمثلة كثيرة من هذا الفقه في الفصلين الثاني والثالث. ولا يتسع المقام هنا لنقد كل تلك المسائل التفصيلية من هذا الفقه، ولكننا نعرض هنا بعض آراء المعاصرة عن بعض المسائل التي تشغل بال (العصراينة) في مجال المرأة والحدود والجهاد، وتعرضها مِنْ وجهة نظر مدرسة التجديد السُّنِّي المعاصرة، وبأحد أقلامها المشهورة؛ قلم المودودي.
حدود نشاط النساء في الدولة الإسلامية
ليس للدولة الإسلامية أن تعمل شيئًا في أمر من أمور الدنيا بالعدول عن مبادئ الإسلام وأحكامه، وليس لها أن تفكر في ذلك إذا كان القائمون بأمرها أناسًا يؤمنون بالإسلام، ويتبعون مبادئه وأحكامه عن صادق العزيمة وخالص النية. ومن أحكام الإسلام فيما يتعلق بأمر النساء أن المرأة تساوي الرجل في الكرامة والشرف والاحترام، كما لا فرق بينهما باعتبار المستوي الخلقي، ولا باعتبار الأجر والمثوبة في الآخرة، ولكن ليس لنشاطهما دائرة واحدة؛ فالسياسية وإدارة الحكومة والخدمات العسكرية وما إليها من الأعمال لا علاقة لها إلا بالرجل، ولن يكون من نتيجة إقحام المرأة في هذه المجالات سوى أن تنهار حياتنا العائلية بمعنى الكلمة، وهي حياة تتحمل معظم تبعاتها المرأة، أو أن نحملها أثقالا مضاعفة؛ حيث أنها تقوم بواجباتها الفطرية – وهي واجبات لا قِبَل للرجل بمشاركتها فيها أبدًا – مع تحملها شطر واجبات الرجل. أيضا، وبما أن ليست الصورة المؤخرة الذِّكْر بميسورة فعلا، فلا بُدَّ أن تواجهنا الصورة المقدَّمة الذكر، وهي التي قد واجهها الغرب في إقحام المرأة في دائرة نشاط الرجل، فليس مِنَ العقل في شيء أن نحاكي غيرنا في سفاسف الأمور.(3/273)
والإسلام من حيث المبدأ عدو للبيئة الخليطة بالرجال والنساء. ولا نظام في الدنيا يرحب بها ويرضى بها، إن كان في نظره أدنى أهمية لتماسك نظام الأسرة. وقد ظهر للمجتمع المختلط في بلاد الغرب أشنع وأقذر ما يكون من النتائج، أما إذا كان الناس في بلادنا يجدون من نفوسهم استعدادًا لمكابدة هذه النتائج فليكابدوها بكل فخر وسرور ولا حرج، ولكن ما لهم يريدون للإسلام أن يجعل لهم رُخَصًا في أعمال ينهي عنها بكل تأكيد، وإذا كان الإسلام قد كلف النساء خدمة الجرحى في الحرب، فليس معنى ذلك أن للمسلمين أن يخرجوهن إلى المكاتب والمعامل والنوادي والمجالس النيابية حتى في حالة السلم. ومن المحال أن يكون التوفيق حليف النساء إذا ما اقتحمن دائرة نشاط الرجال وسابقنهم في أعمالهم؛ وذلك أن الله ما خلقهن لإنجاز هذه الأعمال، وإنما الرجل هو الذي قد أعطاه الله ما يحتاج إليه من الصفات الخلقية والمواهب الفكرية للقيام بهذه الأعمال، إذا استطاعت المرأة - على سبيل الافتراض - أن تبرز في نفسها حفنة من هذه الصفات والمواهب بالرجولة المصطنعة، فإن أضرارها الجسيمة المضاعفة لا بد أن تعود على نفسها وعلى المجتمع أيضًا؛ أما مضرتها على نفسها فهي أنها لا تنسلخ من أنوثتها تمامًا، ولا تدخل في الرجولة تمامًا، وتبوء بالفشل في دائرة نشاطها التي ما فطرت إلا لها، وأما مضرتها على المجتمع فهي أنه يجد لمختلف أعماله عمالا غير أكفاء، بدلا من أن يجد لها عمالا أكفاء، كما تفسد خصائص المرأة ومزاياها التي نصفها أنوثية ونصفها رجولية الحياة السياسية والاقتصادية.
ولا يمانع الإسلام مِنْ تعليم المرأة، بل الذي يؤكد عليه الإسلام أن تتحلى المرأة بأعلى ما يكون من التعليم والتربية، ولكن بشروط.
أولها: أن تدرس بصفة خاصة علومًا تجعلها صالحة للقيام بعملها في دائرة نشاطها، وعلى أمثل وجه وأكمله، وألا تكون ثقافتها عين ثقافة الرجل.
وثانيها: ألا تكون ثقافتها في معاهد مختلطة بالرجال والنساء، وإنما تكون في معاهد خاصة بالنساء، وقد ظهرت النتائج الموبقة للتعليم المختلط في البلاد الغربية الراقية، ولا يكابر فيها الآن إلا مَنْ أصيب بعمى القلب والبصيرة.
ثالثها: أن تشغل الفتيات المثقفات في مؤسسة خاصة بالنساء كالمدارس والكليات والمستشفيات مثلا. (100)
تقييد الطلاق وتعدد الزوجات
للمرأة المسلمة أن تخالع زوجها؛ أي تطلب منه الطلاق على الفدية عن طريق القضاء الإسلامي، ولها كذلك أن تتحصل من المحكمة حكمًا بفسخ زواجها أو التفريق بينها وبين زوجها بشرط أن يكون لديها من الأسباب ما يبيح لها شرعًا أن ترجع إلى المحكمة وتحصل منها على الحكم بإحدى الصورة المذكورة آنفًا. وأما الطلاق فقد جعله القرآن من حقوق الرجل بكلمات صريحة، ولا لقانون أن يتدخل في حقه هذا. أما أن تأتي هيئة من هيئات المسلمين التشريعية وتبيح لنفسها أن تضع قوانين مخالفة للقرآن باسم القرآن نفسه فهذا أمر آخر، وتاريخ الإسلام منذ عهد الرسالة إلى قرنه الحاضر ما عرف الفكرة القائلة بجواز أن ينتزع حق الطلاق من الرجل، أو تتدخل فيه محكمة أو مجلس التحكيم...
والحقيقة أن هذه الفكرة استوردت إلى بلادنا من أوربا رأسًا، ولم يحدث قط أن تفكر مورِّدو هذه النظرية فيما كان لقانون الطلاق هذا خلفية أو سياق تاريخي في أوربا، وما ظهر له في حياة الغرب من نتائج موبقة. وسيعلمون قريبًا عواقب تحريفهم في أحكام الله حين تخترق فضائح حياتهم العائلية جدران بيوتهم، وتنزل إلى الشوارع والأسواق، وتشحن بها صفحات الجرائد والمجلات.
كما أن ليست فكرة منع الرجل من الزواج بأكثر من واحدة إلا بضاعة أجنبية استوردت إلى بلادنا برخصة مزورة منسوبة إلى القرآن، وقد جاءت من مجتمع إذا اتخذ فيه الرجل - على وجود زوجته المشروعة – امرأة أخرى خليله له، فلا تستحق هذه الخليلة أن يتحمل وجودها فحسب؛ بل تستحق حفظ حقوق أولادها غير الشرعيين أيضًا. (وما مثال فرنسا في هذا الباب ببعيد عنا، ولكنه إذا تزوج بها فقد خالف القانون واقترف جريمة لا تغتفر. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القيود بأسرها تُفْرِضُ على الحلال لا على الحرام».(101)
الدليل على حد الرجم:
إن الحد الذي قد قُرِّرَ في سورة النور للزنا، إنما هو حد الزنا المطلق، وليس بحد للزنا بعد الإحصان – أي ارتكاب الزنا بعد التزوج – الذي هو أشد وأغلظ من الزنا المحض في نظر القانون الإسلامي. والله -تعالى- يشير في سورة النساء إلى أنه لا يقرر في سورة النور هذا الحد إلا للزنا الذي يكون كلٌّ مِنْ مرتكبيه غير متزوج. فقد قال أولا في سورة النساء: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }[ النور: 15](3/274)
ثم قال بعده بيسير{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور: 25]
فالآية الأولى تتضمن التوقع لحكم من الله سينزله في المستقبل لعقوبة الزانيات اللاتي يأمر الآن بإمساكهن في البيوت. ونعلم بذلك أن هذا الحكم الأخير الذي جاء في (سورة النور) هو الحكم ـ أو السبيل ـ الذي كان وعد به الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء. وفي الآية الثانية جاء بيان حد الزانية من الإماء المتزوجات، وكما قد جاءت لفظة المحصنات في آية واحدة وسياق الكلام بعينه مرتين، فلا بد أن يكون معنى المحصنات واحدًا في الموضعين.
فإذا نظرت الآن في بدء الجملة حيث قيل: +ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات" علمتَ أن ليس المراد بالمحصنة في هذه الآية امرأة متزوجة، بل امرأة حرة غير متزوجة. وقيل في ختام الجملة: إن الأمة إذا أتت بفاحشة ـ أو زنت ـ فعقوبتها نصف عقوبة المحصنة، والذي يدل عليه سياق الكلام؛ أن المراد بالمحصنة في هذه الجملة نفس المعنى المراد في الجملة السابقة؛ أي: «امرأة حرة غير متزوجة، ولكن محصنة بعفافها وحفظ أسرتها». فهاتان الآيتان معًا تشيران إلى حكم أن حد الزنا في سورة النور -وهو الذي كان الوعد جاء به في سورة النساء- إنما يبين حد الزاني والزانية غير المتزوجين.
أما ما هو الحد للزنا بعد الإحصان بالزواج، فهذا أمر لا نعرفه من القرآن بل نعرفه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فقد ثبت بغير واحدة ولا اثنتين من الروايات الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما اقتصر على بيان حد الزنا للمتزوجين والمتزوجات بأقواله فحسب، بل قد أقام هذا الحد فعلا في غير واحدة من الأقضية المرفوعة إليه وهو الرجم. ثم أقامه بعده خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- في عهودهم، وأعلنوا مرارًا أن الرجم هو الحد ـ أي العقوبة القانونية ـ للزنا بعد الإحصان. والرجم باعتباره حد للزنا بعد الإحصان ما زال أمرًا مجمعًا عليه بين الصحابة والتابعين، حيث لا نكاد نجد لأحد منهم قولا يدل على أنه كان في القرن الأول رجل له الشك في كون الرجم من الأحكام الشرعية الثابتة. ثم ظل فقهاء الإسلام في كل عصر وفي كل مصر مجمعين على كونه سنة ثابتة بأدلة متضافرة قوية لا مجال لأحد من أهل العلم أن يشك في صحتها.
ولم يخالف الجمهور في هذه القضية إلا الخوارج وبعض المعتزلة، على أنه ما كان الأساس لمخالفتهم أن يكونوا قد شخصَّوا ضعفًا في ثبوت حكم الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قالوا: إن الرجم باعتباره حدا للزاني المحصن مخالف للقرآن، والحقيقة أن ليس ذلك إلا لخطأ فهمهم للقرآن. قالوا: إن القرآن يبين مئة جلدة حدًّا عامًّا لكل زانٍ وزانية، فليس تخصيص الزاني المحصن من هذا الحكم العام إلا مخالفة للقرآن، ولكنهم ما تنبهوا إلى أن الوزن القانوني الذي هو لألفاظ القرآن هو نفسه لشرحها الذي يبينه النبي صلى الله عليه وسلم بشرط ثبوته عنه.
ألا ترى أن القرآن قد جاء بمثل هذه الألفاظ المطلقة عندما بَيَّنَ حدَّ السارق فقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، ونحن إذا لم نجعل هذا الحكم مقيدًا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ شرحه، فمن عين ما يقتضيه عموم هذه الألفاظ أن نحكم بالسرقة على كل مَنْ سرق إبره أو تفاحة ـ مثلا ـ فنقطع يده بل يديه إلى منكبيه، وبالجانب الآخر كل مَنْ سرق ولو آلافًا من الجنيهات، ثم تظاهر بالتوبة وإصلاح النفس، فعلينا أن نتركه ولا نمسه بسوء؛ لأن القرآن يقول بعد بيانه حد السارق والسارقة: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة: 39](3/275)
وكذال فإن القرآن إنما يبين حرمة الأم والأخت من الرضاعة، فيجب أن تكون حرمة البنت من الرضاعة مخالفة للقرآن بموجب هذا الاستدلال. والقرآن إنما ينهي عن الجمع بين الأختين، فمن قال بحرمة الجمع بين العمة وبنت أخيها أو الخالة وبنت أختها يجب أن نحكم عليه بمخالفة القرآن. والقرآن إنما يحرم على المرء ربيبته إذا كانت قد تربت في حجره، فيجب أن تكون حرمتها المطلقة مخالفة للقرآن. والقرآن إنما يأذن في الرِّهَان إذا كان الرجل على سفر ولم يجد كاتبًا، فيجب أن يكون جواز الرهان في الْحَضَر ومع وجود الكاتب مخالفة للقرآن. والقرآن يقول بكلمات عامة ( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ) فيجب أن يحكم بالحرمة على البيع والشراء الذي يتم في أسواقنا ليل ونهار بغير الشهود لكونه يخالف القرآن.
فهذه بعض أمثلة إذا سرحت فيها النظر تبين لك الخطأ في استدلال الذين يقولون: إن حكم الرجم للزاني المحصن مخالف للقرآن (102). والحق أن منصب الرسول في نظام الشريعة -الذي لا مجال فيه للريب والمكابرة- هو أن يبلغنا أحكام الله –تعالى- ثم يبين لنا مقتضياتها ومقاصدها والطرق للعمل بها، والمعاملات التي تنفذ فيها، والمعاملات التي لها أحكام أخرى. وإنكار هذا المنصب ليس بمخالفة لأصول الدين فحسب، بل هو مستلزم ـ كذلك ـ لمصاعب ومفاسد لا تكاد تحصى. (103)
لا مساغ لتقسيم الجهاد إلى الهجومي والدفاعي
إن ما اصطلحوا عليه اليوم من تقسيم القتال الهجومي والدفاعي لا يصح إطلاقه على الجهاد الإسلامي البَتَّه، وإنما يصدق هذا المصطلح على الحروب القومية والوطنية فقط؛ لأن هاتين الكلمتين المصطلح عليهما لا ينطق بهما، وما جرى استعمالهما إلا بالنسبة إلى قُطْرٍ مخصوص أو أمة بعينها. وأما إذا قام حزب عالمي مستند إلى فكرة انقلابية شاملة، لا تفرق بين أمة دون أمة، ولا تخص قُطْرًا دون قطر، يدعو جميع الأمم والشعوب على اختلاف أجناسها ولغاتها إلى فكرته ومنهاجه، مفتوحة أبوابه لكل مَنْ يريد المشاركة في بث تلك الدعوة، ونشر تلك الفكرة، ولا يسعى إلا وراء القضاء على الحكومات الجائزة المناقضة لمبادئ الحق الخالدة، وإقامة حكومة صالحة مؤسس بنيانُهَا على قواعد الحق والعدل التي يؤمن بها ويدعو إليها، أما إذا كان الأمر كذلك فلا مجال في دائرته البتة لِمَا اصطلحوا عليه من نوعي القتال الهجومي والدفاعي.
وكذلك إذا نظرنا في المسألة -بصرف النظر عن هذا المصطلح الشائع- تبين لنا أنه لا ينطبق هذا التفسير ـ إلى الهجومي والدفاعي ـ على الجهاد الإسلامي بحال من الأحوال؛ فإن الجهاد الإسلامي إذا أردت الحقيقة هجومي ودفاعي معًا؛ هجومي لأن الحزب الإسلامي يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة للإسلام، ويريد قطع دابرها ولا يتحرج في استخدام القوى الحربية لذلك. وأما كونه دفاعيًّا، فلأنه مضطر إلى تشييد بنيان المملكة وتوطيد دعائمها؛ حتى يتسنى له العمل وفق برنامجه وخطته المرسومة.
وغير خافٍ عليك أن الإسلام حزب، فليس من هذه الوجهة دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود عنها ويدافع عنها، وإنما يملك مبادئ وأصولا يَذُبُّ عنها ويستميت في الدفاع عنها. وكذلك لا يحمل على دار الحزب الذي يعارضه ويناقضه، وإنما يحمل ويصول على المبادئ يتمسك بها، ولا يغِيبنَّ عن بَالِك أنه لا يريد بهذه الحملة أن يُكْره مَنْ يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته، والإيمان بمبادئ الإسلام، وإنما يريد الحزب الإسلامي أن ينتزع زمام الأمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة، حتى يستتب الأمر لحملة لواء الحق، ولا تكون فتنة ويكون الدين لله. (104)
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 259-280).
الشبهة(5) : هل تتغير الأحكام بتغير الزمان ؟
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (105)، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب.
وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين:(3/276)
الأول : التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الثاني : التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء.
ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله.
ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله) :
«ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110]
1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل.
2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلمأهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى(فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان.
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع..
ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.
والخلاصة : أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب إتباعه. (106)
ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (107)
ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): «إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده». (108)وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (109)
فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟
يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره.
الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة(3/277)
يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية . (110)
ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده.
وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب.
وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه.
أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟
الحجة الثانية : خطط الرسول الحربية.
وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (111)
وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية:
1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (112) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة.
2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟
فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة.
ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: «ألقها على بلال»، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: «الله أكبر.. هذا أثبت»، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي . (113)(3/278)
فإذا قيل: إن السنة غير التشريعية هي التي تصدر عن رأي الرسول من غير وحي، إذ أنها حينئذ صادرة عنه بوصفه بَشَرًا، فهلا قيل: إن الأذان من السنة غير التشريعية؛ لأنه صدر عن رأي من غير وحي، أو هلا قيل: إن مسألة مفاداة الأسرى من السنة غير التشريعية؛ لأن الرسول قد حكم فيها برأيه، ثم خَطَّأه الوحي.
ولعله يحسن في هذا المقام أن نبين أنه لا فرق في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يأتي بها الوحي أو تصدر عن رأيه، وذلك أنه بخلاف ما يكون من الرأي من غيره من المجتهدين؛ فإن النبي لا يقر على الخطأ. فإذا بَيَّنَ أمرًا من رأيه وأقر عليه كان ذلك صوابًا لا محالة، وصار ذلك بسكوت الوحي عليه وموافقته له ضِمْنًا، وإقراره عليه، كأنه صدر من الوحي ابتداء. والدليل على هذه القاعدة ما روي أن خولة -رضي الله عنها- لَمَّا جاءت إليه تسأله عن ظهار زوجها منها قال: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت: إني أشتكي إلى الله، فأنزل الله تعالى قوله: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ ) وبَيَّن فيها حكم الظهار. فعرفنا أنه كان يفتي بالرأي في أحكام الشرع، وكان لا يقر على الخطأ، وهذا لأنا أمرنا باتباعه؛ قال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وحين بين بالرأي وأقر على ذلك كان اتباع ذلك فرضًا علينا لا محالة، فعرفنا أن ذلك هو الحق المتيقن به، ومثل ذلك لا يوجد في حق الأمة؛ فالمجتهد قد يخطئ . (114)
ولعله من الطريف حقًّا أن نعلم أن (ابن كثير) أضاف إلى الرواية حادثة الحباب بن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك جبريل، وملك، فقال له الملك: إن الله يقول لك: إن الأمر هو الذي أمرك به الحباب بن المنذر. (115) فإذا قبلنا ثبوت حادثة الحباب هذه، فينبغي أن يعلم أن الوحي قد أقرها صراحة، فلا تكون راجعة إلى الرأي والخبرة وحدها.
الحجة الثالثة: حديث تلقيح النخل:
من أقوى حجج اشتمال السنة على أمور غير تشريعية (هي الشئون الدنيوية) حديث تلقيح النخل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
وفيما يلي عدد من الروايات الصحيحة لهذا الحديث:
1- عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن ذلك يغني شيئًا» فأخبروه فتركوه. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لن أكذب على الله عز وجل». رواه مسلم(116)
2- عن رافع بن خديح قال: قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُأبِّرون النخل (يلقحون النخل) فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا»، فتركوه فنفضت (يعني أسقطت ثمرها)، قال: فذكروا ذلك، فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر». رواه مسلم (117)
3- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، فخرجت شَيصًا (الشيص: هو التمر الرديء)، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». رواه مسلم (118)
4- عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: «ما هذه الأصوات؟» قالوا: النخل يؤبرونه يا رسول الله، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ فصار شيصًا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». رواه الإمام أحمد. (119)
ويقول (الدكتور العوا) عن هذا الحديث:
« ولو لم يكن غير هذا الحديث الشريف في تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعًا لازمًا وقانونًا دائمًا لكفى.ففي نص عبارة الحديث بمختلف رواياته تبين أن ما يلزم اتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان مستندًا إلى الوحي فحسب، وذلك غالبه متعلق بأمور الدين، وأقله متعلق بأمور الدنيا، وليس أوضح في الدلالة على هذا من خبرة لي بالنخل ـ إذ ليس في مكة نخل ـ أو لا أحسن الزراعة فبلدي واد غير ذي زرع، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- تخير أحسن العبارات وأجمعها، وجعل من حديثه في هذه المسألة الجزئية، قاعدة كلية عامة، مؤداها: أنه في ما لا وحي فيه من شئون الدنيا فالأمر للخبرة والتجربة والمصلحة، التي يحسن أرباب الأمر معرفتها دون من لا خبرة له به. فلم يكن الجواب قاصرًا على مسألة تلقيح النخل، وإنما جاء شاملا لكل أمر مما لم يأت فيه وحي بقرآن أو سنة. (120)(3/279)
وفهم الحديث على هذا النحو قال به أيضًا (سيد خان)، وعدد من المحدثين وتوسع فيه بعضهم حتى حصر الدين في العقائد والعبادات فقط، وللمرء أن يسأل هنا: هل كان الناس يفهمون الحديث على هذا النحو قبل هؤلاء.
من مطالعة شروح هذا الحديث والتعليقات عليه (121)، ومن المتأمل في رواياته تتجلى الأمور التالية :
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه أمر للقوم بترك التلقيح، ولم يصدر منه خبر أن التلقيح مفيد أو غير مفيد، بل هو قد ظن ظنًّا وأساء القوم فهم هذا الظن، فتركوا التلقيح بناء عليه. يقول ابن تيمية موضحًا ذلك: «... وهو صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود» . (122)
ويؤكد النووي هذه الحقيقة فيقول: «... قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبرًا، وإنما كان ظنًّا كما بينه في هذه الروايات». (123) والروايات التي يشير إليها النووي هي ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما أظن يغني ذلك شيئًا».. فأخبروا بذلك فتركوه وحين لم يثمر النخل قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظن».
2- جاء في روايات هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف قائلا: « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وتضيف رواية أخرى أنه قال: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ».
فماذا يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور الدنيا؟
لدينا على الأقل مثال واحد عن المقصود بأمور الدنيا لا يثور حوله جدل، وهو تلقيح النخل، وحتى هذا المثال الوحيد لم يصدر عن النبي فيه خبر صريح أو أمر جازم، وهكذا الحال في أقرب الأمور شبهًا بتلقيح النخل وأمور الفلاحة، فإننا لا نجد خبرًا عن الرسول عن كيفية خياطة الملابس مثلا، أو عن كيفية صنع السيوف والدروع، وعن كيفية طبخ الأطعمة أو نصب الخيام، أو أمثالها من معايش الدنيا.
فلَمَّا لَمْ نجد ذلك علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مهمته أن يبين هذه الأمور، وإنما مهمته أن يبين أمور الدين، ولهذا قال لهم: « إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإليَّ». وقال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم ».
فكل ما بينه الرسول وجاءت به سنته فهو من أمور الدين، وأما معايش الدنيا من مثل الأمور المذكورة، فلم يتعرض لها الرسول ببيان.
3- ومما يؤكد أن كل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أمور الدين شيئان:
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا فَرقًا واضحًا في سنته بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولو كان مثل هذا التقسيم حقيقة قائمة لأوضح لنا كيف نميز بين القسمين تمييزًا لا نقع معه في لبس؛ لأن الحاجة - لا شك - ماسة لمثل هذا التمييز، فلما لَمْ نجد بيانًا عن الرسول مع قيام الحاجة إليه تأكدنا أن التقسيم إلى سنة خاصة بأمور الدين، وسنة خاصة بأمور الدنيا تقسيم لا وجود له. وحتى أولئك الذين وَلَّدَ وَهْمُهُمْ هذا التقسيم، لم يستطع أحد منهم أن يقدم معيارًا صحيحًا للتمييز بين ما ظنوه سنة تشريعية وغير تشريعية، ولن يستطيعوا؛ لأن هذا التمييز لا يقوم إلا في أذهانهم فقط.
والثاني : أن الصحابة والتابعين وأئمة المجتهدين والفقهاء وقادة الرأي والفكر خلال أربعة عشرة قرنًا، لم يعرف أحد منهم أنه ردَّ سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنها خاصة بأمور الدنيا، مع كثرة اختلافهم، ورد بعضهم على بعض عند تعارض الأدلة.
الحجة الرابعة: الأحاديث النبوية عن الطب
يشرح المستشرق (موريس بوكاي) هذه الحجة كالآتي:
هناك بعض الأحاديث غير المقبولة علميًّا في مواضيع الطب والمعالجة، ومع أن هذه الأحاديث صحيحة إلا أن الحديث قد يكون صحيحًا لا شك فيه، ولكنه قد يكون متعلقًا بشأن من شئون الدنيا مما لا وحي فيه، وعندئذ لا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره مِنَ البشر؛ لحديث « أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الأحاديث المتعلقة بموضوعات طبية تعطينا صورة عن مفاهيم ذلك العصر وآرائهم في مثل هذه المواضيع الطبية.
وللتدليل على رأيه سرد عددًا من الأحاديث المتعلقة بالطب، والتي يرى أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث، وفيما يلي نقوم بتصنيف هذه الأحاديث التي ذكرها، وننظر هل صحيح أنها لا تتفق مع حقائق العلم الحديث؟ وهل صحيح ما استنتجه من أنها ناشئة عن الخبرة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط؟
ويمكن تصنيف هذه الأحاديث على النحو التالي:(3/280)
1- الأحاديث المتعلقة بالعين والسحر. ولا أدري ما الحقيقة العلمية التي تناقض هذه الأحاديث؟! ففضلا عن أن مسائل العين والسحر لا تدخل في نطاق الطب التجريبي الغربي الحديث، فإن القرآن قد أثبت أيضًا السحر والعين، ولا يوجد دليل علمي واحد ينفي وجودهما، فكيف ينكر أمر تَضَافَرَ على إثباته القرآن والسنة اعتمادًا على تصور مادي بحت لا يقوم إلا على الظن.
2- الأحاديث التي أشارت لبعض الخواص الطبية العلاجية لبعض الثمار مثل التمر أو الحبوب مثل الحبة السوداء، أو بعض الأغذية مثل لبن الناقة. ومن العجيب أن يستريب أحد فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجود خصائص علاجية في هذه المواد، وإلا فمن أين تستخرج الأدوية قديمًا وحديثًا؛ ألا تستخرج من مثل هذه المواد؟
3- الحديث الذي أخبر عن استخدام بول الإبل كدواء. ومن الثابت طبيًّا أن البول حتى بول الإنسان ليس ضارًّا إذا شرب، بل إن هناك أدوية فعالة جدا تستخرج الآن من البول، وقد بدأت الدراسات الحديثة تتسع في هذا المضمار.
4- الأحاديث التي تشير إلى أن من أصول العلاج ثلاث: الكي والأشربة والجراحة (شرطة محجم)، فهل تغيرت طرق العلاج هذه، أم كل ما هناك أنه قد أصبحت وسائل متقدمة لاستخدامها. (من مظاهر سوء الفهم حصر الكي أو غيره في كيفية معينة، فالحديث لم يتعرض لهذه الكيفية، إنما أشار فقط لأصول طرق العلاج).
5- الحديث الذي يشير إلى أن الذباب ينقل في بعض أجزاء جسمه سمومًا، وأن في بعض أجزاء جسمه الأخرى مضادات لتلك السموم، وكل ما يمكن أن يقال من الناحية الطبية أن العلم لم يكتشف ذلك حتى الآن، ولكن هل يستطيع أحد أن يجزم بنفي إمكان اكتشاف ذلك مستقبلا.
6- الحديث الذي يشير إلى أن الْحُمَّى من فيح جهنم، وينصح بإبرادها بالماء. واستعمال الضمادات المثلجة لإنزال حرارة الحمى هو من طرق العلاج المستخدمة الآن، أما كون الحمى من فيح جهنم فهناك تفسيران لذلك: أولهما أن حرارة الحمى شبيهة بحرارة جهنم، وهذا لا اعتراض عليه. والثاني: أن هناك صلة حقيقية بين حرارة الحمى وبين جهنم؟ فهل يستطيع بشر بأي تجربة علمية أن يثبت أن مثل هذه الصلة لا يمكن أن توجد؟ إن جهنم من أمور الغيب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الخبير بأمور الغيب.
7- الأخبار بأن هناك جنسًا من الثعابين يسبب العمى ويُسْقِطُ الْحَمْل، وهذا النوع من الثعابين نوع معروف حتى الآن وموجود ومشهور، ويُعْرف باسم الكوبرا Copصلى الله عليه وسلمa، ومن المعروف عنه أنه يصوب سمَّه إلى عين فريسته ليعميها. أما إسقاط الحمل فقد يكون بسبب الفزع من رؤيته، أو بسبب سمه إذا لدغ.
وهكذا فالنظر في الأحاديث التي ساقها (موريس بوكاي) نخلص إلى أنه ليس فيها حديث واحد يخالف حقائق العلم الحديث، وفي حقيقة الأمر لا يستطيع أحد أن يعثر على حديث من هذا النوع، إنما الذي يوقع في الالتباس ويوهم أن هناك تناقضًا إما سوء فهم الحديث أو الجهل بالعلم الحديث. ولهذا فإن الطريقة المثلى إذا وقع في نفس المرء الْتِبَاس من هذا النوع، أن يتثبت من صحة الحديث، ويراجع شروحه، ويستوثق من فهم الحديث على وجهه الصحيح، ويسأل في المسائل العلمية جهات الاختصاص، ولا يسارع إلى الإنكار ورد الأحاديث الصحيحة، ففضلا عن أن ذلك ليس منهجًا علميًّا صحيحًا، فهو ليس سبيل الذين رسخ الإيمان في قلوبهم.
ويحسن التنويه هنا بأمرين :
أولهما: إن مثل هذه الاعتراضات لم تظهر في عصرنا هذا فحسب، ولكنها ظهرت في العصور الماضية، ولم تكن تصدر إلا مِمَّن عرف عنهم انحراف في التفكير، فهذا ابن قتيبة مثلا من علماء القرن الثالث الهجري يؤلف كتابًا في الردِّ على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادَّعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه مِنَ الشُّبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأي . (124)
وثانيهما : أن مِنْ بعض ما ظن الناس فيه تناقضًا مع ما عندهم من المعرفة في عصرهم، قد ظهر خطؤه في هذا العصر مع تقدم العلم، ومن ذلك: الأمر بغسل الإناء الذي يلغ فيه الكلب.
وقد نقل الخطابي من علماء القرن الرابع الهجري اعتراضًا على أحد الأحاديث فقال: « اعترض بعض سخفاء الأطباء على حديث إبراد الْحُمَّى بالماء بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقرِّبه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف». ثم ردَّ الخطابي على ذلك بأن قال: « وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صَدَرَ عَنْ صَدْرٍ مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا: من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية.. إلى أن قال: «وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به» . (125)(3/281)
ولا أظننا في هذا العصر -الذي أصبح فيه إبراد الحمى بالماء طريقة طبية مستخدمة- نقابل ذلك الاعتراض المثار بغير السخرية من جهل صاحبه وجنايته على الطب وعلى الدين. وفي حقيقة الأمر فإن الطب النبوي كله يحتاج لدراسة دقيقة، وربما توصل الناس عن طريق البحث والتجارب إلى اكتشافات عظيمة، ولو كانت هذه الثورة العلمية عند الغربيين لأفادوا منها كثيرًا، ولكن المسلمين اليوم متأخرون متخلفون في كثير من مجالات الحياة.
الحجة الخامسة: تصرفات الرسول بالرسالة وبالإمامة والقضاء:
قسم (الإمام القرافي) تصرفات الرسول إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة) (126) وقد ذهب مَنِ احتج بهذا التقسيم إلى أن تصرفات الرسول في القضاء والإمامة ليست من السنة التشريعية الملزمة. (127)
وإذا تمعنَّا في هذا الذي ذكره الإمام القرافي يتضح أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول -عليه السلام- إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات. فالمقصود من كلام (القرافي) البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وتوزيعات للسلطات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة. ولا يفهم من كلام (القرافي) بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية. بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا. فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية.
السنة تشريع كلها :
والخلاصة أن السنة تشريع كلها ما كان منها أقوالا أو أفعالا. يقول ابن تيمية: «إن جميع أقواله يستفاد منها شرع... ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب». (128) وقد روي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق» يعني شفتيه الكريمتين. (129)
أما الأفعال فأيضًا كلها تشريع، إلا تلك الأفعال الْجِبِليَّة التي لا يدخل في طوع بشر اختيار كيفيتها وهيئتها.
شريعة الله وشريعة الفقهاء
المبدأ الثاني الذي تحاول (العصرانية) أن تضع به خطًّا فاصلا بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري، هو مبدأ التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، فتوصف الأولى بالثبات والدوام، وتوصف الثانية بالتغير والتقلب حسب ظروف العصر.
يكتب أحمد كمال أبو المجد عن ذلك فيقول :
«إننا نؤكد ضرورة التمييز بين الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي الجزء الثابت من أحكام الإسلام، الثابت في النصوص القطعية في ورودها ودلالتها، والفقه تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد مباشرة من النصوص القطعية وقياساتهم عليه، واجتهاداتهم فيما لا نصَّ فيه، وترجيحهم بين ما بَدَا تعارضه من الأدلة، وهو اجتهاد بشر يتفقون ويختلفون، وقلَّما يجتمعون، وخطؤهم وصوابهم ليس تشريعًا، ولكنه يعكس خطَّ كل واحد منهم من المعرفة بالوقائع ومصادر الأحكام، وقواعد التفسير وأصول الترجيح، كما يعكس ظروف الزمان والمكان.. ويعكس بعد ذلك كله رأيه ورؤيته للقيم والمصالح والاعتبارات.. وهو في ذلك كله يرمز إلى الجزء المتغير من تراث الإسلام. وباطل قول مَنْ قال: إن الأول لم يترك للآخر شيئًا... فقد ترك له عَالَمًا كاملا غير عالمه، ودنيا غير دنياه... وتجربة جديدة لا تغني عنها تجربة قديمة. فتلك أمة قد خلت، ولا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ». (130)(3/282)
أما أن الشريعة تشتمل على نصوص منزَّلة من عند الله تعالى، وعلى تفسير الرجال لتلك النصوص، واجتهادهم فيما لا نَصَّ فيه فذلك حَقٌّ لا مراء فيه. أما وصف فقه الرجال بالتغير وعدم الثبات فهو الموضع الذي يحتاج إلى فحص وتأمل. ذلك أن كلمة التغير كلمة تحتمل معاني متعددة، فمن الخطأ البَيِّن أن يقصد منها اطراح فقه العصور الماضية، والبدء في تدوين فقه عصري جديد. «وإذا قرر الجيل الحاضر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيها مثل هذا. ولذا فإن شعبًا لم يفارقه العقل لا يبيد الجهود والأعمال التي تمت على أيدي أسلافه، وإنما يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالا جديدة لم يُتَحْ للأولين أن يقوموا بها، وهكذا لا يزال يتقدم بخطي حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء». (131)
إن الفقهاء الأوائل بَشَرٌ ما في ذلك شك، لا يعني ذلك أن ما قالوه فهو خطأ يجب اطراحه. أو لَسْنَا أيضا بشرًا، فما الذي يجعل لنا فضلا عليهم؟ إن فقه الأولين فيه الخطأ والصواب، وكل ذي عقل يرى أن ما كان صوابًا قبلناه، وما كان خطأ طرحناه.
وإذا كان تقسيم الشريعة إلى شريعة الله وشريعة الفقهاء له إيحاءات خاطئة، فالأفضل منه أن يجعل التقسيم أكثر تفصيلا، حتى يكون أكثر بيانًا ووضوحًا. وقد قسم الإمام ابن تيمية الشريعة إلى ثلاثة أقسام (132): شريعة منزلة وهي القرآن والسنة، وشريعة اجتهادية وهي ما توصل إليها عن طريق الاجتهاد، وشريعة محرمة وهي التي يظن أنها من الشرع وهي محض انحرافات. فالشريعة الاجتهادية تتعدد الآراء فيها في المسألة الواحدة، ونقبل ونرفض منها بحسب الأدلة، أما الانحرافات والتحريفات فمرفوضة كلها.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 242-259).
________________________________________
(1) منهم على سبيل المثال : فهمي هويدي. محمد فتحي عثمان، ومحمد عمارة وغيرهم كثر.
(2) مثل الدكتور حسن الترابي وراشد الغنوشى، وهؤلاء جميعاً حادوا عن منهج السلف الصالحين وعن منهج الحركات نفسها.
(3) مجلة الآداب – بيروت – عدد مايو 1970 ص101- انظر تجديد مفهوم الدين ص267.
(4) مجلة المسلمون عدد (6) السنة الأولى ص553- المصدر السابق.
(5) ص157-ص164.
(6) انظر ص137 والصفحات التي تليها من المصدر السابق.
(7) انظر إلى « مدينة بحتة».
(8) قلت : لكي لا يوهن دينه أمام القسس.
(9) قل لي بربك ما الذي يجعله متعذراً سوى ضعف الإيمان والانهزام النفسي والخوف من الكفار؟!
(10) ) سبحان الله ، والله إن تحكم اليهود والنصارى المرابين اليوم لا يدانيه تحكم الجاهلين الأول، وجشع الجاهليين الجدد لا يمكن أن يقاس بما كان عليه أسلافهم، وأغلب المرابين في الماضي والحاضر هم اليهود... ولماذا هذه المجاملة؟ ألترضى عنكم اليهود والنصارى؟ فإن ربنا يقول : (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) اللهم إلا إذا تيقنوا أنكم سائرون على الدرب ، ومن سار على الدرب وصل ، ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.
(11) قال محققاً جامع العلوم والحكم : (حديث حسن بطرقه وشواهده. رواه مالك في الموطأ 2/745 من طريق عمرو بن يحيي المازني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا سند صحيح إلا أنه مرسل . ورواه موصولاً من حديث أبي سعيد الخدري والدارقطني 3/77و4/228 والبيهقي 6/69 والحاكم ط2/57-58) هامش ص207/ج2.
(12) المصدر السابق ، ط2/212 والصفحات التالية لها.
(13) انظر تجديد مفهوم الدين ص260.
(14) النور 49-50.
(15) ج3/ص4 والصفحات التي تليها.
(16) الخروج بالسيف على الحكام المعلنين لشرع الله والمحكمين له لا يجوز إلا إذا صدر منهم كفر بواح، وحتى في هذه الحالة لا يجوز الخروج إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة... وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين لا يحكمون شرع الله بل ويعادونه، لا يجوز الخروج عليهم بالسيف إلا إذا ترجحت المصلحة على المفسدة كي لا يحدث ما هو أكبر من ترك الحكم بشرع الله مع أنه كبير، والعلم عند من لا تخفى عليه خافية، ولا تنس أخي المسلم ما حدث نتيجة لتأول الأخيار من هذه الأمة – وهم متأولون مأجورون- في القرن الأول من أضرار بليغة وفتن عظيمة.
(17) لقد كتبت التعليق السابق قبل أن أصل إلى كلام ابن القيم هذا، فإذا كان المنهج واحداً كان التفكير واحداً وإن اختلفت الأزمنة والأمكنة لا كما يقول أدعياء التجديد.
(18) المكاء: الصفير بالفم، أو التشبيك بالأصابع والنفخ فيها- هامش ص5 المصدر السابق.
(19) التصدية: التصفيق باليد- المصدر السابق.(3/283)
(20) مما لا شك فيه أن أمهل الفسق والفجور أحسن حالاً من أهل البدع والشبه، ولذلك كانت البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، والسبب أنه يرجى لأهل الفجور والفسق التوبة والإقلاع عن فسقهم، ولكن من العسير جداً أن يرجع أهل البدع والشبه عما هم فيه. فوالله الذي لا إله إلا هو إنه لمن الأفضل للشخص إذا كان موحداً أن يظل على فسقه وفجوره من أن ينضوي تحت طريقة صوفية مثلاً يعتقد أن شيخها أو غيره ينفع ويضر ويعلم الغيب... فاعتبروا يا أولي الأبصار.
(21) المصدر السابق.
(22) نلاحظ أن النهي هنا صادر عن المبلغ عن صاحب الشريعة ، وليس من شخص بسبب مصلحة رآها، فالرسول صلى الله عليه وسلم خص الأمر العام بالنهي عن إقامة هذا الحد في الحال وتأخيره إلى حين درءاً لبعض المفاسد.
(23) المجنة: تُرس.
(24) قلت: انظر إلى فقه الصحابة وفهمهم هل يدانيه فقه أو فهم، لله درهم، وصدق ابن مسعود في وصفه لهم : «أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً» رضي الله عنهم جميعا.
(25) العُذَيْب: ماء معروف بين القادسية ومغيثة... تصغير عذب. وسمي به لأنه طرف أرض- لسان العرب- مادة: عذب ج1/585.
(26) يقصد الشيخ من كل هذا أن الله ما شرع الشريعة إلا وهي تراعي مصالح العباد، وإذا أدى الحكم إلى مفسدة في ظروف معينة فإنه يكون للشريعة حكم خاص بهذا الظرف يراعي مصلحة المكلف ، كما شرع الله تأخير الحد عن السارق في دار الغزو للمصلحة الراجحة في ذلك... ولذلك لم يلتفت بشر بن أرطأة إلى المصلحة إلا لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو»، وكما دلت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك إنكار المنكر في الحالات التي يؤدي فيها إنكاره إلى مفسدة أكبر. وهذا يرد على العصرانيين لأنه يدل على أن كل حكم شرعي هو ذو مصلحة راجحة لا تخفى على الشارع العليم الخبير وإن خفيت على قصيري النظر من البشر.
(27) أي الحد.
(28) المصدر السابق .
(29) انظر إعلام الموقعين ج 3/8.
(30) تركت مثال ابن القيم الثالث لأني سبق أن تعرضت له من قبل عند الحديث عن عدم إقامة عمر حد السرقة عام الرمادة فلا داعي للتكرار.
(31) المصدر السابق.
(32) يقصد أن الراجح أن الحكم المنصوص عليه في الحديث هو تخصيص لحالة العجز عن الانتظار من الحكم العام .
(33) تم سردها ص15- ص16.
(34) المصدر السابق.
(35) انظر تجديد مفهوم الدين ص263 والصفحات التي تليها.
(36) إلى يوم القيامة لا يعرف قول غيره عند أهل الإسلام.
(37) انظر المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي- مصطفى زيد- ص194 من المصدر السابق.
(38) أن مثل هذه الآراء المنحرفة لا تصدر إلا من رجل مبتدع ، وهذا أقوي دليل علي أنه رجل رافضي، وكفى بذلك سبة وعاراً.
(39) بئس الخلف، فهم شر خلف لشر سلف.
(40) المصالح المرسلة : هي ما كان من المصالح ملائمًا لقصد الشارع وقد شهدت له من الشرع أدلة كثيرة باعتبار جنسه في جنس الحكم أو نوعه. ويطلق عليها أيضًا : الاستدلال المرسل، والاستصلاح والملائم المرسل. انظر رفع الحرج للشيخ الدكتور صالح بن حميد ص312. وقد أخذ بذلك مالك ومنع منها جمع من العلماء لأن في ذلك فتح لباب واسع يخشى ألا تدركك مراميه فلله در المانعين السادِّين لهذه الذريعة.
(41) المصدر السابق
(42) سليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي الصرصري، ولد سنة بضع وسبعين وستمائة بقرية طوفا بالعراق، صنف تصانيف كثيرة، وكان مع ذلك شيعيًا منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى قال عن نفسه أشعري حنبلي رافضي. توفي سنة 716هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب (6/39)، الأعلام (3/127- 128) .
(43) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، للدكتور حسين حامد حسان ص535- 536، الناشر مكتبة المتنبي. القاهرة. 1981م .
(44) انظر: السنة والتشريع، للدكتور عبدالمنعم النمر ص36- 45 .
(45) المصدر السابق، ص47 .
(46) المصدر السابق، ص64 .
(47) الاجتهاد، للدكتور عبدالمنعم النمر ص11 .
(48) المصدر السابق ص110 .
(49) المصدر السابق ص111- 112 .
(50) معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص103 .
(51) انظر: مجلة العربي العدد 235، ص34، وانظر مفهوم تجديد الدين، لبساطمي سعيد ص178.
(52) تزييف الوعي، لفهمي هويدي ص84- 85، الناشر دار الشروق – القاهرة – الطبعة الثانية 1412هـ- 1992م .
(53) المصدر السابق ص87 .
(54) المصدر السابق ص88 .
(55) سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، مقال لمحمد سليم العوا، انظر مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحي ص41.
(56) انظر نظرية المصلحة ص15- 17.
(57) انظر المصدر السابق ص16 .
(58) المصدر السابق ص262 .
(59) ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، للدكتور محمد سعيد البوطي ص411، الناشر مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الخامسة .
(60) ابن حنبل، لأبي زهيرة ص359، الناشر دار الفكر العربي. القاهرة .(3/284)
(61) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبدالوهاب خلاف ص101، الناشر دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع. الكويت. الطبعة السادسة 1414هـ- 1993م .
(62) العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال ص123، الناشر دار الوفاء للطباعة والنشر. المنصورة. الطبعة الثانية 1410هـ- 1990م .
(63) الموافقات، للشاطبي (4/225) .
(64) انظر: الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية للدكتور عابد السفياني ص477 .
(65) مقال بعنوان التشريع من السنة وكيفية الاستنباط منها بقلم الدكتور علي محيي الدين داغي ص387، في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة العدد الثاني 1407هـ- 1987م .
(66) تجديد التفكير الديني، محمد إقبال ص190 .
(67) مجلة البيان العدد 134 شوال 1419هـ .
(68) انظر: معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة ص102 .
(69) كتب (ثيودور) باركر في عام 1848م كتابًا عن الثابت والمتغير في المسيحية، وبعد عشر سنوات تناول نفس المفهوم في اليهودية ليلنثال، انظر Blau , Modeصلى الله عليه وسلمn Vaneties of Tudidm.
(70) انظر (الثابت والمتغير)، جمال الدين عطية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 23 (رمضان– 1400هـ) ص 5، و(النصوص وتغير الأحكام) معروف الدواليبي، مجلة المسلمون، العدد السادس، السنة الأولى (1371هـ)، ص 533، و(مقدمة في إحياء الشريعة) صبحي المحمصاني، ص 59 وما بعدها، و(فلسفة التشريع) لنفس المؤلف، ص 198.
(71) (مجلة المسلمون)، العدد 6، السنة الأولى، ص 553.
(72) (الأحكام في أصول الأحكام)، ابن حزم، ج 5، ص 771-774.
(73) انظر (شرح المجلة)، محمد خالد الأتاسي، ج 1 ص 91.
(74) (تغير الأحكام بتغير الزمان)، د. مصطفي الزرقا، مجلة (المسلمون)، العدد 8 ص 891 (1373).
(75) انظر (الموفقات) للشاطبي، ج 2 ص 283 وما بعدها.
(76) (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي)، مصطفي زيد، ص 194.
(77) راجع في ذلك المصدر نفسه ص 67 ـ 88. و(ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) محمد سعيد رمضان البوطي، ص 202 ـ 206، وانظر (ذيل طبقات الحنابلة) لابن رجب، ج 2 ص 336.
(78) انظر النص الكامل لهذا الشرح في ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي لمصطفى زيد.
(79) ملحق كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي، مصطفى زيد، ص 235 و 238 و 240.
(80) انظر نفس المصدر.
(81) انظر (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية)، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 212.
(82) انظر (ابن حنبل) لأبي زهرة، ص 359.
(83) نفس المصدر ص 363.
(84) (مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه)، عبد الوهاب خلاف، ص 101.
(85) مجلة (الآداب)، بيروت، عدد مايو 1970م، ص 101.
(86) راجع مقال معروف الدواليبي (النصوص وتغير الأحكام)، مجلة المسلمون، العدد 6، السنة الأولى، ص 553، و(مقدمة في إحياء الشريعة) المحمصاني، ص 67.
(86) مقال الدواليبي، المصدر السابق، ص 555.
(87) مقال النويهي، مجلة (الآداب)، بيروت، ص 100، عدد مايو 1970م.
(88) راجع (منهج عمر بن الخطاب في التشريع)، محمد بلتاجي حسن، ص 175ـ 191، والكتاب كله مناقشة قيِّمة لاجتهادات عمر.
(89) مقال الدواليبي، ص 555.
(90) راجع (نيل الأوطار) للشوكاني، ج 7 ص 118.
(91) (إعلام الموقعين)، ج 3 ص 14.
(92) (مقدمة في إحياء الشريعة)، المحمصاني، ص 67.
(93) (مناقب الشافعي) للبيهقي، ج 1 ص 256.
(94) (الشافعي) أبو زهرة، ص 192 ـ 395.
(95) (مناقب الشافعي) البيهقي، ج 1 ص 263، و(مناقب الشافعي) لابن أبي حاتم، ص 60.
(96) انظر (المصلحة في التشريع الإسلامي)، مصطفى زيد، ص 161.
(97) إعلام الموقعين، ابن القيم، ص 4 - 50.
(98) انظر ص 150 من هذا البحث.
(99) (نظرية الإسلام وهديه في السياسية)، المودودي، ص 244 .
(100) (الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، المودودي، ص 264 – 266.
(101) نفس المصدر، ص 259.
(102) وهناك ادعاءات تقول: إن الرجم ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إنما رجم اتباعًا لليهود قبل نزول سورة النور، وعندما نزلت سورة النور بالجلد نسخت الرجم. وهذه ادعاءات ليس لها من الدليل إلا الاحتمالات والظنون، ولا بد في النَّسْخِ من دليل قاطع.
(103) (تفسير سورة النور)، المودودي ص 45.
(104) (الجهاد في سبيل الله)، المودودي، ص 41.
(105) راجع آراء جايجر ص 118، وسباتيه ص 135 من هذا البحث.
(106) (علم أصول الفقه)، عبد الوهاب خلاف، ص 44.
(107) انظر ص 133 من هذا البحث.
(108) (الخيط الرفيع بين التجديد في الإسلام والانفلات منه)، مجلة العربي، ص 16، العدد 225، أغسطس 1977م.
(109) انظر ص 190 من هذا البحث.
(110) (إرشاد الفحول)، الشوكاني، ص 33. ومن الصحابة مَنْ كان يقتدي بالرسول حتى في بعض أفعاله الجبلية البشرية، فقد كان عبد الله بن عمر يتتبع مواطن قيامه وقعوده، ويقتدي به فيها كما هو معروف عنه رضي الله عنه، ومنقول في كتب السنة.
(111) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259.(3/285)
(112) (سيرة ابن هشام)، ج 2 ص 259، و(المستدرك) للحاكم، ج3 ص 426، و(البداية والنهاية) لابن كثير، ج 3 ص 267، و(زاد المعاد) لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ج3 هامش ص 175.
(113) أصول السرخسي، ج 2 ص 93. وحادثة أسارى بدر ثابتة في كتب السنة، ومن ذلك مسلم، راجع (تفسير القرطبي)، ج 8 ص 45. وقصة الآذان ثابتة أيضًا في كتب السنة، ومنها: البخاري ومسلم، راجع (نيل الأوطار)، ج 2 ص 35.
(114) (أصول السرخسي)، ج 2 ص 95، وراجع في قصة خولة تفسير القرطبي، ج 17 ص 270.
(115) (البداية والنهاية)، ابن كثير، ج 3 ص 267.
(116) (شرح مسلم النووي)، ج 15 ص 116.
(117) نفس المصدر ص 117.
(118) نفس المصدر ص 118.
(119) (المسند)، 6/ 123.
(120) (السنة التشريعية وغير التشريعية)، مجلة المسلم المعاصر، العدد الافتتاحي، ص 29.
(121) انظر (شرح مسلم للنووي)، 15/116، وشرح الآبي لمسلم، وشرح السنوسي ج 6 ص 153.
(122) (فتاوى ابن تيمية) ج 18 ص 12.
(123) (شرح مسلم للنووي)، ج 15 ص 117.
(124) الكتاب مطبوع بمصر بمطبعة (كردستان العلمية)، عام 1326هـ. وراجع ص 289 عن الحجج التي أوردها في الرد على حديث: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء». فقد ذكر أن الحديث صحيح، وأورد رواياته وألفاظه، ثم ناقش ذلك في ضوء الفلسفة (كان الطب في عصرهم من علوم الفلسفة) وكانت حججه تدور على أن الاعتراض لا يقوم على حقيقة فلسفية (طبية) صحيحة.
(125) (فتح الباري)، ابن حجر، ج 12 ص 283.
(126) انظر (الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام)، للإمام القرافي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص (86 - 109).
(127) (فتاوى ابن تيمية)، ج 18 ص 12.
(128) نفس المصدر، ص 8.
(129) نفس المصدر، ص 8.
(130) (مواجهة مع عناصر الجمود في الفكر الإسلامي المعاصر)، مجلة العربي، ص 22، العدد 222، مايو 1977م.
(131) (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة)، المودودي، ص 172.
(132) (فتاوى ابن تيمية) ج 9 ص 308.
========================
الشبهة(6): قولهم بتغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان !
والجواب :
قال الدكتور عابد السفياني – حفظه الله - : ( يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية اسمها «تغير الأحكام بتغير الزمان» ويقصدون بعض (133) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات.
فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي - كما يرى أصحاب هذا الرأي - أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة.
وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها.
المطلب الأول : تحرير موضع النزاع
المقصود «بالتغير» في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعًا فيصبح ممنوعًا، أو ممنوعًا فيصبح مشروعًا باختلاف درجات المشروعية والمنع.
فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها. (134)
وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جدًا ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؟ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها.. من حالة إلى حالة؟.
وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب.
إن تلك الحادثة التي تغير حكمها إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما إن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها.
فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريبًا ولا عجيبًا، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل.(3/286)
فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم: «تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان» ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها.
فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قتل: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمها أحد البتة.
ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم.
وإنما قدت بهذه المقدمة رجاء أن تحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالاً يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالدًا عمدًا عدوانًا فحكم هذه الحادثة أن زيدًا عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم.
فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكمًا واحدًا، لا سبيل لتغييره أبدًا.
خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلا أن يصدقوا، فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدو واحدة (135).
وهذه ليست في محل النزاع قطعًا، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان- وإن كانتا في الصورة واحدة- لكنهما في الجوهر مختلفتان – طبيعي أن يختلف حكمهما.
ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد.
ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها.
نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نخلص من آثار السلبية إلا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة- ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئًا من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغير حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لابد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة – وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن الأول – لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهو نفر من الناس لم يستقر الإيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حقا في مال الصدقة، يتألفهم الإمام به، ليثبتوا على الإسلام فَيُسْلِم من ورائهم ويَسْلَم المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلا عند ضعف الإسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذا إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين:
الأولى : حالة ضعف الإسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف.
الثانية : حالة قوة الإسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم.
فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (136).
فهما إذا حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لهما حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع.
ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (137)، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا يكون سببه تغير المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير.
وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة.
وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفا ً:(3/287)
1- أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (138)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما.
وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه «عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني» (139).
2- ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً.
أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل- والحادثة هي الحادثة- وأما إلى غير بدل.
وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغير كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغير هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغير في الحكم، وإنما يقال تغير في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان.
ولم يبق سوى هاتين الصورتين :
* إما أن تكون الحادثة هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغير حكمها إلا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك.
* وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لا يقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحًا.
ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما.
وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه.
وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين.. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين «قاعدة»، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخًا وتبديلاً وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيرًا ولا نسخًا ولا تبديلاً، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغير الأحكام بتغير الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإمامين الجليلين ابن القيم والشَّاطِبي.
المطلب الثاني : أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين:
التغير عندهم سببه تغير المصالح والأعراف (140) والعوائد (141).
وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغير الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين.
تصوير مذهب المخالفين:
يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة- وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيروا بعض الأحكام تبعًا لتغير المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة.
والسر في ذلك – والله أعلم – أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (142) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو ما دل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: «كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله»، أو «كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا» الخ.. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم » . (143)
والأحكام – فيما سوى العبادات – تتغير بتغير المصالح والأزمان (144) ، ويقول في موضع آخر: «وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك – على ما يظهر والله أعلم- أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول × باعتباره إمامًا للمسلمين...». (145)(3/288)
ثم يتحدث عن هذا التبدل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول صلى الله عليه وسلم فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء «وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائمًا للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعًا أصله محكم لا يتبدل، والذي يتبدل فيه إنما هو التطبيق فقط...». (146)
وقال في موضع آخر تحت عنوان تبدل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: «عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها وليس هذا إهدارًا للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلاً عن أن يترك النص بها... » (147)
ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطًا منها ما يلي:
1- «ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم . (148)
2- «أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة» ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعًا لتغير المصالح (149).
3- قال عن عمر رضي الله عنه: «فقد منعهم – أي أهل الذمة من العمل – أي في الذبح للمسلمين- مع نص الكتاب على حل ذبائحهم» (150). ويقصد أن عمر أوقف العمل بنص الآية.
ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول صلى الله عليه وسلم.. إلا أنه يفسر مقصوده فيقول: «والذي نقصده هو إثبات أنهم – أي الصحابة- فعلوا شيئًا لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعًا لاقتضاء المصلحة ولا يليق بهم أ، يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لم سلّم معنا هذا المبدأ «مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم» (151).
5- «.. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن» . (152)
وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبينًا أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (153).
6- «.. ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة. كيف وهم الذين أقامهم الله حرساً عليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم!».
«فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإمام،أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتمًا ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد» (154).
ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب «لأن المصلحة- كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعيا في الجملة- كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي – كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي..» (155).
وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي:
أولاً : أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإشارة إليه.
ثانياً : أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات، وما يتعلق بالنظام الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى.
ثالثاً : أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان؛ ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول: أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص.
رابعاً : يعتبر هذا المنهج- الذي فهمه من تلك التطبيقات- هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه، واشترطوا شروطًا لم يثبت عليها دليل.(3/289)
ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي، ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في المطلب الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (156) والله المستعان.
المطلب الثالث :
مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً:
1- منع عمر رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: «أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعًا لذلك.. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي تأليفاً لقلبه». هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإيمان، ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإسلام، مضى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أبي بكر رضي الله عنه ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضًا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فاشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما. لا يرعى الله عليكما إن رعيتما...! فترك أبو بكر الإنكار عليه» (157) .
قال الدكتور: «وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإجماع.
مناقشته: نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح.
والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما:
الأول : أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال.
الثاني : وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون.
فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟.. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوَّى الإسلام بمن ورائهم.
ولعلة يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أويفتن وَيَكِلُ الآخرين إلى إيمانهم.
فالأول من معنى التأليف لتقوية الإسلام.. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف.
وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإسلام غير متحقق، فالإسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون «بتحقيق المناط»(158).
فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابيًا أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه.
فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم..
والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبَدل ولم يغير، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية.
ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل.
ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال، فأين التبديل والتغيير للحكم؟ بل أين الإجماع على ذلك؟
فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها..(3/290)
وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنسانًا وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسمًا محددًا، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر تغيرًا لشرط الواقف ومطلبه؟ كلا.
ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا.
ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟
إن عمل عمر رضي الله عنه لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدل.
إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقاف عند كتاب الله رضي الله عنه وأرضاه..
2- استدل على دعوى تغير الأحكام بتغير الزمان فقال:« مثال آخر: أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات» (159) .
هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داود: «لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل» قال: «فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق، حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدي إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة..
ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل» فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلاً والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال: «أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن» (160).
قال المؤلف:« ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالبًا إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده رضي الله عنه، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام، فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه.
فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته، وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية» (161) ..
مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه:
1- أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلابد من شهادة الشرع لما نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة.
2- موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع.
وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعدم منع النساء من الخروج- خروجهن غير متزينات حيث قال: «ولكن ليخرجن تفلات». فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به.
فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص..
فالقول إذا بأن هذا مفسدة ليس اعتمادًا على العقل وإنما هو بشهادة الشرع..
فلا يقال: « فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق»؛ لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن تفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة..
بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج.. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم.. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان..
بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: «فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته» وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم.(3/291)
ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك.
أما أنه معروف بأنه «لم يكن من أهل المعاني» فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك.. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع.. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: «وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحدًا لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلا كان ذلك تناقضًا، وكان مؤديًا إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف- والله أعلم- في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالبًا، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإن كثر حدوث الفسق وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضي بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط..
فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزيئات (162).. فابن عمر رضي الله عنهما من اتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده.
ثم إن اتباع الصحابة رضي الله عنهم أمثال ابن عمر وغيره والتمسك بآثارهم ليس فيه ما يدعو للعجب، فهم أولى بالا تباع لأن الحق لا يخرج عنهم، وكل واحد منهم لنا فيه قدوة.
وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعليم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة.. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الإذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر.. أما ابنه رضي الله عنه فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (163) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم – والله أعلم.
3- حد الخمر: قال مستدلاً على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: «حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفًا من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه، كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال: «اضربوه» قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان». وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين، وفي بعضها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثا في وجهه التراب»، وفي بعضها بعد الضرب قال لهم «بكتوه» (164).
وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: «أن الشُرَّاب كانوا يضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي. قال وكانوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر رضي الله عنه فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشار فقالوا: ثمانين» (165) .
والمشاورة رواها البيهقي أيضًا بسنده إلى الزهري قال: «.. أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: «أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر رضي الله عنه: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا» (166) .(3/292)
ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: «والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق أن يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلم معنا هذا المبدأ «مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شئ من فعلهم» (167) .
المناقشة: أولاً: إذا كان المؤلف يريد في كتابه «تعليل الأحكام» إثبات تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنة ما عدا نفاة القياس (168).
ثانياً : أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة، وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان، وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقًا لا يدل له البتة.
أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلا أنها ترجع إلى أصل كلي، وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي- كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كليًا، والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (169) .
ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة «حد الشرب» تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي- والصحابة له موافقون:«تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك».
فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر رضي الله عنه عن ضرب النبي صلى الله عليه وسلم(170) ، ثم ضرب هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف؛ لأن المظنة تأخذ حكم المظنون..
فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغير الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحِجَاج ولا في غيره..
ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنة لا يتبعون مجرد المصلحة، وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلابد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟
فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير، ويعملون بالمصالح المرسلة، وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع.
والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه- شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك- قوله «وإن بعض الحكام يتبع المصلحة».
والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الحكام تتغير بتغير الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده.
4- حد السارق: «يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب «أن غُلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم» (171) .
«وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مُفسَرا وفيه: فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم فقال لعبد الرحمن: «أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك» (172).
قال صاحب كتاب «تعليل الأحكام»: «فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم، وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات» (173) .
المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي:
1- أن يكون المسروق نصاباً.
2- أن يكون من حرز.
3- أن لا يكون فيه شبهة ملك.
4- أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه.(3/293)
فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (174) .
وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر، وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالاً له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالاً له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (175).
فإذًا الحد الذي أوقفه عمر رضي الله عنه إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذها لأن في ذلك مخالفة للشارع.
فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنة لابد من اعتبارها، ومن اعتبرها- كما هو صنيع عمر – لا يقال له أنه خالف الآية.
وأيضًا فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعًا لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنة.
وأما قول صاحب تعليل الأحكام: « لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له رضي الله عنه، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات» (176) .
فيلاحظ عليه أمران :
الأول : إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم.
فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصابًا أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلا من سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة.
فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات، بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة.
فيصبح أن يقال أن تطبيق الحدود يتبع فيها النصوص بعد الجمع بينهما والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر رضي الله عنه (177) .
وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم.
الثاني : أن الحكم: وهو وجوب القطع لمن سرق نصابًا من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتلحق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير.
5- استدل على قوله بأن من الحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن:«أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك صلى الله عليه وسلم، من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة رضي الله عنه قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (178) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي الله عنه فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» (179) . فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (180) .
مناقشته : إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل على شئ من ذلك.
وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: «ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره...» مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (181) .
ويقول سبحانه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . (182)
وقوله تعالى:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . (183)
وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(184)
ومعلوم أن الصحابة من أتبع الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكيف يقال إنا «وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره».(3/294)
وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل.. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارضون ما قررته آنفا..
وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و«توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك» (185) .
وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول صلى الله عليه وسلم بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟
ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، فيببينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد على جواز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (186).
ألم تر إلى منزله صلى الله عليه وسلم في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلاً لقتال القوم، فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله.
وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما عُلِم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك، وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة؛ حيث قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهذه الحوادث مشهورة معلومة.. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بأنهم إذا نحروا لإبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة.
وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإبل- بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شئ- لما عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة..
ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي استفتي فيها على غير وجهها –أما لعدم العلم بحقيقتها أصلاً أو لعدم وضوحها- ثم يفتي فيها بحسب ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك، بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير.. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة.. والله أعلم.
ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص، وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة؛ حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية.. ولننظر أيقبل ذلك منه أو لا؟
روى البخاري بسنده عن عبدالله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله».
قال أبو بكر:«والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر لقتال فعرفت أنه الحق» (187) .
وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى.. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة، بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركوا ما ظنوه مصلحة- وهم مجتهدون- وعملوا بما ورد في النص.
وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها، فكيف يتصور أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب!
ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئًا من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بين ووضح، قال الإمام الشَّاطِبي:«ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (188)
فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها، حتى وإن كانت من كبار المجتهدين.
وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يعارض بها النص، وأن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعارض أمره- وهو يعلم- بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم.(3/295)
ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه، موضع للقدوة المباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطِّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها. وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها.
6- استدل المؤلف أيضاً على ما سبق- من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذبك بما روى أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال:«كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته» (189) . وفي رواية الترمذي والدارمي «في الغزو» بدل السفر» (190) .
قال صاحب تعليل الأحكام:«هكذا ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجردًا من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها؟» (191) .
قال د. شلبي: «ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لو جدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد رضي الله عنهما عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك؛ لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شئ واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل... وهذا التعليل لم يخالف نصًا ولا قياسًا ولا إجماعًا، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أومن خِيف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإسلام عامة؟ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر» (192) .
مناقشته: أُسَلِّم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك..
وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي «أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة، وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحد إليه (193)
واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (194) ، وهو الصحيح.. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟
والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة « سد الذرائع » وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإمام الشَّاطِبي : « أن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى، كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها،وكإتمام عثمان الصلاة في حجة بالناس، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (195) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } (196).
وقوله: { وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} (197)
وفي الحديث: «إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه» (198) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلافى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة» (199) .
وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف» (200) .
والاستقراء كما عبر عنه الشَّاطِبي هو: «استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ» (201) . ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريغ، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد – وقد استقرأت الأدلة من الكتاب والسنة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة، بل يدخلها تحت عموم المعنى...(3/296)
يقول الإمام الشَّاطِبي: «ولهذه المسألة فوائد تنبي عليها أصلية وفرعية، وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عامًا من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تَعِنُ، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه » (202) .
وقرر الإمام الشَّاطِبي على هذا أن الإمام الشافعي والإمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (203) ، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة؛ حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال: «والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة» (204) ..
فإذا انضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه، بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سدًا للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو، وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان المحدود أميراً فيهم (205) .
فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها.
ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع.. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقًا، وأن تؤخر الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد، وأن يكون في أرض العدو..
وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص، ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا.. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهو يستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً.
وبعد : فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة..
ومثال الأول قول الشارع: «كل مسكر حرام»، ومثال الثاني قولنا: هذا الشراب مسكر.
فإذا نظر الفقيه في شرابٍ ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع، فعمله هذا يسمى «تحقيق المناط»، وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه، فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكرًا أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإسكار عنه- كأن أصبحت الخمر خلاً- فأتى بجواز استعمالها، فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت.
ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة، ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (206) .
وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشرط فإذا لم تتحقق فلا تطبق، وليس ذلك لوجوب إقامة الحد.
ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد..
وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو.
وهكذا فقي مسألة قصر عثمان رضي الله عنه الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي (207)..
المطلب الرابع : بيان موقف الصحابة رضوان الله عليهم من النصوص:(3/297)
إذا تقرر ذلك يحسن بي أن ألم بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة، بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص.. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه(208) . فقول صاحب تعليل الأحكام «ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن»مخالف للإجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول أو لم تكن ويتبع «وجوه الرأى» على حد قول المؤلف!
وبسبب إتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإجماع.
وبسبب هذا الوهم أيضًا نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه- الذي ليس له فيه وليّ إلا الطوفي (209) - تجده يضطرب أما سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة، وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (210) .
ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: «... إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأى في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة..» (211) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص، بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأيًا للمؤلف، أو نقلاً عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول:«... وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهو فيها لم يخرجوا عن طريقة صحابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (212) وحكموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعًا في شرع الله، أو قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذا المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها» (213) .
والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء، ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعًا من الشرع، أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذا الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة؟ وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف- هكذا على الإطلاق- بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!!
ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعًا أو قاعدة..؟!
والدليل على نفوره منم الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي... وذكر هذه المذاهب كما يلي:
(أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي.
(ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإمام الشافعي وجمهور الحنفية.
(ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصًا ولا إجماعًا تحققت المشابهة أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإمام مالك.
(د) المصلحة معتبرة على الإطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات، وما شابهها حتى وإن عارضت نصًا أو إجماعًا متى ما كانت راجحة!!!
قَالَ: « وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقًا مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصًا أو إجماعًا متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام «المعاملات وما شابهها»، أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً » (214) .(3/298)
وقد حاول مناقشة الأصوليين- ما عدا رأى الطوفي فإنه مر عليه سريعًا وبنى له مسألة أخرى نصره بها -كما يظن (215) - وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها ورقيات كما صنع هو (216) ، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلى بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة- كما صنعت سابقًا- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشَّاطِبي وحاول الرد عليه انتصارًا للطوفي.
أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث- فلقد حرر تحريرًا حسناً، وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (217). ومن ذلك قوله: «كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيها عمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة» (218) .
ويقول : وقد « أبطلنا دعوى أن مالكًا يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الآحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك» (219) .
« أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق... وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشَّاطِبي الإجماع على عدم الأخذ بها.. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلا في الطوفي يقدمها على النص والإجماع » (220) .
وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديمًا وحديثًا مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإجماع.
ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي
بقوله: «... وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً، ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً» (221) .
وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعى فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصففهم بما يكره وستأتي الإشارة إلى ذلك..
فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!!
أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قَالَ به لم يسبقه إليه أحد قبله!!
أمَّا بعد الطوفي فلم بلق هذا الرأي إلا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (222) .
ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإجماع وظنوه علمًا معتبرًا فاتبعوه- وما علموا أن فائدة الإجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإجماع في قرون متطاولة- فلما تبعوه أخذوا ينتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يسبق إلى هذا الرأي، ومعني هذا أنك إذا بحثت لِتَجِد من ينصره قبله فلن تجد أحدًا.
ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي - كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قَالَ بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها؛ لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع الصحابة، مع أن هذا هو رأي الطوفي- الذي يزعم أنه لم يسبق له، فأين تجد عليه إجماعاً.
وقد تتبعت أبرز تطبيقاته (223) وأثبت أنه إنما يتعلق بشبه لا بدليل وأن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يتبعوا مجرد المصلحة، ووجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، فإذا أضفت هذا مع ما قرره الباحثون من أن أحدًا من الأئمة لا يقدم رعاية المصلحة على النص وبقي الطوفي على زعمه وخروجه عن الإجماع واتباعه غير سبيل المؤمنين وسقطت محاولة الشلبي وغيره من الباحثين الذين بذلوا جهدًا جبارًا لإحياء سقطة الطوفي وجعلها (224) دينًا يتبع، يريد صاحب رسالة التعليل أن يستمسك به ويخالف عليه علماء الأصول المعتبرين ) .
( المرجع : رسالة " الثبات والشمول " للدكتور عابد السفياني ، ( ص 448-489) .
الشبهة(7) : دعوتهم لتطوير( تحريف ) أصول الفقه
من أولى المسائل في أصول الفقه التي تثير العصرانية حولها الغبار هذه القضية:
هل بالإمكان حدوث تطور جديد في أصول الفقه؟(3/299)
لعل (إقبال) مِنْ أوائل مَنْ أثاروا هذه المسألة، وناقش في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والرأي عنده: «إن ما ينادي به الجيل الحاضر من أحرار الفكر في الإسلام، ومن تفسير أصول المبادئ التشريعية تفسيرًا جديدًا على ضوء تجاربهم وعلى هدي ما تقلب على حياة العصر من أحوال متغايرة، هو رأي له ما يسوغه كل التسويغ ». (224)
وتبنت الدعوة إلى الاجتهاد في أصول الفقه مجلة (المسلم المعاصر)، إذ كتب مؤسسها د. جمال الدين عطية في كلمة التحرير لأول عدد صدر منها واصفًا المجلة بأنها: (مجلة الاجتهاد)، وأنها «.. تنطلق من ضرورة الاجتهاد، وتتخذه طريقًا فكريًّا، ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه، بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه». (225) واشتملت المجلة في نفس العدد والأعداد التالية على بعض المقالات عن هذا الموضوع . (226)
ويردد هذه الدعوى آخرون، منهم الدكتور أحمد كمال أبو المجد، إذ كتب يقول:
«والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ويحتاج إليه المسلمون ليس اجتهادًا في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول كذلك، وكم من مسألة تواجه المسلمين اليوم، فإذا بحثوها وأعملوا الجهد طلبًا لحكم الإسلام فيها أفضى بحثهم إلى وقفة مع الأصول.. وليس ما تردده الكثرة الغالبة من المعاصرين من امتناع الاجتهاد في الأصول إلا التزامًا بما لا يلزم، وتقصيرًا في بذل الجهد بحثًا عما ينفع الناس ». (227)
وحتى لا يضيع الفكر في متاهات من التعميمات، فإن الخطوة الأولى لتلمس الحقيقة في هذا الموضوع الخطير تبدأ بتحديد ما المقصود بالاجتهاد في أصول الفقه.
قد يكون المقصود من ذلك عدة أمور نجملها فيما يلي :
(1) استحداث قواعد جديدة في أصول الفقه لم تكن معروفة من قبل ولم يصل إليها السابقون، وهذا هو المعنى المتبادر عادة من كلمة اجتهاد بمعناها الإصلاحي؛ إذ أن الاجتهاد في الفقه عادة ينصرف إلى استنباط أحكام جديدة للحوادث الطارئة.
فإذا كان هو المقصود من الاجتهاد في أصول الفقه، فأين هذه القواعد الجديدة المستحدثة؟ فبدلاً من إثارة الضجيج وضرب الطبول عن إمكان الاجتهاد أو عدم إمكانه، فمن كانت عنده قواعد جديدة فليأتِ بها وليطلع العالم عليها، وحينئذ فقط نتحقق إن كانت هي بحق قواعد علمية تقوم على الدليل والبرهان، أم أنها محض تخرصات وأهواء شخصية. وفيما أعلم لا أحد قدم قواعد جديدة.
(2) وقد يكون المقصود من الاجتهاد عدم التقليد في أصول الفقه، بمعنى أنه لا تقبل الآراء فيه إلا بحجة ودليل، حتى لو أثبتها الأوائل، ويظل الباب مفتوحًا للترجيح بين الآراء المتنازع فيها والمختلف فيها.
ولا ريب أن هذا معنى صحيح، وهل يخطر ببال كل ذي عقل أن الاستمساك بتقليد آراء الرجال والإذعان لها دون حجة ودليل أمر محمود؟ لا أظن أحدًا من الأوائل دعا إلى ذلك ولا يرتضيه أحد من المعاصرين. وهذه هي كتب أصول الفقه قديمها وحديثها مشحونة بسوق الآراء والأدلة عليها والترجيح بينها.
(3) وقد يكون المقصود بالاجتهاد توسيع وتفصيل بعض القواعد التي بحثها علم أصول الفقه. وقد أوضح هذا المعنى أحد الذين تناولوا هذا الموضوع فقال: «.. وهناك مسائل تتعلق بالأصول تحتاج إلى مزيد إيضاح وتفصيل، من ذلك تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية.. ومن ذلك الإجماع إذا كان مبنيًّا على أمر مصلحي زمني قابل للتغير والتطور بتغير الزمان والمكان والحال.. وهذا يجر إلى قضية أخرى؛ وهي قضية الأحكام أو تغير الفتوى بتغير الأزمان، وما ينبغي أن يوضع لها من حدود وضوابط.. إلى غير ذلك من القضايا والموضوعات التي يكشف عنها طول البحث والنظر في الفقه وأصوله، وتطبيقاته في هذا العصر.. وهذا كله يفسح الميدان لدعاة الاجتهاد ولو كان في أصول الفقه ذاتها » . (228)
ولما كانت القضايا المثارة تحت هذا المعنى للاجتهاد في أصول الفقه، تستحق مزيدًا من الفحص والتمعن حتى تسفر الحقيقة عن وجهها، ويتضح ما إذا كانت الدعوى للاجتهاد صادقة أم كاذبة، كان لا بد من إخضاع هذه القضايا للبحث، فإذا ظهر أن هناك اجتهادًا معاصرًا في هذه المسائل، كان الاجتهاد في أصول الفقه أمرًا واقعًا، وإن ظهر أن دعوى الاجتهاد في هذه الأمور لا تقوم على أساس، اتضح أن إمكان الاجتهاد في أصول الفقه لا يعدوا أن يكون إمكانًا نظريًّا بحتًا حتى الآن.
( المرجع : مفهوم تجديد الدين ، بسطامي محمد سعيد ، ص 239-242).
وقال الدكتور محمود الطحان رادًا على الترابي الذي يروج لهذه الدعوة :
قول الترابي : «فَيُمْكِن أنْ نَّرُد إلى الجماعة المسلِمة حقَّها الذي كان قَدْ باشَرَهُ عنها مُمَثِّلوها الفقهاء، وهو سُلْطَة الإجماع، ويُمْكِن بذلك أنْ تَتَغَيَّر أُصول الفِقْهِ والأحكام، ويُصْبِح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتصبح أوامر الحكام كذلك أصْلَيْن مِن أُصولِ الأحكام في الإسلام» . (229)(3/300)
ويقول أيضًا: « فإذَنْ يُمْكِن أنْ نَحْتَكِم إلى الرَّأْيِ العام المسلِم، ونَطْمَئِنَّ إلى سلامة فِطْرَةِ المسلمين، حتى ولو كانوا جُهَّالاً في أنْ يَضْبِطُوا مدَى الاختلاف ومَجال التفرُّق ». (230)
ويقول أيضاً: «.. ويدور بين الناس الجدَلُ والنِّقاش حتى يَنْتَهِي في آخِر الأمْر إلى حسْم القضية، أو يَتَبَلْوَر رأْىٌ عامُّ؛ أو قرارٌ يُجْمِع عليه المسلمون، أو يُرَجِّحُه جمُهورهم وسَوادُهم الأعظم». (331)
هكذا صار الإجماع- بعد تطويره وتجديده – عند الدكتور التُّرابي، جَدَلاً ونِقاشًا بين الناس – كلِّ الناس- وتَصْوِيتًا في نهاية الأمر، فما صَوَّتَ له جمهورهم وسَوادُهم الأعظم كان حُكْمًا لازمًا يَنْزِل عليه كلُّ المسلمين!.
سبحان الله! متى كان عامَّة الناس يُرجَعُ إليهم في الأمور العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى بحث؟ وهل جَدَلُ العامة ونِقاشُهم مَبْنِيٌّ على أصولٍ علميةٍ، أم هُوَ لَغَطٌ وسَفسَطةٌ، كلٌّ يتكَلَّم كما يَحْلُو له, ألَيْسَت هذه غَوْغائية؟ أليست هذه الطريقة التي اكْتَوَينا بِنارِها مِن بَعْضِ الحكَّام والدِّكْتاتورِيِّين الظالمين؟ فإنه كلما أراد شيئًا أتَوْا بِمَشْروعٍ، وطرَحُوه لِلْتَّصْويتِ عليه مِن قِبَلِ عامَّة الناس، أو الشعب، ليأخذوا عليه الموافقة، ثم يُصبح قانونًا مُلْزِمًا، حتى أنَّ بعض الحكام أراد أن يَحْمِيَ فُجُورَه وفُجُورَ أهْلِه، فأخْرَجَ قانونًا سَمَّاه قانون «العَيبْ» وطَرَحه للتصويت عليه، فَنَال مُوافَقَة السَّوادِ الأعظم، وصار القانون مُلْزِمًا للمسلمين في ذلك القُطْر.
ثم إنَّ التُّرابي مِن أيْنَ تَخيَّلَ أنَّ الإجماع كان أولاً حقًا لجميع أفراد الشعب، وأنهم استعملوه في عصور الإسلام الأُوْلَى، ثم باشَر هذا الحق نيابةً عنهم- الفُقَهاءُ في عصور الجهْل والانْحِطاط، ثُم الآن يُريد أنْ يُعيد هذا الحق إلى الشعب، لأن الجهل زال، وصار الناس بفضل دعْوَتِه مُتَعَلِّمين مُتَنَوِّرين! مِن أينَ جاء بِهذا السَّرْد التاريخيِّ لِواقِع الإجماع؟ أين وَجَدَه؟ وفي أيِّ مَصْدَرٍ قرَأَهُ؟ أهذا يَجُوز، يَتَخَيَّل الأمور تَخَيُّلاً، ثم يُلْقِيها على الناس على شَكْل مُحَاضراتٍ، ويَنْشُرُها على شكل رسائلَ لدَعوةٍ تجديديةٍ للإسلام!
مع أنَّ الإجماع الشرعي عند علماء أصول الفقه الإسلامي منذ نشأته في القرون الثلاثة الأولى إلى يومنا هذا له تعريفٌ واحدٌ مُؤَّداهُ: اتِّفاق علماء عصرٍ واحدٍ على حُكمٍ شرعيٍ واحدٍ (232) فقد عرَّفَه البَيْضاوِيُّ في مناهِج الوُصول بأنه: «اتفاق أهْل الحل والعَقْدِ مِن أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على أمْرٍ من الأمور» (233) . وعرَّفه تاجُ الدِّين السُّبْكي في جَمْع الجوامع بأنه: «اتفاق مُجْتَهدِي الأمة بعد وفاة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم في عصرٍ على أيِّ أمرٍ كان» (234) ، وعرَّفه الخَطيب البَغْداديُّ في "الفقيه والمتفقه" بأنه «إجماع أهل الاجتهاد في عصر، فقال: «إجماع أهل الاجتهاد في كل عصرٍ حُجَةٌ مِن حُجَجِ الشرع » (235).
فأين إجماع الشعب الذي يَدَّعيه التُّرابي ؟
2- وأما أمرُ الحاكم – أو وَلِي الأمر – فَقَدِ اهْتَمَّ به التُّرابي كثيرًا، وأوْلاهُ مِن العِناية ما يَلْفِت النَّظَر، وتَهَجَّم على الفقهاء والأصوليين القُدامَى بِحُجَة أنهم أغْفَلوا حقَّ الحاكِم في التشريع وإصدار الأحكام، ودعا بإصرارٍ إلى إعادة هذا الحق إليهم فقال: بعد أنْ سَرَدَ مُقَدِمةً طويلةً كلُّها مُغالَطاتٌ, وأشياءُ تَخَيَّلها؛مالَها مِن واقِعِ التاريخ في شيءٍ بالنِّسبة للإجماع وحق الحاكم - « فإذا حالت» (236) تلك الظروف، وقامت فِينا مَثَلاً حكوماتٌ ثَوْرِيةٌ ينبغي أن يُكَيَّفَ عِلْمُ الأصول بما يَرُدُّ إلى تلك الحكومات حقها في إنشاء الأحكام بأمر الحاكم وَقْفًا على مُوافَقَة الكِتابِ والسُّنَّة» (237) .
وقد غَفَل الدكتور الترابي أو تَغَافَل عن مَوْضوع حقِّ الخليفةِ أوْ وَلِيّ الأمر المسلم في تَبَنِّي الأحكام الشرعية- سواءَ كانت من اجتهاده ,إذا كان مجتهدًا، أو من اجتهاد أحد المجتهدين المُعْتَبَرِين, إن لم يَكُنْ مجتهدا-الذي بَحَثه علماء أصول الفقه، وذكروه في مُصَنَّفَاتهم،ولم يُغْفِلوه ولم يُعَطِّلوه كما ادَّعَى
لكن ينبغي التفريق بين تَبَنِّي ولي الأمر للأحكام الشرعية والأمرِ بتنفيذِها، وبين إنشاء الأحكام بأمرِ الحاكم،ِ فليس لِلحاكمِ أنْ يُنْشِىَء الأحكام، ويطْلُب التَّصْويت عليها – كما مَرَّ- وإنما له أنْ يَتَبَنِّى الأحكام الشرعية التي استُنْبِطَت باجتهادِ مجتهدٍ عالمٍ في دين الله وشريعته.
ويُنْظَر في مَوْقِع حقِّ وليِّ الأمرِ في تَبَنِّي الأحكام الشرعية والأمر بتنفيذها كِتاب "غياث الأمم في الْتِياثِ الظُّلَم "ص 216 و 217 وغيره من كتب السياسة الشرعية.(3/301)
وقد مر بنا قبل قليل- في بحث الإجماع – قول الدكتور الترابي: «ويُصبح إجماع الأمة المسلمة أو الشعب المسلم، وتُصبِح أوامرُ الحكام كذلك أصْلَيْن من أصول الأحكام في الإسلام». (238)
ويقول الترابي أيضًا: «وإلى جانب الرأْيِ العام المسلم الذي كان هو الضمان الوحيد في العُهود السابقة، فإنَّ الحكومة الإسلامية النِّظامية في العَهْدِ الحديث يمُْكن أنْ تُصبح ضَمانَةً كُبْرَى لِوِحْدة الفِكْر » . (239)
ما المراد بـ «الحكومة الإسلامية النظامية» هل يَعْنِي؛أن َّالحكومات الإسلامية السابقة زمن الخلافة الإسلامية كان حكوماتٍ فَوْضَوِية ًأو استبْداديةً؟ كأنَّ الدكتور الترابي يَعْنِي هذا، فقد قال في ص 9 من رسالة "تجديد الفكر الإسلامي": «ذلك أن حكومة المسلمين وقْتَئِذ كانت حكومةً تتَوَلَّى الحُكْم إمَّا بالوِراثَةِ أو بالقوة، ولم تكن بذلك مُؤَهَّلَةً لأَنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، ولذلك أغْفَلَهَا الفقهاء، وجَرَّدُوها من حقِّ وَضْعِ الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين».
إذا على رأي الدكتور الترابي- إن الحكومات الإسلامية من القرن الأول إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية على يد الإنكليز عام 1924م لم تكن مُؤَهَّلَةً لأنْ تَطْلُب من المسلمين حق الطاعة، لأنها حكوماتٌ تَوَلَّت الحُكْم إمَّا بالوراثة أو بالقوة، ومن يقول بهذا إلاَّ غُلاةُ الشِّيعة والخوارج! أما قَوْلُ الترابي: «ولذلك أغفلها الفقهاء وجرَّدُوها مِن حقِّ وَضْع الأوامر واجبة الطاعة من المسلمين» فَغَيْر صحيحٍ ومُخالِفٌ للواقع التاريخيِّ للفقه الإسلامي، وحياة المسلمين العملية التطبيقية، فقد كان الفقهاء يذكرون حق الحكومة في تَبَنِّي الأحكام الشرعية، والأمر بتنفيذها ووجوب إطاعتها من قبل الرعية كما تقدم قريبًا.
ولم يَكُن لِيَسْتَقِيم أمرُ الدَّوْلة الإسلامية على مَرِّ العُصُورِ ويَزْدَهِر، ولم تكن لِتَسْتَمِرّ الفتوحات الإسلامية، وتكون الدولة الإسلامية أقوى دَوْلَة ٍعلى وَجْهِ الأَرْضِ لو كانت أوامرُ تلك الدولة غيرُ واجبة الطاعة من قِبَلِ المسلمين.
3- وأما القِياسُ، فإنَّ الدكتور التُّرابي لا يُريد بِه قياس الفقهاء والأصوليين الذي له ضوابط وشروط، وإنما يريد قياسا حُرًّا فِطْرِيًا عَفَوِيًا، ليس له أيَّةُ ضوابط أو قُيود، لأنَّ هذه الضوابط والقيود- في زعْمِه – مِن وضْعِ مَناطِقَة الإغريق، ثم اقْتَبسها الفقهاء عنهم.
معَ أنَّ تَعْريف القياس عند الأصوليين غيرُ مُعَقَّدٍ، فقَد عرَّفَه الخطيب البَغدادي فقال: «هو حَمْلُ فَرْعٍ على أصْلٍ في بعض أحكامه، لِمَعْنَى يَجمع بينهما» (240) . وعرَّفه البَيْضاوِيُّ بأنه: «إثْباتُ مِثلُ حُكمٍ مَعلومٍ في معلومٍ آخَر لاشْتِراكهما في علة ِالحُكم عند المُثْبِت». (241)
فتحت عنوان: «نحو أصولٍ واسعةٍ لِفِقْهٍ اجتهاديِّ» قال الدكتور الترابي: «وفي هذا المجال العام يَلْزَمُ الرُّجوع إلى النُّصوص بِقواعد التفسير الأصولية، ولكنَّ ذلك لا يَشْفِي إلاَّ قليلاً، لِقِلَّة النُّصوص، ويَلْزَمُنا أنْ نُطَوِّر طرائق الفِقْه الاجتهاديِّ التي يتَّسِع فيها النظر بِناءً على النَّص المَحْدود، وإذا لجَأْنا هنا لِلقياس لِتَعْدِية النصوص وتَوْسيعِ مَدَاها، فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بِمَعَايِيْرِه التقليدية، فالقياس التقليدي أغلَبُه لا يَسْتَوْعِب حاجاتِنا بما غَشَيهُ من التضْيِيق اتْفاقًا بمعايير المَنْطِق الصُّورِي التي وردَت على المُسلمين مع الغَزْوِ الثقافي الأوَّل، الذي تأثر به المسلمون تأثرًا لا يُنازعه إلاَّ تأثرنا اليوم بأنْماط الفكر الحديث» . (242)
عجبًا لك يا ترابيُّ، أَتَتَّهِم المسلمين بما فيهم أئمة الفقه والأصول في العصر الأول بأنهم انْفَعَلوا بِمَعايير المنْطِق الصُّوري، وتأثروا بالغزو الثقافيِّ الأول وذلك لتَتَفَلَّت من القياس الذي وضعه أئمة أصول الفقه، وتأتيَ الحُكام المعاصرين بقياسٍ واسعٍ ليْس له ضوابط ولا قواعد، لِيَسَعَ كل الأحكام الطاغوتية الوافدة من الغرب المستعْمِر، باسم الإسلام المُتَجَدِّد؟ فَمَنْ أَوْلَى بالاتِّهام بأنه تأثر بالغزوِ الثقافيِّ الأجنبيِّ، علماء أصول الفقه القُدامَى أَمْ أنْت؟ ).
المرجع : ( مَفْهُومُ التَّجْديدِ بين السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ, وبين أدْعِياءِ التَّجْديدِ (المعاصرين)) للدكتور محمود الطحان ، ص 22-27).
الشبهة(8) : مغالطاتهم في الفهم المقاصدي للإسلام
قال الأستاذ عبدالسلام بسيوني :(3/302)
( لقد ظن اليَسارُ الإسلاميُّ أنَّ الشريعة مَقَاصِد، وأنَّ العقل هو المُكَلَّف بإِيجادِ الطريقة التي يَراها مُلائمةً، والأحكام التي يراها كَفْيلةً بتَحقيق هذه المقاصد الكُبْرى، مُعْتَبِرًا بذلك أنَ ما وَرَد في الشريعة مِن أحكامٍ تفصيليةٍ لا يُمَثِّل إلاَّ المرحلة الأولى من تطبيق الشريعة، يَقَع تَجَاوُزُها بِتَجاوُزِ المرحلة. وهنا نَتَساءَل: هل يُمْكن للعقل وحْدَه أن يُجَدِّد هذه الأحكام والوسائل المُحَقِّقَة للمقاصد؟
الإجابة لا تحتاج في نظرنا إلى تحاليلَ مُطَوَّلة، إذْ يُمكِن الاكْتِفاءُ بإِلْقاءِ نظْرةٍ على تاريخ المَذاهب القديمة والمعاصِرة، فَكُلها تدعو إلى الحرية والعدل والتقدم، لِنَعْرِف إلى أيِّ مَدَى تَمَكَّنَت من التَّلاؤُم مع الإنسان في مَطالِبه وطُموحاته. فبِاسْم الحُرية يَقع ما يَقع: يموت الناس جُوعًا، ويُلْقَى بأَطْنان المَزْرُوعات والثِّمار في البحار والمحيطات حِفْظًا للأسْعار مِن الانْخِفاض....، وبِاسْم الدَّعوة إلى المُساواة والعدالة، تُكَمَّم الأفْوَاه ويُمْنَع الناس من حقوقِهم في التَّعبير، ويُرْمَى بهم في غَيَاهِب المناطق المُتَجَمِّدة، وباسْم التقدم يُرْمَى بِكُل سَلَفٍ مُتَمَسِّكٍ بمبادئه، ويُتَّهَم بالرَّجْعِيةِ والمَاضَوِيَّة والجُمود... كان ذلك ولا يزال، ولنا من الواقع أكثر من شاهد.
* الفَهْم المَقاصِدِيُّ يَخْتَزِل الشريعة في خَمْسَة مَقاصِد:
هذا الفهم «التقدمي» للإسلام يَنْفِي عن الشريعة أنْ تكون مَنْهجًا يَتَضمَّن الوسائل الكبرى وبعض التفصيلات. فَنَظْرةُ اليَسار إلى الشريعة نظرةٌ اخْتزالية تَسْطيحيةٌ للشريعة، رغم ما تَدَّعيه لِنَفْسها من عُمْقٍ وغَوْصٍ في « روح» الشريعة. ولعلنا. لا نُجَانِب الصواب إذا قلنا بأنَّ هذه النظرة تُؤْمِن بِبَعض الكِتابِ وتَكْفُر بالبعض الآخر، ما دامت أحكام الوحي- في نظرهم- قابلةً للنَّسْخ المُتواصِل وِفْقًا للتطَوِّر التاريخيِّ والاجتماعيِّ. وهنا نسأل: لماذا وَرَدت تلك الأحكام التفصيلية في القرآن؟ هل كان ذلك فقط للعصر الذي نزل فيه القرآن واستجابةً لظَرْف ٍتاريخي مُحَدَد؟
لو كان الأمر كذلك لما كانت بنا حاجَةٌ إلى نصوص الكِتاب، ولأَمْكَنَنَا أنْ نقوم بتلخيصٍ للقرآن في خمسة مَقاصدٍ نَحْفظها- إنْ لم نَقُل نتْلُوها في الصلاة!! – ثم ما حاجة الإسلاميِّ التقدُّمِيِّ اليومَ إلى سِتِّين حِزْبًا من القرآن، وآلاف الأحاديث النبوية؟.. إنَّ كل هذه النصوص ستُصْبِح في أحسَن الحالات مادةً للتَّثقيف التاريخيِّ والتَّسْليةِ الفكرية، أيْ: تُراثًا لا غَيْر. فَالْفَهْم المَقاصِدِيُّ يَنْتَهِي بِنَا إلى اعْتِبار الإسلام تُراثًا (الإسلام من حيث هو شريعة)؛ بل إنَّ حَسَن حَنَفِي يُطالِبنا بأكثرَ من ذلك، يُطالِبنا بتغْيير المُصْطَلحات التي تتضمَّن العقائد...
إن هذه النظرة إلى الإسلام تَجَاوَزَت حتى نظرةَ المُعتزِلة التي يَنْتَسِب إليها اليَسار الإسلاميُّ. ذلك أنَّ المُعْتزلَة وإنْ أَعْطَوْا قِيمةً كُبرى للعقل، فإنَّهم لم يقولوا بِتَعْطيل النصوص، ولم يَقُولوا بِقُدَرة العقل المُطْلقَة على التَّصَرف في الشريعة، فَالمعتزلة يقولون بأن العقل قادرٌ على مَعْرفَة الحَسَنِ والقَبِيح، والخَيْر والشَّر. وإذا أرَدْنا القيام بِقياسٍ أوْ تَشْبيهٍ فإِنَّنا نقول بأنَّ العقل رُّبَّما يكون قادرًا على تَعْيِين المَقاصِد الكبرى للشريعة، ولكنه غير قادرٍ على التفصيل في أحكامها والوسائلِ المُوَصِّلة إِليْها، وذلك خِلافًا لما يَراه اليَسار الإسلامي، فَلَعلَّ مُعْتَزِلة العصر الحديث أكثرُ تقدُّمًا في العقلانية من المعتزلة الأوائل.
* الفَهْم المَقاصِديُّ دَعْوةٌ إلى العَلْمانية:
إضافةً إلى اختزالِه الشريعة في خمسة مقاصد، يُمَهِّد هذا الفَهْمُ المَقاصِدِيُّ إلى العَلْمانية؛ بل يدعو لها بطريقةٍ أو بأُخْرَى كما سبَقَ بَيانُ ذلك في فصْل الانتماء السياسيِّ للمُسلم. وليس في ذلك غَرابةٌ أو تَناقُضٌ ما دُمْنا مُطالَبِين بِضَبْط طريقنا بأنْفُسِنا، وبما نَنْقُلُه من تَجَارِب الآخَرِين، كما يقول خالد محُيْىِ الدِّين الذي يَنْتَمِي إلى حِزْب التَّجَمُّع ومعَه حَسَن حنفي وبعض « الإخوة في الوطن والثورة والحرية...»
معنى ذلك بعبارةٍ أوضَحَ، أنَّ مقاصد الشريعة كَشِعاراتٍ عامةٍ يُمكن أنْ يحققها القَوْمِيُّ، والماركسِيُّ، والليبرالي، والمسلم.. سَواءً بسواء، أي ليس من الضروري أن تكون مُؤْمِناً بالله ومُسْلِماً لِكَي تُحَقِّق مَقاصد شرع الله، فَبِالإمْكان أنْ تكون غير ذلك وتُحَقِّق مقاصِدَه... ولسنا ندري بعد ذلك إنْ كان الأمر يتعلق بأسْلَمَة الماركسيِّ واللِّيبرالي والقومي أم بِتَمَرْكُسِ المُسلِم... أم بشيٍ آخَر!... وبذلك يتحوَّل الإسلام إلى شِعاراتٍ عامةٍ، وكأَنَّه لافِتَةٌ يُمْكِن أنْ نَجِدَها على كل الواجهات. وقديماً قال شاعِرُ الغَزَل:(3/303)
وَكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلاً بليلى وَلَيْلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاك
* الفَهْم المَقَاصِدِيُّ نَفْيٌ لِمَقاصِد الشريعة:
إنَّ الفَهْم المقاصدِيّ، إضافةً إلى ما سبق (اختزال الشريعة والدعوة إلى العلمانية)، يَلْزَم عنه إِلْغَاءُ الشَّريعة، وهُو يُؤَدِّي إلى ذلك مَنْطِقِيًا.
ذلك أنَّ مَقاصِدَ الشريعة التي حَدَّدَها الفَهْمُ التقدُّمي للإسلام، لا نَجِد مِن الدَّعَوات والمَذاهب مَن يُنْكِرها. فَكُلُّ الأحْزاب تَدْعو إلى الحرية والعدالة والتقدم، وتقول بأنها تُحَارِب الظُّلم والاستغلال. وهذا معناه بلغة أُخْرَى، إذا أرَدْنا أنْ نُواصِل الاستِنْتاجَ، أنَّ الشريعة لم تأْتِ بِجَديد. فهذه المبادئ والشِّعارات العامة مُتَضَمَّنَةٌ في كتب الفلاسفة والحُكماء القُدامى والمُعاصِرين، فما الدَّاعِي إذَنْ إلى أن تأتِيَ عن طريق الوَحْي؟ وهل يكون مَقْصِد الشرع من ذلك مجرد تَكْرارٍ أو إِقْرارٍ لما تَوَصَّل إليه العقل، أيْ: مُجرَّد تَزْكِيةٍ ومُصادَقَةٍ على ما تَوَصَّل إليه الإنسان؟ ذلك ما يراه حنفي بِصِفةٍ ضِمْنِية وصريحة.
وإذا كان ذلك كذلك فإننا نَتَوصل إلى النتيجة التالية .:
إما أنْ يكون الوَحْيُ مُجَرَّد استجابَةً لِظُروفٍ تاريخيةٍ، نَزَل على العرب البَدْو قَبْل تَحَضُّرِهم، والإسلام يكون تَبَعًا لذلك صالِحًا لِلْبَدَوِيِّ وغيرَ صالحٍ لِلْحَضَرِيِّ: وهذا الاحتمال هو أحسن الاحتمالات.
وإما أن يكون نُزول الوحْي عَبَثاً؛ لأنه لم يأتِ بجديد، وإنْ أتَى بجديدٍ في عصره فإنَّنا غيرُ ملْزَمِين إلاَّ بِمَقاصِدِه وهي ليست جديدة..
إذن ألا تَرى معنا أنَّ الفَهْم المَقاصِدِيَّ للشريعة- على النحو الذي رآه اليَسار- هو نَفْيٌ لمِقاصد الشريعة وقضاءٌ عليها. فهل مِن مَقاصد الشريعة أن ننْسَخ أحكامَها ونعَطِّلها ونتجاوَزَها بِاسْم الفَهْم المَقاصِدِي، أيْ: بِاسْم التقدُّم المُسْتمِر نَحْوَ الأفضل..؟!!
يقول الإمام الشاطِبِي: «إنَّ عامَّة المُبْتَدِعة قائلةٌ بالتَّحْسين والتَّقْبيح العَقْلِيَّينِ، فَهُوَ عُمْدتُهم وقاعدتهم التي يَبْنُون عليها الشرع، فهو المُقَدَّم في نِحَلِهم بحيث لا يَتَّهِمون العقل، وقد يَتَّهِمون الأدِلَّة إنْ لمْ تُوافِقهم في الظاهر حتى يَرُدُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية. وليس كل ما يَقْضِي به العقل يكون حقاً، بدليل أنَّهم يَرَوْن اليوم مَذْهَباً ويَرْجِعون عنه غداً، وهكذا... ولو كان كل ما يَقْضِي به العقل حقاً، لكان العقل وحْدَه كافِياً للناس في المَعاشِ والمَعاد، ولَكَانَ بَعْثُ الله لِلرُّسُل عَبَثاً وعِبْئاً لا مَعْنَى له، وهذا كله باطل فما أدَّى إليه مِثْلُه » (243) .
ثُمَّ إنَّنا إذا نَفَيْنا عن الشريعة كَوْنَها مَنْهجاً- كما يفعل اليَسار- نَصِل إلى إقْرارِ مبدأ «الغاية تُبَرِّر الوسيلة»، أيْ: أنَّ المُهِم هو تحقيق المَقْصِد بأيِّ الوسائل أرَدْنا... إنَّ في الإسلام غاياتٍ، ولكن هناك ضوابط وأخلاقيات ووسائل علمية كبرى تَضْمَن تحقيق هذه المقاصد بطريقةٍ تتَكامَل فيها ولا تَتَعارَض، فالْغايةُ السَّامِية لا نَتَوصَّل إليها بوسائل غيرَ شريفةٍ، وليس مِن باب المَصْلَحَة أنْ نفْعل كلَّ ما نُريد للوُصول إلى غاية. فما عند الله لا يُنالُ بِالمَعاصِي والمُحَرَّمات. وأحياناً تكون الوسائل التي نَسْتَعْمِلها تُؤَدِّي إلى خِلاف الغاية التي قَصَدْناها، فَيُصْبح عملُنا إفْساداً لِمَقاصِدنا. ونحن لم نَقُل أن َّالشريعة حدَدَّت جميع الوسائل التفصيلية، ولكننا قُلنا إنها حددت المَنْهَج في َمبادئه وقواعده، وحددَت الوسائل الكبرى كما حدَّدت بعض الجوانب التفصيلية، وتَرَكَت البَقِيَّة لِتَصَرُّف العقل بالاستقراء والاستنباط، «ذلك أن المُجتهِد ليس مُخْتَرِعاً للأحكام بحسْب عقله حتى يكون مُتَحَرِّرًا مِن مَعانٍ قَبْلِيَّة، وإنما هو باحثٌ عن حُكم شرعي يَرْتَضِيه الله – تعالى-، وهو ما يَقْتَضِي مَوْضُوعِياً أنْ يكون مُتَعَمِّقاً في الشرع، مُسْتوعِباً لِمَقاصِده ووسائله، وأقَلُّ ما يَتِمُّ بِه ذلك الأمْرانِ المُتَقَدِّمان: فَهْمُ المَقاصِد والتَّمَكُن من الاستنباط» (244) .(3/304)
وبين الوسائل والغايات هناك مُرُونةٌ وثَبَاتٌ، تَطَوُّرٌ ومَبْدَئِيَّة، دُون تَحَلُّلٍ وتَمَيُّعٍ وانْهِزامٍ أمام الآخَر. أمَّا أنْ نُحاوِل تَطْوِيع النصوص وإِحْناءَ رأْسِها أمام الواقع فإن ذلك لا يُعَدُّ واقِعيةً، وإنما هو تَكْرِيسٌ للواقع. يقول المفكر الإسلامي سيد قُطْب:«والدِّين لا يُواجِه الواقِع أيَّاً كان لِيُقِرَّه ويبحث له عن سَنَدٍ منه وعن حُكمٍ شرعيٍّ يُعَلِّقُه عليه، كاللاَّفِتَة المُسْتَعارَة، إنما يُواجِه الواقع لِيَزِنَه بِمَيْزانِه، فَيُقِرُّ منه ما يُقِرُ،، ويُلْغِي منه ما يُلْغِي، ويُنْشِئُ واقعاً غيره إن ْكان لا يَرْتَضِيه» (245) . ويتِِمُّ كل ذلك في حُدودِ الانْسجامِ بينَ الوحْيِ والواقع والعقل. وهذا الحديث يَجُرُّنا إلى الحديث عن المَصْلَحة ومَوقِعِها من التشريع .
ج- هل تكون المصلحة أصْلاً مُستقِلاً في التشريع .
ما مِنْ شكٍّ في أنَّ الأحكام الشرعية مُرَاعَى فيها مَصالح العباد كما سبق بَيانه. ولكن هل تكون المصلحة في غير ما شرع الله، وهل يُمكن أن تَسْتَقِل في التشريع ولو خالفَتْ نَصاً شرعياَ ؟
إنَّ المُراد بِالمصْلحة عُموماً جَلْبُ المَنْفَعة ودَفْعُ المَفْسَدة والضَّرَر. ومن أقْسام المصالح «ما يَشْهَد الشرع على اعْتِبار كوْنِه حِكْمةً نَبْنِي عليها الحُكْم كالإِسْكار، فَقَد فُهِمَ من الشرع بِناءُ تَحْريمِ الخَمْر عليه لِمَصلحة حِفْظِ العقل، فَيَحْرُم كلُّ مَطْعُومٍ أو مَشْروبٍ مُسْكِرٍ لِنَفْس المَعْنَي» (246) ومِن الأقسام كذلك: «ما لم يَشْهَد نَصٌّ مُعَيَّنٌ من الشرع باعْتبارِه ولا بِإلْغائِه، ويُسْمَى هذا القِسْم المصلحة المُرْسَلَة أو الاستِصْلاح، وإنما كانت مُرْسلةً لأنها أُطْلِقَت، فَلَمْ يَرِد في نَصِّ الشرع اعتبارُها ولا إلْغاؤُها » (247).
وقد اسْتَهْدفَت الشريعة المُحَافَظَة على «الكُلِّيات ِالخَمْس»، وهي: الدِّين والنَّفْس والنَّسْل والعقل والمال. والمحافظة على هذه الأمور تَتِم بوسائل مُتَدَرِّجة في الأهمية والخُطورة: الضروريات – الحاجِيَّات- التَّحْسِيِنَّات. والمصلحة تشمل هذه الأقسام الثلاثة المذكورة.
وقد ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أنَّ الاحْتِجاجَ بالمصلحة المُرْسَلة التي في رُتْبَة الضَّروريات، حُجَّةٌ وإنْ لم يُعاضِدْها دَليلٌ مُعَيَّنٌ، لأنه بِمَثابَة بِناءِ الأحْكام على مَقاصد الشريعة. كما احْتَجَّ الإمام مالكٌ كذلك بالمصلحة التي في رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وخالَف في ذلك عامَّة أهل َالعِلْم. أمَا المصلحة التي في نَوْع التَّحْسينيَّات والكماليَّات فقد اتَّفَق جُمْهور العلماء على أنَّه لا يَجُوز الاحْتجاجُ بها إلاَّ إذا عاضَدْها دليلٌ من الشرع، إذ لو احْتُجَّ بها لأَدَّى ذلك إلى تَغْيِير الشرائع، خاصةً وأنَّ الناس يَخْتَلِفون في مُيُولهِم وأغْراضهِم، فلا يَجوز الاحْتجاج بمَصالح مُتَعارِضة.
* وإذا كان الإسلام قد اعْتَرَفَ بالواقع والعُرْف والمَصالح، فذلك لأنه تشريعٌ واقِعِيٌّ قابلٌ للتطبيق، ولكنه يَخْتَلف عن غيره من التشريعات في كَوْنه حددَ ضوابطَ لهذه المصالح، لأن الكثير من الناس أصبحوا يَتَمَسَّكون بمبدأِ الضرورة، ويُفْتُون لأنْفُسِهم بِإباحَة ما حَرَّم الله مُتَناسِينَ مَعْنَى الضرورة الذي يتَمَثَّل – كما يقول العلماء – في « أنْ تَطْرَأ على الإنسان حالةٌ من الخَطَر أو المَشَقَّة الشديدة بحيث يَخَاف حُدوثَ ضررٍ، أو أَذَىً بالنَّفْس، أو بالعُضْو، أو بالعِرْض، أو بالعقل، أو بالمال، وتَوابعها، ويَتَعيَّن أو يُباح عندئذٍ ارْتكابُ الحرامِ، أو تَرْكُ الواجِبِ أو تأخيره عن وقته، دَفْعاً للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيودِ الشرع » (248) . فليس كلُّ مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الضَّرورة يباح له فِعْله. ومِن هذه الضوابط نذكر بعضها إجمالاً لا تفصيلاً:
- أن تكون الضرورة قائمةً (مُتَحَقَّقةَ الوُقوع) لا مُنْتَظَرَة.
- أن يَتَعيَّن على المُضْطَرِّ مُخالَفَة الأوامِرِ أو النَّواهي الشرعية، أو ألا يكون لِدَفْع الضَّرَر وسيلةٌ أُخْرَى من المُباحات إلاَّ المُخالَفَة، كأَنْ يوجَد في مكانٍ لا يَجِدُ فيه إلاَّ ما يَحْرُمُ تَناوُله.
- الإكْراه إلى حَدٍّ يُخْشَى معَه تَلَفُ النَّفْس أو الأعضاء...
- ألا يُخالِفَ المُضْطرُّ مَبادِئ الشريعة من حِفْظ حُقُوق الآخَرين، وتحقيق العدْل، وأداء الأمانات، ودَفْع الضَّرَر، والحِفاظِ على مبْدأ التَّدَيُّن، فلا تَحِلُّ المَفاسدُ في ذاتها، كالزِّنا والقتْل والكُفْر، لأنَّ ما خالَفَ قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة.
- أنْ يَقْتَصِر فيما يُباح تناوُله ُللضرورة، في رأْيِ جُمْهور العلماء، على الحَدِّ الأدْنَى أو القَدْر اللازِم لِدَفْع الضرر.(3/305)
- أنْ يَصِف المُحَرَّم- في حالة ضرورة الدواء – طبيبٌ عدْلٌ ثِقَةٌ في دينه وعلمه، وألاَّ يوجَد من غير المُحَرَّم عِلاج ٌآخَرَ يقومُ مَقَامَه... (249).
كما أنَّ مُراعاة الإسلام للعُرْف والعادات مَشْروطةٌ هي الأُخْرَى بضوابط. فالعرف في اعتبار الشرع نوعان: صحيحٌ وفاسدٌ. فالعُرف الصحيح: هو ما تَعَارَف عليه الناس دُون أنْ يُحِلَّ حراماً أو يُحَرِّمَ حلالاً، والعرف الفاسد: هو ما تَعَارَفَهُ الناس ولكنَّه يُحِل حرامًا ويُحَرِّم حلالاً. وقد اشترط العلماء في العرف شروطاً لجوازه، أهمها: ألاَّ يُعارِض نَصاً تشريعياً آمِراً بِنَقِيض المُتَعارَف عليه، أو ناهِياً عنه، أو مَمْنوعًا بنَصٍّ خاصٍّ واردٍ فيه..
وبناءً على ما تَقَدَّم، فإنَّ الشرع قصَد إلى مُراعاة مَصالح العباد، فأحَلَّ لهم الطَّيْباتِ وحَرَّم عليهم الخَبائث. ولكنه حدَّد لهذه المصالح ضوابط حتى لا يتَساهَل الناس في الإفْتاء لأنْفُسِهِم بِفِعْل ما يَحْلُو لهم بِدَعْوَى الظروف والضرورة والمصالح... والمُتأمِّل في مُجتمعِنا يُلاحِظ هذه الالْتِباساتِ والشُّبُهات الكثيرة التي يقع فيها الناس بِوَعْيٍ أو بدون وَعْي. وبعض الناس تَشْتَبِه أمامهم السُّبُل والاختيارات، فيَرْتَكبون المُحَرَّمات ويتساهلون في «الإفتاء» لغيرهم فَيَضِلُّون ويُضِلُّون.
وأحيانا يكون الفساد مَغْموراً بِصلاحٍ، والصلاحُ مَغموراً بفساد. فأحْكام الإسلام في القِصاص والرَّجْم وقطْع يدِ السارِق قد تَبْدو لِلْبعض هَمَجِيَّةً لا تُناسِب مَصالح البَشَر، أو قد يَعُدُونها امْتِهاناً للكرامة الإنسانية... والتَّعاملُ بالرِّبا قَدْ يُغْرِي البعض بالقيام بِمَشاريعَ إسلاميةٍ... وقد يكون ذلك من الهَوَى أو مِن قُصورٍ في النَظَر والتأمُّل، أو مِن إِرادَةٍ مُتَحَمِّسةٍ لِنُصْرَةِ الإسلام... ولكن هؤلاء مُخْطِئون في نَظْرَتِهم لِلمصالح ِ، فما هو مَصلحةٌ بالنسبة إليهم هو في أغلب الأحيان سبيلٌ إلى فسادٍ أكبرَ منه، فالذين لا يتحَرَّجون من التَّعامُل بالرِّبا يُعَمِّقون هذه المُمَارَسة الاستغلالية ويَزيدون الأوضاع تأزُّماً، والذين يخافون من القِصاص يَجْعلون المُجْرمِين يَسْتَسْهِلون هذه الكبائر، فيكون ذلك سبيلاً مَباشِراً لامْتِهان كرامة الإنسان، ولقد بَيَّنَت التَّجارِب التاريخيةُ القديمةُ والحديثةُ فَعالِية نِظام ِالعُقُوبات ِفي الإسلام... وما يقال في نظام العقوبات يقال كذلك في مجال تنظيم المجتمع والعائلة.
والحِكْمَة مِن الحُكم الشرعي قد لا تَتَجَلَّى أمامنا في كل وقت؛ لأنها قد تكون ضِمْنِية غير صريحة، فقد لا نُدرِك بِوُضوحٍ الحِكْمة من بعض الشعائر التَّعَبْدِية، ومن الطريقة التي يُطالِبنا الشرع فيها بأدائها. فلقد أنْبَأَنا الله بِبَعض الحِكَم العامَّة من العِبادات (التَّقْوَى – الانْتهاء عن الفَحْشاء والمُنْكَر..) ولكن عدد ركَعَات الصلاة، أو صيام شهر رمضان، أو بعض مَناسِك الحَجّ.. لم يُفَصّل لنا وجْهَ الحِكْمة في كل جوانبها. وفي المعاملات: سَنَّ الإسلام أحْكاماً وحَرَّم أشياءَ وأحَلَّ أُخْرَى، وسَكَتَ عن أشياءَ رحْمةً بِنا غير نِسْيانٍ. وقد نَقِف على الحِكمة بسَهولة وقد لا نقف؛ فإذا وقَفْنا انتَهَت المُشكِلة، وإذا لم نقف فإنَّ علينا أنْ نعملَ بتلك الأحكام مُعْتَقِدين في حِكْمَة المُشَرِّع. فالمسلمون الأوائل صَدَّقوا بهذه الأحكام وعمِلوا بها «تَعَبُّداً لله»، فامْتَنَعوا عن أكْلِ لحْم الخِنزير لِمُجَرَّد أنْ أنْبأَهُم القرآن بأنه ( رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )، ولم يكونوا عارفين بِمَضارِّه المادِّيةِ. واليوم وقد بدَأَ العِلْمُ يقف على بعض الأضرار الموجودة في لحم الخِنزير، لا نقول إنَّه عَرَفها كلَّها، ولا نستطيع أن نقول إننا اكتشفْنا عِلَّة التَّحْريم، ولا نتَطاوَل فنقول: إنه يُمْكن القضاءُ على بعض الجراثيم ثُم نأكلُ هذا اللحم، لأن العِلة الصريحة والمُجَسّمة لم يَقَع اكتشافها ولذلك فإن الحُكْمَ سيبْقَى قائماً ما دامت السماوات والأرض... وما يقال في هذا المثال يقال في غيره من الأحكام الشرعية، فلا نقول: إن المرأة اليوم أصبحت تعمل خارج البيت، فلا حاجة لنا إذن بالنص القرآني الذي يقول: +فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ"..(3/306)
إنَّ تَصَرُّفا مِثْل هذا يُؤدي مُباشَرةً إلى نَقْض كافَّة أحْكام الشرع، فَضْلاً عن كَوْنِه يَتَضَمَّن مَعْنَىً مُؤَدَّاه أنَّ الله لا يعْلَم مَصالح عباده، وهذا باطل: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (250). وهناك فريقٌ آخَرَ يقِفُ مَوْقِفاً آخَر مِن هذه المسألة، حين يَعْتَبِر أنَّ الأحْكام قابلةٌ للتَّغَيُّر، ويُمكن الاكْتفاءُ ببعض المبادئ التي جاء بها الإسلام. وبالنسبة لهذا الرأي «إنَّ الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشْكال التَّطْبيقية لهذا المبدأ فمَوْكُولَةٌ لِكلِّ عصرٍ على حسْب أوْضاعِه وأعْرافِه وقِيَمه. وبهذا يَسْتَوْعِب القرآن مُتَغَيِّرات العصور، ويَبْقَى كما أرادَ لَه الله صالحاً لكل زمان ومكان» (251).
وهذا الرأي يُريد الدِّفاع عن الإسلام وإبْرازَه في صورةٍ تجْعلُه حسْب ظَنِّ صاحِبِه، مُتلائماً مع كل الظروف. ولكنه يُؤَدي هو الآخَر إلى اخْتزالِ الشريعة في بعض المبادئ، ونقول لِصاحِبِه: إنَّ الشريعة لم تَكْتَفِ بِسَنِّ مَبادئ العقوبات؛ بل سَنَّت كذلك الأحْكام، فلَمْ يكْتَفِ القرآن بمبدأ عُقوبة جَرِيمَة الزِّنا أو السرقة، وإنما حدَّد هذه العُقوبة، ولو كان يُمْكِن الاكْتِفاءُ بالمبادئ لَقُلْنا:إنَّ الإسلام لم يُضِف – تبْعاً لذلك – أشياءَ جديدةً وتشريعاتٍ مميزةً، ويكون بذلك قد اقْتَصر على تأْيِيد بعض العقوبات التي في عصره، فجميع القوانين أو أغلبها تُعاقِب على جريمة السَّرقة والخِيانةِ والزِّنا... وليس المُهِمُّ في المبدأ فقط، وإنما في الشكل كذلك.
إن هذا الرأي بِقَطْع النَّظر عن خلفِيَّاته ,لأننا لا نُناقِش الخَلْفِيات، يؤدي كذلك إلى تأْويل أحكام الشريعة الواضحة تأويلاً يُمَزِّقُها ويُفْسِدُها.
لا شك في أن الشريعة جاءت لِترْفَع الحَرَجَ والمَشَقَّة، وقد أدْرك علماء الأمة هذه المعاني فَبَيَّنُوا سَماحة الشريعة، وغيَّر بعضُهم فَتْواهُ بتَغَيُّر الزمان والمكان، يقول ابن القيِّم: «فَصْلٌ في تَغَيُّر الفَتْوَى واختلافِها بحسْب تَغيُّر الأزْمنة والأمكنة والأحوال والنِّيات والعَوائد؛هذا فَصْلٌ عظيمٌ جداً، ووَقَع بِسَبَب الجَهْلِ بِهِ غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة أَوْجَبَ مِن الحَرَجِ والمَشقَّة وتكْلِيف ما لا سبِيل إليه ما يُعْلَمُ أنَّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأْتِي به» (252).
وقد قال الإمام مالك ردَّاً على الخليفة أبي جعفر المنصور عندما طَلب منه تأْليفَ كِتابٍ يَتَوسَّط فيه بينَ رُخَصِ ابنِ عباسٍ وشدائدِ ابنِ عمر، قال: «لا تَفْعَل يا أميرَ المؤمنين، فقَد سَبَقَت إلى الناس أقاوِيل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قومٍ بما سَبَق إليهِم، فَدَعِ الناس وما اختارَ كلُّ قَوْمٍ لأنْفُسِهم» وفي روايةٍ أنه قال: «إنَّ أصْحابَ رسول الله تَفَرَّقوا في الأمْصار، وعِنْدَ كل قومٍ علمٌ، فإنْ حَمَلْتَهم على رأْيٍ واحدٍ تكون فتنة» (253).
وبذلك يَتَبَيَّن أنَّ شريعة الإسلام مُتَوافِقَةٌ مع الإنسان في ثَباتِه وتَطَوُّرِه دُون أنْ تَتَحوَّل إلى «مَرْكوبٍ سهْلِ الامْتِطاء» يَتَطَاولُ عليه كلُّ إنسانٍ ).
( المرجع : " ظاهرة اليسار الإسلامي ، عبدالسلام بسيوني ، ص 145-158) .
الشبهة(9) : تفريقهم بين السنة التشريعية غير التشريعية
يقوم مبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على مبدأ التمييز بين بشرية الرسول ونبوته, ومن القضايا التي تلتقي فيها العصرانية في الشرق والغرب يهوديها ونصرانيها ومسلميها في هذه القضية، التي يعبر عنها أحيانًا بمبدأ التمييز بين ما هو إلهي Dinvine وبشريHuman في الدين. ولعل لليهود والنصارى عذرهم في المناداة بهذا المبدأ؛ لأن الحاخامات والباباوات عندهم زعمت أن كل ما يصدر منها هو وحي من عند الله، وادعت هذه الطبقة لنفسها العصمة من الخطأ في آرائها وأقوالها، بل وبلغ التطرف نهايته في المسيحية في ادعاء ألوهيته المسيح، ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الإله، عما هو بشري ومصدره البشر، وتأكيد بشرية المسيح مطالبة لها مسوغاتها ودوافعها في اليهودية والمسيحية (254) ، إذ قصد من ذلك إزاحة القدسية عن الإضافات البشرية للكتب المقدسة، وإزاحة القدسية عن طبقة رجال الدين، واعتبارهم في منزلة عادية كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب.
وقد اتخذت فكرة الفصل بين الجزء الإلهي في الدين والجزء البشري مبدأين في الإسلام على أيدي العصرانيين:
الأول: التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته.
الثاني: التمييز بين شريعة الله وشريعة الفقهاء.
ونتحدث هنا عن المبدأ الأول، أما المبدأ الثاني فسوف يأتي الحديث عنه إن شاء الله.(3/307)
ويشرح عبد الوهاب خلاَّف مبدأ التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فيقول تحت عنوان (ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله):
«ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولا إليهم، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [ الكهف: 110]
1- فما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعا بهذا الدليل.
2- وما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشئون الدنيوية، من إتجار أو زارعة، أو تنظيم جيش أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته أن ينزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
3- وما صدر عن رسول الله ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة (خزيمة) وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان.
ويراعى أن قضاء الرسول في خصومه يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع. فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع..
ولهذا روي البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصوم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها.
والخلاصة: أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات الثلاث التي بينَّاها، فهو مِنْ سنته ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب اتباعه . (255)
ومبدأ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية من المبادئ الهامة عند سيد خان، وقد نقلنا هذا الرأي من قبل عنه، وقلنا: إنه حتى الأحاديث التي يقبلها وتصح فيها شروطه فهو يقسمها إلى قسمين: أحاديث خاصة بالأمور الدينية، وأحاديث خاصة بالأمور الدنيوية، فالأحاديث في دائرة أمور الدين هي الملزمة عنده وعلى المسلمين أن يستمسكوا بها، أما الأحاديث في أمور الدنيا فهي غير داخلة في مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا. ويرى أن كل ما جاء في هذا المجال فهو خاص بظروف وحالة العرب في زمان النبوة، وتشمل الأمور الدنيوية كل المسائل السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية، أما أمور الدين فهي تختص فقط بالعقائد والعبادات. (256)
ولا ينفرد (سيد خان) بتوسيع دائرة السنة غير التشريعية إلى الحد الذي شرحناه، بل يشاركه في هذا الرأي آخرون، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المبدأ، إذ أنه عمليًّا ينتهي إلى حَصْرِ الدين في مجموعة العقائد والعبادات فقط. يقول (أحمد كمال أبو المجد): «إن كثيرًا من أقواله وأفعاله (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ) قد صدرت عنه بحكم تلك البشرية، دون أن يكون المقصود منها التشريع وتقرير الأحكام الملزمة للناس من بعده». (257) وفيما يبدو أن هذا هو رأي محمد سليم العوا في بحثه لهذا الموضوع . (258)
فما هي الحجج التي تساق لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية؟
يعتمد أصحاب هذا الرأي على عدد من الأدلة والحجج، ونناقش فيما يلي ما أودره الشيخ (خلاَّف) فيما نقل عنه قبل قليل وما يورده غيره.
الحجة الأولى : أفعال الرسول الجبليَّة(3/308)
يقال: إن من أقسام السنة غير التشريعية ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود في بعض المواطن أو في بعض الأزمنة اتفاقًا. وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول نوع من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس. وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا العلامة الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية. (259)
ومن المتأمل في هذا النوع من الأفعال الجبلية يتضح أنها تلك الأعمال التي لا اختيار للمرء لهيئتها وكيفيتها في لونه وطوله وصفة وجهه، فكذلك لا يتأسى به في أفعاله الجبلية؛ لأن ذلك التأسي لا يملكه أحد، ولا يدخل في اختياره ولا يقدر عليه حتى لو أراده.
وعلى هذا فمن يطلق على هذه الأفعال أنها ليست تشريعية، بمعنى أنه ليس فيها تأسٍ ولا اقتداء، فهو إطلاق صحيح. ومَنْ قال: إن هذه الأفعال تشريعية لأنها تدل على حكم شرعي وهو الإباحة، والتشريع يتنوع إلى إباحة وندب وواجب وغيره، فهو أيضًا مصيب.
وعلى هذا فلا بد من تحديد ما المقصود بكلمة تشريع أو غير تشريع، فإن الغموض في تحديد معاني المصطلحات يُوقِعُ في اللبس. والمعاصرون الذين بحثوا السنة غير التشريعية لم يحددوا معناها بكل دقة وضبط، ويوهم كلامهم أن المراد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بتشريع، بمعنى أن منها ما لا يدل على حكم شرعي، حتى لو كان هذا الحكم الإباحة، وهو معنى خاطئ لا شك فيه.
أما إذا كانوا يقصدون من مصطلح السنة غير التشريعية أنها تلك السنة التي ليس فيها إلزام، بمعنى أنها لا تدل على فرض أو حُرْْمَة، ولا تدل على ندب أو كراهة، بل تدل على إباحة، فصبيان المدارس يعلمون المباح من أقسام السنة. وهل ادعى أحد أن كل السنة في درجة واحدة من درجات الإلزام؟ ثم هل الإباحة ليست من التشريع؟ أليس تحليل الحلال من أهم مقتضيات الإيمان؟ ألا يقدح في الإيمان تحريم الحلال أو تحليل الحرام؟ فإذا كان الحل والجواز يمثل هذه الأهمية، فكيف تكون السنة التي تدل على هذا الحل، وهذه الإباحة سنة غير تشريعية؟
الحجة الثانية: خطط الرسول الحربية.
وقد استدل على تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بحادثة مشورة الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله: فإن هذا ليس بمنزل، ثم أشار عليه بأن ينزل منزلا آخر . (260)
وقد جعلت هذه الحادثة دليلا على أن تدبير الحروب من أقسام السنة غير التشريعية، وتأتي على هذا الاستدلال اعتراضات أساسية:
1- الحادثة نفسها غير ثابتة، فقد رواها ابن هشام في سيرته وفي روايته لها جهالة، ورواها الحاكم وفي سندها مَنْ لا يعرف، وقال عنها الذهبي: حديث منكر، وذكرها ابن كثير في (البداية والنهاية) وفي رواتها مُتَّهم (261) وإذا كانت الحادثة غير ثابتة فلا تقوم بها حجة.
2- وعلى فرض صحة ثبوت الحادثة فما وجه الدليل فيها؟ هل لأن النبي صلى الله عليه وسلم صدر فيها عن رأيه من غير وحي، ولهذا فهي سنة غير تشريعية، أم لأنه استشار أصحابه في الأمر ونزل عن رأيه لرأيهم؟
فعلى الصحيح مِنْ رأي العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد برأيه أحيانًا من غير وحي في بعض أحكام الشرع، وأحيانًا كان يشاور أصحابه في أمور لا يشك أنها من الأمور الدينية، فقد روي أنه شاور أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في مفاداة الأسارى يوم بدر، فأشار عليه أبو بكر بأن يفادي بهم، ومال رأيه إلى ذلك، حتى نزل قوله تعالى: ( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ومفاداة الأسير بالمال جوازه وفساده من أحكام الشرع، ومما هو حقٌّ الله تعالى، وقد شاور فيه أصحابه وعمل فيه بالرأي، إلى أن نزل الوحي بخلاف ما رآه. وقد شاورهم فيما يكون جامعًا لهم في أوقات الصلاة ليؤدوها بالجماعة.
ثم لَمَّا جاء عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- وذكر ما رأى في المنام من أمر الآذان فأخذ بها، وقال: «ألقها على بلال»، ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي. ألا ترى أنه لَمَّا أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال: «الله أكبر.. هذا أثبت»، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الأذان مما هو من حق الله، ثم جوز العمل فيه بالرأي. (262)(3/309)